دراسات وبحوث

تأملات فلسفية وسياسية عن الحضارة الإسلامية (1)

mutham aljanabiتقديم مختصر: إنني أتناول هنا بعض الإشكاليات النموذجية لفكرة وتاريخ الحضارة بشكل عام والإسلامية بشكل خاص، لما لها من اثر هائل بالنسبة للحاضر والمستقبل العربي. لهذا وضعتها تحت عنوان تأملات لكي تتناسق مع أسلوب وشكل العرض والتناول. أما الدراسة المنظمة والعلمية والفلسفية العميقة فقد خططت لها منذ عقود لكنني لم استطع لحد الآن إنجازها. فقد كانت خطة البحث تتكون من ثلاثة أقسام، ويحتوي كل قسم على ثلاثة كتب. القسم الأول ويتناول فلسفة الحضارة الإسلامية، الذي لم أنجز لحد الآن منه سوى الكتاب الأول (الحضارة الإسلامية- روح الاعتدال واليقين)، والقسم الثاني ويتناول الروح الثقافي للحضارة الإسلامية، الذي لم أنجز منه سوى الكتاب الأول (الأشباح والأرواح- تجارب المثقفين والسلطة)، وبعض من الكتاب الثالث (الحضارة الإسلامية- إمبراطورية ثقافة)، أما القسم الثالث والأخير فيتناول تاريخ الفكر والثقافة الإسلامية، الذي لم أنجز منه سوى بعض من الكتاب الأول. وجميع هذه الكتب ترتبط بكتابي التأسيسي (فلسفة البدائل الثقافية). وهذا بدوره يتكون من ثلاثة كتب، أنجزت الصيغة الأولية المختصرة للكتاب الأول والثاني، مع خمس كتب منجزة تسلط الضوء على ما وضعته بصورة مكثفة جدا فيه، وهي (فلسفة الإصلاحية الإسلامية الحديثة)، (العقلانية واللاعقلانية في الفكر العربي الحديث)، (فلسفة الفكرة القومية)، (الفكرة السياسية الإسلامية)، (محمد رسول الإرادة).

 كل ذلك ينبع من تصوري ورؤيتي الفلسفية الثقافية عن التاريخ وإشكاليات الوجود التاريخي للأمم، وفي الحالة المعنية، تاريخ الأمة العربية التي مازالت تعاني من تفكك وانحطاط وعجز على تجاوز وتذليل ضعفها الذاتي من اجل الانتقال إلى المرحلة السياسية الاقتصادية في بناء الدولة والمجتمع والثقافة والأمة.

***

موت الحضارة وبقاء الثقافة

تندثر الحضارات وتموت ولكنها تبقى "حية" في تراث الأمم، أو تظل تسري بطرق وأشكال ومستويات يصعب حصرها، لكنها تبقى تحدد على الأقل نفسية وذهنية أقوامها حتى في تلك الحالات التي يجري نفي بقاياها بمنظومة حضارية جديدة وشاملة. ومن الممكن رؤية ذلك على مثال تراث الرافدين (العراق والشام)، وتراث مصر وفارس واليونان والرومان، اي تلك الحالات التي ميزت تطورها اللاحق بانقطاع كبير عن جذورها الأولية بسبب انتقالها الخاص من المرحلة الثقافية الدينية إلى المرحلة الدينية السياسية. ومع ذلك يمكننا أن نلمح ونرى بوضوح بقايا الشخصية العراقية السورية والمصرية والفارسية واليونانية والرومانية في مختلف جوانب الحياة ونمط الذهنية والنفسية الفردية والاجتماعية. ومن ثم أثرها الخاص في تاريخ الثقافة اللاحقة، وفِي الحالة المعنية أثرها في صيرورة وتطور الثقافة الإسلامية في الخلافة، والنصرانية القروسطية في أوربا.

ففي حالة الحضارة الأوربية النصرانية القروسطية، يمكنا رؤية اثر اليونان الفلسفي في بلورة عقائد النصرانية الأولي كما هو جلي في المدرسة الإسكندرانية، ولاحقا تحول اللغة اليونانية إلى حاوية "الكتاب المقدس" للنصرانية، ثم تحول الفلاسفة إلى كهنوت، والفلسفة إلى لاهوت. في حين تحولت روما من مدينة العالم الدنيوية إلى كنيسة العالم الدينية. 

في حين كان التأثير العراقي الشامي في بلورة التقاليد الثقافية والسياسية والروحية للإسلام هائلا للدرجة التي يمكننا القول معها، بأنه لولاهما لما تحول الإسلام إلى دين عالمي، وثقافته إلى ثقافة كونية. اذ لولا العراق والشام لبقي الإسلام محصورا في الجزيرة ثم تلاشى واندثر، وفي أفضل الأحوال تحول إلى دين محلي قومي أو قبلي أو جهوي. وينطبق هذا على اثر الثقافة الإيرانية القديمة في رفد الإسلام بنفح التقاليد العقلانية والأخلاقية في مختلف ميادين الثقافة الإسلامية.

وقد توصلت الثقافة الإسلامية نفسها في مجرى تطورها إلى إدراك هذه الحقيقة، بل وتحويلها إلى فضيلة. بمعنى إدراك خصوصية الأقوام في عالم الإسلام، واعتبار تنوعها رافدا حيويا بالنسبة له، أو ما ندعوه الآن بفضيلة التنوع والتعدد الثقافي. غير أنها اتخذت في عالم الإسلام الثقافي بعدين، الأول ويصب في مسار الوحدة الثقافية الكبرى ويغني مرجعياتها الثقافية المتسامية، والثاني في إبراز الفضيلة المتراكمة في الشخصية التاريخية والثقافية للأقوام والأمم. من هنا تنوع تصنيفها الذي حصل على إجماع شبه تام في علوم التاريخ والأقوام والملل والنحل (تاريخ الأديان والفلسفات). بحيث نرى الثقافة تجمع على أن ما يميز العرب هو البلاغة والبيان، والفرس فن السياسة والأدب، واليونان والرومان الفلسفة والعلوم، والصين بالصناعة والمهارة، والهند بعجائب العقل والشعوذة، والأتراك بالفروسية والقتال. وتراكمت أوصاف الأمم والأقوام الأخرى مع مجرى التطور والاحتكاك بها وامتلاك المعارف الدقيقة عنها، بحيث نراها تتدقق في تحديد الصفات الجوهرية للأقوام والشعوب مثل قولها بتميز أهل الشام بصدق اللسان، وأهل العراق بحذاقة العقل وقوة الوجدان، وأهل مصر بالنكتة والفكاهة، والسودان بالخفة والسذاجة، والأكراد بالبلادة والغباء!

لقد كانت هذه الأوصاف جزء من مزاج وذوق الثقافة آنذاك ومستوى نموها، الذي جعلها مستعدة للقول بذلك دون أن تعني به استكبار قوم على آخر ولا استحقار احدهم أمام الآخرين. وهي تصورات وأحكام تتوافق مع تطور الوعي الثقافي في موقفه من النفس والآخرين، وبما يستجيب لنوعية المبادئ المتسامية أو منظومة المرجعيات الثقافية المهيمنة. فالثقافة الإسلامية آنذاك كانت محكومة بمرجعيات ثقافية متسامية، وبالتالي فان توصيفها هنا لا يخرج عن هذا الإطار باعتباره حكما ثقافيا قابلا للتغير والتبدل لكنه يحتوي بالقدر نفسه على تعميم للوقائع وتخصيص للحقائق. فقد تغيرت النسب الثقافية وأوصافها المعروضة أعلاه لكن بقاياها جلية أيضا لحد ما أو بعض منها في شخصيات الأمم والأقوام التي جرى تداولها في التوصيف والتعميم حتى الآن!

ومن الممكن رؤية نموذج آخر لهذه الحالة على مثال الثقافة الأوربية الحديثة. فالثقافة الأوربية الصاعدة بدء من القرن السادس عشر حتى العشرين قد أنتجت توصيفها المتنوع للأقوام والأمم بما كان يتوافق مع قيم ومبادئ المراحل المفصلية في طور وجودها السياسي الاقتصادي، اي بما يستجيب لنوعية المبادئ الكبرى أو منظومة المرجعيات الثقافية المهيمنة، التي أعطت للعقل والمصالح أولوية على كل شيء آخر، مع ما ترتب عليه من استعداد لقبول كل ما يستجيب لهذه المصالح على أنها أشياء وأمور معقولة ومقبولة. وقد كانت تلك وما تزال صيرورة معقدة ومتناقضة ولكنها طبيعية بالنسبة للمرحلة السياسية الاقتصادية في تطور الأمم. وذلك لان المهيمن فيها هو البحث والتجريب وفكرة الاحتمال. وهذه كلها دهاليز في البداية قبل أن تتبلط لاحقا بطرق لها حدودها العقلانية والإنسانية أيضا. ومن الممكن رؤيتها فيما أنا بصدده من قضية توصيف الشعوب والأقوام والأمم والثقافات والحضارات. اذ نرى دهاليزها في النظريات العرقية والقومية والعنصرية، وتقسيم الأمم حسب الألوان واللغات والأشكال والأحجام وما شابه ذلك. إضافة إلى هيمنة فكرة الاستعلاء والتحقير في المراحل المتأزمة لنفسية وذهنية المركزية الأوربية. ثم تطورها المعاصر، بعد قرون من معاناة ثقافية واجتماعية هائلة، وحروب دينية وقومية وعالمية دموية وقاسية، إلى نظريات إنسانية وحقوقية هي الأكثر رقيا، رغم كثرة المآخذ عليها. وهو مسار يعكس تحول الجواهر إلى أعراض، ثم زوالهما بنفيهما بما هو أرقى. انه مسار التاريخ الفعلي والطبيعة. 

إن هذا الاستعراض السريع والمكثف يكشف عما في قضية التأثير الثقافي للماضي والأسلاف والموقف منه من أهمية عملية قصوى بالنسبة لوعي الذات الثقافي والقومي والتاريخي وفكرة البدائل المستقبلية. اذ أن إدراك الحالة الخاصة والمتميزة للأمم والأقوام حتى في حال انتمائها إلى قومية كبرى أو أمة كبرى يحتوي على أبعاد عملية وسياسية بما في ذلك بالنسبة للمعاصرة. فعلى سبيل المثال، يستحيل توحيد العالم الاسلامي الآن على مبادئ الإسلام القديمة ونماذج الخلافة وإمبراطورياتها. فمشروع العثمانية الجديدة على سبيل المثال، لا يقل خرافة عن "دولة الخرافة" الداعشية! وينطبق هذا على اي مشروع آخر لا يخرج عن مرجعيات الماضي أيا كان نوعها وشكلها. والشيء نفسه يمكن قوله عن وحدة العالم العربي المعاصر. فالتفكيك الطويل والعميق في مناطقه الثقافية يجعل من الصعب توحيده دفعة واحدة، من هنا طوباوية وخطورة الحركات القومية الراديكالية وخطورة برامجها العملية. وليس مصادفة أن يتعرض جميعها للفشل الشنيع.

اذ يحتوي العالم العربي حسب نظري على أربع مناطق ثقافية متميزة هي منطقة المشرق العربي، ومنطقة شبه الجزيرة العربية، ومنطقة مصر والسودان، ومنطقة المغرب الكبير، إضافة إلى منطقة خامسة محتملة تحتوي على الصومال وجزر القمر وجيبوتي ومناطق أخرى قابلة للانضمام إلى العالم العربي مع مجرى الزمن. وبالتالي فان توحيده يفترض في بداية الأمر تكامل هذه المناطق على أسس ومبادئ الفكرة السياسية الاقتصادية الحديثة في بناء الدولة والنظام السياسي والمجتمع والثقافة. وتكامل هذه المناطق يفترض تكامل الدول الحالية للعالم العربي كل لحالها بما يتطابق مع مرجعيات الفكرة السياسية الاقتصادية المشار إليها أعلاه. ولعل انطون سعادة هو أول من حدس هذه الفكرة في العالم العربي الحديث دون أن يؤسس لها بصيغة منطقية متجانسة. من هنا إساءة فهم ما كان يسعى إليه وتكالب مختلف القوى على قتله، رغم فضيلته الأسمى على كل من سواه آنذاك فيما يتعلق برؤيته العقلية والوجدانية للفكرة القومية العربية. 

ميثم الجنابي

 

 

في المثقف اليوم