دراسات وبحوث

إشكالية ولاية الفقيه المطلقة ومناقشتها عند الإمام الخميني

بدر الدين شيخ رشيدإن إشكالية ولاية الفقيه المطلقة من الجهة النظرية ظهرت في عصر الشيخ النراقي(ت::1245 ﮪ)، عندما طرح ولاية الفقيه المطلقة، وأنها بمنزلة ولاية الرسول والأئمة، إلا ما استثناه الدليل، لكن عندما طرحها الشيخ النراقي، ظهرت ردود حول الأدلة من جهة الاستدلال،ومدى إفادتها بالإطلاق الذي تبناه الشيخ النراقي، فالشيخ الأنصاري(ت: 1281ﮪ)، وهو من معاصريه، لم يسلم تلك الاستدلالات ومدى إفادته بالإطلاق[1]، وقد استفحل هذا الجدل، بعد ما طبق الإمام الخميني  ولاية الفقيه المطلقة في أرض الواقع، هذا، وتعتمد ولاية الفقيه المطلقة على مباني عقلية ونقلية، وسنناقش من خلال تلك المباني رؤية الإمام الخمينيّ.

الأدلة العقلية في أثبات ولاية الفقيه عند الخميني:

استدل الإمام الخميني لثبوت ولاية الفقيه على أدلة عقلية مفادها ضرورة الحكومة في عصر الغيبة، وضرورة وجود الحكومة في عصر الغيبة، وهو أمر منطقيّ يقتضيه العقل، ويفنّد نظرية التقية والانتظار التي تربط الحكومة بظهور إمام الزمان، بناء على هذا، فإن اثبات ولاية الفقيه من حيث الأصل هو العنصر الأول في بحث إشكالية ولاية الفقيه المطلقة، فاثباتها يتركز حسب رؤية آية الله كاظم  الحائري على طريقين:

الطريق الأول: الأخذ بالقدر المتيقن من الخلاف، وهو كون الولاية العامة مترددة بين الفقيه وبين المتخصصين من الأمة في مجالات الدولة، فعند الشك في تحديد من له الولاية، يجب الاقتصار على القدر المتيقن في الخلاف، وهو كون الولاية العامة للفقيه، وذلك  لما يتصف بصفات المعرفة؛ كأحكام الإسلام والعدالة والكفاءة.

الطريق الثاني: التمسك بالروايات الواردة في هذا المجال، وسنعرض هذا الجانب عند مناقشتنا  للأدلة  النقلية في اثبات ولاية الفقيه، من خلال الروايات[2].

فالشيخ كاظم الحائرى ضعّف الاستدلال الأول؛ لأن قاعدة الأخذ بالقدر المتيقن إنما تتصور عندما يتردد الأمر بين دائرتين إحدهما ضيقة  تقع ضمن دائرة  أوسع منها، فموردنا في هذا الأمر لا ينطبق على هذه القاعدة؛ لأن دائرة المتخصصين في هذا الأمر لا تدخل ضمن دائرة الفقيه، بل الأمر في هذه المسألة يتردد بين فروض متباينة مختلفة، فكما يمكن أن  تكون الولاية العامة بيد الفقيه في كثير من المجالات كذلك، يمكن أن تكون الولاية العامة بيد الأكثرية مع اشتراط إشراف الفقيه على الجوانب الفقهية للقوانين لضمان انسجامها مع الشريعة الإسلامية.

كذلك، يلاحظ وجود مجالات عديدة لها خبراؤها المتخصصون، فكما يمكن أن تكون الولاية العامة للفقهاء مع اعتمادهم على أهل الخبرة في ملء فراغ هذه المجالات، أيضا يمكن أن تكون الولاية بيد الخبراء، على أن يرجعوا إلى الفقهاء بقدر ما يتصل بالفقيه من المسائل الشرعية[3].

وقد ردّ الشيخ عبد المنعم المهنا استدلال الشخ كاظم الحائري المتقدم من خمسة أوجه، وهي:

الأول: أنها مبنية على الاعتقاد بأن الفقيه مجرد مبدئ لرأي الفقه الإسلامي، ولكن هذه الفكرة خاطئة، لما أن الفقيه له مشاركة في تشخيص مصلحة الأمة.

الثاني: أن الأكثرية مدانة عقلا في كثير من الحالات، فما أكثر إتفاقها على باطل، كما أنها مدانة دينا في كثير من آيات القرآن والأحاديث الشريفة؛ إذن فلا ربط بين الأكثرية وبين إصابة الواقع، ليكون مجالا لاعتبار قولها دون قول الفقيه الخبير.

الثالث: أن اللجوء إلى الأكثرية يشل الحياة عن الحركة، فكيف يستقيم الحال إذا أُخِذَ رأي الأكثرية في كل  أمور الأمة.

الرابع: أن تشكيل مجلس يمثل الأكثرية يفقد الدليل الديني والعقلي على مشروعيته، ما دام الهدف منه الوقوف في وجه الفقيه، أو يكون بديلا عنها، فالعقل يرفض مجلسا كهذا، بحيث يكون عبثا بتكاليفه الباهضة وبأشخاصه المتفاوتين في الادراك والميول، والذين قد يضيّعون الكثير من مصالح الأمة نتيجة مناقشاتهم التي لا تنهي، بينما الفقيه المتدين الخبير بشؤون الحياة سياسيا واقتصاديا وعسكريا، يكون كالبلسم الشافي في شؤون الأمة، وعلى هذا الأساس، فالفرد في نظر العقل أرجح من مجلس الشورى وأكثريته.

الخامس: أن الأكثرية برجوعها إلى الفقيه كما هو المفروض، تقر بولاية الفقيه من دون أن تشعر؛ لأن عليها تنفيذ رأيه بعد أن أعطى الحكم الشرعي على موضوعه الذي عاشه الفقيه بعمق[4].

إلا أنه يظهر ضعف ردّ الشيخ عبد المنعم مهنّا على استدلال العقليّ المتقدم للشيح كاظم الحائري، فصحيح كما قال الشيخ عبد المنعم المهنّا أن الفقيه ليس مجرد مبدئ لرأي الفقه الإسلامي، بل يشارك في تشخيص فعاليات المجتمع، إلا أنه ليس بمسلّم أن الأكثرية مدانة عقلا ونقلا في كثير من الحالات،كما أن اللجوء إلى الأكثرية لا تشلّ حركة الحياة، بل هي عمدة النهضة، علاوة على ذلك، ليس هدف تشكيل مجلس يمثل الأكثرية الوقوف في وجه ولاية الفقيه، كما أن الأكثرية لا ترجع إلى الفقيه في جميع شؤون الأمة، بل ترجع إليه فقط، فيما يتصل بالمسائل الشرعيّة في شؤونها.

وعلى هذا الأساس، فرؤية الإمام الخميني على ضرورة الحكومة من حيث المبدأ أمر مسلم، إلا أنها لا تتوقف على الفقيه وحده؛ إذ الإنسان مدني الطبع  مفطور بالاجتماع والتعاون، وهي أمور عقلية بديهية؛ إذ«لم تخل حياة الإنسان في جميع مراحلها وأدوارها حتى في العصور الحجري وفي الغابات من حكومة ودُوَيْلةٌ....»[5]

ولهذا، أكد الشيخ محمد مهدي شمس الدين أن الحكومة ضرورة عقلانية، تشترك فيها الرؤية السياسية الإسلامية مع أكثر الرؤى الإنسانية في مجال بحث فلسفة الحكم وضرورة وجود الحكومة لحفظ النظام، فهي افراز طبيعي ضروري للبشر، ويظهر ذلك جلياً في الجدل الذي شهده الفكر السياسي الحديث مع الفلاسفة الغربيين ومنظري الفلسفة السياسية الأوروبية، أمثال جون لوك، وتوماس هوبز، وجان جاك روس، ومونتيسكيو وكانط وهيغل. فإننا نلاحظ افتراقاً من حيث تعليل منشأ هذه الضرورة، فيما لو كانت ناتجة عن الطبيعة التوترية التي تفرضها علاقات الاجتماع كما نحا جان جاك روسو، أو ناتجة عن الطبيعة العدوانية الفطرية في الإنسان كشخص عدواني بالطبع، كما ينحو هوبز، أو أنها ضرورة للارتقاء بالشخص إلى أعلى مرتبة تربوية كما ينزع هيغل، وبناء على هذا، فعناية الإسلام بمسألة الحكم ليست بدعاً من الأمر، وإنما هي استجابة للضرورة التي يقتضيها الاجتماع البشري بحد ذاته، وبقطع النظر عن وجود شريعة ونظام للحياة ينتظم حياة الإنسان من جميع وجوهها ومجالاتها كما هو الشأن في الإسلام[6].

وقد تكون نظرية الخميني منطقيّة، فيما إذا كان بحْثُ ضرورة الحكومة نتيجة لرد نظرية التقية والانتظار التي يؤمن بها الاخباريون الذين لا يرون بحث الحكومة في عصر الغيبة، بل يقولون:بوجوب  التقية والانتظار في عصر الغيبة إلى ظهور المهدي، وهذه النظرية، أي نظرية التقية والانتظار ساقطة الاعتبار؛ لأنها تشجع الاستبداد والتخلف والرجعية؛ إذن، فضرورة بحث الحكومة مطلب إنسانيّ، إلا أنها لا تتوقف كما قلنا بالفقيه بل هي مسؤولية تقع على عاتق الأمة كلها.

الأدلة النقلية في إثبات ولاية الفقيه عند الخميني:

استدل الإمام الخميني بعموميات روايات كثيرة وردت في شأن الفقهاء ومكانتهم في الإسلام على ولاية الفقيه المطلقة، إلا أن دلالتها محتملة، فيبطل الاستدلال بها، بناء على القاعدة المقررة لدي علماء الأصول:الدليل إذا تطرق  إليه بالاحتمال بطل استدلاله[7]، ولهذا، فالأدلة التي استدل بها الخميني غير تامة في الدلالة على المعنى الذي توخى إليه، وإليك عرض تلك الروايات التي استدل بها الخميني لولاية الفقيه، ومناقشتها:

أولا: الروايات التي استدل بها الخميني لولاية الفقيه:

استدل الخميني مثلا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:( اللهم ارحم خلفائي ثلاث مرات)، قيل: يارسول الله ومن خلفاؤك؟ قال: ( الذين يأتون بعدي يروون حديثي وسنتي فيعلمونها الناس بعدي)[8].

ويتوقف استدلال الخميني بها على جهتين: الأولى: المراد بالخلفاء، والثانية: دلالتها بولاية الفقيه، فالأولي، يرى الخميني أن المراد بالخلفاء هم الفقهاء  العدول لا رواة الحديث، أما الثانية، وهي دلالتها بولاية الفقيه، فيرى أن المراد بالخلافة هي الخلافة في جميع شؤون النبوة، وهي بمثابة جملة (علي خليفتي)[9].

غير أن دلالتها على الإطلاق غير تامة، كما حقق الشيخ كاظم الحائري؛ لأن الإطلاق الموجب للسريان والشمول لا يجري في المحمول، فمثلا، لو قيل: زيد عالم،لم يدل ذلك بالإطلاق علي كونه عالما بكل ما يحتمل به، ولو قيل: إن الطعام الفلاني نافع، لم يدل على كل المنافع المحتملة فيه، فليس حال المحمول حال الموضوع الذي يجرى فيه الإطلاق الموجب للسريان؛ فحينما يقال: النار حارة يكون مقتضى الإطلاق ثبوت الحرارة لكل أقسام النيران[10]، وعلى هذا الأساس، فالخلافة في الرواية تدخل في دائرة المحمول، فلا تثبت إلا الخلافة اجمالا، والقدر المتيقن منها هو الخلافة في التعليم والإرشاد[11].

وهناك عدد من مراجع علماء الشيعة الكبار ردّوا دلالتها على الإطلاق، كالشيخ الجواهري،  والسيد محسن حكيم، والسيد الخوئي، وغيرهم، فالشيخ الجواهري من علماء الشيعة المتأخرين، قال بعد إيراد هذا الحديث:«لادلالة فيه على النصب كما هو واضح»[12]، وقال السيد محسن حكيم: الظاهر في الاستخلاف هي رواية الحديث والسنة[13]، وقال السيد الخوئي في دلالته: الظاهر من ذلك خليفتهم في نقل الرواية والحديث، كما وردت في رواية أخرى بلفظ: ويروون حديثي وسنتي، لا أن المراد من الخلافة  التصرف في أموال الناس وأنفسهم، فهي خارجة عن الاستدلال في المقام[14].

وقد استدل الإمام الخميني أيضا على ولاية الفقيه بحديث:(الفقهاء حصون الإسلام كحصن المدينة)[15]، فالحديث من حيث السند، فيه علي بن أبي حمزة البطائني، وهو ضعيف كما نقله الخميني نفسه، بل أشار إلى أنه لم تثبت وثاقته مع تضعيف علماء الرجال وغيرهم إياه، إلا أنه  عمل بروايته اعتمادا على قول شيخ الطائفة الطوسي، وشهادته على عمل الشيعة بروايته، ولهذا، قال الخميني:لامنافاة بين ضعفه والعمل برواياته[16]، لكن يستشكل مع ضعف علي بن ابي حمزة البطائني، دلالة الرواية بولاية الفقيه؛ إذ لا تتم دلالتها بسبب نكتة عدم جريان الإطلاق  بالمحمول[17].

(العلماء ورثة الأنياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ولكن ورثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر)[18]، فهذه الرواية لا تتم دلالتها على الإطلاق، بسبب  نكتة عدم جريان الإطلاق  بالمحمول [19].

(الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا)، قيل يارسول الله وما دخولهم في الدنيا؟ قال: اتباع السلطان، فإذا فعلوا ذلك، فاحذروهم على دينكم)[20]، فهذه الرواية أيضا لا تتم دلالتها على الإطلاق، بسبب  نكتة عدم جريان الإطلاق  بالمحمول[21].

(مجارى الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله، الأمناء على حلاله وحرامه)[22].

فسياق الرواية دال، كما ذكر الشيخ الأصفهاني على أنها في خصوص الأئمة الاثنى عشر عليهم السلام[23]، بالإضافة إلى ضعف سندها، كما حقق الشيخ كاظم لحائري[24].

(العلماء حكام على الناس)[25].

فالرواية غير تامة من ناحية الدلالة، فضلا عن ضعف سندها،كما صرح بذلك الشيخ كاظم الحائري[26].

قوله عليه السلام في مقبوله ابن حنظلة (فليرضوا به حكما فإني قد جعلته عليكم حاكما)[27]، إلا أنه يستشكل بالدلالة على الإطلاق بما مضى من عدم جريان الإطلاق في المحمول، والقدر المتيقن في مورد الحديث في الدلالة هو فصل الخصومة والقضاء[28].

كما يخدش أيضا استدلال الخميني في الراوية بما ورد في صدرها بقوله: (ينظران إلى من كان منكم ممن روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكما، فإني قد جعلته عليكم حاكما)، فالرواية تفيد كما قال الشيخ محمد مهدي شمس الدين:أن هذا الجعل يختص بمن نظر واختار ورضي بالفقيه، دون من لم ينظر ولم يختر ولم يرض[29].

وكذلك استدل الخميني برواية: (وأما الحوادث الواقعة فأرجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتى عليكم وأنا حجة الله عليهم)[30]،حيث فسّرها بالحوادث الاجتماعية المستجدة والمشاكل التي تواجه المسلمين[31]، ويتوقف استدلاله بالرواية على أنها تفيد بالرجوع إلى رواة أهل الحديث في كل مجال يحتاج فيه إلى مراجعة الإمام للاسترشاد أو تحديد الموقف العلمي؛ لأنهم حجة الإمام على الناس، وهل هذا، إلا ولاية الفقيه[32].

لكن، هذا الاستدلال من جهة ثبوت الولاية الفعلية للفقيه غير مسلم، كما سبق بيانها في الروايات السابقة .

ثانيا: رد المنتظري لتلك الروايات:

هذا، وقد ردّ الأستاذ المنتظري دلالة الروايات على الولاية الفعليّة من خمسة أوجه:

الأول: ظاهر الرواية تفيد جعل الولاية الفعلية لجميع الفقهاء في عصر واحد وهو قابل للخدش من حيث الاستدلال[33]، إلا أن هذا الوجه ضعيف؛ لأن من يرى نصب ولاية الفقيه من خلال تلك الروايات لا يقول بالولاية الفعليه، بل غاية ما تفيد الروايات التنصيب الوصفي، وهي  تفيد معنى الترشيح للرئاسة في اصطلاح العصر.

الثاني:لعل المراد بالرجوع إلى التوقيع إشارة إلى حوادث خاصة وقعت في السؤال ولا يعلم ماهي، فيُشْكِلُ حملها  على الاستغراق.

الثالث: القدر المتيقن من الجواب هو الأحكام الشرعية للحوادث، فالأخذ بالإطلاق مع وجود القدر المتيقن وما يصلح للقرينة مشكل[34].

الرابع: الظاهر من الحجية هو المأمور ببيان أحكام الله والفقهاء نواب عنه في ذلك.

الخامس: يحتمل المراد بالحوادث على ثلاثة أشياء: الأحكام الكلية للحوادث الواقعة، أو فصل الخصومات والأمور الحسبية، أو الحوادث الأساسية المرتبطة بالدول كالجهاد وعلاقات الأمم وتدبير أمور البلاد، فعلى الأولين لا يرتبط الحديث بأمر الولاية الكبرى، وعلى الثالث يحتاج في حل الحوادث إلى إقامة دولة، فيصير مفاد الحديث وجوب الرجوع إلى الفقهاء وتقويتهم حتى يتمكوا من حل الحوادث، وإلا كان الرجوع إليهم لغوا، وتحصل لهم الولاية بالانتخاب لا بالنصب[35].

ثالثا: رد الخوانساري على روايات الخميني:

وهناك احتمالات أخرى ذكر الخوانساري، تُصْرِف دلالة هذه الروايات عن الأمور العامة وتقصر في المسائل الشرعية وأمور الحسبة.

الأول: أن السؤال غير معلوم، فلعل المراد من الحوادث هي الحوادث المعهودة بين الإمام والسائل، وعلى فرض عموميتها، فالمتيقن منها هي الفروع المتجددة، والأمر الراجع إلى الافتاء لا الأعم.

الثاني: أن أدنى المناسبة بين نفس الحوادث وحكمها كاف، للسؤال عن حكمها، فيكون الفقيه هو المرجع في الأحكام لا في نفس الحوادث.

الثالث:  أن الحجة تناسب الإبلاغ في الأحكام والرسالة على الأنام، كما في قوله تعالى:﴿قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾[36]، وقوله تعالى:﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾[37]، وما ورد في بعض الروايات: (إن الأرض لا تخلو من حجة)[38]؛لأن به يتم الحجة ويهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة، ولذا وصفهم: برواة الأحاديث الذين شأنهم التبليغ.

الرابع: أن راوي التوقيع هو محمد بن إسحاق، وهو ممن يروي عن الإمام المهدي المنتظر بواسطة محمد بن عثمان العمري أحد النواب الأربعة الخاصة في عصر الغيبة الصغرى، فسؤاله لا يكون ظاهرا في تكليف المسلمين في الغيبة الكبرى، حتى يكون الجواب ظاهرا في عموم الوقائع، بل يسأل عن المرجع في الفروع المتجددة في عصر الغيبة[39].

علاوة على ذلك، فإن اختصاص روايتى أبي خديجة بالقضاء واضح، ويضاف إلى ذلك ضعفهما أى الروايتين؛ لأن أبي خديجة له حالة اعوجاج عن طريق الحق، وهي زمن متابعة  الخطابية، وحالتا الاستقامة، وهما قبل الاعوجاج وبعده، ولم يعلم أنه رواهما في أي الحالات، وكيف كان الأمر، فالروايتان لا تدلان إلا على نفوذ قضاء المجتهد المطلق أو المتجزئ دون مطلق الأمور[40].

رابعا: استدلالات أخرى للخميني وما رد منها:

الأول: كذلك استدل الخميني بقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب:(اتقوا الحكومة إنما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين لنبي أو وصي نبي)[41]، إلا أن دلالتها غير تامة كما حقق بذلك الشيخ المنتظري، وذلك أن لفظ الحكومة يتردد بين معنى القضاء وبين مطلق الولاية التي من شؤون القضاء،  وبالتالي، رجح الشيخ المتنظري دلالتها بالقضاء[42].

الثاني: كذلك، استدل الخمينيّ بقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب:لشريح:( ياشريح قد جلست مجلسا لا يجلسه إلا نبي أو وصي نبي أو شقي)[43]، ووجه الدلالة إلى أن دائرة مفهوم وصي النبي فيها توسعة وتشمل الفقهاء[44]، لكن فيه نظر؛ لأن الفقيه لا يدخل في دائرة الوصيّ إلا من باب الأحكام الشرعية وإبلاغ الدعوة.

الثالث: كما استدل الخميني بهذه الروايات:(هم حجتى عليكم وأنا حجة الله)[45]، و(منزلة الفقيه في هذا الوقت كمنزلة الأنبياء في بني إسرائيل)[46]، و(العلماء حكام على  الناس)[47].

بيد أن الشيخ كاظم الحائري، بيّن أن تلك الروايات من حيث السند والدلالة غير كافية في اثبات ولاية الفقيه[48].

كذلك، قال الشخ الخوئي بعد مناقشة الروايات: إن الأخبار المستدل بها على الولاية المطلقة قاصرة السند والدلالة، ومورد ولاية الفقيه  في تلك الروايات مختصر بالفتوى والقضاء[49].

كما قال الشيخ الأنصاري بعد عرض الروايات:«لكن الانصاف بعد ملاحظة سياقها أو صدرها أو ذيلها يقتضي الجزم بأنها في مقام بيان وظيفتهم من حيث الأحكام الشرعية لا كونهم كالنبي والأئمة... فإقامة الدليل على وجوب طاعة الفقيه كالإمام عليه السلام- إلا ما أخرجه الدليل - دونه خرط القتاد»[50].

وبنفس هذا المنحى مال إليه آية الله الشيخ محمد جواد مغنية، حيث بيّن أن ولاية الفقهاء العدول تحصر بالفتوى والقضاء والأمور الحسبية، معللا ذلك«أن التفاوت في المنزلة يستدعي التفاوت في الآثار لا محالة، ومن هنا، كان للمعصوم الولاية على الكبير والصغير حتى على المجتهد العادل، ولا ولاية للمجتهد على البالغ الراشد، وما ذلك، إلا؛ لأن نسبة المجتهد إلى المعصوم تماماً، كنسبة القاصر إلى المجتهد العادل، ولهذا، اعتبر الشيخ محمد جواد مغنية أن مقياس إسلامية أي دولة هو إسلامية القوانين والنظام وليس هيمنة الفقهاء«[51].

عموما، الذي يلاحظ من كلمات المراجع الدينية للشيعة، إتتفاقها على أن الروايات التي استدل بها الخميني، لا تفيد بالمعنى الذي توخي إليه الخميني، وهي دلالتها بالولاية المطلقة، بل  غاية ما تقتصر دلالتها هي ولاية القضاء والافتاء.

 

د. بدر الدين شيخ رشيد ابراهيم

.............................

[1] -  الأنصاري، كتاب المكاسب، تحقيق، لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم،  الناشر،  المؤتمر العالمي بمناسبة الذكرى بالمؤية الثانية لميلاد الشيخ الأنصاري، قم، إيران، ط2/1420ھ، ج3/ص552.

[2] -  كاظم الحائري، أساس الحكومة الإسلامية، دار الولاية، قم، إيران، قم، إيران،  ط1/ 1979م، ص50-51.

[3] - المصدر السابق،ص51.

[4] - الشيخ عبد المنعم المهنا، الدولة الإسلامية بحث في ولاية الفقيه، (PDF)، (بدون تاريخ الطبع والناشر)، ص9-10.

[5] - حسين علي المنتظري، دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة، المركز العالمي، للدراسات الإسلامية، قم، إيران،  ط1/1408ھ، ج1/ص3.

[6] - هاني إدريس، الأمة والدولة في فكر الشيخ محمد مهدي شمس الدين،( العدد 30، السنة الثامنة، تاريخ النشر، 21-6-  2001م)، أنظر الرابط:

http://www.kalema.net/v1/?rpt=266&art

[7] - القاضي عبد الرب النبي  نكرى،  دستور العلماء .. جامع العلوم في إصطلاحات الفنون، دار الكتب العلمية،

بيروت ، لبنان، ط1/2000م،ص178.

[8] -  محمد باقر  المجلسي، بحار الأنوار،  تحقيق، محمد مهدي الموسوي،[ وآخرون]، مؤسسة الوفاء، بيروت، لبنان، ط2/1983م، ج2/ص144.

[9] - آية الله  الخميني، الحكومة الإسلامية، ص48.

[10] - كاظم الحائري،  أساس الحكومة الإسلامية، دار الولاية،  قم، إيران، ط1/ 1979م، ص51.

[11] - المصدر السابق، ص50-51.

[12] - محمد حسن  النجفي،  جواهر الكلام، تحقيق، الشيخ عباس القوجاني، دار الكتب الإسلامية، طهران، إيران،  ط3/1362ش، ج11/ص190.

[13] - السيد محسن الحكيم، نهج الفقاهة انتشارات 22 بهمن، قم، إيران،(بدون تاريخ الطبع)، ص299.

[14] - ابن علي أكبر بن هاشم  الخوئي،  مصباح الفقاهة، تحقيق، جواد القيومي الأصفهاني، مكتبة الداوري، قم، إيران،(بدون تاريخ الطبع)، ط1/ص291.

[15] - محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، تصحيح علي أكبر الففاري، دار الكتب الإسلامية طهران، إيران،  ط5/1363ش،(الشمسية)، ج1/ص38.

[16] - الخميني، كتاب البيع تحقيق، ونشر، مؤسسة تنظيم ونشر أثار الإمام الخميني، طهران، إيران، ط1/1421ھ، ج2/ص361.

[17] -  كاظم الحائري، أساس الحكومة الإسلامية، دار الولاية، قم، إيران،  ط1/ 1979م، ص52

[18] - أبو داود  سليمان بن الأشعث السجستاني،  سنن أبي داود، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، (بدون تاريخ الطبع)،  ج3/ص354.

[19] -  كاظم  الحائري، أساس الحكومة الإسلامية، دار الولاية قم، إيران، ط1/ 1979م، ص52.

[20] - علاء الدين علي بن حسام فوري،  كنز العمال تحقيق، بكري حياني، [وآخرون]، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، ط5/1981، ج10/ص187.

[21] -  كاظم  الحائري، أساس الحكومة الإسلامية، دار الولاية قم، إيران، ط1/ 1979م، ص52.

[22] - محمد باقر  المجلسي، بحار الأنوار،  تحقيق، محمد مهدي الموسوي،[ وآخرون]، مؤسسة الوفاء، بيروت، لبنان، ط2/1983م، ج2/ص80.

[23] - الشيخ محمد حسين  الأصفهاني، حاشية المكاسب، تحقيق،الشيخ عباس محمد آل سباع القطيفي، الناشر، أنوار الهدي، ط1/ 1418ھ، ص388.

[24] - كاظم  الحائري، أساس الحكومة الإسلامية، دار الولاية قم، إيران، ط1/ 1979م، ص52.

[25] - السيد حسين البروجردي، جامع أحاديث الشيعة،  المهر، قم، إيران، 1415ھ، ج25/ص18.

[26] - كاظم الحائري، أساس الحكومة الإسلامية، دار الولاية، قم، إيران،  ط1/ 1979م، ص52.

[27] - محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، تصحيح علي أكبر الففاري، دار الكتب الإسلامية، طهران، إيران، ط5/1363ش، ج1/ص412.

[28] - كاظم  الحائري، أساس الحكومة الإسلامية، دار الولاية، قم، إيران،  ط1/ 1979م، ص53.

[29] - محمد مهدي شمس الدين، نظام الحكم والإدارة في الإسلام، المؤسسة الجامعية للنشر، بيروت، لبنان، ط2/1991م، ص132.

[30] - علي بن الحسين  الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة،  تحقيق، علي أكبر الففاري، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، إيران، 1405ھ، ص484.

[31] - الخميني، الحكومة الأسلامية،ص63.

[32] - كاظم الحائري، أساس الحكومة الإسلامية، دار الولاية،  قم، إيران، ط1/1979م،ص53.

[33] -- المنتظري، دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة، المركز العالمي، للدراسات الإسلامية ، قم، إيران،  ط1/1408ھ، ج1/ص480.

[34] - المصدر السابق، ج1/ص481.

[35] - المصدر السابق، ج1/ص481.

[36] - سورة الأنعام، آية:149.

[37] - سورة الأنعام، آية: 83.

[38] -  محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، تصحيح علي أكبر الففاري، دار الكتب الإسلامية، طهران، إيران، ط5/1363ش، ج1/ص178.

[39] - موسى بن محمد الخوانساري، منبة الطالب: تقرير بحث النائيني، تحقيق ونشر مؤسسة النشر الإسلاميّ، قم، إيران، ط1/1418 ھ، ج2/ ص334 .

[40] - المصدر السابق، ج2/ص335.

[41] - محمد بن الحسن  الطوسي،  تهذيب الأحكام، تحقيق السيد حسن الموسوي الخرسان،  دار الكتب الإسلامية، طهران، إيران، ط4/1365، ج6/ص217.

[42] -  المنتظري، دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة، المركز العالمي، للدراسات الإسلامية، قم، إيران، ط1/1408ھ ، ج1/ص138.

[43] - محمد بن أحمد بن إدريس الحلي، السرائر، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، إيران، ط3/1410ھ، ج3/ص540.

[44] - الخميني،  الحكومة الإسلامية،ص60.

[45] -  الأنصاري، كتاب المكاسب، تحقيق، لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم ،الناشر، المؤتمر العالمي بمناسبة الذكرى بالمؤية الثانية لميلاد الشيخ الأنصاري، قم، إيران،  ط2/1420ھ، ج3/ص553.

[46] -  علي بن بابويه القمي، فقه الرضا، تحقيق، مؤسسة آل البيت  لإحياء التراث، قم، الناشر، المؤتمر العالمي للإمام  الرضا، مشهد، إيران، ط1/1406ھ، 338.

[47] - المصدر السابق، ص338.

[48] - كاظم الحائري،  أساس الحكومة الإسلامية، دار الولاية ، قم، إيران، ط1/1979م، ص54.-

[49] -  ابن علي أكبر بن هاشم الخوئي، كتاب الاجتهاد والتقليد، دار الأنصار للطباعة والنشر، قم، إيران، ط3/ 1410ھ، ص419.

[50] -  الأنصاري،  كتاب المكاسب، تحقيق، لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم ،الناشر، المؤتمر العالمي بمناسبة الذكرى بالمؤية الثانية لميلاد الشيخ الأنصاري، قم، إيران، ط2/1420ھ، ج3/ص553.

[51] - الشيخ شفيق شقير،  نظرية ولاية الفقيه وتداعياتها في الفكر السياسي الإيراني المعاصر،(تاريخ النشر،3-10-2004م)،  أنظر الرابط:

http://www.aljazeera.net/specialfiles/pages/b89d2831-2b46-462f-9b5c-776d1b0edd80

 

في المثقف اليوم