دراسات وبحوث

الأشباح والأرواح (12): محمد ومعاناة البحث عن اليقين

mutham aljanabi2إن ارتقاء الوحي النبوي عند محمد إلى مصاف الكتاب الحق واللوح المحفوظ قد أدى إلى ظهور فكرة الإعجاز. ولم تكن هذه الفكرة معزولة عما كانت تريده الجاهلية منه. فقد كان الوعي العربي الوثني واقعيا حتى مخ العظام. مما جعله يرزح في حالات عديدة تحت ثقل التراكم المرهق في تقاليد الواقعية الوثنية، التي لا يقين عندها تجاه ما لا يمكن لمسه لمس اليدين ولثمه لثم الشفتين. وإذا كان المألوف ملموسا، فإن الإعجاز يقوم في تجاوزه أو تذليله المباشر.

فالوعي الوثني العربي لم يخل من خيال جامح، لكنه كان واقعيا وملازما للإرادة الفردية وقيم القبيلة. فقد كان له خياله عن الآلهة والملائكة والجن والشياطين، لكنها كانت كيانات وتصورات ونماذج ملازمة للفرد والقبيلة. فقد كان للقبيلة إلهها أو آلهتها، كما كان للشاعر جنه وشيطانه. وكلاهما مصدر الجنون بوصفه إبداعا. فالجنون فنون، والشعر نوعا منه. وعلى قدر جن الشاعر جنونه في الكلمة والعبارة. وليس مصادفة أن يصاب محمد بإرهاق من "جنون" العرب في مطالبتهم الدائمة إياه بدليل ملموس يتجاوز ما ألفوه عن جنون المرض وجنون الشيطان الجاهلي. وهي حالة مميزة بشكل عام لكل أصناف اليقين الوثني. بحيث نرى محمد يتمنى في إحدى المرات لو يولي هربا من مواجهة التحدي الجاهلي المبني على مطالبته إياه بآية (أعجوبة أو معجزة) تستجيب لغريزة الجسد. بينما لا غرابة في هذه الحالة! بل يمكننا القول، بأن معجزات الأنبياء والأديان على امتداد التاريخ ما هي إلا الصيغة المبتذلة لمطالب الجسد المريض والخيال المتعب. فالمعجزات من صنع الخيال اللاحق لا علاقة مباشرة لها بحياة الأنبياء، أي حياة أولئك الذين وهبوا كلّهم من اجل البرهنة على ما اعتقدوه يقينا. ومن ثم ليست المعجزات في الواقع سوى اليقين المقلوب للأنبياء أو اليقين المتحور لاحقا في أوهام العوام وخيال الخواص.

وعموما نستطيع القول، بأن المطالبة الأولية بالمعجزة تشير أما إلى الضعف المعنوي للخصم وأما إلى عبوديته للمألوف أو إليهما كليهما. وفي حالة النبي محمد، فقد كانت المطالبة تجمع في ذاتها جميع هذه الجوانب. من هنا كانت ردوده على قدر ما فيها. فعندما طالبوه بوحي نفسيتهم التجارية بيقين يرتقي إلى مصاف الثروة الكبيرة، باعتبارها عروة الحياة الكبرى، فانه أجابهم {لا أقول لكم عندي خزائن ولا علم الغيب، ولا أقول إني ملك، إن اتبع إلا ما يوحي اليّ}[1]. وعندما أرادوا منه رؤية النتائج بصورة قاطعة بفعل ذهنية المحتوم وفكرة الدهر الجاهلية، فإنه أجابهم {لو إن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم}[2]. وعندما كرروا اتهام الافتراء فيما يقوله، فإن أجابته أخذت ترتقي إلى مصاف التحدي كما في قوله{فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين}، أو أن يجري إنزال العدد المطلوب للتحدي إلى مجرد سورة واحدة كما في قوله {فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين"}. ثم يرتقي اليقين المتزايد في قبول فكرة الإعجاز من مجرد السير ضمن "منطق" الجدل والمماحكة إلى القبول بها كما هي بوصفها الرد الواقعي والممكن على الاتهام والتسخيف والتسفيه والشكوك. إذ لا تعني مطالبته إياهم "بعشر سور مفتريات" سوى اليقين المقلوب للشك الجاهلي. وذلك لأن مجرد "تأليف" سور "مفتريات" هو نسف للحق فيها. و"عشر سور مفتريات" هي زيادة لا تصنع غير يقين تكذيبها مرات عشر! غير أن المعنى الملموس لهذه الفكرة ضمن ظروفها التاريخية كان يصب في اتجاه تراكم اليقين المتزايد عن أن حقيقة الإعجاز القرآني تقوم في تذليله للمألوف الجاهلي بما في ذلك في صيغه الخيالية الكبرى. إذ لا تعني الفكرة القرآنية الجازمة بعدم استطاعة العرب الإتيان ولو بسورة واحدة "من دون الله"، سوى الخروج على المألوف في تصوراتهم من مساندة الجن والشيطان في ابتكار الجديد.

فقد كانت العرب على حق في تصوراتها الأصلية عن أن الإبداع جنون و"شيطنة" من طراز لا يشبه إبداع البشر العاديين. فالشيطان هو ملاك الإغواء والإغراء والمغامرة والمؤامرة. فهو يصنع كل جديد من اجل بلوغ المرام. كما أنه الوسيلة المتجددة في النيات والهواجس والأقوال والأفعال. وقد شاطر القرآن هذه الفكرة، إلا أن محمدا ارتقى بها صوب نفيها بفكرة الحق المتسامي. فالشيطان يبدع "البدع"، بينما حقيقة الإبداع خلق إلهي والوحي نموذجه. فالشياطين والجن قادرة على صناعة الشعر والقول دون العمل، بينما حقيقة القرآن حق لا علاقة له بمألوف الجن الجاهلي. ونعثر على هذه الفكرة في القرآن بعبارة {قل لو اجتمعت الأنس والجن على إن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا}[3].

إننا نعثر في هذه المواقف على تحد متكامل في مواقف النبي محمد، مبني على يقين يقر بكمال القرآن، بمعنى خلوه من التناقض وعلوه من النقص المميز لصناعة "الأنس والجن" كما في قوله {أفلا يتدبرون القرآن. ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}[4]. حينذاك أصبح القرآن كيانا قائما بحد ذاته ينطق ويحي ويميت. بحيث أصبح ممكنا أيضا القول بأنه لو أنزل {على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله}[5].

واستجابت هذه الصورة لذهنية العرب الوثنيين آنذاك. لكننا نعثر فيها أيضا على مجاهدة حية من اجل تذليلها. فقد أرادت العرب رؤية قوة واقعية وتحسسها بطريقة غير مألوفة، فأجابهم محمد بواقعية غير مألوفة أيضا، لكنها إجابة جلية واستجابة بسيطة ومتراكمة في يقينها، أي في تكامل رؤيتها للإعجاز، بوصفه تحد شامل للمألوف الوثني العربي. مما يشير بدوره إلى تغير التناسب الفعلي بين ضعف الجاهلية المتزايد وقوة الإسلام الصاعدة. وفيه أيضا يمكننا تلمس الحقيقة القائلة، بأن فكرة الإعجاز نفسها كانت نتاجا لمعاناة كبرى.

فقد مرت فكرة الإعجاز نفسها بكل مراحل المعاناة المميزة لتاريخ القرآن قبل تحوله إلى بيان. فتحول القرآن إلى "بيان لكل شيء" ليس إلا الذروة التي تمثلت معاناة الوحي الشامل، أي معاناة الروح والجسد، والعقل والضمير، والحس والحدس في معارك البلاء الظاهرة والباطنة. فقبل أن يتحول القرآن إلى إعجاز كان ينبغي له أن يواجه ما يمكن دعوته بمراحل الإعجاز المتنوعة والقائمة في مواجهة التحدي الأكبر للبصر والبصيرة من اجل الانتقال من الحلم إلى اليقظة، ومن الخيال المربض إلى الوحي الصادق، ومن الأسطورة إلى الحقيقة.

وقد تميزت هذه المراحل بمعاناة الانتقال الملازمة للتدرج من حيرة البداية إلى يقين النهاية. فقد كانت بدايتها تدور حول الإقناع الذاتي كما تجلى في مواجهة التحدي الأول للنفس، بمعنى أن ما يراه هو يقظة الروح الباحث عن يقين وليس أوهاما وخيالا عابرا، كما نعثر عليه في قوله {علمه شديد القوى. ذو مرة فاستوى. وهو بالأفق الأعلى. ثم دنا فتدلى. وكان قاب قوسين أو أدنى. فأوحى إلى عبده ما أوحى. ما كذب الفؤاد ما رأى}[6]. وينضح هذا القول إحساسا بالروح والجسد، لازمته سنينا طويلة بصيغ وأشكال متنوعة ومختلفة. وبمجموعها كانت تؤكد الحقيقة القائلة، بأن ترسيخ فكرة الإعجاز، بدأ مع الرؤية الأولى وانتهى بيقين الكلمة المتغلغلة في كل مسام وجوده بوصفه وحيا صادقا. لكنه لم يكن خطا بيانيا صاعدا، بل صيرورة متعرجة من معاناة اليقين. فمرة تظهر بمظهر المخاطبة المتوسلة للقوم كما في قوله {ما ظل صاحبكم وما غوى. وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى}[7]، ومرة أخرى في مظهر المخاطبة المترجية كما في قوله {إنما أنذركم بالوحي ولا يسمع الصم الدعاء}[8]،وثالثة في مظهر المخاطبة المكتفية بذاتها كما في قوله {إنما يوحى الي إنما إلهكم اله واحد فهل انتم مسلمون}[9]، أو أن يكرر ذلك في قول آخر مثل {إنما أنا بشر مثلكم يوحى اليّ إنما إلهكم اله واحد}[10]. كما ظهرت بمظاهر النقد والتعنيف والوعيد والدعوة للتمسك بالحق. فمرة يقوّمه بعدم العجلة في الخطاب كما في قوله {ولا تعجل بالقرآن من قبل إن يقضي إليك وحيه}، ويعنفه تارة أخرى بعبارة {وان كادوا يفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا بغيره وإذا لاتخذوك خليلا}[11]، كما يتوعده مخاطبا إياه بعبارة {ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا}، أو يدعوه للبقاء ضمن الصراط المستقيم كما في قوله {فاستمسك بالذي أوحي إليك، انك على صراط مستقيم}[12]، ويطالبه بالتمسك بالوحي كما في قوله {وأتل ما أوحى إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلمته ولن تجد من دونه ملتحدا}[13]. وقد قضمت هذه الأحوال بأسنانها الروح والجسد، شأن كل يقين آخذ في التكامل. كما كانت تحرق بلهيبها، شأن كل يقين في المواجهة والتحدي، العقل والضمير. فعندما كان يقينه يواجه اعتراض القوم عليه بان ما يقوله هو قصص الأولين، فإن الرد كان {نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وان كنت قبله لمن الغافلين}[14]. وعندما كانوا يدحضون دعواه بالوحي ويطالبونه بدليل مادي وملموس على ملاكه، فإن الرد كان {وما كان لبشر ان يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا}[15]. وعندما تبلغ هذه الحالة درجة العذاب الباطني وتضع عقله وضميره على لهيب اليأس والقنوط، فإن الرد عليها كان يأتي مباشرا وشخصيا:{وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان، ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وانك لتهدى إلى صراط مستقيم}[16]، أي كل ما كان يؤدي إلى احتراق الروح والجسد والعقل والضمير في أتون المعاناة الذاتية من اجل بلوغ اليقين. وقد أتخذ هذا اليقين صورته الأولية في فكرة الكتاب الحق كما في قوله {والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق}[17](يتبع...)

 ميثم الجنابي

.....................

[1] القرآن: سورة الأنعام، الآية 50.

[2] القرآن: سورة الأنعام، الآية 58.

[3] القرآن: سورة الإسراء، الآية .88

[4] القرآن: سورة النساء، الآية 82.

[5] القرآن: سورة الحشر، الآية 21.

[6] القرآن: سورة النجم، الآية 4-9.

[7] القرآن: سورة النجم، الآية 2-4.

[8] القرآن: سورة الأنبياء، الآية 45.

[9] القرآن: سورة الأنبياء، الآية 108.

[10] القرآن: سورة الكهف، الآية 110.

[11] القرآن: سورة الإسراء، الآية 73.

[12] القرآن: سورة الزخرف، الآية 43.

[13] القرآن: سورة الكهف، الآية 27.

[14] القرآن: سورة يوسف، الآية 3.

[15] القرآن: سورة الشورى، الآية 51.

[16] القرآن: سورة الشورى، الآية 52.

[17] القرآن: سورة فاطر، الآية 31.

في المثقف اليوم