دراسات وبحوث

نماذج من حقوق الإنسان في الديانات السماوية.. دراسة مقارنة

حاتم السرويمقدمة: عندما نزلت الكتب السماوية كان هدفها الأول أن تهدي الخلق إلى الحق وأن تصل بالإنسان إلى بر السلامة والسعادة وأن تحفظ على الناس كل ما لهم من حقوق وأن تساوي بين الجميع لأنهم متساوون فعلاً في أصل خلقتهم وإنما يكون التفاوت بالعمل وليس بالنسب أو باللون.

ولم تأتِ الأديان لتعيق مسيرة الإنسانية ولا لتكبل الفرد أو تضع فوقه ما لا يطيق من الأحمال والقيود، وإنما جاءت لتنظم حياته وهل تقوم الحياة بغير نظام؟؟ ومن يعتقد أن الدين هو حفنة من المحظورات فقد حكم على نفسه بقلة المعرفة أو بغلبة الهوى.

وهذا البحث يبين ذلك في جلاءٍ وإيضاح من خلال بعض النماذج، وإلا فالكلام يطول جدًا عن حقوق الإنسان في الديانات السماوية ولذلك آثرنا الإيجاز مع ذكر الأدلة والأمثلة؛ فالدين جاء حتى يضمن للإنسان حقه في الدنيا ونجاته في الآخرة، ولمن لا يقر بهذا نقدم له ما يلي ونرجوه أن يقرأ بتروي وتركيز وأن يضع خلف ظهره كل آراءه المسبقة ولا يحكم إلا روح الإنصاف فلربما اقتنع بأن الحق هو روح الدين.

أولاً: حقوق الإنسان في اليهودية

تخبرنا أسفار العهد القديم عن وجود أنبياء مصلحين في بني إسرائيل وعلى رأسهم النبي موسى عليه السلام، وأنهم دعوا جميعًا إلى العدل والحق والاستقامة واهتموا بدور الضمير في صياغة الحقوق وأنه يجب إخضاع السلوك البشري لمنطق العقل ونداء الحكمة.

 وإن الحق الأول من حقوق الإنسان والذي يعرف بداهةً ولا يحتاج إلى أية نصوص قانونية لتؤكد عليه وإنما يعرف بداهةً هو الحق في الحياة ولذلك جاء النهي الواضح والصريح في الوصايا العشر للنبي موسى عن القتل وتم تشريع القصاص لتأخذ العدالة مجراها ويستوفي أهل القتيل حقهم من القاتل، ويجد هذا جزاءه العادل وأيضًا يحدث الردع لكل من تسول له نفسه أن يزهق روحًا  بريئةً خلقها الله.

ورغم كل هذا فقد بقيت حقوق الإنسان عند اليهود في ضعفٍ واضح وقصورٍ كبير وكان القوي منهم يأكل الضعيف؛ فالمعيار الأول عندهم لمفهوم القوة هو القسوة والله عندهم ليس رب العالمين الرحمن الرحيم وإنما هو رب إسرائيل الذي يحب الحرب وينتصر فيها وتعجبه مناظر الدماء.

يقول الدكتور عبد الرازق رحيم صلال الموحي في كتابه " حقوق الإنسان في الديانات السماوية" وكثيرًا ما تطالعنا أسفار اليهود بصفات (يهوه) المقترنة بألفاظ الحرب والقتال مثل: "الرب رجل حرب".. وإلههم فخورٌ بنفسه كجندي منتصر يحرص على التباهي بقدرته على إغراق المصريين في البحر ويأمر شعبه بارتكاب الوحشية ضد جميع من يحارب إسرائيل، ويضع يهوه نفسه في هرم الآلهة عند اليهود فهو ليس الإله الوحيد لكنه الإله الغيور والمحب الأعظم لشعبه. ( صـ 45 من كتاب حقوق الإنسان في الديانات السماوية.. د/ عبد الرزاق رحيم صلال الموحي.. تقديم د/ سعدون محمد الساموك.. طبعة دار المناهج.. سنة النشر غير مذكورة)

على أن هذه الصفات وما تحمله من الغضب والقسوة تغيرت فيما بعد ليصبح يهوه رب المساكين الذي لا يرضيه ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، وهنا بدأت تظهر بوادر حقوق الإنسان، وبنظرة تاريخية سريعة على تاريخ المملكة اليهودية بعد عهد سليمان نستطيع أن نفهم سر ذلك التغير.

إذ انقسمت المملكة اليهودية الموحدة بعد سليمان بن داود إلى مملكتين؛ إحداهما في الشمال وهي الأكثر مالا وذلك لعلاقاتها التجارية مع الفينيقيين سكان سواحل الشام القدامى، وهذه المملكة تسمى إسرائيل. والأخرى في الجنوب وهي فقيرة وبلا موارد وتسمى "يهوذا" وكان بعض أهلها ينظرون إلى الخالق عز وجل باعتباره إلهاً عادلاً رحيما لا يعجبه القهر والسلب، وانتشر الورع في سكان يهوذا، ومنهم ظهر بعض الأنبياء الذين أرسلهم الله إلى مملكة الشمال والتي انتشر فيها الظلم، ومن هؤلاء النبي عاموس الذي لم يكن إلا راعيًا للغنم ويجني ثمار الجميز وبكل تواضع يقول: "فأخذني الرب من وراء الضأن" وهذا الراعي ندد بالظلم الاجتماعي الواقع في مملكة الشمال فالغني يلهو ويمرح وينام على سرير من العاج، بينما الفقير يباع بزوجٍ من نعال، ثم أنه رأى حالة الانحلال الأخلاقي من الزنا والرشوة والكذب والغش وكيف يظن الأغنياء أن المطلوب منهم فقط تقديم الأموال والذبائح وكأن الله في حاجةٍ إليها أو كأنها رشوة يدفعونها للرب حتى يتغاضى؛ ولذلك تنبأ عاموس بخراب مملكة الشمال وهذا ما حدث بالفعل، ولا يفوتنا أن نذكر معنى كلمة عاموس وهو بالعربية يعني الثقل؛ فهو نبيٌ مثقل بآلام الفقراء والمظلومين الذين يعاملهم الأغنياء بكل احتقارٍ وقسوة.

وفي قصة إيليا النبي تظهر لنا بعض الملامح من حقوق الإنسان؛ إذ عمد رجال آخاب ملك إسرائيل إلى سرقة واغتصاب نتاج أرض كان يملكها رجل يسمى (نابوت اليزرعيلي) فجاء له النبي إيليا وأنذره غضب الله، ولم يتأثر الملك في البداية، وكانت له زوجة صيدونية من غير بني إسرائيل تعبد البعل وتعول كهنته وكثيرًا ما قاومت دعوة إيليا وهي التي دبرت مقتل نابوت ليحصل زوجها على كَرْمِه؛ وقد تنبأ النبي إيليا بمقتل آخاب وكذلك بمقتل زوجته وأن الكلاب ستلعق دمائها؛ ولذلك سلط الله على آخاب الملك رجلاً ثائرًا يسمى ياهو ولما وصل إلى بيت آخاب تطلعت إليه إيزابل وهي مكتحلة فلم يتأثر وإنما أمر أن يلقيها رجاله إلى أسفل فلقيت حتفها ولعقت الكلاب دمائها وتمت فيها نبوءة إيليا. (انظر قصة النبي إيليا في سفر الملوك الأول بالعهد القديم).

   وفي سفر الجامعة المنسوب إلى سليمان عليه السلام نقرأ ما يلي: "إِنْ رَأَيْتَ ظُلْمَ الْفَقِيرِ وَنَزْعَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ فِي الْبِلاَدِ، فَلاَ تَرْتَعْ مِنَ الأَمْرِ، لأَنَّ فَوْقَ الْعَالِي عَالِيًا يُلاَحِظُ، وَالأَعْلَى فَوْقَهُمَا." الإصحاح الخامس من سفر الجامعة آية 8. (يرى البعض أن آية تقال في حق عبارات القرآن، أما عبارات العهد القديم فيقال للواحدة منها عدد)

ومع كل ما سبق فإنه توجد في التوراة والتلمود أحكامٌ متناقضة هنا وهناك فنجد بعض إصحاحات التوراة لا تتحدث فقط عن السلب والنهب وإنما تأمر بهما أيضًا! وعلى سبيل المثال نجد الكثير من القتل والنهب قد ارتكبا على أيدي اليهود تجاه الكنعانيين في سفر يشوع وهو يؤرخ لدخولهم إلى فلسطين بعد موسى عليه السلام، كما أن بعض النصوص تأمر بانتهاك حقوق المحارب المستسلم مع أنه رفع الراية البيضاء، وفي التلمود تأكيد على هذا المعنى حيث يأمر بقتل الأسرى الذكور واستبقاء الفتيات وقتل النسوة المتزوجات.

وفي المزمور الشهير رقم 137 من مزامير داود والذي تمت كتابته في السبي البابلي أي بعد الملك داود بقرون ومع ذلك وضع في مزامير ينسب جلها إلى داود الذي لا يراه اليهود نبياً بل ملكًا مقاتلاً عرض قائده الهمام أوريا الحيثي للقتل حتى يحصل على زوجته بتشبع التي رآها من فوق السطح وهي عارية تستحم! والتي هي أم سليمان، نرى في هذا المزمور عجبًا عجابا؛ إذ يقول: " على أنهار بابل هناك جلسنا. بكينا أيضًا عندما تذكرنا صهيون. على الصفصاف في وسطها علقنا أعوادنا. لأنه هناك سألنا الذين سبونا ترنيمة. ومعذبونا سألونا فرحًا قائلين: رنموا لنا من ترنيمات صهيون، كيف نرنم ترنيمة الرب في أرضٍ غريبة، إن نسيتك يا أورشليم تنسني يميني، ليلتصق لساني بحنكي إن لم أذكرك، إن لم أفضل أورشليم على أعظم فرحي، اذكر يارب لبني أدوم يوم أورشليم القائلين هُدُّوا هُدُّوا حتى إلى أساسها. يا بنت بابل المخربة طوبى لمن يجازيك جزائك الذي جازيتِنا. طوبى لمن يمسك أطفالك ويضرب بهم الصخرة"!.. فوصل حنق اليهود وغلهم حتى إلى الأطفال؛ فهم يتمنون أن يأتي من يضرب أطفال بابل بالصخر.

وإلى جانب كل هذه الأحكام هناك أحكامٌ أخرى تدعو إلى البر والرحمة والرأفة، ومنح الأجير أجرته حتى لو كان من الدخلاء، وبالجملة يجب على اليهودي أن يدفع كل ما عليه من الاستحقاقات وهذا عملاً بما ورد في سفر التثنية وهو من الأسفار الخمسة الأولى في التوراة والتي نسبت لموسى الكليم عليه السلام؛ حيق تقول التثنية: " لا تهضم أجرة فقير أو مسكين، من إخوتك أو من الدخلاء الذين في أرضك بل ادفع له أجرته في يوم، لا تغب عليها الشمس؛ لأنه فقير، لا ترتهن ثوب أرملة، إذا حصدت حصادًا لك في حقلك فنسيت حزمةً في الحقل فلا ترجع لتأخذها؛ إنها تكون للغريب واليتيم والأرملة، وإذا فرطت زيتونك فلا تراجع ما بقي في الأغصان، وإذا قطفت كَرْمَك فلا تراجع ما بقي منه " ومعنى لا تغب عليها الشمس يعني اجتهد ألا تغرب الشمس إلا وقد دفعت للأجير أجرته.

فالنص هنا يعلن بوضوح أحد أهم حقوق الإنسان وهو حقه في مقابل مادي عادل على عمله وبصرف النظر عن الإنتماء لليهود أو لغيرهم ممن دخلوا أرضهم وليسوا منهم.

وهناك نصٌ آخر نلمح منه شيئًا من حقوق الإنسان وهو يلوم الغني والمقتدر اللذين يضران بالفقير ويسيئان استعمال ما لديهما من سلطة فهذا عاموس النبي يصب جام غضبه على من باعوا البارَّ بالمال والفقير بِنَعْلَيْن.

ومع هذا بقيت العدالة عند اليهود على نحوٍ كبير من الضعف والقصور لأنها عدالة ذاتية لا يمنحها اليهود إلا لبني جلدتهم ويحلل باروخ اسبينوزا وهو أحد فلاسفة اليهود المعاصرين هذا المنحى في الشريعة اليهودية فيقول: " إن شعائر الديانة اليهودية لم تكن تختلف عن شعائر باقي الديانات فحسب بل كانت مناقضة لها أشد التناقض، وكان لابد أن يتولد عن العار الذي يلحقه اليهود بالأجنبي كل يوم كراهية شديدة لهذا الأجنبي، كراهية كانت أشد تملكًا لقلوبهم من أية عاطفة أخرى، وقد تولدت عن الإيمان والتقوى، بل كانت هي نفسها تعد من التقوى، وتلك أشد أنواع الكراهية وأبعثها على التأمل، وكان لابد أن تقابلها كراهية متبادلة تكنها الشعوب الأخرى بدورها نحو العبرانيين.. ثم ينتهي اسبينوزا إلى القول بأن العبرانيين يرون بأمر دينهم أنه ليس عليهم أي واجب مقدس تجاه الشعوب الأخرى، وهذا هو نفس ما أوضحه القرآن قبل اسبينوزا بقرون إذ يقول: " ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤدهِ إليك ومنهم من إن تأمنه بدينارٍ لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما* ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون". آية 75 من سورة آل عمران.

وفي تفسيره للآية الكريمة يقول ابن جرير الطبري: "فإن قال قائل: وما وجه إخبار الله عز وجل بذلك نبيَّه صلى الله عليه وسلم، وقد علمتَ أنّ الناس لم يزالوا كذلك: منهم المؤدِّي أمانته والخائنُها؟ يقال: إنما أراد جل وعز بإخباره المؤمنين خبرَهم – على ما بينه في كتابه بهذه الآيات – تحذيرَهم أن يأتمنوهم على أموالهم، وتخويفهم الاغترارَ بهم، لاستحلال كثير منهم أموالَ المؤمنين. فتأويل الكلام: ومن أهل الكتاب الذي إنْ تأمنه، يا محمد، على عظيمٍ من المال كثير، يؤدِّه إليك ولا يَخُونُك فيه، ومنهم الذي إن تأمنه على دينار يَخُنْكَ فيه فلا يؤدِّه إليك، إلا أن تلح عليه بالتقاضي والمطالبة.

وذكر الطبري في تفسيره أيضًا أن بعض المسلمين فعلوا كما كان اليهود يفعلون فكانوا يصيبون بعض أموال أهل الكتاب ويقولون ما علينا من ذلك بأس فسأل أحدهم عبد الله بن عباس عن هذا الأمر وقال إنا نصيب من  أموال أهل الذمة الشاة والدجاجة! فقال ابن عباس: وما تقولون؟ قال: نقول ليس علينا من بأس! فقال إنكم تقولون مثلهم "ليس علينا في الأميين سبيل" ولكنهم ما أدوا الجزية لا تحل لكم أموالهم إلا بطيب نفسٍ منهم.

ويمكن القول في النهاية أن حقوق الإنسان عند اليهود في كتبهم المقدسة لم تظهر على نحوٍ كامل فيما عدا حق التملك والحياة وقد غابت عن هذه الكتب إلا قليلا قيمة المساواة العامة والإخاء البشري، وظلوا يعتقدون أن الله ربهم فقط، حتى جاء بعض الأنبياء ومنهم اشعياء وعاموس وأوضحوا أن الله رب العالمين، وأنه يحب الناس جميعًا ويرحمهم ولا يعطي المزية لليهود على غيرهم.

وأما عن المرأة عند اليهود باعتبار أن حقوق المرأة هي جانبٌ أصيل من حقوق الإنسان فكما هو معروف تعتبر اليهودية المرأة كائنًا أقل من الرجل؛ فاليهودي كل صباح يصلي فيقول: "الحمد لله الذي خلقني رجلاً ولم يخلقني امرأة"! أما المرأة اليهودية فتقول: "الحمد لله الذي خلقني امرأة ولم يخلقني حيوانا" ومن المعروف أنها إذا جائها الحيض أصبحت عاراً يجب التنزه عنه والابتعاد الكامل ولا يحل أن تمس ولدها! وإذا مات عنها زوجها يرثها أخوه فورًا فإذا أنجب منها فالولد ينسب إلى الأخ المتوفى لا إليه! والمرأة هي أصل الشر ومنبع الخطيئة؛ ذلك أن حواء هي التي أغوت آدم حتى يأكل من الشجرة كما ورد في سفر التكوين ولا يزال بعض المسلمين يعتقدون بهذا الخبر مع أنه من الإسرائيليات وليس عليه دليلٌ قاطع من آيات القرآن الكريم أو الأحاديث النبوية بل إن إنها يجعلان المسئولية مشتركة بين آدم وحواء وتفصيل هذا لا يسعنا الآن، فنذكره في موضعٍ آخر إن شاء الله.

وأخيرًا نقتبس من كلام الدكتور عبد الرزاق رحيم صلال الموحي هذا المقطع ففيه خلاصة موقف اليهودية من حقوق الإنسان: " ومع وجود كافة التشريعات المنظمة للحقوق والواجبات في التوراة إلا أنها لم تصل بالإسرائيليين إلى الآفاق السامية، ولم تقم لهم مجتمع العدل الإنساني ولم تسمو بالإنسان إلى التحرر من العبودية المادية لذلك تعرض الإنسان في مجتمعهم إلى كثيرٍ من المحن والصعاب". (صـ 50 من المرجع السابق ذكره).

ثانيًا: حقوق الإنسان في المسيحية:

جاء المسيح بدعوته المثالية إلى بني إسرائيل الذين طغت عليهم المادية وحب الدنيا والمال وفيها يحثهم على التسامح والمحبة والتواضع والمساواة ونبذ التعصب الديني الذي كرسه الأحبار والكهنة والاهتمام بالفقراء والمساكين والأطفال والأخذ بيد العصاة على سبيل التوبة بالكلمة الصالحة والنبرة الحانية وليس بازدرائهم فلربما كان الخاطئ عند الله أقرب من الكاهن المرائي والعالم الذي يطلب الدنيا بعلمه، وكل الناس يخطئون فلا داعي لسحق العصاة باسم الطهر لأنه من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر.

وحمل المسيح عيسى عليه السلام إلى الإنسانية دعوة أخلاقية كبرى تؤكد على جميع الحقوق التي تصون الكرامة الشخصية المعتبرة؛ فالإنسان عامةً يستحق الاحترام والتقدير ولا يمارس عليه السلطة المطلقة إلا الله وحده.

ومن المعالم الواضحة لحقوق الإنسان في دعوة المسيح تحريمه للربا وأكثر من ذلك أن يعطي الإنسان ماله وهو لا يرجو أن يسترده؛ فنقرأ في إنجيل لوقا وتحديدًا في الإصحاح السادس على لسان السيد المسيح: " وإن أقرضتم الذين ترجون أن تستردوا منهم فأي فضلٍ لكم؟! فإن الخطاة أيضًا يقرضون الخطاة لكي يستردوا منهم المثل* بل أحبوا أعدائكم وأحسنوا وأقرضوا وأنتم لا ترجون شيئًا فيكون أجركم عظيمًا وتكونوا بنو العلي فإنه منعمٌ على غير الشاكرين والأشرار" عدد: 35،34.

ودعت المسيحية إلى عدم التكثر من المال واكتنازه وإنما الطريق الأمثل هو العطاء الدائم والعطف على الفقير، والمرء في المجتمع إنما يتم تقييمه بعمله ومجهوده وبمقدار ما يكون شخصًا نافعًا تجيء له الفرص ويضمن المساواة.

وبشكلٍ عام يمكن القول أن عظة المسيح على الجبل كانت ولا تزال هي الدستور الأول عند المسيحيين لضمان حقوق الإنسان ونذكر بعضًا مما فيه وذلك من الإصحاح الخامس في إنجيل متى الذي يقول: " ولما رأى الجموع صعد إلى الجبل. فلما جلس تقدم إليه تلاميذه. ففتح فاه وعلمهم قائلا. طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السماوات. طوبى للحزانى لأنهم يتعزون. طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض. طوبى للجياع والعطاش إلى البر لأنهم يشبعون. طوبى للرحماء لأنهم يُرْحَمُون. طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله. طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يُدْعَوْن. طوبى للمطرودين من أجل البر لأن لهم ملكوت السموات. طوبى لكم إذا عيروكم وطردوكم وقالوا عليكم كلَّ كلمةٍ شريرة من أجلي كاذبين. افرحوا وتهللوا لأن أجركم عظيمٌ في السماوات. فإنهم هكذا طردوا الأنبياء الذين قبلكم.

أنتم ملح الأرض. ولكن إن فسد الملح فبماذا يُمَلَّح. لا يصلحُ بعدُ لشيء. إلا لأن يُطرَحَ خارجًا ويُداس من الناس. أنتم نور العالم. لا يمكن أن تخفى مدينة موضوعة على جبل. ولا يوقدون سراجًا ويضعونه تحت المكيال بل على المنارة فيضيء لجميع الذين في البيت. فليضئ نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السماوات."

ويتكلم المسيح عن القتل فيحرمه ويحرم ما هو أقل منه وهو الغضب ويحرم السباب أيضًا فيقول: " قد سمعتم أنه قيل للقدماء لا تقتل. ومن قتل يكون مستوجب الحكم. وأما أنا فأقول لكم إن كل من يغضب على أخيه باطلاً يكون مستوجب الحكم. ومن قال لأخيه رقا يكون مستوجب المجمع. ومن قال يا أحمق يكون مستوجب نار جهنم. فإن قدَّمتَ قربانك إلى المذبح وهناك تذكرت أن لأخيك شيئًا عليك فاترك هناك قربانك قدام المذبح واذهب أولاً اصطلح مع أخيك. وحينئذِ تعالَ وقدِّم قربانك. كن مراضيًا لخصمك سريعًا مادمت معه في الطريق. لئلا يسلمك الخصم إلى القاضي ويسلمك القاضي إلى الشرطي قتلقى في السجن. الحق أقول لك لا تخرج من هناك حتى توفيَ الفلس الأخير.

قد سمعتم أنه قيل للقدماء لا تزنِ. وأما أنا فأقول لكم إن كل من ينظر إلى امرأةٍ ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه. فإن كانت عينك اليمنى تُعْثِرُكَ فاقلعها وألقها عنك. لأنه خيرٌ لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يلقى جسدك كله في جهنم. وإن كانت يدك اليمنى تعثرك فاقلعها وألقها عنك. لأنه خيرٌ لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يلقى جسدك كله في جهنم.

ويقول: من سألك فأعطه. ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده.

ثالثًا: حقوق الإنسان في الإسلام

الحقوق هي كما نعرف جمع حق وكلمة حق يأتي ذكرها في القرآن على معنى الشيء الثابت الذي لا ريب فيه وفي سورة العصر يمدح الله المؤمنين لأنهم يوصي بعضهم بعضًا بقول الحق فيقول جل ذكره " والعصر. إن الإنسان لفي خسر. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات. وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر " فالبشرية كلها في خسران مبين إلا الذين آمنوا بالله ورسله وأتبعوا هذا التصديق بالعمل الصالح ثم أوصى بعضهم بعضًا بأداء الطاعات وترك المحرمات وهذا هو الحق، وبين ذلك في تفسيره الإمام ابن كثير، وكان الشافعي رحمه الله يقول: لو تأمل الناس في هذه الصورة لوسعتهم.

ويأتي الحق بمعنى كل نصيب يجب أداؤه سواءً للفرد أو للجماعة كما أن الحق هو من أسماء الله الحسنى.

وإذا قلنا أن الحق هو النصيب الواجب آداؤه؛ فإن من أهم الحقوق التي أقرها الإسلام مبدأ المساواة الكاملة بين البشر، "ويذكر الدكتور عمر رولف – وهو بارون من النمسا أسلم باختياره- في هذا المضمار أن من أهم ما استرعى انتباهه في الإسلام روح الأخوة الشاملة بين عباد الله جميعًا مهما تباينت سلالاتهم أو طوائفهم أو لغاتهم.

ويوضح مستر  Mellmaالهولندي هذا الموضوع فيقول: بالإضافة إلى الوحدانية والصلة المباشرة بين الله والخلق والتسامح الإسلامي؛ فقد أدهشني مبدأ الأخوة في الإسلام، هذه الأخوة التي تشمل كل البشر بغير اعتبار للون أو جنس أو عقيدة، وينفرد الإسلام بين كل الأديان بأنه الوحيد الذي طبق هذا المبدأ عمليًا." (كتاب "الإسلام" للدكتور أحمد شلبي أستاذ ورئيس قسم التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية الأسبق بكلية دار العلوم/ جامعة القاهرة..الطبعة الثامنة سنة 1985 صـ 295

ونقتبس أيضًا من كتاب (توجيهات نبوية للشيخ عبد المتعال الصعيدي) ما يلي:

روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال:

" خطب النبي صلى الله عليه وسلم الناس يوم فتح مكة فقال: يا أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم عُبِّيَّة الجاهلية وتعاظمها بآبائها؛ فالناس رجلان: برٌّ تقيٌ كريمٌ على الله، وفاجرٌ شقيٌ هينٌ على الله، والناس بنو آدم، وخلق الله آدم من تراب، قال الله تعالى: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى..." الآية ".. رواه الترمذي.

لما افتتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة وجاء وقت الصلاة أمر بلال بن رباح مؤذنه فصعد على الكعبة ونادى بالأذان، وكان بلال رقيقًا لبعض أشراف قريش قبل الإسلام؛ فعظم على أشرافها أن يصعد مثله على الكعبة؛ فجمعهم النبي وخطب فيهم هذه الخطبة التي أعلن فيها حق التسوية بين الناس وحق الإخاء بينهم، وكان إعلان هذا قبل إعلان أهل أوروبا له في عصرنا بمئات السنين. وشتان بين إعلان الإسلام لهذا وإعلانهم له كما سيجيء. وكانت قريش والعرب جميعًا قبل الإسلام يتفاخرون بالأنساب والأحساب في أشعارهم وخطبهم، ويقسمون الأفراد إلى طبقتين: طبقة الأشراف من ذوي الأنساب العظيمة بينهم، وطبقة العامة ممن لا أنساب لهم، ممن يقومون بخدمتهم وقضاء مصالحهم من جمهور الناس، ومنهم طائفة الأرقاء التي كانوا يعاملونها كما يعامل الحيوان الأعجم.

ثم يقول الشيخ عبد المتعال رحمه الله: فأعلن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الخطبة إلغاء نظام الطبقات في جميع أقطار الأرض، وبين جميع الأفراد والشعوب، ولم ينظر فيه إلى العرب والمسلمين وحدهم، وهذا حينما آثر هذا النداء " يا أيها الناس " على نداء – يا أيها العرب أو المسلمون- ثم جعل الناس جميعًا بني آدم ليكونوا إخوانًا متساوين، ثم جاءت الآية السابقة في الحديث فكانت صريحة كل الصراحة في أن هذا هو حق لكل الشعوب على اختلاف أجناسهم وأديانهم، لا حق العرب أو المسلمين وحدهم (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا) أي لا لتناكروا ويتعالى بعضكم على بعض؛ فهذا حق لكل الشعوب في الدنيا وحسابهم في الآخرة على الله تعالى؛ فلا يصح أن نفرق بينهم في دنيانا ونقسمهم شعوبًا راقية بأنسابها لها حق السيادة في الأرض، وشعوبًا منحطة بأنسابها لا حق لها في سيادتها على نفسها بل يجب أن تكون السيادة عليها للشعوب الراقية. فلا ميزة في الإسلام لفردٍ على فرد ولا لشعبٍ على شعب بالنظر إلى الأنساب، لأنه لا نسب عنده إلا النسب إلى آدم عليه السلام، وجميع بني الإنسان فيه سواء، إنما يمتاز الفرد على الفرد والشعب على الشعب في الإسلام بالعمل... والمسلمون عنده خير أمة أخرجت للناس لأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.. فإذا لم يعملوا بهذا وعمل به غيرهم فهو خيرٌ منهم.( انظر صـ 27-31 من كتاب توجيهات نبوية الطبعة الثانية/ مكتبة الآداب)

ومن حقوق الإنسان التي يقرها الإسلام ويدعو إلى حمايتها (الحق في الملكية الفردية):

فالإسلام يقر حق الفرد في ملكيته للمال الذي اكتسبه بالطرق المشروعة، والمال في الإسلام هو مال الله ومع ذلك فقد نسبه عز وجل إلى الناس فقال في سورة التغابن، آية 15: "إنما أموالكم وأولادكم فتنة" وعلى ذلك تكون ملكية المال أصلًا لله سبحانه وإنما نسب المال إلى الناس باعتباره ملك انتفاع، ونضرب لذلك مثلاً ولله المثل الأعلى: فلو أن رجلاً يملك قطعة أرض وأعطاها لبعض الناس حتى يزرعوا فيها ويأكلوا من خيرها فهل الأرض لهم أم لصاحبها الذي تكرم ومنحهم إياها لينتفعوا منها؟ وهكذا فإن المال هو لله وإنما أعطاه للإنسان على سبيل الإعارة فإذا أكل منه بالحلال وأعطى الفقير حقه فجزاؤه عند الله والله لا يضيع أجر المحسنين؛ أما إذا تكبر به على عباد الله وآثر الشح والبخل فإن الله قادر على استرداد هذا المال مثلما كان قادرًا على منحه.

ورغم دعوة الإسلام إلى التكافل الاجتماعي وجعله الزكاة حقًا واجبًا على الأغنياء للفقراء وهي الركن الثالث من أركانه الخمسة إلا أنه يقر التفاوت في الغنى بقدر الجهد الذي يبذله كل مسلم؛ فمن الذي يستطيع أن يحرم الإنسان من ثمار عقله ومجهوده حتى لو كان الشعار المرفوع هو منع الاستغلال؛ وهل منع استغلال الفقراء يكون باستغلال الأغنياء؟ لقد قامت الزكاة في الإسلام على منهاج القصد والتوازن فهي تمنح الفقراء ولا تقضي على أموال أصحاب الغنى لأنها لو فعلت ذلك فهي لا تحل مشكلة الفقر بل تزيد أعداد الفقراء، والإسلام يقول: كل ما شئت والبس ما شئت ما خطتك اثنتان سَرَفٌ ومخيلة.

ومنح الإسلام للناس حرية التدين ففي وقتٍ قامت فيه الفتن المزلزلة بين أتباع اليهود والمسيحيين بل وبين أصحاب المذهب الملكي والمذهب المونوفيزيتي أو القائلين بالطبيعة الواحدة للمسيح وهم أهل ملة واحده جاء الإسلام ليقول: "لكم دينكم وليَ دين" وقال أيضًا: لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي؛ فالإكراه لا يصنع الإيمان وإنما يصنع النفاق ولا يصلح في العقيدة إلا يقين المؤمن القلبي الخالص، وعندما دخل الإسلام إلى مصر على سبيل المثال أعطى ألقائلين بالطبيعة الواحدة للمسيح كافة حرياتهم وأمنهم على أموالهم وكنائسهم.

وأخيرًا لا يفرق الإسلام بين الرجل والمرأة فالرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه أبو داود يقول "إنما النساء شقائق الرجال" ومال المرأة للمرأة فلها بذلك ذمتها المالية المستقلة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتاجر في مال زوجته أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، كما ورد عن رسول الله أنه قال في حق النساء: " ما أكرمهن إلا كريم وما أهانهن إلا لئيم" ولنا في تفصيل حقوق المرأة في الإسلام بحث نرجو أن يكون وافيًا وأن يخرج قريبًا إلى النور.

وعمومًا حظيت حقوق الإنسان في الإسلام بما لا مزيد عليه من الصيانة والرعاية ويكفي أن نعرف ضرورات الشريعة الخمسة وهي حفظ النفس والنسل والمال والعقل والدين، ونختم بقوله تعالى " ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثيرٍ ممن خلقنا تفضيلا" آية 70 من سورة الإسراء، وصدق الله العلي العظيم.

 

حاتم السروي

 

 

في المثقف اليوم