قراءات نقدية

محمد يونس محمد: كرافيا المبدأ النصي.. ديوان سطر الشارع فلاح حسن الشابندر

محمد يونس محمدالبصيرة والرمز

شكلت المهمة الشعرية لدى حقيقة الشاعر الإنسانية ليس في المباشرة تنظر الى الاشياء، فمهمة الشعر اصلا ليس في ذلك السياق البصري، والشعر صراحة بصيرة وعرفان وتأمل للوجود والاشياء ونكران للانا، والسعي الروح لتفويض الجمال في الحس الادبي، والشاعر ليس الذات في مظهرها بل هو الاحساس الفني، والمترجم النوعي للبصيرة والعرفان، والشعر ليس الذي يكتب فقط، فالشعر الذي يكتب فقط هو من اجل الانا، فيما الشعر الحقيقي هو الذي يعاش، والشاعر ليس الذي يعيش نثل الناس، بل هو المختلف كثيرا، ويتجاوز كل السياقات ويخرج من مألف الحياة، وليعيش داخل بصيرته، ويسمو في النص الشعري، وكأنه البساط السحري، نعم وهذا التوصيف كثيرا يقترب من مقصدنا، وفي مقاربة نوعية نجد ذلك المقصد تماما هو اشارة نوعية، حيث ينمو النص داخل شعور الشاعر في مفهوم الكرافيا، او في معنى مفهوم الايقونة في السيمياء، قبل أن يتحول في اطار الكتابة العامة، وهناك فارق كبير لدينا بين من يكتب الشعر والشاعر، فالشاعر حقيقة نوعية للوجود البشري، ولدينا نموذج يؤشر لنا في قصائده منذ العنونة في مقصدنا، فديوان – سطر الشارع – لفلاح حسن الشابندر احد الامثلة الجديدة مثلما قرأنا لشعراء اخرين اجادوا فعلا في التعبير.

ينطلق التعبير الشعري في قصائد – سطر الشارع -  من بصيرة ورؤيا وليس من الشعور الشخصي للشاعر، وفي تفسير نسق ونمط القصائد لا بد أن نتجه الى التحديد اللساني للجمل الشعرية اساسا، ونفصل بين الجمل الشعرية الممثلة للذات الشخصية والجمل الشعرية التي تمثل المعنى الشعري وكيان نص القصيدة، فاذا غلبت جمل الشعر التي تحيل الى نفس الذات، فهذا شعر مكتوب، واذا كان العكس من ذلك فذلك شعر معاش، يكون فيها الشاعر كائنا ورقيا وليس بشري، وتجربة الشاعر فلاح حسن الشابندر جديرة فيها القصائد في التمثل البصيري وليس بالمكتوب من خلال الانا، وعنونة الديوان اول اشارة او علامة سيمياء  ايقونية تقابلنا بمدلولها، حيث جملة – سطر الشارع – في التحديد اللساني تنفرد فيه الاحالة الى المضمون الشعري ولا تتصل بغيره، فيكون هناك رد فعل اجرائي ازاءها، ولا يمكن حصر العنونة في تحيد سياقي، فرمزيتها اوسع بكثير، وهي ما اسمينها في كتابنا عن بنية العنونة ما بعد الحداثة العنونة التي بلا ملامح وتحيلنا الى المتن ليفسر لنا مضمونها، واحدى القصائد كانت تحمل ذات العنونة العامة للديوان، وهي هنا تكون ركن المسؤولية الاساس، وفي  النصوص الاخرى ايضا اتصفت العتبات الثانوية بنفس التوصيف، وجعلت البياض يمحو المكتوب وينيب عنه، وفيها الحس الشعري المعاش اتصل بمعنى يستبدل ويتغير حسيا .

في زرقة الليل الثلجي

يرافقني الشارع مشيا

ثم مشيا .. مشيا ..مشيا

يمضي الى سبيله الشارع

في لقاء غير هذه الصدفة

في اتجاه غير هذا الدرب

في التفسير المضموني للشعر، اذا اشرنا الى مستهل شخصي، فكيف نقنع بمرافقة الشارع لذات الشاعر، وهنا لابد ان نتخلى عن الفكرة ونتجه الى المضمون الشعري، والذي فيه يكون الشاعر ذاتا ورقية وهي احدى ايقونات النص اضافة الى الشارع والمقومات الاخرى، والشعر هنا نتيجة البصيرة وليس المشاهدة فهي لا تكون داخل الاقناع الشعري، وفي قصيدة – ابدعها بما توحي – يرسم لنا الشاعر لوحة من ذات نسق الحس بالبصيرة وليس بالمشهود، وقدم لنا لوحة شعرية مضافة للتمثل الشعري من خلال البصيرة ويضاف لها الحس الجمالي للوجدان .

مهر الريح للنافذة طير

ابدعها بما توحي

ابدعها امرأة

تفتتح على المريا

نجد نسق ايقونات البصيرة المعنوي يتمثل في مفردات – الريح – النافذة – الطير – المرايا- المرأة اخيرا، والمرأة ليست النوع البشري بذاته في المضمون الشعري، بل هي تلك الطاقة الروحية الرحبة، التي افتتحت المرايا ونفذت من خلالها البصيرة، لتكون المرأة ايقونة للبصيرة الشعرية، وليست النوع البشري، المتعارف فيزيائيا في الانا والذات البشرية العامة .3301 falaf

في تفسير المضمون الشعري الذي هو المثال للكتابة العامة للشعر، فتكون التعبيرات ذاتها يكتبها الجميع ويشترك بها حسهم بنيويا، وهذا هو نسق انا الكتابة وينعدم فيه البعد الكرافي للكتابة، فالسيمياء ينخفض منسوبها الى حد كبير، وتبرز الانا وذات الشاعر في التوصيف العام، وقد يتشوه المضمون الشعري من خلال تضخم الذات وغاياتها الشخصية، وشاعرنا فلاح حسن الشابندر تجاوز من خلال الوعي والقراءة والتفسير ذلك السياق العام، وقدم لنا ذاته كأيقونة مضافة لتلك التي انتجتها البصيرة الشعرية، ففي قصيدة – لافتة – يكون هو شعور البصيرة ومثالها التعبيري .

الصوت...

غفا

في

خيط

اللافتة

اولا نقف على المبنى الفني في كيان المقطع الشعري، وفكرة الشع عندما تخرق الزمن تتجه الى بعد فني ايقاعيا، ونلاحظ ايقاع المفردات الشعرية في هذا المقطع المنعدم الجمل عبر تقطيعها واعادة انتاجها، فالمفردات بإيقاع يتجه من العلية الشعرية المنعدمة الزمن الى افق الواقع وزمنه، وهنا يتغير سهم الدلالة ويكون متجها من الموضوع الى واقعها، وفي قصيدة – قف – هناك موازاة في احد المقاطع ايضا وتوجه لسهم الدلالة من المعنى الى افق ضفته، حيث لا ترجمة شخصية لذلك المعنى هنا بل بصيرة يسمو وجدانها بإيقاع جمالي .

فراغ

وحيد الشكل

فراغ..

يتناظر

في هذا المقطع تصاعد مستوى المعنى الدلالي الى اقصى غاياته، واذا تمكنت البصيرة في كشفها الجوهري من تحويل المعدم الى موجود، ذلك احد انساق فلسفة الشعر التي استعارتها منه الفلسفة بحكمة  .

المبدأ الروحي للتجريد –

اهتمت البنية الشعرية بمواكبة التطورات الثقافية الشعرية في بداية القرن العشرين، وبعدما بدأ الفن بالتحول الى المبدأ الروحي وتجريد الانسان والاشياء على السواء ليمتزج الجميع في بوتقة التجديد الجمالي، وبذلك يكون الشكل هو هامش للمتن، بل يكون للشكل مضمونه ايضا، وقد توازى الشعر مع الفن التشكيلي في دعم المبدأ الروحي وتفويضه كسب لغة جديدة لا تهتم لمظاهر الاشياء بل تهتم بجوهرها، وقد بدأت الكتابة الشعرية العالمية بتغيير نمطها الى النمط الجديد وشكل عزره باوند الحجر الاساس للمذهب الشعري الجديد، ومن ثم تدفقت التجارب في انماط الكتابة الشعرية في هذا المبدأ الجديد شكلا ومضمونا، وتوالت افاق التجريب في تقنيات لغوية صراحة على الغالب اكثر مما هي تقنيات بناء فني، وهذا ما نؤاخذ عليه هذا المبدأ الخلاق، ونقصد بتقنيات اللغة اي اخراج اللغة من محتواها العام، والذي لا يتصل ابدا بغير الانا او بالوعي العام، وقلة من جعل هذا المبدأ الشعري يتصل بما وراء الانا او يجعل محمولات اللاوعي تتصل بالوعي الخلاق، وقدمت لنا تجربة فلاح حسن الشابندر امكانيات في مزج الانا بما وراء او تحويل الانسنة والاشياء في بوتقة واحدة، وجعل من الممكن أن تكون الاشياء كمعنى انساني، وكذلك جعل الذات في تحولها من الشخصي الى الورقي ايقونة كما ايقونات الاشياء .

قدمت تجربة ديوان – سطر الشارع -  نوع من التجريب الفني للغة، وسعي حسي وجمالي لتحول اللغة من افقها العام الى افق خاص، كي يمكن ثلم الدلالة واعادة انتاجها وايضا يتحول المعنى من المثال الى الالتباس، وتلعب الجمل الشعرية هنا الدور الحيوي، واما دور الصورة الشعرية تحول من  التفسير الى الايحاء ومن ثم الى الاحساس، ففي قصيدة – قف –  ذات العنونة المفردة والتي قد محت ما قبلها او محت ما بعدها وانفردت برمزية لتمثيل المتن اشهاريا، والقصيدة ايضا في المستهل وكأن ذلك المستهل جاء بعد ما محي، فجملة المستهل – فما ذاك اذن – جاءت لتؤكد لنا هناك وجود لغوي ما وراء النص .

فما هذا اذن

كساد الروح ..

فالروح قيد ..

والقيد يلهو بمعاصمنا ابدا

في التعبيرات التي تداولتها الجمل الشعرية في هذا المقطع، هناك سؤال جدير يحمل هما فلسفيا، لكن تمكن ذلك السؤال من حصول اجابة له من خلال نفسه، وفوض المضمون الفلسفي ليكون رديفا للمضمون الشعري، واتصل المعنى بالمعنى كذلك، وكان الحس الشعري للوجود غير ذلك الحس العام للوجود، وفي قصيدة – ثقب الاستعارة 2- هناك تحول مرت به المضامين الشعرية من افق فلسفي الى افق وجداني متصل بما رواء العقل، لكن اللغة فيصله ودليله داخل افق العقل، وهنا قد تحول نسق الوجود من الفرد الى العالم من جديد، بعدما تخلى الشعر عن هذا المفهوم، ولكن ذلك لم يكن في الاطار العام بل في صيغة التجريب الما بعد حاثي .

يرى العالم

كل هذه الشموس

لا تجدي نفعا

إلا ضوء خليته

بنية شعر ما بعد الحداثة تجاوزت السياقات العامة التي كانت فيها الانا مبنى اساس تترتب عليه الاشياء والظواهر والوجود، وانتقلت الى بعد حساس وحيوي، فشعر ما بعد الحداثة بل مجمل ادب ما بعد الحداثة قد دخل في تفسير جديد لبنية الشعر وقيمته المعنوية، فالميتافيزيقيا الموضوعية حررت الانا من افقها الشخصي وتلغي مركزيتها وتحررها من هيمنتها على الاشياء، لتكون الذات تلك الايقونة في التشكل السيميائي التي توازي فيه الاشياء، وفي قصيدة – الطارىء – تلعب اللغة الدور الاساس في بناء مقطع شعري تكون فيه اللغة التعبير الحسي المرهف والبديل للوجود والاشياء المشتركة مع الانسان .

يتعدد، يتردد

يتشاكل

بين إما وأما

بين أما وإما

بين أما وأما

تلك الصيغ التي تنيب فيها اللغة عن التشخيص الشعري الايقوني، او ذلك التعبير المتداول اليوم  من صيغ نراها كلامية، وفارق كبير في الشعر أن تتكلم عن نفسك وهو كلام يؤثر على قيمة الشعر، وبين لغة تتحدث نيابة عن الوجود بطريقة فنية جديدة وحس جمالي، وهذا ما اتصف به ذلك المقطع الشعري من تفوق جوهري مستجد، وفي – خربشات اخر الليل – نجد هناك تكرار اخر جديد تقوم به اللغة بالنيابة عن الوجود والاشياء .

... وللتنقيط

لغة نكتبها.. ونقرأها عزفا

عزفا للرقصة التامة

بدوران الرأس

اكثر منها كتابة

الفاظ تطرق على الباب

لقد اشترك في هذا المقطع الشعري البعد الوجداني بالفعل الملموس، ولكن في كيان النص تتحرر الافعال الملموسة من زمنها مادامت متصلة بجمل حسية معنوية، وفي عملية الوجود النصي المسألة تختلف فيها اللغة عن عملي التلقي الوجودي، فوجود النص لا يعاد الوجود المادي لنا، وهو بكثافة نوعية يسمو ولا يستقر كما نحن في الاستقرار العام، وفي قصيدة – ازيز – ثمة ايقونة شعرية وهي الفزاعة تتحول الى دور انساني بصيغتها، وهذا تحول عصيب ومرير، وفعلا الإنسان اليوم هو فزاعة عصره الالكتروني المثير .

رأس ميتة

ميتة تتكأ على العصا

واقف جوار الليل

ليس للنافذة ما تقوله

احمل رأسي

ويحملني

من اهم الميزات الشعرية هي انسنة الاشياء وذلك امر فيه جودة معنوية على اقل تقدير، ولكن أن يكون النص فيه الفزاعة هي الإنسان المغلوب على امرة في عموم مواقفه، بل العاجز تماما عن الرد، وتلك المحنة الشعرية والإنسانية على السواء تحتاج الى تفسير موضعي ولا تحتاج الى تبرير لها، وفي الشعر يمكن أن يكون العكس هو الصحيح، فغربة الإنسان وإن كانت مريرة فهي اجدى لاستعادة فطرته السليمة، واقصر النصوص الشعرية وهو قصيدة – قصة طويلة جدا -  والعنونة او العتبة النصية هي عرفا وعضويا تختلف مع بنية النص، ولكن جوهريا هي تعرفنا بفكرة النص وبعد مغزاها الشعري .

صمت يحدثني مرارا

كان يا ما كان

وما سيكون

في

قديم

المنام

هناك مبدأ في سياقات الكتابة اشرنا اليه في كتابنا فلسفة قصيدة النثر، وهو يتلخص في الجانب المادي لكيان النص المكتوب، حيث نجد ذلك النص احيانا يختصر نفسه ليكون كما مستهلا لنص قد محي وازيل، فأصبح بعد ذلك المستهل هو الكيان البديل للمتن الغائب داخل العدم، وتلك احد الميزات المتعددة في ديوان – سطر الشارع -  لفلاح حسن الشابندر والصادر من دار العارف، والتي تعددت فيها ابعاد الفن اللغوي والبناء الفني ايضا والسعي الجمالي.

 

محمد يونس محمد

 

 

في المثقف اليوم