قراءات نقدية

الرُّؤيا الفلسفيَّة في قصيدة: (برهان أدري)

وليد العرفي للشَّاعر: د. صادق السَّامرائي

تنهض قصيدة د. صادق السامرائي على نظرة تأمليّة في الوجود، وما يكتنف الحياة من غموض، وما يعتري الإنسان فيها من عوارض، وهو بهذا التأمل يطرح فلسفته تجاه الحياة؛ فيُقارب حكمة: أبي العلاء  المعري في استكناه الحقيقة، وزهد أبي العتاهية في نفض يده من متاع الدنيا الفانية، وهو ما بين حكمة متأمّلة، وزهد واعٍ لحقيقة أنّ الحياة ارتحال مسافرٍ، وصوت مُناد قد يُدركه ارتداد الصدى، وقد لا ينتظره  

خَفِيُّ وجُودِنا بُرْهانُ أدْري

يُخاطِبَنا بداعِيَةٍ لأمْــــــــرِ

 

ويَسْألنــــا عَنِ الأيّامِ فينا

فنجْهَلها وما حَظِيَتْ بذِكْرِ

تعتمد القصيدة على العمق الفلسفي، وهو ما يتجلّى منذ الاستهلال في العنوان الذي جاء أيضاً في عروض البيت الأول أيضاً؛ فكلمة برهان من حقل العلوم الرياضية والفلسفية، وهو يُشير إلى حالة التأكيد واليقين التي لا تقبل الشك فيها، وعلى هذه النظرة الفلسفية  تبدأ القصيدة بتأكيد اتّسق لغوياً مع الأسلوب الذي اختاره الشاعر، وهو أسلوب الكلام الخبري الابتدائي، وهو ما يتَّفق، وطبيعة خطاب الشاعر الذي جاء على شكل بديهية مُسلَّم بها لا تحتاج معه إلى دلائل أو إثبات، ولذلك خلا الكلام من أي مؤكّد ما يُشير إلى أنَّ لكلامه وقع التصديق، وأنه في مرمى الحقيقة بما لا يحتاج منه إلى ما يفيد تأكيده؛ فتتصاعد وتيرة تلك الحقائق عبر متواليات إشارية بنيت في البيتين الأول والثاني على  ثنائية:

 السبب والنتيجة؛

فخفاء الوجود ـــــــــــــــــــ مرتبط بالمعرفة 

 والسؤال المطروح ـــــــــــــــــــ مرتبط بالجهل

 أو على التعاقب بين الحدثين الذي جاء بأسلوب العطف: بين

لطف الرؤية ــــــــــــــــــــ والرحمة بالخير

لطيفٌ في مَعاقِلنا يَرانا

فيَرْحَمُنا بواعِدةٍ لخَيْرِ

 أو على الشرط والتلازم  بين الفعل والجواب:

فالغفران ــــــــــــــــــــ نتيجة البر

عَطوفٌ رُغْم آثامِ الخَطايا

ويَغْفِرُهـــــــا إذا جِئْنا بِبُرِّ

 كما ينهض الظرف بدوره في تحقيق تلك الثنائية، وهو ما يبدو في انقلاب الأمور وتفريج النوائب، وإعقاب الفرج بعد الضيق، واليسر بعد العسر 

ويُفْرِجُها النوائِبُ ما تمادَتْ

ويُسْعِفُ لهْفةً حَــــرّى ببُشْرِ

 

رؤوفٌ حينَ يَغْلِبُها عَسيرٌ

فيُجْليهــــــا ويُغْدِقُها بيُسْرِ

 وفي المقطع التالي يبدو ميل الشاعر إلى الزهد في هذه الدنيا التي مآل الفناء، ونهاية كائنها الحي الموت، وأمام هذه الحقيقة تبدو هشاشة الإنسان في مواجهة الحياة التي يُشبهها الشاعر بالطاحون التي تعرك الناس في رحى دورتها غير آبهة بما يُعاني الإنسان من ظلم، وما يُقاسيه من حرمان 

غريبُ الدّار مَثواهُ تُرابٌ

وإنْ داسَ الترابَ أتى لقبْرِ

 

تُحَمِّلنا الرَزايا مُجْتَباهــا

وتَطْحَنُنا بحِرْمانٍ وجَوْرِ

 وينتقل الشاعر من الأسلوب الخبري إلى الأسلوب الإنشائي عبر التفات ينهض على حمولات دلالة أسلوب  الترجّي حيناً، والاستفهام حيناً آخر في مقاربة إرهاصات الحياة، وما يُؤمّله من تغيير وانفراج:

عَسى لذِهابها يَوْمٌ قَريْبٌ

يُهذّبُنا ويَحْــــــدُونا لفَجْرِ

 

فهَلْ قُضِيَتْ لنا الحاجاتُ فيها

وهَـــلْ صَمَدَتْ أبابيلٌ بوكْرِ؟

 وإذا كانت الحياة قد قامت على حقيقة الثنائية في الانوجاد والاستمرار؛ فإنَّ الشاعر يلجأ إلى خطاب المرأة رمز الحياة واستمرارها، وهو بهذا الخطاب الموجّه إلى المرأة إنما سعى إلى تحقيق هدفين:

ــ أولهما:مجاراة سنن الشعر العربي في جعل المرأة رمزاً للخطاب التي طالما حملت معنى الحياة في تلك الاستهلالات الطللية في مقابل حالة الفناء التي تحملها دلالة الطلل .

ــ ثانيهما: رمزية المرأة بما تحيل عليه من رضى، وما ترمز إليه من حالة إشباع لرغبة في كل ما هو جميل، وباعث على المسرَّة .

مُعَللتي بصَفْــــــوِ العَيْشِ إنّا         

ضيوفُ مَسيرةٍ تَرْضى بدَوْرِ

 وقد عمد الشاعر إلى التصوير الذي تفنّن الشاعر في استثمار إمكانيات البلاغة في التشبيه؛فكانت الصورة القائمة على تقنيتي:التشبيه والاستعارة  نمطاً من أنماط المشهد في إطار رؤية القصيدة العام، وقد تحقَّقا في قوله: فالتشبيه جاء بابتداء الأداة الكاف التي جمعت صورتها المقارنة بين الأمواج التي تُقيّد في حركة الرياح، والمصير البشري المرتهن بيد المقادير، وفي قوله: يأكلها بغدر اقتناص لتقنية الاستعارة المكنية التي جسّد من خلالها الصورة مُسبغاً عليها ضراوة الذئب الذي يغدر بالماشية . 

تقنية الطباق التي جاءت تعبيراً عن المعاناة التي تستعصي على الفهم في كثير من عوارض أحداثها، وتقلبات مجرياتها، وانغلاق آفاقها: وقد جاءت تلك المتضادات بين:

العذاب ــــــــــــــــــــــــــــــــ النجاة 

المعرفة ـــــــــــــــــــــــــــــــ الجهل

البقاء ــــــــــــــــــــــــــــــــ المحي

العلو ــــــــــــــــــــــــــــــــ الهاوية

خالق ــــــــــــــــــــــــــــــ المخلوق

الانكشاف ـــــــــــــــــــــــ الستر

 

كأمواجٍ مقيّدةٍ بوَثْبٍ

بهِ التَيّار يأكُلها بغَدْرِ

 

تَشاكَتْ لوْعَةٌ ونَضَتْ مُناها

فأوْرَدَها التشاكيُ قيْدَ أسْرِ

 

تَماحى خَلْقُها وقَضى بوَيْلٍ

يُمَحّنُها ويَهْرِسُها بعُمْـــــرِ

 

نفوسٌ مِنْ ضَراوَتِها اسْتغاثَتْ

وطاشَتْ بينَ إخْفاقٍ وكَــدْرِ

 كما نجد تعالقات النص مع الموروث الشعري على الرغم من اختلاف المعالجة وطريقة التعبير: وهو ما تبدّى في قول شاعرنا السامرائي:

تعذّبَ عارفٌ ونَجا بَليْدٌ

كأنّ الجّهْلَ مَقرونٌ بتِبْر

 فهو يُحيل على ما قاله المتنبي:

ذو العَقلِ يَشقَى في النّعيمِ بعَقْلِهِ               وَأخو الجَهالَةِ في الشّقاوَةِ يَنعَمُ

فالمعرفة لدى الشاعر السامرائي سبب من أسباب عذاب العارف، وهي هنا معرفة العالم الكاشف، لا معرفة المتعلم القارىء .

يُخالِطُ حالةً وَهَنَتْ وخابَتْ

ويَرْمِيها إذا سَئِمَتْ بعُـــذْرِ

 

حَياةُ الخَلقِ ما بَقِيَتْ سَتُمْحى

فحَتْفُ وجودِها رَهَنٌ بدَهْرِ

 

تعالى خالقٌ وهَوى خليقٌ

إلى قيعانِ مُنْكَرَبٍ بنُكرِ

 

تخبَّطَ حائِـــــــرا بَيْنَ المَنايا

وقدْ هَجَمَتْ على حَيٍّ كصَقْرِ

 

تَفرّقَ كُنْهُها حَتّى تَلاشَتْ

وذابَتْ في مَتاهاتٍ وسِفْرِ

 

يُسائِلها وما نَطقتْ ورانَتْ

تُعذّبُ سائِلا برؤى وفِكْرِ

 

فهَلْ دَخَرَتْ لآتِيَةٍ مَتاعــا

وهلْ آسَتْ أمانِيها بِصَبْرِ؟

 

تقسّمَ قلْبَها والشَوْقُ نارٌ

تؤجّجُها مَواجيعٌ بصَدْرِ

 

فما انْكَشَفَتْ لمَخْلوقٍ وبانَتْ

مُحَجّبَــــــــةً مُدَثّرةً بسِتْرِ!!

لقد طرح الشاعر:د. صادق السامرائي في قصيدته رؤية فلسفية ارتدت لبوس حكمة، ووشاح معرفة، وقد كان فيها الشاعر حامل رؤيا للوجود، وخبير حياة عرف مسيرتها، وقد تنبّه ونبّه إليها .

بقلم د. وليد العرفي

.....................

للاطلاع على قصيدة الشاعر في صحيفة المثقف

برهانُ أدري!! / د. صادق السامرائي

 

 

 

في المثقف اليوم