قراءات نقدية

بلاث مفرد بمواجهة الجماعة

صالح الرزوقبقلم: جين إينيس

ترجمة صالح الرزوق

من الواضح من شعر سيلفيا بلاث، ومن روايتها (الجرس الزجاج)، ومن بقية كتاباتها، أنها بنت وامرأة ذكية وحساسة بشكل استثنائي. فكيف حدث لاحقا، أنها  لم تجد لنفسها المفردة  في هذا العالم مكانا مريحا ومطمئنا ومفيدا؟.

عندما ننظر لطفولتها، نلاحظ أن والدها شجع حالة اليقظة عندها، وأن أمها بذلت جهودا فائقة لترى ابنتها ناجحة في المجتمع. وبالتأكيد هي تنحدر من عائلة شجعت وأثنت على إنجازات ابنتهم، وأوضحت أيضا أن التربية أحد مفاتيح النجاح. هل كان القدر الشرير، والحياة القصيرة يرتكزان في مصير بلاث على وفاة والدها غير المتوقعة وهي بالكاد بعمر ثواني سنوات؟. لقد كتبت عن هذه الخسارة مرارا وتكرارا، ولكن لم يكن يبدو أنها قادرة على التخلص من أحزانها، أو ربما كان هذا الحزن هو  الذي سمح لها بالاستمرار. فجدها، وهورجل لطيف، بالظاهر، وكان يهتم بها ويرافقها، لكنه لم يملأ الفراغ الذي خلفه موت الوالد. ومع ذلك لم يكن والد بلاث استثنائيا، بالأخص كأب. في البداية، خاب أمله من ولادة بلاث لأنها بنت، ولم يكن مسرورا من تحمل مسؤوليات الأبوة. ثم تبدل ذلك بسبب فتنة وذكاء بلاث الواضح.

تبدو معظم شخصيات بلاث البسيطة، ولا سيما في (الجرس الزجاجي)، ذكية ومرحة. وكذلك كانت إيستير، وضمنيا بلاث نفسها، أرادت أن تكون البنت المناسبة التي سيحسدها الآخرون على إنجازاتها. وقادها ذلك إلى أن تكون نوعا معينا من النرجسية الشابة. وهذا في النهاية سيتحول لمصدر إزعاج لها، إنها نرجسية ربما لن تساعد الشاعرة في محاولاتها للنضوج. وعلى سبيل المثال في عام 1958 كتبت بلاث قصيدة تسمى “أنا أريد، أنا أريد”، وصدمنا فيها فكرة أن بلاث أرادت  الكثير من حياتها وبسرعة. 

ولو أنها لم تستسلم إلى اللوعة، وهذه حال والدتها (حسب يوميات بلاث لم تذرف أمها الدموع في الجنازة)، فإن شاعرة نرجسية مثلها، لا يمكن أن تستسلم لرغباتها الفتية. وعليه، هناك ضعف في الاهتمامات. بالمقابل نحن لم نعرف بالضبط ماذا كانت إيستير تكره في بودي ويلارد، باستثناء أنه منافق - حسب ما تقول.

وربما كان عدم النضج هو الذي دفع بلاث الشابة للقفز إلى عدة مراحل مختلفة من حياتها قبل أن تصالح المراحل السابقة. ويجب أن تلاحظ أنها ألقت بنفسها بعمل أكاديمي، ولكن دون أن تتخلى عن مشاعرها الطفولية. فقد غادرت إلى مدينة نيويورك قبل أن تكون قادرة على هضم خبرات حياتها الجامعة. وبعد انهيارها، تخلت عن الجامعة وسافرت إلى إنكلترا. وبالسر تزوجت وعملت بالكتابة ودخلت هذه المهنة.  ثم بسرعة أنجبت ولدين، وانفصلت بعد ذلك عن زوجها. ثم عادت إلى الولايات المتحدة عام 1958، وبدأت بزيارة طبيبها النفسي مجددا. وقد جرى كل ذلك مثل طفل يقفز من صخرة إلى ما بعدها، دون أن يتمهل. ولذلك ليس من المستغرب، أن إيستير لم يكن بمقدورها أن تعزم رأيها على أية “ثمرة” تقطفها. وبنفس الطريقة كانت بلاث دائما مشغولة جدا وتقضم من الثمار التي أمامها ولا تعرف أيها تختار.

والكتاب الذي يوفر لنا نظرة عمودية ومفصلة عن الطبيعة التنافسية لنساء المكان والزمان اللذين تنتمي لهما بلاث هو كتاب دافيدسون “سقوط بيت الدمية”. كتاب دافيدسون هو تاريخ اجتماعي لعلاقة النساء مع بيوتهن وحياتهن المنزلية. وما تقدمه لنا عن بلاث هو دراسة توجيهية وهامة، فقد تابعت بلاث منذ اللحظة التي سكنت فيها بغرفة واحدة معها في سميث. وفي كلام دافيدسون عن نساء العقد الخامس من القرن العشرين - النساء الطموحات والمتميزات اللواتي انتسبن لجامعة “الأخوات السبعة” - صورة عن بنات صغيرات تحاولن الوصول للـ “قمة” بكل شيء. نجاح في المهنة والبيت وعلى الصعيد الفردي.  مشرقات وجميلات وغنيات. وتخبرنا دافيدسون كيف أن بلاث دقت على أبواب  مجلات النساء في محاولة لنشر وبيع نصوصها. وقد وضعت في دراستها رسالة كتبتها بلاث من إنكلترا وأرسلتها إلى أمها في موطنها تطلب فيها إرسال نسخ من  “مجلة سيدات المنزل” لأنها لا يمكن أن تجدها في لندن. وعليه، نرى أن بلاث لا تريد أن تكون كاتبة جيدة فقط، ولكن نوعا من الأنثى الكاملة التي يمكنها أن ترتب ديكور منزلها على نحو مدهش. وطبعا لم تفلح في أداء كل هذه الجوانب. وليس من المستغرب، والحال كذلك، أن تشعر بالمرارة أحيانا. وكان شعور بلاث حيال مكانها من المجتمع أنه مكان فارغ ومجدب، وشديد الاستنزاف لمقدرات الإنسان.

هذا التشتت في المقدرات، ربما هو موجود، في إحساس بلاث بانعدام الأمان، وربما أيضا، بنوع محدد من الأنانية الرومنسية. وكان بمقدور بلاث القيام بأي عمل، ولكنها لم تشعر أن هناك شيئا واحدا وواضحا يستحق التعب في هذه الحياة.

وهذا العجز عن أن تكون حقا مرتبطا بدور خارج دائرتك، أو بجماعة، يمكن أن تراه  في علاقتها مع عائلتها وأصدقائها، وأيضا في مشاهد من “الجرس الزجاجي” وتدور في مصحات عقلية.  ونتساءل كيف أمكن بلاث فعلا أن تتصرف خلال زواجها مع تيد هيوز، رغم كل الرسائل لأمها والتي تصف فيها طريقة سير الأمور: لعدة سنوات، لم تتقبل بلاث حياتها بجماع قلبها، وكذلك لم ترفضها بكاملها. وحينما أرادت إيستير أن تحصل على صورة  “صيفية” من أجل “يوم المرأة”، اختبأت في الحمام لأنها أوشكت على البكاء. فقد رأت أن صورتها مقيتة، لكنها لم ترفض هذا العمل.

وقد اهتم بهذا النوع من العصاب، الذي يصيب الشباب بشكل خاص  (الذكور والإناث)، عدد من الكتاب. بعضهم نظر له على أنه عدم نضوج ولكن سمحوا لهذه الشخصيات في النهاية بالنمو. وآخرون نظروا إليه كبوادر على التمرد ضد مجتمع جائر، ولكن حتى في هذه الظروف كان على الشخصيات في النهاية أن تضع العالم في الحسبان. والبقية نظروا له كـ “مرض شبابي”، وفيه حصيلة حياة الأفراد تعتمد، على طبيعة الشخصية الفردية (بالإضافة للقدر و/أو التاريخ). وفي (الجرس الزجاجي) لم نقابل إستير أبدا خارج حدود الهتمام الشديد بالذات.

أحيانا نتساءل إن كانت هذه النرجسية هي نتيجة حقيقة أن عصاب بلاث هو عصاب أسلوبي، مثل أسلوب رواية  (صياد في حقل الشيلم)، وهي رواية من نفس الحقبة. هذا العجزعن الاختيار، أن تختار مسؤولياتك، بالإضافة لتشتت الاتجاهات والميول، والتشرذم (التجزؤ الشخصي) - عبارة عن ردة فعل على فترة الخمسينات بكل ما فيها من قسوة ومحافظة. تتكلم سوزان سونتاغ في كتابها (المرض كمجاز استعاري) عن السرطان، ولكنها تذكر أن المجتمع يقرر أسلوب ما يشكل “المرض التراجيدي” وكيف يتصرف أفراد المجتمع مع هذا المرض. وتخبرنا بلاث في (الجرس الزجاجي) بالكثير عن “أسلوب” العصر، ونفهم منه أن اهتمام إيستير بمجلات الأزياء هوالمسؤول عن انهيار إيستير، كما تقول بلاث. 

ويجب أن نتساءل الآن إن كانت إيستير تحمل المرض العقلي جزئيا لأنها كائنة متاحة وعصرية. وإن كانت سقطت لاحقا في لعبة بلاث وأصبحت انتحارية لسبب واحد، أنها لم تجد لنفسها مكانا مناسبا. لقد سقطت في فخ نرجسيتها الخاصة. فقد واصلت اللعبة وراء نجاحها و“سعادتها” حتى لحظة النهاية. ولم يعد بمقدورها أن تفكر بالماضي بإخلاص، ولم يعد لديها اهتمام بالمستقبل. ولم تكن لديها فرصة لتقبل أصدقاء سعداء في ضمن دائرة حياتها. إنها مجرد شخص مفرد ضائع ومهمش. وكل فكرة عن مستقبلها، من وجهة نظر العمل أو الدور الاجتماعي، تبدو إما ممجوجة لها أو يستحيل تحقيقها. وأمام هذه الحالة الذهنية، لا تتراجع التوقعات فحسب، ولكن تختفي تماما. وعليه يبدو الموت الطريق الوحيد، والانتحار آخر فعل أو دور نقوم به.

ومع أن إيستير لا تموت، كما حصل مع بلاث في أول محاولة انتحارية، تستمر حالة الضياع والتردد حتى نهاية الرواية. ويمكننا أن نشاهد في قصيدة من نوع “ليسبوس” و“أبي” أن بلاث لا تجد في الأمومة والزواج شيئا تصلح له، أو تجد فيه نفسها. والحقيقة، كان سخطها عارما بسبب هذه الواجبات. فهي واجبات لا تختلف عن “الـمؤسسات” - التي تحد من حريتها وتعصف بتماسكها، كما هو الحال مع  المدرسة والمجلة والمصحة العقلية.

وتوجب على بلاث أن تعقد صلحا مع مؤسسات المجتمع أو أن تطور وسيلة لتجنبها. ولسوء الحظ، اشتبكت مع نرجسيتها الشخصية، والأسوأ أنها استلهمت أفضل قصائدها من هذه النرجسية. وفي النهاية لم تقدم لها حماية ذاتية، لقد وضعتها في دائرة ذاتية تساعد على تفكيك الذات فقط. ومن الواضح أن بلاث بالشعر وبظلام عذابها الذاتي وجدت مكانا لنفسها. وحتى ذلك المكان لم يكن آمنا - أو صحيا. وحتى الوظيفة الاجتماعية الأخرى لم توفر لها هما حقيقيا أو إشباعا وإرضاء ذاتيا.  في البداية، وجدت الرضا بإنجاب ولدين، بنت وصبي، ولكن نحن نجد في قصائدها وفي (الجرس الزجاجي) الكثير من الصور السلبية عن أعباء رعاية وتنظيف الأطفال. وهذا يدفعنا للاعتقاد أنها لم تكن مسرورة بأعمال الأمومة.

كانت بلاث في حالة اغتراب. والمؤسسات التي تكلمت عنها في (الجرس الزجاجي) وضعت إيستير بحالة اغتراب كذلك. إن  مهنته أبيها الأكاديمية جعلتها تعتقد أن علاقتها بالمجتمع يحددها النجاح في المدرسة. وحققت بلاث ذلك - كانت ناجحة علميا - ولكن لم تجد في المدرسة السعادة المرجوة. وفي نهاية المطاف، تخلت عن مهنة التدريس الأكاديمي في سميث. ثم حان دور تصوراتها عن زواج الأبوين ووفاة الأب والمسؤوليات التي تتحملها الأم بمفردها. وهذا ما حصل مع إيستير. فهي لم تتمكن من القيام بهذا الدور، كما أشارت بوضوح حينما تكلمت عن السيدة ويلارد.  ولننظر أيضا للفراغ الذي تعكسه ضاحية بوسطن. وهذا ما تسبب لإيستير بالكآبة قبل أول محاولة للانتحار. وفي (الجرس الزجاجي) ترسم بلاث لوحة مريرة لمدرستها - على الأقل للجانب السلبي الذي يدفعها للشعور أنها خارج المكان.  ولاحقا، تواجهنا مشاكل بلاث مع المؤسسات - مثل مشاكل إيستير مع المصحات العقلية.  لم تجد بلاث دورا لها - ولا حتى في هذه المصحات. وبعكس جوان، لم تفكر بلاث أن تكون أنثى تعمل بالتحليل النفسي. وربما كانت تشعر بسعادة أكبر في إنكلترا، كامبيردج، وبعد الزواج من تيد هيوز. غير أن قصيدتها “والدي” تضع زواجها ومصداقيته موضع التساؤل. ومن خلال صورة إيستير، ومن تفاصيل حياة بلاث، نرى أنها مرت بوقت عصيب ولم تجد الطمأنينة في وظائفها الاجتماعية التقليدية، ولا سيما الوظائف المرتبطة بالمؤسسات الكلاسيكية. وتقول أم بلاث، أنه من المفترض وجود رواية ثانية تغطي الجانب الثاني المشرق من حياة أبطال (الجرس الزجاجي). وطبعا تلك الرواية لم تكتب أبدا، وأحد الأسباب أن بلاث كانت وحدها في عالم لا يمنحها السعادة إلا من خلال الشعر.

ونرى إيستير في نهاية الرواية وهي في طريقها إلى اجتماع إدارة المصحة العقلية. وكانت خائفة، وتشعر بالقلق من نفسها. فهذا ليس هو المكان المناسب لها. تقول:”ها أنا أدخل إلى الغرفة”. والفكرة في هذه الكلمة”الغرفة”. فبلاث لم تكن سعيدة في غرفتها. ولم يكن هناك “غرفة لها حقا” (بالمعنى الذي استعملته فرجينيا وولف في مقالتها الطويلة). وقد سارت إيستير من جرسها الزجاجي الخاص بها إلى غرفة الإدارة، ولكنه “مكان”، أوغرفة في مؤسسة حساسة جدا، لا يمكن تصوره أبدا، وله وظيفة مزدوجة، وتقليدية جدا، ولا يمكن لإيستير أن تشعر فيه بالراحة والانشراح. ولذلك كانت تود العودة إلى جرسها الزجاجي. هناك على الأقل تجد نفسها. ولا تكون نسخة من الأخريات. وتحقق نوعا من الطمأنينة لا يمكن لأي غرفة في العالم أن تقدمها لها.

وبالنتيجة، إن نرجسية بلاث بحدين اثنين. إنها تصنعها وتستمتع بها. ولكن لا تجد أبدا غرفة عمل ترتاح لها، وتستمع بها، ولا يمكن للعالم أن يقدم لها مكانا أفضل على الإطلاق. إن بلاث نفسها، وهو ما يجب علينا ملاحظته، لا يمكنها أن تجبر مؤسسات العالم على تقديم الخدمات أو المساعدة: ونأسف أن هذا لم يحصل أبدا وأن سيلفيا بلاث لم تجد”غرفة” لنفسها حيث يمكنها أن تتنفس بحرية وتشعر.. نعم، هذا هو مكانها، وهنا موضعها، هذه هي غرفتها.

 

.......................

جين إينيس Inness Jeanne. كاتبة في cliffs notes.

  

في المثقف اليوم