قراءات نقدية

مكانة المرأة الاعتبارية في أقاصيص الروائي التونسي حسن سالمي

1967 نياز شانغري"وخيرُ الكلامِ قليلُ الحروف"

عبر شبكة "الفايسبوك" العملاقة التي اختزلت المسافات والتواصل بين البشر أرشدتني الصديقة الكاتبة "تودد بو لعراس" إلى قصص الروائي التونسي "حسن سالمي"، وكان ذلك في بداية انتشار جائحة "الكورونا" اللعينة التي شغلت بال العالم وبالي كثيراُ، ولم تناسبني العزلة التي فرضتها هذه الجائحة الظالمة أبداً في القراءة والتأمل والكتابة، ولكنها، لم تمنعني من البحث عبر شبكة "الغوغول" عن قصصه المنشورة في المواقع الإلكترونية المختلفة وتسجيل عدد لا يستهان به منها.

بعد تجميعي لتلك القصص القصيرة عمدت إلى قراءتها فوجدتها ثرية جداً قائمة على عقلانية نقدية لشؤون الحياة وشجونها، ومشحونة بنزعة إنسانية متميزة بخصائص فلسفية لا ترتبط بالمجتمع التونسي فقط، بل بالإنسان أينما وجد، مثل علاقته بالله والطبيعة والبشر، وقد خطفت أنفاسي بشعاعها المنبعث كالبرق إلى مزاجي الأدبي، وذكّرتني بأبيات من قصيدة "أبو العتاهية" القائلة:

"وخيرُ الكلامِ قليلُ الحروف

كثيرُ القطوفِ بليغُ الأثر".

بعد تلك القراءة الأولية أحسست أني بحاجة ماسة إلى قراءتها مرّة ثانية بتأنٍ وبارتياح نفسي تام بعيداً عن قلقي من لعنة "الكورونا" كي أستطيع تدوين ملاحظاتي، وبالتالي كتابة رأيي حولها، إذ ليس من السهل عليّ في هذه الأجواء "الكورونية" أن أحيط بأبعاد قصص إبداعية قصيرة جداً بالغة الثراء والتأثير.

المرأة أيقونة للمجون

إنما أثناء قراءتي المتأنية لتلك القصص القصيرة لفتت نظري، وأثارت دهشتي واستغرابي بضعة قصص تناول فيها القاص "حسن سالمي" المرأة كأيقونة للمجون والتبذل عدة مرّات، وللتكريم والتقدير مرّات قليلة، فاندهشت من ذلك لأنني كنت اعتقد، وهو الضليع في الآداب وصاحب نظرة عميقة في الأمور الفكرية، السياسية والفنية، أنه لا ينشر في قصصه ما يظهر المرأة أنها جسد فقط خُلق لمتعة الرجل، وأنها ضعيفة ومسلوبة الإرادة يمتلكها أصحاب السلطة والمال؟ا...

هذه النظرة القاسية والمتدنية للمرأة أحزنتني كثيراً، ليس لكوني امرأة فقط، بل لأنها تشير إلى الثقافة "البدوية" السائدة في بعض المجتمعات المتخلفة التي تمنع بعض الروائيين في النظر إلى المرأة كإنسانة متكاملة تتمتع بأجمل القيم والصفات الروحية والجسدية، والذي زاد من ألمي اعتماد قاص في مستوى الأستاذ "حسن سالمي" على رسم هذه الصورة السلبية للمرأة التي تجسدت في ملامحها الجسدية دون ملامحها الروحية وقيمها الإنسانية التي تشتهر فيها المرأة بشكل عام، والتونسية بشكل خاص.

رموز المرأة الجسدية

قد تكون  تلك القصص القصيرة التي لفتت انتباهي، وأثارت استهجاني مغرية جمالياً وروائياً بدلالاتها الحسيّة كما عبر عنها في قصته: "سوق اللحم": "نهد بضٍّ" و "الرّدف" و "ذاك الذي" بين مفرقيه، ولم يجده؟ا، وتركيزه أن "...الكون يمشي على نهدين" في "جحيم الدّم" تفرض حضورها في مخيلة الذكور دون مقاومة، وتنسجم مع تربيتهم الذكورية الموروثة في الحب والعشق لأهم رموز المرأة الجسدية، كذلك في قصته "فراغات الرّوح" التي جسّدت النظرة المتدنية للمرأة، وتعرضها للاستهزاء بمختلف أشكاله الفكرية والجسدية عندما يقول:

"تهزّ فاكهة صدرها بيدين متوتّرتين، إلّا أنّ الشّابّ لا يباليها…"

كما تمادى كثيراً في التعبير عن أجزاء أخرى في جسد المرأة بما فيها من إغراء وفتنة تلهب مشاعر "الذكور" من القراء، وإن أثارت غضب الإناث، فقد ورد في قصته "السماسرة" حين غلغل النظر في جسدها وقال:" تمدّدت آلهة الجمال على مائدة مستديرة وحولها رجال عليهم أبّهة..وامتدّت أيديهم إليها، وبسكاكينهم وأشواكهم راحوا يقتطعون من لحمها الطريّ ويمضغونه في لذّة".

تُرى، عن أية نهود يتكلم؟ا..

أعن النهود التي استمد منها مقومات الحياة من مرضعته وهو طفل صغير؟.

أم حين لامس نهد أول فتاة أحبها في مغامرة عابرة له في مكان ما في واحات الجريد ـ توزر؟.

وأية نهود وأرداف ولحوم طرية بقصدها بالضبط ؟ا..

لا أنكر ما "للأرداف والنهود واللحم النسائي الطري" من رمزية جنسية وجاذبية شهوانية، أكانت متخفية خلف جلابيب عريضة أو سراويل ضيقة، من تأثير على الحديقة السرية للأحلام الشبقية عند معظم الذكور، إنما أن تصبح هوساً ومرضاً نفسياً فهذا شيء مرفوض لأنه يسلب المرأة بريقها الروحي الوضاء وأنوثتها وسحرها الإنساني. 

اقرأوا معي أعزائي القراء نصوص النرجسية الذكورية، ولا أقول الرجالية، الفخورة بنفسها، والمشيدة بجمالها وسطوتها واستهزاءها بالمرأة المنشورة في قصته "الحساب":

 "ما ظنّكَ بي اليوم؟

..أخت كريمة

!هههههههههههه".

تصوروا كيف يضحك بعدائية واضحة، ويستخف بها وبمشاعرها ولا يدري أنه يستخف بنفسه، ويهين نفسه عندما يستخف بها ويهينها، ثم يقوم بتصوير ضعفها أمام وحشية الرجل بعد لقاء عاطفي عاصف بينهما عندما تتطلب منه:

" الرّحمة، الرّحمة…!

أذريتني عارية وفعلتها.

...

سأقطعه. فقط هو!

لا لا لا لا

ونفر الدّم".

فهل هناك أبشع من هذه الصور التي تعبر عن الفحولة الذكورية الدموية تجاه المرأة؟ا...

 وأسأل نفسي كامرأة لماذا عبّر القاص عن هذا المفهوم الذكوري السائد في المجتمعات المتخلفة التي تجد لذة في تعذيب المرأة وإذلالها وقهرها، بعد استعمال الذكر لقوته من أجل السيطرة على جسدها تلبية لحاجاته الجنسية بهذا الشكل الفج؟ا..

وأتساءل لماذا منح للذات المذكّرة سلطاناً على المرأة بعد أن أرفقها بحسّ تهييجيّ صارخٍ اختزلها عند حدود جغرافيا جسدها؟ا..

هذه الاستهانة بالمرأة تجعل الأنثى القارئة تحقد على الرجل، وتعطل عندها التفاعل الروحي والمادي بينها وبين الرجل التي تحبه، وهذه الاستهانة تزيد من مأساتنا كمجتمع ينظر بدونية للمرأة، وهذا خطر مزمن هددنا في تونس، ولا يزال يهددنا بالانغلاق والهيمنة الفارغة التي لا أساس لها سوى التوهم بأشياء نجهلها عن أهمية مكانة المرأة في الحياة.

لقد ورد في الأحاديث الشريفة:

"إنما النساء شقائق الرجال... ما أكرمهن إلا كريم، وما أهانهن إلا لئيم... إن لكم عليهن حقاً، ولهن عليكم حقاً".

أين مكانة هذه الأحاديث في تلك القصص القصيرة، والحمد لله أنها قصيرة جداً.

القاص الذي يصور نساءه في قصصه "نهوداً، وأردافاً ولحوماً طرية، ويحرمهن من حقهن وخيرهن وتحقيق مطامحهن الإنسانية لهو قاص يقتل نفسه بنفسه ومصيره الهلاك في عالم القصص.

ختاماً، لا بد لي، ومن الضروري أن أعترف بأنني قرأت بعض القصص القصيرة سجلت خروجاً عن مضمون تلك القصص وكانت حالات مضيئة بحق المرأة سمتها بارزة إنسانياً كما ورد في قصة "البواب"

"أطال نظره في حسنها الباهر، فجأة هزّته رعدة بكاء.. قالت ما يبكيك؟ قال: فردوسكِ السّاحر، ليس له مكان إلاّ جهنّم".

وقصة "الصّاحب" التي يكتمل فيها الرجل بالمرأة وجوداً، روحاً، سلاماً، طمأنينةً، ملاذاً وحياةً تجلت في كيانه بجامع الأمن والأمان والحب والحنان والوجود.

"في مثل هذا الوقت من الرّبيع، تكون الصّحراء كالمرأة العاشقة تعطي بغير حساب. السّماء فيها أصفى من القطر، والهواء في أرجائها رطيب يحرّض على العشق".

الوطن الأزلي للأجساد البشرية

هناك روائيات من المغرب، الجزائر، سوريا ولبنان تناولن أجساد الرجال والنساء كرموز للخصوبة والحياة والجمال والتجدد سواء أصابن أو تعثرن، لكنهن تمكّنّ من رسم صورٍ فنيّةٍ مبدعةٍ ناطقةٍ للجسد الإنساني ذكراً كان أم أنثى، وجعلن من تلك الأجساد وطنّاً يلجأ إليه الرجل والمرأة فيمنحهما هياماً وعشقاً يسري في جسديهما دفئاً يغنينهما من برودة وجدان عالم ميت، فعشقانها وأصبحت وطنهما الأزلي.

فهل يبقى روائينا في تونس حاصرين المرأة في رواياتهم "بنهودها وأردافها ولحمها الطري"، والانصياع لرغبات الرجل الجنسية؟؟

أم أن الحالة باتت من طبائع ومن شيم الروائيين التونسيين؟ا..

وهل يا تُرى ستبقى المرأة التونسية في انصياعها لهذه الموروثات البالية في أدب الروايات؟ا..

أم ستكون "عليسة" في تمردها على كل قوة ذكورية مهيمنة في الرواية التونسية؟ا.

وأخيراً أسأل، هل يبقى القارئ، أو القارئة، على تواصل مع قراءة الروايات إذا انتقصت قيمة المرأة أو مكانة الرجل في الروايات التي يضمحل فيها الحب بين الرجل والمرأة، وتنعدم فيها قيم الحق والخير والجمال التي تجمع بينهما، وتموت المُثُل العليا التي تحييهما متساويين في الحقوق والواجبات؟ا.

 

بقلم: نينار شانغري

إعلامية / باريس

 

في المثقف اليوم