قراءات نقدية

أزمة منتصف العمر: قراءة في رواية لذكرى لعيبي

صالح الرزوقتذكرني أميرة بطلة “خطوات في الضباب”* للعراقية ذكرى لعيبي بقصص قمر كيلاني في “امرأة من خزف” و” اعترافات امرأة صغيرة”. ففي شخصيتها صفتان:

الأولى: ضعف المرأة وانكشافها في مجتمعاتنا الشرقية. وتستعمل عوضا عن كلمة “الخزف” الصفة العربية المعروفة وهي القوارير. فالنساء معرضات للانكسار مثل الزجاج، وهن هدف لتعنت الذكور ولتسلط المجتمع، ولذلك تعتقد طوال الحبكة أنها ضحية. ويفرض عليها هذا الاعتقاد الدخول بمرافعة طويلة أمام قضاة غير موجودين. وهذا يقود الرواية للتحول من أسلوب السرد والوصف إلى أسلوب المناجاة والمونولوج.

ومن المؤكد أن كل شخصيات الرواية يستعملون نفس المستوى من اللغة، وبمفردات تعبر عن الندم والإدانة. ومثل هذا التعارض لا يعكس نفي الذات لنفسها أو الإقرار بذنب لم يرتكبه أحد، وإنما هو طباق نفسي يحمل علامات نزاع الإنسان المغلوب على أمره مع القدر. وهذه اللغة هي المدخل الصحيح لتفسير مضمون وشكل الرواية، مع أنها عمل غير تقليدي، وتميل لبنية مفتوحة. بمعنى أن الحدود غير متوفرة، ويوجد تداخل بين الشخصية والخطاب. ولذلك يمكن القول إن هذا العمل لا يشبه روايات المرأة الجريحة التي وضعت أسسها رائدات الحداثة العربية.

إن لغة لعيبي أكثر انضباطا، وليس فيها أي نوع من أنواع الهجاء، وتستغرق ببكائيات مطولة تعبر فيها عن عذابها من طرف وعن رغبتها بتضميد جروحها من طرف آخر. وأحيانا يأتي في ذهني أن خطاب أميرة ابن شرعي للصالونات المخملية. فهو يتطور على مستوى واحد من الحياة، وهو النخبة. . فالبطلة تفتح قلبها وتترك أفكارها وحياتها في الظل، وكأن الرواية مجموعة من العلب نصفها مفتوح والنصف الآخر مغلق. وتلقي هذه التقنية بظلها على جو ونفسية أميرة وتضعنا معها على حافة الحياة، بكل ما تتضمنه من أوامر وقوانين وممنوعات. وربما هنا نواة الحبكة، صورة امرأة تنتمي للمجتمع وإن اختلفت مع الهدف المرجو منه.

1590 ذكرى الصفة الثانية: (حياة النساء الصغيرات) وتصوره الرواية بسياسة رفع الراية البيضاء أو استسلام المرأة لظروفها القهرية. أو أقله مجاراتها حتى نصف المسافة. فالزمن الذي تعيش فيه (كما ورد بالحرف الواحد) تحكمه السياسة والتقاليد والخوف. وهو زمن يموت فيه الحب (كما ورد أيضا). ثم تضيف بصوت عالي النبرة: الإنسان الذي يضع نفسه داخل هذا الإطار يكون قد قتل بداخله أحلاما كثيرة.

لقد كانت أميرة طوال الاحداث دون سلاح، ومعها تذكرة تخولها للركوب بعربة القدر الأسود، بمعنى أنها تركت للرياح وللتيار توجيه حركتها. وما يضاعف من هذه المأساة أنها فعلت ذلك وهي بتمام وعيها. بمعنى أنها ارتكبت هذا الخطأ الفاضح عمدا، وتبعت نداء القلب وليس منطق العقل.

وبهذا الاتجاه تقول: نحن كنساء نستسلم لنداء قلوبنا ونريد منه أن ينتصر.

وقد غلبت على الرواية فلسفة الوجدان النسائي وهو يئن تحت مطرقة الواجب والقانون، كما هو حال معظم تجارب رائدات القصة النسائية في نهاية القرن التاسع عشر وبواكير العشرين أمثال واد سكاكيني وألفة الإدلبي. وليس حال نوال السعداوي أو أمينة السعيد، أو حتى حال كاتبة عراقية معاصرة هي عالية ممدوح.

لقد تعاملت أميرة مع نفسها على أساس أنها امرأة بالفعل (مواطن من درجة ثانية، أو شخص من فئة العبيد ويعادل بدونيته الطبقة المغلوبة على أمرها). ولم يخامرها الاعتقاد أنها عضو نشيط في مجتمع بحركة إيجابية وصاعدة. كان كل شيء يربطها لحجرة ثقيلة ويجرها إلى الأسفل. وهذه الروح النسائية فرضت اعتماد لغة رقيقة دون استعارات. وكانت العلاقة بين الكلمات ومعانيها مباشرة ولا تحتمل التأويل، أو أن الدلالة كانت من الدرجة الأولى. بلغة أوضح كان المعنى هو النتيجة والسبب بنفس الوقت. وهو ما ضمن لأميرة مرتبة ثالثة في سلم التصنيف الاجتماعي، كأنها واحدة من مجموعة أقليات وليست من نصف المجتمع. وترتب على ذلك مسألة تتعلق بالبنية، وهي تواري بعض التفاصيل أو ما نسميه روافد الحبكة (ومنها أسباب طلاق أميرة، وزواج حبيبها أحمد، ثم مشكلة شامة). لم تكن هذه التفاصيل تبدو مثل جزء من الدراما والحبكة، ولكن بشكل موجات ميلودرامية، أو فعل جمالي يستبيح جزءا سريا من سيرة امرأة. وهكذا أمكن للرواية أن تتملص من بنية العقل السردي التنويري لبنية الحداثة الأوديبية الدموية. فالاعتراف ليس مثل التحريض، والإقرار ليس مثل الاستباحة. وهو ما ضمن للعمل كله شخصيته المركبة. فقد كان مبسطا على شاكلة البدايات المبكرة لرواية المرأة العربية، وكان أيضا ضد المعايير على شاكلة بواكير الحداثة. وقد قسم هذا التكنيك الرواية لمساحتين غير متساويتين: ذات تفشي ما لديها من هموم، وتفاصيل تضيء العلاقات المتشابكة بين الشخصيات. بلغة نقدية: توزعت الرواية على الذات المتكلمة التي تتوجه لقارئ افتراضي بخطاب يشبه النجوى، وسارد عليم يلخص أحداث عدة سنوات بسطور قليلة.

وبلغة بارت: اعتمدت الرواية بشكل أساسي على الدلائل (الشخصيات)، ولدرجة أضعف الوظائف (الأفعال). ويمكن أن تقول إنها تجاور ما بين حداثة الأسلوب واعتدال المضمون لتقديم صورة عن استلاب واغتراب المرأة من كل النواحي. وعلى وجه الخصوص حياتها النفسية المدفونة تحت رماد احتراقها البطيء، ثم سيرتها الاجتماعية. وباعتقادي إن أهم فرق بين أسلوب لعيبي وبواكير الحداثة يندرج في فلسفة المكان. فالبيت احتل مكان المقهى والنادي والملهى. وأدى ذلك للتوسع بتفاصيل الحياة الشخصية ولضمور دور علاقات الأفراد بمجتمعهم.    

وفي النهاية أرى أنها رواية عن أزمة منتصف العمر. ولو لا القشرة الوطنية الرقيقة، وبعض الإشارات العسكرية لحروب العراق مع جيرانها، لقلت إنها نسخة عربية من فرانسواز ساغان وكوليت. فهموم الحياة تغلب على هموم الأرض، ومشاكل الوجدان النسائي تلون كل أجزاء الحبكة من أول سطر لآخر سطر.

 

صالح الرزوق

.....................

- صدرت الرواية عن دار الدراويش للنشر والترجمة، بلغاريا، 2020.

 

في المثقف اليوم