دراسات وبحوث

معيار التفرقة بين الأصول والفروع وإشكاليّة الإمامة عند الأشاعرة والإمامية

إن جدليّة الإمامة بين الأصول والفروع عند الاشاعرة والإماميّة ترجع إلى تحديد أساسيات التفرقة بين الأصول والفروع عند المتكلمين. وأبجديات هذه التفرقة يصعب تحديدها على وجه يزيل اللبس والإشكال عند المتكلمين. وعلى هذا فإن جدليّة الإمامة بين الأصول والفروع، يمكن دراستها فى إطار علاقة الإيمان بالعمل، كما سبقت الإشارة إليه، أو فى إطار علاقة أصول الدين بالفروع ، حسب تصنيف العلوم الإسلامية. ومن هذا المنظور يمكن دراسة هذه الجدلية من ناحيتين:

2-1. تصنيف العلوم إلى أصول و فروع حسب رؤية المتكلمين.

2-2. تصنيف الأدلة إلى أدلة قطعية يقينية وإلى أدلة ظنية غير يقينية.

2-1. الإمامة بين التّوحيد والمعرفة وبين الشّريعة والطّاعة:

للتمييز بين الأصول والفروع من خلال رؤية المتكلمين سوف نختار رؤية عالمين من علماء الأشاعرة، وهما الشهرستاني [ت:548ھ/1153م] والتفتازاني [ت:791-792ھ/ 1388م- 1389م].

2-1-1. ضوابط التفرقة بين الأصول والفروع عند التفتازاني:

إذا نظرنا إلى أوجه تصنيف العلوم إلى أصول وفروع عند التفتازاني، فإننا نجد أنه جعل الأصول والفروع تحت سقف«الأحكام الشرعية، » ثم صنفها إلى قسمين:

ما يتعلق بكيفية العمل، وتسمى فرعيّة وعمليّة.

وما يتعلق بكيفية الإعتقاد، وتسمى أصليّة وإعتقاديّة« والعلم المتعلق بالأولى يسمى علم الشرائع والأحكام؛ لأنها لا تستفاد إلا من وجهة الشرع، حيث يسمى ما يفيد معرفة الأحكام العملية عن أدلتها التفصيلية بالفقه. أما الثانية: فتسمى علم التوحيد والصفات، لما أنّ ذلك أشهر مباحثه وأشرف مقاصده»[1].

2-1-2. ضوابط التفرقة بين الأصول والفروع عند الشهرستاني:

الإمام الشهرستاني[ت:548ھ/1153م] حاول تصنيف العلوم إلى أصول وفروع فى كتابه: «الملل والنحل»، حيث نقل بعض أراء المتكلمين في التفرقة بين الأصول والفروع، من غير ربط تلك الأراء إلى أصحابها. إلا أنه يمكن تمييز الأصول من الفروع حسب ما نقله الشهرستانى إلى أربعة أوجه:

الأصول وهو«معرفة البارى تعالى بوحدانيته وصفاته، ومعرفة الرسل بآياتهم وبيّناتهم»[2].

الأصول وهو:«كل ما هو معقول، ويتوصل إليه بالنظر والإستدلال؛ فهو من الأصول وكل ما هو مظنون ويتوصل إليه بالقياس والإجتهاد فهو من الفروع»[3].

«كل مسألة يتعين الحق فيها بين المتخاصمين فهي من الأصول»[4].

العلوم تنقسم إلى معرفة وطاعة. والمعرفة أصل، والطاعة فرع. فمن تكلم فى المعرفة والتوحيد كان أصوليا، ومن تكلم فى الطاعة والشريعة، كان فروعيا. فالأصول هو موضوع علم الكلام، والفروع هو موضوع علم الفقه»[5].

2-1-3. مناقشة ضوابط التفرقة بين الأصول والفروع عند الشهرستاني:

يمكن تصنيف الأوجه التي ذكرها الشهرستاني إلى المعرفة  Epistemology)) يتوصل إليها بالإستدلال والنظر، وإلى الشريعة( التي (Islamic lawيتوصل إليها بالإجتهاد والقياس. ومن هذا المنظور، تتترد الإمامة بين المعرفة(Epistemology) بإعتبارها أصلا من الأصول وبين الشريعة((Sharī‛ah بإعتبارها فرعا من الفروع.

هذا وتقسيم العلوم إلى أصول وفروع من حيث النّظريّة(theory)، يبدو أنه لاخلاف بين الإماميّة وبين الأشاعرة، من حيث النظر العلمي. إلا أن الخلاف يشكّل وجه تصنيف الإمامة. فإذا نظرنا إلى تصنيف الإماميّة والأشاعرة في مفهوم الإمامة، نجد أن الإماميّة إعتبرت الإمامة جزءا من المعرفة (Epistemology)، أو جزء من العقيدةBelief))، بينما إعتبرتها الأشاعرة جزءا من الشريعة(Sharī‛ah).

كما يمكن أيضا تخريج إعتبار الإمامة جزءا من المعرفة عند الإماميّة، بإعتبار كون الإمام قائما مقام النبى صلى الله عليه وسلم في المعرفة(Epistemology)، وذلك أنه لما كان النبي صلى الله عليه وسلم، أصلا للمعرفة ، لزم أن يكون الإمام أيضا أصلا للمعرفة. وبالتالي يجب على كل فرد من الأمة -حسب إعتبار الإماميّة- أن يعْرِفَ المرء إمامه، ما دام الإمام هو وسيلة إلى المعرفة، وهي وسيلة إلى معرفة الله سبحانه وتعالى و توحيده. وهكذا تعتقد الإماميّة« بأن الإمامة من أصول الدين؛ لأنهم علموا أن بقاء الدين والشريعة موقوف على وجود الإمام، كما أن حدوث الشريعة موقوف على وجود النبي صلى الله عليه وسلم. فحاجة الدين إلى الإمام بمنزلة حاجته إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فإذا ثبت أن الإمامة أصل من أصول الدين، فاللازم فيه هو تحصيل العلم، ولا يكفى فيه التقليد الذي لا يفيد إلا الظن، لما عرفت من أن إحتمال الضرر لا يدفع بسلوك الطريق الظني، كما لا يخفى. ثم إن معنى كون الإمامة من أصول الدين هو وجوب الإعتقاد والتدين بوجود الإمام المنصوص من الله سبحانه وتعالى، في كل عصر بعد النبي صلى الله عليه وسلم »[6].

إن منطلق الإماميّة في مفهوم الإمامة بإعتبار كونها جزءا من المعرفة، تتحقق بوجود الإمام. ومن هنا يجب على المرء معرفته بالإمام. لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة الجاهلية». وفي حديث آخر:« من مات ولم يعرف إمام زمانه فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا». وهذان الأثران تفيدان:«بأن معرفة الإمام إن حصل ثبت الإسلام، وإلا فلا إسلام له. وكيف كان، فإذا كان مفاد الحديث أن معرفة الإمام، من مقومات الدين أو الإسلام، فكيف لا تكون داخلة في أصول الدين وأساسها»[7].

هذا الكلام في مفهوم الإمامة، ليس على الإطلاق عند الإماميّة، بل يحتاج إلى تبيان أكثر وضوحا. وهو أن الإمامة من مقومات الدين عند الإماميّة، لا أن الإسلام يتوقف بحصول الإمامة كما تشير الآثر المتقدمة.

هذا وقد أجاب السيد محسن الخزازي عن هذا الإشكال عند الإماميّة قائلا:«ثم إن الإمامة- إذا كانت الإمامة أصلا من أصول الدين- يلزم من فقدها إخلال الدين، ولكن مقتضى الأدلة التعبدية، هو كفاية الشهادتين في إجراء الأحكام الإسلاميّة في المجتمع الإسلامي، في ظاهر الحال، ولا منافاة بينهما فلا تغفل، ولِمَا ذكر يظهر وجه تسمية الإمامة والعدل بأصول المذهب. فإن معناه بعد ما عرفت من كفاية الشهادتين تعبدا في ترتيب أحكام الإسلام، أن إنكارهما«الإمامة والعدل» يوجب الخروج من مذهب الإماميّة لا عن إجراء الأحكام الإسلامية»[8].

ثم إن كون الإمامة من المعرفة عند الإماميّة، يقتضي كون الإمام حاصلا للمعرفة الإلهية- لا كما تشترط عليه الأشاعرة أن يعرف الإمام الأحكام الشرعيّة- ليتوصل بها إلى تأويل النص القرآني المتشابه بالحوادث المتجددة.

وينبغي أن ندرك أن حقيقة كون الإمامة من الدين عند الإمامية، تعنى أن الإمامة جزءا من المعرفة، حيث إن وظائف الإمام ، تمثل مثل وظائف النبي صلى الله عليه وسلم، من حيث كشف حقيقة النص وتأويله.

فلكى ندرك جزءا من علاقة الإمام بالنبي من جهة المعرفة، نذكر جانبا من وظائف النبي صلى الله عليه وسلم، والتى تلزم أيضا على الإمام تغطيتها، ومنها:

كان الرسول صلى الله عليه وسلم، يفسر الكتاب العزيز، ويشرح مقاصده وأهدافه، ويكشف رموزه وأسراره.

كان الرسول صلى الله عليه وسلم، يبين أحكام الموضوعات التي كانت تحدث في زمن دعوته.

كان الرسول صلى الله عليه وسلم، يرد على الحملات التشكيكية، والتساؤلات العويصة المريبة التي كان يثيرها أعداء الإسلام من يهود ونصارى.

كان الرسول صلى الله عليه وسلم، يصون الدين من التحريف والدس، ويراقب ما أخذه عنه المسلمون من أصول وفروع حتى لا تزلّ فيه أقدامهم[9].

من هذا المنطلق، فالإمامة عند الإماميّة هي« الخلافة الإلهية التي تكون متممة لوظائف النبي صلى الله عليه وسلم، وإدامتها عدا الوحي. فكل وظيفة من وظائف الرسول صلى الله عيه وسلم، من هداية البشر وإرشادهم وسوقهم، وإقامة العدل، ورفع الظلم والعدوان، وحفظ الشرع، وبيان الكتاب، ورفع الإختلاف، وتزكية الناس وتربيتهم، وغير ذلك ثابتة للإمام. وعليه فما أوجب أدراج النبوة في أصول الدين، أوجب أدراج الإمامة»[10].

وبهذا الإعتبار، تجسدت المعرفة الإلهية الكلية، في الإمام، مثل ما تجسدت في النبي صلى الله عليه وسلم. وذلك أن الإمام من حيث المعرفة لا يفارق عن النبي -عند الإماميّة- إلا صفة الوحي، أما باقي الصفات فهي مشتركة بينهما. وعلى هذا فكل علة توجب بعثة الأنبياء، فهي واردة أيضا في حق الأئمة؛ لأن الغرض من بعثة الأنبياء كانت تتجسد بالدرجة الأولى بالمعرفة الدالة لهداية البشر، فكذلك الإمام، لابد أن يتصف بالدرجة الأولى بالمعرفة الإلهية، وذلك لكونه قائما مقام النبي صلى الله عليه وسلم. وفي هذا الإطار يمكن تفسير الإمامة حول أصوليّها من جهة المعرفة عند الإماميّة.

ومن هنا يظهر، حسب رؤية علي مبروك، فى كتابه:«عن الإمامة والسياسة و الخطاب التاريخى فى علم العقائد» أن الفرق بين الأشاعرة والإماميّة حول إشكاليّة الإمامة، هو المعرفة والتأويل. وذلك يتجلى في إشكالية تأويل الوحى(النص) والدولة. وهذه الإشكالية يمكن طرحها: هل يشترط توحيد الإمامة(القيادة)مع تأويل النص الوحى فى شخص واحد، كما اتحد التنزيل (الوحي) والإمامة(القيادة)في شخصيّة الرسول صلى الله عليه وسلم فيه؟.

وبناءعلى هذا إعتبر على مبروك إشكاليّة توحيد السلطة بتأويل الوحى، جوهر الخلاف بين أهل السنة والشيعة في مسألة الإمامة« وهكذا تتجاوز الإمامة كونها مجرد سياسة فقط، وذلك من حيث إن السياسة تبدو فيها مشروطة بحضور تأويلى ينتظمها الأمر الذى يعنى أن تجد الدولة، ما يؤسسها ثقافيا فى مبدأ باطنى خاص(هو الوحى وتأويله)، ومن هنا قوّتها وتمكّنها»[11].

وهذه هي المشكلة التى أدّت فى نهاية المطاف إلى الإنفصال التام بين العلم والحكم، مما أدّى أخيرا إلى إنهيار نظام العالم الإسلاميّ كليا عَبْرَ أحداثه الطويلة المريرة[12].

 

د. بدر الدين شيخ رشيد ابراهيم:

........................

[1] - التفتازاني، شرح عقائد النسفية، تحقيق، محمد عدنان درويش، وبمراجعة، الشيخ أديب الكلاس مكتبة دار البيروني، 1411ھ ، (بدون رقم الطبعة)، ص52.

[2] - الشهرستانى، الملل والنحل، تحقيق، محمد سيد كيلاني، دار المعرفة ، بيروت، لبنان، (بدون رقم الطبعة والتاريخ) ج1/ص41.

[3] - المصدر السابق، ص 42.

[4] - المصدر السابق، ص 42.

[5] - المصدر السابق، ص 41.

[6] - المصدر السابق، ج2/ص22.

[7] - المصدر السابق، ، ج2/21

[8] - المصدر السابق ج2/22-23.

[9] - السبحانى، الإلهيات على هدى الكتاب والسنة، بقلم محمد مكى العاملى، إعتماد، قم، إيران ط4/1417 ج4/ ص26-27.

[10] - الخزازى، بداية المعارف فى شرح عقائد الإمامية، مركز مديرية حوزة، قم، إيران، ط1/1411ھ ، ج2/ص19.

[11] - مبروك ، على، عن الإمامة والسياسة والخطاب التاريخى فى علم العقائد، مر كز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، 2002م ص80-81.

[12] - الغزالى، المحاور الخمسة للقرآن الكريم ، دار القلم دمشق، سوريا، 1411ھ/1991م‘ص127.

 

 

في المثقف اليوم