قراءات نقدية

تفسير كافكا

صالح الرزوقهربيرت جيرماك*

ترجمة: صالح الرزوق


المشكلة الأساسية التي تواجه قراء قصص كافكا القصيرة هي تزايد التفسيرات التي يجب التعامل معها. ومن بين المقاربات العديدة التي تواجه القارئ هي افتراضات السيرة الذاتية. وتدعي شروح كافكا أن أعماله ليست مجرد تأملات في توتر حياته نتيجة الاستقطاب بين العزوبية والزواج، أو، من مستوى آخر، بين الشك وطبيعته الدينية. بل هي أكثر من ذلك ولو قليلا. وربما يصح أن نرى أن عددا قليلا من الكتّاب آمنوا بذلك. فقد قال كافكا: “كتاباتي هي عنك / الإشارة لوالده/. وفيها أنا أعبر عن الأحزان التي لم أتحرر منها حينما كنت في أحضانك” (من رسالة لوالده). ولكن من غير المجدي أن نعتبر أن مصادر اضطرابه في الحياة قد تغلغلت في روح كتاباته بهذا الشكل الفاضح. وإن عدم افتتان كافكا بوالده، ثم كراهيته له في النهاية، كانت محرضا للكتابة. وهذا لا يوضح أسباب فتنة كتاباته ولا تخبرنا لماذا كان يكتب بالأساس. أما المقاربة النفسية أو النفس اجتماعية لكافكا فتتجاهل لحد كبير مضمون أعماله وتوظف “اكتشافاتها” المزعومة، بعد الفحص السريري للنصوص، وكأنها مفتاح لحل ألغاز عالم كافكا. نحن نعلم أن كافكا كان مطلعا على أفكار سيغموند فرويد (وذكر ذلك صراحة في مفكرته، بعد أن انتهى من كتابة “القضية” عام 1912). ونعلم أنه حاول أن استخدم الرموز الفرويدية ليعبر بها عن مشكلته. وهذا يبرر لنا الاستعانة بفرويد لقراءة. لكن هذه المقاربات تجاوزت عالم كافكا، وتحولت إلى تطبيقات عملية هدفها الأول رموز فرويد. مع أن فرويد نفسه حذرنا من ذلك قائلا: إن تحليل الجوانب الفنية من أي نص ليس جزءا من مدرسته. وهناك تفسير اجتماعي، ينظر لأعمال كافكا على أنها مرآة للوضع التاريخي والاجتماعي الذي كان يعيشه. ولكن بهذه الطريقة لم يعد السؤال هو عن ما قاله كافكا حقا، بل عن أسباب قوله. ويشترك التفسيران الاجتماعي والنفسي بافتراضات مغلوطة تتوهم أن اكتشاف المصادر الاجتماعية أو النفسية لخبرات الفنان تحجب المعنى المرجو من الظاهرة الفنية.

ضمن الاتجاه الاجتماعي بالتفسير، وهو واحد من أهم الطرق، كان الحكم على نتاج كافكا يأتي من خلال درجة مساهمته بتطوير المجتمع. وباتباع الإملاءات الماركسية اللينينية يجب أن نؤمن أن الفن يعمل كأداة لفهم حركة الطبقات في المجتمع. وهذا النوع من التفسير قد انتشر ليس فقط في البلدان الشيوعية، ولكن أيضا بين نقاد اليسار الجديد، فأضافوا بذلك للستار الحديدي الشيوعي، ستارة براقة تخطف البصر وتشوش الرؤية. وكان النقد الماركسي لكافكا يتحرك بحركة ترددية بين نقطتين، إدانة فشل كافكا في رسم نتائج التضحية به على مذبح بورجوازيته، وبين مديح أبطاله الذين يشبهون البروليتاريا في كفاحهم. وأصبح كافكا نقطة عبور من الطبقة العاملة إلى الطبقة الثورية، وهو ما تؤكد عليه مدرسة النقد الشيوعية الرسمية. وانتقلت الفكرة إلى “التقدميين” في الغرب، وأصبح من المعروف أن كافكا ألف كراسا خصصه للأزمات العمالية. وفي حوار مع صديقه يانوشا امتدح كافكا الثورة الروسية، وعبر عن مخاوفه من أن تقود نبرته الدينية إلى حملة صليبية جديدة تزهق فيها أرقام مرعبة من الأرواح. ولكن بالتأكيد إن أي دارس لكافكا يمكنه أن يصف الرعب الناجم في كتاباته من جراء بروز الأنظمة الشمولية بالتدريج (كالنازية في ألمانيا) دون أن تكون ممهدة للشيوعية، وهذا ما يؤكد عليه النقد الشيوعي هنا وهناك. ويمكن لنا أن نقرأ “القضية” وكأنها قصة التضحية بـ ك على مذبح النازية (ثلاث من أخوات كافكا متن في معسكر إبادة). واليوم يمكن أن ترى أن كافكا نجح في رسم الرعب الكامن والصامت للنازية وبدرجة عالية من الإقناع. ولكن لا يمكننا أن نتجاهل أو نهمل حقيقة أن كافكا، كان في النهاية، شاعرا. ولتكون شاعرا يجب أن توفر شكلا من اشكال التعبير الفني للوضع البشري المتنوع بكل مستوياته وعبثيته. وأن تنظر لكافكا على أنه ثائر اجتماعي وسياسي لأن قصته “طبيب الأرياف”، على سبيل المثال، أو لأن مساح الأراضي في “القصر” هي بحث عن تبديل قدر أبطالها من خلال التورط الطوعي، وليس الضغط الخارجي، يودي بنا لتشويه هوية كافكا الكونية، وذلك فقط لكي نضعه ضمن إطار إيديولوجي معين.

لقد ارتبط بقوة، مع التفسير الماركسي للتدين في قصص كافكا، محاولات لاتحصى ذات اتجاه فلسفي وديني حاولت فك رموز بناء عالمه. وتراوح نطاقها من النقاش الثيولوجي المعمق إلى التكهنات المجردة. وبما أن طبيعة كافكا الدينية هي موضوع معقد وخلافي ويحتاج لدراسة منفصلة، جاء اهتمام النقاد عاجزا، مثل عجز تحليل زملائهم الاجتماعيين والنفسيين. فقد نظروا لكافكا ببساطة وكأنه فنان. ولكن اشتركوا جميعا بقناعة واحدة: أن “المعنى الحقيقي” لكافكا يتركز في خرافاته ورموزه. وعليه يمكن التعبير عنه بشكل أفضل بطرق هو شخصيا تحاشاها لسبب أو آخر. وافتراضات هذه المقاربة موجودة في فكرة ثابتة: أن الفنان يعتمد على الفيلسوف ليترجم مواقفه الغامضة بشكل مصطلحات منطقية. وكل هذا لا ينفي إيحاءات عقل كافكا ذات الطبيعة الدين/فلسفية، ولا استغراقه بالسؤال النهائي حول الوضع البشري. فهو عاش وفكر وكتب بصور وليس بشكل بنية مفهومات “مشفرة”. واعتقد كافكا نفسه أن قصصه هي مجرد “نقاط تتبلور” عندها مشاكله: بيندمان، سامسا، غراكوس، فنان الجوع، طبيب الأرياف، جوزيف ك في القصر، كل هذه الشخصيات هم مثقفون وفنانون لهم علاقة قرابة دم بكافكا، ولكن هذا لا يسمح لنا أن نختزل صوره بنهاياتها المفتوحة في جملة معطيات.

التفسير دائما هو موضوع حساس، وفي حالة كافكا، يكون أكثر حساسية مما عداه. وسبب ذلك أن أعماله: 1) تهاجم أساسا القوانين غير المفهومة التي تحكم حيواتنا. 2) تصف الدراما الإنسانية التي تجري في مسارها على عدة مستويات متشابكة عشوائيا، وهذا يقرب أعماله من موضوعه الكوني. و3) منهمكة تماما بحساسية من درجة عالية، وتستجيب بعدة طرق مختلفة لمواقف متشابهة وعلى فترات مختلفة. والجانب الأخير على وجه الخصوص يشير للتفكك والانحراف عن العقل ويؤكد على جوهر قصص كافكا غير العقلاني والمتكرر. وتقف صور كافكا، وهو ما لم يحاول ماكس برود أن يتكلم عنه، لأجل نفسها وفي نفس الوقت لأجل شيء ما لا يمكنها أن تصل له.

هذه المصاعب قادت عددا من الأكاديميين ليدعوا أن كافكار نادرا ما فكر بأي شيء خاص ومحدد في قصصه. ومن هذه الزاوية، لم يبق غير خطوة صغيرة للوصول لموقف “ نسباوي” يؤكد أن كل تفسيرات كافكا متساوية بمعانيها. وبهذا الخصوص، يمكن للمرء أن يقول أن “لا تفكر بشيء محدد” يتساوى فعليا مع أن “تفكر بعدة أشياء في وقت واحد”. وفنية كافكا، جوهريا، قادرة أن تنجز ذلك بأتم صورة. إنه شيء غريب. لكن بعد إعادة النظر في أعمال كافكا ومن زوايا مختلفة، نرى أننا غير جاهزين لتكوين نظرة نسبية كلية، وإنما بين أيدينا ضمانات تجعلنا واعين بعدة مستويات تتركب منها أعماله.

وبالرغم من الفروقات العديدة بين المقاربات التي تناولت كتابات كافكا، توجب عليهم جميعا في النهاية التعامل مع عالم مغلق ومتنسك. وكل شيء عبر عنه كافكا عكس به نفسه المعقدة وهي في وسط فضاء اجتماعي وسياسي متبلور، وهذا الانعكاس كان مكسرا ومشوها وملقى على أطراف عقله التحليلي. وعليه إن الناس الذين قابهم أبطاله والذين نراهم بعيونهم ذاتها ليسوا “حقيقيين” بالمعنى النفسي، و ليسوا “حقيقيين” بالمعنى الإمبريقي، وليسوا “طبيعيين” بالمعنى البيولوجي. وعلامتهم الوحيدة المميزة أنهم وجود شيء “مخلوق”. وفي إحدى المناسبات قال كافكا لصديقه يانوش:”أنا لا أرسم رجالا. ولكن أروي حكاية. وهؤلاء صور. صور فقط”. وقد نجح في تصويرهم بما يكفي من المادية، ثم طورهم لمستوى رموز حية وخرافات، وهذا هو سر فنه.

إن قصص كافكا لا تغرينا بتحليلها على محور الفانتازيا ضد محور الواقع. فالعالم المتبدل والمعزول يتكشف أمامنا، ويظهر لنا بشكل عالم تحكمه قوانينه ويطور منطقه. وهذا العالم هو عالمنا وفي نفس الوقت هو ليس لنا. وصوره ورموزه مأخوذة من عالمنا الظاهراتي، وأيضا إنها تبدو منتمية لمكان آخر. ونحن نشعر أننا نصادف أشخاصا نعرفهم ومواقف عشناها في حيواتنا اليومية. أضف لذلك إن هؤلاء الأشخاص وهذه المواقف تبدو بشكل ما اغترابية. إنها حقيقية وملموسة، وكذلك هي ظلامية كئيبة وتجريدية. وهم يستعملون لغة متقشفة محرومة من البريق وذلك للتأكيد على تواصل له معنى فيما بينهم، ولكنهم يفشلون في مسعاهم، ويمر الواحد بمحاذاة الآخر مثل قوارب في ضباب كثيف. وهذا الضباب، مجال سريالي (فوق واقعي)، لديه شيء مقنع فيما يختص به. وعليه تتشكل لدينا مشاعر مشحونة تشير أن أناس كافكا يقولون شيئا له دلالة حتمية ولكنه أيضا، في نفس الوقت، من المستحيل لنا أن نستوعبها.  

وفي نهاية المطاف، يبدو القارئ أمام خيارين لـ “قراءة” كافكا. الأول أن ترى عالم كافكا مليئا بالخرافات والرموز، ومجسما ومشوها بالفانتازيا (ولذلك هو أكثر حقيقية لدرجة لامتناهية)، عالم يواجهنا برؤيا حلمية عن وضعنا. والثاني أن تتخلى عن الادعاء أنك فهمت عالمه، وأن تكشف نفسك لمحيط يحاصرك بالقلق اللجوج، والرؤى العبثية، و- أحيانا - بأمل موعود لكنه باهت.

 

.........................

* محرر في موقع CliffsNotes

 

 

في المثقف اليوم