قراءات نقدية

تقنيةُ استدعاءِ الشَّخصيَّات سباعيَّات الشَّاعر: جمال مصطفى أنموذجاً

وليد العرفي استهلال: بداية لا بد من تأكيد أن الخوض في النص الشعري لدى الشاعر: جمال مصطفى مغامرة، وهي مغامرة بما فيها من مخاطر الانزلاق في تأويل  إلا أنها في الوقت ذاته تُغوي باستكناه مجاهيل ما تنطوي عليه مغاليق تلك الرحلة، وما يُمكن أن تؤدي إليه في ختام مطافها؛ فلغة الشاعر مصطفى لغة تجترح ذاتها من ذاتها حتى يُمكنني القول بأن النص لديه  نسيج وحده، وهو ما يتبدّى فيما ورائية الصياغة، نص الشاعر: جمال لغة تبعث على التأمل، وفي هذا التأمل لذة المكاشفة، وهو ما يُسبغ على النص جماليته الخاصة، ونكهته التي لا تُشبه أي مذاق آخر، يسعى شاعرنا جمال فيما ينشر إلى إثبات خصوصية، وتأكيد حالة متفردة في الاشتغال الشعري لديه الذي يُؤسّس فيه مساراً نمطياً غير متشابهٍ مع غيره، ولا متأثر بمن سبق، وهذا التوق اللائب في كل ما قرأت للشاعر يتمظهر بتجليات النمط الشعري الذي يُصرُّ عليه، وهو نمط الـ (سباعيات)  وهنا أشير  إلى أن للعنوان ارتباطه الدلالي بالنص الشعري،وهو ما يطرح السؤال عن دلالة العدد، ولماذا العدد 7 لا سواه؟ وهنا نُشير أن العدد فيما ــ أظن ــ يرتبط بحكم معيار بلاغي، وأن الرابط السيميائي بين النصوص السبعة، والعنوان ليس العدد وحسب، وإنما يتعدّى ذلك إلى ما تواضع عليه العرف لدى العرب أن النص الذي يقلُّ عن ال 7سبعة أبيات لا يدخل تحت مسمّى القصيدة، من هنا يبدو العنوان عنوان معيار وقيمة، لا عنوان عدد وكمية أو أنه يتجه بمنحى ديني أو ميتافيزيقي  .

التعالق الديني

من نافل القول بأنَّ الموروث الديني يُشكّل مرجعية خصبة في التفكير الإنساني بشكل عام والعربي بشكل أخص، وهذه المرجعية تعدُّ المنهل الذي يُغذّي نسغ الشعر العربي، ويمدّه بروافد لا تنتهي ولا تجف بما فيها من غنى وتشعّب دلالات، وتعدّد رؤى، وطالما كانت القصص الدينية و حكايات الأنبياء مثار اهتمام الشعراء على مختلف العصور، ويتبادر إلى الذهن هنا لماذا يعود الشاعر المعاصر إلى التراث الديني، ولماذا يستدعي شخصيات الأنبياء في القصيدة المعاصرة ؟

تبدو الإجابة على هذا السؤال مرتهنة باشتراطات الاستدعاء، وظروف الشاعر الذاتية والموضوعية، وكي لا أبتعد كثيراً عن دلالات الاستدعاء سأبقى في دائرة النصوص التي بين يدي، وهي سباعيات الشاعر: جمال مصطفى التي تعددت فيها تقنيات الاستدعاء وتكنيكاته، ومن تلك التقنيات:

أولاً ـــــ تقنية استدعاء الشخصية بالاسم الصريح كما في سباعية إدريس التي يبدأها بالنبي إدريس يقول فيها:

مِـنْ قـبْـلِـهِ حُـرّةٌ  بـيْـنَ الأبـالـيـس ِ      إدريـسُ أودَعـهـا سِـجْـنَ الـقـراطـيـسِ

يأتي استدعاء شخصية النبي إدريس عليه السلام في هذه السباعية استهلالاً، والنبي إدريس مختلف عليه في الاسم والوجود؛ فهو مثار احتمال وشكّ،  وفي حقيقة وجوده حيّاً أم ميتاً، إذْ  قيل أنه رُفع إلى السماء الرابعة، وهناك قُبضت روحه، وقيل بل هو حيٌّ،  ومهما كانت حقيقة النبي إدريس؛ فإنه  كما ذكر ابن إسحاق أول من خط بالقلم، وهو المقصود في إجابة الرسول محمد ﷺ عن الخط بالرمل فأجاب: "إنه كان نبي يخطُّ به فمن وافق خطَّه فذاك "، ومن هنا تتكشف مقصدية الشاعر: جمال مصطفى  من استدعاء شخصية النبي إدريس ذلك أنَّ: "  أهم وأغنى ما يستطيع التراث بالنسبة لشعرنا الحديث ليس أن يصبح واجهة منطوقة للعمل الفني تُضاف إليه من الخارج، بل أن يُحسه الشاعر، ويؤمن به بحيث يغدو جزءاً من صميم تجربته الشعرية "   .

وهو ما أراد أن يُعلن عنه شاعرنا: مصطفى بتأكيد فعل الكتابة لديه، وتفرّد ذلك الفعل بما أسبغ عليه من أبعاد تاريخية، ودلالات تتجاوز محدودية الكتابة المتعارف عليها،  ولعلَّ الابتداء بإدريس يحمل تلك الدلالة التي لم تكن من قبيل المصادفة، أو مراعاة للتأريخ والزمن في وجود الشخصية، وهو ما يتكشف في سياقات القصيدة التي شكَّل فيها كل بيت صفة جديدة لطبيعة تلك الكتابة، وما فيها من تفرّد ومجاوزة؛ فهي لغة مكتوبة بحبر سرّي تحتاج إلى تعمّق باطني من أجل سبر أغوارها، والوقوف عند حقيقة مداليلها، ومقاصدها الأخيرة، ونلاحظ أن الابتداء جاء بشبه الجملة، وهو ابتداء مغيَّى يحمل رمزيته التي تعني أن الكتابة بمعناها الإبداعي عملية خلق مستمرة لا منقطعة، وهي عملية تراكم معرفي، وبهذه الـ ( من) التي اقترنت بالظرفية إشارة إلى فعل الزمن في حركة الفعل الإبداعي التي يُلمح إليها السياق: 

شـمْـطـاءُ لـكـنَّـهـا بِـكْـرٌ وطـلْـسَـمُـهـا          سـاقٍ يُـمـالِـىءُ أكـوابَ الـكـوابـيـس

مخـطـوطـة ٌحِـبْـرُهـا الـسريُّ يَـفـضحُهـا:     كَـأنَّ أقـلامَـهـا ريـشُ الـطـواويـس ِ

لَـيلاً تَـمُـرُّ (إذا مَـرّتْ) بـهـودجـهـا              لا تَـنـطـلي وانـطـلَـتْ يا حـاديَ الـعِــيـسِ

إنها كتابة متخلّقة زاهية الألوان، بهيّة المناظر تشبه ريش الطاووس في تعدّد ألوانه، وجمال منظره، وتعدّد مجازاتها .

تنهض سباعية إدريس فيما أرى على ثنائيات الأضداد؛ فعلى النسق الاستهلالي ثمة ثنائية بين المقدّس (إدريس) والملعون (أباليس)

ثنائية ثانية بين الحرية: (حرة ) والعبودية: (سجن)، وعلى مستوى الزمن بين:(شمطاء) وهي صفة تُطلق على من خالط بياض شعرها سواده، والـ: ( بكر) تُشير إلى فتاة في مقتبل القمر، وبين التجلّي: (يفضحها) والتخفّي (السري)

كما ينهض الأسلوب اللغوي برفد تلك الثنائية باستخدام ثنائية: النفي والإثبات (لا تنطلي وانطلت)،  أو الاحتمالية والتوقع: ( تمر)، (إذا مرت)، وعبر ثنائية الزمن بين الماضي: (أمس) والمستقبل:(غداً)؛فأية كتابة تلك التي تتجاوز حدود الحرف؛ لتكتنز جمالية الممانعة والكشف في هذه السباعية الاستهلالية التي لا تُسلّم نفسها للقارىء، إنما تُبدي له فعل غواية الاستكشاف الذي لا يُمكنه إزاءه إلا ملاحقة تلك الغواية، ومحاولة الكشف عنها:

وهـكـذا دَيْـدَنُ الـنـاعـورِ أمْـسِ غَــداً        إذ يَـجْـمـعُ الـنِـيـرُ أعـنـاقَ الـجـوامـيـسِ

إنها طبيعة الحالة التي لم تتبدّل برغم تقلبات الزمن؛ فهي حالة متماثلة في الماضي والمستقبل طالما أن مسبباتها نفسها لم تتغيَّر؛ فحالة الانسياق والانصياع التي تُجبر عليها الجواميس في موضع واحد هو: (النير) يجعل من هذه الجواميس أرقاماً لا تفاضل، أو تمايز فيما بينها، إنها في عُرف النير مجرد جاموس واحد متشابه الملامح، ووحيد الإرادة، وبذلك يبدو الاتجاه الذي يُسيّر إليه غير مهم، كما لا يعني طبيعة ذلك التوجه شيئاً طالما أن المُتوجّه مسلوب الإرادة والتفكير؛ لتكون ختام هذه السباعية بالعودة إلى الفرد الذي يُمكن أن يُحقّق ما تعجز عنه الجماعة:

ولا غـضـاضـةَ في مـا بَـعْــدُ إنْ جَـنَـحَـتْ         صَـوْبَ الـمــآذنِ أو صَـوْبَ الـنـواقـيـسِ

مـيـزانُـهُ: كِـفَّـةٌ لا غـيْـرَ قــد رَجَـحَـتْ              فـصـارَ نـامـوسُـهُ فـوقَ الـنـواميـس

إذ يبدو الفعل الفردي فعلاً فوق القدرة البشرية، وهو ما يأتي برمزية لا تنسى اعتمادها على طبيعة الثنائية التي التزم الشاعر فيها في سباعيته من خلال رمزية الميزان المفرد الذي يفوق بناموسه النواميس كلها .

ثانياً - تقنية استدعاء الشخصية بالعلامة اللسانية

ومن ذلك سباعية الخضر:

مـوسى مُـصادفَـة ً، لَـيستْ مُـصادفـةً             بَـعْـدي تَـلَـثَّـمَ بالأسـرار وارتبَـطـا

الـحـائِـطُ، الـطــفـلُ، رُكّـابُ الـسـفـينةِ أو         مـا رُحْـتُ أفـعَــلُـهُ لأراهُ قـد سَـخـطـا

تُحيل هذه السباعية إلى قصة أفعال الخضر برفقة موسى الذي صاحبه في تلك الرحلة، وتلك القصص هي: قتل الطفل وإغراق السفينة وبناء الحائط، تتخذ هذه المفردات  علامات لسانية تحمل كل منها دلالات رامزة تُشير إلى أحداث وقعت في أثناء تلك الرحلة ؛ لتصبح مداميك البناء في هذه القصيدة، تنطلق منها، وتسير وفق مسارها عبر لغة حوار تتواءم والنص المرجعي الديني الذي اُستمدت منه مرجعيتها غير أنها لم تلتزم بحرفية النص، وإنما انزاحت وفق مسارها الشعري؛ لتخلق مناخها النصي الذي لا يرتبط بالنص المرجعي إلا بمقدار ما يشي بغرض الإشارة؛ فهو تلميح يكتفي بالإيماء الشفاف، وهو ما يبدو تعالقاً نصياً مختلفاً عما هو معهود ومألوف:

سـرْعـانَ مـا قـال لي: مَـن أنتَ؟ قـلْـتُ أنـا          ـوعــادَ مِـن بَـعْــدِهـا لِـلـقــومِ مُـغْــتَـبِـطــا

كُـنتُ الـوسـيـطَ الـذي يُـبْــقـــيـهِ مُـعْــتَــمِـداً            عـلى الـوسيـطِ ولـكـنْ لَــمْ أكُــنْ وسَـطـا

ولَــمْ يَـكُـنْ راضـيـاً إلاّ عـلى  مَـضَـضٍ:            كـانتْ هــواجِـسُـهُ تَـجْـتـاحُـهُ شَـطَــطــا

تبدو جمالية النص في هذا السياق أنها تقول بالمضمر أكثر ما تُعبّر عنه بالمُصرَّح به وهو ما يظهر في قوله:

يَـدري بـأنَّ الـذي ـ ـ لـيـسَ الـذي ويَـرى           نـوراً عـلى جَـبَـلٍ مـا مَــرّةً هَـبـطـا

يُحِـبُّ أبْـخـرَةً (يَـهْــوا) وقـد شُــويَـتْ            لَــهُ الـعــجـولُ ولــكـنْ يَـكْــرَهُ اللـغَـــطـا

يقوم فعل استدعاء الشخصية الدينية في هذا النص باستخدام مرجعية القص الوارد ذكره في القرآن الكريم، وتلك الرحلة التعليمية بمصاحبة النبي موسى للخضر عليهما السلام برموز

غير أن ما يُشار إليه في موضوعة الموسيقى أنَّ  استخدام الشاعر لروي حرف الطاء، وهو أحد حروف القلقة، جعل النص يحمل ثقلاً صوتياً في السمع؛ فكيف إذا كان روياً، وحرف الروي آخر ما يعلق في أذن المتلقي، غير أنَّ ما خفَّف حدَّة ثقله في سياق النص أنه جاء مطلقاً ما أضفى  عليه نوعاً من الامتداد واللين .

ويدرج في السياق ذاته سباعية يـونـس:

في وصـف الحـوت

مِـن بـابِ مُـقـلَـتِـهِ كـانَ الـدخـولُ إلى         مـا يُـشْبِـهُ العَـرْشَ بـيـن الـمـاءِ والـمـاءِ

عـلى آرائِـكَ شـاهَـدْتُ الـذيـن ولَـمْ        أسـمعْ سِـوى الـصـمْـتِ مَـصحـوباً إيـمـاءِ

كـان الـدُوارُ أنـا وحـدي ضَـحـيّـتَـهُ           سـرْعـانَ مـا هـرعـوا صاروا أطـبّـائي

مـزاغِـلُ الحـوتِ كُـثْـرٌ مِـن هُـنـا وَهُـنـا        يَـرى بهـا كُـلَّ مـا مِـن حـولِـهِ الـرائي

آمَـنـتُ بـالحـوت حـتى أنهـمْ فـرحـوا              وأرجَـعــوني كَـراءٍ بَـعْــدَ إسْـراءِ

في فُـلْـكِ آلِـهَـةٍ لا يَـغـرقـونَ ولَــوْ          حـاقَـتْ بِهـمْ لُجَـجٌ في جـوْفِ ظـلْـمـاءِ

ما كُـنتُ ذا الـنـونِ  إنَّ الـنـونَ نُـونُهُـمُ          أنـا غـريـقُ تَـدابـيـرٍ وإخـفــاءِ

يُرجِع هذا النص قصة النبي يونس وقصة ابتلاع الحوت له، وهي قصة تستدعي أحداث ذلك الرحيل عبر جوف الحوت، وما تراءى له غير أن النص الشعري يُعيد بناء تلك الرحلة بأبعادها الدينية بطريقة مخالفة للواقع،، إذ يروي لنا مشاهد، ومناظر مبنية من خياله الشعري، وكأنما أراد الشاعر أن يُعيد سرد القصة من منظور شعري معاصر؛ ليؤكد أن تلك المعجزة، إنما تحققت بفعل رباني له حكمته، ودلالات اعتباره لمن يَعتبر .

ومنه في قصيدة (هـذا الـسُـلـيْـمـانُ):

الـسِـرُّ في السحْـر حتى الآنَ يَـخـتَـبـىءُ    والـسِـرُ لا غـالـبٌ إلاّهُ  يا سَـبَـأُ

يبدأ استهلال النص بتأكيد مقولة ثابتة، وقناعة راسخة، وهو ما يُعلّل لجوء الشاعر إلى استخدام التركيب الاسمي والأسلوب الخبري الابتدائي، وهذا النوع من الكلام الخبري يخلو من أي مؤكد؛ لأنه كلام ينهض على أمور ثابتة، ويستند إلى حقائق قارَّة في ذهن المُتلقّي وعاطفته، وهو ما لا يحتاج معه إلى أي تأكيد؛ لما لدى المُتلقّي تجاه هذا المقول من معرفة وإيمان به؛ فيشكّل فعل الكشف مقولة النص الأساسية التي تدور حولها مفردات النص كلها، وهو ما يُبيّنه الحقل الدلالي المشكل لمفردات القصيدة: (السر) تكرَّر مرتين، (بلقيس) تكررت مرتين، (الهدهد) على اختلاف المفرد والجمع، وقد جاءت  هذه التكرارات  لتأكيد حالة، وتوضيح موقف .

لا سـاقُ بـلـقـيـسَ  لا بـلـقـيـسَ تَـغْـلـبُـهُ  ولا رَجـاحـةُ رأيٍ  أيّـهـا الـمَـلأ ُ

هـذا الـسلـيْـمـانُ مـأمـورٌ كَـهُـدْهُــدِهِ   أربـابُـهُ مَـن عـلـيهـمْ راحَ يَـتّـكيءُ

قـد خطّـطـوا فـسرى الـنامـوسُ بعـدَئـذٍ والحـوضُ لَـمّـا يَـزلْ بالـمـاءِ يَـمْـتـلىءُ

ويأتي ختام النص ليفيد حقيقة اختلاف تفكير طبيعة الحاكم عن المحكوم الذي يرى أنه من طبيعة غير طبيعة الناس:

الـعِـلْـمُ للـنـاسِ أمّـا الـسحـرُ فهْـو لِـمَـنْ           كـادوا لِـيُـفـتَـحَ جـرْحٌ كُـلّـمـا نَـكـأوا

هَـداهـدٌ عـنـدَهُـمْ  في كـلِّ حـاضـرةٍ           إنَّ الـهـداهـدَ (يَـهْـويـّـونَ)  مُـذ نَـشـأوا

الـسحـرُ قـد غَـطْـرَسَ الأربـابَ غـطْـرسـةً       حـديـدَهـمْ وحـدَهُ  لَـمْ يَعـتـرِ الـصـدأُ

يتبدَّى التناص في قصيدة (السليمان) في أكثر من نمط استدعاء؛ فمن الشخصيات نجد:  النبي سليمان وبلقيس، ومن الطير:  الهدهد ومن الجماد: سبأ .

وفي نص (صـيـارفـة ) يقول:

صَـيـارِفَـةٌ مِـن العـهْــدِ الـقـديـمِ       لِـتَـمْـويـلِ الـجـحـيـمِ  مِـن الجحـيـمِ

وتَـذهـيـب ِ الـكـتـابِ  بـمـاءِ نـارٍ    وتَـغـلـيـبِ الـرجـيـمِ عـلـى الـرحـيـم ِ

تُحيل قصيدة صيارفة على امتهان اليهود صياغة معدن الذهب، وهذه المهنة تقوم على حرق المعدن، وهو ما أشار إليه شطر البيت الجحيم من الجحيم، إذ تتعدد دلالة المفردة الواحدة إلى معنيين: المعنى الأول:  يُشير إلى الظلم واستعباد الآخرين، والمعنى الثاني يدلُّ على مهنة الصياغة

وهذا التركيب (بماء نار) يطرح السؤال التالي:  كيف تلتقي النار بالماء؟!، وهل للنار ماء؟!، وهما متناقضان لا يلتقيان، غير أنَّ الشاعر بحنكته لجأ إلى لعبة اللغة في التورية؛ فاقتنص منها ما أضفى على المعنى بعده الإيحائي الدال، والمُفضي إلى حقيقة تزوير الحقائق وتزييف التاريخ، وهو ما أحالت عليه لفظة: (تذهيب) التي جاءت مصدراً للفعل ذهّب، وهذا الوزن من دلالاته الإزالة والصيرورة، وهي بهذا الحمل الدلالي تنفتح على معاني متَّسعة سواء من حيث بنيتها الصرفية تفعيل، أم معناها الدال على إحداث التغيير، ومن هنا تتبدّى جمالية اللغة القائمة على المفارقة، ومخالفة المألوف ما يبعث على الإدهاش، ويتطلَّب مزيداً من إعمال الفكر فيما يريده الشاعر، وفيما يحاول أن يبلغه، إذ الشعر في النهاية ما هو إلا رسالة لغوية مشحونة بطاقات فكرية ورؤى جمالية وعاطفية، وهكذا تظهر جمالية الأضداد التي تبدو أحد مرتكزات البلاغة في سباعيات الشاعر: جمال مصطفى كلها:

بـمـيـثـاقٍ ومـيـعــادٍ ورؤيـا                   سـبـيـكـةِ صـاحـبِ الـكـنـزِ الـعـظـيـم ِ

يَـراهُ، ولا نَـرى إلاّ نُـجـومـاً                   مُـرَصّـعَــةً عـلى اللـيـل ِ الـبَـهـيـمِ

مَـزاغِـلُ  خَـلْـفَـهـا وُكَـلاءُ مَـكْـرٍ                 لأمـكـر مـاكـرٍ، طـاغٍ، عـلـيـم ِ

يـنـامُ، ويَـسهـرُ الـوكَـلاءُ عـيْـنـاً             عـلى  فـرْض الـصـراطِ الـمـسـتـقـيـمِ

عـلى الـقُـطْـعـان ِ:أيـن مـتى وأنّـى          تُـسـاقُ، وحِـصّـةِ الـذئـبِ الـخـصـيـمِ

فمما جاء بين الأفعال من مثل:

يراه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ  ولا يراه

ينام ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يسهر

ومما يشير إلى حالة الصراع الأزلي بين طرفين نجد:

الذئب ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ القطعان

وأخيراً من خلال دلالتي المكان والزمان باستخدام الاستفهام بـ : (أين ومتى )

ثالثاً - تقنية التحدّث إلى الشخصية: ومن هذا النمط  آخر نصوص الشاعر المعنون بــ:

يـا هــــود يقول فيه:

أنتَ إذنْ عـربيٌّ ونبيٌّ

مِـثْـلُ شُعَــيْـبَ وإسـماعـيـلَ وصالحْ

لا ذكْــرَ لَـكَـمْ في الـتـوراةِ

إسـمـاعـيل؟

:ابـنُ الـجارية الـمـطـرودهْ

 

يبدأ الشاعر سباعيته بخطاب  النبي هود الذي أرسل إلى قبيلة عاد التي أبادها الله كما جاء في القرآن الكريم: " وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ "  بتأكيد حقيقة نسب وصفة، ويتابع:

يا هـودُ

الـتـوراةُ لِـنـاحـومَ ومِـيـخـا

الـتـوراةُ لِـحَــبْــقــوقْ

أمّـا أنـتـمْ فـانتـظــروا

حـتى يُـبْـعَــثَ خـامـسُــكُــمْ

آه ٍ لَـو كـان لَـديـكُــمْ كُـتُـبٌ

بـالــفُــصحى يـا هــودْ

آهٍ لَــوْ كـانْ

آهٍ لَــوْ نَـزلَــتْ أربـعــةٌ قـبْـلَ الـقـرآنْ

لـكـنْ

مـاذا عَـمّـنْ لـيـسـوا

عِـبْـرانِـيـيـنَ ولا عَـرَبـا؟

تبدو قفلة القصيدة مغزى القصيدة وسمتُ مآلها الذي اتّخذ من صيغة التساؤل صيغة تعبيرية في التصريح عمَّا يريد الشاعر إبلاغه؛ ففيه بيت القصيد الذي يريد الشاعر الوصول إليه في هذه السباعية التي يُشير فيها  إلى أولئك المزيفين الذين لا لون لهم ولا انتماء ولا هوية، وهي تقوم من حيث أسلوبُ بنائها اللغوي على الثنائية؛ فقد جاءت وفق نمطين، إذ اعتمد الشاعر في الأبيات الأولى الكلام الخبري الابتدائي، وهو كلام ذو طبيعة سردية اعتمد التقريرية، وأسلوب العطف والنفي، أما الجزء الأخير؛ فقد بني على نمط الأسلوب الإنشائي الذي تنوَّع في أساليبه بين التمني والنداء والاستفهام الذي جاء منفرداً بالأسلوب الإنشائي في الختام  الذي حُمّل دلالياً معنى الاستفهام والتعجّب، وهو البيت الذي يحمل فكرة النص كله .

يبدو السرد والتقريرية في هذه السباعية مُسيطراً على تفاصيل الحدث، إذ بُنيَ النص على توالي سرد بأسماء لشخصيات من التاريخ، وما ارتبطت به تلك الشخصيات من كتب دينية، وقد أضعفت تلك التقريرية والمباشرة في التعبير فنية القصيدة، وما زاد ذلك  تراكم التناصيات بهذا الحشد لأسماء متوالية في إطار سياق لغوي واحد من غير أن يكون له إضافات مسوّغة ما جعل هذا الحشد يُثقل على النصّ، و لو أعدنا بناء القصيدة بطريقة أفقية وجدنا أنفسنا نقرأ مقطوعة تثرية لا شعرية على الرغم من التزامها بإيقاع بحر الخبب: " يـا هــــود، أنتَ إذنْ عـربيٌّ ونبيٌّ  مِـثْـلُ شُعَــيْـبَ وإسـماعـيـلَ وصالحْ لا ذكْــرَ لَـكَـمْ في الـتـوراةِ إسـمـاعـيل؟: ابـنُ الـجارية الـمـطـرودهْ، يا هـودُ الـتـوراةُ لِـنـاحـومَ ومِـيـخـا، الـتـوراةُ لِـحَــبْــقــوقْ،  أمّـا أنـتـمْ فـانتـظــروا  حـتى يُـبْـعَــثَ خـامـسُــكُــمْ، آه ٍ لَـو كـان لَـديـكُــمْ كُـتُـبٌ  بـالــفُــصحى يـا هــودْ، آهٍ لَــوْ كـانْ آهٍ لَــوْ نَـزلَــتْ أربـعــةٌ قـبْـلَ الـقـرآنْ، لـكـنْ، مـاذا عَـمّـنْ لـيـسـوا  عِـبْـرانِـيـيـنَ ولا عَـرَبـا؟

يلحظ القارىء أن النص مُثقل باستدعاء الشخصيات ما حوَّلها إلى عبء إضافي على القصيدة بدل أن يكون رمزاً جماليّاً يمنح النصَّ أبعاداً أخرى، ويكسبه مزيداً من تعدّد الرؤى، واتّساع الآفاق لولا أن الشاعر يتنبَّه أخيراً في الخاتمة، وهو ما يبدو لي أنها لعبة لغوية يُتقن الشاعر:  مصطفى جمال التفنّن بها؛ فقد حمل القارىء عبر تسلسل سردي معه بفعل التنويم المغناطسي، وكأنه يسرد عليه قصةً من التاريخ وفق علاقات نسبة الكتب الدينية لشخصياتها، وإعادة قول الثابت، وتأكيد القارّ المعروف،ذلك أنَّ تلك الشخصيات: " ليست مجرد ظواهر كونية عابرة تنتهي بانتهاء وجودها الواقعي؛  فإن لها إلى جانب ذلك دلالتها الشمولية الباقية والقابلة للتجدد على امتداد التاريخ في صيغ وأشكال أخرى، وهي قابلة لأن تحمل تأويلات وتفسيرات جديدة "

وهو ما وعى دوره الشاعر: جمال مصطفى في هذه السباعيات التي عاد إلى استدعائها؛ ففعل القص أو الحكي بالمعنى السردي لدى الشاعر  إنما يُعبّر عن: " رغبة إنسانية تكشف رؤيته للأشياء، وتُحدّد علاقته بالعالم، إنها رغبة في البوح وإعادة صياغة العالم، وهو في حالة تجلّ" ،  وفعل إيقاظ  المتلقّي الذي جاء  في الخاتمة بصيغة سؤال أشبه ما يكون بوخزة الإبرة التي أيقظت متلقيها بألم لذيذ، ومثل هذه اللعبة لا يُتقنها إلا من امتلك مهارة الشعرية، وعرف كيف يُدغدغ مشاعر المُتلقّي، و يُقلقل أفكارَهُ، بل ويُعيد تشكيلها من جديد .

 

د. وليد العرفي

.....................

للاطلاع

سباعيات حرة / جمال مصطفى

 

 

في المثقف اليوم