تجديد وتنوير

ادوارد سعيد في ذكرى بقائه

تاركاً وراءه ارثاً فكرياً حضارياً سيبقى منارة ثقافية للأجيال الفلسطينية والعربية القادمة.

 

يعتبر الراحل د. ادوارد سعيد من كبار المثقفين والأكاديميين المعاصرين، ومن أبرز المدافعين والمقاتلين عن حرية الفكر والمعتقد والابداع، ومن المحاربين ضد كل أشكال وألوان الفساد والقهر والاستبداد والاضطهاد الانساني والبشري.

 

امن ادوارد سعيد بالثقافة الانسانية، كضرورة لعالم اليوم والغد، وأعطى صورة حقيقية جديدة للنخبة الفكرية الفلسطينية المثقفة، وكان صاحب عقل تثاقفي، وتمتع برؤية شاملة وثقافة جامعة، وكانت حياته انسانية وغنية، فكراً وثقافة وعطاءً، وممارسة ومسلكاً، وأعتبر من صفوة المثقفين وخيرة مناضلي الشعب الفلسطيني. وقد حارب نهج المغامرة والانهزام والاستسلام، وأنتقد القيادة الفلسطينية في كتابه غزة ـ أريحا، ودافع عن حقوق الانسان، وذاد عن المثل الانسانية والقيم النبيلة الرفيعة، وساهم مساهمة كبرى في مسيرة النضال الوطني التحرري الفلسطيني.

 

وقال عنه، بحق، شاعرنا الفلسطيني الراحل محمود درويش : "لم ينجب التاريخ الثقافي الفلسطيني عبقرية تضاهي ادوارد سعيد المتعدد المتفرد، ومن الان وحتى اشعار اخر، سيكون له الدور الريادي الأول في نقل اسم بلاده الأصلية، من المستوى السياسي الدارج الى الوعي الثقافي العالمي. لقد انجبته فلسطين ولكن بوفائه لقيم العدالة المهدورة على أرضها، وبدفاعه عن حق ابنائها في الحياة والحرية، أصبح أحد الاّباء الرمزيين لفلسطين الجديدة".

 

ولد ادوارد سعيد في القدس، زهرة المدائن وعروس الشرق، سنة 1935، وأنهى دراسته الثانوية في مصر . وفي سنة 1957 هاجر الى الولايات المتحدة الامريكية، وهناك تعلم في جامعاتها ونال شهادة البكالوريوس من جامعة برنستن، ثم أكمل تحصيله الجامعي وحصل على الماجستير والدكتوراة في الأدب المقارن من جامعة هارفرد، وبعد ذلك أصبح أستاذاً في جامعة كولومبيا الأمريكية بموضوع الأدب الانجليزي.

 

لادوارد سعيد كتابات ضخمة عديدة في الأدب والنقد والسياسة والفكر، ومن أهم وأبرز مؤلفاته: " صور المثقف، الأستشراق، مسألة فلسطين، الأدب والمجتمع، تغطية الاسلام، العالم/ النص/ الناقد، بعد السماء الأخيرة، رواية السيرة الذاتية، الثقافة والامبريالية، سياسة التجريد أو الأسلام الأصولي، سلام أمريكي، السلام والسخط، غزة ـ أريحا، تعقيبات على الأستشراق، عالم المعرفة " وغير ذلك .

 

في كتابه " صورة المثقف " يعالج ادوارد سعيد اشكالية المثقف وتمثلاته في ظروف الامبريالية، فيقول: " نحن كلنا نعيش في مجتمع، وننتمي الى قومية لها لغتها وتقاليدها ووضعيتها التاريخية الخاصة بها . فالى أي مدى يكون المثقفون خدام هذه الواقعيات؟ والى أي مدى يكونون عداءها ؟ ويصح القول ذاته في علاقة المثقفين بالمؤسسات الأكاديمية، الكنيسة، النقابات المهنية، وبالقوى الدنيوية التي اختارت في أيامنا هذه ضم الصفوة من المثقفين اليها على نحو غير عادي. ونتائج ذلك ـ كما عبر عنها ولفرادوين ـ ان الكتبه على كل الناس يتهجمون/ وللدولة بولائهم يزعقون. وبرأيه، ان الواجب الفكري الأساسي هو البحث عن تحرر نسبي من مثل هذه الضغوط. ومن هنا كان تصويره للمثقف كمنفي هامشي وهاو، وخالق لغة تحاول قول الحق للسلطة". 

 

أما في كتابه "الثقافة الامبريالية" فيكشف فيه مدى معركته الفكرية ضد الاستعمار الثقافي وغير السياسي وراء الفكري . وهذا الكتاب هو تتمة للمسار الفكري الذي بدأه بكتاب " الأستشراق"، ويعيد فيه احياء القضايا والاشكالات، التي طرحها وتناولها في الاستشراق، ولكن في سياق أوسع وأرحب.

 

 ادوارد سعيد كان وسيظل كبيراً، بما أعطى وقدم، وبأهمية ما أعطى في عمقه وجدته وشموليته ودقته وريادته، وبمعاركه الثقافية الانسانية ضد العنصرية المتخفية تارة وراء الاستعمار والامبريالية . انه أحد الأصوات التي حملت القضية الفلسطينية والهم الفلسطيني الى أنحاء المعمورة جميعها.

 

وغني عن القول ان ادوارد سعيد بكتاباته وتنظيراته وتحليلاته المتنوعة وبنشاطه الفكري والسياسي قدم نموذجاً حياً وساطعاً للأكاديمي النخبوي، والمثقف العضوي، والمفكر الحر، والعقل المستنير الباحث عن الحقيقة الغائبة، والمؤصل للثقافة الوطنية والديمقراطية الانسانية . وصدق الشاعر سميح القاسم في قوله: " لم يكن ادوارد سعيد مجرد أكاديمي، بل كان احداً من أسماء الفكر الحسنى، وجمع في شخصيته بين سمات الأكاديمي العميق والمفكر المتميز وسمات المناضل الملتصق بشعبه ووطنه التصاقاً الغى التشرد والمنفى" .

فسلام عليك يا ادوارد سعيد، وستبقى في ذاكرة ووجدان شعبنا ومثقفيه، ولن تموت .. !!

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1184 الاربعاء 30/09/2009)

 

 

في المثقف اليوم