قراءات نقدية

حميد الحريزي: رواية وكر السلمان للشاعر شلال عنوز

حميد الحريزي(نتيجة الحروب خَلق اللصوص، ونتيجة السلام قتلهم) جورج هربرت

صرخة بوجه الحرب  يجسدها بطل لاجذر له في الواقع

العنوان:

عنوان الرواية يتكون من المضاف والمضاف إليه (وكر السلمان)، فالوكر غالباً ما يشير إلى مكان للمنوع أو المحظور من قبل السلطات الحوكمية أوالسلطات الأجتماعية السائدة، كالأوكار السرية للأحزاب المحظورة من قبل السلطات، أو أوكار العصابات بمختلف توجهاتها، وبذلك يعطينا المؤلف إشارة أولية بثيمة الرواية وموضوعها الذي يكون الوكر هو بؤرة الحدث..

(نقرة السلمان) وهو السجن الشهير والرهيب الذي أسسه الأنكليز في منخفض وسط  صحراء السماوة المترامية الأطراف، ليضيف إلى الوكر المزيد من الدلالة الأجرامية، حيث كان معتقلاً لأحرار العراق من المعارضين للأنظمة الديكتاتوريةوالاستبدادية، وعلى وجه الخصوص السلطات البعثية  منذ  1963  وإلى 2003...

يستعرض الروائي بين ثنايا روايته مشاهد من الحياة الجامعية للطلبةالعراقيين عشية المحرقةالكبرى لقادسية صدام حيث اندلعت الحرب بين العراق وإيران وطبيعة العلاقات بين الطلبة والطالبات، قصة عشق وهيام (نعمان) أبن السماوة لتاجر ميسور الحال هجر السماوة وعاش في بغداد حتى وفاته، وما خلفه لولده من أملاك وعقارات ومحال تجارية في بغداد والسماوة، وعلاقته مع بقية الزملاء محمود غريمه في حب (سناء) الشابة الثرية باذخة الجمال، ورحمة الصديقة الحميمة لسناء، وكذلك هيام، توصيف شاعري جميل مشبع ببلاغة وخيال شاعر كما هو عنوان المؤلف... الذي كان كريماً ومتمكناً من توصيف أبرز مناطق بغداد  كشارع الرشيد وشارع النهر، والمتحف البغدادي، ساحة الرصافي شارع أبو نؤاس، مطعم دنانير في الكرادة، الأورزدي باك... من خلال جولات الحب والغرام برفقة حبيبته وخطيبته لاحقاً (سناء) صاحبة الجمال وأبنة الابهة والثراء.

توصيف جهات القتال:

يوصف المؤلف كوارث الحرب (قادسية صدام)، المجازر الجماعية المرتكبة من قبل الطرفين دون رحمة أو شفقة، في حرب همجية جهنمية بمثابة محرقة للشعبين العراقي والايراني واستنزاف ثرواتهم لمصلحة قوى خارجية وداخلية.

يؤكد خلال الكثير من المقولات في توصيف وتعريف قذارة الحروب وشرورها، الحروب لا متنصر فيها سوى الخراب والدمار، تفشي البطالة والفقر والجريمة والانحراف الاخلاقي والمعاناة الكبرى وعلى الاخص للشباب والنساء والاطفال.

من ضحايا الحرب كان (نعمان) الشاب خريج كلية الحقوق بتفوق، ابن العائلة الفاضلة والمسالمة التي تعيش في بحبوحة من العيش، (نعمان) يصاب في الجبهة بكسر في عظم الفخذ وإصابة عضوه الذكري مما  تطلب بتره، مما سبب له عوقاً دائمياً من خلال العرج وفقدان ذكورته، أي أن إحدى نتائج الحرب هي عملية الإخصاء العضوي للإنسان، ناهيك عن الإخصاء الفكري، فالذكورة والفحولة فقط للقائد الأوحد، الحرب قامعة لكل رغبات وغرائز الانسان المشروعة، كحب الحياة والجنس والمتعة والاستمتاع بالأكل والملبس والسكن...الخ .

هذا الإخصاء الاجباري لـ (نعمان) يولد عنده ردة فعل انتقامية من كل الناس وعلى وجه الخصوص من القادرين على الفعل رجالاً ونساءً...

وقد كرس كل قدراته العقلية وذكائه من أجل سلب حياة أقرب المقربين إليه من الاصدقاء وحتى الاقرباء وحتى حبيبته وخطيبته الفاتنة (سناء)، حيث يكون الوكر هو محل تنفيذ جرائمه وهو عبارة عن كهف في مكان بعيداً عن الانظار قريباً من مدينة السلمان ومحل سكن نعمان.

((قطع على نفسه عهدا أن يجعل هذا الوكر قبرا لكل اصدقائه ولا يستثني أحدا منهم)) ر ص132.

الجريمة ودوافع الاجرام:

الروائي ولكونه محامياً يطرح أكثر من نظرية لتفسير الجريمة والاجرام الذي يرتكبه الاشخاص والجماعات سواء كانوا أفرادا عاديين أو حكاماً، ومنه أن المجرم يتميز بشكل معين وعلامات خلقية تدل على أنه مجرم وهذه نظرية تم دحضها من قبل الكثير من علماء النفس والاجتماع.

وهناك من يرى أنَّ الجريمة ناتجة عن البيئة الأسرية التي يحياها الفرد في عائلة مفككة عديمة القيم، تتميز بعدم ال

ألألتزام الأخلاقي والتعامل بعنف فيما بين أفرادها أو بين أفرادها وبقية أفراد المجتمع المحيط، فينشأ الفرد في بيئة منحرفة لتكون مثاله، لكن هناك الكثير من الشواهد تشير إلى وجود أشخاص تمكنوا من الإفلات من قيم وسلوكيات عوائلهم، فتميزوا بالأستقامة والفضيلة إن توفرت لهم فرص الخلاص.

وهناك من يرى أنَّ الفقر والحرمان والفوارق الطبقية الجادة بين أفراد المجتمع تؤدي بالبعض إلى سلوك طريق الأجرام والأنتقام والسرقة لتحقيق رغباته وسد متطلباته وتلبية شهواته، ولكن أيضاًهناك آخرين يكون تمردهم تمرداً إبداعياً يسكن طريق الكفاح والنضال الأيجابي لتحقيق العدالة في المجتمع والدفاع عن حقوقه وحقوق غيره من المحرومين ومثالهم الثوار المنادون للعدل والحرية والمساواة.

وهناك من يرى أنَّ الجريمة مغروسة في جينات الفرد المجرم وهو غير مخير في وجوب ممارسة الفعل الاجرامي، وأن الفعل الأجرامي قد يكون موروثاً من قبل الآباء أو الأجداد، وهذه فرضية تم دحضها من قبل علماء الهندسة الوراثية والجينية.

أما النموذج في رواية (وكر السلمان) (نعمان) لا ينتمي إلى أية فئة من الفئات المذكورة.

فهو يعيش في وسط عائلي منسجم ومتعاون ومترف، يؤمن بقيم الحب والسلام وفعل الخير ((دارهم ترفل بالهدوء والسلام والطمأنينة، ونعمان يتربع على قمة حب الأهل)) ص25 وهذا واضح جداً في توصية والده له للحفاظ على القيم الفاضلة والسمعة الطيبة للعائلة، وما أكدته له والدته وطلبت منه أن لا ينسى هذه الوصية.

يملك المال والوسامة، القبول والمحبة بين الناس، مثقف وشاعر مرهف ومميز، كل هذه العوامل تقف بالضد من سلوكه الاجرامي.

وإذا أراد أن ينتقم فكان الأجدر به أن ينتقم من السلطة الحاكمة التي أشعلت نيران الحرب وسببت ما سببته له ولغيره من العراقيين من مختلف أنواع العوق والموت والانكسار، لا أن يوجه عدوانيته صوب من كانوا من محبيه ومن بذلوا الكثير لرعايته ومساعدته، مما يدفع المتلقي إلى الاستغراب لفقدان المعادل الموضوعي في حبكة الرواية، حيث يقدم لنا الروائي شخصية رئيسة محورية في السرد الروائي لا تمتلك مقومات وجودها وتفتقد للأسباب الموجبة والدافعة لسلوكيتها/ فالخالق الروائي  لايمكن أن يخلق  مخلوقه  من العدم .

2399 وكر السلمان

حبكة الرواية والمعادل الموضوعي:

نرى أن الروائي لم يكن موفقاً في محاولته لتقديم شخصية غير تقليدية أو غير متداولة في السرد الروائي للرواية التي تعنى بالجريمة والمجرمين، بل استعار رداء العجائبية والغرائبية ليلبسه شخصية واقعية، وقد أكد عجزه عن تفسير وتبرير سلوكيات شخصيته حينما حولها إلى شبح هائم في صحراء لا متناهية، ولم يجعله يقف في قفص الاتهام والعدالة التي ستدحض كل مبررات الفعل والأنحراف السلوكي لـ (نعمان) الذي كان من المفترض أن تتطاير أشلاؤه خلال عملية تفخيخ الوكر حيث تلبسه الشر والانتقام من كل من يعرفه حتى لا يضطر أن يكشف عن حقيقة فقدانه لذكورته، وهو وضع هو ليس فاعله وليس  نقصاً ولادياً، بل هووصمة عار بوجه السلطات وليس في وجه الضحية.

التاريخ لم يروِ لنا مثل هذه السلوكيات من قبل خصيان خلفاء آل عثمان على الرغم من كثرتهم في قصور الخلافة ومعاناتهم كعبيد في قصر السلطان، فقد كانت لهم أفعال انتقامية ضد الخلفاء وليس ضد من أحبهم أو ضد رفاقهم.

الروائي الشاعر شلال عنوز يدخل ثيمة جديدة في فضاء السرد الروائي النجفي، البحث في معنى الجريمة وأسباب الأجرام كانعكاس لحروب الديكتاتورية، ونشر الثقافة القانونية التي ضمنها الرواية من خلال ثقافته القانونية وممارسته مهنة المحاماة، بمعنى عدم الأكتفاء بتوصيف المعارك  والضحايا، وإنما انعكاساتها على ضحاياها من حيث الحالة النفسية والسلوكية تبعاً لنوع الضرر الذي لحق به من جراء الحرب،فالرواية صرخة عالية بوجه الحروب مهما كانت أسبابها ومسبباتها.

* الشك في تصرفات (نعمان) وعلاقته باختفاء سناء، وقبلها عدم متابعته لأختفائها والمماطلة سابقاً في الزواج منها، لم يكن دافعاً ومحفزاً للأدعاء العام (هيام) لطلب معلومات حول إصابته في جبهة القتال، والشكوك باحتمال إصابته بإصابة غير كسر الفخذ مما سبب له العرج، فلا يمكن أن يذهب الشك والحدس بفقدانه لذكورته، كان يفترض لتكون الحبكة أكثر احكاماً أن يجد تخريجة أخرى يكشف فيها أو يلمح عن هذا العوق، كأن تبدر منه كلمة أو كشف سر لصديق أو صديقة في حالات الصحو أو السكر لتصل إلى علم الادعاء العام، مما يحفزه لطلب المعلومات من مستشفى البصرة العسكري؟!

ومن غير المقنع أن توافق (سناء) بمرافقة (نعمان) وبسرية تامة إلى السلمان من دون علم أهلها، حيث طلب منها التكتم على السفرة والطلب من سائق السيارة الخاص بها بالانصراف وعدم المجيء لإعادتها لدارها، فالسفرة غير مبررة وغير مقنعة... ناهيك عن تصرفات نعمان المريبة وإرغامها على مرافقته عبر طريق مقفر ليلاً لاطلاعها على الأثريات القديمة!

وقد كان من الممكن أرتكاب جريمته في دارها لخلوها من الأهل أو في أية منطقة مهجورة في بغداد، وكأن  الوكر هو أحد بواعث الجريمة في  نفس نعمان.

وكذلك هو الحال بالنسبة لمقتل ناظم ومقتل صديقه ناصر، حيث كان وحيداً في منزله بغياب زوجته وأطفاله عن البيت، ناهيك عن عدم وجود القناعة بتحضير حفرة عميقة بالتأكيد عمقها أكثر من مترين ليتعذر على ناصر الخروج من الحفرة (البئر)، مما استوجب أن يقيد يديه ورجليه حتى يسحبه نعمان خارج الحفرة ويتمكن من قتله؟! يلمس القاريء ان كل شخصيات الرواية  وعلى وجه الخصوص  ضحايا نعمان  اغبياء وسذج   وهو الذكي الوحيد بينهم !!!

من كل ما تقدم يلمس القارئ الناقد ناهيك عن الناقد الأدبي أنَّ هناك خللاً واضحاً من ضبط حبكة السرد الروائي للرواية وهو أمر مستغرب أن تجد كقارئ مثل هذه الثغرات في رواية استغرق الكاتب ما يقارب خمس سنوات في كتابتها (تاريخ كتابة الرواية 17-1-2015 – وانتهت في 16 -3- 2020) ص213 .

- في الوقت الذي يقدم فيه نعمان على قتل المقربين والأصدقاء حتى خطيبته يكتب وصية يوزع فيها ثروته عليهم بأريحية وكرم باذخ لا يصدر إلا من إنسان تقي نقي محب للخير ومؤمن بيوم الحساب والعقاب، وكيف أتيحت له فرصة كتابة الوصية قبل إلقاء القبض عليه؟

-  لا أدري هل أن الروائي كان يكتب كل ما يدور في مخيلته من أحداث دون أن يمسك بزمام السرد لإحكام حبكة الرواية دون أن يهتم بأسئلة المتلقي حول مسار وموضوعية الحدث وارتباطه بما قبله وما بعده؟ فالخالق يحسن به أن يتقن صناعة مخلوقه ...

الديكتاتورية الجهنمية قد تمكنت من بتر عضو نعمان الذكري وأخصائه،في حين بتر الروائي ضمير نعمان بشكل تعسفي غير مسبوق الا وهو قتله  الأصدقاء والمقربين .  فضمير نعمان يتوارى حينما  يدخل لوكره ولايصحو أل بعد أن يلفظ الضحية أنفاسه الأخيرة؟؟!!!

- القطة السوداء: خلق الروائي من القطة الحيوان الأليف رمزاً لأم نعمان مستجيباً لما يقال حول تقمص الأرواح لأجسام حيوانات أو طيور بعد موتها لتظل بالقرب ممن تحبهم، لكنها قطة سوداء بلون عباءة أم نعمان، وليس بلون قلبها الأبيض الطيب المسالم الحنون، وفي الوقت الذي كانت فيه القطة هي دليل الشرطة إلى الوكر للقبض على نعمان وهو أمر لا يمكن أن تفعله الأم بحق ولدها  لتقوده إلى حبل المشنقة نتيجة أفعاله الإجرامية التي كانت هي الشاهد الوحيد عليها، في حين تركته يهيم وحيداً في صحراء السماوة بعد أن فجر الوكر بمن فيه.

- يبدو لي أن الروائي لم يشأ أن يسرد لنا بقية الحكاية، ففي مثل هذه القضية لا يمكن لقوات الأمن بما تمتلك من امكانيات أن تترك المجرم يفلت من قبضتها، لتكون نهايته الموت جوعاً وعطشاً أو أن تفترسه ذئاب الصحراء، أو يموت بحبل المشنقة.

- إن شخصية نعمان ومسيرته وتحولاته السلوكية بطل الرواية بحاجة إلى الكثير لتكون مقنعة بالنسبة للمتلقي، فهل الروائي يجهل ذلك أم أنه أراد أن يضع هذه الشخصية الإشكالية أمام علماء النفس والأجتماع علهم يستطيعون تفسير وتبرير سلوكيتها  الأفتراضية الوهمية... طبعا  من حق  الروائي  أن يصنع خياله  مايشاء من الشخصيات ولكنه لايفترض به  أن ينفصل تماما عن الواقع  ألا في روايات الواقعية السحرية أو العجائبية.

- يمكن أنْ يتحول الإنسان إلى ضده في الفكر والفعل وهناك شواهد كثيرة على ذلك، لكن أنْ يتحول ناقماً على الآخرين ولا يمكن أنْ ينتقم من محبيه، وإذا كان دافع الأنانية المرضي يدفعه لقتل (سناء) حتى لا تكون في أحضان غيره بسبب فقدانه لذكورته فما هي دوافع قتله لأصدقائه المقربين وحتى محاولة قتل أقربائه.

- توصيف العراقي بازدواج الشخصية تعميم في كل زمان ومكان، وكأنها صفة جينية تتحكم في سلوكياته، وليست هي نتيجة للميوعة الطبقية في المجتمع العراقي وعدم انفصال الريف عن المدينة وعدم تخصص الفرد العراقي في مهنة أو عمل محدد، فمرة نجده فلاحاً ومرة عاملاً، مرة استاذاً جامعياً وأخرى سمسار عقارات أو سائق تكسي ووو، وكل ذلك ينعكس على شخصية الفرد وتتحكم في سلوكياته وتصرفاته.

- كنت أود أن تتوافق استنتاجاتي وتقييمي للرواية مع أغلب من كتب حول الروايةمن الزملاء النقاد أو هواة النقد، الذين أشادوا كثيراً بالرواية، وهم على حق في الكثير مما ذهبوا إليه ولكنهم للأسف لم يلتفتوا إلى الثغرات في الحبكة الروائية، فالنقد هو عملية تقويم وليس تقزيماً للروائي  لكي يرتقي إلى ما هو أكمل وأفضل في أعماله القادمة، وعدم ايهامه بأنه قد بلغ قمة الكمال والإبداع فيما يكتبونه حول منتجه الإبداعي...

- النقد يجب أن يكون موضوعياً فلا تجريح ولا مديح مجاني، بل إلقاء الضوء الكاشف لمواطن الإبداع والحبكة في النص موضوع النقد وعدم إغفال مواطن الضعف والركاكة.

الأهتمام بالرسالة الفكرية التي يبثها الروائي من خلال النص، ولفت النظر إلى مواطن الخلل والخطل الفكري ومواطن الواقعيةوالعلمية والصدق في المتن الروائي، وعدم الأكتفاء بتوصيف الشكل وإهمال المضمون، فالرواية مدرسة وتجربة حياتية يمكن أن تؤثر على عقلية وسلوكيات ومواقف أجيال وليس جيل واحد من القراء.

يمتلك الروائي كفاءة كبيرة ومشهودة في سرد ممتع  مشبع بشعرية عالية، ولغة ثرية  انما تدل على امتلاك الكاتب لثروة لغوية غنية  واعتباره شاعرا أضاف للسرد متعة الشعر الجميل المعبر .

 

بقلم: الناقد حميد الحريزي

 

 

في المثقف اليوم