قراءات نقدية

التقنيات الأسلوبية في شعرية الومضة

وليد العرفي قصيدة: (أسئلة الشعراء) للشاعر: سعد جاسم أنموذجاً

يبني الشاعر: سعد جاسم قصائده الوامضة على تقنية الأسئلة المفتوحة التي لا تسعى إلى تحقيق إجابة بقدر ما تفتح الأفق؛لاستثارة مزيد من الأسئلة، إنها محاولة أسئلة برق وغيم يستمطر ما بعده على فضاءات احتمال أكثر تعددية واستمطاراً ، يقول في البداية:

هل الشعراءُ

حُرّاسُ بيوتِ الكينونة؟

أَمْ هُمْ أُمراءُ الكلام؟

تبدو طبيعة السؤال الاستفسارية مرتبطة بطبيعة تعامل الشاعر مع اللغة، ومدى مطاوعة الكلمات لهم، ومقدرتهم على تطويعها وفق تعابيرهم، ومشاعرهم التي يُعبّرون من خلالها عنها .

وقد شكّل السؤال / الأسئلة مقولة النص المحورية التي انسجمت في وحدة عضوية ارتبطت بعلائق متينة من عتبة العنوان حتى القفلة، ويُمكن توضيح علاقات تلك الصلة من خلال التقنيات الأسلوبية، وتكنيكات اللغة التي استثمر الشاعر طاقاتها؛ لتحقيق تلك الوحدة التي تجلَّت من خلال:

التكرار والتكرار من ضروارت الشعر ومستلزماته؛ فقد رأى لوتمن "أن البنية الشعرية ذات طبيعة تكرارية حين تنتظم في نسق لغوي"

بواعث التكرار

تتجلى ظاهرة التكرار في الشعر العربي بوضوح؛ فهي سمة متفردة من سماته الفارقة التي تميزه على اختلاف أنماطه، والعصور التي مرَّ بها في مراحل تطوره، ومن أهم بواعث التكرار في لغة الشعر

أولاً ـ الطبيعة البشرية:

لقد وجد الكائن البشري منذ وجوده أنَّه محاط بنظام كوني يقوم على مبدأ التكرار والإعادة، وما تعاقب الليل والنهار، ودورة الفصول إلا تكرارات وجد فيها الإنسان نفسه أنه مقيد في إطار تكرارها وفق نظام كوني متكرر ولا محيد له عنها

ثانياً ـ اللغة

ولعل في طبيعة اللغة نفسها ما يجعل التكرار أمرا واردا، ذلك أن مدى المعاني متسع في اللغة أكثر من الألفاظ، وهو ما يستدعي إعادة الألفاظ على أوجه مختلفة من الهيئات والدلالات، وقد وعى العرب القدماء تلك الحقيقة فعدوا التكرار من سنن العرب في كلامهم، وأن ليس لأحد مهما علا كعبه في فصاحة اللسان، وبلاغة القول أن يجاوزها

ثالثاً ـ طبيعة الشعر

فالشعر نفسه إنما هو نمط من أنماط التكرار في الحرف والموسيقى والمعنى، والبناء الهندسي للقصيدة العربية إنما يرتد إلى نمط من أنماط التكرار، والوقفة الطللية تُمثّل أحد أشكال تكرار الشاعر لاستهلال القصيدة التي كانت سُنَّة الشعراء في الاستهلال بها ، وقد عبَّر عنترة عن هذا المعنى في معلقته:

هل غادرَ الشُّعراءُ منْ مُتردّمِ   أمْ هلْ عرفْتَ الدَّارَ بعدَ توهّمِ ؟ !

كما أشار إليه شاعر العربية المتنبي: الشعر ميدان خيل وقد يأتي الحافر على الحافر، وفي هذا ما يُعبّر عن وعي الشعراء لظاهرة التكرار التي تبدَّتْ في نمطية القصيدة التي اتخذت لها شكلا يعتمد التكرار أسلوبا لها

رابعاً ـ الأثر النفسي

تولع النفس البشرية بما يثير فيها السرور فتتعلق به وتعيده، ولعل في شعر المديح والرثاء وما يكرر فيهما من اسم الممدوح أو المرثي ما يكشف عن الباعث النفسي وراء التكرار وحقيقة التي تفيد بتلذّذ ذكر الاسم المرغوب، وفي تكرار أسماء حبيبات الشعراء ما يُشير إلى تلك الدلالة .

خامسا ـ القصد ويكون بأن يتعمد الشاعر ذلك التكرار وهو يسعى إلى تحقيق هدف محدد؛ فالتكرار يكون مشحونا بحمولة دلالية كبيرة تحقق التكثيف المطلوب والقصد في التكرار يستدعي وعيا كاملا،ويتطلَّب قدرة لغوية فائقة وذاكرة شعرية فذَّة .

ويبدأ التكرار من الحرف، فالكلمة وصولا إلى الجملة، وتُشير نازك الملائكة إلى هذه الظاهرة في الشعر العربي، إذ بينتْ أن التكرار في ذاته ليس جمالاً يُضاف إلى القصيدة ، وإنما هو كسائر الأساليب في كونه يحتاج إلى أن يجيء في مكانه من القصيدة ، وأن تلمسه يد الشاعر تلك اللمسة السحرية التي تبعث الحياة في الكلمات؛ لأنه يمتلك طبيعة خادعة ، فهو على سهولته وقدرته في إحداث موسيقي يستطيع أن يضلل الشاعر، ويُوقعه في مزلق تعبيري؛ فهو يحتوي على إمكانيات تعبيرية تغني المعنى إذا استطاع الشاعر أن يسيطر عليه ويستخدمه في موضعه ، وإلا فإنَّه يتحوَّل إلى مجرد تكرارات لفظية مبتذلة . كما أشارت إلى أنواع التكرار وحصرتها في تكرار الحرف والكلمة والعبارة والمقطع، ولا يكون التكرار الهدف بحدّ ذاته ، وإنما جمالية التكرار تتأتّى من أسلوبه .

وقد أشار بالي إلى أهمية هذا الجانب في اللغة عندما فهم الأسلوبية على أنها علم الوسائل اللغوية من زاوية نظر وظيفتها الانفعالية والتأثيرية. وسنبدأ من الحرف لأنه يُمثّلُ: (أبسط أنواع التكرار أو أقلها أهمية في الدلالة)

وسننظر في أنماط التكرار في هذه الأسئلة التي تبدأ بالتكرار الحرفي، والحرف هو الصوت الذي لا معنى له، فهو: (المادة الخام التي يُبنى منها الكلمات أو العبارات)

و(الصوت ظاهرة طبيعية ندرك أثرها دون أن ندرك كنهها)، وهذا الأثر الذي يحدثه الصوت في المستمع، إنما يعود إلى: (فعالية الأصوات في قدرتها على إضافة طبقة دلالية من خلال الطبقة الصوتية )، والصوت هو العامل المؤثر في التعبير الموحي عبر ما يتردد عنه من إشارات رامزة خافية؛ فنبرة الصوت تستطيع أن تؤدي دلالة ما، وعلى الرغم من قلة أهمية التكرار الصوتي إلا أنه يشكّل: (صيغة خطابية رامية إلى تلوين الرسالة الشعرية بمميزات صوتية مثيرة هدفها إشراك الآخر المتلقي في عملية التواصل الفني، ولذلك يُعدُّ التلازم الحرفي من أعم خصائص الخطاب الشعري في البنيات التشاكلية؛ فهو وفق هذا التصور يعمل على: (تهيئة السامع للدخول في أعماق الكلمة الشعرية)،

تكرار (أم) التي جاءت حرف عطف يجمع بين المقدمة والخاتمة في كل سؤال، وغاية هذا العطف تحقيق الترابط بين مستويي السؤال المنفتح على الاحتمالية، والتوقّع الذي يشغل الشاعر به نصه التساؤلي:

هل الشعراءُ

عُشّاقُ الأُنوثةِ والجمال؟

أَمْ أَطفالُ الابدية؟

هل الشعراءُ

أَنبياءُ الوهم؟

أَمْ مُهرّجو البلاطاتِ والمجالس؟

تكرار التركيب: وهو ما تجلَّى بالأسلوب الإنشائي الذي جاء بصيغة الاستفهام (هل الشعراء) في استهلال كل تركيب جديد، وومضة لاحقة لأخرى سابقة، وقد شكَّلت تلك المتواليات بؤراً إشارية منفتحة على مزيد من الانفتاح على التأمل، والتوقعات اللامتناهية .

تكنيك التركيب الإضافي: وهو من التراكيب اللغوية التي تُحقّق بفعل انزياحاتها اللغوية، ومصاحباتها اللغوية غير المألوفة حالة إدهاش، وبؤر توتّر تتخلّق بالفجوات التي يُحدثها فعل المصاحبة اللغوية غير المتوقعة بين الدال والمدلول؛ فيما يبدو أنه فعل ممارسة إغواء يتفنَّن الشاعر في تلوينها بالحركة والصوت واللون:

هل الشعراءُ

صاغةُ ذهبِ المعنى؟

أَمْ أنَّهم رعاةُ الكلمات؟

هل الشعراءُ

صيادو جواهرِ الخيال؟

أَم فرسانُ عرائسِ البحار؟

هل الشعراءُ

بستانيو فواكهِ الأَمل؟

أَمْ حكماءُ منافي الأَلم؟

هل الشعراءُ

عازفو ناياتِ الشَجَن؟

أَمْ هُمْ الذينَ

يُموْسقونَ قصائدَ الحنين؟

التضاد: وهو ما يُسمّى في الموروث البلاغي العربي بالطباق، ومن خلاله يتم تأكيد المعنى وتوضيحه وجلاء صورته، وكما قال الشاعر قديماً الضدُّ يُظهر حسنه الضدُّ، وهو ما نجده في قوله: هل الشعراءُ

صعاليكُ الأَحلام؟

أَمْ مجانينُ الحقيقة؟

فالتضاد هنا بين: الحلم ـــ الحقيقة

هل الشعراءُ

شياطينُ الأَرض؟

أَمْ ملائكةُ السماء؟

وهنا بين: الشياطين ــ الملائكة

والأرض ـــ السماء

هل الشعراءُ

ملوكُ الرؤى والطقوسِ؟

أَمْ انهم الغاوونَ

والمطرودونَ دائماً

من المدائنِ الفاضلة؟

وأخيرا التضاد بين: ملوك ــ مطرودون

وهكذا تبدو تلك التقنيات الأسلوبية قد أسهمت بشكل فاعل في مدّ تلك الومضات بمزيدٍ من الشعرية، وأضفت عليها الحيوية والتجدد، ومنحتها مزيداً من الدهشة والانبهار .

 

د. وليد العرفي

......................

للاطلاع على القصيدة في صحيفة  المثقف

أَسئلة الشـعراء / سعد جاسم

 

 

في المثقف اليوم