قراءات نقدية

أبو القاسم الشابي وذات الأمة!!

صادق السامرائيهذه قراءة نفسية لنشيد الجبار لأبو القاسم الشابي، ويبدو فيه وكأنه يرمز لواقع الأمة التي كان يمثل روحها وجوهرها، ويؤمن بحياتها وقوتها وقدرتها على البقاء والرقاء.

فهو يتمثل في كيانه الأمة التي تماهى معها وذاب فيها، وراح يترنم بأشعاره المعبرة عن ذاتها، ونبضات ما فيها من الطاقات والقدرات الحضارية الإنسانية الأصيلة.

فعندما يكون هو رمز الأمة وممثلها والناطق بلسان حالها، ندرك المعاني العميقة الكامنة في هذا النشيد المتحدي المتوثب المتفائل المُكابر، الذي يؤكد إرادة الأمة وصلابتها وقوتها وقدرتها على المنازلة والمطاولة والمجالدة والإنتصار.

ولد أبو القاسم الشابي في آذار 1909 في بلدة الشابة التونسية، وقد حفظ القرآن في التاسعة من عمره،  ودخل كلية الحقوق سنة 1930 وتوفي سنة 1934 في سن الخامسة والعشرين .

ويبدو من نوابغ الشعر واللغة، ولو عاش ضعف عمره لأثرى الوعي العربي بما يزعزع أركان الجمود والقنوط.

وكانت قصيدته إرادة الحياة قد إرتجت لها أرجاء الأمة وتم تكفيره بسببها.

هذا الشاعر النابغة مشدود إليه منذ صباي، وقرأتُ قصائده وتأملتُ رؤيته، وكيف إستطاع في هذا العمر المبكر أن يدرك ما لا تدركه عقول عاشت أضعاف عمره.

وأجدني أعيد قراءة قصائده بمنظار عقلي نفسي أدبي إبداعي، يستكنه ما فيها من تطلعات ومنطلقات ورسائل حضارية للأجيال.

يقول:

سأعيشُ رغم الداء والأعداء

كالنسر فوق القمة الشماء

أرنو إلى الشمس المضيئة هازئا

بالسحب والأمطار والأنواء

لا أرمق الظل الكئيب ولا أرى

ما في قرارة الهوّة السوداء

 

ترى مَن هو الذي سيعيش؟

الشاعر تتماهى أناه بذات الأمة التي ينتمي إليها، ويراها ستعيش وتتطور وتعاصر، رغم ما فيها من أدواء وما يتحاوطها من أعداء.

فالأمة ستبقى باهية زاهية في القمم الشماء، تحدّق بالشمس وتحسبها مشرقة دوما، وتهزأ من السحب والأمطار والأنواء، التي تحاول أن توهمنا بأنها غير موجودة أو غائبة.

وتأبى الأمة أن تنظر إلى الأسفل، أو تحدق بالداجيات الباكيات القانطات، إنها مرفوعة الرأس وذات أنفة وكبرياء.

فالذي سيعيش ليس الشاعر بنفسه، وإنما الأمة التي أصبح مِرآتها الدالة على معانيها وقيمها وهويتها الحضارية.

 

وأسير في دنيا المشاعر حالما

غردا وتلك سعادة الشعراء

أصغي لموسيقى الحياة ووحيها

وأذيبُ روح الكون في إنشائي

وأصيخُ للصوت الإلهي الذي

يحيّي بقلبي مَيّتَ الأصداء

وأقول للقدر الذي لا ينثني

عن حرب آمالي بكل بلاءِ

إنه يتكلم بلسان الأمة ويذوب فيها ويعبّر عنها، وكأنه قد سبر أغوارها وتعمّق في فهم نبضاتها وخلجات أعماقها المتشوقة للرقاء والنماء.

أمة فيها ذخيرة ثرية من الشعراء المصدحين بلسان حالها، وكأنه يراها وقد تمثلها الشعراء وانتشوا بوجودها الخالد، وأفياض ما فيها من المشاعر والعواطف، فهذه الأمة تصغي لأنغام الحياة وألحانها وتستحضر روح الكون في إبداع أجيالها.

وهي الأمة التي إستمعت لصوت السماء الذي أحيا فيها الخصال الحسنة، وألهمها حسن السلوك ومبادئ الرحمة والإيمان.

وقدرها أن تحارب وتتحدى وتكافح وتكون، فهذه الويلات العاصفات في ديارها لن تثنيها عن التوثب لصناعة حاضرها الأفضل.

لا يُطفئ اللهيب المؤجج في دمي

موج الأسى وعواصف الأزراء

فاهدم فؤادي ما استطعتَ فأنه

سيكون مثل الصخرة الصمّاء

لا يعرف الشكوى الذليلة والبكا

وضراعة الأطفال والضعفاء

ويعيش جبّارا يحدّق دائما

بالفجر بالفجر الجميل  النائي

إملأ طريقي بالمخاوف والدجى

وزوابع الأشواك والحصباء

فالأمة ذات لهيبٍ أجّاجٍ يسري في عروقها، ولن تنال منه أمواج العاديات والحروب والويلات، فمهما حاول الأعداء النيل من الأمة والوصول إلى فؤادها وجوهرها، فأنه لن يتأثر بمعاول غدرهم وحقدهم وعدوانهم الأثيم، وسيقاوم ويصمد، ولن يشتكي ويتباكى ذليلا ويتضرع أمام أعدائه، بل تبقى الأمة بكبريائها وعزتها وجبروت طاقاتها وقدراتها، ترنو إلى فجر جديد يعيد لها مجد كينونتها ومقام صيرورتها الحضارية الكبرى.

ومهما حاول أعداء الأمة أن ينثروا المخاوف ويطفئوا أنوار الدروب، ويضعوا المصدات والمعوقات أمامها، فأنها ستسير إلى هدفها الساطع المنير، فهي ذات رسالة إنسانية أنوارها تستمد سطوعها من شمس الحق والرجاء والأمل الدفيق.

وانشر عليه الرعب وانثر فوقه

رُجمَ الردى وصواعق البأساء

سأظل أمشي رغم ذلك عازفا

قيثارتني مترنما بغنائي

أمشي بروح حالمٍ متوهجٍ

في ظلمة الآلام والأدواء

النور في قلبي وبين جوانحي

فعلام أخشى السير في الظلماء

إني أنا الناي الذي لا تنتهي

أنغامه ما دام في الأحياء

ومهما إمتلأت طرقاتها بالعوائق والأشواك فأنها لن تبالي وستمشي وتمشي، وتواجه الضربات والغارات والتحديات بعزيمة بطولية خارقة، ورغم الأخطار، فأنها لن تنسى روحها وما فيها من إبداع وتسامي ونبل وقيم وأخلاق سامية.

الأمة تسير ولا يمنعها أي عائق مهما تقاسى، فهذه أمة النور المتوهج في قلبها، وهو الذي يهديها سواء السبيل، ويضعها على الصراط المستقيم الأمين، ولهذا فهي لن تخشى حلكة الدروب، وتكالب الخطوب، فهي المصدحة أبدا بأحلامها الجميلة الباهية الورفاء.

وأنا الخضم الرحب ليس تزيده

إلا حياة سطو الأنواء

أما إذا خمدت حياتي وانقضى

عمري وأخرست المنية نائي

وخبا لهيب الكون في قلبي الذي

قد عاش مثل الشعلة الحمراء

ويصوّر الأمة وكأنها محيط ماء يزداد فيضا بالعواصف والرعود وتداهم الأنواء، فهذه العدوانية تزيدها قوة وقدرة على الحياة، ويرى بتعبير مجازي تخيلي أن الموت الذي يتوهمون حلوله في الأمة، ما هو إلا قوة طاردة للمقام في عالم الخطايا والكراهية، والتحوّل إلى بناء حالة ذات قيمة أخلاقية وسلوكية متسامية متعالية.

فأنا السعيد بأنني متحولٌ

عن عالم الآثام والبغضاء

لأذوب في فجر الجمال السرمدي

وأرتوي من منهل الأضواء

وأقول للجمع الذين تجشموا

هدمي وودّوا لو يخرّ بنائي

ورأوا على الأشواك ظلي هامدا

فتخيّلوا أني قضيت ذمائي

وغدوا يشبون اللهيب بكل ما

وجدوا ليشوّوا فوقه أشلائي

ومضوا يمدّن الخوان ليأكلوا

لحمي ويرتشفوا عليه دمائي

إني أقول لهم ووجهي مشرقٌ

وعلى شفاهي بسمة استهزائي

ويصوّر القيم الروحية والرسائل السماوية الفاعلة في ضمير الأمة، وهي تنهل من الأضواء العلوية الهادية إلى المجد والكرامة السلوكية التي تتحقق في ربوعها.

وتطلق الأمة نداء التحدي والإصرار والمواصلة، وتقول للذين خرّبوا معالمها وأوقدوا نيران الحروب بديارها، وتوهموا بأنها هامدة متيبسة، وتكالبوا عليها من كل حدب وصوب، ليحتفلوا بولائم إفتراسها وتمزيقها، بأنها تهزأ بهم لأنها أمة حية لا تموت، وتبقى خالدة ويغيب أعداؤها.

 

إنّ المعاول لا تهدّ مناكبي

والنار لا تأتي على أعضائي

فارموا إلى النار الحشائش والعبوا

يا معشر الأطفال تحت سمائي

وإذا تمردت العواصف وانتشى

بالهول قلب القبة الزرقاء

ورأيتموني طائرا مترنما

فوق الزوابع في الفضاء النائي

فارموا على ظلي الحجارة واختفوا

خوف الرياح الهوجاء والأنواء

وهناك في أمن البيوت تطارحوا

غث الحديث وميت الآراء

وترنموا ما شئتم بشتائمي

وتجاهروا ما شئتنكم بعدائي

أما أن فأجيبكم من فوقكم

والشمس والشفق الجميل إزائي

مَن جاش بالوحي المقدس قلبه

لم يحتفل بحجارة الفلتاء

هذه الأمة وعلى مر العصور ما إستطاعت أدوات الغادرين التخريبية ولا نيران حروبهم أن تفت من عضدها، وتمنعها من التواصل والتوثب الحضاري المَكين، ومهما ألقيتم في النيران من جديد الأجيال ونضارة الأفكار، فأنها لن تموت وستنبثق من رمادها أقوى وأقدر.

وكأنه يصف أعداء الأمة بالأطفال الجهلة الذين لا يعرفونها، فيطلب منهم إن رؤوا العاديات وجحافل العدوان تداهمها، وقد إرتقت ونأت عاليا فوقها وصنعت لها ظلا، فعليهم أن يرموا الحجارة على الظل، أي أن الأعداء يحاربون ظل الأمة في الأرض ولا يستطيعون محاربة جوهرها.

واذهبوا إلى مواطن هذركم وتوهمكم بأنكم إنتصرتم عليها، وتكلموا كما تشاؤون فأنكم توهمون أنفسكم، وتسخرون منها، وأنتم المهزومون المنكودون الخائبون، فالأمة شماء وفوق ما تتحدثون به من البهتان والعدوان، فما دامت الأمة تتمسك بإرادة وحي السماء وطاقات الأنوار الروحية المبثوثة فيها، فلن تنال منها إرادة التراب.

وفي الختام فهذه قراءة تشير إلى رمزية النشيد المترجم لإرادة الأمة وكينونتها الصامدة، المقتدرة على تخطي الصعاب والنكبات، التي تحيق بها على مر العصور والأزمان.

وما يبهر حقا هذه القدرة الخارقة للشاعر الذي إستطاع أن يستوعب إرادة أمة ويعبر عنها برمزية رائعة وهو دون الخامسة والعشرين من العمر.

فهل أنها أكبر من موهبة؟!!

 

د-صادق السامرائي

 

 

في المثقف اليوم