ترجمات أدبية

ماتياس إينار: آخر هجوم للروس القوزاق

2877 ماتياسبقلم: ماتياس إينار

ترجمة: صالح الرزوق


 شاهدتني وتنهدت وحزرت فورا. قالت:”هذا يستحق فعلا”. نظرت لي لفترة طويلة، وقالت أيضا:”لوسي تريد أن تساعدها بواجبها المنزلي”. ضغطت على مفاتيح الببيانو. ولم يزعجها ذلك. كانت تبدو قلقة وليس متحسسة. خائبة الأمل وليس غاضبة حقا. وقالت بصوت يرتعش قليلا:”اسمع. هل تمانع أن أخفف من صوت الموسيقا؟”.

كان ليونارد كوهين يغني قائلا: نيويورك باردة في نهاية كانون الأول.

“إذا سيمر وقتك برفقة لوسي. من الأفضل أن تعزف قليلا على الكمان. وربما تعتقد أنه يمكنك أن تشاركها العزف؟”. أرادت مني أن أعبر، أن أقول شيئا. لكن بكلمة: نعم، بالتأكيد.

قالت:”كل هذه الجهود بلا طائل”.

قلت:”كلا. ليس بلا فائدة”.

وغادرت حينما كان كوهين يقول: أنت تعيش بلا طائل الآن، أو شيئا من هذا القبيل.

كان العنوان اللعين هو “معطف المطر الأزرق الشهير”،  والأغنية حزينة جدا، أوقفت الموسيقا. ومرت بي رجفة غريبة، رجفة مطولة. كانت لوسي في غرفتها. متمددة على البساط، وتنظر في كتاب مصور يعرض صور الجياد والفرسان العالميين. وكانت ترتدي بلوزة فضفاضة ناعمة فاستلقيت بجانبها، وأصابني البرد فجأة. ابتسمت لي، وقبلتني، وقالت: انظر للفرسان، كم هم أنيقون، أليس كذلك؟.

قلت لها: نعم، هؤلاء قوزاق، قوزاق روس على نهر الدون.

“قوزاك روس؟”.

“نعم قوزاق”.

”لماذا هم بعجلة من أمرهم؟”.

ضحكت. قلت:”آه. حسنا. يسرعون إلى... إلى معركة، كما أفترض. لكن روسيا بلد. والدون اسم نهر. نهر كبير في روسيا”.

بدا كأنها تتخيل نهرا متجمدا عريضا ومئات الفرسان، تخللت بأصابعي شعرها فشخرت، قلت لنفسي: تقريبا مثل مهرة. كانت صورة القوزاق فعلا واضحة وجميلة. ويمكنك أن تشاهد قائدا نبيلا وأنيقا يقود فريقه في هجومهم والقذائف تتساقط من المدافع. من مسافة بعيدة يمكنك أن تلاحظ العدو، فرنسيين بالتأكيد، وصورة النسر المفترس ترفرف على قبعاتهم المصنوعة من جلد الدب وعلى راياتهم الخفاقة. كان هذا هو عام 1812 دون شك. ربما هي معركة بورودينو. كانت الجياد الصغيرة تلمع بالعرق. وتحتها مكتوب ما يلي ببساطة:”القوزاق الروس على الدون”.

“وكيف لا ترتعد الجياد من الانفجارات؟”.

“ليس لدي فكرة. أعتقد أنها مدربة”.

“بتفجيرات وهمية؟”.

“ربما. نعم. هذا ممكن. ولكن القوزاق أشجع الجنود. وكذلك يجب أن تكون جيادهم شجاعة أيضا كما أفترض”.

“ولا يهابون من الموت؟”.

“صحيح. يقبلون الموت في المعركة، فهي حياتهم”.

“وماذا عنك، هل تهاب من الموت؟”.

ترددت لحظة، وكنت أريد أن أقول نعم، تماما. ثم قلت:”لست متأكدا. أعتقد ذلك”.

“ولكنك شجاع جدا يا والدي”.

لم يكن بالضبط يوما يدل على شجاعة فائقة. هذا أقل ما يمكن أن تقول.

”أحيانا. مثل كل إنسان”.

نظرت لي. وأعتقد أنها تخيلتني على صهوة حصان أواجه المدفعية الفرنسية.

“وماذا عن الوظيفة المنزلية. هل سنعمل عليها؟”.

وبدأت بقصائد لبريفير وموريس كاريم، ولم أتمكن من الامتناع عن التفكير بهؤلاء القوزاق الذين يواجهون زخات الرصاص. نظرت لابنتي دون أن أصغي لها، وفكرت: للوسي عينان بنيتان جميلتان مثل أمها. وسمعت صوت سارة في المطبخ. كانت تحضر الغداء. وتركت لوسي لتمارين القواعد وعدت إلى مكتبي. فتحت دفتر الملاحظات المرمي هناك وكتبت:”آخر هجوم للروس القوزاق. لم أعرف لماذا سجلت ذلك. ثم حملت قارورة من الخزانة، وكانت فارغة بمقدار ثلثها، وشربت كأس نبيذ، بسرعة حارقة، وتدفق البخار اللاهب من فمي. وغلبني الخجل. عزفت شريط ليونارد كوهين مجددا، المعطف القديم المطرب. وسمعته يقول: كانت الساعة الرابعة صباحا. من نهاية كانون الأول.

جرعت قطرة إضافية، وقلت لنفسي: حتى القوزاق وهم على الدون يحتاجون لشراب ليصلوا لأقصى شجاعتهم. ساعد كوهين على تحويل كل شيء مرئي لضباب، واتسعت أنوار الشارع على طول الرصيف الرطب في الخارج. لم أتمكن من مغادرة المكتب. وأمكنني سماع صوت زوجتي وابنتي، كانتا تتكلمان، وهناك أصوات أطباق، وضحكات عابرة، وكل شيء امتزج بالكحول وليونارد كوهين. أغلقت الباب كي لا أسمعهما. ولم أتمكن من الانتظار هناك لفترة لانهائية. وفكرت أن أحمل سترتي وأغادر، وأشاهد أرضا بيضاء مثلجة أقفز عليها، وأنا بجزمة سوداء جلدية جميلة، مكان يمكن للإنسان أن يكون فيه حرا، حرا يدمر نفسه ولا يقوم بأي إجراء له قيمة، أو يتحلى بالشجاعة، وربما ليجد، إن كان محظوظا، عبارة مفردة ذات معنى قبل أن يوافيه أجله، على صهوة حصان، وبمواجهة عدد غير محدد من الأعداء، وذلك للمجد والسعادة القصوى، وهو يشرب جرعة أخيرة لأجل الطريق.

قالت لي سارة: مشكلتك أنك تكتب لتشرب ولا تشرب لتكتب.

قالت سارة: مشكلتك أنك تعيش في عالم غير موجود.

قالت سارة: مشكلتك أنك ضحية أسطورتك الشخصية. 

ودخلت لوسي بكل رشاقة دون أن تستأذن. ولم تلاحظ الكأس الذي بيدي، ولم تلاحظ كم مضى علينا منذ أن رأتني لآخر مرة وبيدي كأس، ولم تقل لي: لم اليوم، يا والدي، لم ليس الأمس، ولماذا ليس الغد، لماذا اليوم بالتحديد. لم تسألني عن أي شيء مثل هذا أبدا.

حملت كمانها وصاحت: تعال يا والدي. دعنا نعزف، ماما تقول تأخر الوقت.

أوقفت معزوفة كوهين، كان يغني: واقتربت جاين مع خصلة من شعرك.

كان للوسي شعر والدتها المبهر، فكرت: تصبح جميلة جدا حينما تعزف بالكمان.

جلست خلف البيانو. ومدت سارة رأسها من الباب بمجرد أن سمعت عزفنا.

قلت لنفسي: نحن هذه النغمات الثلاثة للمفاتيح. كنا وسط العزف، ثلاثتنا نخفق مثل ثلاثة غربان بانتظام، كل منهم يلتزم بمداره، لا يتجاوزه، ولا يلمس رفيقه.

حاولت أن لا أنظر لعيني سارة. كانت أنغام الفالس البطيئة الصاعدة محزنة جدا، للغاية. طمرت نفسي في نغماتي، وتغلغل الكمان داخلي، وهكذا تمضي الحياة.

قلت لنفسي. إنها خفقات، ذبذبات مؤلمة في الفضاء، سباق بين جياد مندفعة في ثلوج الخوف الغزيرة.

***

.....................

الترجمة من الفرنسية: أليكس أندرياس.

 

ماتياس إينار Mathias Énard: روائي فرنسي. درس اللغتين العربية والفارسية وعاش لفترة طويلة في الشرق الأوسط. عاش 15 عاما في برشلونة. وفترة بسيطة عام 2013 في برلين. من أهم أعماله “شارع اللصوص / 2014” الحائزة على الغونكور عام 2015، البوصلة 2015، أخبرهم عن المعارك والملوك والفيلة 2010، منطقة 2008، ....  

 

 

في نصوص اليوم