تجديد وتنوير

محسن الأمين: العلم والجهاد والوحدة

كانت ولادته عام 1867 أي في العقد الذي شهد المجسمة الأولى للمشروع الطائفي في المنطقة، حيث كانت القبضة العثمانية قد اشتدت في الداخل وارتخت في وجه الخارج، فدلف الخارج من الشقوق ليستكمل حروبه القديمة.

 

تلقى مبادئ العلوم العربية والاسلامية في جبل عامل ثم هاجر الى النجف الأشرف معقل المرجعية الشيعية العربية، ليعود منها عالِماً مجتهداً حائزاً على شروط القيادة وانتهاج الخط الاستقلالي في التفكير والسلوك.

 

عندما عاد السيد الأمين من النجف لم يختر جبل عامل مقراً لإقامته وعمله، بل اختار دمشق الشام، مسجلاً باختياره علامة من علامات ميزته.. إن ذلك يعني انه كان وحدوياً لا يفرق بين بلد عربي وآخر.. ولو كان الجاذب له مذهبياً شيعياً وحسب لما كان اختار دمشق التي لم يكن الشيعة فيها وقتها يتجاوزون الآلاف عدداً – 3 آلاف تقريباً – وهو عدد لا يغري أمثال السيد ومن هم في مكانته العلمية، لأن علمه يفيض كثيراً عن حاجاتهم، ولكنه لا بد أن يكون قد أخذ في اعتباره أن هؤلاء الآلاف إذا ما تُركوا عرضة للتجهيل بالتشيع المطابق لمنهج أهل البيت، أو تسلّط عليهم من لا يُحسن إرشادهم في مفصل تاريخي حساس، فربما تحولوا الى (غيتو) أو جماعة منفصلة عن السوية الإسلامية، تشكل حجة لدعاة التفرقة والفتنة. ومن هنا أتى حرصه على تعميق ثقافتهم الاسلامية فعودهم على القراءة والمناقشة والمشاركة والتعامل المباشر مع المصادر في شتى العلوم والفنون، ولم يسلك معهم طريقة التلقين، حتى أصبحوا من الوعي والمعرفة على درجة مشهودة وما تزال آثارها المحمودة باقية الى الآن.. وقد أثبتت دمشق العلم والقيادة من خلال احترامها الكبير واحتفائها بمكانة السيد العلمية وإلتزامه الوطني العميق، إن الوحدة هي الأساس، وإن الأطر المذهبية هي عامل قوة ومصدر إغناء للفكر والجهاد في مواجهة الأعداء.

 

لقد تعامل علماء دمشق وقادتها ومثقفوها مع السيد تعاملهم مع قائد ومعلّم، فكانت الأمور الكبيرة والخطيرة تُبحث في حضوره ولا يُقطع فيها برأي إلا بعد الاستئناس برأيه.

 

لقد انتقد السيد تباطؤ الكتلة الوطنية عام 1936 في تحديد موقفها من الإنتداب فهرع قادتها الى منزله حيث شدّد في حديثه معهم على ضرورة إعلان الإضراب .. الذي ما لبث أن أُعلن لتشهد دمشق تظاهرة شعبية غاضبة واجهتها سلطات الانتداب بالحديد والنار ثم عادت لترضخ لمطاليبها، استدعى المفوض الفرنسي "دي مرتل" وفداً برئاسة هاشم الأتاسي ليضعوا الخطوط الأولى لمعاهدة يحملها وفد وطني الى باريس.. ثم كانت الحرب الكونية وتعطّل كل شيء ...

 

وما كان ذلك ليكون لولا أن منزل السيد في حي الخراب (حي الأمين الآن) كان منتدى لأهل الفكر والسياسة يتوافدون عليه ويلتقون فيه حول السيد يتعارفون ويتثاقفون.. مضطرين ان يدخلوا اليه من بوابتين بوابة (باب توما) الحي المسيحي والقيمرية حيث الكنيسة الأولى في تاريخ الشام وبوابة حارة اليهود.. قادمين من دمشق السنية التي أتقنت، كما أتقن غيرها من العواصم الكبرى، دورها في دمج المختلفات على قاعدة الوحدة والتوحيد.

 

ومن وحدويته المتأصلة في عقله وقلبه صدر بيانه عام 1948 بعد النكبة، صريحاً في اعتبار ان مواجهة المحنة في فلسطين ليست شأن الفلسطينيين وحدهم، بل هي شأن العرب والمسلمين جميعاً. يقول السيد الأمين في بيانه الذي تصدّر صفحات الصحف العربية، وكان صداه كبيراً، وكان كبيراً وصادقاً جواب الحاج أمين الحسيني عليه.. "أيها العرب، أيها المسلمون، ان أخوانكم في فلسطين قد أقضّ مضاجعهم ما هم فيه من محنة وبلاء، ففي كل ناحية دم وقتل وهدم وتدمير وخوف وذعر، فلا تضنوا عليهم ببذل التافه الحقير وقد بذلوا الجليل العظيم، فوالله لا يستسيغ الغمض من بات وأخوه مفترش القتاد، ولا تطيب الحياة لحرّ يضام أهلوه وذووه.. إن لكم في فلسطين تراثاً، إن لكم في كل غور ونجد وحزن وسهل منها دماً عجن به ترابها، وان أربعة عشر قرناً زاهرة بالمآثر والمفاخر تحدق بكم في آفاقكم تستفز عزائمكم وتستصرخ نجدتكم".

 

واستمرّ السيد في ممارسة دوره الوحدوي الفاعل في كل المفاصل الى جانب اخوانه من العلماء العامليين وفي مقدمتهم، خاصة في موقفهم الرافض للعرض الفرنسي بدويلة شيعية، ردّه السلبي على استفتاء لجنة "كنغ كراين".. وكان الرد وحدوياً عبروا عنه بالمذكرة التي رفعوها الى اللجنة والمؤتمرات التي عقدوها أو شاركوا فيها من مؤتمر الساحل الى مؤتمر صيدا ومؤتمر الحجير(1920م.)، وأخيراً بالمقاومة التي خاضوها ضد الإنتداب في جبل عامل ودفعوا أثمان العقوبة عليها فادحة باهظة ولم يندموا واستمروا وحدويين، يؤثرون العام على الخاص إذا تعارضا، بل يجدون خصوصياتهم مضمونة ومحفوظة في العامّ والاسلامي واللبناني.. وكان الاختبار لوطنيتهم بعد تأسيس الكيان اللبناني والدولة الوطنية، اختباراً ناجحاً، لم يتخلّوا عن نزوعهم الوحدوي ومدّوا أيديهم لبناء لبنان الوطن والدولة.

 

هذا السيد المجاهد.. هو في الأساس عالِم مجتهد وعاش حياته بين الطرس واليراع رفيقيه في حلّه وترحاله، من دمشق الى جبل عامل الى بغداد الى طهران وقم والنجف وسامراء الى أفغانستان مروراً بخراسان بحثاً عن الوثائق والمخطوطات وتنقيباً في الموسوعات، تأليفاً وتصنيفاً، ليضمّ السلاسل الذهبية من علماء المسلمين الشيعة بحنان ومحبة في موسوعته الكبيرة (أعيان الشيعة) التي تحوّلت الى مصدر علمي لأجيالنا يشهد لهذا الحبر العربي الكبير بطول الباع والبال والصبر والإيمان.. ما جعل الدكتور حكمت هاشم رئيس جامعة دمشق الاسبق يرفع السيد وهو يرثيه الى مصاف كبار الرجاليين أمثال الخطيب البغدادي وابن حجر العسقلاني وابن عساكر وياقوت الحموي وابن خلكان والصفدي ومن اليهم. وصنف "أعيان الشيعة" من الأوابد والخوالد في تراثنا الاسلامي. هذا العظيم، كان شاعراً وله ديوانان يفيضان رقة وعذوبة.. وله كتاب عن سيرته يعيد القارئ قراءته عاماً بعد عام.. الى مؤلفات في أبواب الفقه والأصول والتاريخ والعقائد والى كتابات جريئة هدفت الى تصحيح كثير من الممارسات الدينية الشعبية، وأهمها القراءات والممارسات في عاشوراء حيث لاحظ المبالغات القاتلة وشكّ في أن تكون آتية من السياق الديني الاسلامي (الشرع) أو من التسلسل التاريخي الحقيقي لطريقة استحضار الشيعة لواقعة الطفّ والشهادة.. ونال على ذلك راضياً صابراً موجات من التكفير والشتائم.. وفي نهاية المطاف استوى في وعي الناس شيعة وسنّة، مسلمين ومسيحيين، مصلحاً نظيف الكف، عفيف النفس، كثير الحبر، بالغ الصبر.

  

* كاتب لبناني

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1404 السبت 15/05/2010)

 

في المثقف اليوم