تكريمات

"مسبحة من خرز الكلمات" ليحيى السماوي .. شاعر متبتل في محراب الحب والوطن

اختار أن يصنف "خرز كلماته" على أنها "نصوص نثرية"، بدل (قصيدة النثر).. فهل ينفي عنها الشعرية؟

 الديوان لا يقل شعرية عن دواوينه السابقة، وإن تعمد تصنيفه على أنها نصوص نثرية، مراعيًا التصنيفات النقدية، مستفيدا من تجربة كتابة أكثر من خمسة عشر إصدارًا شعريًا، وهذا ما تشي به نصوصه البين- بين، وهو يطارد ذئب الشعر في صحراء النثر، متجاوزًا مساحيق البلاغة البالية، وغموض أدعياء الحداثة...

نصوص ذات صور شعرية فاتنة، تمتح جمالياتها من درامية  المتقابلات والأضداد.. التقاطاتها لماحة، إشراقاتها مكثفة، ولأن"القلب الذي لا يعرف الحب لن يعرف العبادة" يخاطب الحبيبة، و بحميمية شعراء المنفى ولوعتهم:

 

(احترسي مني..

فأنا أخطر مجرم

في تاريخ العشق..

ميزتي عن مجرمي العصور :

أن كل ضحايايَ

هم :أنا وحدي..

أنا الراعي والقطيع

والذئب معا).

 

 وبقلب ينزف حبا وشعرا يصدح:

 

(حين عذبني وطني

قتلته

ودفنته في قلبي .. !

أين سادفن قلبي

حين تجف سواقي النبض؟)

 

ولأن الحنين القاتل سكن قلبه، يتوق للعودة إلى سماوته.. إلى العراق، ولو على بساط ريح أو قصيد، فليس بعيدًا اليوم الذي سينتقم فيه الجرح من السّكين، والأغلال من صانعيها، ولن يكون بعيدًا اليوم الذي يتآلف فيه الخبز مع الجوع والعشب مع الصحراء، والحدائق مع العشاق. وبقي القلب أخضر، رغم الوجع العراقي.. العشق مرادف لفردوس الجنون وحقول الخضرة، والحبيبة تتماهى عند يحيى السماوي مع الوطن، فيصير القلب موزعًا بينهما، بين عبيرهما وروحه، بين نارهما وحطب الذات الشاعرة :

 

(كلٌّ يذهب في حال سبيله :

النهر إلى البحر ..

السنابل نحو التنور ..

العصفور نحو العش ..

 الوطن نحو الصيارفة ..

وقلبي نحوك).

 

ويؤكد الشاعر أن غربته لم تكن هروبًا أو بحثًا عن وطن مستعار أو هوية جديدة، وإنما لكي لا يكون قاتلا أو مقتولا.. لأنه :

(لا يجيد مهنة القتل

 في وطن ٍ

 بات مسلخا)

 

وطن لا يملك منه سوى الاسم في جواز سفر مزوّر.. وعليه أن يبقى حيًّا، فقد يحتاج هذا العالم  الأعمى إلى شاهد أخرس للادلاء بصمته!.

ورغم معاناة الغربة، لا تجعله حرقة التجربة يغرق في الغنائية والبوح الذاتي، بل يتوق إلى كنس الوطن من "وحل الاحتلال"، وسماسرة الوطن، وألا تجرح نخلة، ويذوب في حلول شعري مع معاناة ثكالى العراق وأيتامه، بل مع المنسيين أيضا.. ممّن تآمر عليهم زيف التاريخ وقهر الجغرافيا:

 

(أعرفُ أن العبيدَ

هم الذين شيدوا الأهرامَ ...

سورَ الصين...

وجنائنَ بابل...

ولكن:

أين ذهب عرق جباههم؟

وصراخهم تحت لسع السياط

أين استقر؟)

 

 وحتى لو لم يكن دموي النزعة يبارك الإرهاب.. مادام  سيستأصل من بساتين الوطن المحتل، وتجار الشعارات، سارقي قوت الجماهير والدراويش المفخخين بالحقد، وساسة يعرضون بيتهم للبيع خلف الباب.

إنه العراق.. وطن، رغم خيراته، صار وطن الشحاذين، والباحثين في القمامة.. وطن منهوب، استبدل أطفاله الحقائب المدرسية بصناديق مسح الأحذية!! .. وطن عقد عليه قران روحه، مستعذبا -من أجله- أقسى  العذابات، مع أنه لا يملك منه غير التراب العالق بحذائه:

 

(أيها الحزن لا تحزن...

 أدرك أنك ستشعر باليتم بعدي..

 لن أتخلى عنك !

 أنت وحدك من أخلصَ لي

فكنت ملاصقي كثيابي

حين تخلى عني الفرح

 في وطن ٍ

يأخذ شكل التابوت)

 

...........................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (عدد خاص: ملف تركيم الشاعر يحيى السماوي، الخميس 1/1/1431هـ - 17/12/2009)

 

 

في المثقف اليوم