دراسات وبحوث

جدلية وجوبيّه نصب الإمام بين اللّطف والتّكليف عند الأشاعرة والإماميّة

إن وجوبيّة نصب الإمام هو أمر مسلّم عند الأشاعرة والإماميّة. بل ليس هناك خلاف في وجوبها بين الفرق الإسلامية، إلا ما نقل عن أبي بكر بن كيسان الأصم[ت:240ھ/854م]، وهشام بن عمرو الفوطي من المعتزلة، والنجدات من الخوارج. قال ابن حزم الظاهريّ في وجوبيّة الإمامة «إتفق جميع أهل السنة، وجميع المرجئة، وجميع الشيعة، وجميع الخوارج، على وجوب الإمامة، وأن الأمة واجب عليها الإنقياد لإمام عادل يُقِيْمُ فيهم أحكام الله، ويسوسهم بأحكام الشريعة، التي آتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، حاشا النجدات من الخوارج»[1].

إحتج أبوبكر الأصم لرده في وجوب الإمامة على أن الناس لو كفّوا عن التظالم لاستغنوا عن الإمام. أما هشام بن عمرو الفوطي فقد علل رده: بأن الأمة إذا إجتمعت كلمتها على الحق إحتاجت حينئذ إلى الإمام، وأما إذا عصت وفجرت وقاتلت الإمام لم يجب حينئذ على أهل الحق منهم إقامة إمام[2].

إن إشكاليّة وجوبيّه إلإمامة عند الأشاعرة والإماميّة، تتركّز حول النقاط التالية: طريق وجوب الإمامة: هل هو عقلي أم شرعي؟ على من يجب نصب الإمام والقيام به؟ هل يجب نصبه على الأمة أم على الله؟، ما هي علة وجوبها؟ هل هي اللطف أم التكليف؟ هل عيّن الرسول خليفة بعده أم ترك الأمر للأمة؟

إذا تناولنا إشكال وجوبيّه الإمامة عند الأشاعرة والإماميّة نجد، أن الأشاعرة قالت: إن دليل وجوب الإمامة يستفاد من قبل الشرع لا العقل. بينما تقول الإماميّة: إن دليل الوجوب أخذ من العقل، والشرع إنما أكد ما دل عليه العقل. هذا وقد ذكر ابن ابي الحديد المعتزليّ طرفا من إشكاليّة طريق وجوب الإمامة. فقد ذكر أن جمهور معتزلة البصرة يقولون:« طريق وجوبها الشرع، وليس في العقل ما يدلّ على وجوبها»[3].

بينما تقول معتزلة البغداد، وأبو عثمان الجاحظ، والشيخ أبو الحسين من معتزلة البصرة«إن العقل يدل على وجوب الرئاسة؛ وهو قول الإماميّة»[4].

ابن أبي الحديد المعتزليّ، لم يذكر رأى الأشاعرة، في طريق معرفة وجوب الإمامة، إلا أنّ الإمام البغدادي أشار إلى أن طريق معرفة وجوب الإمامة هو الشرع. وهو ما أكد به الإمام الأشعريّ من« أن الإمامة شريعة من الشرائع يعلم جواز ورودها... بالعقل، ويعلم وجوبها بالسمع»[5].

ويظهر من خلال هذه الجدلية القائمة أن جوهر الخلاف في إشكالية طريق معرفة وجوب الإمامة بين الأشاعرة والإمامية يرجع إلى إشكاليّة ماهيّة اللطف. وبناء على هذا قالت الإمامية: يجب على الله نصب الإمام« من حيث كان في الرئاسة لطف وبُعْد للمكلفين عن مواقعة القبائح العقلية»[6]، وأيضا«لكون العبد معه، أقرب إلى الطاعة وأبعد عن المعصية»[7]. وأن «الإمامة لطف في إقامة الشرائع»[8].

من جانب آخر، نجد أن الأشاعرة ردت نظرية وجوب نصب الإمام على الله، من جهة اللطف حيث قررت بأن اللطف إنما يحصل«بإمام ظاهر قاهر يرجى ثوابه ويخشى عقابه، يدعو الناس إلى الطاعات ويزجرهم عن المعاصي بإقامة الحدود والقصاص وينتصف للمظلوم من الظالم، وأنتم(الإماميّة) لا توجبونه على الله، كما في هذا الزمان الذي نحن فيه، فالذي توجبونه وهو الإمام المعصوم المختفي ليس بلطف، إذ لا يتصور منه مع الإختفاء تقريب الناس إلى الصلاح وتبعيدهم عن الفساد والذي هو لطف لا توجبونه عليه وإلا لزم كونه تعالى في زماننا هذا تاركا للواجب وهو محال»[9].

وقد أجاب السيد شريف المرتضي الإماميّ من أن علة عدم ظهور الإمام المنتظر، إنما هي خوفٌ من بطس الظالمين وقتله؛ لأنه«متي ظهر أقدموا على قتله وسفكوا دمه فتبطل الحجة بمكان. وليس يجوز أن يكون المانع من الظهور إلا ما ذكرناه؛ لأن مجرد الخوف من الضرر، وما يجري مجرى الضرر، مما لا يبلغ إلى تلف النفس، ليس يجوز أن يكون مانعا؛ لأننا قد رأينا من الأئمة عليهم السلام، ممن تقدم عنه، ظهر مع جميع ذلك»[10].

من جهة أخرى ، إذا نظرنا إلى إشكالية وجوب الإمامة عند الأشاعرة والإماميّة، يظهر أن علة وجوب الإمامة عند الإماميّة تتجسَّدُ في حفظ الشريعة. وعلي هذا، يجب نصب الإمام على الله. بينما تظهر رؤية الأشاعرة من أن علة وجوبها إنما هي حفظ المصالح، وبالتالي يجب نصب الإمام على الأمة من جهة الفرض الكفائيّ.

إن أصل نظرية وجوبيّة نصب الإمامة بين الأشاعرة والإمامية قائمة على جدلية اللطف والتكليف وهى نظرية، دار النقاش بين الأصوليين والمتكلمين ولم تنته بعْدُ إلى نقطة توافق، كما أشرنا إليه سابقا . إلا إن الفارق الحقيقي بين تلك النظريتين -أعنى نظريّة اللطف والتكليف- سيكون حول مرتكزات اللطف والتكليف من حيث القدرات والمعطيات في مجال الدين والسياسة وتطور الإقتصاد والإجتماعية، و ترابط الأمة.

فإ ننا إذا نظرنا إلى معطيات اللطف نجد أنه يشكل الشراكة الكلية التي تبدأ من العناية الإلهيّة، والتي تظلل البشر دوما في الحفظ والتوجيه الرباني من خلال قيادة الإمام الرباني المجتهد في الأمة. ومن هذا المنطلق فإن نظرية الإماميّة، القائمة بأن الرسول لم يترك أمر الأمة من دون أن يعين خلفا للأمة، لا شك أنه أمر منطقي وبالتالي القول بعدم التعيين يترتب عليه عدم اتصال الامامة وهو اصل اشكالية فصل الدين عن الدولة وعلى هذا رجح ابن حزم عند مناقشته في طرق انعقاد الامامة طريقة التعهد من الامام السابق حيث قال: «أوّلها وأفضلها وأصحها، أن يعهد الإمام الميت إلى إنسان، يختاره إماما بعد موته، وسواء فعل في ذلك في صحته، أو في مرضه أوعند موته، إذ لا نص ولا إجماع على المنع من أحد هذه الوجوه، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي بكر، وكما فعل أبوبكر بعمر، وكما فعل سليمان بن عبد الملك بعمر بن عبد العزيز، وهذا هو الوجه الذى نختاره ونكرهه غيره، لما في هذا الوجه من إتصال الإمامة، وإنتظام أمر الإسلام وأهله، ورفع مايتخوف من الإختلاف والشغب، مما يتوقع في غيره من بقاء الأمة فوضى، ومن إنتثار الأمر وإرتفاع النفوس وحدوث الأطماع»[11].

عموما، فإن التنصيص من جانب الإماميّة، يعتبر جزءاً لا ينفصل عن ماهيّة اللطف الإلهي، بحيث إن نظريتهم قائمة بشكل أساس على أن الله سبحانه وتعالي هو الذي يتولى أمر الأمة ولم يفوض إليهم. بينما ترى الأشاعرة أن الخلافة من جملة المصالح المفوضة إلى الأمة. وبناء على هذا، يمكن أن يكون شكل ترتيب الخلافة من حيث الوجوب والنصب عند الأشاعرة والإماميّة على النحو التالي:

الأشاعرة: الإمامة← واجب←على الأمة← التكليف ←الإمام ← علة الوجوب← حفظ المصالح.

الإمامية: الإمامة← - واجب← على الله ← اللطف ←الإمام ←علة الوجوب ←حفظ الشريعة[12].

 

د. بدر الدين شيخ رشيد ابراهيم

...........................

[1] - ابن حزم، الفصل في الملل والأهواء والنحل، تحقيق، أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، ط2/1420/1999م، ج3/ص3.

[2] - البغدادي، أبي منصورعبد القاداربن الطاهر، كتاب أصول الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط3/1401ھ/1981م، ص271-272

[3] - ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة ، تحقيق، محمد أبو الفضل إيراهيم، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، مصر، ط2/1385ھ/ 1965 م، ج2/ص308

[4] - المصدر السابق، ج2/ص308.

[5] - البغدادي، كتاب أصول الدين، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، ط3/1401ھ/1981م، ص272.

[6] - ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة ، تحقيق، محمد أبو الفضل إيراهيم، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، مصر، ط2/1385ھ/1965م، ج2/308

[6] - المصدر السابق، ج2/ص308.

[7] - الإيجي، المواقف في علم الكلام، عالم الكتب بيروت، لبنان، (بدون رقم الطبعة والتاريخ)، ص397.

[8] - البغدادي، كتاب أصول الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط3/1401ھ/1981م، ص272

[9] - الجرجاني، شرح المواقففي علم الكلام، تحقيق عبد الرحمن عميرة، دار الجيل، لبنان، بيروت، ط1/1417ھ/ 1997م، ج3/ص 583-574.

[10] - الشريف المرتضى، علي بن الحسين الموسوي، الشافي في الإمامة، تحقيق، السيد عبد الزهراء الحسيني الخطيب، بمراجعة، السيد الفاضل الميلاني، مؤسسة الصادق للطباعة والنشر، طهران، إيران، ط1//1407ھ/1986م، ج1/ص147.

[11] - ابن حزم، الملل الفصل فى الملل والأهواء والنحل، تحقيق، أحمد شمس الدين، دارالكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط2/1999م ج3/ص 97

[12] - ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، تحقيق، محمد أبوا الفضل إبراهيم ، دار إحياء الكتب العلمية بيروت، لبنان، عيسى البابي الحلبي وشركاه،

ط2/1385ھ/1968م، ج1/ص307-308.

 

في المثقف اليوم