دراسات وبحوث

الإمامة وإشكالية فرعيّها عند الأشاعرة

إن أصوليّة الإمامة الممثلة للمعرفة عند الإماميّة يقابلها الفرع الممثل بالشريعة. حيث إن الشريعة تعتبر فروع الدين؛ لأنها تتعلق بعمل الإنسان، فهي:«خطاب الله المتعلق بأفعال العباد على وجه الإنشاء»[1].

وهذا الخطاب يتوجه إلى الأحكام الخمسة: الوجوب، الحرام، الندب، المكروه، المباح. وعلى هذا، فمورد الشريعة هو العمل المبنيّ على العقيدة، بإعتبار أن العمل فرع عن العقيدة. ولذا، تعتبر الإمامة من الفروع  حيث تدخل ضمن الأحكام الخمسة من جهة الوجوب الكفائي لا العيني. فمن هذا المنظور إعتبرت الأشاعرة الإمامة - عند من يرى فرعيتّها- من الفروض الكفائية،عند فقدانها.[2].

إن دراسة إشكالية الإمامة  بين الفرعيّة والأ صوليّة عند الأشاعرة، يمكن تأطيرها من خلال رؤية بعض متكلمي الأشاعرة وفقهائهم. فإذا نظرنا إلى داخل بنية رؤية متكلمي الأشاعرة وفقهائهم، في إشكالية الإمامة: هل هي من الأصول أو من الفروع؟ نجد نوعا من التباين النسبيّ عندهم.

فمثلا إذا كانت الشريعة تمثل الفروع، والإمامة من جملة الفروع عند الأشاعرة، فلماذا لم توضع الإمامة فى إطارها الفرعىّ العملىّ، كالمسائل الفقهية الإجتهادية، والتي لا يبدّع ولا يفسّق المحالف فيها؟

وذلك من حيث كونها مبنية على الإجتهاد عند الأشاعرة، إذ لم يَنُصَّ الرسول صلى الله عليه وسلم على أحد من الصحابة بالإمامة حسب مذهبهم. وهو أمر أكّد به الإمام أبو الحسن الأشعري[ت:324ھ/935م] مؤسس المذهب الأشعريّ، حيث ردّ على القائلين بنصيّة أبي بكر، مستدلا بذلك قول عمر بن خطاب لأبي بكر يوم السقيفة، « إبسط يدك أبايعك»، قائلا:« فلوكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، نص على إمامته لم يجز أن يقول: أبسط يدك أبايعك»[3].

وعلى هذا، فإن نظرية الأشاعرة حول الإمامة، المبنية بالإختيار، تقتضى أنّ «الأمة في صدر الإسلام قاموا بواجبهم الشرعي أو العقلي،  حيث كان نصب الإمام واجبا بأحد الوجهين (العقل، أو الشرع). فإن أقصى ما يمكن أن يقال: إن خلافة هولاء كانت أمرا صحيحا غير مخالف للأصول والقواعد، ولكن يجب أن يُعْلَم أنه ليس كل قضية صحيحة جزءا من الدين، وعلى فرض كونها من الدين، فليس كل ما هو  من الدين أن يُعَدَّ من العقائد. وعلى فرض كونها من العقائد، فليس كل ما هو يُعَدُ من العقائد مائزا بين الإيمان والكفر، أو بين السنة والبدعة.

وهذه مراحل ثلاثة يجب أن يركز عليها النظر فنقول: إن غاية جهد الباحث، حسب أصول أهل السنة هي: إثبات كون خلافتهم أمرا صحيحا، لأن نصب الإمام واجب على الأمة عقلا أوشرعا. فلأجل ذلك قاموا بواجبهم فنصبوا هذا وذاك للإمامة. ونتيجة ذلك أن عملهم كان أمرا مشروعا، ولكن ليس كل أمر مشروع، يُعَدُ جزءا من الدين. فلو قام القاضي بفصل الخصومة بين المترافعين في ضوء الكتاب والسنة، فَحَكَم بأن هذا المال لزيد دون عمرو، كان قضاؤه صحيحا، ولا يعد خصوص هذا القضاء (لا أصل القضاء بالصورة الكلية) من الدين، إذ ليس كل أمر صحيح جزءا من الدين. ولا يصح أن يقال: إنه يجب أن نعتقد أن هذا المال لزيد دون عمرو، ولو تنزلنا عن ذلك، وقلنا إنه من الدين، ولكن ليس كل ماهو من الدين يعد من العقائد. فكون الماء طاهرا ومطهرا، حكم شرعيّ، ولكن ليس من العقائد. فأيّ فرق بينه وبين خلافة الخلفاء مع إشتراك الجميع في كونه حكما فرعيّا لا أصلا من الأصول. ولو تنزلنا مرة ثانية وقلنا: إنه من العقائد، ولكن ليس كل ما يجب الإعتقاد به مائزا بين الإيمان والكفر، أو بين السنة والبدعة، إذ للمسائل العقائدية درجات ومراتب. فالشهادة بتوحيد الله سبحانه وتعالى، ونبوّة نبيّه، وإحياء الناس يوم الدين تعد مائزا بين الكفر والإيمان. وليس كذلك الإعتقاد بعذاب القبر أو سؤال منكر ونكير، أو كون مرتكب الكبيرة مؤمنا. وعلى هذا الأساس يجب على إخواننا أهل السنة تجديد النظر في هذا الأصل الذى ذهبوا إليه، وهو جعلهم الإعتقاد بخلافة الخلفاء المشار إليهم أية السنة، ومخالفته أية البدعة»[4].

من جهة أخرى، إذا راجعنا إلى إشكالية الإمامة بين الأصليّة والفرعية عند الأشاعرة، لا شك أن فيه نوعا من التعارض النسبي. وذلك يتجسد، هل الفرعيّة كانت في الدرجة الأولى، ثم تحولت المسألة إلى أصل؟ أم كانت الأصليّة في المبدأ الأول، ثم تحولت الإمامة إلى فرع؟. ثم يترتب منها إشكاليّة الخلافة الراشدة، هل هي من الأصول أم  من الفروع، عند من يقول فرعية الإمامة؟.

فالشيخ السبحاني - وهو من علماء الإماميّة المعاصرين- يرى أن مسألة الإمامة عند أهل السنة، كانت من الفروع إذا أعْتُيِرَ حسب مذهبهم  في الإمامة. ثم تحولت إلى أصل عقديّ إيمانيّ. ويرى أن مسألة الإمامة عند خلفاء الراشدين، وخاصة خلافة أبي بكر وعمر لم تكن من الأمور العقائدية، بل ظهرت فكرةٌ العقيدة، في وقت التحكيم بين علي بن أبي طالب وبين معاوية. وأن فكرة أصوليّة خلفاء الراشدين هي فكرة أدخلها عمرو بن العاص، وذلك لإثبات أحقية الخلافة لمعاوية بعد مقتل عثمان رضي الله عنه.

يقول الشيخ السبحاني:« لم يكن في عصور الخلفاء الثلاثة أىّ أثر من هذه العقيدة، ولم يخطر ببال أحد من المهاجرين والأنصار، أنه يجب الإعتقاد بخلافة هذا أو ذلك، وأن من لم يكن معتقدا بخلافتهم، يخرج من صفوف المسلمين ويلحق بالمبتدعين. وإنما أوجدت تلك الفكرة يدُ السياسة، بهدف الإزراء بعليّ عليه السلام، وتصحيح خروج معاوية عليه لأخذ ثأر الخليفة. ولعل عمرو بن عاص هو أول من بذر تلك الفكرة»[5].

ويدل حدوث فكرة عقيدة خلافة الراشدين، ما ذكره المسعودي في قضية التحكيم  بين عمرو بن العاص مع  أبى موسى الأشعرى في دومة الجندل،  حيث أحضر عمرو غلامه لكتابة ما يتفقان عليهما. فقال عمرو بن العاص- بعد الشهادة بتوحيده سبحانه وتعالى ونبوة نبيه صلى الله عليه وسلم: ونشهد أن أبا بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، عمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حتى قبضه الله، وقد أدى الحق الذى عليه. قال أبو موسى: أكتب، ثم قال  في عمر مثل ذلك، فقال أبو موسى: أكتب، ثم قال عمرو : وأكتب: وأن عثمان ولي هذا الأمر بعد عمر على إجماع من المسلمين، وشورى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضاً منهم، وأنه كان مؤمنا، فقال أبو موسى الأشعري: ليس هذا مما قعدنا له، قال عمرو: والله لابد من أن يكون مؤمنا أو كافرا؟  فقال أبو موسى: كان مؤمنا، قال عمرو: فمره أن يكتب. قال أبوموسى: أكتب، قال عمرو: فظالما قُتل عثمان أو مظلوما؟ قال أبو موسى: بل قتل  مظلوما. قال عمرو: أوليس قد جعل الله لولىّ المظلوم سلطانا يطلب بدمه؟ قال أبو موسى:نعم، قال عمرو: فهل تعلم لعثمان وليّا أولى من معاوية؟ قال أبو موسى: لا، قال عمرو: أفليس لمعاوية أن يطلب قاتله حيثما كان حتى يقتله أو يعجز عنه؟ قال أبو موسى:بلى، قال عمر للكاتب: أكتب وأمره أبو موسى فكتب، قال عمرو: فإنا نقيم البينة على أن عليا قتل عثمان[6].

هذا وقد أكد العلامة الروحاني، حدوث فكرة عقيدة الخلافة الراشدة حيث قال:« الحق الذى يراه المتتبع في التاريخ هو أن عقيدة خلافة الخلفاء الثلاث وقداستهم البالغة، قد أقحمت في عقائد أهل السنة إقحاما، وإنما كان كذلك رد فعل ومحاكاة لعقيدة الشيعة في عليّ عليه السلام وأولاده الطاهرين، ولذا صيغت هذه العقيدة أولا عند أهل السنة في قالب الرد والمعارضة لعقيدة الشيعة فقط، ثم ألحقوا عليّا عليه السلام بهم في عصر متأخر. وبتفصيل أكثر نقول: إن جعل خلافة الشيخين (أبي بكر وعمر) من العقائد، لم يكن في القرن الأول. وغاية ما كان يقال فيهما: إن خلافتهما كانت صحيحة. هذا فضلا عن عقيدتهم  في خلافة عثمان وعلي، بل إن عثمان لم يكن بذلك المرضي عند الناس»[7].

ومما يدل حدوث فكرة إعتقاد الخلافة الراشدة، أن الرسالة التى ألّفها أحمد بن حنبل، لبيان عقائد أهل السنة، لم يعتبرها من صميم الإعتقاد بل قال: « ومن السنة ذكر محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والكف عما شجر بينهم، فمن سبّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو واحدا منهم فهو مبتدع رافضي، حبهم سنة، والدعاء لهم قربة، والإقتداء بهم وسيلة، والأخذ بآثارهم فضيلة، وخير هذه الأمة - بعد نبيها- أبو بكر، وخيرهم بعد أبى بكر عمر،وخيرهم بعد عمر عثمان، وخيرهم بعد عثمان علي رضوان الله عليهم...»[8].

 

د. بدر الدين شيخ رشيد ابراهيم

...........................

[1]- السبكي، الإبهاج في شرح المنهاج على منهاج الوصول إلى علم الأصول، تحقيق، جماعة من العلماء، دار الكتب العلمية،بيروت  لبنان ط1 / 1404ھ، ج1/ص29.

[2] - الماوردى، الأحكام الاسلطانية والولايات الدينية‘، تحقيق، خالد عبد اللطيف السّبع العلميّ  دار الكتاب العربي بيروت لبنان، ط1/ 1410ھ/1990م ص،30

[3] - الأشعرى، اللمع ص 136، نقلا عن : السبحانى جعفر بحوث فى الملل والنحل مؤسسة النشر الإسلامى قم، إيران، ط/1420ھ، ج1 ص297.

[4] - السبحانى، بحوث فى الملل والنحل، مؤسسة النشر الإسلامى، قم، إيران، ط7/1420ھ ج1/ص 298- 300 .

[5] - المصدر السابق، ج1/ص 301-302

[6] -  المسعودى أبي الحسن علي بن الحسين،  مروج الذهب ومعادن الجوهر، شرح و تقديم،  د/ مفيد محمد قميحة دار الكتب العلمية بيرون لبنان، ط1/ (بدون تاريخ) ج2/ص: 440-،441  وأنظر:السبحانى، بحوث فى الملل والنحل، مؤسسة النشر الإسلامى قم، إيران، ط/1420.ج1/ص 301-302.

[7] -  الروحاني،  بحوث مع أهل السنة والسلفيّة‘ ص24-25. نقلا عن: السبحانى، بحوث فى الملل والنحل، مؤسسة النشر الإسلامى، قم إيران، ط/1420ج1/ص304-305.

[8] - عزا الشيخ  السبحاني، في كتابه، بحوث فى الملل والنحل، مؤسسة النشر الإسلامى، قم ط/1420 ھ، ج1/ص306.، كلام الإمام أحمد بن حنبل إلى كتاب السنة للإمام  نفسه،  فراجعت  كتاب السنة للإمام أحمد ابن حنبل، بتحقيق، د/محمد بن سعيد بن سالم القحطاني، ط4/ 1416ھ/1996م، فلم أعثر تلك العبارة، إلا أن قريبا من هذا الكلام، وجدت في كتابه: أصول السنة، وعبارة كتاب الأخير هي« وخير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر الصديق ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان نقدم هؤلاء الثلاثة كما قدمهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا في ذلك ثم بعد هؤلاء الثلاثة أصحاب الشورى الخمسة علي بن أبي طالب والزبير وعبدالرحمن بن عوف وسعد وطلحة كلهم للخلافة وكلهم إمام »، ابن حنبل،  أصول السنة، دار المنار الخرج، السعودية، ط1/1411ھ، ص37.

 

 

في المثقف اليوم