تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

دراسات وبحوث

أحمد بابانا العلوي: علال الفاسي الفيلسوف

احمد بابانا العلويفاتحة: يعتبر الزعيم المجاهد علال الفاسي (1910/1974) من اكبر إعلام الوطنية المغربية .. وأبرز علماء الإسلاموقادة الفكر المجددين الذين أثروا في توجهات المجتمعات وتطورها.. ونهوض الثقافة العربيةالإسلامية في القرن العشرين ..فلا غرو إذا استأثر باهتمام كبار الكتاب والباحثين والمستشرقين في الشرق والغرب... باعتباره أحد رواد الفكر الإصلاحي التجديدي وزعيما قاد الكفاح ضد الاستعمار وناضل من أجل بناء الاستقلال ...

ولا مراء أنه كان فريدا بين رجال عصره .. ولاسيما في باب صفات الرجحان الامتياز ..

كان صاحب رأي ورؤية في الاجتماعيات  والعقليات يمكنه الاستدلال عليه والمدافعة عنه....

كان الإمام مالك (ت179هـ) نموذجه الذي اقتدى به في الذب عن السنة وحماية الشريعة  ومجاهرته بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ... ، ونهج نهجه  في الصدع بالحق وإقامة العدل  ومقاومة الجور والطغيان والبدع والأهواء... وتزكية القلب وتفتح الذهن وتنمية المعرفة.

وقد ثمن العلامة علال الفاسي إختيار المغاربة لمذهب مالك الذي يجمع بين المحافظة على السنة والتفتح على طرق المصلحة  والحث على النضال في نشر الدين وحمايته من الأهواء المهوية  والبدع المغرية(1)، فالإسلام هو الدين الإلهي الذي جاء به الأنبياء والرسل  وختم برسالة النبي الخاتم فجاء مصدقا لـما بين يديه ومصلحا لما أفسدته الأهواء...

-1-

الدين الإلهي هو استجابة للفطرة الإنسانية للتعريف بالحقيقة فيما لا يمكن إدراكه من أمور الغيب بغير الوحي، والتدليل عليها بالبرهان الذي يثبت إمكانها ويسير بقبول الإيمان بها، وتشريع الأحكام  يقوم عليها مجتمع سليم يتحكم فيه العقل وتسوده القيم ...."(2)

ويسترسل في شرح فلسفةالإسلام الدينية بالقول أنها ترتكز على توحيد الله وتنزيهه، وعدم الخضوع للطغيان البشري  في الحكم وفي السلوك  وذلك هو جماع العقيدة الأساسية للإسلام ومنها يمكن استخراج كل ضروب  الفلسفة  في معرفة الوجود الحقيقي، ومعرفة مركز الإنسان في الكون والقيم الأخلاقية التي يقتضيها توحيد الألوهية والربوبية ففلسفة الإسلام تأخذ بالحجة والبرهان لكي يطهر قلوب الناس من درن الشرك وعقولهم من آثار الطغيان نتيجة فساد القيم الاجتماعية....

ومهمة الرسول كانت الإرشاد بتبليغ الوحي وتربية الناس على مقتضى القيم الأخلاقية التي تزكى النفوس وتصقل الأذهان وتنير العقول بالحض على التعلم ونشر العلم  والعلماء هم ورثة النبي ينشرون الحكمة التي تعني في نظر علال الفاسي العلم والفهم و الفقه في شؤون الحياة، ويستشهد بما قاله  ابو بكر المعافري (ت543هـ).بهذا الصدد "بان ليس للحكمة معنى إلا العلم  ولا للعلم  معنى إلا العقل، إلاأن في الحكمة إشارة إلى ثمرة العلم وفائدته ولفظ العلم مجرد من دلالته على غير ذاته  وثمرة العلم بموجبه التصرف بحكمة و الجري على مقتضياته في جميع الأقوال واللأفعال(3)، فالقران يدعو إلى التفكير والنظر، ويحارب التقليد  ويحث العقل  على التبصر والتأمل  والتدبر... و الفلسفة تعني النظر والدليل  والاسلام يدعو إلى النظر والتبصر والـمراد أن يصل الإنسان إلى الحكمة والحكمة تتضمن أصول الدين وأصول العلم النافع  وأصول العمل الصالح...

وكل ما تدل عليه  الأدلة العقلية فهو ثابت بالسمع والعقل...(4)

والخلاصة التي ينتهي إليهاأن المدارس في الفلسفة الإسلامية لا تحصر نظرية المعرفة في التجربة أوفي الاستنباط الرياضي ... لان المعارف الكسبية فرع عن المعارف الضرورية والمعارف الضرورية الكلية فرع عن المحسوسات الجزئية والمحسوسات أصل الاعتقادات  ولا يصح الفرع إلا بعد صحة الأصل ..(5).

إن الفلسفة هي كل محاولة عقلية لتفهم الكون وبناء المجتمع...

وفلاسفة الإسلام الغزالي وابن تيمية  وابن خلدون استمدوا فلسفتهم من الأصول الثابتة للحكمة فوراء العقل إدراك أسمى يتمثل في نور الوحي و إلهام المتصوفة والفارق  عظيم بين ماهو ضد العقل وما هو فوقه  وفوق ما يدرك بالعقول  المحدودة وهي التي يجب  أن تقوم عليها العقائد الدينية..

وقد استقل فلاسفة الإسلام بآرائهم يفكرون ويستنتجون عن طريق الأدلة والبراهين..

وللمسلمين فلسفتهم ونظرتهم للحياة وطريقهم في مواجهة المسائل بالحكمة التي تعني العلم والفكر...لأنه بالعلم والفكر يمكن بعث حضارة الإسلام وتجديد منهجها في الحياة....(6)

فتقدم المعرفة رهين بحرية الفكر من أجل تحقيق غاية إنسانية عن طريق التضحية والانعتاق من القيود التي تكبل الإرادات ، لأن أول مظهر للحرية هو الإرادة وتاريخ الإنسانيةكله  هو تاريخ الحرية  وما كان كفاح قوم  إلا من أجل الحرية ... لأنها الغاية التي تسعى لتحقيقها جميع الأمم و تتطلع إليها وبذلك فهي مرادفة للمدنية التي تعني اطراد التقدم وتتجه في مسيرتها نحو إنسانية تزداد وعيا بذاتها ....(7) فالحرية الحقيقية هي القيمة التي تحرك الفكر وتدفع الإرادة للعمل....

لا يسمى العقل عقلا إذا كان يفكر بإرغام من الخارج.. لان العقل لا يميز الخير من الشر إلا بذاته، لا بإلزام خارجي، وإلا فليس هو بعقل..

فالعقل وسيلة للمعرفة، ولكن في حركته مع الحياة ... والتجربة الوجودية وسيلة للمعرفة، ولكن في تفاعلها مع العقل أي مع الوعي الإنساني الباحث عن الوجود  وأعظم صفات الله انه يتصف بكامل الحرية قادر على فعل ما يشاء لا معقب  لحكمه  ولا راد لإرادته فالحرية الإلهية هي الحرية الخلاقة كل شيء يصدر عنها وفيها وبها...(8).

وقصارى كمال الإنسان أن يتخلق بنور الله، فكمال حريته بقدر كمال إرادته، وإرادته محدودة بقدر ما تتسع لها إنسانيته...(9).

لقد وقع بعض الفلاسفة في خطأ عميق إذ حاولوا إحلال اللامتناهي في المتناهي أو تجريد كل موضوع في المطلق ...

إن  الحرية مجموع العمل النفسي للتوفيق بين الارادة وبين المعرفة، وليست مجرد شعور ثابت كما يؤكد البعض....

-2-

ويرى الإمام الغزالي قبل ديكارت بأن العقل وحده هو الذي يثبت الوجود الذي هو عين الحرية...

وأصحاب الجبر الذين يقولون بأن كل شيء خاضع لناموس طبيعي ويجعلون الضمير خاضع لعوامل خارجية، وهذا بالفعل ما يحتقر الضمير وينزله عن صفة الوعي الذي يجعله يختار أن يستعمل عند الحاجة مسؤوليته..

والحرية أعظم صفات الوجدان الإنساني، وهي تتحقق بالمواءمة بين المعرفة والارادة ... ولكي أكون حرا علي أن أختار  وكلما عرفت ما هو حق  وما هو خير، يسهل الإمعان في الاختبار (10).

لقد عرفت البشرية منذ نشأتها ثلاثة مصادر للمعرفة الدين والعقل والحس وكل الإتجاهات العقلية تتأرجح بين اختيار  واحد منهما على أنه منشأ المعرفة اليقينية الثابتة... وعن الجدل الدائر حولها تكونت المذاهب الفلسفية الغربية:

فالحرية واجبة الوجود بمعنى أنها انبثاق واستقلالية ذاتية ناشئة عن حركية واجبة الوجود كحركة حرة... (أصلها في الاختيار).

الواجب القانوني عقلي تأمر به الإرادة وتحقيقه في شخص الفاعل الأخلاقي منظور إليه في ذاته... كمثل أعلى للأخلاق والعمل الأخلاقي الذي ترمي إليه الحرية عن طريق الاستقلال الذاتي إنما هو المواءمة بين العقل وبين الإرادة....

فالجدل يقع في الأفكار والأشياء وجدل الفكر ليس إلا نتيجة لحركة الأشياء، وإنما كان الفكر جدليا لأنه يرسم جدل الواقع....

وإذا كان العقل سابقا على المادة وبناء  على ذلك فالمعرفة الصحيحة ليست مستوحاة من الوجود الواقعي المادي، ولكن مصدرها  الصحيح هو العقل، والوحي هو الذي يعطي اليقين وليس الواقع....(11).

والتعويل على العقل في أمر العقيدة وأمر التبعية والتكليف... والقرآن لا يذكر  العقل إلا في مقام التعظيم والتنبيه إلى وجوب العمل به والرجوع إليه... ولا تأتي الإشارة إليه في كل من مواضع من مواضعها مؤكدة جازمة باللفظ والدلالة،  وتتكرر في كل معرض من معارض الأمر والنهي التي يحث فيها المؤمن على تحكيم عقله  أو يلام فيها المنكر على إهمال عقله وقبول الحجر عليه... وتأتي الإشارة إلى معاني العقل لتشمل وظائف الإنسان العقلية على اختلاف أعمالها وخصائصها...

فلا ينحصر خطاب العقل، في العقل الوازع ولا في العقل المدرك، ولا في العقل الذي يناط به التأمل الصادق والحكم الصحيح، ويعم الخطاب القرآني كل ما يتسع له الذهن الإنساني من خاصة أو وظيفة،وهي كثيرة إذ هي جميعا مما يمكن أن يحيط به العقل الوازع والعقل المدرك والعقل المفكر الذي يتولى الموازنة والحكم على معاني والأشياء...

فالعقل في مدلول لفظه العام ملكة يناط بها الوازع الأخلاقي و المنع على المحظور والمنكر... ومن خصائص العقل ملكة الادراك التي يناط بها الفهم والتصور وهي على كونها لازمة لادراك الوازع الاخلاقي وادراك أسبابه وعواقبه تستقل أحيانا بادراك الامور فيما ليس له علاقة بالأمر والنهي.

ومن خصائص العقل أنه يتأمل فيما يدركه ويقلبه على وجوهه، ويستخرج منه بواطنه، وأسراره ويبني عليه نتائجه وأحكامه وهذه الخصائص في جملتها تجمعها ملكه، "الحكم"... وتتصل بها ملكة الحكمة وتتصل كذلك بالعقل الوازع إذا انتهت حكمة الحكيم به إلى العلم بما يحسن، وما يقبح وما ينبغي له أن يطلبه وما ينبغي له أن يأباه...

ومن أعلى خصائص العقل الإنساني "الرشد" وهو مقابل لتمام التكوين في العاقل الرشيد ووظيفة الرشد فوق وظيفة العقل الوازع والعقل المدرك والعقل الحكيم لأنها استيفاء لجميع هذه الوظائف وعليها مزيد من النضج والتمام والتمييز بميزة الرشاد حيث لا نقص ولا اختلال وقد  يؤتى الحكيم من نقص في الادراك وقد يؤتي العقل الوازع من نقص الحكمة ولكن العقل الرشيد ينجو للرشاد من هذا وذاك...(12).

-3-

فظاهرة التفكير في الفلسفة الإسلامية تشمل العقل الإنساني بجميع أبعاده ومكوناته ووظائفه وبجميع خصائصها ومدلولاتها...

إن التنويه المتكرر بالعقل في الخطاب القرآني تأكيد على فريضة التفكير في الإسلام وتبين أن العقل الذي يخاطبه الإسلام هو العقل الذي يعصم الضمير ويدرك الحقائق ويميز بين الأمور ويوازن بين الأضداد ويتبصر ويتدبر ويحسن الادكار والروية....

والإسلام دين لا يعرف الكهانة ولا يتوسط فيه السدنة والأحبار بين المخلوق والخالق... فلا ترجمان فيه بين الله وعباده.... ودين بلا كهانة لن يتجه فيه الخطاب بداهة إلى غير الإنسان العاقل حرا طليقا من كل سلطان يحول بينه وبين الفهم القويم والتفكير السليم....(13).

إن الحرية التي تضمن للناس أن يتعايشوا فيما بينهم في حدود القانون في دائرة التضامن العام إنها ليست حرية النفس المطلقة لأنها خاصة بالفكر وعلاقته بالإرادة وبالواقع ولكن الحرية المدنية التي مناطها الحياة الاجتماعية وهي أصل كل الحريات الأساسية لأنها تتعلق بحياة الإنسان وترجع  إلى إثبات قيمته وضمان كرامته كفرد وهي التي تتيح له أن يتقدم نحو الحرية الكاملة، كمثل أعلى...(14)

إن الإنسان مركب من حيوانية هي بشريته ومن روحانية  هي فطرته ويرى علال الفاسي أن للفطرة معنيين، الأول في كونها صفة روحانية إنسانية ممثلة في المروءة التي وضعها الله في الإنسان ليتحمل المسؤولية وإدراك الحرية والمعنى الثاني أنها جملة من الإمكانات العقلية والمعرفية والمدنية....(15)

فإذا بلغ الإنسان هذا المبلغ فقد انتهى إليه بالعقل والعلم والإيمان... على توافقه.... وكلمة سواء...

4-

العلامة علال الفاسي مفكر موسوعي متعدد الأبعاد غزير الإنتاج وقد ضمن كتابه النقد الذاتي مشروعا فكريا متعاملا جعل مرتكزه أن من يطلب الحرية يجب أن يعلم التفكير في معانيها، فالحرية تكمن في يعد المرء نفسه لمبدأ صحيح وعقيدة ثابتة ويعمل ويكافح من أجل تحقيقها، ويرعاها في سلوكه وأعماله وتفكيره.

فالفكر الحر لا يستطيع أحد أن يقيده ويجب أن نعرب عما يخالج نفوسنا من آراء وتستعد للتضحية بالنفس والغالي في ذلك، فالأمة التي تعتاد التفكير هي التي تستطيع التفريق بين الدعوات الصالحة وغيرها وهي التي تستطيع أن تنجب نبغاء الفكر وقادة الرأي وزعماء الإصلاح...

وإن تعميم التفكير في الأمة هو سبيل نهوضها وتحريرها ....(16)وقد ذكرت في كتابي عن علال الفاسي ، إن المشروع الفكري المعرفي لعلال الفاسي يتسم برحابة النظر والمعرفة الواسعة، وقد أتاحت له الدراسة المعمقة لكل من الثقافة الإسلامية والثقافة الغربية الحديثة بناء رؤية تركيبية تجمع بين الأصالة والمعاصرة استطاعت أن تتكلم لغة العصر بدون تحرج وبعيدا عن سوء الهضم العقلي...

جعل من الحرية التي هي جوهر إنسانية الإنسان الأساس والمنهج والطريق إلى الريادة والسبيل إلى النهوض الحضاري..."

إن ما توخيناه من هذه الدراسة.. هو  الوقوف عند بعض مظاهر التفكير الفلسفي في المشروع الفكري لعلال الفاسي...

ونعني  بالتفكير الفلسفي ما تضمنته أبحاثه في التاريخ والاجتماع والشريعة والسياسة من مصطلحات يراد بها البحث في النظريات والأفكار التي تصاغ منها وجهة نظر حول الوجود والمجتمع... وتنظر في العقيدة الإلهية، وفي أصول الخلق والوجود والشرائع والنظم الاجتماعية... وقد خاض فلاسفة الإسلام ومفكريه وعلمائه قديما وحديثا في كل باب من هذه الأبواب على أوسع مدى وأصرح بيان...

وتتجلى سعة الإسلام في أن كبار فلاسفة الاسلام خاضوا غمار الأفكار الفلسفية (اليونانية والهندية والفارسية) وعرضوا لكل مشكلة من مشاكل العقل والإيمان وتكلموا عن وجود الله  ووجود العالم ووجود النفس...وخرجوا من سبحاتهم الطويلة  في هذه المعالم والمجاهل فلاسفة مسلمين دون أن يعنتوا أذهانهم في التخريج والتأويل...(17).

إن المتأمل في  فلسفة البحث والنظر عند علال الفاسي سوف يتضح له بجلاء أنها مستمدة من منهج الأصوليين (علماء أصول الفقه) الذي يقوم على السبر والتقسيم من خلال بنائهم المعرفة الأصولية في صورة قواعد تجمع جزيئات كثيرة وضوابط تندرج تحتها أحكام متعددة توحي بمعانيها الاستقرائية للنصوص الشرعية...(18)

وقد عرف الغزالي الاستقراء بأنه تتبع الحكم في جزئيات كثيرة داخلة تحت معنى كلي فالاستقراء على هذا المعنى يعمل على ربط النتائج بالأسباب وذلك بتحديد القوانين التي تضبط هذه الظواهر وبنياتها الداخلية ... وعند الجرجاني فإن الاستقراء هو الحكم على الكل لوجوده  في أكثر جزئياتها....(19).

وحدده المعاصرون  بأنه كل استدلال تجيء النتيجة فيه أكثر من المقدمات التي ساهمت في تكوين ذلك الاستدلال (وهو تلك العملية التي بواسطتها يمكننا الانتقال من معرفة الواقع إلى القوانين التي تخضع لها..(20).

-5-

المنهج الأصولي هو منهج بحث وتتبع ونظر فائدته بيان المسائل وسبر غورها وفهم الخطاب جملة، ليكون الانتهاء إلى جواب شامل وصياغة قاعدة عامة وقانون، تكشف وتفسر حقائق الأمور....

يعتبر علال الفاسي  مفكرا أصوليا، متشبع بالمنهج وملتزم بأصوله  وقواعده، وانشغل باعتباره مفكرا مقاصديا بتأصيل القيم الفلسفية الراهنة للإنسان المعاصر وحاجته المعنوية وضروراته القيمية  وهذا ما دفعه في أبحاثه ودراساته الفكرية الى تناول القضايا المتعلقة بالسياسة والاجتماع والحرية والديمقراطية والعدل والمساواة ... ومقاربتها في عداد الكليات الشرعية الضرورية.

فكان النظر الفلسفي جزءا مهما في السجال العلمي والتدافع المعرفي المعاصر بين التصور الإسلامي وغيره من التصورات الفلسفية الحديثة. وقد انتهى الأمر بالخطاب المقاصدي المعاصر إلى استدعاء الواقع لاكراهاته وضروراته الوجودية في التقصيد للكليات الشرعية..(21).

إن الشريعة نظام كلي للحياة ومقاصدها تعم سائر مجالاتها المتنوعة خاصها وعامها دقيقها وجليلها....

وإذا كانت الغايات الكبرى للبشر، لا تمر إلا عبر تمثلات واقعية للقيم الإنسانية المطلوب العناية بها والاهتمام بقدرها لأنها تخدم بدورها حفظ الكليات الضرورية في استمرار الحياة وتقدمها.... (22).

فقد وقف علماء الإسلام عند أسس الهيمنة الحضارة الغربية... وخطر آليات التثاقف والنظر على جملة القيم الإنسانية والروحية والدينية الواجب صيانتها وحفظها في مجالات التواصل القيمي لمنع الهيمنة  الثقافية على الإرادات البشرية....

فالروح الإسلامية تستمد مقوماتها من المنهج القرآني الاستقرائي الذي ينأى أشد النأي عن التصور الميتافيزيقي والمادي للحضارة الغربية فكان من المحتم ،أن يكون للمسلمين منهجهم في البحث تقوم عليه مقومات حضارتهم العلمية، ويكون طابع تلك الحضارة الأساسي وجوهرها الوحيد (23) من هذا المنهج استمد علماء الإسلام ومفكروه في جميع العصور الروح الملهمة والقوة التي  تدفع بالحياة إلى التجديد و التطور والرقي.

وقد جاء الإسلام لتطوير الحياة وذلك بإطلاق الطاقات نحو الإنشاء العمراني والسمو الأخلاقي والروحي..و ضمن هذا السياق يندرج فكر علال الفاسي الفلسفي الإصلاحي التجديدي.. ودعوته إلى بعث ونهوض حضاري انطلاقا من كون  الإنسان يؤمن في أعماقه ووجدانه بمعرفة الفكر... لأن صلته عميقة بهذا الوجود غير المحدود وهي أبعد غورا من الصلات الحسية التي تحصرها العلوم المتغيرة... ويعلم علمايقينيا أن الصلة وراء ذلك لن تكون إلا بالإيمان. والإسلام عقيدة حية وإنها لب ووجدان وتفكير وإيمان...

ولابد للجماعة من دين  يهديها إلى الفكر ويهديها الفكر إليه..

خاتمة:

بعد أن عرضنا جملة من الافكار والطروحات التي تصب في مجال التفكير الفلسفي نختم بالسؤال الذي قد يخطر  ببال القارئ : هل كان علال الفاسي فيلسوفا وبأي معنى؟

يشبه هذا السؤال سؤال  طرح على الشيخ محمد عبده (ت 1905هـ) "من يكون الفيلسوف؟ فأجاب بأن الفيلسوف هو الذي له رأي في المسائل العقلية والاجتماعية يمكنه الاستدلال عليه والمدافعة عنه" ، ويمكن أن نضيف إلى هذا التعريف لمفهوم الفيلسوف بأنه صاحب الفكر الذي يروم الاصلاح أي تصويب ما أعوج وتجديد ما تآكل، وإعادة ترميم وتطوير وبناء لنظام الثقافة والمجتمع..

والعنصر الثاني الذي ينطوي عليه مفهوم الفيلسوف هو أن الفلسفة ممارسة دائبة للسؤال والسؤال لغة هو "الطلب" ، ومعلوم أن الطلب هو الشرط الضروري لحصول المعرفة، فتكون الفلسفة بانبنائها على السؤال قائمة مقام الشرط الذي تحصل به المعرفة ما دامت حقيقة السؤال هي أنه طلب السائل معرفة المسؤول عنه وحينئذ  يصح أن يقال بـأنه لا معرفة بغير فلسفة كما لا يصح القول بأنه لا معرفة بغير طلب، وإذا صار كل علم يستلزم الفلسفة استلزامه لطلب فقد انفتح للمشتغل بالعلم باب ممارسة التفلسف ما بقى على استزادة  من العلم بما أن الاستزادة لا تكون إلا طلبا وأن الفلسفة لا تتحدد إلا بالطلب (25).

وهكذا يتضح بأن جميع معاني التفلسف تنطبق على علال الفاسي سواء باعتباره مفكرا اصلاحيا أو باعتباره عالما أصوليا زيادة على ثقافته الفلسفية الواسعة التي جعلته في كتاباته يناقش كبار الفلاسفة بندية فلا يكتفي بعرض أفكارهم ونظرياتهم  في القضايا التي يبحثها بل يقوم بالرد على بعض أطروحاتهم ويفند بعض أرائهم في المسائل الفلسفية الكبرى..

ومن بين الفلاسفة الذين عرض جانبا من أفكارهم وناقشها بروية وعمق نذكر: أرسطو وديكارت واسبينوزا وكانط وهيجل وماركس وبرغسون وسارتر وغارودي وغيرهم..

وفي كتابه "الحرية" قدم عرضا لمختلف المدارس والمذاهب الفلسفية مع ابداء رأيه في القضايا والمسائل التي أثاروها وبلوروا حولها تصورا خاصة فيما يتعلق بالإلهيات والمصير الانساني..

وإذا كان كل مصلح  فيلسوف يتصل اصلاحه بالتفكير كما يتصل بالعمل وهو فيلسوف حين تكون الفلسفة حكمة وبحثا عن سر الوجود ورأيا في كليات الحقائق..

فإن علال الفاسي مصلح فيلسوف بكل ماشئنا من معاني الاصلاح والفلسفة ..

 

أحمد بابانا العلوي

 

 

في المثقف اليوم