ملف المرأة

(تشهّي الخراب... العظـيم !).. تحليل رواية (التشهي) للمبدعة (عالية ممدوح) (ق2)

لكن الفعل الضار للترجمة كما يرى سرمد والذي يخافه رغم أنه قطع أشواطا طويلة فيه يتمثل أيضا في منع المترجم من الوقوف عند عتبات البيت / النص فلا يدرج اسم المترجم على الغلاف وهذا ما يقود إلى بذرة الموت التي تتربص بالترجمة. في الترجمة يقوم المترجم بفعل ضار يجب أن يقوم به بأحسن وجه ممكن، مما يعني غالبا القيام بشيء آخر، وهذا ما ينطبق على كل أفعال سرمد الحياتية، التي يقوم بها منطلقا من أنه يقوم بفعل ظاهر معناه الكينونة والاستقرار والنماء، ولكن باطنه الذي لا يدركه ينطوي بتشف غير محدد على خراب الذات واندمارها. ولهذا فهو وحين يهرع – دفاعيا – إلى الانغماس المضني والملذّ في العملية الشرهة لتناول أطايب الأطعمة حدّ التخمة، فهو في الواقع – وهنا إحالة شديدة المكر – يقوم بعملية " ترجمة " تربك قدراتنا الاستقبالية – وهذا من تصميم الكاتبة طبعا – فيها قدر كبير من "الخيانة" الملغزة التي تمر أمام أعيننا مغيِّبة حدة بصيرتنا الناقدة بفعل انخطافات ألوان السرد الأخاذة، لعب اللغة الماكر، وكأننا نقف أمام عملة ذات وجهين يربكنا الوجه الأول ويستولي على اهتمامنا ناسين الوجه الثاني المكمل أو المناقض في أكثر الأحوال. يعبّر عن هذا الموقف المركب بصورة مجازية قول رسول حمزاتوف عن أن " الترجمة هي الوجه الآخر للسجّادة ". وليس هذا الوجه منطفيء الملامح والتفصيلات كما نتوقع حقا، ولكن هذا الوجه الباهت مراوغ يقابل المضمون الكامن للحلم – latent content الذي يستتر خلف زخارف وجه سجادة الحلم الظاهر – manifest content واللعوب الذي لا يتيح لنا الالتفات إلى الوجه المتخفي الذي يحمل مفتاح عقدة المعاني. وعلى محور الانكشاف المغيب الذي يضيع الانتباهة ويستدرجها إلى دروب مغوية لا تمت للحقيقة الكامنة بصلة من ناحية، ومحور الاستتار المتعمد حينا والعفوي حينا آخر من ناحية أخرى، سنمضي مربكين لا نمسك بعسل الحقيقة ولا بسم التورية خالصة ناجزة، وهذا هو سر الإبداع في الرواية والذي يتمثل في "الفُسح الزمنية" التي تتيحها للكاتب كي يبث آراءه ويصوّرها ويناقشها، وهذا ما لا تتيحه القصة القصيرة، والذي قد يربك القصة ويحوّلها إلى نص شعري منثور. والفُسح الزمنية – خصوصا التأملية منها - تستثمرها الكاتبة لكي تمرر من خلالها رؤاها الفكرية والفلسفية والوجودية. وهي فسح تمتد بين الوقفات الحوارية من جانب وفي استدعاءات الحوار الداخلي " المونولوغ " للخسارات الباهظة وتأملها وتقليبها على أوجهها المختلفة كما سنرى. وهذا الالتباس الذي تخلقه الكاتبة في الفُسح المصممة قصدا يتشابك فيها الوجهان بطريقة تجعل الوجه الأول الصارخ الألوان لسجادة المعنى يشحب ويمرر خيوط نسيج الوجه الآخر بين ثنايا نسيجه، وخصوصا عندما يتحدث بطلها عن بلاده ومدينته الأثيرة الموشكة على " الاختفاء " أيضا:

(.. خذوه هو أيضا كما أخذتم صاحبي. خذوه، ولماذا لا تأخذونه؟ في الأصل هو يشتاق للغياب، وأنا أيضا شعرت بارتياح غامض لغياب صاحبي.. لازمني هذا الشعور وأنا أتأكد يوما بعد يوم أن المدينة تغيب ولا أحد بقادر على الإمساك بها، تتبخر مثل رغوة الكابوتشينا وتنسحب بسرعة وعندما تبلغ ريقك لا يبقى إلا شيء من اللذة الناقصة، وها أنت تتخلص مما كان يمتنع عليك التخلص منه، تلك المدينة، مدينتي، التي توهّمت أنها ستكون حاضرة للأبد، شديدة الرسوخ وعصية على الالتهام فأغذي أنا أيضا شراهتي في تدميرها وهلاكها – ص 18).

 

- ميل سرمد المبكر إلى الترجمة:

وحتى ميل سرمد المبكر إلى تعلّم اللغة الانكليزية في المعهد البريطاني قد يعبر في جانب منه عن حفزات نفسية عميقة لمواءمة وجود جديد للغة "أم" بجوار اللغة " الأم" القديمة. وهي لغة تلك الأم البايولوجية – أم سرمد – (السيدة مقبولة) التي لم تكن تتكلم أو تضحك في البيت إلا نادرا، وفي حال نفسي مستكين يشعل الخيالات الأوديبية بالحاجة إلى إنقاذ موضوع الحب. ويتضاعف هذا الميل من خلال وطأة تناقض كان يعيش حرقته الجوانية حيث كان لا يستطيع " ترجمة " مشاعره الدفينة بـ "لغة" سلوكية صحيحة جنسيا. كان يُظهر من الانفعالات والتصرفات ما هو خلاف الدوافع المضمرة الضاغطة. كان يشعر بحاجة شديدة لـ "ترجمة" حقيقية لأحاسيسه تلك من ناحية، وللتمويه عليها بـ " لغة " أخرى من ناحية ثانية. يظهر هذا التضاد المؤرق في الطريقة المسمومة والرائعة التي يتحدث فيها سرمد عن محنته متحدثا عن قضيبه – بعد أن "يشخصنه" – الموشك على الإختفاء بصيغة الشخص الثالث الذي يتخلى عنه وينطلق للعيش مع "أعضاء" أخرى، يحتك بها ويداعبه معبرا عن تلك الحفزات المكبوتة.. الحفزات المثلية السلبية، والرغبة - وليس الإنكار حسب - في الرضوخ المازوخي الملذ تحت سياط ما يبدو في الظاهر تهديدات مقلقة بالانخصاء. فالخطاب هنا يفصح عن الإكتفاء بعالم ذكوري " قضيبي " مغلق، يترفع على العذراوات اللائي تفحمت فروجهن:

(فبعدما شعرت أنه تخلّى عني، خمنت أنه كان يهيم في البراري والوديان. تلك ربما هي طريقة حديثة للنجاة أو هي قاعدة لم نسمع بها من قبل للذهاب واللقاء بأصحابه الآخرين. تصورته يمر بي وأنا مستلق بانتظاره وصوته هاديء وهو يؤثر أن يكون قائما في أمكنة غيري وبجوار أعضاء يطيب لها هي أيضا أن تبرح أصحابها.... أعضاء عزيزة صدوقة شغوفة حنونة ذات جاذبية قاتلة تقدر أن تحجب الكواكب والنجوم ويرتفع صوتها وهي تتلوى وتشتبك، يعلو بعضها فوق بعض وداخل بعض كالأفاعي. تكتظ ويداعب بعضها بعضا فيرشف أحدها من فم الآخر ما يكدّس اللعاب والمني والعرق والدم وفي الحدود القصوى. فتولول وتتصايح ولا تلجأ للأكاذيب حين تصل هرم التشهّي. تحلّق بعيدا عن غرف النوم والقوم وفرش الحرائر والعذراوات اللائي تفحمت فروجهن، الرهيفات المتلألآت والمخدرات بالوحشة والترك – ص 116و117).

 ولن يضيرنا بشيء استعادة المعاني القاموسية لجذر القضيب، بل بالعكس ستتوسع مديات إدراكاتنا للأبعاد الباطنة للعضو المهدد بالإختفاء من جسد سرمد وهو الرمز الفردي والوجودي للسلطة البطريركية، فالقضيب: يكنى به عن ذَكَر الإنسان، وهو السهم أيضا، وقضب قضبا الشيء قطعه، وشعاع الشمس: امتد مثل القضبان، سيف قاضب شديد القطع، القاضبة السنّ، القضب كل شجرة طالت واسترسلت أغصانها، شجر تتخذ منه القسي، الأغصان المقطوعة، القَضَب: السهام، رجل قضّابة قطّاع للأمور مقتدر عليها، المقضب: المنجل، قضب الناقة: ركبها قبل أن تراض، واقتضب الكلام ارتجله، والمقتضب المكلّف عملاً قبل أن يحسنه. والمقتضب من الشعر فاعلاتن مفتعلن مرّتين، وإنما سُمي مقتضبا لأنه اقتُضِب مفعولات، وهو الجزء الثالث من البيت، أي قُطع.

ولست – أيضا – منحرفا عن المسار التحليلي المركزي حين أنتقل إلى مرادف لكلمة القضيب وهو " الأير "، وصلته بالذكَر وبالأوجه الأخرى الواسعة للأفعال الحيوية الفردية التي تلتحم بأفعال الطبيعة وبالتمظهرات الاجتماعية الشائكة والمعقدة والأفكار – وحتى الفلسفات - التي ستعبر عنها رمزيا بطريقة غاية في الإلتباس، التي لعبت على أوتارها الكاتبة ببراعة. فالأَير (بالعامية) بالفتح هو الذَكر والذكر من الذِكر، وفسّره في منتخب اللغات بالقضيب (العيْر عامية)، والأير ريح الصّبا، وقيل الشمال، وقيل التي بين الصبا والشمال وهي أخبث النُكُب لشدة برودتها، والأُوار الريح الحارّة، وأيّار شهر هو معظم الربيع ويقال له بالشام أيّار الورد، الإياريّ بالضم العظيم الأير ويكنّى به عن كثرة أولاده الذكور. قال علي (ع): من يطُل أير أبيه يتمنطق به. ضرب طول الأير مثلا لكثرة الوَلَد، والانتطاق مثلا للأعتضاد. وآر الرجل خليلته جامعها، والمئيّر النيّاك أي الكثير النيك، وإيرُ جبل لغطفان، وإيَر ناحية من المدينة يخرجون إليها للنزهة. وحجر أير شديد صلب، واليرّة النار. وقال حارّ يارّ عنى رغيف أخرج من التنور، وكذلك إذا حميت الشمس على حجر أو شيء غيره صلب فلزمته حرارة شديدة. ولا يُقال لماء ولا لطين. ولا تقال إلا ملّة حارّة يارّة، وكل شيء نحو ذلك إذ ذكروا " اليارّ " لم يذكروه إلا وقبله " حارّ ".

ولنحاول الآن - وبعد أن نضع معاني ومفاهيم المصطلحات الحاكمة التي أوردناها لمصطلحات مثل: التشهي، الذكّر ومرادفاته، عقدة الإختفاء، الترجمة والخيانة وغيرها – أن ننطلق لنر فعل هذه المفاهيم التي هي تعبيرات عن غرائز ودوافع ورغبات، وحزمة من نوى تحيط عليها متراكمة ومتراكبة أغطية مربكة ومموهة من الأفكار والمعتقدات، في سلوكيات وأفعال الشخصيات المركزية في الرواية وبناها الفكرية. وينبغي أن نشير إلى ملاحظة هامة جدا وتتمثل في أن هذه الرواية هي رواية وجهات نظر – points of view، رواية تتعدد فيها الأصوات، وتتداخل فإننا سنجد أن جوانب جوهرية من سلوكيات بعض الأشخاص مطروحة من خلال تحليل شخصية أخرى أو حديث هذه الشخصية عن وقائع الرواية أو عن ارتباطاتها أو صراعاتها مع شخصية أخرى:

 

- مهند:

يفصح سرمد عن ميول أخيه مهند المبكرة في الافتتان الساخن في أعمال التجسس والجاسوسية خصوصا سلوكه الأرق القلق ليلا وهو يدور في أنحاء البيت وغُرفه، أو في التبصص على سلوكيات الآخرين بالناظور. ومن المؤكد أن اختيار الفرد أي مهنة في مراحل عمره الراشدة اللاحقة له صلة وثيقة بنشاطات سلوكية وتعبيرية مبكرة تحصل في طفولته وتتصاعد في مراهقته وتختزن في لاشعوره لتشكل نوى لاواعية للقرار "الواعي" الذي سيتخذه لتحديد مسارات حياته المهنية. يقول سرمد:

(.. أخي مهند، هذا الذي كان مفتونا بأعمال التجسس والجاسوسية ما بين النوم والاستيقاظ، فيردّد: كل شيء يتجسس على كلّ شيء. الواطي على العالي، وهذا على الأعلى. القديم على الجديد، والآلهة لا تمدّ يد المساعدة قط لبني البشر وباب الخروج هو باب الدخول - ص 18و19).

ويربط مهند، بتورية ذكية،بين الترجمة والفعل التجسسي وذلك حين يقول لسرمد:

(تريد تصير مترجم، عال، هذا هم يشتغل جاسوس من طراز لا مثيل له، هو يتشمشم رحيق الآخرين، يقتنص من ذكائهم وسموّهم وخراقاتهم، من زهوهم وخياناتهم. الجميع يتجسس على الكل، الوالدان، الأزواج المغرومون، رجال الدين والأحزاب، الدول والأطفال، الأذكياء والدجّالون، فلا يعرف كل واحد ما هو المتوقع - ص 19).

إننا نقوم فعليا – من الناحية النفسية بعملية تشهّي التبصص – التجسس !! – الدائمة على أفعال الآخرين طوال حياتنا، نرصد هذه الأفعال ونحاول " ترجمتها " إلى معاني تتفق مع دوافعنا الحبية أو العدوانية. ومع كل عملية " بروز " لمعنى ما، هناك عملية " اختفاء " موازية لمعنى مقابل، حتى لنستطيع القول أن الحياة البشرية هي عبارة عن سلسلة محكمة الحلقات من عمليات تشهي وترجمة بروز الأفعال واختفائها. وقد وفرت مهنة الأب "نور الدين" حاضنة مبكرة ترعرعت فيها ميول الأخوين – مهند خصوصا – التبصصية (التجسسية؟؟) من جانب، وميولهما (مهند بخاصة أيضا) الجنسية المثلية من جانب آخر. فقد كان محل الخياطة مزارا دائما لشخصيات مختلفة أغلبها ذات مواقع متقدمة في الدولة وفي العمل السياسي: (السادة الضباط والجنرالات المتقاعدين وأصحاب الشأن وموظفي الدولة الفتيّة، الذين كانوا يسلمون أنفسهم ونياشينهم وأنواط شجاعتهم ونجومهم اللمّاعة للسيد الوالد ولأخي مهند – ص 18). كان مهنّد يسجل أدق التفاصيل لأبدانهم، ويبدو أن حفزاته المثلية المبكرة هي التي كانت تربك إدراكاته فكان غالبا ما يغلط في كتابة القياسات ولكن الأب لا يحاسبه فيزرع في نفس سرمد حرقة الأفضلية "القابيلية".

ولعل أفضل مثال يكشف النوازع المثلية والتبصصية لدى مهند هي ما كان يقوم به من أفعال مثيرة ومستفزة مع المستر (سكوت) المدير التنفيذي للمعهد البريطاني. من هذا الشخص الانكليزي سمع سرمد أول الكلمات الانكليزية وهو في الصف الثالث المتوسط، كما كان يجلب لهم المجلات والقصص الانكليزية. يرصد سرمد تفاصيل جسد المستر سكوت بكل دقة: شعره، بشرته، رموش عينيه، قوامه.. إلخ، ويشعر بميوله نحوه، ميول يحذّره مهند منها بصراحة فاضحة وهما في ذلك العمر:

(ابتعد عنه. هذا رجل عسكري خدم في الهند تقاعد. وصل بغداد عن طريق اللغة الانكليزية. دير بالك هو يدوّر على الأولاد في سنّك، لكنّا سنفعل به ما نشتهي نحن لا هو – ص 99).

وكان مهند يقوم فعلا بما يشتهي هو مع المستر سكوت. هو كان يكرهه فعلا، يكره عجرفته وتعاليه، ويضيق ذرعا بغروره فيردد بعدما يخرج:

" بس لأنه بريطاني، طز.. " – ص 1.4 -.

لكن الأكثر إفصاحا عن جسارة مهند ودوافعه المثلية المعذِّبة التي كان يتلاعب بها بأعصاب المستر سكوت بصورة فاضحة هو الطريقة الماكرة التي كان يستثير بها أعصاب سكوت ويتلاعب بتهييجاته:

(كان مهند يسجّل اسمه ومقاسات جسمه وهو يحتك به فألحظ تداخل يده في نسيج لحمه وكـأنه كان يبطن لحمه بحركات الأصابع. يثني يده ثم ذراعه، ينزل إلى صدره ويتنفس فيه فيستفز شعر صدر السيد سكوت ذي اللونين الأبيض والأشقر. ثم يبدأ يطوي يده إلى وراء حتى أراه وهو يلتصق به... ها هو مهند يرتق أعصاب هذا المستر ليس بالإبرة والخيط، وإنما بالملامسة والأنفاس الساخنة والإيحاءات المريبة – ص 1..و1.1).

ولكن هنا تحصل نقلة بادية البراءة في الظاهر ولكنها ذات مغزى عميق الدلالة في الباطن عندما " نترجمها " من لغتها السطحية إلى لغة " نفسية " تعتمد على الإطار الكلي للموقف النفسي لسرمد. فهو يتحدث عن الكيفية التي كان يتلاعب بها مهند بأعصاب المستر سكوت بالالتصاق به والاحتكاك بلحمه، وإذا بصورة الأم، أم سرمد " تبرز " بصورة مفاجئة، ذكرى تبزغ في ذهن سرمد عن الكيفية التي كانت ترتق بها الأشياء لولديها في الأيام الخوالي كما يقول، ولكن مرتبطة بمن وبماذا؟:

(ثم يبدأ [ = مهند ] يطوي يده إلى وراء حتى أراه وهو يلتصق به. ظهرت أمامي صورة أمي وهي تحاول أن ترتق لنا الأشياء في الأيام الخوالي وها هو مهند يبدو وهو يرتق أعصاب هذا المستر ليس بالإبرة والخيط، وإنما بالملامسة والأنفاس الساخنة والإيحاءات المريبة – ص 1..و1.1).

" الترجمة " هنا شديدة المكر ومسمومة المناورة بحيث يصبح تأويلها نفسيا متعبا لمن تعوّد على الالتصاق بالمعاني الظاهرة، ولا يمتلك أساسيات تأويل الحلم وعمله التي تصلح أساسا لترجمة الدلالات الرمزية للفعل الإبداعي مثلما تشكل مدخلا لتفسير الكثير من السلوكيات البشرية " البريئة " أو التي تظهر وكأن لا معنى عميقا لها. إن ظهور صورة الأم المفاجىء هذا قد جاء من خلال تداع واه فرضه فعل " الترتيق ". الأم كانت ترتق " الأشياء " – ولم يقل سرمد: ترتق "الملابس" فهم خياطون ولا حاجة لأن تقوم الأم بذلك – ومهند يرتق ملابس المستر سكوت المستعملة ولكنه يرتق أعصابه بالتحرشات الجنسية الجريئة. ومعنى الترتيق الأخير تأويلي، ترجمة معنوية، حصل بالتداعي، من فعل نفسي بين مهند وسكوت أوّله سرمد إلى سلوك ترتيقي فعلي كانت تقوم به الأم، لكن هذه النقلة سبقتها وقفة سرمد التفسيرية لتعلق سكوت بروائح الناس ذات المعاني الجنسية التي تنطوي عليها ملابسهم المستعملة. أي أن صورة الأم قد استدعيت بين موقفين جنسيين " شاذّين "، أي أن الذكرى البريئة الظاهرة قد شحنت بطاقة محارمية. وقد تُيسِر هذه الوقفة التي تراجع عملية التداعي والتأويل وفق أطروحات التحليل النفسي علينا عملية فك ألغاز وجهة نظرنا التفسيرية هذه التي ترفض أي عشوائية في السلوك البشري: (.. فمثلا أنني أفكر بكنيسة معينة فتحضرني حالا كنيسة مشابهة وهذا تداع كلاسيكي بالمشابهة. ولكن الشيء الذي تهمنا الإشارة إليه هنا هو أن علاقة التداعي بالمشابهة هذه تفعل فعلها من غير أن تكون معروفة ـ أي أنها لاشعورية ـ ومن البدهي في الواقع أن علاقة من هذا النوع لا يمكن أن تعرف إلاّ بصورة لاحقة للأشياء التي تصل بينها ولكن واحداً من هذه الأشياء هنا وهو الكنيسة الثانية لمًا توجد بعد في دائرة المعرفة والأمر كله في جلبها إليها. فنحن مضطرون إذن الى الاعتراف بأن علاقة المشابهة تفعل فعلها من غير أن تكون معروفة. ولو لم يكن الأمر كذلك لكان أي تذكًر بطريقة التداعي مستحيلا. وملاحظتنا هذه غنية بالنتائج. إن السببية النفسية التي بها تستدعي فكرة فكرةً أخرى تمارس تأثيرها فينا من غير أن نحسًه وبصورة لاشعورية فلا نشعر به إلاّ فجأة بعد ذلك. بل هل يمكننا القول أننا نشعر مباشرة بالسببية التداعية التي تستدعى الفكرة بواسطتها فكرة أخرى؟. هذا ما لا يبدو ممكنا. إن التفكير بالتداعي لا يشعرنا بأي جهد ونحن نشاهد كمتفرجين منفعلين تلاحق الصور وهكذا فأنه يبدو أن سببية الاستدعاء التي تصل بين الصور المتداعية وكأنها مستقرأة لا مدركة مباشرة بالحدس كسببية العقل الإرادي. فإذا أردنا معرفة حتمية تداعياتنا لم يسعنا إلاّ ملاحظتها كأية حادثة من حوادث الطبيعة. ولما كانت التجربة بالفرضية لا تتدخل في تتابع عمليات التداعي فإن من المنطقي الإفتراض بأن العلاقات القائمة بين التصورات المقترنة على شيء من الثبوت. لاريب أن هذه موضوعة ولكنها موضوعة منسجمة مع التفكير العلمي. أما أن يكون تيًار الفكر لدينا تغيرا خالصا وأن يجري فينا نهر هيراقليطس فإنه ما من رجل علم ليقبل بذلك أبدا. وعلى هذا فإن من المشروع الافتراض بأن للصور (حلم المبدع = نَصّه) رابطة تداعية قوية الصلة أو ضعيفتها بالتصورات التي تنشأ عنها. ولئن كان الأمر كذلك فإن هنالك طريقة لتحديد وتعيين أسباب الحلم بأن يتمدًد الشخص ويغمض عينيه ويعدل عن النقد الذاتي..الخ ونقدًم له صور حلمه. وعندما سننتهي سنلاحظ بدهشة عميقة أن التداعيات ذات وحدة في الموضوع وأنها ليست أبدا بغبار متناثر عديم الشكل لا يخضع إلاّ لقوانين التداعي التقليدية في المشابهة والتضاد والإقتران بل أنها تؤلف كلاً موحداُ حقا يضع بين أيدينا مباشرة معنى الحلم ـ النص) (3).

 

- مهند والقمع والسلوك الجنسي:

يمكن للنظام الشمولي أن يشوّه كل القيم الإنسانية المعروفة ويمسخها.. النظام الشمولي يجعل الزوجة تكتب تقارير عن نشاط وسلوك زوجها قد توصله إلى الاعتقال والفصل وحتى الإعدام وهو لا يعلم أن النائمة بجواره (أم جهاله) كما يقال والتي تضاجعه بحماسة هي التي " كسرت " رقبته !! هذا ما كان يحصل في ظل الأنظمة الشمولية الشيوعية الشرقية وفي العراق على حدّ سواء. وكان الكثيرون من السائحين في السبعينات يعودون من البلدان الاشتراكية ويتحدثون عن وقائع غريبة عن سلوكيات النسوة هناك.. وخصوصا ضجيج الحياة الجنسية.. وصخب الممارسة الحبية في الفراش.. ويبدو أن القهر الذي يسحق الوعي ويقمعه يجعل الرد " يُنقل " من "أعلى" إلى " أسفل " – ألهذا كانت الشعوب المقهورة أكثر تناسلا وزيادة سكانية رغم الفقر المدقع في كثير من الأحوال؟!! – ولعل هذا ينطبق على الإفراط الكاسح في حرّية الجسد في المجتمع الغربي – الذي هو شمولي بفهم آخر - التي كانت مفتاحا هاما من مفاتيح نهضته الحداثية، والذي - أي الإفراط - أعاد الجسد إلى مهانته من باب آخر كمعلم أساس من معالم عالم ما بعد الحداثة. وما يهمنا هو أن "الشمولية" الرأسمالية قد أوصلت الإنسان إلى موقع مناظر للموقع الذي يصله الإنسان في الأنظمة الشمولية الشرقية - الشيوعية تحديدا - وإن يكن من موقع آخر في المعاني النفسية للسلوك الجنسي. إنه سلوك يأخذ طابعا ثأريا من ناحية وشديد التراخي في اختيار موضوع الحب الذي يستحق لقية الجسد من ناحية أخرى. يتصل مهند بشقيقه مهند من موسكو ويقول له: (لك عيني سرمد لو تجي فدوة أروح لعيونك. أسمع لك الكحبات هنا أوكح من كحبات أي مكان بالعالم. لك عيني حللنا الأمور على مهل وأرجعنا الأوضاع إلى الماركسية اللينينية... يمكن الكحبة هنا تريد أن تتفوق بهذا الجزء من جسمها، تريد استعماله كما تشاء هي مو النظام. لا أدري، فبقدر ما ترتعب من أجهزة الدولة والمخابرات بقدر ما يكون فحشها صاعقا فتبدو شهواتها تدميرية كأنها تضاجع ضد النظام، ضد كل شيء بكل ذاك العنف الذي يطلع منها على شريكها؟) ولعل في تفسير مهند الفج هذا في الظاهر جانبا من الوقائع التي كان السياح يروونها عن النساء، وسبل التقرب البسيطة من المرأة هناك، بطريقة لا تبررها الحاجة المادية وحدها أبدا. لكن مهند ينسى وهو في خضم انتفاخه المرضي هذا أن ما يقوله ينطبق على النتائج السلوكية الجنسية التي أفرزها النظام الشمولي الذي تحيا بلاده في ظله والتي استترت خلف براقع القمع ونواهي العيب الاجتماعية والدينية المنافقة، هذه التأثيرات المرضية التي هو نفسه أنموذجها.. فالتشهي للسلطة غالبا ما يظهر مرتبطا، بل ملتحما بالتشهي الجنسي المُعبَّر عنه بالتعدّي على موضوع حب يخص آخرين. ولكنه يقوم بناحية مكملة تتمثل في " تعهير " الآخرين حتى لو كانوا من حركات سياسية معارضة لنظامه – وسرمد دقيق الإصابة في القول إن مهند، البعثي بالاستنتاج، يشبه أبو مكسيم الشيوعي كما رسمت أنموذجه الروائية بشكل واضح -، وها هو مهند يواصل كشف أسراره الإستخبارية لسرمد: (ستبقى غشيما ولن تتعلم لا من الماضي ولا من الحاضر. إسمع سوف تقرأ في إحدى السنين أسماء اصحاب الرواتب المرتفعة ومن جميع الفئات والأحزاب كما تقول. إحتفظ بجميع ما أرسله إليك من وثائق وأفلام وأشرطة ومكاتيب. أعرف أنني ذاهب إلى حتفي. لم أكن خيّرا أو طيّبا فأنا لا أحب الأخيار والطيبين ولا روحي كانت تريد الخلاص من أي أحد أو شيء. إسمع لا أريد رأفتك ولا مواساتك. إي، هسّه، خلّينا نشرب في صحة الخراء الوطني والمرحلة الأستية. أي سرمد، تتضايق من كلمة خراء، عال، سنحسّنها بلفظة ثانية متحذلقة شوية. الغائط.. – ص 91).

 إن الإحالة إلى الخراء والمرحلة الأستية ليست عشوائية ساخرة حتى لو كان إيحاؤها المظهري يعكس خلاف ذلك. فحسب الدراسات التحليلية النفسية التي أجريت لسبر خفايا شخصيات الطغاة فقد ظهروا أنهم مثبتون على المرحلة الشرجية – anal stage من ناحية، ويعانون من تهديد الإخصاء من ناحية ثانية وحرمان فموي شديد التأثير من ناحية ثالثة مكملة. يتجلى الأول في العدوانية التي تبلغ حدودا سادية فظيعة في تصفية ليس الخصوم حسب بل حتى أصدقاء ورفاق الأمس واليوم كما حصل في التجربة العراقية التي يمثلها مهند - وهذا ما يعكسه سلوك الأخير - وفي العدوانية الكلامية من كلمات بذيئة وتجديف وأوصاف متهتكة، وهو ما يطفح في خطاب مهند مهما كان عابرا.. أما الثاني فيتجلى بصور مراوغة كثيرة سنترك المتعب منها والذي يرتبط باختبار القدرة على الكتابة، القدرة على " استعمال " القلم.. والذي له صلة بحقل الإبداع الذي يحمل درجة من النقاء والقداسة في العيون العادية، وسنركز على الجانب الإجرائي الذي يعكسه سلوك شخوص الرواية رغم أنه يطفو على سطح واقع متخيل لكنه ينماز بقوة واقعية الإحالة التي تفرضها التجربة الجحيمية التي عشناها كشعب وكأفراد نمتهن الكتابة. أما الثالث فيتمظهر في السلوكيات المعبرة عن " التشهي " الذي قد يفضي أحيانا إلى الخراب العظيم كما حصل في هذه الرواية / ملحمة الخراب. ويمكن أن يكون مهند وأبو مكسيم الأنموذج الذي يعكس الناحية التثبيتية الثانية والتي تشيع في سلوك السياسيين عموما والطغاة منهم خصوصا. إنهم يعيشون تحت وطأة شعور دائم بالتهديد بالإنخصاء، وبأن عليهم أن يتفحصوا قدرة آلاتهم على الفعل الناجز، ولا تتأسس هذه الثقة إلا مرتبطة بالتعدي على موضوع حب مشترك كما يحسبه الفرد المهدّد وهو موقف يعيد إلى أذهاننا العلاقة العدوانية أو المتوترة المضمرة بين أطراف المثلث الأوديبي، وهو ما ينطبق أيضا على سلوك مهند حين يقول لسرمد بعظمة لسانه كما يقال: (إسمع خراء عليك وعلى "ألف" التي كانت تضاجعني وهي تحلم بك فوقها وأنا أعرف ذلك، ولا تحتاج هي ولا أنا إلى أي إثبات ولكني أبقى داخلا فيها، ليس بقوة الرغبة واللذة وإنما بشروط العداوة والبغض الذي يركبني وأنا أركبها. أبول عليك وعلى رائحتك الخاصة التي كنت أشمّها من عرق وإبط "ألف"، في لباسها الداخلي وهي تنزعه أمامي وفي تلك الأصوات التي لا تطلع من جوفها أبدا فلا تغلط وهي تحسب عدد المرّات التي ضاجعتها – ص 91).. يرتبط بشتيمة " أبول عليك" فعل التبول الذي قام به أبو مكسيم – الوجه المناقض سياسيا والمكمل نفسيا لمهند – بعد أن نزل الجميع من الحفلة الصغيرة في شقة (هنكا) البلغارية في لندن.. فقام بالتبول (.. أمام سبعة أنفار من بينهم كيتا.. كان يشرشر بوله الذي صار يسيح بين أحذية الرفيقات، ثم ينفض عضوه بقوة ويعيده بهدوء وحنان شديدين إلى مكانه داخل السروال – ص 54و55).

وكان مهند يستعين بالفتيات الجامعيات وموظفات فنادق الدرجة الأولى والثانية ونساء السياحة والخطوط الجوية لتنفيذ مخططاته الإجرامية في بيروت. كان ذا جلد وعزيمة لا مثيل لها يقوم بدور العميل السري صاحب الأسماء الحركية والأقنعة والأزياء الغريبة التي تتغير باستمرار. قام بفتح شركات ومجلات ومطابع وصحف ووكالات صحافية للغطاء على أنشطته الإستخبارية. لقد أسس وكالة مصرفية في بيروت كانت تتاجر بكل شيء وتقوم بغسيل الأموال والتهريب.. كما تورطت بعمليات اغتيال ونهب وفساد وتدمير. وبعد تفجير السفارة العراقية في بيروت كان هو المكلف بمطاردة " نسيم " الأنموذج الشيوعي الرائع لتصفيته. وهو – أي مهند - أنموذج للسيكوباثية المميتة التي لا تعرف أي معنى للندم مهما كانت طبيعة الأفعال والآثام التي يقترفها. كان لواطيا مفضوحا، اغتصب زملاء سرمد في القسم الداخلي أيام الدراسة في الكلية ومن بينهم يوسف الذي اضطر إلى الانتقال إلى جامعة الموصل هربا منه. لكن الظاهرة الغريبة والخطيرة التي تلتقطها الكاتبة، والتي تعبر عن معضلة نفسية شائكة هي التقاء المتناقضات السياسية والشخصية في التعامل التجاري، كما حصل بين مهند وأبو مكسيم الشيوعي السابق والمعارض لنظام مهند، خصوصا في سنوات الحصار المدمّرة.

 

- مهند وأبو مكسيم:

وكنا قبل أن نتخصص بعلم النفس وتتسع معارفنا في التحليل النفسي نرى غريبا أن أكثر اثنين يتقاربان إنسانيا في السجون السياسية هم أعضاء الحركات الملحدة والحركات الإسلامية المتشددة. كنا نتساءل كيف يلتقي النقيضان؟ كيف يتقاربان وهم على هذه الدرجة من التضاد العقائدي؟ والجواب هو أنهما يتقاربان لأنهما متناقضان !! فالسمة المركزية في الدفين من شخصياتهم هو التطرف والتعصب. وهي سمة حاسمة في الالتقاء النفسي رغم أنها تتمظهر في شكلين عقائديين متضاربين. وقد أثبت التحليل النفسي أن من الممكن لعامل نفسي واحد أن ينتج ظاهرتين مختلفتين، مثلما يمكن أن تنتج ظاهرة سلوكية واحدة من مجموعة عوامل " شدّة التعيّن ". وفي الرواية يلتقي مهند القاتل السفّاح الذي كان واجبه مطاردة المعارضين وتصفيتهم وخصوصا من الشيوعيين، بشيوعي سابق هو أبو مكسيم. ولا غرابة فالسمات السيكوباثية صارخة في شخصيتيهما. فهما واقعان تحت سطوة " التشهي " المرضي لكل شيء يمت بصلة للسلطة والجنس والطغيان. فإذا كان مهند قد أبعد أخاه سرمد ليستأثر بحبيبته " ألف " ويتزوجها بالإكراه بعد أن صفّى أباها وأخاها جسديا وحاصرها من كل جانب، فإن أبا مكسيم كان لا يتحمل أية منافسة مهما كان نوعها، ويستميت لتلويث أعراض خصومه. إنه حقود كما تقول المغربية البيضاوية والتي أكد مدير شركتها (أبو العز) التي تعمل فيها، تقييمها هذا وهو يستدعي واحدة من الحوادث التي عبر فيها أبو مكسيم عن حقده الأعمى (على أحدهم وكان صديقه الذي بزّه في الأعمال التجارية والغرامية في بيروت وبعد ملاسنات قرّر غواية زوجته. نصب لها الأفخاخ أينما تظهر.. لوح لها بالنفوذ والسفر والمجوهرات.. لكي ينتقم من زوجها بشخصها.. فصار له ما أراد معها. دعاها لقضاء ثلاث ليال في إحدى الجزر الاسبانية وهناك صورها في جميع الأوضاع.. في أحد الأيام غادر الفندق دون أن يدفع الحساب حتى. وضع الصور في مظروف سميك وأرسلها إلى الزوج. انتظر يوما، ثلاثة، أسبوعا، ولا ردة فعل واحدة: وحين عرض عليّ الصور وسرد لي القصة أطلقت صوتي بالضحك كما لو كنت مجنونا وأنا أشفق عليه:

" لك عيني أبو مكسيم الورد، لك إنت " نكت " سكرتيرة عدوّك، أما زوجته فقد توفيت منذ شهور بمرض غريب !! " – ص 85و86).

.. وتهمني هنا الإحالة إلى التحليل الشامل الذي قدّمه المحلل النفسي الشهير " أريك فروم " في كتابه " تشريح التدميرية البشرية " لشخصيتين متناقضتين، بل شديدتي التناقض من الناحية العقائدية، هما هتلر وستالين اللذين اظهر التحليل السلوكي والسيري تطابقهما من الناحية التدميرية. إن ما تحيلنا إليه عالية ممدوح حقيقة نفسية هي من أطروحات معلم فيينا، حقيقة يستهجنها وعينا بقوة، في حين يؤكدها سلوكنا بقوة مقابلة أيضا، وهي أن الإنسان ليس كائنا منطقيا بل كائنا تبريريا – not rational but rationalized humanbeing. الرغبة تضغط وتضغط باحثة عن الإشباع فيلحقها الفكر كي يجد لإشباعها مبررا، وقد يخلق من أجل ذلك الذرائع النظرية والفكرية والفلسفية (طرح نيتشه فلسفته المعادية للأنوثة بعد أن وسّط صديقه لخطبة سالومي فرفضته وتزوجت الوسيط !! ويمكن القول أن فلسفته في " إرادة القوة " هي ردّ على محنة تهديد " الإختفاء " والإنخصاء). وأبو مكسيم الذي يقال أن اسمه الأول هو " أبو فهد " ذاك المناضل الشيوعي الحبيب إلى قلبه، ذاك المناضل الذي صعد منصة المشنقة بجسارة وبلا تردد، كان له أسلوب مميز باقتناص ربع الراتب المخصص لرفيقه الشيوعي الهارب من البلد ويبرم معه اتفاقا فتدخل آلاف الليرات اللبنانية في حسابه الشخصي. وتتضاعف غلته كلما ازدادت انشقاقات الحزب وانقساماته ومهاتراته. والملاحظة الصادمة هي التي يقدمها سرمد حيث يقول أن أبو مكسيم كان يزداد توادا معه طالما أخوه مهند ينكّل بالشيوعيين في المعتقلات في العراق !!. وفوق ذلك فهو كما تلمح البيضاوية، " حيوان جنسي "، وها هي تشاهد كلمة الفصل – كما تقول -:

(لطخة بيضاء، هناك، في بقعة ما في البنطلون، بقعة تحوّلت إلى لون وجعلت نسيج القماش يتغير ويتحلل بياضها إلى شيء كالدمغة بلون رمادي فاتح وصارت واضحة في منتصفه أكثر مما ينبغي – ص 85).

" الشهوة الفادحة تُمرض" وفق الحكمة التي تطلقها الكاتبة المُحلِّلة، ولكن الأهم أنها توصل – وحسب الثيمة الحاكمة في الرواية – إلى " الإختفاء "، فأبو مكسيم الأول – حسب تقييم سرمد – " اختفى ". وحين كانت " كيتا " تقول: " إن لينين لو كان رسّما أو موسيقيا أو روائيا لما تجه إلى النضال – ص 48و49) فإن الباطن المراوغ في كلامها يوصل إلى استنتاج أن ما يلتقي في سلوكيات الطرفين المتضادين عقائديا – وأنموذجهما هنا مهند وأبو مكسيم - هو دوافع " التشهّي " التي – وهنا التفاتة حاسمة – يمكن أن توصل إلى الخراب في دوامة متصلة من حلقات مفرغة من مقاومة الاختفاء ومحاولات البروز المستميتة، أو تُستثمر إيجابيا في حركات تغييرية جذرية تطفيء قلق الإنخصاء المشتعل في فعل بروز أصيل حتى لو تأسس على صراع ممض مكبوت.

 تابع القسم الثالث من الدراسة

 

في المثقف اليوم