دراسات وبحوث

النبوة المحمدية وتأسيس العقل الثقافي

ميثم الجنابيفلسفة النبوة المحمدية (10)

أما الوجه الآخر، أو المستوى الآخر لصيرورة العقل الإسلامي وفكرته التوحيدية فقد توسعت وجرى تأصيلها في مجرى الصراع ضد اليهودية والنصرانية. وتميز موقف النبي محمد من الأديان وأتباعها بثلاثة مواقف تعكس ممرات الفكرة التوحيدية الإسلامية وكفاحها من اجل التمام في شرعة تهتدي بالقيم المتسامية. من هنا إدراجه الدائم في فكرة الدين الحق أولئك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ويعملون صالحا، أي أولئك الذين يجسّدون في العلم والعمل وحدة الإيمان الصادق والعمل بما يتوافق معه من فضائل. بحيث يمكننا القول، بأن العنصر الجوهري في الفكرة التوحيدية الإسلامية وعقلها الإيماني يقوم في إعلاء مرجعية الخير المطلق وتحقيقه في مختلف الشرائع. وأفضل الآيات وأدقها التي صورت هذا الموقف، هي الآية القائلة: "لكلّ جعلنا منكم شرعة ومنهاجا، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة، ولكن ليبلونكم فيما أتاكم، فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا". وجرى استكمال مضمون هذه الآية بأخرى تجعل من العمل الصالح معيار النجاة للجميع بغض النظر عن تباين أديانهم، كما في الآية القائلة:"إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ". ووسع هذه الأفكار والمواقف ودققها في الآية القائلة:"ليْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ. يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ".

لقد شدد النبي محمد ودقق الموقف من اليهود والنصارى على أساس الموقف من الله، أي الإيمان به والعمل الصالح. من هنا تقييمه وتفريقه بين أولئك الصالحين وهم القلة القليلة والفاسقين وهم الأغلبية، كما في قوله:"وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ". بينما اختلف موقفه نسبيا من النصارى كما في الآية:"وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ، وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً... فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ". لكن القاسم المشترك في موقف النبي محمد هو التميز بين الحق في الأديان والخروج عليه بأثر الغلو. لهذا نراه يقف بالضد من الغلو في الدين والمواقف، كما في الآية:"يا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ".  

لقد كان الصراع مع اليهودية والنصرانية محكوما من حيث بواعثه الداخلية بحالات الصراع المحتملة المميزة للمنافسة الندية، أي منافسة الفكرة التوحيدية. وانطلق النبي محمد في موقفه من هذه القضية إلى ما اسماه القرآن بالدعوة "إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ"، و"وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ". أما "الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ".

كان الجدل مع اليهودية والنصرانية أمرا لا بد منه. لكن الحصة الأكبر منه كانت مع اليهود، كما أن النقد الأكبر في القرآن كان ضدهم. غير أن النبي محمد كان يفرّق بين اليهودية السليمة وتصورات اليهود. والشيء نفسه ينطبق على النصرانية. وعندما يقف الجدل عند حدود الإيمان العقائدي، فإنه يطالبهم بالعمل لا بالجدل، كما في الآية:" قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ "، ولم يقل من الله. انه طالبهم بالعمل بما عندهم باعتباره حد الكفاية الضرورية.

أما من الناحية الفعلية (التاريخية والسياسية) فقد كان الخلاف مع اليهودية والنصرانية يتزامن مع صعود وانتشار الإسلام وتأمين أسسه العقائدية والإيمانية في الوسط العربي. وإذا كان الجدل المضاد يجري في الأساس ضد ما في القرآن، فإن الأخير اكتفى بما فيه، لأنه جزء من مرجعياته العقائدية والإيمانية الآخذة في التنظيم والعمل، كما اكتفى بالرد العام القائل، بأن ما في القرآن أدق وأصدق وأمتن من أن يتحداه أيا كان. ووضع ذلك في آيات محدودة ودقيقة عندما قال اليهود، بأن ما في القرآن ليس متسقا كما في التوراة، ومن ثم مطالبته بعبارة تقول:" أَنْزَلَ عَلَيْنَا كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ نَقْرَؤُهُ وَنَعْرِفُهُ، وَإِلَّا جِئْنَاكَ بِمِثْلِ مَا تَأْتِي بِهِ". عندها رد عليهم قائلا:"قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنْسُ وَٱلْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا ٱلْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً".

ووجد النبي محمد في الشخصية اليهودية المتميزة بالغلو والتطرف سرّ الخلاف والعداء للفكرة الإسلامية. ووضع هذا التقييم في اساس نقده لليهود واليهودية، بوصفهما خروجا عن الحق وعليه. من هنا إطلاق صفات متنوعة عليهم مثل صفة الغلو في الحياة، وأنهم قردة خاسئين، وسوء العاقبة، وعدم تمسكهم بالعهد، مع وجود من هو صالح بينهم، إلا ان أغلبهم دون ذلك. وإنهم يحرفون الكلام عن موضعه، ويكتمون الحقيقة، ويحاولون إضلال المسلمين، والكفر بالآيات، ومحاولات التخريب من الداخل، ولا يقاتلون إلا في قرى محصنة أو من وراء جدار، بأسهم بينهم شديد، وتحسبهم جميعا وقلوبهم شتى، إنهم قوم لا يعقلون، قلوبهم قاسية بل أقسى من الحجر، وإنهم الأشد عداوة للمسلمين، يلبسون الحق بالباطل، ويكذبون ويقتلون من يختلف عنهم، ويحرصون على الحياة أكثر من المشركين، ويود أحدهم العيش أكثر من ألف سنة. وإنهم يعتقدون بأن أساطيرهم هي "كتاب مقدس"، ويقولون إن لهم الجنة على خلاف غيرهم. عندها كان الرد:"إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ... إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ". وإن أحدهم يتمنى لو ان من أسلم عاد للجاهلية الوثنية. الأمر الذي دفعه في نهاية المطاف إلى وضع مهمة إجلاءهم من المدينة، بوصفهم قوما مغضوبا عليهم. ومن ثم ضرورة الحذر منهم، كما وضعها في الآية القائلة: "يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم". بعبارة أخرى، لقد تمثل الإسلام أيضا فكرة الهداية والحق التي أخذ بها أنبياء اليهود وعيسى المسيح. لكن الخلاف مع اليهود أدى إلى خلاف جوهري مع اليهودية من خلال التفريق بين اليهود واليهودية، بحيث توصل النبي محمد في مجرى صراعه معهم إلى اعتبارهم "شر البرية". أما فيما يخص النصرانية فقد كانت الثمانين آية من سورة (عمران) ردا على النصرانية وفكرة إن المسيح ابن الله.

لقد قدم الإسلام رؤية وحدانية جديدة تلتقي في بعض جوانبها بوحدانية اليهودية والنصرانية، لكنها تختلف عنهما اختلافا كبيرا، وبالأخص ما يتعلق منه بنوعية وكيفية العلم والعمل من اجل تحقيقها. فالوحدانية الإسلامية هي نظام من النسب المثلى له "آليته" الخاصة، التي ربطت في كل واحد عوالم الملك والملكوت والجبروت، أي الطبيعي والماوراطبيعي في الإنسان من خلال الجماعة، وبالتالي بناء الأمة باعتبارها كيانا وسطا بين الأديان والشعوب والأمم. وانطلقت بالأساس من فكرة بسيطة تقول بأن الله هو الواحد الحق! الأمر الذي حدد مرجعيته الجوهرية فيما يتعلق بالانتماء الخالص للوحدانية الإسلامية، التي حقق النبي محمد مبادئها وقواعدها في مواقفه الداعية إلى العمل والاستقامة فيه كما في الآية:"ادع واستقم كما أمرت"، وعدم إتباع أهواء الآخرين، وإتباع ذات الإسلام والله الإسلامي، وإن اليهود والنصارى يعبدون ما هو غير الله شأن الذين كفروا، وأنهم اتخذوا من أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، بينما أمروا أن يعبدوا إلها واحدا لا اله غيره. وبهذا يكون النبي محمد قد حدد حدود القطيعة بالشكل الذي جعل من الوحدانية الإسلامية مبدأ وغاية الوجود الإسلامي، ومن نفسه رسول الهدى ودين الحق.

إن حقيقة الوحدانية بالنسبة للنبي محمد تعني الانتماء للحق وليس للأديان والمذاهب والمشارب. ففي معرض رده على أولئك الذين عارضوه معارضة لا هوادة فيها مخلوطة بالاتهام والانتقاص والتشويش قائلا، بأنه مستعد لإتباعهم في حال أتيناهم بكتاب أكثر قدرة على الهداية مما يقول به. وفي جميع مواقفه الفردية نرى تجانس وتدقيق هذه الفكرة وتحقيقها في المواقف. فقد دعا الجميع دوما إلى أن "إلههم واحد"، وانه " قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ"، و" إنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا " و" إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ"، و"وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا"، و"وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا "، و  قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ".

إن الله الإسلامي بالنسبة للنبي محمد هم أحكم الحاكمين، العزيز الحميد، له ملك السموات والأرض، رب المشرق والمغرب، لا اله إلا هو، رب الناس، ملك الناس، اله الناس، الحق، له الاسماء الحسنى، كل شيء عنده بمقدار، يعلم غيب السموات والأرض، وما يكتم الإنسان وما يعلن، عالم الغيب والشهادة، الحي الْقَيُّوم، كل يوم هو في شأن، وهو نور السموات والأرض.

وتتصف علاقته بالعالم بالرحمة، فهو الرحمن الرحيم، خلق الإنسان، كما انه خلق كل شيء وهو على كل شيء وكيل، وإن كل شيء منه وإليه، وبيده ملكوت كل شيء وإليه يرجعون، إذ يسجد له ما في السموات والأرض، وإن كل شيء يأتيه طوعا أو كرها. وبالتالي، فإن كل ما في الوجود محتاج إليه. وهو في الوقت نفسه قريب من الإنسان، ويجيب دعوة الداعي إذا دعاه، كما انه مع نجوى كل إنسان، وهو معه ومعهم مهما كان عددهم أينما كانوا، وانه ليس بِظَلاَّم للعبيد، بل انه علّم البيان والقرآن. ووجد كل ذلك صيغته المكثفة في عبارة "إن الله هو الحق"، وإن كل ما في الوجود فانِ ويبقى وجه الله ذو الجلالة والإكرام.

حددت هذه الرؤية الإسلامية عن الله وطابعه الوحداني، نوعية العلاقة بين الله والحق. فهو مصدر الحق، ومن ثم مرجعية العدل الشامل. إذ لا يظلم الله أحدا، وإن الناس سيرون آيَاتِه في الآفاق وفِي أنفسهم حتى يتبين لهم انه الحق. إذ ما كان الله ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون، فهو الحق، وما يدعون من دونه هو الباطل، وبالتالي فالحكم له يقضي بالحق.

ومن هذه الفكرة برزت الأبعاد الماوراطبيعية في الوحدانية الإسلامية، التي شددت على أن كل ما يدعوه الإنسان من غير الله هي مجرد أسماء لا تضر ولا تنفع. ففي الواقع لا شيء غير الله. فهو الزارع والممطر وصانع النار وليس الإنسان. وتوقف على هذه الحصيلة الموقف العملي من جوهرية الله في توحيد الإنسان والجماعة والأمة والبشر عموما من خلال إشعاع نوره فيهم. ونعثر على هذه الفكرة في الآية التي تخاطبه بعبارة:"لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ "، و"مَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ".

أما حصيلة كل ذلك فتقوم في أن الوحدانية الإسلامية هي منظومة النسب المثلى، من هنا نقده لظاهرة الغلو بشكل عام واليهودية والنصرانية بشكل خاص. اذ لا يهودية ولا نصرانية بل إسلام لله، ولا أحزاب بل حزب الله، ولا مذاهب ولا مشارب، بل صراط مستقيم. وهذه بدورها جميعا ليست إلا التجسيد العملي لمرجعية الواحد، التي تتمثل التجانس الفعّال في كل شيء. ووجدت فكرة التجانس طريقها إلى الموقف المحمدي من ضرورة التوحيد الاجتماعي، الذي يعكس نوعية العقل الجديد في تعامله مع إشكاليات الوجود السياسي للأمة. من هنا موقفه المعارض للتفرقة والفتنة. ووضع ذلك في آيات عديدة لعل أكثرها نموذجية تلك التي تنتقد ظاهرة "كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ"، ومن ثم موقفه من "إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ "، وإن العداوة نقمة، وألفة القلوب نعمة. من هنا مطالبته بما اسماه بالاعتصام بحبل الله وأن لا يتفرقوا. وذلك لأن تعدد الآلهة يؤدي إلى فساد الوجود والكون. وبالتالي، فإن وحدانية الحق مبنية على تقوى من الله ورضوان منه، بوصفها البديل عمن يضع أسس بنيانه "على شفا جرف هاو".

لقد شكل التوحيد هنا مرجعية الوحدة الاجتماعية، التي وضعها النبي محمد في آيات تقول، بأن الله مع المؤمنين، وانه يجعل منهم كلا واحدا، وإن الإله الواحد معبود الجميع، وإن الأمة معبودها واحد، وأخيرا ينبغي للأمة أن تعبد ربا واحدا.

ذلك يعني، إن الوحدانية الإسلامية هي التجلي الأمثل للوحدة والاعتدال، مع ما فيها من أهمية قصوى بالنسبة للحرية والإرادة المتحررة من رق الأغيار. فالإله الواحد نعمة لأنه ينفي الاستكبار لأي كان، كما في الآيات القائلة "لَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ"، و"فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ". بينما يشكل رفع الله إلى مصاف المطلق ورفض الندية عنه ضمانة تخليص الفرد والجماعة والأمة من الخضوع لغيره. بمعنى نفي الوسائط. الأمر الذي يؤدي إلى معارضة التقليد ورفع شأن الفرد بمعايير ومقاييس المطلق الأخلاقي. اذ ليس الله سوى المطلق الأخلاقي. وبلغت هذه الفكرة ذروتها العملية في علاقة التوحيد بالجماعة والأمة، بوصفها مضمون العقل النظري والعملي، ومن ثم العقل الثقافي الإسلامي اللاحق.

فقد كانت علاقة الجماعة بالأمة البديل التوحيدي الجديد لنماذج العلاقات الاجتماعية وبنيتها الراسخة في القبيلة وقيمها. أنها تنفي الحدود الوثنية والجاهلية في المفاهيم والمواقف والقيم. وتكاملت الفكرة الإسلامية عن المسلم والجماعة والأمة ضمن سياق التوحيد الطبيعي والماوراطبيعي، أي كل ما وجد تعبيره وتدقيقه وتحقيقه فيما يمكن أن نطلق عليه مفهوم الوحدة الحية للنسب المثلى. فالوجود نسب، والله الإسلامي هو التجلي الأمثل لها. فالله، على سبيل المثال، جميل ويحب الجمال، حسب الحديث النبوي المشهور، أي الصيغة المثلى لوحدة النسب المثلى فيه. إذ كل ما في الوجود منه وإليه، ومن ثم، فإن الوجود نسب تصبح مثلى حالما تحاكي وتحقق الجمال الإلهي في الوجود. وينطبق هذا على جميع صفاته.

وقد مرت علاقة الجماعة بالأمة ووحدتهم بأربع مراحل لكل منها مرجعياته الخاصة والعامة، أو بأربع تجليات. والعامة هو التوحيد الاسلامي، والخاصة هو استجابتها العملية للتحديات، وبالتالي تأسيسها للمرجعيات العملية، أي النسبية والعابرة أو المنفية لاحقا في نماذج أوسع وأدق للعلاقة بينهما.

التجلي الأول: وهو وحدة الجماعة والأمة وحدودها، كما نراه في وحدة النسب التالية: الله والنبي، والنبي والجماعة، والجماعة والأمة.

التجلي الثاني: فكرة الأمة الوسط وتوحيد النسب الحية للوجود الطبيعي والماوراطبيعي، أو التاريخي والما فوق تاريخي، كما نراه في  إعلاء وإرساء مرجعية العدل والاعتدال.

التجلي الثالث: الوسطية والعدل بوصفهما الأساس العقائدي والروحي للعقل النظري والعملي.

التجلي الرابع: إرساء فكرة الأصول ومرجعيتها الجوهرية اللاحقة في الوعي الثقافي الإسلامي، أي كل ما سيحدد حدود الإشكاليات المتعلقة بالوجود الطبيعي والماوراطبيعي للجماعة والأمة، بفعل التأثير الحاسم والمتفاعل لمرجعيات التوحيد والوحدانية، والجماعة والأمة، والعدل والاعتدال.

وشكلت هذه المرجعيات في وحدتها المتحركة والمبدعة مضمون العقل الإسلامي الثقافي اللاحق، والذي يمكن رؤية ملامحه الظاهرية والباطنية في مبدأ الاعتدال بوصفه المبدأ الجوهري في الإسلام. إذ يستمد الاعتدال الإسلامي مقوماته من الوحدانية المتجانسة ويجسّدها ويحققها في الموقف من إشكاليات الوجود الطبيعي والماوراطبيعي للأمة. فقد طبع هذا المبدأ كينونة الإسلام الحقيقية (الأولى).

وأدى كل ذلك إلى بلورة أساليب متداخلة في مجرى المسار التاريخي المعقد للصيرورة العربية الإسلامية أولا والإسلامية ثانيا، ومن ثم بلورة خصوصية العقل الإسلامي بوصفه عقلا إيمانيا، وتوحيديا، وثقافيا. ومن ثم حددت طابعه الوحداني والديناميكي بقدر واحد. مع ما ترتب عليه لاحقا من إنتاج الواحدية الثقافية التي عملت على توحيد الاختلاف والإجماع ضمن المنظومات الفكرية النظرية الكبرى في الفقه والكلام والتصوف والفلسفة، وأنتجت أمة ثقافية سياسية، وأبدعت اعتدال ثقافي مبني على وحدة منهجية للثنائيات الجوهرية في الإبداع الثقافي العقلي الإسلامي كما هو جلي في وحدة الأصول والفروع، والرواية والدراية، والعقل والشرع، ووحدة الدين والدنيا، والدنيا والآخرة، والعادات والعبادات، والمعقول والمنقول، والظاهر والباطن، والعقل والإيمان، والإجماع والاجتهاد، والشريعة والطريقة وكثير غيرها. (انتهى).

***

ا. د. ميثم الجنابي

 

 

في المثقف اليوم