ترجمات أدبية

كاثرين هيني: دمشق

بقلم: كاثرين هيني

ترجمة: صالح الرزوق

***

عاد غوردي ابن ميا المراهق من العمل إلى البيت، وكان منهكا. مع ذلك قالت ميا لنفسها: يبدو سعيدا جدا. لا بد أنه يعشق عمله. وهو يعيش حياته كالمخمور.

تبدو ميا مثل أمها. لكن غوردي استثناء بين المراهقين أمثاله، ليس بسبب نباهته أو مظهره - فقد كان شديد التألق، وتعتقد ميا أنه حسن المظهر - وطبيعته لطيفة ودمثة أيضا. وهو الآن في السابعة عشرة من عمره، ولم يتسبب لميا ولو بلحظة قلق واحدة. كان نسيج وحده بين أقرانه المراهقين: من نوع نادر، وسيم وفاتن بوجه طويل، وربما موهوب، ولديه قدرات ليهب الآخرين بركاته ومعجزاته.

حينما عاد غوردي من عمله الصيفي، في السوبرماركت، كانت ميا في المطبخ، تفتح رسائلها، وتغذي وارول، وهو كلب صيد من نوع كوكر، صب غوردي لنفسه كوبا من الحليب وقال:"جاءت السيدة العجوز وطلبت سمكتي قريدس". فقد كان يعمل في قسم الجزارة، ولاحظ أن العجائز اسوأ الزبائن، دائما تطلبن ذرات قليلة من اللحوم. وتابع كلامه:" قالت 'واحدة لي والأخرى لابنتي'، فأخبرتها إن ثمنها اثنين وأربعين سنتا، وحينها نظرت لي كأنها تفكر أن لا تحسب حساب ابنتها في المرة القادمة".

حدقت ميا بغوردي، ابنها الوسيم، بابتسامته الناعسة وعينيه البراقتين ووجهه المحمر، وخطرت لها الفكرة المهينة.. أن غوردي يعيش حياته كإنسان مخدر.

كان المخدر الذي وقع عليه اختيار ميا في أيام الدراسة هو الحشيش. وحين تعود الى البيت بوقت متأخر، تفوح منها رائحة أقوى من رائحة شجرة عيد الميلاد، وعيناها كالزجاج، ولا تتوقف عن الهراء، والإحساس بالجوع. فتضع أمها جانبا حياكتها أو رقعة كلماتها المتقاطعة وتقول:" أهلا بك يا عزيزتي. هل أنفقت وقتا طيبا مع صديقاتك؟".

كان لأم ميا وجه تام الاستدارة، وأنف شامخ، وعينان واسعتان ملؤهما التفاؤل، وابتسامة لا تذبل (كانت تبدو كأنها نسخة من فروستي رجل الثلج، إذا وضعت على رأسه شعرا مستعارا أجعد). وكانت تحب طهي المعجنات في الفرن، أو ما يشبه المعجنات. وكانت تحضر مع ميا عجينة الكعك بالسكر، وتأكلها قبل طهيها، أو تخبز الجلاتين المحلى تحت الدجاج لتحضر منه السميري بالشوكولا.

وكانت ميا تزمجر لفترة طويلة وتسرد حكايات ملفقة، مثل "جاءت هذه الليلة بنت تضع أسلاك تقويم الأسنان، ولم يتعرف عليها أحد، ولم نعرف من دعاها، أو لماذا تضع الأسلاك مع أنها في مدرسة ثانوية، ولكن بعد أن هجرت ميشيل سكوت اعتادت على ذلك -". وأخبرت ميا أمها إنها تعني اعتادت على تبادل القبلات. "وكما تلاحظين أرى أن هذا مجرد هراء. والآن أود أن أخبر ميشيل أن صديقها ينجذب إلى الأسلاك، ولكن أعلم أنها ستغضب".

فتقول لها أمها:" آه يا عزيزتي". ويغطي وجهها لون زهري وتضيف:" يسعدني انك تخبرينني بكل شيء. وأنا مسرورة لأن العلاقة بيننا تقوم على الصراحة".

فتقول ميا:" تناولت هناك أفضل سميري تذوقته في حياتي كلها".

ويمكن أن تفهم أن أم ميا، التي تدير طاولة المبيعات في متجر أقمشة، لا تتعرف على المراهق المدمن، لكن ماذا عن ميا؟. كانت ميا تعمل في عالم الفن، بصفة مساعد مدير لصالة عرض في جورج تاون، ومع أن الصالة هادئة ووقورة إلى حد ما، كانت العقاقير متوفرة. واحتفظت ميا بخمس نظارات شمسية في طاولتها من أجل الفنانين الذين يأتون للمشاركة بمعارضهم مع تلاميذهم إما بعينين لا يظهر البؤبؤ فيهما بسبب تعتطي ااهروين، أو انهما متسعان بشكل قرشين من تعاطي الكيتامين. ولا تستغرق وظيفة ميا إلا أربع ساعات، وفي إحدى المراحل كانت تنفقها برفع شعر نحات مشهور وهو يتقيأ أملاح الاستحمام في دورة المياه. وكانت شهرة ميا معتدلة في الصالة، ومعروفة أنها من أوجد نظام اللاسلكي (في التسعينات) وهو ما سمح للموظفين أن يختفوا في زوايا المعرض، ويتواصلوا مع بعضهم البعض لمتابعة حركات بعض الرسامين قائلين: لديه مشروب في يديه.. إنه يترنح للأمام والخلف... قال لكلوديا وولف إنها "غير ناضجة"... يحاول أن يفتح باب إحدى اللوحات. يعتقد أنه الحمام.

والآن ها هي تفكر أن ابنها مخدر من الحياة. ضحكت ميا من هذه الفكرة. ولكن - غوردي؟. هذا يبدو مستحيلا. حينما كان طفلا كانت أم ميا تقول بصراحة:" أرى بكل وضوح أن غوردي طفل عذب المحيا والطباع، ولا يوجد مثله في العالم. أعلم أنك ستضحكين مني، ولكن أشعر بالأسف لكل الأمهات اللواتي تعتقدن أن ابنهن هو الأفضل". ضحكت ميا منها، ولكنها وافقت سرا. واستمر غوردي بهذه الهيئة.. حلو القسمات وبسيط الطباع في كل المراحل التالية من حياته.

الجميع يعلم أن الحب أعمى. ولا شك أن ميا وافقت أن الحب أعمى. فقد كانت تلتقي مع زوجها السابق بمواعيد غرامية وتفسر عبثه مع النادلات على أنه من باب حسن السلوك والمشاعر الإنسانية. ولكن لا أحد يعترف أن حب الأبوين أعمى أيضا - على الأقل لم يخبر أحد ميا بذلك. ولم ينوه أحد لميا أنها لا ترى غوردي الحقيقي. ولم يخبرها أحد أن الحب يضع غشاوة على البصر كلما نظر الآباء لأبنائهم، حتى أنه يستحيل تخيل أنهم يتعاطون المخدرات - حرفيا يستحيل تخيل حدوث ذلك. غوردي يدخن الحشيش؟. كيف يمكن لذلك أن يحصل؟.

قال غوردي من الكنبة حيث كان جالسا يتفحص هاتفه:" توقفي عن التحديق بي يا أمي. هذا يرعبني".

تدرك ميا كيف يبدأ الإدمان. فقد بدأت هي حينما دعيت إلى حفلة. كانت حفلة من النوع الذي يشترك فيه الصغار في كل عطلة أسبوعية، ولكنها دعيت لمرة واحدة، وأحبت أن تتكرر هذه الدعوة. وحينما مرر أحدهم سيجارة حشيش في الحفلة، نظر الجميع إلى ميا ينظرون لردة فعلها، فتذوقتها مرة. ثم مرة ثانية. (ميا عمليا لم تكن تقاوم ضغط العيون المسلطة عليها في المدرسة). ولكن مع الوقت بدأت تعتقد أن هؤلاء الصغار يزمعون على أمر ما - وبعد النشوة تصبح كل خلية في الجسم متراخية، ويسهل التعامل مع كل المواقف الاجتماعية. وهكذا تحولت إلى إنسانة مسلية ومنفتحة، وفجأة تزايد عدد أصدقائها، وأصبح بمقدورها الاشتراك بالعديد من الحفلات.

بدأت تشعر أن ميا الصلبة هي ميا الحقيقية. وميا الصابرة إنسانة في ظرف لا يتلقى العناية المناسبة، وتعاني من قرحة أو أوجاع الشقيقة. كل إنسان لديه الحق في معالجة معاناته. وعما قريب على ميا أن تدخن في الصباح قبل دوام المدرسة وفي ساعة الغداء، وخلال استراحات دورة المياه في فترة ما بعد الظهيرة (لأن ما بعد الظهيرة مزعجة جدا دون هذه الاستراحات)، وبعد الدوام وقبل الغداء وبعده، وقبل النوم في السرير، بغض النظر عن عطلة الأسبوع حينما تحصل على فترة تنفس طويلة من ما بعد ظهر الجمعة وحتى صباح الاثنين.

خابر ميا زوجها السابق جاك هنري، على أمل التفاهم واستعادة الثقة، متناسية أنه لا يمتلك هذه الصفات، وهي بعض الأسباب التي قادتهما إلى الطلاق.

وأخبرته بتوقعاتها عن ابنهما، فقال:" آه يا للمسيح. أتمنى أنه ليس الحشيش".

عبست ميا وقالت:" أعتقد أن الحشيش أفضل الاحتمالات".

قال جاك هنري:" ولكن الحشيش يجبرك على الاستلقاء والكسل. ولدى غوردون الكثير من الفراغ. وهو بحاجة لمزيد من الطموح".

" حسنا، أنا…"..

قال جاك هنري:" الآن الشباب في شركتي يدخنون الكوكايين إذا كانوا بحاجة لليقظة وكتابة مذكرة. إن لم يكن الكوك فهو الريتالين".

سالته ميا:" هل هذه نصيحتك؟. أنه عليه أن يتجه إلى المحفزات؟".

قال جاك هنري والذي يعمل تسعين ساعة في الأسبوع، ومرة تم تشخيصه بنقص فيتامين D بسبب نقص أشعة الشمس:" كلا. نصيحتي الحقيقية أنه على غوردون أن يخرج من البيت لفترات أطول. فهو ينفق أوقاتا طويلة في البيت".

قالت ميا:" يمكنك أن ترافقه بنزهة في عطلة الأسبوع".

قال جاك هنري:" ليس وعقد أوبرلين للتحويل قد حان وقته، لا يمكنني ذلك".

كان يحتج على طلاق ميا له. بالإضافة إلى بقية الشؤون التي تشغله.

في يوم الثلاثاء حصلت ميا ومعها غوردي على عطلة، وقاما بزيارة دمشق لرؤية أم ميا. أخبرت ميا غوردي وهما يربطان حزامي الأمان:"أخبرتني أنها أعدت مفاجأة لك".

قال غوردي:" ربما شال أفغاني". كانت أم ميا قد حاكت ملاءات أفغانية متعددة لكل صديق وعضو في العائلة، ولأصدقاء الأصدقاء، وأصدقاء أعضاء العائلة. لو أن هذه المنسوجات الأفغانية كانت عام 2020 ورق دورات مياه لأصبحوا جميعا مليونيرات.

قالت ميا وكانت متأكدة مائة بالمائة أتها أشغال أفغانية:" من يعلم".

قال غوردي:"لا بأس لو أنها كذلك. فأنا أحب المنسوجات الأفغانية".

حينما ردت أم ميا على الباب احمر وجهها المستدير بالحبور من المفاجأة التي تفوق مفاجأة الحياكة الأفغانية. وضعت أصبعا على شفتيها ثم تقدمت إلى الصالة، وأغلقت الباب وراءها.

قالت:" مرحبا يا عزيزتي. تبدين جميلة جدا يا ميا ومتماسكة. وأنت يا غوردون يا لك من شيطان وسيم".

قال غوردي:" تحياتي يا جدتي. لماذا نحن نقف في الخارج .. في الردهة؟".

قالت أم ميا:" بنجامين ينام في مقعدي". وبنجامين هو رجل الصيانة المتقاعد في المحلة، شاب أشقر، وله لحية، بالثلاثينات، ومرة ربت على ميا ببهجة. أضافت:" جاء ليوضب المفاجأة، وجهز الكاكاو، وكنا نتبادل كلاما عذبا، ثم غلبه النوم. فقد أتعبته هنا جدا لدرجة مخزية. ولكن هيا إلى الداخل. سأريكما المفاجأة".

تبعا أم ميا إلى داخل الشقة، ومروا جميعا باحتراس من أمام بنجامين، الذي كان يبدو بحالة فقدان للوعي، ومستسلما لمتكأ أم ميا. وكانت تفوح منه رائحة بودويزر قوية. (أحيانا، بصراحة، تكون كأنك تتسلسل وراء أم ميا وتلقي عليها شبكة، وتهددها بالجر إلى الخلف).

فتحت أم ميا باب غرفة النوم الاحتياطية وهمست تقول:" تفضل وانظر. أحضرت لك بلاي ستايشين لتلهو بها في أوقات زيارتك".

بدا غوردي مبهوتا وقال:" هل هذه حقيقية؟. من أجلي؟ شكرا لك يا جدتي".

وضع ذراعيه حول كتفي أم ميا، فلفت خصره بذراعيها، وتمايلا للأمام والخلف قليلا. كانا دائما حميمين في عناقهما.

قالت ميا:" أليس هذا مرتفع التكلفة يا ماما، لقاء شيء لن يستعمله غوردي إلا في فترات متباعدة".

قالت أمها:" آه منك يا ميا. كم أنت مقلقة. تقاسمت التكلفة مع عائلة داك وورث وعائلة موريسي، لديهم أحفاد بعمر غوردي. لا تهتمي. والآن يا غوردون هل يمكن أن تعلمني كيف ألعب بها؟".

قال غوردي:" حتما. ما هي الألعاب الموجودة لديك؟".

قالت أم ميا:" لدي الرجل العنكبوت 3، أضافها بنجامين للجهاز. إذا وافقت أمك على الاهتمام بغدائنا، يمكننا أن نلعب نحن لعبة سريعة. وكل شيء جاهز في الثلاجة يا ميا".

ذهبت ميا إلى المطبخ، وكانت قلقة من التكاليف. ثلاثة لبلاي ستايشن واحدة ليس أمرا "تافها". فقد دفعت ميا إيجار أمها، ومع أن لدى أمها بعض المدخرات، لكنه ليس بالكثير.

قالت أم ميا من الغرفة الأخرى:" ماذا علي أن أضغط لأجعله يقفز؟". رد غوردي بكلام غير مسموع.

فتحت ميا الثلاجة، وتطلعت لمحتوياتها: لحم بقر مشوي، خبز بيتزا، سلطة المعكرونة، رقائق خبز البيتا، طبق من الفريز، وقشدة طازجة للخفق. كل ما تشتهيه، وهذا ليس شيئا "تافها" أيضا.

صاحت أمها:" أنا أتسلق المبنى. انظر لي كيف أواصل التسلق".

قال غوردي:" أنت فعلا تحسنين صنعا".

فكرت ميا كيف أنها في أيام المدرسة الثانوية لم تسأل نفسها من أين لديهم النقود لشراء جينز جورداشي وتذاكر السينما ورحلات عطلة الربيع مع صديقاتها. ولم تفكر بالتضحيات المالية التي تحملتها أمها لتوفر لها تلك الأشياء من مرتبها الذي تتقاضاه من متجر الأقمشة، ومن تقاعد والدها الميت، حتى أصبحت هي بدورها أما. والآن ها هي أمها، تريد أن تلعب الرجل العنكبوت 3 مع غوردي، بينما ميا نفسها لم تهتم، ولو حتى بشراء كونترول. حملت ميا لوح الخشب، ولكنها تمهلت، ومسحت عينيها. زمجر بنجامين في الكرسي، وتقلب بموضعه. لم تفتش ميا غرفة غوردي، ولم تفكر بانتهاك حقه بالخصوصية، ولن تفعل ذلك. كانت ترتب له غرفته فقط - تحمل ما يحتاج للغسيل، وتوضب سريره، وتكنس من تحت السرير بقع الغبار. وإذا اعتبرت ذلك النوع من العناية بالبيت على أنه "تفتيش" فهي تنتهك خصوصيته منذ سبع عشرة سنة. بصدق لم تكن تبحث عن الماريغوانا أو الاطعمة، أو عن كيس مليء بالحشيش.

(عموما لم تجد شيئا).

ولا أحد يعرف مخاطر المخدرات أكثر من ميا. ولكنها لا تقف من مخاطرها موقفا ميلودراميا أيضا، حتى بعد أن أصبح الحشيش قانونيا. وتعلم أن الحشيش سمح لها بحرية التصرف في أمور لا تفعلها دونه. هل كانت ميا سترافق شانس دوبوز إن لم يكن مصدرا للحشيش؟. وهل كانت تسمح لكيربي ستيل (مع أنه من النمط الفاشل) أن يعاشرها تحت كومة من المعاطف في حفلة لو أنها ليست فاقدة لرشدها؟. وهل كانت تتبادل قبلة مع ذلك الولد في زقاق البولينغ مع أن أسنانه فظيعة وكأنها تقبل جورج واشنطن وهو يضع أسنانه الصناعية؟. وهل كانت تخدش سيارة أمها بجوانب المرآب حينما خرجت منه ثم قامت بطلاء الخدوش بطلاء أظافر أزرق؟. وهل كانت بطاقتها لترفض عدة مرات في تاكو بيل حينما اشترت في وقت متأخر عجينة بيتزا ونتيجة ذلك وضعوها على القائمة السوداء؟. وهل كانت لتاكل بيض أرنوب عيد الفصح المصنوع من الشوكولا مع أنه لأخت ليزا موبين الصغيرة؟. وهل كان وزنها يزداد خمسة عشر رطلا في فصل دراسي واحد؟. وهل كانت لتفشل في امتحان الموسيقا؟ (امتحان موسيقا ملعون؟). وهل كانت لتكتب مقالة من ألف كلمة عن قصة مدينتين فيما 990 كلمة من تلك الكلمات مقتبسة من الرواية؟. وهل كانت ترافق شانس دوبوز ثانية بعد أن رفع سقف طلباته؟. وهل كانت تسرق خمس دولارات من حقيبة مطرزة لصديقة أمها السيدة ستيل؟. وهل كانت تسرق عشر دولارات من خزانة المبيعات في مرآب الجيران؟. وهل كانت لتسرق خمسين دولارا من طاولة السيد تريس حينما كانت تعتني بالصغيرة ترينا تريس؟. وهل كانت لتنام وهي ترعى ترينا وتستيقظ لتجد أن المطبخ وترينا (لحسن الحظ لا تزال على قيد الحياة) ملوثين بالدقيق؟. وهل كانت تطرد من عملها في سيتي ديري (قبل أن تسنح لها الفرصة لتسرق منه) لأنها تذوقت بفمها مقدار ملعقة من إناء التسخين؟. وهل كانت أفسدت استقبال جدتها في المطار؟. وهل كانت تقبل بعرض كوش كويل لتعليمها كيف تقود علبة السرعة في الباحة الخلفية من المدرسة، مع أن أصغر بنات المتزوجين حديثا يعرفن ما هو أفضل؟. وحينما فك كوش كويل أزرار سرواله ومد يده ليدها، هل كانت لتنظر إلى الأمام وتسمح ليدها بمداعبته؟. وحينما وضع كوش كويل يده على قفا رقبتها وجر رأسها نحو شفتيه، هل كانت لتفكر فقط كيف يمكنها بعد ذلك أن تهرب من الثقافة الفيزيائية وتنتشي كلما أرادت، دون تسجيل ملاحظات أو أي شيء آخر؟.

فيما بعد ظهيرة اليوم التالي ذهبت ميا إلى السوبر ماركت، ظاهريا لشراء لوازم، ولكن في الحقيقة لتأخذ نظرة من مساعدي غوردي في العمل.

كان غوردي يقف وراء طاولة الجزار، يرتدي قناعا من طراز باندانا ومريولا أبيض مع جينز وقميص سوبرماركت. وبجانبه رجل أمريكي أسود له تسريحة شعر إفريقية وعينان مشعتان فوق قناع مكتوب عليه: من المفروض أن يخفي أنفك أيضا. لا بد أنه لازاروس - ذكره غوردي في بعض المناسبات.

لوحت ميا تلويحة خفيفة لغوردي - تلويحة قالت: لا تقلق. سألتزم بالأصول ولن أسبب لك الإحراج. ووقفت في طابور طاولة الجزارة وراء امرأة مسنة.

قالت العجوز لغوردي:" هل تعتقد أنه يمكنك تقطيع شريحة خنزير إلى أربع أرباع؟ ثم قطع أحد الأرباع إلى نصفين؟.

قالت غوردي:" تقصدين بحجم الثُمن؟".

قالت العجوز بصوت رخيم" نعم. ثُمن شريحة الخنزير. من أجل عشاء الليلة".

تبادل لازاروس وغوردي نظرة، ولكن لم يتأخر عن تلبية طلب العجوز دون تعليق. ثم حان دور ميا. قالت لغوردي:" مرحبا يا عزيزي". والتفتت إلى لازاروس وقالت:"لا بد أنك لازاروس".

ابتسمت لها عينا لازاروس وقالت:" أنت أم غوردون؟. يسعدني رؤيتك. بماذا يمكننا أن نخدمك؟".

قالت ميا جاهدة لتبدو شابة:" أريد خمس أرطال من لحم العجل المفروم". كانت خطتها أن تشتري شريحتي لحم بطن صغيرتين.

فتح غوردي بهدوء باب مؤخرة صندوق المعروضات، ولكن هز لازاروس رأسه وقال:" لا يا رجل. لو أنك أنت من ستأكلها، أحضر المطلوب من الثلاجة الخلفية".

توجه غوردي إلى الغرفة الخلفي، وحدقت ميا بلازاروس، طرف جفناها باهتمام. لو أن ميا في المدرسة الثانوية ولا تزال تطلي شفتيها بطلاء رمادي لماع يمكنها أن تقول:" مرحبا يا لازاروس. هل أعجبتك الحفلة؟" (جملة مدهشة). وسيرد لازاروس:" نعم. تماما". وستسأله ميا إن كان يود اللقاء بها عند المغاسل. عوضا عن ذلك ابتسمت بوهن من خلف قناعها، وأخبرت لازاروس كم يرغب غوردي بالعمل معه. وتساءلت ما الغاية اللعينة من شراء خمس أرطال لحمة عجل مفرومة. وماذا ستفعل بها هي وغوردي. بعد ذلك ذهبت بالسيارة إلى مرآب السوبر ماركت، تبحث عن شيء، ولكنها لم تكن متأكدة ما هو - مجموعة من المدخنين المدمنين، وموزع مخدرات يفحص هاتفه، شاب مهلهل يبدو متفائلا؟. لكنها لم تشاهد غير الكثير من السيارات المتوقفة، مع رجل بدين له لحية وصديري ناصع ويكنس. هل يمكن أنه مروج مخدرات يتنكر بشكل حارس؟. قادت ميا سيارتها لتأخذ منه نظرة أفضل، فلطم جانب سيارتها بمقبض مكنسته، وصاح:" لقد أوقعت علامة مرور يا سيدة. الفوضويات غير مسموح لهن بالدخول".

انتهت ميا من تدخين الحشيش حينما أصابها فيروس معد في ربيع أول سنة من المدرسة الثانوية. استلقت في الفراش لثلاث أسابيع، وكانت أمها تختلس خطواتها من حولها بحرص شديد وبيدها مقياس الحرارة وأقمشة مبتلة باردة وأطباق من المثلجات. كان رأس ميا ينتفض لو حركت عينيها كثيرا، والتهب حلقها حتى سال لعابها على الوسادة ولم تكن تبتلعه، وانتفخت الغدد اللمفاوية في رقبتها بشكل ثنيات ضخمة وأصبحت تبدو مثل نسخة من رامبرانت وهو في الثمانينات. ولم يكن التدخين متوفرا ولو من بعيد، ولا أمكن الخروج بحثا عن شيء تدخنه، وهذا كله بالإضافة إلى الفيروس. عانت ميا من كل أعراض الامتناع عن الماريجوانا: آلام البطن، الرعاش، السهاد، والأهم الغضب والتحسس.

وكانت تثرثر وتقول:" لماذا يا أمي أصابني الفيروس؟ توقفي عن عزف موسيقا المصاعد الغبية. لماذا تحيكين باستمرار؟ أنا لست بحاجة لكساء أفغاني آخر. ولا أريد كوكتيل الحليب. وأود أن أموت. اخرجي من هنا واتركيني وحدي".

وكانت أمها ترد بحنان:" مسكينة ميا. بائسة صغيرة".

وحينما شفيت ميا أخيرا، كان جسدها أقل باثني عشر رطلا، و عزيمتها قوية ومصممة أن لا تمر بمثل هذه الظروف. ولم تعرف ما هي الأعراض التي سببها الفيروس والأعراض التي سببها الإقلاع عن الحشيش. ولذلك تخلت عن الحشيش، وتوقفت عن المشاركة بأكواب يستعملها الآخرون. وعادت إلى المدرسة، ولكنها توقفت عن حضور الحفلات. وكانت صديقاتها المخلصات تأتين أحيانا، ولكنها تعتذر لهن أنها مشغولة بالدراسة. وهذا صحيح. عليها أن تدرس. وقد فعلت.

كان غوردي يعمل في نوبة متأخرة، وتسهر ميا بانتظاره، لتساعده على التماسك. غير أنها تسقط نائمة على الكنبة، وحينما تستيقظ، يكون غوردي قد غطاها بغطاء أفغاني، وهو يقول بنعومة:"عودي إلى النوم". فتنصاع له وتنام.

في اليوم التالي أرسلت أم ميا، التي لا تعرف كيف تكتب رسالة، إلى ميا رسالة نصية وهي في عملها كالتالي: هييي ميا. كيف حال؟ وكيف غورد؟ أنا أخبز مع جيرد هنا. أمك.

تأملت ميا الرسالة، وطرفت بعينيها بسرعة، كأن ريحا عاصفة تهب على وجهها. ثم اتصلت بأمها.

قالت: "مرحبا يا أمي. إنه أنا".

قالت أمها بصوت يدل على الحبور:" أوووه. مرحبا. هل استلمت رسالتنا؟".

"نعم استلمت رسالتك".

قالت أمها بانفعال لشخص ما:" استلمتها".

سألتها:" أمي، من معك؟".

قالت أمها: "شاب رائع جدا اسمه جاردي قابلته في غرفة المنشار. أمه تعيش هناك في الجناح الجنوبي. وبينهما خلاف صغير في الرأي، وهو لا يشعر بالراحة من فكرة العودة إلى شقتها حاليا، ولذلك دعوته إلى شقتي. أنفقنا وقتا طيبا ونحن نقلب في ألبوم صوري، ثم اقترح جاريد أن يعلمني كيف أرسل رسالة نصية بالهاتف".

"وكم عمر جاريد يا أمي؟".

قالت أمها:" هو طالب متقدم في الثانوية".

"وماذا تعني كلمة "الخبز"؟.

"جاريد أخبرني أنها تعني طهي البسكويت، ولكننا في الواقع نحضر السميري. كان جاريد يشعر بالجوع، وأنت تعرفين كيف يحب المراهقون الأكل؟".

سألتها ميا فجأة:"وكيف شكل عينيه. وهل له رائحة الأشجار ؟".

قالت أمها:"لا أريد أن أكون خشنة معك، ولكن الآن أنا مشغولة برفقته. سأرسل لك رسالة أخرى عما قريب. وداعا يا عزيزتي".

انتهت المكالمة وبعد دقيقة رن هاتف ميا برسالة أخرى من رقم أمها. ونصها: يا رجل جهزت قالب العجينة في بيت العجوز والآن سأدعها تأتي وتراني.

توقعت أن الرسالة لشخص آخر، ولكن ردت ميا ببرود، مفترضة أنه بمقدورها أن تتحلى بقوة الأعصاب في كتابة رد. قالت: من فضلك توقف عن استعمال هاتف أمي، واترك شقتها. وإلا اتصلت بالأمن حالا.

جاء الرد من جهاز ك. جاريد يقول: آسف.

ثم: سميري بالكاراميلا.

عاد غوردي إلى البيت من العمل، وهو يحمل هيئة إنسان متهالك أيضا. تنهدت ميا وفتحت زجاجة نبيذ.

وفي يوم الخميس جاء ميغيل صديق غوردي. وهما صديقان منذ اشتركا في مدرسة تحضيرية ثنائية اللغة في غلوفير بارك، وهناك يتحدث الجميع الإنكليزية حصرا. لكن ميا وغوردي يعيشان الآن في بيتهيسدا، أما ميغيل وأبواه يعيشون في فيينا، فرجينيا، ولذلك تتطلب أوقات اللهو أو التسكع أو مهما كان يفترض أنه اسمها، حافلات أوبر مرتفعة التكلفة، وعادة يتضمن ذلك يوما أو يومين من الإقامة. ولم تتذمر ميا من الاستضافة. كان ميغيل صبيا خجولا وحالما، ومهذبا، بطيء الحركة، وأيضا بطيء الكلام. ولكن ميا تنظر له حاليا بعين جديدة. هل فعلا أن ميغيل بطبيعة جيدة وحالمة أم أنه مخدر؟ (طبعا، لو هو كذلك، هذا يعني أنه كذلك منذ كان بعمر سنتين، ولا يزال).

ذهبت إلى المطبخ. كان ميغيل وغوردي يجمعان زجاجات الماء وقطع الغرانولا، ورقائق البطاطا، لحملها إلى غرفة غوردي.

سألت:"كيف الحال يا ميغيل؟".

بدا ميغيل مباغتا - بالعادة لا تكلمه عن أي شيء باستثناء الاحتياجات وأنواع الطعام المفضلة.

"لا بأس".

"هل لديك عمل في الصيف".

"نعم".

"ما هو؟".

أرسل ميغيل لغوردي نظرة يطلب النجدة. وقال:"محطة وقود".

"تعمل في محطة وقود؟".

"نعم".

قالت ميا برشاقة:" هذا يعني أنه عمل رائع. أخبرني الآن، ماذا تريد أن تصنع بوقت راحتك؟ بعد نهاية نوبة عملك؟".

"بعد نهاية نوبتي أذهب إلى البيت".

"حسنا لكن..".

"المدير لا يريد أن نتسكع بعد نهاية النوبة".

"آه، لماذا؟".

"لأن دواين استعمل أنبوب الرادياتور في كتابة 'الرأسمالية تقتل' على الرصيف".

"نعم، ولكن هل تذهب فورا إلى البيت؟ أم أنك أنت ودواين تذهبان -".

"طردوا دواين".

"حسنا، هل تلتقي مع أصدقاء آخرين في مكان آخر؟ مثلا في الخارج؟ ربما في الحديقة؟ أو خلف المبنى؟ هل يقدمون لك المساعدة، إممم، لترتاح أو لتفرغ شحنتك؟ هل قدموا لك -".

قاطعها غوردي:" أمي. أنت غريبة جدا اليوم".

"لست غريبة يا عزيزي". (قالت ميا كما لو أن أم ميا تتكلم من مكان بعيد أوت له بعد التقاعد) "أنا مهتمة بحياة ميغيل فقط. أريد فقط أن أعرف إلى أين يذهب ومن أين يأتي".

دحرج غوردي عينيه وقبض على ذراع ميغيل، وصعدا إلى غرفته، فمالت ميا بجبينها على الثلاجة. كان خداها حارين من الخجل. لاحقا رقدت في السرير مع وارول وبيدها كأس ضخم من النبيذ، وحينها اتصل جاك هنري.

سألها بصوت عميق، صوت يشبه التحرش:" هل يمكنني الكلام مع أم بابلو إسكوبار؟".

تنهدت وقالت:" أتمنى أن تتوقف عن إطلاق النكات".

"لماذا؟ هل جرى شيء خطير لغوردون؟".

قالت ميا:" كلا. أرغب أن لا تتحفني بطرائفك فقط، لبعض الوقت".

"وكيف غوردون؟".

"على ما يرام. ميغيل معه ويلعبان بالبلاي ستايشين".

قال جاك هنري:" ينفق غوردون أوقاتا طويلة مع الإنترنت. وأنت لا تعلمين نوع الشباب الذين يصادفهم". كان لجاك بطاقة عضوية بلاتينية في تيندر، وكان لعدة سنوات يتصل بموقع Match.com، وتوقعت ميا أنه يمكن عده أحد مؤسسي الموقع.

سألته ميا:" هل من سبب لاتصالك؟".

قال جاك هنري:" نعم. أتساءل إن بمقدورك المجيء إلى المكتب غدا مساء لتوقيع نقل الصلاحيات إلى عقارات أريزونا".

كانت ميا وجاك هنري قد انفصلا بالطلاق منذ اثني عشر عاما، ولكن لا يزال بينهما حزمة استثمار مشترك: سندات، وعقود، وعقارات، ونقود، وأموال سائلة وما يوازيها، وسوى ذلك... أشياء. أحيانا كان جاك هنري يبيع الأشياء وأحيانا يشتري أشياء، وكانت ميا توقع باسمها كل أشكال الأوراق لأن جاك هنري زوج فظيع، مع ذلك فهو مزود لها.

قالت له:"سأكون في المعرض على الأقل حتى التاسعة. لدينا عرض".

قال جاك هنري:" مري على المكتب بعد ذلك. أنت تعلمين أنني أتأخر في عملي".

في الواقع لا تعلم ميا إلى متى يتأخر جاك في عمله. ولكنها تعلم أنه أخبرها أنه يتأخر في العمل، ولكنها تفترض دائما أن البقاء لوقت متأخر في المكتب مجرد رمز لنكاح البنت التي تعد له القهوة. (وجاك هنري متأكد أن ميا تحل ألغازه بدقة متناهية في هذا الشأن).

قالت:"حسنا. نلتقي غدا".

وأغلقا الهاتف. أطفأت ميا النور، ولفت وارول بذراعيها، ونامت، ورأسها يدور قليلا من النبيذ.

في التاسعة من الليلة التالية ذهبت إلى مكتب جاك هنري. وأرسلت إلى غوردي رسالة مختصرة وهي في الطريق نصها: هل عاد ميغيل إلى بيته بحالة جيدة؟

كتب غوردي بالرد: أعتقد ذلك.

هل رأيته يصعد في حافلة أوبر.

نعم.

وهل نظرتما إلى لصاقة أوبر وقارنتماها بلوحة القيادة؟.

كلا، نسينا.

تنهدت ميا. وتمنت أن ميغيل لم يركب سيارة عشوائية تقوده إلى مزرعة أعمال غير مشروعة حيث سيكد لما بقي له من أيام. كتبت له: من فضلك اتصل بميغيل لتتأكد أنه عاد إلى البيت بأمان. سأتأخر قليلا. تذكر أن تخرج وارول بنزهة قبل أن تنام.

وقفت أمام مبنى مكتب جاك هنري، وأعادت هاتفها إلى حقيبتها. فتحت الباب الزجاجي الثقيل، وكانت متألقة جدا وبوهيمية، بتنورتها السوداء القصيرة، وسترتها الجلدية. وصعدت بالمصعد ذي الباب النحاسي إلى الطابق العاشر، وكان جاك هنري جالسا في مكتبه الواسع وراء طاولة عريضة.

جلست ميا في كرسي الضيوف أمام طاولة جاك هنري، ووقعت الأوراق. كان جاك هنري يشرب الويسكي، وكانت ميا تشرب النبيذ، والآن يشربان الويسكي معا. نظرت ميا من نافذة المكتب إلى أضواء المدينة المتألقة مثل مصغر قرية عيد ميلاد، وكان جاك هنري يخبرها بصوته العميق عن ضمانات الحياة المرفهة والمصادر المتنوعة ورغبته بشراء مكتبة تاريخية في كايب كود وكاسحة ثلج صغيرة.

تثاءبت ميا.

قال لها جاك هنري إذا ضجرت جدا سيعرض عليها شيئا مثيرا. وفتح صينية الطاولة، وقال هذه مخصصة للكوكايين. قالت ميا إنها اعتقدت أن هذه الصواني مجرد سطوح للكتابة، فقال جاك هنري:" كلا. اسمحي لي أن أريك". واقتطع خطين من الكوك من مكان ما تعتقد أنه احتفظ به في علبة فضية مخصصة للبطاقات. وشم واحدا من الخطين، ثم لف ورقة من عشرين وقدمها إليها، فقالت لا، شكرا، وكأنه يشجعها، هيا حاولي، لا تكوني متزمتة، مر عليك أسبوع مضغوط، فأخذت العشرين، واستنشقت الخط الثاني، لأنها عمليا، كانت دائما فاشلة في مقاومة الضغط.

سرع الكوك دقات قلبها. وأخذ جاك هنري يدها وقادها إلى كنبة جلدية في زاوية مكتبه، وساعدها على الجلوس. في البداية ارتفعت حرارتها، ثم حلت عليها فكرة عميقة تمكنها من تثوير طريقة غسيلها.

قالت لجاك هنري:" أعطني دفترا. علي أن أدون فكرة".

قال جاك هنري:"ليس الآن، فيما بعد". ومد يده تحت تنورتها.

قالت ميا:" يمكنني تدوين الفكرة وأنت تفعل ذلك". كان يشعر أنه قادر على كل شيء، وضمنا القيام بعدة مهام في آن واحد. فقدم لها دفترا رسميا وقلم حبر، ووضع يده تحت تنورتها مجددا، وجر سروالها الداخلي. رسمت ميا تخطيطا سريعا لغرفة الغسيل مع أسهم تظهر المسار المحتمل للثياب القذرة حتى تصبح نظيفة ولماعة في نظامها الجديد. ورسمت ثلاث سلات غسيل وكتبت قرب الثالثة: هام جدا. لا تنسي. ووضعت حولها دائرة عدة مرات. (لن تتذكر هذا الأمر المهم لاحقا). وتخلت عن الدفتر الرسمي وفكت أزرار سروال جاك هنري، وفعلا ذلك. فعلا ذلك مثل بشر بلغوا سنا معينا، طبعا، فجاك هنري استبدل ركبته، وعلى كتف ميا جرح قديم، وكلاهما كان يضع نظارات للقريب والبعيد. ولكنه كان لا يزال جنسا جيدا. كان الجنس هو لغة الحب بينهما، أو ربما اللغة الوحيدة منذ أن واصلا ممارسة الجنس بعد فترة طويلة من ذوبان الحب. ربما جسم كل منهما لا يزال متعلقا ومحبا بجسم الآخر؟. وربما جسماهما كيانان متفصلان عن عقليهما؟. وربما كان جسماهما كالأطفال. وقد التحم جسم جاك هنري مع ميا بموعد لهو؟ وربما كان عقل ميا وجاك هنري في غرفة أخرى، يشربان القهوة الخفيفة ويتحاوران بلغة معزولة وعدائية عن مقدار الكلمات التي يعرفها جسداهما للتعبير عن الرؤية؟ وبدت هذه الفكرة متغلغلة فيها. ورغبت ميا بالعودة للدفتر الرسمي.

هناك أجزاء رديئة أيضا، ولا تفضل الاقتراب منها. ذلك مثلما يحصل حينما تنحني ميا بإغراء فوق طاولة جاك هنري وتقول:" انتظر. لا تلمس مزرعة سانشيز".

بعد النهاية، وحينما ربت على مؤخرتها وقال:" شكرا يا حلوتي"، شعرت من أعماقها أنه يعتقد أنها موظفة تطلب ترقية. وحينما فحص جاك هنري بوليصات السوق في هاتفه كانت ميا لا تزال ترتدي سروالها الداخلي. وحينما ذهبا معا إلى "متجر سعادة كل الليل" اشترت ميا كل أصابع الخبز الأصفر المتوفر (ليس لأنها جائعة ولكن لأن ألوانه الذهبية تبدو مثل ضوء الشمس)، وغازل جاك هنري البنت البائعة بوجودها. وأرادت ميا أن تعرب للبنت أن الحياة معقدة، وأنها هي وجاك هنري يشتركان بالكثير من الأمور: ملف استثمار، وتقاعده، وعضوية في نادي السباحة في يثيسدا، وحب السباغيتي الباردة، وذكريات إصابة ميا بانهيار عصبي في إيكيا IKEA مزدحم وهي حامل في شهرها السادس، فاستلقت ووجهها على الأرض في قسم الأقمشة المنزلية. وأنجبا ولدا. وهما يحبانه جدا، حتى لو أن جاك هنري لا يعبر عن حبه بالطريقة التي ترغب بها. لا يمكن لأحد أن يهرب من كل هذه الالتزامات. (وأيضا لن تتخلى ميا عن عضوية نادي السباحة في هذا التوقيت).

فيما بعد وقفت ميا وجاك هنري على الرصيف أمام متجر "السعادة". نظرت ميا إلي هاتفها لأول مرة منذ فترة طويلة، ولاحظت أنها الخامسة صباحا. كان غوردي قد أرسل لها ستة عشر نصا وخابرها أربع مرات لكنها لم ترد على أي منها.

قالت ميا:" آه، يا إلهي".

سألها جاك هنري:"ماذا؟".

قالت ميا:"لاشيء". لأنه حينما كان غوردي في التاسعة، ونسي جاك هنري ملاقاته عند موقف الحافلات في إحدى المرات، لم يغادر غوردي حافلته، وعاد معها إلى المرآب الكائن في سيلفر سبرينغ. وتوجب على ميا أن تأتي به من هناك. وكان يثغو من الخوف والجوع، حتى وقت متأخر من تلك الأمسية. كان أسوأ مثال ممكن عن تربية الأبناء، ولم تكن لدى ميا النية للتخلي عن لقب الأم المثالية في هذا الوقت المتأخر.

أضافت:" فقط يجب أن أعود إلى البيت".

صافحته كأنهما موظفان أدركا فجأة أن كلا منهما نسي تقديم نفسه إلى الآخر. ثم رافق جاك هنري ميا إلى حافلة أوبر. وقلقت ميا على الفور من أن يعتقد سائق الأوبر أنها بغي.

قالت له:" أنا محامية". وحاولت دس أصابع الخبز في حقيبتها. ثم أضافت:" انتهيت للتو من قضية قانونية متوترة جدا".

وأرادت أن تواصل الكلام. كان يبدو من المهم جدا أن يفهم سائق الأوبر أنها ليست النوع الذي يتعاطى المخدرات أو يعاشر المحامين ويسهر الليل كله. نعم فعلت ذلك، ولكنها ليست من النوع الذي اعتاد على ذلك، أو على الأقل لن تكرر هذه الأفعال.

ثم بلغ ذهنها ما يشبه تحويلة في سكة قطار، وبدأ يتدحرج على القضبان متسائلا كيف تكون العودة إلى نظام البيت دون أن ينبح وارول ويوقظ غوردي. نظرت إلى هاتفها. آخر رسالة من غوردي تقول - أين أنت؟؟ - وكانت مسجلة في الساعة 2:16. بالتأكيد غرق بالنوم الآن. ولو أنها فتحت قفل الباب بسرعة كافية، يمكنها أن ترمي لوارول خبزة ثم تختلس خطواتها على السلالم، وترتدي منامتها، وتخبر غوردي إنها في البيت منذ الثالثة، فالعودة في الثالثة يعني التأخير، ولا يعني السهر في الخارج طيلة الليل و -

توقفت حافلة أوبر أمام بيتها. كان غوردي جالسا على السلالم الأمامية، ووجهه شاحب ومتوتر من القلق. قفز بمجرد أن غادرت الحافلة وصاح:" أين كنت؟ حتى أنك لم تتصلي".

كان الحال كأن ميا مراهقة وغوردي هو الذي أخذ دور أمها.

عبرت المرج وجلست على سلالم الشرفة. وجلس غوردي بجانبها.

سألها مجددا:" أين كنت؟".

شعرت ميا شعورا جارفا أن زمن الكذب قد ولى. أخذت نفسا عميقا واعترفت له. ولكن كان كلامها همهمة وخلاله التقطت أنفاسها وأسقطت بعض الكلمات عدة مرات، حتى أن ما قالته بشكل عملي كان غامضا ويحمل فراغات. كما يلي:" كنت ..... وقمت.......مع..،..".

قطب غوردي جبينه وفكر. ثم قال:" هل شربت فينتانيل...".

"ليس فينتانيل. كوكائين" (تمييز تلجأ له الأمهات المخلصات على ما يظهر).

"حسنا. تعاطيت الكوك ومارست الجنس مع مروض الكلاب؟".

"تعتقد أنني تعاطيت الجنس مع مروض الكلاب؟".

" ترك بطاقته في فتحة الباب ولم أجدك هنا. لذلك توقعت...".

وقفت ميا على قدميها برشاقة وقالت:" آه يا إلهي. موعد وارول. نسيت أنه من المفروض أن يأتي مربي الكلاب ليأخذه أمس. هل تعتقد أنه علينا أن ندفع لقاء حجز موعد له؟. وماذا لو وضعنا على قائمته السوداء؟،.

قال غوردي:" أوه يا أمي، تمالكي نفسك".

وجعل الكوك ميا ترغب بمتابعة موضوع موعد وارول على الأقل لعشرين جملة، ولكنها صمتت وجلست مجددا. قالت:" آسفة".

"هل يمكننا العودة لما كنت بصدده مجددا؟".

"تعاطيت الكوك، ومارست الجنس التجميلي مع والدك" (حياتها حافلة بالعبارات المدهشة مؤخرا).

قال غوردي:" آه. وماذا كنت تجملين؟".

"بالأساس كل زواجنا".

"وهل تفعلين ذلك كثيرا. تتعاطين الكوك؟".

نظرت إليه وقالت:"لا. لم أفعلها من قبل". كانت عيناه سوداوين مثلها. هذا هو حصانها الخرافي الجميل. سألته:" هل تتعاطى الكوك".

نظر غوردي إليها برعب صريح وقال:"كوك؟. حتى أنني لم أدخن الحشيش. ولا أشرب".

"توقعت فقط...".

"تبررين أسوأ شيء لم أرتكبه إطلاقا. بعد العمل أحيانا. أنا ولازاروس نربط عشر عربات معا ونجرها على طول الهضبة إلى مرآب السيارات".

"هذا..". وتمالكت ميا نفسها وتوقفت. كانت على وشك أن تقول إن هذا خطير جدا، وهو كذلك، ولكن لاحظت أن هذا هو تفسير اللغز وراء عيني غوردي البراقتين وخديه الملتهبين. قد تجعلك المخدرات تبدو بهيئة ما، ولكن يمكن للتمرين أن يقود لنفس النتيجة. ويمكنها أن تتخيل المتعة في ذلك -- العربات الثقيلة تقعقع وتتضاعف سرعتها، وحواجز موقف السيارات تتطاير بسرعة ملحوظة، ثم سمعت صوت صرختها النهائية الناجمة عن البهجة. ضحكت قليلا، وهي تفكر بذلك.

سألها غوردي:"على ماذا تضحكين؟".

قالت ميا:" أنا سعيدة وحسب". أرادت أن تقول أنا سعيدة لأن بيننا هذه الروابط. ولكنها منعت نفسها.

كانت الشمس تشرق للتو. والسماء عند الأفق تصبح برتقالية، ومن الأعلى يخيم عليها ظل كريمي مزرق، ثم أزرق داكن مخضر كغلاف الذرة، وفي النهاية بنفسجي، يتخلله عدة نجوم قليلة مرئية. فكرت ميا: يبدو كأن الله رسم صورة بالطبشور، ثم محاها بأصبعه، ولكنها لم تكن تؤمن بالله.

قالت لغوردي:" انظر. هذا شهاب. لم أشاهد نجما يخر من قبل. أو لعله قمر صناعي؟. هل حركة المراكب الفضائية تختلف عن النجوم؟. علينا أن نفكر بذلك. وأن نعرف الحقيقة. و.. أتمنى فعلا أن يزول أثر الكوك سريعا". تنهدت ومالت برأسها على كتف غوردي. منذ متى كان غوردي أطول منها ويمكنها ركن رأسها على كتفه؟.

هز غوردي رأسه، كأن ميا حالة ميؤوس منها، ولا يمكن التعايش معها، وربما كانت كذلك. لكنه لفها بذراعه. تغلب على ميا فجأة شعور مؤكد أنها هي وأمها وغوردي ليسوا نسخا مكررة، ولا يجب عليهم تكرار نفس الخطأ. وهم فقط يدورون حول أدوارهم الموكلة إليهم بصفة أم وطفل، طفل وأم، ويتبادلون الأدوار بالرعاية والتسبب بالقلق، أو بالحاجة للرعاية ومنح الرعاية. وسيتابعون في هذا الجو طيلة حياتهم، فيزداد اللمعان والإضاءة ثم يخفت. وفكرت ميا (أو ربما كان الكوك هو الذي يتكلم) نعم، هي وغوردي وأمها مثل أضواء في مركبة فضائية، تشتعل وتنطفئ، بالتناوب، وهي تطير، وتشق طريقها، باتجاه المستقبل.

***

.........................

* كاثرين هيني Katherine Heiny كاتبة أمريكية. مولودة في ميشيغان، تلقت الماجستير من جامعة كولومبيا. وتعيش في الهافر دي غرايس، ماريلاند، مع عائلتها. لها عدة مجموعات قصصية منها "ألعاب وطقوس" 2023، و"عازبة ولامبالية ولطيفة" 2015. وكذلك عدة روايات منها "النهوض في الصباح الباكر" 2021 و"الانحراف المعياري" 2017….

* الترجمة عن مجلة / ناراتيف Narrative.

في نصوص اليوم