قراءات نقدية

حيدر عبد الرضا: دراسة في عوالم أحمد سعداوي الروائية (6)

حيدر عبدالرضارواية (أنه يحلم، أو يلعب، أويموت) انموذجا

اللامشخص الشخوصي بين المجمل الضمائري وتكنيك مظاهر السرد

الفصل الثالث ـ المبحث (3)


 توطئة:

بمزيد من التأني والدقة والمعاينة الراجحة في قراءة محكيات ودلالات رواية (أنه يحلم، أو يلعب، أو يموت) تتبين لنا مستويات الشخوص في تعاملاتها الضمائرية المتناقلة والمتحولة، إيغالا في بواطن حياة المحاور السردية المنصوص عليها في صعيد تشكيلات ومضمرات الخطاب السردي.وعند النظر إلى صوت السارد المشارك المتمثل بدءا بشخصية نديم عبر بدايات الفصول الروائية..نديم ذلك الشخصية التي جعلت من ذاتها كمرآة توليفية في إضافة وتصور وتوهم حياة شقيقه حميد وشخوص أخرى، لذا أهتم السارد هنا في تشكيل جملة علاقات ضمائرية ـ إيهامية، من دوره الذي غدا مرتبطا بما يفترضه هو إلى جانب اللااستجابة في موقع حميد المحدد من الزمن السردي، ذلك لأن الأخير يعد وجودا واقعا في نفسه، فيما ظل بالمقابل السارد المشارك المتمثل بنديم، هو من راح يقدم ويؤخر ويضيف إلى حياته شخصانية، ذلك النوع من التداخل الحلمي ـ الإيهامي في بنى واقع هويات الشخوص الروائية.

ـ تدليل الشواهد المفترضة في حالات السارد الإيهامية.

أن حالات السرد في رواية أحمد سعداوي موضع بحثنا، تأتي ضمن مؤشرات حلمية بتداخل اللعبة الضمائرية في أوجه معاشة من المتخيل الممكن.وهذا الجانب ما راح يجعل من الشخصية نديم ساردا مشاركا، يكتشف عبر عوالمه الحلمية في دواخل زمن الشخوص المزيد من مجمل الإضافات النوعية في تكوين حالاته الصورية المتوهمة، فيما قد لا تأت استجابة تلك الشخوص حقيقة وجوده المفترض بينهم، إلا بتدخل ذلك التكوين الضمائري المضاف بصفة راوٍ كلي العلم، فيما تبقى استعادة نديم في مجمل الحكي الروائي، بما يبرهن لنا أن حقيقة الشخصية تبتكر لذاتها شكلا من أشكال المروي التقمصي في الذوات الأخرى، وبمعزل عن أحساسنا القرائي بأن ما يجري من حيز الوقائع ما هو إلا ذلك التمويه في حقيقة تعدد الذات أو هي الذات نفسها في تعدد الهويات والأصوات.وعندما نمعن في الفصول الأخيرة من الرواية، نلاحظ بأن ضمير السارد المشارك، عاد مستخدما ذات اللعبة في حالات المتخيل الإحالي، فهو غدا ضميرا يختلق لذاته أحداثا مرت، لكن ما ترتب عليها من عواقب، لم يكن متوقعا ساعتها، وهو ما يسمح للقارىء بتبصر النتائج من منظور التعمق في مسافة المؤول الافتراضي، وبدءا بالانطلاق من ذات أقفلت واقعها الحاضر، فبدت تحيا أحلامها لعبا أو حلما أو ضياعا في مجريات دلالية شائكة من الموت والتبرير الدلالي.

1ـ كفاءة الفاعل في علاقة التفعيل المفترض في السرد:

إذا كانت عملية الحكي في رواية سعداوي موضع بحثنا، مجرد أنطباعات إيهامية وتصورات متخيلة في تشكيل قوة مزدوجة في تشكلات اللاشعور أو اللاموقف أو اللا يقين في واقع السرد، فيمكننا وصفها في مرحلة الذروة من كفاءة الفاعل في الحكي، اقتحاما لعملية السرد من قبل ذات تسعى إلى أن تحيا حكايتها وحكاية غيرها في جل من الأصوات والضمائر، فيما نجد وظيفة السارد تنحى لذاتها موضعية (اختلافية الحكي) تمييزا لها عن خارج ذاتها في الحكي، والذي هو بالنتيجة ممارسة مقمصة في الأفضية المفترضة التي يمارسها منظور ساردها سردا وتبئيرا: (لا أريد أن أربككم.ولكني مجرد طيف يرافق حميد في حله وترحاله.وقد منحت داخل هذه الحكاية سلطة أن أروي بدلا منه..الأمر معكم سيغدو مثل كابوس صغير، ولكني لا أشعر به، لأني لا أخشى على شيء..لا أملك أي شيء أصلا. / ص109 الرواية) لا بأس من أن نذكر هذه الاعتراف من السارد المشارك في الحكي، أن كان هو فعلا السارد المشارك جدلا؟فهناك في مستويات السرد، ثمة تداخل لأكثر من سارد ما من جهة تتعلق بكون نديما له بعض من الوظائف التي تتبنى تداول الحجم الأولي من غايات مداخل الحبكة في الحكي، ولكننا نواجه أنتاج الدلالة في مستوى مفهوم من المؤول فحسب، بيد أننا نلاحظ بأن أشكال المروي صارت تتجلى في إقامة رابط ما بين (نديم ـ السارد كلي العلم ـ المؤلف) أي أن هذه السياقات الخاصة تعد أفقا في محمل إحالات بعض من واصلات المشار إليه إلى علامة قابلة إلى استيعاب ذلك المعطى التوسطي القائم بين أفعال المتخيل وإحالات الفعل الضمائري في المجمل السردي.وهذا الأمر ما يعني عبر فحواه بأن معطيات الشخصية نديم الإيهامية، قد تكون فعلا ديناميا في العمق التأويلي، وليس محض أحلام وصوت متصور في رؤوس الشخوص الروائية. وبعبارة أخرى يمكننا جعل الواقع الشخصاني لنديم، امتدادا نحو جملة تمثيلات فعلية مركبة في شواهد الترابط السردية كإحالات خاصة من العلامات المتصورة في أحوال المؤول اللامحدد في ماثول دوال (يحلم.. يلعب.. يموت) وعلى هذا الأساس يمكننا التساؤل لوهلة: هل أن مادة السياق الروائي تشتمل على جملة هويات متعاقبة في اللامنتهي من سيرورة الفكرة الروائية؟أم أن قصدية الموضوعة كانت علامة في الترابط بين هوية معاشة داخل عدة مواطن دوالية؟وأن كان وجود السارد المشارك محض لعبة أداتية في مناورة الحلم فما الجدوى من أن تكون حقيقة العملية الروائية مشيدة بهذه الصور من مواقع الأبدالات الشخوصية؟.

2ـ  محاور العلاقة الشخوصية بين نسق المغايرة وزمن الانقطاع السردي:

كما هو واضح لنا من خلال مباحثنا السابقة في دراسة الرواية ذاتها، أوضحنا بأن الشخصية نديم هو بؤرة التأثير السردي في واصلات البناء الروائي، ولكننا صرنا نعاين الآن بأن جملة محاور العلاقة الرابطة نديم وشخوص الرواية الأخرى، ظلت في حدود زمنية منقطعة، أو أنها أصبحت بمثابة الواصلة المفقودة في حدود مسارها الوقائعي والشخصاني، توغلا لها بذلك المجال من حيثيات الإيهام العابث في ظروف وأحوال حياة الشخصية حميد المفترضة: (كان ينتظر ذلك الرجل الذي حدثه عن السرك الجوال..وقد ألغى فجأة موعده معه بسبب انشغال طارىء..لذا بدا كئيبا ومضغوطا حول ذاته حين دخلت عليه الحانة..وأتضح لي أنه بدأ يشرب مبكرا هذه الليلة./ص109 الرواية)على هذا النحو نعاين ثمة علاقة تواصل منقطعة في الجانب العاملي من المبرر الزمني والمكاني، وما يظهر أمامنا سوى مشاهدة إهامية، في مواجهة ذلك العامل الشخوصي المتمثل بحميد وهو مجردا من أية أطارية زمنية مؤشرة مسبقا في حسابات الرؤية السردية في النص.وهذا الأمر ما ينطبق على دلالة الانقطاع في الوحدات اللاحقة من هذه العلاقة المفترضة: (ولكني أنا أيضا أسمي حميد، ويسميني الأهالي في منطقة ـ ستورمز وايت ـ التي أسكنها بأسم أكثر خفة ـ هاميت ـ وعلى العكس من صديقي الذي أسمه على أسمي، لا أفكر بغموض اتجاه حياتي./ص111 ص112 الرواية)هذا الحس المشترك في رؤية السارد المشارك إزاء الشخصية حميد جاءتنا في حدود من إحالات الشخصية ومن رؤية الشخصية لذاتها وبذاتها، فهو المحتدم بارتداء القناع وميله إلى الظهور بدلالة المعايشة للواقعة في مغترب حميد، لذا نلاحظ أن رؤيته إلى واقع وأسم حميد، صارت بالنسبة له رؤية معاشة في التحول إلى شخصية متماثلة في مجتمع متصالح مع المتشابهات. وربما تكون هذه الرؤية انعكاسا مبررا ومعادلا لخيبات رد الفعل في ذات نديم، وقد يكون السارد كلي العلم هو الاداة الرابطة ما بين (حميد ـ نديم) وقد يكون العلامة ذاتها في الاستعارة الشخوصية، غير أنها تشترك ليس مع حميد وحده، بل أنها شيفرة ملائمة لكل ذات ووجه وسيرة وذكرى: (وما الذي يشغلني أنا من أحلام الرجال..في الحقيقة..لا شيء.. أنا أفكر بالذوبان مع الزمن، والاندساس في نهاية فلمي القصير، تحت شجرة سنديان كبيرة، مع رقعة لا تحوي سوى أسمي المستعار، الذي أعرف به في هذه الحكاية، فالرجل الذي كنته أختفى منذ سنوات طويلة، ربما دفن في أرض موطنه، ولا تربطني به صلة الآن.. أنا شخص أعيش في الهنانك./ص113 الرواية) أن الإحالة في حالات السارد المشارك، كما نعلم قائمة على تقمص عناصر مشتركة بين الماثول والموضوع، والعلاقة هنا ما بين السارد الشخصية وعناصر الأشياء الممثلة له، بدت وكأنها حالة تشابه أو حالة تناظر بين أنا السارد المشارك والطابع التناظري القائم بين الماثول والموضوع، الذي هو علامة إحالة على عناصر مشتركة بين المرسل والمرسل إليه.والتشابه هنا لا يتعلق بكون حميد شقيقا لنديم، أو أن نديم كان يحبذ فكرة الهجرة إلى حيث موضع أحلامه، لا الفكرة مصدرها الماثول المزدوج الذي جعل من موضوعته القناعية علامة معايشة بخصائص مجردة في تطابق هيئة الأحوال واختلاف مواضع التمثيل الذواتي من ناحية الارتداد عبر الزمن والمكان والعلاقة ذاتها من مفاصل الدلالة التعددية في الدال الواحد.

3ـ مظاهر الصوغ الضمائري وتقابلات الأنا والهو:

قد تتعدد إمكانية أشكال الطرح الضمائري في أسلوب محكيات الفصول الروائية الأخيرة من رواية سعداوي موضع بحثنا، بما يوفر لمجال السارد المشارك ـ السارد كلي العلم ـ، تلك المساحة الانتقالية في الفعل الإجرائي للسرد، وما تتميز به وحدات المرسل في سياق طيات المتن السردي، من ذلك الجانب التعالقي المنصب في مظاهر صوت السارد المشارك وأشاراته في ظروف فعالية تقابلية ما بين أنا السارد والآخر من الضمير السردي المشار إليه بـ(هو).ويقربنا هذا النوع من التوزيع الروائي إلى مجال يقارب خطاب ولغة المؤلف ذاته: (كان النهار نسيانا، وكان ـ هو ـ يقضي أغلب ساعات النهار نائما./ص113 الرواية)من هنا نلاحظ كيفية خروج الخطاب من السارد المشارك إلى جهة السارد كلي العلم، أو ربما هو خطاب المؤلف في أغلب الأحيان، ذلك في ما يتولى هذا الراوي بالاشارة نحو (وكان = هو) هنا المقصود به هو نديم أو السارد المشارك الذي تتجسد فيه عدة أصوات كـ (المؤلف ـ السارد كلي العلم ـ السارد المشارك) نعاين بأن عملية إسقاط الخطاب من السارد المشارك، برمته، فيما ظل عبارة عن إشارة إليه بـ (هو) ما يفصح لنا تطويع خطاب الشخصية الروائية الساردة، إلى خطاب يتولى زمامه ذلك المؤلف وعبر صوته الذي تجتمع من خلاله كل مشخصات التصور بأن المسافة السردية ما بين المؤلف وسارده المشارك، أضحت لنا بموازاة خاصة من دلالة الكشف والارجاع إلى الذات الأنوية من فعل المؤلف نفسه: (أتذكر، أو أنني أرتحل إلى ـ هناك ـ عنوة.أتعذب وأفرح، وأدهش من الفرح والعذاب / غدونا مثل ممثلين في مسرحية صغيرة، نكررها كل يوم..يسرد أمامي حكايات عديدة، كأنه بئر حكايات لا تنتهي.. وأنا دائم التورط فيها.. ويذكرني بحوادث وأشياء لا أعرف متى كنت شاهدا عليها/هل يستمر في الثرثرة معي بعد ذهابي للنوم ؟ لا أعرف.. ولكننا لم نكون ثلاثة.. كنت الوجه الذي يتقبل طائعا ذلك بفرضة في لحظة ما. / ص113 ص114 الرواية) أن هوية الفاعل المنفذ تبدو لنا ها هنا على مستويات: الأولى مستوى التذكر الآني والقريب من الذات الجوانية للذات نفسها، والثانية مرتبطة بالفعل الماضوي البعيد الذي تختزنه في الذاكرة وتستنفره عبر ملابسات الانقسام ما بين الذات والذوات، وهذه الارتدادات التي يلتجأ إليها (هو) قد تبدو لنا شكلا ملموسا يسعى من خلاله المؤلف إلى خلق تراكم ذواتي متعدد في صورة خاصة من اللامحدد في عاملية الفاعل المنفذ في الرواية.

تعليق القراءة:

كل ما يمكننا قوله حول آليات الانتاج الروائي لأحمد سعداوي في روايته المتفردة (أنه يحل، أو يلعب، أو يموت) في كونها عملا روائيا بالغا في قيمته الدلالية والانشائية والتقانية والموضوعية، كما ويعد هذا النص من جهة الشخصية تمثيلا لأقصى نقطة من الافتراق التكويني بين الذات ونوازعها النفسانية المموهة بروح المقابلة بين صورتها الأولى والثانية، فيما تشكل اتجاهات سياقها المشرئب بأدق تقانات الروي والراوي.لذا لا يسعنا هنا سوى عد هذا النص الروائي بمثابة الرؤية اللامشخصة في تعدد الأمكنة والأزمنة والأحوال والوجوه والأصوات الذائبة في مرايا المجمل من الحكي وتطويعات الذات الناظمة في مسار علاماتها المتشعبة في التكنيك والغموض لأشق المظاهر السردية المحكومة بتداخلات الرؤية الواحدة للذات في المنظور المتعدد والمحتدم في أوجه عينات رواية اللامشخص الشخوصي في تمفصلات الذات المتعددة في أقنعة الخطاب الروائي.

 

حيدر عبد الرضا

  

في المثقف اليوم