قراءات نقدية

عاطف الدرابسة: رؤيةٌ نقديةٌ في مجموعات (صبري يوسف) القصصية

عاطف الدرابسةلا أعرفُ لماذا أخذتني لغةُ (صبري يوسف) نحو عالمٍ يقعُ خارج لغته، وهو عالمٌ يتجاوز اللغةَ، ربَّما أُسمِّيه هنا تاريخَ الذاتِ، وجدليَّةَ هذا التاريخِ مع الذاتِ، وكأنَّني إزاء ذاتٍ كاتبةٍ، تُعيدُ إنتاجَ سيرتِها بالأدب .

كلُّ نصٍّ أقرؤه تكشفُ ليَ لغتُه عن ذاتٍ تُحاول أن تنتزعَ نفسَها من الواقعِ، وهنا لا بدَّ لي أن أُشيرَ إلى لغةٍ سرديَّةٍ، يحضرُ فيها الواقع على غير شكلٍ، مرَّةً يحضرُ على شكلٍ رومانسي خالصٍ، يُمكنُ أن نلمحَه في مجموعته القصصية الأولى (حافَّات الرُّوح)، ولو تأمَّلنا قليلاً في لغةِ قصته : احتراق حافَّات الرُّوح، سنجدُ أنَّ وظيفةَ اللغةِ تُعبِّرُ عن لحظةِ الرَّحيلِ، وعن قرارِ الانفصال عن المكانِ:

- (تمعنَّتُ فيهم واحداً واحداً)

- (لا أُصدِّق نفسي أبداً أنَّني مررتُ بتلكَ اللحظة)

- (عبرتُ البحار)

- (أكلني الشوق)

- (مشاهد الوداع تتراقصُ أمامي الآن، وأنا محاصرٌ وسط أخطبوط الغربة) .

لغةُ هذه القصة قائمةٌ على التداعي، واستدعاءِ لحظة الرحيلِ عن الوطن، تتبادلُ فيها الأفعالُ مواقعها بين الماضي والحاضر، الماضي حيث البلد الأم، والحاضر بلد الاغتراب، لذلك من الطبيعي أن تتداخلَ الأزمنةُ، ومن الطبيعي أن يكونَ الصراعُ نفسي خالص، صراعٌ أطرافه متنوعة ومختلفة : الذَّات والأُم، الذَّات والأب، الذَّات والمكان، وهنا أخذت لغةُ السَّرد تتجه نحو شعرية خالصةٍ، كأنَّها عمارةٌ من المجاز : (توغَّل ألم الفراق في مساماتِ جلدِي، حافاتِ روحي تحترقُ بنارٍ ملتهبة، تصاعدت ألسنتها من مسامات قلبي، هذا القلب الذي تبرعمت فيه خلاصةُ مرارات الحياةِ، مشاهد الوداع تتراقص أمامي الآن، وأنا محاصر وسط أخطبوط الغربة).

إنَّ هذه اللغةَ المُشبعة بالشِّعريةِ تجرفُ المُتلقي إلى قلبِ الحدثِ، وتأخذه نحو آفاقٍ من المواقفِ، والأفكار، تتمحورُ حولها ذاتٌ كاتبة، تستعيدُ بألمٍ لحظة الانسلاخِ عن الوطن، ومشهد الوداع الأخير، لذلك جاء سلوك اللغةِ متماهياً مع لحظةِ الانفصالِ عن المكان، ومتماهياً أيضاً مع لحظةِ استدعاءِ ذلك الموقف : موقف الوداع .

لقد اختار (صبري يوسف) أن يكتبَ جانباً من سيرته، وكأنَّه اختارَ أن تكون لحظةُ الانسلاخِ تلك موضوعاً أدبياً، وقد حمَّلَ اللغة مسؤوليةَ التعبيرِ عن الذَّات لحظةَ الرحيلِ، فجاءت اللغةُ متماسكة، عميقة، تحجبُ وراءها أسرارَ الرحيلِ، وتكشفُ عن حلمٍ لم يتحقَّق في مسقطِ الرأس، وعن ذاتٍ تسعى إلى تحقيقِ أحلامها في المهجر، وفي الاغتراب .

والأمرُ الغريبُ هنا أنَّ (صبري يوسف) بقي مُتعلِّقاً بالمكان، بالرغمِ من أنَّه عاملٌ طاردٌ له، وقدَّم المكانَ على هيئةٍ جماليةٍ مدهشة، بلغةٍ خدعت المُتلقِّي، هذه اللغةُ الخادعةُ جاءت لتُقدِّم أخلاقياتٍ سامية، فلم تجرحْ لغتُه المكان، ولم تجرحْ الإنسان في ذلك المكان، غير أنَّ مشاهدَ الوداعِ التي استحضرها، وحجمَ الأنينِ، وحجمَ البكاء، وحجمَ الحزنِ، كلُّ هذا يدعو الذَّات أن تبقى في المكان، أن تبقى حيث دجلة، وشجرة التوت، لكن تلك الذَّات آثرت الرحيل، من هنا بدَتْ اللغةُ خادعةً، وحافلةً بالأسرار، والمساحاتِ البيضاء، التي يمكن للقارئ أن يملأها .

وفي قصَّته الموسومةُ ب(قتلَ الناطورُ الحمامة)،  تأخذُ لغةُ السَّرد منحىً رمزيَّاً، شفافاً، وتبقى الشعريةُ المُشبعةُ بالغموضِ الشفافِ مسيطرةً عل حركةِ السَّرد، وتبقى الطبيعةُ الخزَّان الكبيرَ الذي يُغذِّي تلك الشِّعرية، فجاءت هذه القصةُ لتطرحَ علينا سؤالَ الوجود : لماذا جئتُ إلى العالمِ يا أُمَّاه ؟ هنا يُواجه (صبري يوسف) سؤالَ الوجود، من خلالِ صوتِ أمِّه : إنَّنا لم نأتِ إلى العالمِ باختيارنا الحُرِّ .

إنَّ (صبري يوسف) يواجهُ سؤال الوجود، وعذابَ الإنسانِ بثقافةٍ فلسفيةٍ، تدورُ حول ثنائيةِ (النُّور والظَّلام) : لماذا لا نخرجُ يا أمَّاه إلى النُّور؟ لماذا نغرقُ هكذا في الظَّلامِ الدَّامس؟

إنَّ (صبري يوسف) في هذه القصة يُواجه الحضارةَ، يُواجه الحداثةَ، يُواجه العولمةَ، يواجهُ كلَّ ما حمله إلينا القرنُ المُنصرم، أي القرنُ العشرون بقوله : (إنَّه ظلامُ القرن العشرين) .

إنَّ (صبري يوسف) يتضادُّ على نحوٍ واضحٍ مع مخرجاتِ القرنِ العشرين، القرن الذي خرج فيه الإنسانُ من الأرضِ نحو الفضاء، والقرنُ الذي اكتُشف فيه الخريطةُ الجينيةُ، والقرن الذي أعلنت فيه الثَّورةُ الرقميةُ عن آفاقها الواسعة، إذ يصفه ب(قرن الجهل)، و(قرن الدمار)، الذي استغلَّ فيه الإنسان النُّور الباهر (العلم) لتعميةِ أخيه الإنسان .

إنَّ (صبري يوسف) في هذا النَّص الخلَّاق يُحدِّثنا بلغةِ شاعرٍ، ولغةِ فيلسوفٍ معاً، فهو لا يبحثُ عن نورٍ يعمي العيون، وإنَّما يبحثُ عن نورٍ خافتٍ يجعلنا نرى بعضنا بوضوح، فالنُّورُ الباهر حارقٌ، لا يرحمُ الإنسانَ، ولا يرحمُ الطبيعة .

ثمَّ ينزعُ (صبري يوسف) نحو مفهوم الإنسان بعيداً عن العرقِ والجنسِ والدينِ، ويطرحُ سؤالَ الحياةِ : لماذا لا يُنشدُ الإنسان أنشودةَ المطر ؟ هذا السؤالُ تتجسَّد فيه فكرةُ خلاصِ الإنسان من عقدةِ سيزيف، لا يريدُ للنَّاطورِ الذي يُمثِّل رمز الوحشيَّة، والتسلُّط أن يقتلَ العصافيرَ، ويقتلَ الحَمَام . إذن صبري يوسف ينسجمُ هنا مع فلسفته الإنسانيَّة، ومع ثقافته التي تُعلي من شأن قيمِ السلامِ .

إنَّ قصةَ (قتلَ النَّاطورُ الحمامة) تميَّزت بلغةٍ سرديةٍ شفَّافة، وبأساليب سرديةٍ متنوعةٍ، تنهضُ على جملةٍ من التراسلات النَّصية : الفلسفية، والفنية، كما يظهر من توظيفه للوحةِ السفينة مكسورة الشراع، التي تُصارع البقاء، ويُصرُّ ملاحوها إلى إيصالها إلى الشاطئِ بأمان، وكأنَّ هذه السفينةُ صورة عن العالمِ الذي يبحثُ عن الخلاصِ برغم قسوةِ الموج وشدته .

 

د. عاطف الدرابسة - الأردن

 

في المثقف اليوم