تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قراءات نقدية

عبد الكريم الحطاب يغازل الوطن بهمسات حب وكبرياء

سهام الشجيرياكثر من جسد واكثر من روح رصدتها شبكة مشاعر عبدالكريم الحطاب، المرتبطة حتما بالسرد الشعري، ينتصر للكلمة وللعدل والسماوات المنبوتة في ذاكرة ايامه، والمساءات المحنطة بالجليد، والمنحوتة في زاوية معتقة من قلبه، كل ذلك في قلب مجموعته الشعرية (للوطن همسات حب وكبرياء، صدر عن دار السماء، بغداد، 2019، بـ 136، قصيدة) حسناً، سأصرخ مثله، بل سأطير كما طار بين ذراعي الوطن، عل حلم بين سطورها يتحقق بالوعد ويشجي ديونه، كلها للحطاب قاطرة، تفترش كلماته الطرقات، الوجع، الخوف، رائحة الام، معادلة اينشتاين، زوارق دجلة، المتنبي، صيد الاسماك، الفرج، الاوبئة، السلاطين، الحسرة، وقداسة الخطوة نحو المستحيل، ليصرخ الحطاب (تبا لكم.. تبا لكل من يدعي حب الوطن...)، يستغيث، ينحني، يقفز من شرفات الوقت، الحطاب هنا يؤرشف للأشلاء، (نزرع وتحصدون... نتألم وتسخرون... نجوع وتتخمون... نموت وتحيون...).

مساحة الوقت

يندب عبدالكريم الحطاب مساحة الوقت، ويختار الغياب، يصرخ (الا تبا لكم أيها......) ربما حضوره همٌ، لأنه استعار أضواء الحدائق، كي يكشف ستر الايام، الاغتيال، الجريمة، الهروب، الوحشة التي تنبت في خاصرة السنين، وفي خاصرة أهاته التي يهدرها في شعِره، التأهب، القلق، البغض، القطيعة، صوت الحبيبة، سر العشق والمعشوق، أصوات الأنين في غياهب عاصفة هوجاء يترنح بين اضلُعها حلم ابيض طالما غادر صمته، دائما تحفزه مساحة الوقت، لكن الحطاب يعيش الاماني (فلا ماء ولا كهرباء... ولا بديل..)، يغرس رقصته في جبين عذابات رمادية تعاني الاغتراب، يوثقها على جدار الورق، ويلتزم الصمت من بعيد، يعيد صراخه (آن الاوان...كفاكم...) ويعود ليطبع بصمته في الكلمة الحرة والخُطى الثقيلة المتعثرة، وإشارات المرور، وحملة التبرع بالوجع، الحروب العبثية، وصراخ الثكالى، جمهور ممسرح يصيغه الحطاب بالمشهدية التي تتكأ على زخات وجع مغموس في بؤبؤ الحياة الناظرة، (رحلت.. ولم يئن بعد وقت الرحيل...) غادر بإطلالتها قلبه، هو الوجع وهي صاحبة الشَعر الجميل المغموس بدم الفرسان، وحده يتلكأ مثل كهل في استذكار الشارع، الحديقة، الوجوه، صراخ الطفولة، ملعب كرة القدم، القهوة، طعم الهواء، (حقيقة ام هواء؟..) يتمدد الصراخ في الركض وراء الامل، من يفوز؟ من ينادي؟ من ينتحر؟ من يشرب الدم؟ ومن يتوضآ من عينيك رماد الوطن، وامنيات اللقاء، هنا يدرك الحطاب الحقائق لكنه يرسل المستحيل في بطون الصفحات، يكتب ويكتب بانتظار مساحة الوقت.

حبيبه العراق وحبيبته القضية

1797  همسات حب وكبرياءيرمي الحطاب توصيفاته بسيف كلماته، يلوذ بعبارات الحب للحبيب، ويقصد الوطن، عساه يلوح للغراب ان يستعير خبز الحياة، الانسان بنيان الله ملعون من هدمه، فكيف بقلبه بنيان مهدوم، حائط الوطن يصرخ في طيات حزنه، هكذا آراه في مرمى الشِعر، يلوح للأعناق ان تتدلى،(اعتراف... أنا يا سيدة النساء... رجل يبحث عن هوية...) بغداد لدى عبدالكريم الحطاب عروسة لكنه يدرك الأسى(أدرك أن حبنا ولد في زمن الاحكام العرفية..) لطفا هل هي لوعة عاشق، (هناك امرأة تمحو كل احزاني...) يمسك يدها، يسحب خنجره من غمده، وينعى الحرمان (أسرى الشهوات...بعد أن صارت العرب كالجرب..) لا يلون جراحه، ولا يرتجف من خصلات شعر نخيل الوطن، (تمر الايام والسنون...لا تبحث عن الاستثناء...) جرب مخيلته قبل كفه، دائما يغمض الفجر مقلة الحطاب عن ضياعه في بحور الدم، دائما تتدلى نخلة روحه، ليسمع صراخ التمور، يبحث عن السراب، يتذوق عنب الصبر، نبض القصيدة في امتداد صمته، يجذبه صمت الصراخ، يطارد الوعي والانحطاط، بين القهر والحقيقة، يلمس جبين صخور الوطن، ويرتدي سرابيل القناعة (فالعمر نعيشه مرة واحدة....)، يقطف الحطاب عرقه من بياض سنين التحدي في قلب شذى العراق (قاصدا قلبك.. فهل يقبلني فيه نزيل...)، تراه تعجل السقوط أو(هكذا أراك.. هكذا أحبك.. لك وحدك.. ملهمتي من تكون؟..) يرسم الحطاب شظاياه بين أثداء أيامه لا يغيب، بل يقدم اعتذاره في حضرة عيون الحبيبات، وسحابة روحه تتلألأ بين طيات قميص الدفء حين ترميه الحبيبة بسؤال الغياب(عنك يا حبيبي يتساءلون.. كل الاحبة..)، النار التي اوقدتها اصابعه، تسللت لقطرات مطر الصيف، يشرب وجعه، ويرمي رأسه بين هدب السؤال ورمش الحنين، يلوح للزعفران أن يغوص في شتائل صمته (في بلادي... يمجدون الطائفية، فالقضاء في إجازة إجبارية... الضمير أضاع القضية...) تساؤلات حب الحطاب عسف واقصاء، سيدي يثني أهدابه - كفاك نحساً- زخات لون الوطن تبرق في عنقه، يلملم بريقها، ويغسل أدران شوقه، ينتحل أهدابه، يفيق بين صلوات حنينه، يغوص في أهداب حبيبته بغداد ويستريح على مرمى حجر من طقوس الشيطان، وضالته تقوده  لـ(أغار عليك...) الحطاب هنا يلامس نبض الناس في قصة وطن ينحني، يبكيه في شعره كي تستقيم أضلاعه.

كائنات حية

كل قصائد عبد الكريم الحطاب نتحسس بريقها، نلمس أظافر قدرتها على الصبر والانتظار، نشم شذى عراقيتها فهي كائنات حية تعيش بيننا وتتحرك أمامنا، ونلوذ بملامحها، بل نتنفسها وتتنفسنا، إذ يقول يوري لوتمان في كتابه تحليل النص الشعري: (بأن أي نظام يقنن الشعر لابد أن يتلقى في الأساس باعتباره قيمة ذات مغزى)، أي قيمة دلالية اعتبارية ذات جدلية لا تنتهي ولا تتعارض مع ذاتية الشاعر، حلمه، وطنيته، انشغاله برصد الوعي، محاربة الغفلة، حب الاوطان، صناعة هدف، وبراعته وتطور أدواته الشعرية تجاه الوطن، نسجها وحولها إلى قيمة تعبيرية انفعالية تستهدف الوعي بتصويب الحقيقة في روح التلقي، وكمنظور ورؤيا متنامية لتعرية الحدث والوقوف على علائمه التي توحي بالكثير، فهو يرسل روحه الى قدر المسؤولية، ويجد سعادته إشارة في حضرة روح الوطن، (كيف تتبلور؟.. كل النساء شهرزاد...) نجده يقف بين طيات صمته ليروي البريق (يحدث في بلادي...في الليلة آلاف المرات...تمسح خارطة المأساة...)، يبوح وجه الحطاب بسلة عطف وبستان حلم، بل يحتدم القلق على حضن الوطن، (اطلعي على مأساتي وواسيني... ضميني الى صدرك وأنسيني...تنهي وجعي واسيني...كيف أهاجر... يا نبع الحنان...اعتراف ايضا.. نداء الايمان بين اضلعي.. حب وحرب...)، وهنا فأن الشاعر عبدالكريم الحطاب قاد روحه باتجاه حزن الوطن، وأطلق حنينه عبر سكوت قافلة الحرمان، وأغمض صوته، بانتظار الفرج، شعره ربما سيكون ضوء قناديل لوطن حليم لن تغادره الاجيال.

 

سهام الشجيري

 

 

في المثقف اليوم