ترجمات أدبية

الوزن

صالح الرزوققصة: آن إينرايت

ترجمة: صالح الرزوق

حينما تفحصت بطاقة الدخول، كانت في وسط الرتل، وهناك رجل ببذة زرقاء في الممر، منحها ابتسامة مبيضة عريضة وهو يتنحى من أجلها لتمر. بقي  المقعد بجوار النافذة شاغرا لفترة من الوقت. وارتفعت آمالها حينما صعد على متن الطائرة رجل بحقيبة، وكان شعره مندى بالرطوبة. ولكن هناك آخرون في الممر، وتوقف واحد منهم قرب مقعدها: صبي ضخم، حاول أن يجد مساحة لحقيبته في الرفوف. وكانت بطنه واضحة وأمكنها أن تراها من خلف انفراج قميصه الأخضر رغم حزام الجينز.  ولكن الحقيبة لم تتسع، ولذلك ضغطها على صدره والتف  حول نفسه وشق طريقه نحو المقعد المجاور للنافذة. كان يرتدي قبعة مثل قبعات البيرو مصنوعة من صوف بني وأبيض ومن طراز لاما مع غطاء أذن انسدل على جانبي رأسه، وكانت خصلة تتدلى من الغطاء حتى طرق الياقة. من الواضح أنه مراهق. تسعون بالمائة منه عضلات، وثلاثون بالمائة دهون، وربما أمامه فرصة للطول بمقدار ثلاثة إنشات. وما أن اتخذ مكانه على المقعد - لم يعرف ماذا يفعل، فغرس حقيبته بين ساقيه. وبدورها احتلت مساحة من أرض المقعد الذي أمامه. وبشكل من الأشكال لم يتمدد هذا الصبي العملاق حفاظا على راحتها.  انطوى على نفسه. تقريبا بمهارة. وكان الشاب المجاور للممر يحمل جريدة، جريدة بصفحات كبيرة، فتحها وهو يرتجف، ولكن الصبي المجاور للنافذة قدم لها شيئا من مساحته. ولم تكن له رائحة، وكذلك قبعته. نظيفة. أما عيناه، حينما نظرت لهما، كانتا خجولتين وبنيتين.

وما أن انطلقت الطائرة وانفصلت عن المدرج اندمجت عظام ظهرها بالمقعد، وهكذا سافرت وصدرها للأمام، قلبها للأمام، وحوضها مستقر على حوض المقعد،  ولأن الجاذبية تجرها للخلف بهذه الطريقة -  صعب عليها أن تفكر بأي شيء إلا الصعود. وبعد قليل، سمعت صوت طرقات في الميكروفون، ولكن لم يتبدل شيء ولم يبارح أحد مقعده. ومرت الطائرة من خلال غلاف رقيق من الغيوم، وتجاوزت طبقة من النور السائل، باتجاه سرب غيوم آخر، كان يبدو أسود كصوف الحديد، ثم تحول للون رمادي وتبدل ببطء ليصبح أبيض. وبلحظة خاطفة تحرروا منه.

تحب بيبا لحظة الانطلاق في الفضاء العلوي، فهو أزرق وساطع جدا. وكانت تنتظر حدوث ذلك في أية لحظة، ولكن المحركات تململت في مكانها وبدأت الطائرة بالانقباض والالتفاف، ثم الاستدارة مجددا. كانوا يواصلون الطيران في مساحة بيضاء، ولم يبق أمامهم أفق لتستدل به على موضعهم، ولكن صف المقاعد الثلاثي اندفع للأمام، مرة بعد أخرى. وسقط الرجل الذي يرتي بذة براقة على كتفها، وانهار الصبي في مكانه . أماعيناه - بل عيونهم جميعا - فقد جحظت نحو النافذة ولا سيما حينما انعطفت الطائرة. ولم تكن نحو الأمام الآن وكأنها تسقط. ثم تابعت الطائرة سقطاتها. 

سقطوا من اللون الأبيض الكثيف عبر طبقات الضباب المحمل بأمطار لم تهطل، حتى عادوا إلى نقطة انطلاقهم: طقس الظلام الواسع المغطى بالضباب المتراكم على الأرض. وأصبح من الصعب أن تتأكد إذا كانت الطائرة  لا تزال تدور نحو الخلف، أم أنها تسقط فقط. اندفاعة أخرى أودت بهم بزاوية حادة وتضاعف الشك أن مقدمة الطائرة تتجه للأسفل: ربما بدأت الطائرة بحركة لولبية عبر الفضاء.

ولم يعد لدى أحد الرغبة بالنظر لأحد، لأنه لو التقت العيون، سيفهمون أنهم على وشك أن يلقوا حتفهم. وأصبح بمقدورهم رؤية الريف في الأسفل: مدينة صغيرة في جانب،  ثم جبال تحتهم مباشرة. وكانت الأرض تدنو، ولكن ليس بسرعة. ولم تكن الحال تبدو خطيرة، وكأنها ستستمر لفترة أطول: والسؤال هل هذا طيران أم سقوط. ونشأ ألم عميق في معدتها، مع ذلك احتفظت بصفاء ذهنها. وأخبرها ذهنها أنه يمكن أن تموت خلال ستين ثانية قادمة أو ما شابه. وكان لديها وقت يكفي لتضحك من مخاوفها وأن تعود إليها مجددا، ثم لتفكر بآخر ما جاء في ذهنها وإغماض عينيها عليه: زوجها وأطفالها الثلاثة النائمون في أسرتهم.

كان إحساسا عائما وغريبا. هذا السقوط. مخلوقات إنسانية في الطائرة وتسقط بسرعة واحدة مثل المعادن التي تحيط بهم، ولذلك لم يعد هناك أي قوة تعاكس الالتحام. وانتبهت للفارق في سقوط وزن الطائرة الكبير ووزن أجسادهم الخفيفة  داخلها. 

وربما ارتطموا بكتلة حرارية، أو بشيء آخر، بفجوة هوائية بين الجبال. ونظرت لبحيرة تحتهم، أو ربما لشيء مختلف ويشبه مدخنة باردة يمكن أن يتدحرجوا فيها، ولم يكن هناك شيء يشبه هذا الإحساس في المشاهد الطبيعية حولها.

التفت الصبي المجاور للنافذة  لينظر نحوها، إحدى يديه مستقرة على جدار الطائرة، والثانية على ذراع مقعده.

وعندما نظرت إليه باتجاه الأسفل - لأنه الآن مباشرة أدنى منها - شاهدت شيئا لم تكن تراه منذ أن فتح أولادها عيونهم لأول مرة. كائن بشري كامل. بالحرف الواحد هو نفسه. شخص جديد في حياتها. ولكن ما الفائدة منه الآن؟.

كان في السابعة عشرة. ربما الثامنة عشرة. أما هي فيبلغ عمرها ثلاثة وعشرين عاما. وفي هالة النور التي سقطت من الطرف المقابل للطائرة (والآن هو الطرف الأعلى منها)، لاحظت أن عينيه ليستا بنيتين وبلون الجمرة. جلد حنطي وشعر أسود - كانت عيناه جميلتين، إنما من الصعب أن تجزم. كان الصبيان لغزا بالنسبة لها: وبالرغم من القبعة التي تلفت الاهتمام، لم يكن فيه أي شيء يجذب النظر. وهذا طبعا الغاية المرجوة من القبعة – التنكر.

تململ الصبي تحت قبعته السخيفة، محتارا بنفسه ومختبئا وراءها. ونعم، بدا مرعوبا، وأيضا كانت الخصلات الصوفية ترتعش. وقال:”لا أصدق ما يحصل؟ الآن؟”. وقد خفف عنها ذلك كثيرا. وفكرت أن تقبض على يده، أو أن تلمسها، وكانت متمسكة بمقدمة ذراع مقعدها: ورأتها شاحبة، كما لو أن الرعب تسبب له بالرد. واعتقدت أنه بمقدورها أن تدفئها قليلا. فيده أمامها هناك فعلا.

ثم في مكان ما وقبل قمة الجبال - قبلها بكثير - على ارتفاع ثلاثة أو خمسة آلاف قدم، نجوا من المصيبة، مهما كان نوعها. استوت الطائرة: وزاد وزن أجسامهم مجددا وهي تعلو. ونظروا بصمت جهة المقاعد الأمامية. وقاومت بيبا الرغبة بلمس الصينية البلاستيكية الرمادية التي أمامها. وسحب الصبي سماعات من جيب قميصه  الأخضر، أما هي فقد أغلقت عينيها.

***

 

............................

آن إينرايت  Anne Enright : كاتبة إيرلندية. لها ست روايات، من بينها “الطريق الأخضر” و“الفالس المنسي”. أما آخر كتبها فهو رواية “الممثلة”.

 

 

 

في نصوص اليوم