قراءات نقدية

الواقعية الخارجة من التاريخ المهمش

في "يوم شبت بعبدالله النار لـ "جودت جالي"

بداية، يتعيَن على المتلقي ان يستخدم خياله عند قراءته لهذه القصة، لتفكيك وتركيب المعلومات المُقدمة اليه، من قبل الراوي، حتى يكون التواصل غنياً واكثر انفتاحاً في استلام المعنى: الاجتماعي – الاخلاقي – الاقتصادي – الديني، والعثور على الجزء غير المكتوب الذي يحقق لنا تشكيل صورة مُتخيلة . لقد استطاع الراوي ان يرسم صورة انسانية مستلبة من انسانية الانسان في مجتمع ليس من الممكن تحقيق الحد الادنى من عدالة الاله، او عدالة الفرد، وبالذات في العالم الثالث، المسحوق ما بين الدكتاتوريات المفترسة والتخلف وملحقاته .

المشكلة في قصة "يوم شبت بعبد الله النار"، هي: متى تنتهي الحكايات ومتى يبدأ التاريخ؟ ذلك ليس ممكن ابدا، ستبقى الحكايات تتوالد، وسيبقى التاريخ مهمشا، وسيظل شبيه عبود متواجدا دائما في انحاء العالم، عليه يكون عبود جزءا من المأساة، كما هي زوجته التي "يتفجر جسدها شهوة " جزءا مضافا، بل وعاملا مهماً (= الزوجة المهمشة) في ترسيخ الخطيئة وسقوط الانسان .

عبود الشخصية الرئيسة، موظف في مفرزة التصليح السيَارة العائدة لمنشاة السكك، متزوج منذ سنتين، وحصل على دار في المجمع السكني بفضل الزواج، ولكنه بقى يقضي كل اوقاته مع زملاءه في مفرزة التصليح، واغلب الاحيان يبيت في دارهم بعيدا عن زوجته التي اخذت تملا فراشها بجسد الرفيق مولود الأسود ضابط أمن المجمع، وهذه القصة تذكرني بقصة " عبود والمدينة " المنشورة في المجموعة القصصية "فك الحزن" لنفس المؤلف، حيث " عبود " الآخر تختلف شخصيته كليا من حيث المظهر والسلوك، فهو ارعن، شبه اخرس، " بالغ البلادة وسخا رث الملبس "، لكن هذه الموصفات والعيوب تجعله يتغلغل في المدينة بشكل خرافي، وتصبح جسرا للوصول الى المراد الذي يتحسر عليه بقية شبان المدينة، وذلك حينما يذهب مع النسوة الى داخل بيوتهن بل وغرف نومهن بعربة الحْمَالة الصغيرة، بينما الآخر الاول تخونه زوجته، مفارقة دلالية عميقة من الجانب السوسيولوجي – الاخلاقي، ولكن هذه الدلالة تكون طبيعية من الجانب الجسدي (= العملي)، لان الحقيقة تبقى شيئاً ممكناً داخل النسق التاريخي، لكن تأويل  ظاهرة معينة الى حقيقة يعني ان نفهم هذه الظاهرة انطلاقاً من سياقها، فالحقيقة المعزولة عن سياقها تبدو كما لو كانت معزولة تماما،عليه بهذه الدلالة التأويلية، نستطيع القيام باستخلاص المعنى الذي اراده المؤلف .

رغم اتسام القصة بالواقعية الانتقادية الا اننا نعثر فيها على رمز يمتلك طاقة كبيرة على الايحاء الذي يوشر الى معاني اخرى مفتوحة تستمدها من باطنية النصْ نفسه، واذا علمنا ان غاية النقد الأساسية عند بعض النقاد هي تعيين المعنى في النص الادبي، وتلك الغاية لا تتحقق الا اذا اصبح المتلقي او القاريء جُزءا من العملية القرائية، رغم ان الفعل الكتابي نفسه يتضمن القراءة، هذا الكلام سيكون بمثابة المدخل للوصول الى توضيح دلالة القصد في معرفة احتراق عبود، ووجوب احتراقه مع ايحاء بذلك لما سوف يحدث له:  "لا مفر من ترك العمال يكملون طقسهم الصباحي حتى يستحيل الخشب الى رماد "،  ويستحيل " عبد الله الى كتلة نار " ايضاً في لحظة اهمال، مع توكيد فعل الاستحالة في العمل على اخماد النار الملتهبة فيه، ثم اخيرا يكون كما يصف الراوي نظرة البدوي اليه الذي لا يثير انتباهه اي شيء في الكون " رؤيا مشتعلة مرت به في طريقها الى البرية، نحو الأفق البعيد " .

بهذا سيكون علينا ان نتسأل: هل هذا الموت كان يرمز الى التحرر؟ واذا كان كذلك فمن الذي تحرر: عبود ام الراوي ام المؤلف .

 

أسامة غانم

 

 

في المثقف اليوم