دراسات وبحوث

درو الإمامة في اصلاح الأمة

بدر الدين شيخ رشيد

مقاربات بين رؤيتي الخميني وسيد قطب (2)

وظّف كل من الخميني وسيد قطب مفهوم الإمامة كوسيلة لتغيير المجتمع، وذلك باعتبارها النموذج الأمثل الذي تحقق من ناحية السياسة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، فالخميني اعتبر الإيمان بالولاية، جزءا من مشروع اصلاح الأمة من خلال وجود حكومة إسلامية تنفذ الأحكام، هذا، كما يرى أن قيام الحكومة لا يمكن إلا الاعتقاد بولاية عليّ أى تعيين النبي صلى الله عليه وسلم عليا لأجل الحكومة[1]، بينما سيد قطب- انطلاقا من رؤية أهل السنة في الخلافة- نفى أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم، قد عيّن أحدا بعده، ومفاده نفي الدولة الدينية، غير أنه تبنى مفهوم الحاكمية، الذي هو من مصاديق الخلافة من حيث السلطة، باعتبارها النموذج الأمثل الذي تحقق في الأرض على مر التاريخ الإسلامي.

فالولاية عند الخميني هي وحدة متماسكة، تنطلق من مبدأ ولاية الله، وتأخذ ثلاثة مستويات:ولاية الرسول صلى اله عليه سلم، وولاية الائمة المعصومين عند الشيعة، وولاية الفقهاء. فولاية الأئمة عنده، فرع عن ولاية الرسول صلى الله عليه وسلم، بينما ولاية الفقهاء فرع عن ولاية الائمة، وعلى هذا، فالولاية لها مقامان: مقام تكويني معنوي، ومقام اعتباري حكومي، والجانب الأخير يتعلق بوظيفة الحكومة؛ لأنه لولا الحكومة لتعطلت الأحكام، وعلى هذا، فمن الضروري الاعتقاد بولاية عليّ لأجل إقامة الحكومة الإسلامية، وذلك لاستلزام تنفيذ الأحكام على تأسيس الحكومة، كما تتطلب تبيان حقيقة الأحكام الإسلامية[2].

استلزام تنفيذ الأحكام بتأسيس الحكومة عند الخميني:

الإمام الخميني يرى أن وجود القوانين المدونة وحدها لا تكفي لإصلاح المجتمع، فلابد من سلطة تنفذ الأحكام[3]، بينما سيد قطب يرى أن المجتمع الإسلامي، يعيش في جاهلية مثل الجاهلية الأولى في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم أو أشد، ولهذا، لا ينبغي الاشتغال بالتشريع قبل إيجاد مجتمع «مسلم ناشئ من الدينونة لله وحده ، مصمم على تنفيذ شريعته وحدها، ثم بعد ذلك-لا قبله- ينشأ فقه إسلامي مفصل»[4]، ذلك؛ لأن الفقه الإسلامي، حسب رؤية سيد قطب هو وليد الحركة الإسلامية، فهي التي تنشىء المجتمع الذي يقرر أن تكون الدينونة فيه لله وحده، ومن ثم ينشئ الفقه الإسلامي ويتحقق نموه من خلال حركته الواقعية لمواجهة حاجات الحياة الإسلامية[5]، ولهذا، يرى سيد قطب أنه«لم يكن قط فقه مستنبط من الأوراق الباردة ، بعيداً عن حرارة الحياة الواقعة»[6].

لكن، قد يخضع الاختلاف بينهما، كما سبق أن أشرنا، بسبب اختلاف تركيب المجتمع السني والشيعي من حيث الفكر السياسيّ؛ لأن رؤية الخميني في السلطة التي تنفذ الأحكام واضحة عنده، وهي سلطة الفقيه، بخلاف رؤية سيد قطب، فالسلطة التي تنفذ الأحكام تنبثق من الأمة، إلا أنها غرقى في الجاهليّة[7]، ومن ثم، تحتاج إلى جهود مضنية في بناء الأمة الإسلامية، مرة أخرى بعد ما خرب الاستعمار عامرها وجفف غامرها[8].

هذا، ويستدل الإمام الخميني بطريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنته على لزوم تشكيل الحكومة، من جانبين:

الأول: أنه صلى الله عليه وسلم قام بتشكيل حكومة، وقام بتطبيق القوانين وتثبيت أنظمة الإسلام، وإدارة المجتمع فأرسل الولاة إلى رؤساء القبائل، والملوك، وعقد المعاهدات والاتفاقات، وقاد الحروب، والتاريخ يشهد على ذلك.

الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم عيّن حاكما بعده، فهذا يعنى لزوم استمرار الحكومة بعد النبي صلى الله عليه وسلم[9].

حقيقة الأحكام الإسلامية:

قلنا في الفقرة السابقة، أن سيد قطب، لم ير ضرورة طلب الحكومة،  ولا تقنين القوانين قبل قيام المجتمع المسلم، وهو ينطلق من أن المجتمع الإسلامي اليوم يعيش في جاهلية، وعلى هذا، فتطبيق الأحكام قبل بناء المجتمع، توقع في فراغ؛لأن«الفقه الإسلامي وليد الحركة الإسلامية...فقد وجد الدين أولاً، ثم وجد الفقه،  وليس العكس هو الصحيح»[10]، بينما تجد فكرة الخميني على العكس من ذلك، حيث يرى أن تنفيد الأحكام من خلال الحكومة «يبني نظاما اجتماعيا شاملا، ويوفر هذا النظام الحقوق لكل ما يحتاجه البشر» [11].

وأهم تلك الأحكام التي هي ركائز قوام المجتمع الإسلامي عند الإمام الخميني ثلاثة، وهي: الأحكام المالية، أحكام الدفاع الوطني، أحكام الحقوق الجزائية.

أولا: الأحكام المالية:

استدل الإمام الخميني على قيام الحكومة على أحكام المال في الإسلام، وذلك؛ لأن الضرائب الخمس التي فرضها الإسلام تدل على لزوم تشكيل الحكومة، وتأمين المصارف الضرورية لدولة كبيرة، وليس لمجرد سد رمق الفقراء من السادة الهاشميين، وغيرهم، والخمس معمول به في الفقه الإمامي الشيعي، ويتناول الزراعة والتجارة والمصادر المخزونة في جوف الأرض أو الموجودة فوقها[12]، إضافة إلى ذلك، ذكر الإمام الخميني مواردا أخرى مثل: الجزية والخراج،  وهكذا، يتكون رصيد ضخم مالي، يمثل الزكاة، والصدقات، والتبرعات، والخمس، والجزية، والخراج[13].

أما سيد قطب، فتناول سياسة المال في الإسلام في كتابه:«العدالة الإجتماعية»، وأطال النفس فيها من جانب الملكية الفردية، وما يتعلق بالمجتمع، كالزكاة، والحقوق المتعلقة بالمال غير الزكاة المفروضة، فهو شرح الزكاة كقاعدة للتكافل الاجتماعي، الذي لا يحتاج إلى ضمانات النظام الربوي في أي جانب من جوانب الحياة، فذكر أن الزكاة حق مفروض تحصله الدولة المسلمة لتكفل كل من تقصر به وسائله الخاصة من الجماعة المسلمة[14].

وهناك مصادر أخرى غير الزكاة عند سيد قطب تخضع لمبدأ: المصالح المرسلة، ومبدأ سد الذرائع« عند تطبيقها في محيط أو سع يمنحان للإمام الذي ينفذ شريعة الله سلطة واسعة لتدارك كل المضار الاجتماعية بما في ذلك التوظيف في الأموال، رعاية للمصالح العام للأمة وتحقيق العدالة الاجتماعية»[15].

وليس الإشكال عند الخميني وسيد قطب في المال العام من جهة المصدر والمصرف، فهذا، من وظيفة الفقه، لكن الإشكال، كيفية توظيف المال العام الذي هو حق للمجتمع في الوقت الراهن، وفعلا، كلاهما قرّر أن المال العام هو من وظيفة الدولة، لكن الدولة غير موجودة حاليا، وهذا قدر يتفقّ عليه كلاهما فيه، إلا أن الإشكال من جهة الإمام الخميني يرتبط بين المال والحكومة «فإن الأحكام المالية للإسلام تدل على لزوم تشكيل الحكومة، ولايمكن تطبيقها إلا عن طريق إقامة النظام الإسلامي»[16].

لكن سيد قطب من جانبه، رسم سياسة المال من جهة التشريع والتوجيه، كمفهوم نظريّ فقط، فأشار إلى أن التشريع هدفه تكوين مجتمع صالح للرقي والنماء، حيث جعل الإسلام حق المال الزكاة، وهو قدر معلوم، كما جعل للإمام الحق في أن يأخذ بعد الزكاة ما يمنع به الضرر، وهو حق كحق الزكاة عند الحاجة إليه، موكول إلى مصلحة الأمة وعدالة الإمام، وقواعد النظام الإسلامي، أما من جهة التوجيه، فقد حبب إلى الناس أن ينسلخوا من كل مالهم وينفقوه كله في سبيل الله[17].

ثانيا: أحكام الدفاع الوطني:

الدفاع عن أراضي المسلمين هو مطلب إسلامي واجب، وله أحكام مقررة في في الفقه، فالإمام الخميني يرى أن الأحكام التي تتعلق بحفظ نظام الإسلام والدفاع عن جميع أراضي الأمة الإسلامية واستقلالها تدل على لزوم تشكيل الحكومة[18]، فالخميني وسيد قطب كلاهما يشتركان من حيث الرؤية على أن ما قام في العالم الإسلامي من أنظمة لا تمثل وجه الحقيقة للإسلام، فالخميني يلقي القصور على حكام المسلمين من حيث الإهمال وعدم الاستعداد وحشد ما أمكن من القوى المسلحة بشكل عام [19]،  وبالتالي عدم الاستفادة من نداء الله سبحانه وتعالى في قوله:﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾[20].

كذلك، شيّد سيد قطب أحكام الدفاع، لكن بصورة أوسع من رؤية الخميني، حيث تتجاوز حدود الدفاع عن الوطن، بل هي دفاع عن حرية الدعوة وإبلاغها لكل زاوية في الأرض بلا عقبة، وتأمين الفرد في كل زاوية من زوايا الأرض الذي يريد أن يختار الإسلام عقيدة، وسيادة لنظام فاضل وقانون فاضل، يأمن الناس كلهم في ظله، وبالتالي، فمن اختار عقيدته ومن لم يخترها سواء[21].

ثالثا: أحكام الحقوق الجنائية:

الأحكام الجنائية أحكام تتعلق بالدولة، وهي قدر متفق عليه بين الخميني وسيد قطب، غير أن الفرق بينهما هو تقييم حالة المجتمع الراهن وإجراء الحقوق الجنائية، فالخميني يرى ضرورة وجود سلطة الحكومة لاجراء أحكام الجنايات[22]، أما سيد قطب فالمسألة تختلف عن منظور الخميني، فهو يركز على اعداد المجتمع قبل كل شىء يقول: «إن الجهد الأصيل، والتضحيات النبيلة يجب أن تتجه أولاً إلى إقامة المجتمع الخير، وهو الذي يقوم على منهج الله قبل أن ينصرف الجهد والبذل والتضحية إلى إصلاحات جزئية، شخصية وفردية، عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»[23].

 

د. بدر الدين شيخ رشيد - الصومال

.........................

[1] - آية الله الخميني، الحكومة الإسلامية، (PDF) ،  )بدون تاريخ الطبع والناشر)، ص13.

[2] - المصدر السابق، ص13.

[3] - المصدر السابق، ص17.

[4] - سيد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق، القاهرة، مصر، ط2/1997م،  ج4/ص110.

[5] - المصدر السابق، ج4/ص318.

[6] - المصدر السابق، ج4/ص109.

[7] - المصدر السابق، ج3/ص189.

[8] - محمد الغزالي، كفاح دين ، دار النهضة،  القاهرة،  مصر، ط1/(بدون تاريخ الطبع)، ص119.

[9] - آية الله الخميني ، الحكومة الإسلامية، (PDF) ،  )بدون تاريخ الطبع والناشر)، ص16-17.

[10] - سيد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق، القاهرة، مصر، ط2/1997م،  ج4/ص109.

[11] - آية الله الخميني ، الحكومة الإسلامية، (PDF) ،  )بدون تاريخ الطبع والناشر)، ص20.

[12] - المصدر السابق، ص21.

[13] - المصدر السابق، ص22.

[14] - سيد قطب، العدالة الإجتماعية في الإسلام، دار الشروق ، القاهرة ، مصر، ط13/1993م، ص117-118.

[15] - المصدر السابق، 123.

[16] - آية الله الخميني، الحكومة الإسلامية(PDF)) بدون تاريخ الطبع والناشر)، ص23

[17] - سيد قطب، العدالة الإجتماعية في الإسلام، دار الشروق، القاهرة، مصر، ط13/1993م، ص87.

[18] - آية الله الخميني الحكومة الإسلامية، (PDF)) بدون تاريخ الطبع والناشر)، ص23

[19] - المصدر السابق، ص23.

[20] - سورة الأنفال، آية:60.

[21] - سيد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق القاهرة، مصر، ط2/1997م،  ج2/ص734.

[22] - آية الله الخميني ، الحكومة الإسلامية، (PDF) ، )بدون تاريخ الطبع والناشر)، ص24.

[23] - سيد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق، القاهرة، مصر، ط2/1997م، ج2/ص949

 

في المثقف اليوم