قراءات نقدية

جمال الغيطاني: رائد التوظيف التراثي للرواية العربية (3)

محمود محمد علينعود ونكمل حديثنا عن أستاذنا ومعلمنا وشيخنا جمال الغيطاني والذي أعتبره بحق رائد  التوظيف التراثي لروايتنا العربية وهنا نختتم كلامنا فنقول: إن مشروع جمال الغيطاني الروائي يقوم علي إنشاء عالم مضي بانياً علي نتف من الأخبار والشخصيات كوناً من الأحداث والشخصيات والوقائع . إن رواياته توهم قارئها بانتسابها إلي شكل الرواية التاريخية بسبب قدرة الروائي علي موضعه شخصياته وأحداث رواياته  في فضاء تاريخي محدد، رغم أن هذا الفضاء التاريخي  مبتدع، وليس لمعظم الشخصيات مرجعية تاريخية . يصدق هذا الكلام علي " وقائع حارة الزعفراني"  و " الزيني بركات"، كما يصدق علي " خطط الغيطاني" . لكن " الزيني بركات " هي الرواية الأكثر إثارة للجدل بهذا الخصوص، لكونها انبتت علي فقرة من كتاب محمد بن إياس " بدائع الزهور في عجائب الدهور "  .

إن شخصية " الزيني بركات " مذكورة في تاريخ ابن إياس، الذي يسجل وقائع هزيمة المماليك علي أيدي بني عثمان، وهي، بما تشتمل عليه من خصائص وصفات في الرواية، غير بعيدة عن الشخصية المذكورة في تاريخ ابن إياس. لكن إعادة بناء الشخصية والفضاء التاريخي المحيط  بها هي التي تجعل من رواية " الزيني بركات"  عملاً لا ينتمي بأية صورة من الصور إلي الروايات التاريخية.

إن ما يقصده الغيطاني هو الإبهام بالانتساب إلي لحظة ماضية، ولذلك فهو يؤسس عمله الروائي علي شخصية منتزعة ويؤثث الفضاء الجغرافي والتاريخي، الذي ربما تكون هذه الشخصية قد تحركت فيه، بما يوهم بوجود الشخصية في لحظة تاريخية ماضية. والغاية من بناء هذه اللحظة التاريخية الماضية هي تقديم صورة الواقع الراهن بملابس عصر مضي ولغته ولهجته، وفي هذه النقطة  بالذات يكمن نجاح رواية "الزيني بركات " وأهميتها علي صعيد تطوير الشكل الروائي العربي.

تقوم " الزيني بركات " علي تعددية صوتية تسمح لنا برؤية الأحداث من منظورات مختلفة . وهي تفتح فضاءها علي أحوال الديار المصرية وقد اضطرت، والقارئ يري هذه الحوال من خلال عيني الرحالة البندقي فياسكونتي جانتي، الذي يصف القاهرة وأحوال أهلها بلغة تمزج بين التقرير واللغة المجازية التصويرية الموجية:" أري القاهرة الآن رجلاً معصوب العينين، مطروحاً فوق ظهره، ينتظر قدراً خفياً " . يلي هذا القسم الافتتاحي عددا م الفصول، التي يسميها الكاتب سرادقات، تبدأ أحداثها عام 912هـ وتنتهي 922 هـ، ثم يعود صوت الرحالة البندقي ليروي عن مدينة القاهرة المكسورة، وعودة الزيني بركات محتسباً وحاكماً للقاهرة بعد انتصار بني عثمان، وذلك في فصل يسميه الكاتب " خارج السرادقات " وتحصل أحداثه في عام 923 هـ.

ما بين المقتطفين السابقين من مذكرات الرحالة البندقي فياسكونتي جانتي يعمل جمال الغيطاني علي الكشف عن عالم شخصياته الروائي باستخدام أشكال سردية متعددة، كما أنه يُجري الكلام علي ألسنة شخصيات مختلفة: زكريا بن راضي، سعيد الجهيني، عمرو بن العدوي، وراو ينقل إلينا رؤية توهم بأنها محايدة .

إن العالم الروائي في "الزيني بركات" يُعرض بسطوعه واغواره المختلفة، بعيون تري هذا العالم من منظورات مختلفة: بعين البصاص، أو مُقدم البصاصين، أو زعيمهم، الذي يري في مهنة البصاصة وسيلة إحلال العدل بين الناس، أو الثائر، أو الصوفي، أو المشاهد العابر يبدو قريباً من المؤلف، بدلالة أن المؤلف وقع باسمه في نهاية المقتطف ألخيرة من مذكرات الرحالة البندقي، والتاريخ كما يبدو هو زمن عمل الكاتب علي الرواية . وما يجدر التنبه إليه في هذا السياق هو أن المادة السردية التراثية لا تشكل بقعاً منفصلة في النص . إنها جزء عضوي من البناء الروائي الذي يعتمد، في مواضع مختلفة منه، الحوار والمونولوج الداخلي اللذين يشكلان عنصرين أساسيين في الرواية الحديثة .

ما أريد التوصل إليه، من خلال هذا الاستعراض السريع للمادة التي تنبني منها رواية " الزيني بركات"، هو القول إن جمال الغيطاني  يعمل علي تطعيم الشكل الروائي الحديث بالمادة السردية التراثية ؛ إنه يقوم بتهجين هذا الشكل بمواد غريبة عليه، وهو ما يفتح الرواية علي عالم شديد الغني والحيوية، بل علي منجم من الأشكال، يعطي الرواية العربية بعداً أصيلاً متجدداً، ويفتحها علي آفاق رحبة من تطوير الشكل وتعميق الدلالة . إنه يستعير شكل الكتابة التاريخية في نهاية العصر المملوكي لينشئ عالماً شبيهاً بالعالم الذي تنقله هذه الكتابة التاريخية مبتدعاً شخصيات توهم بتاريخيها في سياق تشكل الحداث وحركة الشخصيات في هذا البناء الروائي الذي يوحي للقارئ بأنه مقتطع من تاريخ ابن إياس.

إذا انتقلنا إلي عمل آخر من أعمال جمال الغيطاني  هو " خطط الغيطاني "، فسنجد  محاولة جريئة لإنشاء خطط معاصرة تستفيد من أشكال الكتابات التراثية  وطرق توزيع العناوين الفرعية ووضع عناوين للفقرات، والإيحاء بفضاء تاريخي ينتسب إلي الماضي . ويعمل هذا القناع التاريخي في " الخطط" علي شرح  مراتبية السلطة وأسباب الصراعات فيها، وارتقاء البعض إلي هرم السلطة، وتقهقر البعض الآخر ونزوله سلم الهرم . وما يهمنا هنا هو أن عمل جمال الغيطاني  يظل يتمتع بالخصائص البنيوية للرواية .

ثمة في " خطط  الغيطاني" سرد خطي وشخصيات لها خصائصها البنوية المستقلة بعضها عن بعض . كما أن الشكل التراثي التاريخي هو مجرد قناع يتمرأى من خلاله الحاضر الأبدي لسلطة القمع التاريخية . إننا نعود مرة أخري إلي مبدأ ترحيل الحاضر إلي الماضي، وإخفاء التجربة الراهنة خلف قناع التاريخ . لكن العمل الروائي لا يصبح بذلك عملاً روائياً تاريخياً . إن التاريخ  ليس موضوع أعمال جمال الغيطاني  بل هو الستارة التي يصطنعها الروائي ليخبئ خلفها وجه الواقع المشع.

إذا أخذنا مثالاً آخر من أعمال جمال الغيطاني   الروائية وهو " كتاب التجليات" ، فسوف نعاين تمزيقاً تاماً للشكل الروائي الأوربي . إن " التجليات" عمل قريب من الكتابة الروائية، لكن يصعب إطلاق اسم الرواية عليه لغياب العناصر الشكلية الأساسية التي نعثر عليها في أي نص روائي . إنه تأملات صوفية – وجودية تسكن الزمان الماضي والزمان الحاضر، وتقوم برحلة من الحاضر إلي الماضي، ومن الماضي إلي الحاضر؛ إنها شئ يشبه كتابات النفري وابن عربي، موشحة ببعض الفقرات السردية التي يطل من بين سطورها وجه والد الراوي، ثم وجه جمال عبد الناصر، حيث يصبح تبادل وجه الأب ووجه عبد الناصر علامة علي تماهيهما في وعي الراوي الذي يطابق نفسه مع وعي الكاتب.

يقوم التراث في عمل جمال الغيطاني  بوظيفيتين: الأولي هي لعب دور القناع، والثانية هي انتهاك بنية الشكل الروائي بصورة تامة لتقديم مقامات وأحوال عصرية، أحوال ومقامات أرضية يضرع فيها الراوي إلي أشخاص أرضيين تختلط وجوههم بوجوه بعض، ويصبح الحسين وعبد الناصر ووالد الراوي تجليات لماهية واحدة . وهكذا يصبح التراث السردي، وغير السردي كذلك، عاملا خلافيا توليديا، ووسطا خصبا للتعبير الروائي العربي المعاصرة، وباعثا علي انتهاك ما تواضعنا عليه في الشكل الروائي ..

إن عمل جمال الغيطاني  الروائي هو، كما لا حظنا من المثلة التي ضربناها سابقا ، مثال شديد الثراء علي طرائق استخدام التراث وأشكاله السردية وروحيته وعوالمه  الثرية الغنية وصور التقابل بين الماضي والحاضر . وهو يقدم، من خلال تطعيم الشكل الروائي المستعار بالمادة التراثية، شكلا روائيا جديدا ينبغي النظر إليه بوصفه انتهاكا لبنية الشكل، وتطويرا لإمكانات النوع الروائي وإغناء لعوامله . وصحيح القول إن التشديد علي علاقة الرواية العربية  بالأشكال السردية التراثية يتصل، إلي حد بعيد، بأزمة الهوية العربية المعاصرة والوعي المحتقن بهذه  الهوية الممزقة المشطورة بين الماضي والحاضر . كما إن مسألة الهوية تشكل وجودا ضاغطا في أعمال الروائيين العرب . فإلي أي حد يمكن الوق إن جمال الغيطاني  مشغول بلحم هذه الهوية الممزقة المشطورة ؟

شيد الروائي العربي جمال الغيطاني  علاقة متينة بالتراث العربي في جميع صوره، حتي غدا ارتباطه به ظاهرة مميزة يمكن تسميتها بالظاهرة الغيطانية، فقد مد جسوراً متينة إليه وتواصل معه في كل أعماله الروائية كل من زاوية خاصة دون أن ينغلق خلف أستاره أو ينعزل عن لحظته الحاضرة ونقد  الذات ودعوتها إلي التعلم من تجاربها السابقة حتي تتجنب تراكمات الهزائم والنكبات . وسنقف في هذا المقال عند روايات جمال الغيطاني  في محالة لكشف نقاط تعالقها مع التراث، وغايات جمال الغيطاني  من وراء ذلك الفيض التراثي، والوقوف عند الأداة التي حقق بها كل ذلك .

فمما لا شك فيه أن النص الأدبي يرتبط ارتباطا وثيقا بالمجتمع الذي يفرزه، بميراثه الثقافي، بامتداد التاريخي، بطموحاته وآفاقه، ذلك أن الارتباط بالماضي هو ارتباط بالحاضر وتأهب للمستقبل، وعندما يغيب النص عن أية صلة " بالماضي .. لا سيما في الجانب الثقافي، والأدبي .. تضيع الحدوديين الإبداع الذي يمتح من الذات الجماعية في صيرورتها وتحولها وبغدو الإبداع ضربا من الشطحات.. التي لا ترتهن إلي أي عمق تاريخي أو ارتباط اجتماعي في مختلف أبعاده..

لقد لجأ بعض الروائيين إلي الكتابة الفنية للتاريخ: لأنهم أحسوا أن كتابة التاريخ بطريقة فنية تعد مادة خصبة لتحقيق ما يريدون نشره من الوعي القومي أو الفكري . وهناك مجموعة من الروايات العربية تناولت التاريخ بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من خلال مادية الجدلية بين الطبقات الفوقية والتحتية في المجتمع .

بدأ أغلب الروائيين العرب إبداعهم الروائي بكتابة الرواية التاريخية لينتقلوا إما إلي كتابة الرواية الواقعية وإما إلي كتابة الرواية الرومانسية، و" لعل من أكثر التجارب تمثيلا للتفاعل مع التراث والتاريخ تجربة الروائي جمال الغيطاني، الذي استفاد من لغة الماضي وأجوائه للتعبير عن الواقع وهمومه وبرز ذلك في معظم رواياته انطلاقا من رواية (الزيني بركات): حيث وازن بين القاهرة المملوكية أيام ( قنصوه الغوري ) والقاهرة في القرن العشرين أيام (الرئيس جمال عبد الناصر) من خلال موضوع واحد هو " القمع " وقد تمكن الروائي من الجمع بين المادة التاريخية وروح الرواية لتكون منسجمة، وبدا أحيانا أن ظاهر نصه ذو طابع تراثي في عملية تهذيبية تنتقي المفيد في النص القديم بأسلوبية خاصة راكمها بالمثابرة: حيث استعار جمال الغيطاني لغة الماضي، وقدرا غير يسير من أحداثه، ناسجا من ذلك نمطا روائيا لا نجد في تاريخ الرواية العربية ما يماثله، مصيبا بذلك عددا من الأهداف التي قل اجتماع إصابتها في روايات أخري منها الابتعاد عن المكرس والتقيد بزمان معين وأساليب الماضي ." .

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقل بجامعة أسيوط

..........................

المراجع

1- محمد رياض وتار: توظيف التراث في الرواية العربية المعاصرة، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2003م.

2- علي باقر طاهري نيا: الخصائص السردية وجمالياتها في رواية الزيني بركات لجمال أحمد الغيطاني، الجمعية المصرية للدراسات السردية، العدد الثالث، 2012م.

3- محمود حنفي: فانتازيا الحكم الأب في تجليات الغيطاني، مجلة فصول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، المجلد السادس عشر، العدد الرابع، 1998م.

4- منير الرفاعي: جمال الغيطاني في الزيارة الأخيرة، مجلة الموقف الأدبي،اتحاد الكتاب العرب، المجلد الرابع والأربعين، العدد  535، 2015.

5- يوسف زيدان: الحرية والجبر في أدب الغيطاني: قراءة في: رسالة البصائر، مجلة فصول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، المجلد الحادي عشر، العدد الأول، 1992م.

 

في المثقف اليوم