ترجمات أدبية

جورج هيم: تشريح الجثة

قصة: جورج هيم

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

استلقى الرجل الميت وحيدًا وعارياً على قطعة قماش بيضاء، محاطًا بجدران بيضاء كئيبة، في رصانة قاسية في غرفة تشريح واسعة بدت وكأنها ترتجف من صرخات التعذيب اللامتناهي .

غمره ضوء الظهيرة وأيقظ البقع الميتة على جبهته. استحضر لونًا أخضر متوهجًا من بطنه العاري، انتفخ جسده مثل كيس من الماء.

بدا جسده وكأنه كأس قزحي الألوان لزهرة عملاقة، نبات غامض من غابات هندية بدائية وضعها شخص ما بخجل على مذبح الموت.

انتشر اللونان الأحمر والأزرق الرائعان على أطرافه، وفي الحرارة، انفتح الجرح الكبير تحت سرته ببطء مثل ثلم أحمر، وانطلقت رائحة كريهة.

دخل الأطباء. رجال ودودون يرتدون معاطف المختبر البيضاء المهترئة والحواف المطلية بالذهب. اقتربوا من الميت وراقبوه باهتمام وكأنهم في مؤتمر علمي.

أخرجوا من خزائنهم البيضاء أدوات تشريح، أقفاص بيضاء مليئة بالمطارق، مناشير بأسنان حادة، أضابير، ملاقط بشعة، سكاكين ذات أسنان كبيرة ملتوية مثل مناقير النسور التي تصرخ دائمًا من أجل اللحوم.

شرعوا فى عملهم القاسي. كانوا مثل الجلادين البغيضين، والدم يتدفق على أيديهم وهم يتعمقون أكثر في الجثة المتجمدة وينزعون أحشائها، مثل الطهاة البيض ينزعون أحشاء أوزة. حول أذرعهم، أمعاء ملفوفة، مثل ثعابين صفراء وخضراء، وبراز يقطر على معاطفهم، وهو سائل ساخن فاسد. ثقبوا المثانة، كان البول البارد يتلألأ مثل النبيذ الأصفر. سكبوه في أوعية كبيرة، وكانت تفوح منه رائحة أمونيا نفاذة ولاذعة. لكن الرجل الميت نام. سمح لهم بصبر بسحبه وشد شعره. نام.

ومع دوي قصف المطارق في جمجمته، استيقظ في داخله حلم، بقايا الحب، مثل شعلة أضاءت في ليلته الخاصة .

خارج النافذة الطويلة امتدت سماء واسعة مليئة بالغيوم البيضاء الصغيرة التي سبحت مثل الآلهة الصغيرة البيضاء في ضوء ذلك العصر الصامت. وانطلقت طيور السنونو عالياً عبر السماء الزرقاء، وارتجف الريش في شمس يوليو الدافئة.

تدفق الدم الأسود للرجل الميت عبر العفن الأزرق على جبهته. في الحرارة تبخرت إلى سحابة رهيبة، وزحف اضمحلال الموت فوقه بمخالبه المرقطة. بدأ جلده يتقشر. تحولت بطنه إلى اللون الأبيض مثل ثعبان البحر تحت أصابع الأطباء النهمة، الذين وضعوا أذرعهم حتى المرافق في اللحم الرطب .

شق التحلل فم الرجل الميت. بدا وكأنه يبتسم. كان يحلم بنجوم جميلة، ليلة صيف عطرة. ارتجفت شفتاه المتعفنتان كما لو أنهما قبلتا قبلة قصيرة.

كيف أحبك.لقد احببتك كثيرا هل اقول كيف أحبك بينما كنت تمشين عبر حقول الخشخاش، وأنت نفسك زهرة من اللهب، ابتلعت المساء بأكمله. والفستان الذي انتفخ حول كاحليك كان موجة من نار في غروب الشمس. لكنك وضعت رأسك في النور، والشعر لا يزال يحترق، ملتهبًا بقبلاتي.

لذا مشيت، واستدرت لتنظرى إلي وأنت تبتعدين، ويتمايل الفانوس في يدك مثل وهج وردة ملقاة في الشفق بعد فترة طويلة من رحيلك .

أراك مرة اخرى غدا. هنا، تحت نافذة الكنيسة، هنا، حيث يسقط ضوء الشموع عليك، مما يجعل شعرك غابة ذهبية، وتنتعش أزهار النرجس البري حول كاحليك، بحنان، مثل القبلات الرقيقة.

سأراك مرة أخرى كل مساء في ساعة الغسق. لن نفترق أبدا. كيف أحبك! هل يجب أن أخبرك كيف أحبك؟

وارتجف الميت فرحًا على طاولة الموت البيضاء، فيما كسرت الأزاميل الحديدية في أيدي الأطباء عظام صدغه.

(النهاية)

***

............................

المؤلف: جورج ثيودور فرانز أرتور هايم (30 أكتوبر 1887 - 16 يناير 1912) كاتب ألمانى. اشتهر بشكل خاص بشعره، حيث يعد ممثل التعبيرية المبكرة. نُشر ديوانه الشعري الأول: اليوم الأبدى / Der ewige Tagعام 1911 وقد لاقى استحسانًا كبيرًا وكان هيم أيضا كاتبًا مسرحيًا وكتب أيضًا رواية واحدة.آمن هيم بفكرة "المدينة الشيطانية" التي كانت ترمز إلى نبذه للرومانسية في خضم صعود الصناعة والأنظمة القمعية. ومع ذلك، فقد عاش حياة جامحة وعاطفية، مصحوبة بالاكتئاب والقلق. في عام 1910، كان يحلم بوفاته غرقًا، وبعد ذلك بعامين سقط على الجليد أثناء التزلج. وقصة "تشريح الجثة " (1913) قصيدة نثرية أكثر منها قصة في خياله المضيء، وقد وصفت هذه القصة بأنها واحدة من أفضل حكاياته.

رابط القصة:

https://spurleditions.com/blog/2016/12/1/the-autopsy-heym

في نصوص اليوم