أقلام ثقافية

أقلام ثقافية

"سُئل حكيم أيهم أشعر الناس؟ فأجاب: كلٌّ في نظر نفسه إلا هوميروس في نظر كل الناس".

طُرفة رائعة وشائعة- وردت في كتاب "نُقل الاديب" لمحمد اسعاف النشاشيبي

حقيقة تفرض نفسها بقوة ما تنطلق منه من منطق. يقينًا أن كلّ مَن يصفّ بعضًا من الكلام.. كلمة في السطر.. وأكثر في السطر الثاني.. وهكذا في الثالث.. يعتقد أنه يكتب شعرًا، ويتوقّع أن يرقص له الناس طربًا، كما توقّع الشاعر القديم شُميم الحلي، عندما كتب أبياتًا شعرية وقرأها لضيف زاره غبًا.

أكتب هذه الكلمات بعد ما رأيته وسمعته من إخوة ما زالوا في بداية طريقهم الادبي، فما أن تلتقي الواحد منهم حتى يفيض عليك بكلام تكاد أمواهه التائهة تسحبك ضمن فيضاناتها وتغرقك، فأنا وأنا وأنا.. استمع إلى ما جادت به قريحتي من أشعار نادرة، واصغِ إلى تفاصيل قصتي الأخيرة لتتحسّس الابداع الكامن فيها، ليخشع قلبك بالتالي إجلالًا واكرامًا لملكوت القول.

من حق كل كاتب أو شاعر أن يكون واثقًا من نفسه، بل من واجبه، إذ بدون الثقة بالنفس لا يمكن لكائن كان أن يُبدع وأن ينتج، إلا أن الثقة بالنفس شيء والغرور شيء آخر... دع الآخرين يا أخي يتحدّثون عنك وعمّا ابدعته، إياك أن تقوم أنت بهذه المهمة، فهي ليست من شأنك وليس من حقك أن تبادر إليها على الطالع والنازل، وليكن في علمك أن هناك نوعين من الذوق، الذوق الشخصي (كلٌّ في نظر نفسه ..)، والذوق العام (إلا هوميروس..)، فأنت قد ترى في نفسك شاعرًا مفلقًا، في حين يرى فيك آخرون مُقرزمًا مبتدئًا ما زال في مُبتدأ القول ويحتاج إلى وقت طويل حتى يبدأ في ارتقاء سُلم الشعر العصي.

توضيحًا لما أهمس به إليك، أقول إن الذوق الشخصي يبقى شخصيًا مَهما حاول التأنق والتجمّل، أما الذوق العام فإنه يُحلّق في أجواء الجميع، فإذا ما ادعى أحدهم.. لغرض في نفسه، وهذا حدث ذات لقاء أدبي، أن الكاتب العربي المصري نجيب محفوظ، مثلًا، لا يُعجبه، فهذا يمثّل رأيه الشخصي الخاص، ذلك أن هناك إجماعًا على أن هذا الكاتب أثبت نفسه وحظي بإجماع واسع على كينونته كروائي مبدع.. ضمن الذائقة العامة.

موجز القول إن الكاتب او الشاعر او الفنان المبدع الحقيقي، لا يتحدّث عن نفسه، ولا يُطلق عليها الألقاب، وإنما يدع هذا للآخرين، فهم من سيقرّرون في النهاية وليس هو، وعليه لنردّد بعدها مع شاعرنا العربي العريق ابي الطيب المتنبي، في موقف ذي صلة:

أنام ملء جفوني عن شواردِها

ويسهر الخلق جرّاها ويختصم

***

بقلم: ناجي ظاهر

 

اشتهر جليل العطية بعموده الصحفي (حكايات جهين) الذي كان ينشره في جريدة (صوت العرب)، وقد طبع فيما بعد، قبل أن يشتهر كاتباً ومحققاً لعشرات الكتب التي يرجع أغلبها إلى العصر العباسي.

واشتهر أيضاً بكتاب حمل عنوان (فندق السعادة) الذي كنت أسمع به، وأرى إشارات عنه في عدد من الكتب الممنوعة في عقد التسعينيات، وبعضها نقل نتفاً مما ورد فيه، ولم أنجح في الحصول على نسخة منه رغم شدة الطلب والبحث حتى سقوط النظام سنة 2003م ودخول كل الكتب التي منعت سابقاً في أيامه السود على الثقافة العراقية.

ومما ورد فيه على لسان المؤلف العطية: غادرت العراق في شباط 1978م بعد انتهاء عملي في السفارة العراقية بالكويت في تموز 1977م زرت الرئيس الأسبق احمد حسن البكر بناءً على طلبه وكانت لي به صلة جيدة فسألني لماذا عدت إلى العراق؟ قلت: انتهت مهمتي الوظيفية بعد خمس سنوات من العمل الإعلامي، فقال لي بهدوء وهو يتلفت إلى حيث تجمعه صورة بنائبه (صدام حسين) اسمع يا ولدي جليل، عد إلى الخارج مرة أخرى، فلقد انتهى كل شيء ولم اعد أملك سلطة القرار فلقد انتُزعت مني!! ثم بمعونة البكر حصل على إجازة دراسية من وزارة الإعلام ونال شهادة الدكتوراه في جامعة السوربون.

والحديث عن سيرة الدكتور العطية ومؤلفاته طويل جداً، ولكني أكتفي بآخر كتابين صدرا له وأثارا الإعجاب الشديد لكل أطلع عليهما، الأول كتاب (عراقيون في القلب – بغداد 2020م)، وقد تضمن سير حياة (31) شخصية ممن هن فعلاً في القلوب، والثاني كتاب (قمم عراقية- بغداد 2021م)، وقد تضمن سير حياة (28) شخصية ممن هم فعلاً في القمم العالية، وهما من إصدارات دار المدى، ووعد بكتاب ثالث على غرارهما لتكملة جهوده في هذا الباب.

***

جواد عبد الكاظم محسن

تنسى أصلك وحجمك الحقيقيين، وتزعم لنفسك مكانا غير موجود، وتعطي جسدك صفات بعيدة عنك، وتعتقد أن لك روحا متفردة، تلك الروح التي يملكها الأنبياء والرسل، فتطلق العنان لخيالك حتى يشكلك كيفما شاء، ويخيط ثوب الوجود الشفاف على مقاسك، ويجعلك متيقنا من أن بني آدم ما خلقوا إلا ليرضوك، ويأخذوا بخاطرك على حساب خواطرهم، ويخدموا مصالحك ويتركوا مصالحهم.

كنت مخطئا حينما اعتبرت الجمال يكمن في نظرتك، ولم تدر أن للجمال أسرارا لا يكتشفها عقلك، وأن فيه رموزا تستعصي على عقلك ومنطقك.. ألم تدر أن الجمال ليس شيئا معقدا وملغزا، وإنما هو آيات بينات لمن يبصر، وأن خصائصه مجردة وليست مادية، وإن هو أحب أن يعرب عن نفسه، فإنه كالمرأة العربية الأصيلة التي لا تكشف وجهها لأي كان.

إن الجمال سر مكنون محفوظ بين دفتي الوجود، لا يعرب عنه إلا الرجال العارفون بأسرار النفس البشرية ونقائها. لذلك، فإن الجمال يكشف عن نفسه في الأشياء البسيطة، تلك الأشياء التي يعتقد حاطب الليل أنها ليست ذات بال، ومن ثم، تجده يلملمها مع الخشاش الخادع.

يكشف الجمال عن نفسه في تلك الجدران المتآكلة، وفي الأبواب الصدئة المتداعية، وفي الكتب المركونة في الرفوف، وفي الأشجار والأزهار الذابلة المتيبسة.

فلا تجعل نفسك موطن الجمال، ولا مركز الكون الذي تطوف حوله الكواكب والنجوم؛ لأنك جرم صغير لا يكاد يبين، والحياة تسير حتى وإن ظننت أنك متحكم فيها، والناس يتحركون حركة مكوكية على حساب وجودك وإنسانيتك.

لقد أخطأ السابقون الذين اعتقدوا أن الحياة لا تسير إلا بوجودهم، وأن الناس لا تعيش إلا في كنفهم، ونسوا أنهم لا شيء في الوجود، بل لا يشكلون إلا ذرة في حجم الوجود.

إن للتحرر ثمنا باهظا، ومن لم يع هذا القانون فإن حريته الوجودية تظل هائمة، كما أنه لن يحقق شرطه الإنساني، ولن يتذوق معنى مسؤولية الأقوال والأفعال.

إن العاقل لا يجابه الوجود أو يبارزه، وإنما يعرف حجمه وقدره، ويفرق بين ما يريده وما يسعى إليه غيره؛ لأن لكل كائن بشري هدفا مرسوما في هذه الحياة. قد تراه هدفا تافها، ويراه غيرك هدفا عظيما يستأهل الغالي والنفيس.

لقد آن الأوان لهذه النفس البشرية المتشظية أن تعي قيمتها وحدودها، وتترك الحمل الثقيل الذي يقصم ظهرها، وتعلم أنها مسؤولية عن أقوالها وأفعالها، وأن لا أحد قد خولها وصاية على نفسه، أو جشمها عناء تحرره، أو تفكر عوضا عنه.

لهذا يا صاحبي، عليك أن تخرج من صندوقك، وتحرر نفسك من ضعفها، وأن تعلمها تجشم مسؤوليتها، وتعرف حدودها وقدرها في الوجود، ويقر قرارها بأن الحياة لم تخلق لأجلها، وأن الناس ليسوا طوع يدها، ولم يكونوا يوما مسؤولين عن نجاحها وفشلها؛ لأنهم كسروا طوق الوصاية، وخرجوا من شرنقة القطيع، وتنسموا عليل الحرية وثمارها، وتسنموا إلى أعلى مراتبها.

إياك أن تعتقد أن صمتك سيخرص صوت الوجود، وأن غضبك سيسقط النجوم من سمائها، وقطرة المطر من غيمتها، ويخرج الروح من جسدها، ويصير الجمال قبحا والقبح جمالا؛ لأن صوت الوجود، ونجوم السماء، وقطرة المطر، وخروج الروح، والجمال والقبح، كلها أشياء طيعة لصانع الوجود.

***

محمد الورداشي

كلاهما (تولستوي و كورولينكو) ولدا وعاشا وابدعا في الامبراطورية الروسية بالقرن التاسع عشر، وكلاهما توفيا في القرن العشرين، فتولستوي ولد عام 1828، وتوفي عام 1910، اما كورولينكو (الاصغر من تولستوي عمرا) فقد ولد عام 1853، وتوفي عام 1921 . كلاهما كانا علمين كبيرين من أعلام الادب الروسي بشكل خاص، والفكر الروسي عموما، وكلاهما لعبا دورا بارزا في مسيرة التاريخ الروسي واحداثه، لدرجة، قالوا عن تولستوي في اوساط المثقفين الروس، انه يكاد ان يكون القيصر الثاني في روسيا (وحتى الاقوى من القيصر الاول !!) من حيث قوة شخصيته وتأثيرها في اوساط المجتمع الروسي، ولدرجة، تم طرح فكرة ترشيح كورولينكو رئيسا للدولة الروسية السوفيتية الفتية آنذاك بعد انتصار ثورة اكتوبر الاشتراكية عام 1917، ورغم انها كانت فكرة ترشيح ليس الا فقط، الا ان هذا الحدث بحد ذاته ليس بالقليل، فهو الكاتب الروسي الوحيد في التاريخ الروسي، الذي جرى الحديث عن ترشيحه لمثل هذا المنصب (رغم ان غوركي - كما يقال - كان يحلم ايضا بهذا المنصب، ولكن لا توجد وثائق تثبت هذا القول)، ولهذا يمتلك ترشيح كورولينكو لمثل هذا المنصب اهمية معنوية استثنائية كبيرة، ويعني ما يعنيه بلا شك، ويؤكّد المكانة الخاصة، التي كان يشغلها في المجتمع الروسي عندئذ.

يجب الاشارة قبل كل شئ، الى ان هذا الموضوع واسع جدا في مجال علم الادب المقارن، اذ ان هناك الكثير جدا من المصادر الروسية من مقالات وبحوث وحتى كتب باكملها، والتي تناولت العلاقات الفكرية المتناغمة – ان صحّ التعبير - بين كورولينكو وتولستوي، ويكفي – على سبيل المثال فقط - الحديث عن موقفهما الفكري المشترك ضد قانون حكم الاعدام، الذي كان سائدا في الامبراطورية الروسيّة، وكيف ان تولستوي كان معجبا جدا بمقالة كتبها كورولينكو حول الغاء هذا الحكم، واقترح تولستوي (في رسالة شخصية الى كورولينكو) ان يطبعوا من مقالته تلك (...ملايين النسخ ...!) وتوزيعها على نطاق واسع كي تصل هذه الافكار الى جميع افراد الشعب الروسي آنذاك، وهو اقتراح فريد من نوعه في تاريخ الفكر الروسي عموما، وفي تراث تولستوي بالذات خصوصا .

 لايمكن في سطور قليلة تناول موضوع المقارنة بين تولستوي وكورولينكو بكل ابعاده، لهذا، فاننا أضفنا الى عنوان مقالتنا (شئ عن ..) بمعنى الاشارة ليس الا الى بعض الافكار الاساسية حول الموضوع، اذ اننا سنشير فقط – وبايجاز طبعا – الى آراء كورولينكو حول تولستوي، لان كورولينكو أبقى لنا مجموعة من المقالات حول تولستوي، أما تولستوي نفسه، فلم يكتب مقالات حول الادباء الروس عموما، وكل آراء تولستوي المعروفة عن الادباء الروس (الذين سبقوه او كانوا معاصرين له) جاءت في مذكرات ومقالات ابنائه او اصدقائه اومعارفه، او انعكست – بشكل او بآخر - في رسائله الخاصة ودفاتر مذكراته وملاحظاته .

 كورولينكو كتب عدة مقالات حول تولستوي، وتشغل هذه الكتابات الان حيّزا مهما في نتاجات كورولينكو، وطبعا في تاريخ الادب الروسي بشكل عام . هذه المقالات موزعة في نتاجات كورولينكو الكاملة، الا ان احدى دور النشر السوفيتية جمعت و اصدرت تلك المقالات عام 1953 في كتيب خاص بعنوان (مقالات حول تولستوي)، وقد تكرر نشر هذا الكتيب عدة مرات حتى في القرن الحادي والعشرين، وهذا عمل مفيد جدا للباحثين اولا، ولكل القراء الذين يتابعون تفاصيل الادب الروسي وشعابه ثانيا، واعادة النشر هذه - دليل مادي واضح حول اهمية هذه المقالات ، فالصورة القلمية التي رسمها كورولينكو لتولستوي في مقالاته تلك تستحق التأمّل فعلا، اذ انها تحدد بعض الخصائص الفكرية لمؤلف (الحرب والسلم) من وجهة نظر كاتب روسي كبير مثل كورولينكو.

 هذه المقالات عموما لم تتناول اعمال تولستوي الادبية، ولكنها توقفت – وبتركيز – عند الافكار وتطوّرها عند تولستوي، فقد أطلق كورولينكو – مثلا - في احدى تلك المقالات تسمية لاهوتية على تولستوي، وهي (الحاج العظيم !) اي الحاج للاماكن المسيحية المقدسة في فلسطين، علما ان تولستوي لم يقم باي زيارة لتلك الاماكن، ولكن كورولينكو أراد بهذه التسمية ان يقول، ان تولستوي (الذي كان مغضوبا عليه من قبل الكنيسة الروسية كما هو معروف) هو الاقرب الى جوهر المسيحية فكريا لانه (يغرف !) افكارها من مصادرها الاساسية دون وساطة رجال الدين، وفي مقالة اخرى أشار كورولينكو الى انه التقى تولستوي ثلاث مرات، اللقاء الاول كان عام 1886، والثاني عام 1902، والثالث قبل وفاة تولستوي بثلاثة أشهر، وفي كل لقاء، كان يجد افكار تولستوي تتجدد وتتفاعل مع تجدد الحياة نفسها، وباختصار، فقد رسم كورولينكو لوحة (للمفكّر !) تولستوي .

موضوعة تولستوي وكورولينكو تصلح ان تكون اطروحة ماجستير في اقسام اللغة الروسية وآدابها في جامعات عالمنا العربي، اذ ان تلك الموضوعة جديدة ومبتكرة وترتبط بشكل او بآخر مع المشاكل المطروحة في مجتمعاتنا العربية، اضافة الى ان ترجمة كتيب كورولينكو (مقالات حول تولستوي) تصلح ان تكون مشروعا لدبلوم الترجمة الى العربية في تلك الاقسام العلمية (وليس فقط لمشاريع الدبلوم)، اذ ان هذا الكتاب – في حالة انجازه - سيكون اضافة نوعية الى المكتبة العربية. 

***

أ. د. ضياء نافع

ترجمة واعداد: أ.م. محمد داخل ذياب التميمي

لعب ادب المهجر المقارن دورا كبيرا في تخليد الادب العالمي بشكل عام، لأهميته سنتناول في مقالنا هذا مقارنة بين الادب العراقي متمثلا بالشاعر العراقي السياب، والادب اللاتبيني متمثلا باشاعر التشيلي بابلو نروذا، عن طريق الاجابة عن الاسئلة الاتية:

1. ما هو ادب المهجر المُقارن؟

 - هو دراسة الجوانب التي يتلاقى بها الأدب الذي أنتجه الادباء الذين ينتمون لقوميات ولغات مختلفة في المنفى، وما نتج عن هذه العلاقات من تأثر او تأثير .

2. ما هي خصائص ادب المهجر؟

 - الحنين للوطن وللزمن الماضي الجميل.

 - التركيز على موضوع الطفولة بصفته (جنة) في مواجهة (جحيم) الكبر.

 - المحافظة على المواضيع الطليعية.

* التركيز على عامل الخيال والمقارنة.

3. من هو الشاعر العراقي بدر شاكر السياب؟

- بدر شاكر السيّاب شاعرٌ عربيٌّ عراقيّ الأصل، وهو من أشهر روّاد التجديد في الشعر العربي المعاصر، ومن أوائل مؤسسي مدرسة الشعر الحر.

- ولد في البصرة، في قرية (جيكور) في جنوب العراق في العام 1926.

- أدى فقدان السيّاب لأمه ثم لأبيه وجدته، بالإضافة إلى فقره ومرضه إلى شعوره بالغربة وهو في أحضان وطنه العراق، وازداد هذا الشعور وتعمّق في وجدانه بعد رحيله عنه وتنقّله بين الدول بسبب ظروفه السياسية والصحية.

- مات في احد مستشفيات الكويت في العام 1964.

4. من هو الشاعر التشيلي بابلو نروذا؟

- شاعر سياسي تشيلي، يعد من أعظم شعراء أمريكا اللاتينية، وهو من الحاصلين على جائزة نوبل للأدب.

- ولد في العام 1904 في مدينة بارال في المنطقة الوسطى من تشيلي.

- أدى فقدان بابلو نروذا لأمه التي توفيت بعد وقت قصير من ولادته إلى شعوره بالغربة وهو في أحضان وطنه، وازداد هذا الشعور وتعمّق في وجدانه بعد رحيله عنه وتنقّله بين الدول بسبب ظروفه عمله الدبلوماسي وانخراطه بالعمل السياسي.

- مات في احد مستشفيات تشيلي في عام 1973 بعد اصابته بمرض السرطان

5. لمحة عن قصيدة (انشودة المطر) للشاعر بدر شاكر السياب وقصيد (المطر) للشاعر بابلو نروذا

- قصيدة (انشودة المطر) كتبها السياب في ايام الضياع والخذلان والمنفى كما يصفها هو عندما كان في الكويت يبحث عن عمل في عام 1954.

- قصيدة (المطر رابا نوي) التي هي جزء من عمل ادبي كبير يضم اكثر من 300 قصيدة تحت عنوان (Canto general )، وفي الجزء الرابع عشر الذي يحمل عنوان (المحيط العظيم) تقع قصيدة المطر التي كتبها بابلو نروذا ليتغنى بجزيرته التي يحبها كثيرا (رابا نوي) التي تقع في المحيط الاطلسي، كتبها في العام 1938 ونُشرت في العام 1950

6. التحليل المُقارن بين قصيدة (انشودة المطر) للشاعر العراقي بدر شاكر السياب وقصيدة (المطر) للشاعر بابلو نروذا

- الشاعرين كلاهما قد تعرضا للنفي والابعاد عن وطنهما، لاسباب سياسية.

- الشاعرين كلاهما قد وضعا عنوان (المطر) لقصيدتهما، للتعبير مجازا عن احزانهما وعاطفتهما اتجاه وطنهما، العراق وتشيلي.

- المطر في كلتا القصيديتان تعبير مجازي يشير، ايضا، الى الخصوبة والنقاء.

- استخدم كلاهما اسلوب التشبيه فقد عبرا عن الوطن بصفة الحبيبة، فقد تغزلا بوجها وشعرها وعينيها.

- كلاهما قد استحضرا الاشجار والعصافير دليل على الامل والتفاؤل على الرغم من الحنين والوحدة التي كانا يشعران بها.

- عنصر التفاؤل موجود في القصيديتين من خلال استحضار كلمة (قوس قزح) في قصيدة السايب وتعبير (لا تخافي) في قصيدة بابلو نروذا، التعبيران يشيران الى الراحة والطمأنينة بعد هطول المطر الذي قد يكون في لحظة ما مدعاة للخوف.

- كلاهما قد اشارا الى صفة الظلام، مما يؤكد من هناك فترات حرجة مر بها الشاعرين كلاهما، وهي اشارة صريحة عن الوضع الغير مستقر في بلديهما.

7. خلاصة المقال نرى الاتي:

- يشترط في الأدب المقارن أن تكون اللغات التي صيغت بها النصوص لغات مختلفة.

-  يُلاحظ بأن السياب قد تأثر بشعر بابلو نروذا، وليس   العكس

***

 

هذه حكاية لا تشابه ما أتت به الجدات أيام الحضن الدفيء. حكاية تتجنب الخوض في متاهات ألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة، وانبعاث الأمير الجميل والأنيق بقبلة حب عميقة من حبيبة لا تماثل حب التملك النسائي. حكاية لا تنتهي بعودة الأمير من ذات قرون التيس العنيد الذي أُلْقت عليه التعويذة السحرية جراء مشاحنة مع زوجة الأب الشريرة.

حكاية تأتي من جيل الألم والحلم، ولن تستجدي من الراوي استهلال منطوق خطابه غير المكتوب (حاجيتك ماجيتك). هذه الحكاية تجعل من وقت العمر يماثل الدقيقة التي تتبدل بمتوالية (اِضْرَبْ وانْقُصْ)، مثل السماء التي تحتلها الغيوم العلوية، ونهاية تمطر عاصفة رملية. هذه الحكاية تنطلق من اللسان كلاما فصيحا، ومن الفكر برمز الإبداع الوجودي، حينها تسيل دمعة في العين ولا تسقط أرضا، وتبقى تبيت العين تكابد المستحيل لِرَيِّ تربة الربيع من غياهب المستقبل الحالم. هذه الحكاية عن أحلامي بالمفرد المتقلص الهوية، وبالجمع غير المنكسر عن أحلام وطن مشترك.

كان الراوي في ملهى الحديث مع الأميرة الحسناء، يلامس شعرها، يتحسس مشاعرها تجاه الأمير العائد من ذات قرون التيس الوحش. كان الراوي يملأ الفراغات البيضاء بأسئلة تتلهى بالتفكير تعبا ومكرا، كانت كل إجابات الراوي تتحمل ببضع كلمات يتيمة. سأل: قل لي فيما تفكر؟ كان من الصعب مكاشفة أسرار وآليات التفكير بالفرجة المملة للعموم. من الصعب ما كان فتح العلبة السوداء عند المنطقة الرمادية للقراءة والتنقيط والتصنيف. كان من صعب الهَبلِ ترك الذاكرة متعرية للجميع كحبل غسيل !! فكم من حكاية كانت للبرهنة !! وباتت لها المسؤولية الأولى في تغيير مسارات عمر الحياة بالحب لا بالكراهية.

 قل لي، أرى أن قلبك عَامَرْ؟ آه، من تقابلات حق الحق، فالكل منّاَ قلبه (عامر) بالكفاية، ويزيد من الفرح أو ينقص نحو سَبْرِ قُدرة هَمِّ الحياة (بفلاشات) التقطيع، و(كَايَنْ) لِي (عَامَرْ) قلبه بالمِحن ولازال يُكابد في الزمن والمكان، وقد لا تنفتح له ليلة القدر الدنيوية (الحظ) إلا لماما.

قل لي لماذا طريقك دائما بعيدة؟ يسكت الراوي الذي كان يحمل في صدره آهات من رواسب الشواهد. يصمت ويُقاوم سيل العين، ويَلعن هَمَّ الحياة، وهو يتخفى من وراء متاريس (الماكياج) الاجتماعي المُغنج. يتحدث الراوي عن (زَهْرِهِ/ حظه) الذي لم يستو في الحياة ابتسامة فيض طليقة بالحرية. يتكلم  الراوي، ويطنب في الإتيان بالمبررات وهو يواجه ملمح التأسي على (الزهر) حين يُمسي تعيسا. يقارن الراوي بين لي (اعْطَاتُوا الدنيا بلا حِسَابْ) ولا مساءلة، ومن منعته حتى من الفرح بفكره الذهني فيسكره خمرا معتقا حد الطُفْحِ. بعد هذا كان الراوي يمارس الضحك على ذقون الناس الطيعة الباكية من شدة غياب رؤية المصحح الاستراتيجي !! ابتسم الراوي والحضور لأن الجميع ألف سؤال: لما سماؤك غائمة؟ فما بقي من الجواب غير النظافة من داخل القلب، حينها يظل الإنسان بألف خير.

أقبل الراوي عند باب صانعة الأحلام ودخله حِطَّة مذلولا. كان يود الراوي رؤية العالم بأقل الخسائر وبلا مطالع من (حاجيتك ماجيتك). لحظتها قالت صانعة الأحلام : لن أغير مسار حياتك، ولكن يمكن أن أعطيك ذكريات جميلة، وأقلل من ذكريات واقع الألم والحقيقة. تَعجبَ الراوي وارتجع مسافة، وقال: لم أرتكب ذنوبا منذ الولادة الأولى لطلب الغفران، ولم أترافع قط عن الحياة باعتبارها رأسمال في بورصة الماديات. لكن صانعة الأحلام كانت أذكى رزانة، وباتت تنسج توليفة بين السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية المميزة عند الراوي. باتت توثق براهين علاقات الإنسان بالعالم. باتت صانعة الأحلام، ترى أن الذكريات المكتوبة قد تحجب عن وعي أو لاوعي واقع الحياة. باتت صانعة الأحلام، ترى في خطاب الراوي الشفهي (حاجيتك ماجيتك) يمثل البراءة اللامرئية عند الجميع.

***

محسن الأكرمين

 

استطاع العرب بعد قيام الدولة العباسية واستقرار الأوضاع أن يمتصوا ويتمثلوا ثقافات الأقاليم التي فُتحت في عهد الخلفاء الراشدين والدولة الأموية، أوتلك الأقاليم التي كانت تجاور الدولة العباسية، وتلك الأقاليم المفتوحة أو المجاورة كانت أهلة بأمم وأعراق وطوائف مختلفة متباينة وبالتالي ثقافات متعددة ...

وقد أثرت الفلسفة اليونانية في تطور الفكر الإسلامي وحتى الفقه إذ قام الكثير من العرب والمسلمين بترجمة تراث اليونان الفلسفي ودراسته ونقده والردّ عليه، وكما تأثر الأدب العربي بالآداب الفارسية القديمة، وفي الحقيقة كان التأثير متبادلاً في الاتجاهين إذ ضخ الأدب العربي دماء جديدة في الآداب الفارسية والتركية فيما بعد ..

أما الطب فقد اعتمد في تطوره على طب اللاتين، والسريان والفرس والهنود.. وكما كان للهند والصين ومصر القديمة تأثير واضح في التأسيس لعلوم الرياضيات والكيمياء والهندسة والري والملاحة والتقنية عن العرب...

خلال فترة الدولة العباسية في بغداد، أو الأموية في قرطبة، وحتى الفاطميين في القاهرة تطورت الثقافة  العربية الإسلامية وأُثريت مظاهرها وقيمها، إذ لم يكن العرب منغلقين أبداً، لا حكاماً، ولا علماء، ولا حتى مواطنين، فتعاملوا مع التراث العالمي المتنوع اللاتيني، الصيني والهندي والشرقي القديم بانفتاح فدرسوا جميع أنماط الحياة الفكرية والمعتقدات والأفكار المختلفة والعادات والتقاليد، وكانت دراستهم تعتمدُ على التجريب والنقد والمقارنة وتقديم البرهان على التخمين والشكّ!

لذلك تطورت الحضارة العربية الإسلامية وزهت وأينعتْ واليوم ولو سألت أي باحث في تاريخ الحضارة فإنه لا يكاد يوجد ميدان من ميادين العلوم والمعرفة والفنون لم يدرسوه أو يُؤلفوا فيه ويُضيفوا فيه، إضافات هامة وخطيرة ساهمت في تطور تلك العلوم والفنون ...

وتلك الإضافات كان لها دور فعال في نهضة أوروبا الحديثة.

***

عبد القادر رالة

رغم أهمية القراءة والاطلاع بالنسبة للكاتب المبدع وجودة ما ينتجه، فإن هناك كتابًا أجانب عُرفوا عالميًا، أعلنوا في أكثر من محفل ولقاء، أنهم لا يقرؤون الكتب، وقد ادعى بعضهم أنه اكتفى بما حصّله خلال دراسته بمراحلها المختلفة، فيما تذرع بعض آخر بحجج أخرى مختلفة نتطرق إليها فيما يلي.

* الكاتب الانجليزي كونان دويل ذائع الصيت ومبتكر شخصية المُحقّق الشرطي شرلوك هولمز، ردّد في أكثر من لقاء صحفي معه، أنه لا يقرأ الكتب، وأن انشغالاته بالكتابة لا تترك له الوقت لقراءة المزيد من الكتب، إلا في حالات قليلة وربما نادرة. معروف أن دويل هو مؤلف العشرات من المؤلفات البوليسية، وأن الكثير من رواياته وأقاصيصه تحوّلت إلى أفلام سينمائية شاهدها الناس في شتى بقاع العالم.

* الكاتب الفرنسي جورج سيمنون مبتكر شخصية المُحقّق مجرييه، ومؤلف المئات من الروايات بينها رواية "هذه المرأة لي"، التي أهلته للترشح للحصول على جائزة نوبل الادبية، كان يقول كلّما سئل عمّا يقرأه من الاعمال الادبية المعاصرة، قائلًا إنه لا يقرأ مؤلفات الآخرين، مُبرّرًا هذا بحُجتين إحداهما خشيته من أن يتأثر بسواه من الكُتّاب، والآخر أن المواضيع المتعارف عليها في عالم الكتابة والتأليف معروفة ولا يتجاوز عددُها الثلاثة والثلاثين موضوعًا. سيمنون هذا كان أسرع كاتب تأليفًا في العالم. وضع خلال حياته الادبية أكثر من ستمائة رواية، وتحوّل الكثير من رواياته أيضًا إلى أفلام مشهورة.

* الكاتب الروائي الامريكي إرسكين كالدول، مؤلّف القصص القصيرة والروائي الذي عرف العالم قصته مع الكتابة وكفاحه من أجل أن يكون كاتبًا، كما قرأنا في كتابه المشهور" سمّها خبرة"( ترجم إلى العربية مرتين، الجديدة بينهما صدرت مؤخرًا عن دار المدى السورية، والقديمة صدرت عن دار منشورات الهلال المصرية)، هذا الكاتب كان يُقسّم الناس إلى نوعين أحدهما يقرأ والآخر يكتب، وقد فضّل كما ورد في كتابه المذكور أن يكون من النوع الذي يكتب. لهذا انكب على الكتابة وانصرف عن القراءة.

السؤال الذي يُطرح إزاء مواقف هؤلاء الكتاب من القراءة وانصرافهم عنها، هل حقًا بإمكان الكاتب المعاصر الذي يقف أمام تراث ضخم في شتى المجالات، أن ينصرف عن القراءة وأن يتكرّس للكتابة فقط؟ في رأيي أن الاجابة هي بالنفي، فالقراءة هي البطارية التي تشحن قريحة الكاتب المبدع لا سيّما في عصرنا الحديث، كما أنها هي التي تتيح له الامكانية لأن يكون استمرارًا لثقافة ومثقفين آخرين. أضف إلى هذا أن تأليف أي من الكُتّاب كتابًا واحدًا قد يغني عن العشرات من الكتب، فالكتابة ليست كمًا بقدر ما هي كيف. أضف إلى هذا أن ما قاله دويل وسيمنون وكالدول لا يُعتبر قاعدة وإنما هو استثناء.. ويمكن اعتباره حالات خاصة.

مُجمل الرأي أنه لا يوجد كاتب في عالمنا جدير بصفته هذه ويمكنه الانصراف عن القراءة والاطلاع، والانقطاع للكتابة والتأليف، لسبب بسيط هو أن الكاتب ليس نسيج وحده في عالمنا وإنما هو استمرار لثقافة وتاريخ إبداعي طويل. كما يرى الشاعر الانجليزي تي. اس. اليوت.. في أكثر من كتابة نقدية وتقعيديه له.

ملاحظة: في أدبنا العربي لم اقرأ تصريحًا لكاتب معروف يذهب إلى مثل ما ذهب إليه هؤلاء الكُتّاب فيما يتعلق بعزوفهم عن القراءة، وانكبابهم على الكتابة مُكرّسين لها جُلّ أوقاتهم. ومما أذكره في هذا المجال أن طه حسين كان ينصح الكتاب الشباب بالقراءة والمزيد منها وقد تجسّدت نصيحته هذه بقوله لأنيس منصور: اقرأ ثم اقرأ ثم اقرأ. وكان طه حسين يقترح على الكُتّاب الجُدد أن يقرؤوا أربعة كتب من أدبنا العربي القديم قبل مباشرتهم الكتابة. هذه الكتب فيما أتذكر هي: البيان والتبيين، الكامل في اللغة والادب، الأمالي والعقد الفريد.

***

ناجي ظاهر

هو ذا تَغَلْغُلٌ ثمَّ تَسلسلُ في قهقهاتِ طرفةٍ لخالتي المُتورِّعة، وتراها في دارِها دوّارةً أو قاعدةً غير مضطجعةٍ، وما برحَت مُكَبِّرَةً مُسَبِّحَةٌ مُهَلِّلَةٌ ومُستَرجِعة.

تزورني هي كلَّ حينٍ، وإذ الوجهُ فيها هنيٌّ بهيٌّ ومزخرفٌ بوشمِ، وترى قَسَماتهِ مُتَوَرِّدةً وغيرَ مُتَوَجِعة

وجهُ خالتي وجهُ أرملةٍ بسيطةٍ سعيدةٍ وليس لديَّ وجهُ خالةٍ سواها.

هي صديقتي، وتملكُ طرفةً وحيدةً فريدةً، وليسَ لها مِن طرفةٍ عداها

تزورني هيَ لتنالَ رضايَ، وهي الكبيرةُ، وقليلاً ما أزورُها، ولا آبهُ لرِضاها، بيدَ أني وطاعةً لأمرِ الرَّحمنِ بِصِلةِ الرَّحِمِ، زُرتُها قبلَ حينٍ في فناها، لأشجوَ بشجاها في فضاها.

أجل، قد زُرتُ َخالتي ذاتَ أشراقةٍ في المُبتَسَمِ. ذاتَ أنشراحةٍ في الصدرِ تٌزيّنُها، والَوجهُ بِبَشاشةٍ مُرتَسَم، فوجهُها مُزَخرَفٌ ويداها، والقدمانِ بِفَيرُوز مِن وَشَمِ.. نَديَّةٌ هي وبعُقودٍ ثَمانيةٍ، وذاتُ نَكهةِ ريفٍ حَنونٍ أَصيلٍ أشمّ.

لا تَعرِفُ الكبائِرَ إلا حظَّاً من لَمَمِ.

نِصفُ قرنٍ هو مكثُها في بغدادَ، عرينِ العِزّةِ والعنفوانِ والقمم، وقرينِ المَعَزَّةِ ودكَّانِ الكَرمِ، ومَا فارقَتْها نَكهةُ الريف، بل هي صِبغتُها، وهي الأصلُ عِندَها، وهي المُعتَصَم. ولقد أقسَمَتْ ليَ أنَّ صِبغاً ما وَطِىء يوماً إظفرَها وما إحتثَّ وما دَهَم، وأنَّ اُذُنَها كانَت دوماً في صِراعٍ مع غثِّ النَغمِ. ولئن ٱسْتَدْلَلتَ عن دارِ صَديقتي الخَالة، سيقولون:

آوه! سَنَدُلُّكَ، أَوَ تَقصِدُ بَيتَ تِيكَ المَحجُوبة المُحتَشِمِ؟

رَصِيدُ خَالَتِي (طُرفةٌ) يتيمةُ، سَمِعتُها مِنها عَدَدَ الشهابِ والنجمِ، وعددَ ما على الأرضِ نَجَم! طرفةٌ عَتيقةٌ أقدمُ من فرعونَ ومن عنخَ آمونَ، ومِن كُلِّ تأريخٍ وقِدم. طُرفةٌ طوى ثُقلُها سجلَّ (غينيس) وما حوى من رَقَم! ومَا فَتِأت تَقذفُني بها كلَّما زُرتُها طَلباً للأجرِ، وَمزيدٍ من النِعَمِ. وقد قَصَفَتني بها في آخرِ زيارةِ غَفرَ اللّهُ لِكلينا، وأعاذَنا وإياكم من شِرذماتِ الهَرَمِ.

تَقصِفُني هي، فَتُقَهقِهُ هي وَحدها بِقهقةٍ مُتَسارعةٍ كَأنَّها تَقذِفُ بالحِمَم! فَلا ينفعُ معها ساعتئذٍ تَجاهِلٌ ولا لَجَم، ولا يشفعُ تَخاصُمٌ، ولا حتى قَسَم. ولا يدفعُ إن رَماها جَليسُها بسَهمٍ من شَتم.

ويكأنَّ ضِحكتَها بركانٌ، ولن يهدأَ إلّا بعدَ هَزيمةِ خافِقِها وإفرَاغِهِ من الزَّخَم

والحقَّ أقولُ؛ إنَّ خالتي لا إثمَ لها، بلِ الأثمُ أثمُ جَليسِها أنَّهُ تَجَرَأ، ولأَهوَالِ طُرفتِها قدِ إقتَحَم.

أنا أصَغرُ من صديقتي الخالة بِثلاثةِ عُقودٍ، ومُغرَمٌ أنا بطُرفتِها الفريدةِ المريدة، رغمَ ظُلمِها والسَّأم. وسِرُّ غَرامي كامِنٌ في لَذَّةِ سردها المُمِل لِطُرفتِها، سردٍ مُدَمدٍمٍ مُشَرذَم

بقَهقَهاتٍ مُذَبذَبة

ودُموعٍ مُصبصبة

وبأكتافٍ مُكَبكَبة، تَرقُصُ معها خدودها وخاصرتُها بطياتِ الشَّحَم!

وواعَحبي!

إنَّها لا تُبالي بِمَن أحاطَها، أضَحِكوا معها، أم اُصيبوا منها بِقَهرٍ أو بِسَقَم!

مُحَدِّقٌ أنا بِبَصري نحوها، ونَاظرٌ بوَجهٍ باسِرٍ آسِرٍ بسَأم:

أوَ يُعقَلُ هذا منكِ يا خَويلة! ثم..

أرَانيَ أنجَرِفُ مُقَهقِهاً مع شَلالِ قَهقَهاتِها، وتَائِهاً ما بينَ عَجَبٍ ونَدَمٍ. ولأختِمَ جولتي بمَلامةٍ على زيارتي لها، وبِتَوبِيخٍ وبوابلٍ من شَتَم.

صَديقتي خالتي نديّةٌ نقيةٌ تقيةٌ لأنّها بقيّةٌ لجذورِ زمانٍ من هُناك، من ..

زَمانِ البَسمَلةِ والحَوقَلةِ، والتَّوَكلِ والسَّكَن.

زَمانِ الطِّيبِ والنَّقاهةِ وأطيافِ الشَّجَن.

زمانِ العِزَّةِ لِلرُوحِ وجَبيِنِها والشَّاربِ واللَّحىً.

زمانِ العُنفوانِ رَغمَ كلِّ قَحطٍ وبلاء، وكلِّ وباءٍ وحَزَن.

زمانٍ وَجدُهُ مُغرَمٌ بلسانِ الضّاد، ويَرفُضُ كلَّ حَرفٍ بِلَحَن.

زمانٌ يَبغُضُ كلَّ قرفٍ رذيلٍ، وتقليدٍ للغرب حتى بِصُندوقِ الكَفَن.

زمان يَقشَّعِرُ بَدنُهُ مِن نفخاتِ غِلٍّ، ولفحاتِ ذُلٍّ، ومن صفحاتِ عريٍّ ولَّعَن.

زمانٍ ما عَرَفَ (حاسوباً)، ولو عَلِمَهُ لمَا تَغيّرَ، ولأزدادَ تَشَبُثاً بصَحراء الوَطَن!

أنا أعلمُ ألّا رَغبَةَ لأمرئٍ لِسماعِ طُرفَتِها. نعم، لكنّي سَأتلُوها ومالِ لأحدٍ من محيص، إنتِقاماً من خالتي بِفَضحِها علناً بين النّاسِ وفي الصُّحفِ وبمقالٍ رخيص. فصابروا جميلاً على طنينها العويص، ولنستمِع إليها بعد تشذيبٍ منّي وتهذيبٍ وتلخيص، قد أبقى على جثمان الطرفة هوَ هو فلا تقليص فيه، ولا منه تنقيص؛

قالت لي خالتي مُقهقهةً بتمليص ..

[أنصِتْ يا خُوَيل.. طَلبَ الجابيُّ الأجرةَ مِن عَجوزٍ تَجلِسُ في طَستٍ لها دَاخلَ الحافلةِ؟ فرَمَقَتْهُ العَجوز بنَظرةِ من عَجبٍ، ورَدَّتْ من فورها بردٍّ قد وَجَب:

"ليُسامِحُكَ اللهُ بُنَيّ، أفي طَستي أنا قاعِدةُ، أم أنا في حَافِلَتِك صاعدَة!"

لا تُقَهقَهوا رجاءً، لكيلا تصطفّوا فتدعموها فيضيع ثأري من صَديقتي الخالة.

***

علي الجنابي

.....................

- الجابي: هو محصل الأجور داخل حافلات النقل العام.

 

يكشف حسين شوقي، نجل أحمد شوقي أمير الشعراء العرب المصريين في القرن العشرين. في كتابه "أبي شوقي"، أسرارًا وخفايا وحكايات صغيرة لم يكن بإمكان القارئ العربي الاطلاع عليها لو لم يصدر هذا الكتاب.

صدر كتاب "أبي شوقي" عن مكتبة النهضة المصرية في القاهرة عام 1947 وأعاد الناشر العربي الاول في بلادنا الصديق الراحل فؤاد دانيال طباعته بعد صدوره الاول بعشرات السنين، ليطّلع عليه القراء العرب في بلادنا. وقد قرأت هذا الكتاب حين صدوره في السبعينيات وعدت إليه هذه الايام لأعيد قراءته ضمن هزة حنين إلى الماضي.

يفتتح المؤلف كتابه عن والده الشاعر المعروف باستعادة ذكريات طفولته، في البيت الذي انتقلت اليه العائلة من بيتها القديم في خط الحنفي القاهري. والمقصود ذلك البيت الذي أطلق عليه شوقي اسم "كرمة بن هاني"، وذلك نسبة إلى الشاعر العباسي الحسن بن هاني الذي أحبه شوقي وأعجب بما تركه من إرث شعري يستحق كل اهتمام وتقدير، وكان شوقي يرى أن هذا الشاعر لم ينل حظه من الدراسة المتعمقة للأسف الشديد، كما أن الاساطير جعلت منه شاعرًا ماجنًا. أما لماذا انتقل شوقي وأسرته للإقامة في هذا البيت فإن المؤلف يقول إنه فعل ذلك ليكون قريبًا من الخديوي توفيق الذي أحبه حُبًا جمًا وسعى دائمًا للجلوس إليه.

يتوقّف المؤلف مطولًا عند نفي الانجليز لوالده إلى إسبانيا بعد الحرب العالمية الاولى. ويتحدّث بتفصيل جميل، عمّا مرّت به عائلته هناك من معانيات وانفراجات، ويستطرد في الحديث عن المدن العربية الاندلسية بعد الحُكم العربي هناك، وما آلت إليه، مثل قرطبة والحمراء من ضمور بعد ازدهار وظهور، وفيما يتعلّق بعلاقة والده بفرنسا وعاصمتها باريس تحديدًا يتحدّث عن دراسته هو وأخوه الاكبر "علي" الحقوق هناك وعن زيارات والده لهما علمًا أنه سبق له وأقام في باريس وأتقن اللغة الفرنسية. كما يتحدّث عن علاقة والده بعدد من الشعراء الفرنسيين البارزين أمثال بول فرلن.. ذلك البوهيمي العبقري.

يضم الكتاب العديد من الوقفات بين الوالد الشاعر الرؤوف الحنون الحادب على أولاده، على، حسين وأمينة، كما يتوقّف عند والدته التي كان والده الشاعر يشبّهها بقطة من أنقرة وذلك لسببين هو أنها كانت رقيقة.. شديدة المسالمة مع زوجها الشاعر وأدت دور المرأة التي وقفت وراء الشاعر العظيم. السبب الثاني هو الاشارة إلى أصلها التركي.

الكتاب يحفل باللطائف عن علاقة شوقي بمعاصريه من شعراء عرب وأجانب بينهم من العرب حافظ ابراهيم وخليل مطران، وهو مقدم الكتاب مدار حديثنا بالمناسبة، ومما يذكره المؤلف أن والده انفعل بشدة عندما تلا حافظ إبراهيم قصيدته التي بايعه فيها أميرًا للشعراء قائلًا:

أمير القوافي قد أتيت مبايعًا

وهذي وفود الشرق قد بايعت معي

وكان ذلك خلال الاحتفال الرسمي الكبير بصدور الطبعة الثانية من الشوقيات.

أما فيما يتعلّق بعلاقات شوقي بالشعراء الاجانب، فإن المؤلف يتوقّف عند العديد منها، ولعلّ أهمها علاقته بشاعر الهند رابندرانات طاغور الذي زار شوقي في بيته وأجرى معه حديثًا طليًا حفل بالمحبة والاعجاب المتبادل بين الشاعرين العظيمين.

يروي المؤلف في كتابه هذا، العديد من المواقف التي حدت بوالده الشاعر لكتابة هذه القصيدة أو تلك. ويقول حينًا بالمباشرة وآخر بالتلميح إن والده كان حاضرَ البديهةِ غزيرَ الانتاج الشعري. يمتلك مقدرة كبيرة على القول الشعري. وينقل عن صديق مقرّب من والده أنه نظم قصيدته المشهورة عن "النيل" في ليلة واحدة. علمًا أن هذه القصيدة تزيد عن المئة بيت. ومطلعها

من أي عهد في القرى تتدفق

وبأي كف في المدائن تغدق

يشير المؤلف في معظم صفحات كتابه إلى مزايا والده ومناقبه، ويتوقّف عند عيب واحد اتصف به وهو أنانيته الشديدة، كما يقول، ويفسّر هذه الانانية بقوله. إنه كان لزامًا على أبناء العائلة انتظار شهية والده ليتناولوا غداءهم.. علمًا أن شهيته هذه كثيرًا ما كانت تتأخر جراء سهره ساعات متأخرة من الليل في صحبة كتبه وأشعاره. ويتساءل المؤلف عن سبب أنانية والده الشاعر هذه. قائلًا. ترى هل هي من لوازم الشعراء؟ ويوضح أن الشاعر شيلر عندما تحدّث عن طبيعة صديقه الشاعر جيتيه، الالماني المهم جدًا، قال عنه إنه أناني إلى أقصى درجات الانانية!

يختتم المؤلف كتابه بالتحدّث عن السنتين الاخيرتين 1931/32 من حياة والده.. يقول إنهما شهدتا توهجًا ملموسًا في كتابات والده لا سيّما في مجال الكتابة المسرحية الشعرية. تأليفًا وتعديلًا. وكأنما هو كان يشعر بدنوّ الاجل.

ويتحدث عن يوم وفاته 13 تشرين الاول من عام 1932 فيقول إنه تحدّث خلال تريضه في السيارة مع سكرتيره في موضوعات دينية مثل التوبة والغفران. وفي مساء اليوم عينه زار صديقه محمد توفيق بيك في مكتبه بجريدة "الجهاد".. وفي حوالي الثانية صباحا أسلم روحه لباريها. ليمضي في طريقه الابدية عن عمر ناهز الاثنين والستين عامًا. وقد كتب ذووه على قبره. عملًا برغبةأابداها ذات يوم. البيتين التاليين من قصيدته "نهج البردى" في مدح الرسول. هما:

يا أحمد الخير لي جاه بتسميتي

وكيف لا يتسامى بالرسول سمي

إن جلّ ذنبي عن الغفران لي أمل

في الله يجعلني في خير معتصم

***

بقلم: ناجي ظاهر

فضاء غير متناهي بدعائم أرستها خلال تجربتها بسلسلة قصائدها الإيمائية وسلسلة دراساتها النقدية التي تنجزها في سياقها المعرفي ومداخلاتها التي تتمحور ضمن أكثر من مستوى وبأدوات تحقق معاييرها المحددة التي تسعى بها إلى الإخضاع الفذ لقوانينها المفتوحة على السموات.

تسير نحو هضاب الوجود الإنساني تبحث عن استراتيجية لانتقاء وتأثيث نصوصها في فضاءات تكشف فيها عن رغبتها في التعبير والتغيير، وفي إرساء تفردها من خلال الغوص في عمق الأشياء وظواهر ومظاهر تبعث على التحفيز والتأمل، تبوح بما تريد عرضه وحفظه من النسيان، تلخص الكثير من الذي يسكن فيها بعيداً عن التبسيط والتعقيد وتحدد مكان إقامته بالتفصيل، في صياغات وسياقات تقترب من الخيال، خيال يمنح نصوصها غنى وثراء .

في قصائدها تختزل المفردات الجمالية حين تطرحها بتداعيات العارفة بسر الحكاية وسر السرد وعلاقاته مع الظواهر الفنية و/ أو الأدبية المختلفة، كعارفة بهموم المعبد وعشق الكهان، وبخطوات كلها ثقة، ودون أن تتعثر برهاناتها، تعيد إنتاج الحياة ونبضها بنصوص جديرة بالانتماء إلى خيالها ومخيلتها التي تأبى مغادرتها، تصر على الهطول بقدوم الريح ودونه وبتأمل طويل تعيد بناء تلك المكونات الملبدة بغيومها التي تشكل الحواس وهي تبصر وتعبر المدى.

تعيد وتعبد طريق المؤثرات الممتعة بقصائدها التي تعيد التوازن للروح بل لروحانية الأشياء كلها حين تتلامس بين بعضها البعض حين تلتقي بأعالي سفر تفاصيل ضلالاتها الطقسية المقدسة التي تزج بها في قصائدها والتي تضم الكثير من المناخات التي تسكن في خيالها ومخيلتها التي تحمل سحر الحياة حين تتداخل فيها التداعيات حين تسرد الوجع والحكايات.

تتحاشى القلق والخوف حين تنفض عن نفسها غبار الأيام، حيث لا مهرب لها إلا قصائدها، تسافر اليها بأحلامها وآمالها وآلامها، تجسد فيها كل لحظاتها بمنهج ونهج إنساني محض بحيث نحس بإيقاعات شاعرة دافئة تجري في نصوصها التي تفرش الحياة التي تلوثت بمعطيات الألم وأنيابه المميتة، بإمكانيات ناضجة ومخيلة متقدة وذكاء حاد تبرز أهمية البهجة الإنسانية في نصوصها الممتلئة بها، بتفاعلاتها ومشاعرها، بتداخلاتها وحسراتها التي تحوي الحريق بصخبه والسكون بذهوله وانذهاله، لخلق غنائية خاصة بها تشعر بها بالاعتزاز والنجاح، وتشعر بمدى دور طاقتها الإبداعية في الانحياز التام لجماليات تعبيرية نابضة بالمفاجأة والدهشة.

لطقسها الشعري السري عزف خاص، تؤكد فيه على قدرتها على ترويض الحرف والمفردة الكائنة في ذاتها الملتهبة بالحلم، الذي تتحول بين أصابعها إلى فيضان شعري يتميز بالصعود والنزول ضمن آلية ترجعها فيه إلى معبدها الذي تمارس فيه طقوس شعرها السرية، تجمع فيه تراكماتها المعرفية لتشكل تحريضاً عذباً لخلق إبداع يليق بخصوبتها وبإمكانياتها المثيرة للنبض، التي تشكل تجسيدا لجمالياتها الشعرية المتدفقة من ينابيعها بنفحات تمنحها نوعاً من التحرر من الشائع والهابط من الشعر بنصوصها غير المدجنة، وغير القابلة للاحتواء لما تحمله من التميز، ولما تطارد فيه من الفتنة حتى تبرز قيمها الجمالية، تجنح نجاة الزباير بخطابها الشعري نحو إنجاز ما يخدم قيمها، قيم جماعة، أو قيم خاصة تحثها على إيقاظ النبيل منهما، المؤمن بالإنسان والحياة .

***

رائف الريماوي - عمان

قرأتُ مؤخراً كتاباً مُمتعاً في بابه للكاتب المصري سلامة موسى، وهو من رواد المدرسة العقلية الاشتراكية في أدبنا المعاصر، وفي البداية ألقيتُ نظرة خاطفة على الكتاب فتعجبتُ كيف ولماذا استثنى الفيلسوف الفارابي ومدينته الفاضلة من كتابه، فالمسلمون والفكر الإسلامي مثلهم مثل باقي شعوب العالم يحلمون ويسعون الى تحقيق المدينة الفاضلة التي ينتشر فيها العدل والإخاء الإنساني، بل إن تعاليم الإسلام لو طُبقت فهي الوحيدة الكفيلة بأن تحقق تلك المدينة وأحلام الفلاسفة في أكمل صورها، لكن لحكمة إلهية، جعل الله الاختلاف والتنازع بين الأمم حتى داخل دائرة الحضارة الواحدة!

والكتاب عنوانه أحلام الفلاسفة، وهو يمزج بين الفلسفة وأدب الخيال العلمي والتنظير السياسي والترويج للاشتراكية حسب مفاهيم عصر الكاتب !

ألم يكن أبو نصر الفارابي فيلسوفا كبيراً وبارعاً، وعاش في عصر الاضطرابات والصراعات السياسية بين الدويلات في المشرق، وهو كفيلسوف كانت له أحلام تمنى أن تتحقق في مدينته الفاضلة ...

***

بقلم: عبدالقادر رالة

النظم الدكتاتورية داء خطير اصاب اغلب الامم، وتحت هذا النظم كان يولد نشاط ابداعي روائي، وهدفه الكلام بلسان الناس عن الهم والحلم، لكن النظم الدكتاتورية اكثر ما تخافه هو الكلام، لذلك كانت دموية ضد الادباء والكتاب، مع هذا فقد ولد كم كبير من النتاج الابداعي الروائي، والذي ظهر وهو يهتم بعالم الدكتاتورية، هذه الظاهرة التي لازمت الحياة الانسانية عل مر العصور.

ويمكن القول ان اول من كتب عن نظم الحكم الدكتاتوري هو الكاتب الارجنتيني (دومنغو. ف سارمنتو) خلال فترة حكم (خوان منوال دوروزاس)، فكان كتابه فكاندو والذي طبع عام 1845 ويشير اهل التخصص له من انه: "كتاب يجمع ما بين المقالة التحليلية والرواية والسرد"، ومن خلال كتابه يطرح الكاتب مشكلة جيله انذاك، وهو التعارض الكبير بين نظام الحكم الدكتاتوري، والذي يظهر على شكل (الزعيم السياسي، الطاغية، المستبد، الغاضب)، الذي يقمع الحريات ويحارب الصوت الاخر، ويصفها بالبربرية في ابشع اشكالها، وبين افكار الحضارة القادمة من الغرب.

فمن خلال السرد الروائي تتم ادانه الدكتاتور دوروزاس ومنهجه القمعي الظالم، المنهج الذي تسبب في تشويه الحياة، كما هو حالنا في زمن صدام.

مرحلة النضوج الروائي

الكتابة لا تموت، لكنها تتكيف مع القيود والوضع السائد، لتعبر عن صوت الناس بالقدر الممكن، لقد نضجت الكتابة عن الدكتاتوريات لتقدم شهادات مباشرة بصوت الناس، ووثائق لم تقدم، او اعترافات باسماء مستعارة عن جرائم ارتكبها الدكتاتور، فعمل الكتاب الروائيون على التوصيف الدقيق لفئة الدكتاتور، حيث برز في الصنعة الروائية بصفة التافه منعدم القيم الانسانية، فيتم رسم صورة الدكتاتور البشع بكل ما يحمل من اجرائم بشاربه العفن، ونياشين الخزي التي يحملها على صدره، ويصور الروائي القسوة الدموية التي يمارسها الدكتاتور، والهوس الاجرامي.

وكيف ينشر الخوف في الشوارع بل في البيوت وداخل الغرف، وكيف يطور طرق التعذيب، وكيف شكل الحياة مع الخوف والقلق من كل شيء، هذه الصور حاضرة في الرسم الروائي للدكتاتور او الحاكم المستبد المتعطش للدماء، وتحيطه حاشية من المقربين والرعاع، كل هذا المناخ يجسده الروائي عبر رسالة فاضحة للظلم وتكون رسالة خالدة للاجيال.

الرواية في عهد دموية البعث

من الصدفة السيئة ان تكون البداية الحقيقية لعالم الرواية مع صعود عفاليق البعث للحكم، فاغلب المختصين يجعلوا تاريخ الولادة الحقيقي للرواية العراقية في منتصف الستينات على يد غالب طعمة فرمان، فهل هناك سوء حظ اكبر من ان تولد الرواية مع صعود رجالات حزب البعث لمواقع السلطة، لتتحول البلاد لسجن كبير، وكان مصدر الخوف الاكبر للبعثيون هو الكلام الحر.

فقرروا تشريع قانون رقم 206! وهو القانون الذي كان من المستحيل على المرء أنْ يكتب أيّ شيء يتعارض مع الآيديولوجية الحاكمة أو من يمثلها، وحرّموا ايضا أي نقد ضد الرئيس، واعضاء ما يسمى مجلس قيادة الثورة، أو أي هيأة رسمية تابعة لهما، وحرّموا أيضا أي نقد  للثورة وآيديولوجياتها والنظام الجمهوري ومؤسساته كافة، أن ذلك القانون أطلق العنان للشرطة لكبح أي شيء من هذا القبيل.

روايات المنفى والدكتاتورية

بسبب ظروف حروب الثمانينات والتسعينات والحصار الدولي، فكان الهرب من العراق حلا سحريا للكثيرون، ومن الطبيعي أن تتخذ رواية المنفى إتجاها متباينا، ذلك أن سارديها في المجتمعات الحرة، بعيد عن الاجهزة القميعة للدولة، بل حتى ضغط المجتمع وقيوده، فتحرروا من الدولة القميعة والمجتمع، ووجدوا الظروف المناسبة لإحباط التابوات داخل العراق. والشقة بين الإثنين، ما زالت تتسع حتى وقتنا هذا.

ان اهم الأعمال السردية في هذه الحقبة تتمثل بالاتي:

اولا: رواية القلعة الخامسة لفاضل العزاوي 1972.

ثانيا: رواية الوشم لعبد الرحمن مجيد الربيعي 1972.

ثالثا: رواية المخاض لغائب طعمة فرمان 1974.

رابعا: رواية الضحية لغائب طعمة فرمان 1975.

خامسا: رواية الرجع البعيد لفؤاد التكرلي 1980.

نتاج روائي في ظل الدكتاتورية

في ظل نظام الحكم الدكتاتوري، وطبيعة "صدام" الدموية والتي لا تسمع للاخر، واسهل شيء عندها الاعدام، فتصور شكل ما تم طبعه من روايات، كان يجب ان تتلائم مع الوضع العام والا لن ترى النور، فقد تميزت بنصوص التجأت إلى الرمز والاسطورة، وتاريخ العراق القديم، هربا من الافصاح، للخلاص من اي ملاحقة امنية.

في بنية روائية اضافت اشكالا فنية جديدة الى السرد العربي، لكنها تحاشت الخوض في محنة العراقي في زمنها، فالقمع المباشر والسريع سيكون حاضر لكل من يتجاوز الخطوط الحمر، فكانت نصوص بررت ثقافة الحرب في بنية روائية مجدت قيم القتل والعنف، لكنها تحاشت جوهر المعاناة، فالتبس السرد ووقعت الشخصيات في لجة الغموض؛ نصوص تحاشت بشكل عام الاقتراب من المحرمات الثلاثة.. وهي: السياسة، والجنس، والدين.

***

الكاتب: اسعد عبدالله عبدعلي

ذكرت مصادر قرأتها في سنوات بعيدة ماضية، أنه كان للكاتب الامريكي ذائع الصيت إرنسيت همنجواي، شقيق يحاول الكتابة دون أن يُحرز فيها أي قصب، وأن هذا الشقيق كثيرًا ما كان يقارن ما يكتبه وينتجه من إبداعات هزيلة الشأن، بما كتبه وأصدره شقيقه الكاتب المبدع الذي أُطلق عليه لقب كاتب القرن. المقصود العشرين. ما كان يفعله شقيق همنجواي كان ينشر الابتسامات الساخرة على الوجوه، فـ" شو جاب لجاب"؟ وأين همنجواي الكاتب الذي أصبح ظاهرة تحتذى في الادب الامريكي، وبين كاتب لم يتمكّن من إثبات نفسه في أي عمل يُشار إليه ويمكن إدخاله إلى كتاب النثر الادبي عن جدارة واستحقاق، سوى أن الرابط بين الاثنين لا يعدو رابط الاخوة البيولوجية؟

أكتب هذه الكلمات عن شقيق همنجواي وأنا أفكر في أولئك المدّعين، كبارًا وصغارًا في عالم الادب والابداع، أولئك الذين يتزايدون تزايد الفطر في أيام الشتاء الراعدة، مزهوين بشاشات حواسيبهم وفيسبوكاتهم، ففي عُرف هؤلاء، على ما يبدو، كل مَن يكتب كاتب و" دع الزمن يحكم"، هؤلاء ينسون أن للزمن حكمين واحد مُعجّل وآخر مؤجّل، وأن هناك علاقة تربط بين الاثنين، فمن لم يعرف اليوم بإبداعه ولو ضمن دائرة ضيّقة جدًا ومحدودة، لن يعرف في الغد. كما يقول المنطق السليم.

المبدع الحقيقي هو مَن يوجد اسطورته الخاصة به، وهو مَن يبني عالمه الجميل، إنه لا ينتظر أحدًا لا شقيقًا ولا ابن عم ولا صديقًا مبدعًا، ليكون بفضله وإنما هو يكون بفضل عطائه وعدم استكانته. وعودة إلى همنجواي، هذا الكاتب تمكّن من تحويل حياته إلى أسطورة، فخاض المغامرات في أدغال إفريقيا الخضراء، وعارك أسماك القرش في عرض المحيط، طارد الاسود الهاربة وشارك في الحروب مُدافعًا عمّا آمن به من حرية وقيم عليا. إقرؤوا رواياته: "الشمس ستشرق أيضًا"، "وداعًا للسلاح" و"الشيخ والبحر". إقرؤوا كتاب مذكراته "عيد متنقل"، بل اقرؤوا ما كُتب عنه، خاصة كتاب " بابا همنجواي"، للصحفي الامريكي المبدع أ.أ. هوتشنر، الذي رافقه مدة سنوات وسنوات، لتروا إلى أي حياة عاش، والاهم أي إبداع أنتج و أبدع.

هذا هو الكاتب الحقيقي، إنه لا يستسلم ولا يستكين لهدوء البال وإنما يبحث عن المغامرة، ولو داخليًا، كما فعل الكاتبان العربيان المصريان الهامّان نجيب محفوظ ويوسف إدريس، وهناك في أدبنا العربي أديب مبدع من سوريا امتلك تجربة خاصة هو حنا مينة صاحب الروايات الشهير: "الياطر"، "نهاية رجل شجاع" و"بقايا صور"، بصرف النظر عن أن البعض أطلق عليه لقب همنجواي العرب، هذا الكاتب صنع أسطورته الخاصة بيديه، كان ذلك يوم غادر بلاده في أواسط الخمسينيات، ليعيش متشرّدًا كما قال، عشرة أعوام في هنغاريا والصين، وقد عاد إلى بلاده سوريا بعد نكسة عام 67، ليكون معها إلى جانبها في جُرحها العميق.

الكاتب الفنان المبدع الحقيقي، باختصار، هو مَن يصنع أسطورته الخاصة به، ولا ينتظر أحدًا آخر ليصنعها له، لنتذكر دائمًا شقيق همنجواي... فهو مثال لكلّ العابثين.

***

ناجي ظاهر

نصحني احد الاصدقاء بمشاهدة فيلم The devil wears Prada  وترجمته (الشيطان يرتدي برادا)، لما يحمل من قيمة فنية وكم الرسائل الكبيرة التي يطلقها للمشاهدين، شاهدته والحقيقة بهرني الفيلم، حيث قام برسم صورة حقيقية لعالم الازياء والموديلات والشهرة، فاضحا الوهم الكبير الذي يغرق به الكثيرون بعنوان الشهرة، والفيلم امريكي انتج عام 2006 وهو مقتبس من رواية تحمل نفس الاسم، والفيلم من بطولة ميريل ستريب وآن هاثاواي وإميلي بلنت وستانلي توكسي، وحقق الفيلم ايرادات كبيرة جدا، ورُشح الفيلم لأكثر من 35 جائزة سينمائية، منها جائزتان أوسكار،ونال ثمانية جوائز، منها جائزة الغولدن غلوب لميريل ستريب، وجائزة أفضل ممثلة من جوائز اتحاد نقاد الأفلام في شيكاغو.

يعد من الأفلام العبقرية التي نجحت في تجسيد الحياة المعقدة والفارغة لجزء كبير من المشاهير، عن طريق عرض الصراع بين الحياة العادية وحياة الأضواء.

- مختصر قصة الفيلم

تعد ميرندا بريستلى (ميريل ستريب) أقوى امرأة في مجال الأزياء والموضة، وهي شخصية قاسية وحادة، واختبار صعب لكل من يرغب في طرق ذلك المجال، فهي لا تبالي بأحد ولا يشفع طول الخدمة لمساعديها في طردهم من العمل لدى ارتكابهم لأقل خطأ، وعلى الرغم من أن وظيفة مساعدة لميرندا هي وظيفة لا يرغب فيها من يملك قدرا من الاحترام لذاته، إلا أن الملايين من الفتيات في مدينة نيويورك يقاتلن للفوز بها، ومن هؤلاء الفتيات اندي شاتسز (آن هاثاواي) الفتاة الساذجة التي لا علاقة لمظهرها بالموضة، وتحلم بأن تصبح مساعدة لميرندا، وتدرك أن الأمر يتطلب أكثر من العزيمة والإصرار، ويتطلب معرفة الفروق البسيطة بين منتجات بيوت الأزياء وارتداء أرقى خطوط الموضة من الرأس لأخمص القدمين، وعلى الرغم من أن اندي غير مناسبة للوظيفة إلا أنها تملك ما لا يملكه الآخرون وهو رفضها للفشل، وكي تصبح اندي مناسبة للوظيفة تقرر تغيير مظهرها تماما والتشبه بميرندا في كل شيء، مما يصيب صديقها بالإحباط حين يرى مدى التغيير الذي حدث في مظهرها وطريقة تفكيرها، ولكن كلما اقتربت ماندي أكثر من عالم ميرندا البراق، كلما أدركت كم هو عالم موحش ومزيف، ويكلف ثمنا باهظا.

- افكار ورسائل

كلنا يحصل لنا ان نشعر بالملل من حياتنا، فالروتين قاتل للروح، والرتابة موت بطيء، فالخروج من مسار معتاد مطلب حقيقي، نحاول أن نتعرف على صديق جديد، نجري محادثة مع غريب، نسافر لمكان مميز، ننتقل إلى وظيفة أخرى، نمل من علاقتنا القديمة.. ونيأس من إيجاد أي بدائل، فما العمل؟ هل ينبغي أن نحاول الوصول مهما كلفنا الأمر؟ حتى وإن تنازلنا عن أسرتنا وأصدقائنا مثلًا كما كادت تفعل آندي؟

اولا: ماذا لو وجدنا الأمر يناقض ما نؤمن به، فآندي لم تكن تريد الاعتلاء على حساب زميلتها في العمل إلا أنها وجدت نفسها تفعل. لم ترد تغيير أسلوب ملبسها، لكنها فعلت. لم ترد العمل في مجلة أزياء أصلًا، لكنها فعلت.

ثانيا: متى يجدر بنا التوقف؟.. الجواب: ( قليل من الناس يعرفون متى يجدر بهم التوقف).وفي الحقيقة، هذه الجملة معبرة وصادقة للغاية. ففي الكثير من مواقفي الشخصية كنت أعرف أنه يجب عليَّ التوقف، أن أعتذر وأرحل.. أو أرحل حتى دون اعتذار.. أن أرفض.. أقول لا، أو يجب أن أنصرف الآن! لا أقصد قول هذه الأمور بشكل عام لشخص آخر، ربما نحتاج قولها أيضًا لأنفسنا حين نريد شيئًا لا يناسبنا بشدة.

ثالثا: صعوبة القرار: ولكن الخط بين الاستمرار مع تدفق الأمر وبين الاستجابة لرفضنا رفيع جدًا وهشٌ وبحاجة إلى بُعد نظر. ربما توفر لآندي في فيلم the devil wears prada التوقف والرفض، بعدما رأت حياة ميراندا الهشة والفارغة، تلك الحياة الأسرية الفاشلة، والاجتماعية المزيفة، فكان أمامها نموذجًا واضحًا وحيَّا على وحشية نتائج الاختيارات الخاطئة، فهل يمكن أن يتوفر لنا جميعًا هذا النموذج؟ هل يمكن أن نكتسب بعد النظر قبل فوات الأوان ؟

- رؤية خاصة للإنسان العادي ضد الشيطان

إن محاولتنا المستمرة في زعزعة استقرار (الانسان العادي)، ستجعل من حياتنا المختلفة التي نسعى إليها حياة بهلوانية مضطربة، وفي كل يوم ستحلم أن ترتدي برادا أو جوتشي، ولكن ماذا بعد؟ هل يمكن ان نتخلى عن الاشياء الجميلة في الحياتنا مثل الاطفال/الزوجة/الاباء/الاقارب/ الهوايات/...الخ، هل يمكن أن تضحي بكل هذا من أجل بعض لقطات الكاميرا بينما يلاحقك المراسلون؟ هل يمكن أن تتنازل عن كل قيمك، من أجل أن يكتب عنك الآخرون، كم يبدو الامر سخيفا! لكن عند الاختبار يكون صعبا جدا وشاقا، حيث تخير نفسك بين جنة يتمناها الملايين، وبين رجوعك لنفسك كما كنت.

يبدو في الفيلم ان البطلة اندي بعد ان تعرفت على الشيطان متمثلا بالسيدة المديرة ذات الشعر الابيض، والتي فتحت لها ابواب الحياة المرفهة والشهرة، مقابل ان تبقى وتساند مشروعها الي الابد،  لكنها رفضت حيث اكتشفت خواء حياة المشاهير.

وقد اظهر الفيلم ان الشيطان (ذات الشعر الابيض) يعيش حياة تعيسه، مع كل الكنوز والمكاسب التي يجنيها يوميا، لكنها حزين كئيب تعيس، فالبعيد عنه لا يدرك حقيقة حالته النفسية وهو وسط جنة الرفاهية، فمع انه يجد كل ما يريد، وكل طلباته تتنفذ، لكنه حزين دائما.

***

الكاتب: اسعد عبدالله عبدعلي

لماذا يقرأ الكاتب الكتاب تلو الكتاب ومع هذا يواصل دون ملل أو كلل؟.. سؤال طالما طرحه كتّاب ومثقفون على أنفسهم، لا سيما اذا كانوا مهووسين بالكتاب وعوالمه الرحيبة أمثالنا. وما هو الدور التي تؤديه وتقوم به القراءة في العملية الإبداعية.. اختلفت الآراء في الإجابة عن هذا السؤال الاشكالي، فمن الكتّاب وهؤلاء قلة، مَن ذهب إلى أن الكاتب يُفترض ألا يقرأ الكتب بادعاء أن المواضيع المفترض معالجتها في الكتابة الإبداعية لا تتجاوز الثلاثة والثلاثين موضوعًا أساسيًا، كما رأى الكاتب الفرنسي ذائع الصيت جورج سيمنون مبتكر شخصية المفتش ميجرييه، ومنهم أيضًا،  الكاتب الإنجليزي كونان دويل مبتكر شخصية المحقّق المشهور في شتى بقاع العالم وأقصد به شرلوك هولمز، فقد صرّح/ دويل أكثر من مرة أنه لا يقرأ كتابات الآخرين خشية التأثر بها!!، اما الكاتب الأمريكي البارز ارسكين كالدول صاحب "قطعة ارض الله الصغيرة"، فقد قسّم المبدعين الادبيين إلى قرّاء وكتّاب وقال في سيرته الذاتية "سمها خبرة"، إنه اختار أن يكون كاتبًا وليس قارئًا..، في المقابل لهؤلاء ذهب معظم الكتاب المبدعين في العالمين العربي والاجنبي إلى أهمية القراءة في شحن بطارية الكاتب للدخول إلى مملكة الابداع الادبي بخطى ثابتة، حتى أن عددًا من الدارسين الباحثين ذهبوا إلى أنه يوجد داخل كل قارئ جاد مشروع لكاتب مبدع. أكثر من هذا ذهب كُتّاب منهم المرحومان عباس محمود العقاد وفاروق مواسي إلى أن الكاتب القارئ تحديدًا، إنما يقرأ ليمد حياته بشحنات أخرى من الحياة والحيوية، وقد ردّد العديد من الكتاب ضمن الإجابة عن سؤال حول القراءة والاقبال الشديد عليها، إلى القول إن كل كِتاب جديد هو حياة جديدة تضاف إلى حياتي.. وأكد هؤلاء أنهم إنما يقرؤون الكتب لأنهم يحبون الحياة ويريدون عيشها بعدد الكتب الجيّدة التي يقرؤونها، قالوا هذا مؤكدين أنهم يقرؤون الكتب لأن حياة واحدة لا تكفيهم!

مَن يُطالع سير الكتّاب والادباء المبدعين سيلاحظ دون بذل الكثير من الجهد، أنهم إنما جاءوا إلى عالم الابداع الادبي بعد أن قرأوا هذا الكتاب أو ذاك، أو بعد أن قضوا أوقاتًا طيبةً في مكتبات خلفها آباؤهم، أجدادهم أو أقارب لهم وراءهم، لتتحوّل بالتالي إلى منارة تفتح أمامهم أبوابًا مُغلّقة طالما أحبوا فتحها والدخول إلى مرابعها الفينانة الغنّاء.

بالعودة إلى سؤال القراءة وأهميتها بالنسبة للكاتب المبدع، أرى أن الكاتب، المعاصر خاصة، إنما يقرأ بنهم للعديد من الأسباب، فهو يقرأ للتثقف، والاضافة الإبداعية المتوقعة منه، كما يقرأ للاطلاع على تجارب ثقافية أدبية إنسانية، من المفترض أن تُشكّل سلسلةً متواصلة الحلقات وهو ذاته يود من جُماع قلبه، يريد ويسعى بكل ما لديه من جُهد وقوة لأن يكون واحدة من تلك الحلقات الرائعة في السلسلة الأدبية الإبداعية، سلسلة الذهب والالماس التي تعتبر جزءًا من الابداعات العالمية المميزة.

في تفصيل الأسباب الآنفة اليها لإقبال الكتاب المبدعين على القراءة ومصاحبة الكتاب، ذلك الرفيق الذي لا نملّ منه ولا يملّ منّا، نقول:

* إن الكاتب المبدع إنّما يسعى من إدامته القراءة من أجل شحن مخزونه الثقافي، وقد قدّم العديد من الكتاب والشعراء نماذجَ حيةً على هذا، وأكتفي هنا بالإشارة إلى الشاعر الامريكي توماس ستيرنز  إليوت، فقد أعلى هذا الشاعر قيمة الثقافة، حتى بتنا نرى بعده، أنه لا يوجد شاعر أو كاتب مثقف يستحق هذه الصفة، دون أن يملأ خزّانه من الثقافة بأبعادها المختلفة، ابتداء من الكتب الدينية الخالدة انتهاءً بالأمهات الادبية الكبيرة التي أقرت لها واعترفت بها الإنسانية قاطبة، أما شاعرُنا العربي الخالد أبو الطيب المتنبي فقد ذهب إلى أن " خير جليس في الانام كتاب". هكذا نرى إلى أهمية الكتاب والثقافة في حياة الكاتب المبدع الجدير بهذه الصفة.

* يحلم كل كاتب أو شاعر مبدع بإضافة ولو ضئيلة إلى سابقيه، وقد رأى الكاتب العربي المصري توفيق الحكيم في العديد من مؤلفاته، خاصة "تحت شمس الفكر"، أن كلّ كاتب يضم في داخله كاتبًا آخر سابقًا له، ويوضح هذا قائلًا إن معظم الكتّاب إنما يتأثرون في بداياتهم الأولى بهذا الكاتب أو ذاك، بل إنهم قد يقومون بتتبّع خطاه وحتى تقليده، إلى أن تشتد اعوادهم فيستقلّون بشخوصهم الخاصة بهم، ويضيفون ولو قليلًا إلى ما سبق وأضافه سابقهم. يؤكد هذا أن التاريخ الادبي ما هو إلا حلقات متواصلة تضيف كل حلقة منها جديدًا إلى قديم. ويوضح هذا ما يذهب إليه جون كوين في كتابه الهام "بناء لغة الشعر"، وهو أن كلّ فترة أدبية تاريخية إنما تشهد موديلًا يحذو حذوه الكثيرون ويسيرن على هديه.

* كما هو واضح،  فإن كل مبدع حقيقي، إنما يقرأ الكتب سعيًا لوضع نفسه في الصورة الأدبية، لرقعة أدبية كلّما اتسعت زاد خيرها، وهو بهذا يقرإ الكتب للاطّلاع ومحاولة الإمساك باللحظة الإبداعية الهاربة، ولعلّنا لا نستطرد كثيرًا إذا ما قلنا في هذا السياق إن الكاتب القارئ الجاد، إنّما يرى ما وراء المُضمّن في الكتابة الأدبية الابداعية، وكأنما هو يتحسّس بذور الابداع العصيّة، تلك البذور التي لا تأتي صاحبها إلا يعد جهد ودأب، طالما أخبرتنا بهما وأطلعتنا على أسرارهما أو شيء منها، السيَر التي خلّفها عظماء المبدعين في شتى المجالات والانواع الثقافية، وهنا نشير بوضوح إلى تلك اللحظات الحاصة والفريدة التي أطلق عليها الكاتب النمساوي المبدع ستيفان تسفايج "  ساعات القدر"، وكرس لها كتابًا فريدًا يُعتبر درسًا في انتظار اللحظة المبدعة والتعامل معها تحقيقًا لحلم طال انتظاره.

الأسباب التي تدفع الكاتب لقراءة الكتب بنهم يكاد يشبه الجنون، كثيرة ومتعدّدة ولنا في مُصاحبة بُناة الإنسانية للكتاب، كما افصحت سيرهم، عبرة وأي عبرة.

***

ناجي ظاهر

لم يكن الحب (المغربي) وليد وعي إنساني فجائي واحتفاء بالحبيب والمحبوبة، بل كان هبة ربانية بامتياز الفطرة وخصب الأرض. لم يكن الحب صيغة مكتسبة من تجارب الحياة اليومية، بل كان ولا يزال الحب علاقة وجودية تتقاسمه البشرية عبر ربوع الكون بالجمع والتفرد. تختلف تسميات الحب من لغة لأخرى، ولكن فعل الحب واحد، ودلالاته المعيارية والإنسانية يتوحد فيها الجميع. عيد الحب  كنسخة (مغربية) تحمل التناقض المتجانس، تحمل أزمات الألم وفرح المسرات.هو بالطبع "الفالنتاين" العالمي في (14 فبراير) من كل عام، مع اختلاف جلي بين (حب نحن وحب الآخر)، فالحب لا ديانة له، ولا علامات دالة عليه، ولا موطن يحتكره في العالم، فهو حتما يتوزع بيننا بالاختلاف والتوافق، يتوزع بيننا بنوعية التفرد، وكيفية التراكم والاستنساخ، يتوزع بيننا بنسب القلوب المطمئنة الآمنة، والقلوب الضيقة حد حب الأنانية وعشق الذات.

عيد الحب (المغربي) بأية حال عدت يا عيد (14 فبراير)؟ قد لا نقول حتما بما مضى، بل نُقرُّ لِزاما وكُرها أنه فيه تجديد. نعم، لا نرغب جميعا أن تكون رؤيتنا للحياة والحب تحمل عوالق سلبيات تفكير علبة الصندوق، بل بالصدق نلعب على التحرر من تفكير الصندوق الضيق، وقد نبعثر أفكارنا رزما عن الحب ومتاريسه، ثم بِطَبْعِ السليقة الإنسانية والوجودية نلملم جراحاتنا كليا، ونعيش لحظة الوجوه الناظرة المنتظرة لعشق الحب والحياة.

لما نُوثر تسمية عيد الحب بمحمول (المغربي)؟ ونحن نستشعر الفوارق البيِّنَةِ (بِالتَّطْيِيحِ) ضمن مستنقع الغلاء وأثر الوباء. نعيش في خصاصة مُتدنية من سلم هَمِّ الحياة المرتبك بالمعيقات. نعم، هي المفارقات غير المتجانسة بين الإحساس بالحب، والاعتراف بالحبيب (ة)، وتخصيص زمن ومكان آمن للحب، وبين الارتباك النفسي والضغط الحياتي الصانع للألم والحزن، وافتقاد حلم الأمل في المستقبل الحارق بالغلاء المعيشي. بين زمن عيد الحب (المغربي)، وزمن الأزمة الحياتية، قد لا ينفك الحب يتحرر ويُعْلنُ بصريح العبارة: إني أحبك..أحبك.. لكن أخاف التورط فيك.. أخاف التوحل في همِّ الحياة.. فقد علمتني التجارب أن أرسم شبكة أزمة الغلاء..بنهاية قواعد العشق الممنوع.

في ظل أزمة الغلاء الفاحش، في ظل مغرب الفوارق الاجتماعية، يمكن أن نجزم القول: بأن المغاربة يعيشون قواعد العشق الممنوع الممانعة. يعيشون لحظات من تلاشي الحب من بين قلوبهم، فهم باتوا لا يقدرون على مجازفة عيش الحب بكل تجلياته الوجودية. أزمة خانقة أَكْبَسَتْ حُقْنَة مُلَوَّثَة على مشاعر المغاربة الداخلية، فبات الهمُّ الأساسي ما تحمله (القفة) من مواد استهلاكية؟ ومن الخوف الأكيد أن يدخل المغاربة أنقاض القلب الكسير، الذي يخبئ كنوز الحب ويظهر ألم هم الحياة المتنامي.

من الصعب أن تدوم الحياة بلا مقتطفات من الحب السليم، ولو في الشوط الإضافي من أزمات اليوم الزمني. من الصعب أن يشعر المغربي(ة) بالوحدة المدمرة، في حين أن الحياة حُبلى ببوابات الحب المتوازن، حبلى بالمرايا التي توازي صورتك الثانية في عيد الحب (المغربي). حقيقة لا مفرَّ منها أن نرى بداية الوردة شوكة في ظل أزمة غلاء واستحالة حياة الكرامة، لكن من الحس الجمالي أن نرى الوردة في الأعلى وردة فيحاء عطرة في عيد الحب (المغربي)، ونمني النفس بحلم التغيير، وضمان معادلة الإصلاح في ظل السلم الاجتماعي.

حقيقة أن المغربي يعيش الإنهاك التام في الحب، وبدرجات متفاوتة من أزمة تدبير حياة الكرامة في حدها الأدنى، لكن بكل صدق فالمغاربة يحملون قيمة الحب في الحياة والتواصل والاحتفالية والفرح، وهذه الطريقة هي التي تجعل من عيد الحب (المغربي) طريقة تمارس التفرد، ويمضي الجميع من خلالها إلى الأمام. من تم، يحضر التفاؤل عند المغاربة كقيمة تعبئة مضاعفة من المهارات الحياتية المكتسبة بالتكيف والإدماج مع الوضعيات المشكلة الحياتية.

لنكن أقل أنانية في عيد الحب (المغربي)، ولا نصفه ببدعة (القديس). لنكن من المؤمنين أن الماضي يمضي بكل آهاته نحو حلم المستقبل الجميل. لنكن نحمل القوة المنبعثة من الداخل بالحب المتحرك، ونواصل سنن الحياة بخطوات إلى الأمام، ومواجهة الاضطرابات الحياتية برزانة العاقل. فبين الأزمة الحياتية وغلاء الأسعار، وعيد الحب (المغربي) مفارقات التناقض والتوافق، فالمغربي يماثل طائر (الفنيق) فمن رماده يصنع الحياة، ويتكلم الحب ويمارسه، ويتجدد ثانية. فالحب (مِنشفة) نظيفة لكل متاريس الحنقِ الحياتي، وكيس أمان لكل التوترات المربكة بالفوضى سواء في الحاضر أو في المستقبل المتخفي بالتخوفات المتحورة.

***

محسن الأكرمين

 

عمرو بن عثمان بن قنبر الحارصي، يُكنى أبو بشر، الملقب سيبويه (148-180) هجرية، إمام النحاة وأول من بسط علم النحو، والمتوفي في عمر الثانية والثلاثين!!

فربما يتصور القارئ أن هناك خطأ في حساب عمره، فلا يعقل أن يبلغ هذه المرتبة من العلم وهو في سن مبكرة.

ومعنى لقبه رائحة التفاح.

تتلمذ عند الخليل بن أحمد الفراهيدي، ويونس بن حبيب، وأبي الخطاب الأخفش، وعيسى بن عمر، وأملى عليه حماد بن سلمة، وهو ظاهرة محيرة تستحق النظر!!

إتجه لدراسة الفقه والحديث حتى خطأه حماد بن سلمة فتوجه لدراسة النحو.

وكان مجلسه حافلا في مساجد البصرة، وذاعت شهرته لما يتداوله من مسائل معقدة، وقدم بغداد في زمن هارون الرشيد، وكانت له مناظرة مع الكسائي، هُزم فيها وتوفى بعدها.

والكتاب الذي ألفه وإشتهر به هو: " كتاب سيبويه في النحو"!!

ويقال أن كتابه بنسخته الأولى قد أحرقته جارية كانت شغوفة به فطلقها وأعاد ترميمه أو كتابته من جديد.

وبه قدّم مثلا عن قيمة الكتاب، فليس كل كتابٍ بكتاب، ولا يُعرف الكتاب من عنوانه، كما يُقال، بل بمحتواه، وبذخيرة الأفكار التي يكنزها، وبلغته الواضحة، وأسلوبه البليغ الصحيح، وبمفرداته البسيطة السلسة الشادة للقارئ، والمعينة على نهم المعرفة والتمسك الصادق بالكتاب.

وتتميز الكتب الجادة المؤثرة بقدرة مؤلفيها على سبك الأفكار بما قل ودل من الكلام، بعيدا عن الإسهاب والإطناب والحشو الممل القادم من متاهات الخيال.

فكتاب سيبويه أول كتاب منهجي ينسق قواعد اللغة العربية ويدوّنها، وقال عنه الجاحظ إنه " لم يكتب الناس في النحو كتابا مثله". وسمي بالكتاب لأن مؤلفه تركه بلا عنوان.

كتاب أحكمه وأخرجه للناس تاما، ولم يستطع أحد أن يجد عليه مأخذا فيه، وأبناء القلم لا يستغنون عنه، ويقع في خمسة مجلدات، فأي نابغة وفطحل يستطيع أن يأتي بما أتى به، هذا الجهبذ الشاب الموسوعي العليم ببواطن لغة الضاد، وكيانها المرصوص.

إنه سيبويه الخالد في كتابه المبين!!

***

د. صادق السامرائي

 

لقد تظافرت جهود السلطات البيئية – الثقافية – السياحية في مملكة كمبوديا من أجل إيجاد نوع جديد من السياحة لتخدم الاستدامة بمفهومها الواسع، فكانت السياحة الايكوثقافية إلى جانب أنواع أخرى تخدم هذا الاتجاه، مثل السياحة الايكولوجية والسياحة منخفضة الكربون والسياحة المجتمعية – الثقافية . وتأتي نتيجة الجمع بين الموارد الثقافية (مغريات ثقافية – معابد قديمة، ملابس وطنية، مشغولات يدوية من منسوجات قصبية ورسوم على الورق والجلد والقماش ...) والموارد الطبيعية المتوافرة في بعض المناطق المتميزة (مغريات طبيعية - غابات، أنظمة ايكولوجية، مستنقعات مائية، أشجار معمرة، تشكيلات جيولوجية ...) في آن واحد وصولا إلى منتجات سياحية جديدة ومبتكرة تعرض للسياح من داخل وخارج البلاد، ووفقا لقواعد الاستدامة الداعية إلى تطوير الموارد وحمايتها والمحافظة عليها من أجل الأجيال القادمة، والحيلولة دون استنزافها . مع ضرورة تنمية المجتمعات المحلية الموجودة في تلك المناطق بطريقة مستدامة، ومن النواحي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية . وذلك من خلال إتاحة فرص عمل مؤقتة ودائمية مناسبة لهم، تكون مرتبطة بالسياحة على نحو مباشر أو غير مباشر في الارشاد والنقل والحماية والايواء والطعام والشراب والفنون الشعبية والمنتجات الحرفية اليدوية والزراعة وركوب الفيلة . وهناك الكثير من الأمثلة والنماذج للسياحة الايكوثقافية في كمبوديا، ومنها تجربة (سيم ريب) النموذجية في شمال غرب البلاد القائمة على توظيف معابد (الانغور وات) و(الانغور ثوم) والمعابد القديمة الأخرى الموجودة فيها في الأنشطة السياحية، بالإضافة إلى الغابات والأنهر والأنظمة الايكولوجية المحيطة بها، ووفقا لضوابط وأسس تخدم الاستدامة وتقلل من المثالب والعيوب المرتبطة بالسياحة التقليدية عادة، ومنها معابد (بريه خان، تا بروهم بانتيا، تو سوم، تا كيو، بري روب نيك، ايست ميبون، بانتياي سامري، بايون، ايمباناداس، وبيان) . وتعتبر من أهم المغريات السياحية في مملكة بوتان على الاطلاق (المجذبات السياحية)، وتجذب سنويا عشرات الألوف من السياح من مختلف بلدان العالم، وخصوصا من اليابان والصين وكوريا الجنوبية والهند وفرنسا .

***

بنيامين يوخنا دانيال

سيم ريب – كمبوديا في 22 – 12 – 2015

 

عندما تتجمّد المشاعر في قوقعة الذّهول والفاجعة!

عندما يعجز القلم التّعبير عن واقع نعيشه يشبه الخيال ولكنّه ليس بخيال

أشبه بكابوس وهو ليس بكابوس!

حينما تتحجّر الكلمات والحروف في حنجرة الأبجديات كلّها

فتصيب بالاختناق، وتلهث خلف متنفس يضخّها بنسمات هواء وإن كانت مجبولة من ذرّات سامّة،

حينها تكشف أنياب واقعنا عن نفسها، وتقول لنا بخيلاء:

ها أنا ذا، وهؤلاء هم أنتم، فتعالوا إلى نزال بيننا!

تقول ذلك وهي تعلم أنّ ذواتنا باتت شبيهة أجسام محنّطة منذ زمن بعيد جدّاً وهي تدرك أن خواطرنا ما عادت تحتضن سوى الأسى والألم المتوارثين من ذلك العهد البعيد جدّاً والذي ما يزال يجدّد نفسه، ويتجدّد فينا كلّ حين كتجدّد الدّم في الشّرايين.

ما عادت الآهات والحسرات تهدّئ بالنا ولا الصّرخات تفرّغ شحنات انكسار نفسنا وخذلان عقلنا، ولا عادت الدّموع تغسل رمد العين ووجعها.

بكاء، صراخ، نحيب، يخفت الصّوت، يتلاشى نحيب الدّموع مع صعق الحروب ولطم الدّمار وهزّات الزّلازل التي كانت هي الوحيدة التي لم تعرض لنا عضلاتها، ولكنّها فعلتها، فكانت ضربتها هي الأقوى وهي الأمرّ.

***

نارين عمر

يقصد بـ(السياحة الجيوحرارية – جيوثيرمال تورزم) أو (سياحة الحرارة الجوفية) توجه السياح إلى مناطق انتشار ينابيع وعيون وآبار ونوافير وبحيرات المياه المعدنية الساخنة وفتحات البخار وبرك الطين وبعض أوجه النشاطات البركانية الآمنة لأكثر من غرض، والتي كثيرا ما تستغل في إنشاء المنتزهات والحدائق الوطنية الحرارية (ثيرمال باركس)، بالإضافة إلى المنتجعات العلاجية ومراكز الاستجمام والاستشفاء . وقد عرف الانسان قديما هذه الموارد البيئية الطبيعية الهامة واستخدمها في حياته اليومية لأغراض شتى، مثل الطهي والاستحمام والعلاج والتدفئة والاحتفال، كما فعل الهنود الحمر في امريكا قبل عشرة الاف سنة تقريبا . وتشير الاكتشافات الاثرية التي تعود الى (300 – 400) سنة قبل الميلاد إلى وجود مثل هذه المنتجعات والحمامات الصحية في إيطاليا منذ القدم (بومبي، كابوا، تيانو) . أما منتجع (هوا تشينغ) للمياه الساخنة في منطقة (لين تونغ) بمدينة (شيآن) الصينية فيعود تاريخه إلى أكثر من ستة الاف سنة . كذلك ينبوع (هوادي) في (صندقلي) التركية الذي يعود تاريخه إلى الف عام . وتحظى هذه الموارد بأهمية خاصة في كثير من الدول باعتبارها مغريات سياحية (طبيعية) يقبل عليها السياح من خارج وداخل البلاد، وينفقون عليها مبالغ طائلة، ترفد اقتصاد البلاد والمنطقة، ناهيك عن أهميتها العلمية والاقتصادية والبيئية . كما ان هناك مناطق كثيرة في العالم تتوفر فيها مثل هذه الينابيع، فأصبحت وجهات سياحية مشهورة على خارطة السياحة العالمية، الأمر الذي صاحبه تحسن في المستوى المعيشي للمجتمعات المحلية التي تقطن فيها مع زيادة وعيهم البيئي بأهمية هذه الينابيع والعيون على ضوء أسس وقواعد الاستدامة . ومنها على سبيل المثال (لويكرباد) السويسرية التي استغلت ينابيعها الحارة منذ أيام الرومان . وهناك نحو (3000) منطقة في اليابان تنتشر فيها مثل هذه الينابيع وتسمى (اون سن)، ومنها (اوكوهيدا، توهوكو، بيبو، هوكايدو، ايكاو) . ومناطق (الحمة، الطفيلة، اللسان، جرش، الأزرق، وادي زرقاء، ماعين، وادي ام هديب، وادي اليرموك، وادي العرب) في الأردن . و(ساري، بهشير، يله كنيد، خرقان، نوشهر، جالوس، ارشيا، محلات، تنكابن، رامسر) في ايران . و(قربص، بنزرت، الحامة) في تونس . و(باموكالي، يالوفا، باليكسير) في تركيا . و(روتوروا، واكاريواروا، تي بويا، اوراكي كوراكو، وايكاتو) في نيوزيلندا، وقد استقبلت الأخيرة (أي وايكاتو) في عام 2011 وحده نحو (2.5) مليون زائر محلي واجنبي، أنفقوا أكثر من (200) مليون دولار .

***

بنيامين يوخنا دانيال

    

يستعرض الكاتب العربي المصري المعروف أنيس منصور في كتاب طريف له عنوانه 55" مشكلة حب"، معاناة امرأة جراء محبة زوجها للكتب، ويورد في استعراضه قول المرأة إن زوجها ملأ البيت/ بيتهما المشترك، بالكتب وإنه يصرف معظم راتبه في شراء الكتب التي لا يقرأها، وتطلب تلك المرأة من منصور أن يرشدها إلى الحل. تذكرت هذه المشكلة وأنا أطلع على تفاصيل الببلومانيا أو هوس اقتناء الكتب، الذي أصيب به الكثيرون من المثقفين ومحبي الثقافة، منذ أزمان بعيدة ارتبطت بظهور الكتاب وبلغت إحدى ذراها العالية، كما تذكر مصادر متوفرة، بعد انتصار الثورة الفرنسية، وللحقيقة نقول إنه يمكن اعتبار هذا الهوس ظاهرة عالمية وإنه يوجد هناك الكثيرون من المهووسين بالكتاب وعوالمه الخاصة المبهرة .. لأصحابها خاصة.

فيما يلي أورد بعضًا من المعلومات وهي كثيرة عن مهووسي الكتب، المُحبين الحقيقيين للكتاب، وليس أولئك الذين تحدثت عنهم زوجة المهووس المصري، ففي أدبنا العربي القديم يظهر أبو عثمان ابن بحر الجاحظ، وهو أديب العربية الخالد وحامي حياض لغتها، واحدًا من هؤلاء المهووسين الجميلين، وورد في مصادر تحدّثت عنه وروت أخباره حكايات غريبة لا يُستبعد أن تكون موضوعة ولكنها حافلة بالدلالات، من هذه الاخبار انه طلب من والدته وهو لما يزل في العاشرة من عمره أن تأتيه بالطعام، فاتت له والدته بكومة من الكتب وقلت له بإمكانك أن تأكل، فما كان منه إلا أن أرسل نظرة غامضة نحوها وشرع في قراءة أحد الكتب التي قدمتها إليه. وهناك خبر آخر يتعلق بالجاحظ ذاته يقول إن نهايته كانت على يد الكتب التي انهالت وتساقطت عليه في شيخوخته. أما أبو فراج الاصبهاني صاحب كتاب "الأغاني" البارز في تراثنا العربي القديم، فيقال إنه كان ينقل كتابه من مكان إلى آخر مستخدمًا اثني عشر جملًا.

في الثقافات الأجنبية الأوروبية خاصة اهتم عامة الناس وخاصتهم على حد سواء بالكتاب، وطالما تحدّث أصدقاء من بلادنا كانوا هناك عن انبهارهم بالإقبال الشعبي الشديد على الكتب، ففي كل مكان في محطة الباص وخلال تنقل الناس في وسائل المواصلات المختلفة، بإمكانك أن ترى الكثيرين وبيدهم كتاب يقرؤون فيه مقلبين صفحاته، ويبرز من هؤلاء الكثير من الكتاب والمبدعين أشير إلى عدد منهم، فقد عُرف عن الفيلسوف الألماني الشهير شوبنهور، أنه كان مُحبًا عاشقًا للكتاب، ومما ضمّنه كتابات له قام بترجمتها الكاتب المثقف المصري شفيق مقار نقرأ قوله إن امتلاك الكتاب لا يعني قراءته، بمعنى أن قراءة الكتاب شيء وامتلاكه شيء آخر. وفي هذا السياق أذكر أن الكاتب الإنجليزي كولن ولسن صاحب كتاب "اللامنتمي"، يذكر في كتابه السيَري اللافت "رحلة نحو البداية"، أنه عندما توفرت لديه الأموال أقبل على شراء الكتب واقتنائها وكأنما هو يريد أن يشفي غليل حرمانه السابق مما أحب ورغب في قراءته في سنواته المتشردة الفقيرة الأولى. في المقابل لكولن ولسون نقرأ ان الكاتب الارجنتيني جورج لويس بورخس، كان محبًا كبيرًا للكتاب وانه عندما زحفت العتمة نحو عينيه وحلّ به العمى كان يطلب من آخرين أن يقرؤوا له، والطريف ،ن البرتو مانغويل، صاحب الكتب العديدة عن القراءة وأهميتها في بناء شخصية الانسان السوي، كان ابرز من قرؤوا له بل كان قارئه الرسمي. ناهيك عن أنه عمل أمينا لمكتبة وقضى أفضل سنوات عمره وأيامه قريبًا من كتبه واوراقه. ويبرز في هذا السياق الكاتب الفرنسي جان جينييه الذي زار مُخيمي صبرا وشاتيلا بعد المجزرة الرهيبة فيهما وقدّم شهادة تنزف ألمًا عمّا رآه فيهما. فقد كان هذا الكاتب الشاعر مهووسًا بالكتب ويقال إنه قضى فترات لا بأس بها في السجون جراء سرقته للكتب من المتاجر والمكتبات العامة وكل مكان وصلت إليه يده.

أورد هذه المعلومات المقتضبة وهي نتف وقليل من كثير، للإشارة وليس للحصر، فمعظم الكتّاب الأوربيين كانوا مهووسين بالكتب والقراءة وما هؤلاء، اقصد من ذكرتهم الا عينات. أما في أدبنا العربي الحديث بإمكاننا أن نشير إلى الكاتب العربي المصري أيضا عباس محمود العقاد، صاحب كتاب "ساعات بين الكتب"، وإقباله الأسطوري على القراءة المتبحرة المتعمقة في مختلف المجالات والمواضيع، خاصة الفكرية والأدبية، ومما يؤثر عنه نورد قوله إنه أفضل لك أن تقرأ كتابًا جادًا ثلاث مرات من أن تقرأ ثلاثة كتب!! وفي هذا السياق يبرز اسم الكاتب المتألق توفيق الحكيم فهو يشير في كتابه "زهرة العمر"، إلى ولعه بقراءة الكتب ويضمّن كتابه هذا رواية طريفة تقول إنه استضاف في بيته صبية فرنسية إبان إقامته في فرنسا ولاحظ انها تقرأ الكتاب تلو الكتاب بسرعة ونهم، في حين أنه هو كان يقرأ بترو وأناة، رغبة في المعرفة والاستزادة منها. الشاعر عبد الرحمن صدقي وهو كاتب مجيد أيضا، وضع كتبا لافتة عن الشاعر الفرنسي البارز شارل بودلير، صاحب "ازهار الشر"، وعن الشاعر العربي الخالد الحسن بن هانئ، أبي نواس، يذكر في كتابه "من وحي المرأة"، الذي كرّسه إضافة إلى عدد آخر من كتبه للإشارة إلى زوجته الراحلة، رفيقة الكتاب والقراءة كما يصفها، يذكر أنه كلّما كان يسرح بأفكاره في عالم الرحيل والموت الذي لا بدّ منه كان يرسل نظرة آسية إلى مكتبته الخاصة العامرة بالكتب متحسرًا على ما لم يقرأه مما ضمته مكتبته من كتب. كذلك يقول الكاتب المفكر عثمان أمين في كتاب فلسفي لافت له عنوانه "الجوّانية"، ان الكتاب هو حياة وثمرة طيبة المذاق، وانه يتمنّى لو أن الوقت والعمر أتاحا له أن يقرأ أكثر وأكثر وأن يقضم من تفاحة القراءة أكثر ما يمكنه. وأشير هنا بنوع من الطرافة إلى ما يذكره الكاتب الناقد الفني جليل البنداري في كتاب له عنوانه "لقاء بهم "،عن الفنان المغني عبد الحليم حافظ فهو يذكر أنه كان لصًا محترفًا ظريفًا  للكتب، لا سيّما من الأصدقاء والاحباء الذين يقوم بزيارتهم!!

في ساحتنا العربية في البلاد، أشير الى عدد من مهووسي الكتب الذين تصادقت معهم وعايشتهم عن قرب، وهم المرحومون: نواف عبد حسن، فاروق مواسي ومحمد حمزة غنايم، فقد كان أولهم محبًا متيمًا بالكتاب، ونادرًا ما رأيته دون أن أرى كتابًا في يده أو تحت ابطه، وكان نواف يمتلك مكتبة جيدة جدًا، أما فاروق مواسي فقد امتلك مكتبة كبيرة وكان كلما حللنا زوارًا عليه فضل الجلوس فيها والحديث عما تضمنته من كتب، وأذكر بكثير من المحبة أنني كلّما كنت أذكر له كتابًا مؤثرًا مثل كتاب "الفن والمجتمع عبر التاريخ" لارنولد هاوز الذي ترجمه إلى العربية المثقف العربي المصري البارز فؤاد زكريا، أو كتاب "ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر" لعبد الغفار مكاوي، كان يتوجّه إلى أحد رفوف مكتبته ليتناول نسخته الخاصة مما أشير إليه من الكتب الفريدة في نوعها. وكان فاروق منظّمًا ومرتبًا وقد أولى الكتاب المحلي الصادر في بلادنا اهتمامًا خاصًا قلّ نظيره. أما محمد حمزه غنايم طابت ذكراه فقد كان مهووسًا بالكتاب دائم الإبحار في عوالمه.. آفاقه وأبعاده، وأذكر أنه كلّما كان يزورنا في الناصرة، كان يتوجّه إلى مكتباتها العامرة في حينها ليقتني كل ما يلفت نظره ويستحوذ على لبه من الكتب غير عابئ بتوفر المال لديه أو لا.. وقد أورث ابنه طيب غنايم هذه الخلة.

في الناصرة أشير إلى عدد ممن عاشوا هوس الكتب أحدهم انا كاتب هذه السطور ومنهم الصديقان عطا الله جبر وجميل ارشيد، بالنسبة لي أذكر أنني بعد استماعي في طفولتي المبكرة إلى عدد من الحكايات الشعبية جن جنوني فرحت أبحث عن المزيد من الحكايات والروايات في الكتب وفي كل مكان تصل إليه يدي، وأذكر بالمناسبة أن الكتب الأولى التي قراتها عادة ما كانت بلا غلاف او أوراق أولى أو أخيرة، لأنني كنت اعثر عليها في هذا الشارع او ذاك ملقاة هنا أو هناك وتنتظرني لأخذ بيها وأجلدها وأعتني بها قارئًا نهما. بعدها تعرفت إلى مكتبة مجلس عمال الناصرة على اسم فرانك سيناتر، وهناك ارتبطت بعلاقة كُتبية بالأخ جميل ارشيد، فرحنا نعبّ من عالم الكتب كما يعب الظامئ الصديّ. وأذكر هنا بكثير من الود أن جميل ارشيد كان ذواقة ذا معرفة متعمّقة بالكتاب وعوالمه الرحيبة، وكان أشبه ما يكون بطائر لا يحط الا على قمم الأشجار وأعاليها الشاهقة، أما عطا الله جبر فقد جرى وراء الكتاب طوال أيام عمره وما زال يجري بقوة مائة حصان، وأكثر. وهو يمتلك مكتبة غنية جدًا ومن الصعب عليه أن يتنازل عن كتاب منها.

الببلومانيا أو هوس الاستحواذ على الكتب، هو ظاهرة عالمية، وبإمكان الواحد منا أن يلمسها في هذا المكان أو ذاك لدى هذا الشخص المثقف أو ذاك أو حتى لدى ذاك الانسان العادي، وهو هوس جميل.. وله عاداته وطقوسه المحمودة، وبالعودة إلى تلك المرأة التي شكت زوجها لأنيس منصور فإنني أقول كان الله في عونها لا سيما وأنها لم تكن مهووسة بالكتاب وعوالمه الرحيبة.. شان زوجها اللافت الجميل.

***

ناجي ظاهر

(مساج) العقل (9)

مكسب روحي عظيم ورزق إلهي أعظم أن تهذب ذاتك، تقضي حياتك تفعل ذلك يومياً، حتى تصل الى درجة قصوى من احترامها والشعور بالامتلاء. يخالك بعضهم أقرب الى الملاك، لانهم يرون الجانب المضيء للقمر، وقد لايصدق بعضهم ماوصلت اليه من نقاء وتهذيب، لانهم يعيشون في العتمة، ويعجزون عن الخروج منها، ولايعرفون للضوء معنىً، ولايرون من القمر سوى الجانب المظلم.

بتهذيب ذاتك ستصبح أكثر زهداً وصمتاً وعزلة، ومحبة غير مشروطة. لن تعود تنتظر أن يبادلك الآخرون محبتك، ولن تغريك رغبة التملك، يكفيك أن يكونوا بخير، ذلك أنك حررت الحب من أقفاص الأنانية.

تهذيب الذات غاية ووسيلة، تكشفان لك عجائب الروح خارج أقفاص التفكير المحدود. بهذا التهذيب لن ينقصك شيء.  ستصنع كوناً روحياً أخاذاً بكواكب حب ونجوم تسامح وأقمار  سلام تشع في قلبك وماحوله.

**

القوة، لاتعني ألاّ تحزن وتتوجع، او ألاّ ترحم وتتعاطف.

القوة أن تكون كالشمس، حين ينكسر شعاعك تحت مطر الأقدار المريرة، تنبثق من شظاياك أقواس قزح.

**

و.. قد يكون النقص فيك اكتمالاً، لايراه سوى القلب المبصر والعقل المتقد.  لاتخجل من نقصك، فالقمر ، رمز الجمال والعشق، ليس بدراً على الدوام، والشجرة وارفة الظلال ربيعاً هي نفسها  الشاحبة متساقطة الأوراق خريفاً، والألماس الذي يعجبك بريقه كان نائماً في رحم المناجم المظلمة.

ليشغ فيك قمر روحك، وتلمع ماسة وجدانك، وتورق شجرة محبتك، حتى يكتمل جمال الكون بك. فكلّ جمال، بالمحبة والرضا يستقيم.

**

في الأوقات العصيبة، ومع تكرارها، يتجلى أمام أعيننا ما اختزناه من قوة روحية كبرى عبر ما اختبرناه من حلو الحياة ومرّها.

القوة الروحية هي قارب العبور الى الضفة الثانية للحلم، ليس لننجو بأنفسنا فقط، بل لنحمل الى ضفة النجاة أحبابنا الذين يرافقوننا في رحلة الألم، ويساندوننا، ويتحملون مشاق الرحلة من أجل نجاتنا ووصولنا الى ضفة الطمأنينة.

**

و .. أحد أعظم أنواع الرزق والغنى أن يكون لك قلب غير مصاب بفايروس الكراهية والحقد والغيرة والشماتة والنظر الجشِع الى مافي أيدي الآخرين.. هذا النوع من القلوب يتوجع أكثر من سواه لما في الحياة من شر، لكنه يتفهم أن الوجع ضريبة إتساعه للتعاطف والتسامح والتعايش وحب الآخر بعيدا عن المشاعر البغيضة، وهو يدفع الثمن بشجاعة مادام غنيا بالحب، وغنى الحب حياة. وبهذا الغنى يرحل تاركاً ذكرى طيبة وأثراً حسناً، ولهذا فهو من جانب آخر أسعد القلوب.

ستموتون بفايروس غيظكم آلاف المرات في حياتكم يافقراء الاخلاق.

**

ثمة حبّ نقي، مُنزه من الأنانية والمصلحة الذاتية الضيقة، يستخرج الجمال من قعر القبح، والفرح من وجه الحزن، والامل من حفرة اليأس، والابتسامة من شفاه الدموع.

بهذا النوع من الحب قاوموا أوجاعكم، لعلّ العالم يشفى بكم.

**

أعد اكتشاف نفسك بين الحين والآخر، كي تمنح الآخرينَ المزيدَ منك.

***

أسماء محمد مصطفى

تقتحم مسرحية "الارملة السوداء" عالم المرأة العربية في بلادنا، بجرأة وشجاعة، وتتطرق في صلب محورها إلى أوضاع هذه المرأة في مواجهة مجتمع ذكوري اتكالي كثيرًا ما يقمع إنسانيتها ويضطهدها حتى كأنها تفقد وجودها وكينونتها. هذا ما اتضح من عرضها الاحتفالي الأول مساء أمس السبت ( 4-2-2023)، في كيبوتس المزرعة، بحضور حشد واسع من الاهل والاصدقاء وقف في مقدمتهم عدد من  رجال الفن والمهتمين وشداة الفن.

المسرحية من انتاج مسرح الخيال النصراوي. كتابة سعاد زعبي ودانا أبو دبي، سينوغرافيا وإخراج محمد سليمان منادرة، مساعد إخراج نجد منادرة، الرسم الهندسي للديكور ربيع عادل أبو ربيع، تنفيذ ديكور خالد سيلاوي، موسيقى معين دانيال، تصميم أقنعة عنات سندروفيتش، مساعدة إنتاج أروى أحمد، تمثيل الفنانات: سعاد زعبي، سمر أبو ريش، ومريم أبو فرحة.

تدور أحداث المسرحية حول مُعاناة ثلاث نساء من بنات مجتمعنا، ذقن الامرين من التعاملات المهينة معهن، ما أثّر على حياتهن وسلوكياتهن بصورة جذرية وسلبية في الآن. تواجه كل من هؤلاء النسوة وضعها السيء المُزري بطريقتها الخاصة، وغير الشرعية، ونلتقي بهن وكلٌّ منهن تقف وراء سجنها الشخصي الشامل، سواء كان جسديًا وجوديًا أو روحيًا معنويًا. تعمل هؤلاء النسوة في شركة ثري محدث يتمحور عملها في التداول في سوق العملات الرقمية الافتراضية، ويتعرّضن إلى مخاطر تتمثل في ذروة التطور الدرامي للمسرحية في تعرض بيت إحداهن ( نيروز، الأخريان تدعيان عليا وهبة)، لإطلاق نار من أحد المغبونين الغاضبين على العمل غير الشرعي للشركة والمتضررين من عملها. المسرحية تنتهي الى تمرد هؤلاء النسوة كل بطريقتها وموقعها، لتمثل المسرحية بهذا صرخة احتجاجية تهدف في عمق ما تهدف إليه، إلى إنصاف المرأة واعطائها دورها اللائق بها في المجتمع.

المسرحية بهذا تغترف من نهر الواقع اليومي المعيش، في مجتمع يعيش فترة انتقالية، وتحاول أن تقرع ناقوس الخطر مُنبهةً إلى ما تتعرض إليه المرأة من إيذاء نفسي وروحي، ما يؤثر بالحتم على الكينونة المجتمعية السليمة المنشودة لمجتمعنا عامة.

مؤسس مسرح الخيال ومديره الفنان محمد منادرة، لفت في كلمته الختامية للعرض الاحتفالي، إلى أهمية القضية التي أثارتها المسرحية، وركّز من الناحية الفنية على الأقنعة وما وقف وراءها من رموز هدفت للإشارة إلى دواخل الشخصيات من ناحية وما خالجها من تشوهات مسيئة ومؤذية من ناحية أخرى.

***

كتب: ناجي ظاهر

ما أجمل هذه المقالة الرشيقة عن تشيخوف، التي اطلعت عليها في صحيفة (ليتيراتورنايا غازيتا) الاسبوعية الروسية في عددها الصادر بتاريخ 25 كانون الثاني / يناير من هذا العام (2023)، والتي كانت بعنوان غريب جدا جلب انتباهي رأسا، والعنوان هذا هو – (شيلر شكسبيروفيتش غوته) . من الواضح طبعا، ان هذا العنوان يتكوّن من ثلاثة اسماء عملاقة في دنيا الادب العالمي، ومن الواضح ايضا، ان تركيب العنوان جاء حسب القواعد الصارمة لتسلسل الاسم الروسي الثلاثي، التي يعرفها الجميع، بما فيهم القراء العرب، اذ تحوّل اسم شكسبير الى شكسبيروفيتش باعتباره اسم الاب، وقد تبين، ان تشيخوف نفسه قد استخدم هذا الاسم المستعار في بداية طريقه الابداعي (وبالمناسبة، فان لدى تشيخوف حوالي 50 اسما مستعارا في تلك الفترة !) عندما كان ينشر قصصه الضاحكة في شبابه ايام الدراسة في كلية الطب بجامعة موسكو . المقالة بقلم كاتبة شابة روسيّة اسمها يلينا سازانوفج، وصورتها منشورة مع المقالة، وهي (اي الكاتبة) جميلة، وترتدي في الصورة قبعة رجالية دلعا والتي زادتها جمالا، ومن الواضح جدا، انها تعرف تفاصيل حياة الانسان تشيخوف بعمق، وتعرف دقائق الكاتب تشيخوف وابداعه بعمق ايضا، وتفهم اهميته وموقعه الحقيقي والجدير به في دنيا الادب الروسي والادب العالمي معا .

كتبت يلينا سازانوفيج هذه المقالة بمناسبة يوم ميلاد تشيخوف (ولد في 29 كانون الثاني / يناير عام 1860)، والمقالة مكتوبة باسلوب  جميل ورشيق ومدهش، وتكاد بعض مقاطعها ان تكون قصائد نثر، وتتضمن المقالة وقائع طريفة جدا جدا عن تشيخوف، فالكاتبة تشير مثلا، الى ان تشيخوف مع تولستوي ودستويفسكي اصبحوا الان (الترويكا)،التي تجسّد الادب الروسي وتمثّله امام العالم، فمسرحية (النورس) لتشيخوف قد تمّ عرضها(74) الف مرّة، اكرر، (74) الف مرّة، على مسارح مختلف البلدان، وتمّ انتاج اكثر من 300 فلما سينمائيا مقتبسا من ابداعات تشيخوف في روسيا وخارجها، وفي هذا المجال (اي الفن السينمائي) يقف تشيخوف الان جنبا لجنب مع شكسبير وديكنز، وتؤكد الكاتبة، ان كل هذه الوقائع لم تغيّر من تواضع تشيخوف في مسيرة حياته، ولكنها تستدرك قائلة، ان هذا التواضع لم يمنع تشيخوف من استخدام اسم مستعار له مثل (شيلر شكسبيروفيتش غوته)، وتضيف – (...وهذا هو تشيخوف...)، وهي اضافة ذكيّة والتفاتة حاذقة جدا، ونود ان نتوقف عندها قليلا ونعلّق حول مضمونها. لقد أشار معظم الباحثين الى ان تشيخوف كان (..يتجنّب المجد والشهرة ..) حسب تعبير ايليا ايرنبورغ، ولكن توجد عند تشيخوف – مع ذلك - جملة في مراسلاته تقول، ان الكاتب يتابع كل كلمة يقولوها الآخرون او يكتبونها حول نتاجاته، والاسم المستعار هذا ، الذي استخدمه تشيخوف، يعني ما يعنيه، فاذا وضعنا هذا الاسم المستعار تحت (مجهر!!!) مفهوم تشيخوف حول متابعة كل جملة تقال حول الكاتب،فان نتيجة التحليل ستقول لنا، ان تشيخوف – وهو في بداية طريقه الابداعي - كان يريد (او يحلم) ان يكون بمستوى  شيلر وشكسبير وغوته معا، ورغم انه (.. تجنب المجد ..)، الا ان عمله الابداعي الذي لم يتوقف طوال حياته (عاش تشيخوف 44 سنة ليس الا)، عمله الابداعي الهادئ والدائم والمتواضع جعله (يدخل التاريخ!!!)، وان يقف – في نهاية المطاف - جنبا لجنب مع تولستوي ودستويفسكي وشكسبير وووو..الخ، وهذا ما أشارت اليه فعلا يلينا سازانوفيج في مقالتها تلك .

تصفيق لكاتبة هذه المقالة الرشيقة والعميقة، وتصفيق لبطل هذه المقالة انطون بافلوفيتش تشيخوف، الذي لازال معاصرا لنا و يعيش بيننا، في وطنه روسيا، وفي بلدان العالم ايضا، بما فيها عالمنا العربي طبعا ...

***

أ.د. ضياء نافع

هناك بعض الأحداث والظواهر التي حدثت في الواقع حولتها إلى روايات وقصص قصيرة لكنّ بعضها تجاهلته ظنا مني أنه يفقد طعمه إذا ما تغير من حالته التي هو عليها إلى قصة أو أي جنس أدبي آخر من هذه المفارقات تذكرت ثلاثة:

مصغّر (وعر)

على وفق قاعدة التصغير في اللغة العربية (وعير) مصغر (وعر) إلى هنا لا مشكلة في الأمر لكنني حين أعود إلى العالم 1974 أجد الأمر مختلفا فما تعلمته في جامعة البصرة -قسم اللغة العربية وجدته يصبح نكتة طريفة في الفوج الأول اللواء 91 الذي رابط بين جبلي زوزك وهندرين، كان هناك جدي متطوع على جهاز الإرسال اسمه (وعير) عندما يتصل به أحد سواء من كبار الضباط أم ضباط الصف وجنود الأفواج يقول :نعم وعير ..هنا يضع الطرف الآخر في موقع حرج..فهل يقصد الجندي المتطوع (وعير) اسمه جملة واحدة أي مصغر وعر أم يدعو على الآخر مهما كانت رتبته ..زعيم من اللواء أم الرائد آمر الفوج.. فالواو في اللهجة العامية العراقية تعني في بعض الاستعمالات الدعاء بالشر عندما أدعو على أحد أقول له وقز القرت أو وحّمِسْ وموت فإذا جزّأنا وعير إلى واو الدعاء بالشر وعير التي تعادل في الفصحى العضو الذكري فإن الأمر يكاد يكون مصيبة بالمناسبة عير في اللغة الفصحى تعني الحمار وهناك شاهد لغوي في شرح قطر الندى والفية ابن مالك للدلالة على دخول حرف الجر على نعم وبئس وهو :نعم السير على بئس العير أي نعم السير على حمار مقول فيه بئس الحمار لكن شواهد اللغة لا تنفع مع جندي الإشارة وعير الذي يظن الجميع أنه يجزئ اسمه حين يخاطبه أحد مهما كانت رتبته حتى إن السيد الآمر نفسه لايجرؤ أن يقترح عليه تغيير اسمه لأنه سيعدها إهانة له ولأهله الذين سموه بهذا الاسم بالتالي تحال الإهانة إلى مجلس عشائري تطرح فيه مسألة الفصل والتعويض عن شرف الاسم ولا أحد يغامر بذلك.

الضمائر عند بعضهم

بعض العراقيين من غير العرب يتميزون بموهبة تعلم اللغات بصورة سريعة ومن هؤلاء شاب كان معنا حين قدمنا إلى الدنمارك في ثمانينيات القرن الماضي. كنا خليطا من العراقيين واللبنانيين، كاتب هذا الحدث، والشاعر القدير جمال جمعة والشاعر المرحوم حميد العقابي والصحفي البحراني هاني الريس وآخرين، بقينا في السفينة الراسية في الخليج عند ساحل المدينة شهرين ثم انتقلنا إلى مدينة هيذر سليو وسط الدنمارك..هذا الشاب غير العربي لم يكن يعرف العربية من قبل وخلال احتكاكه بنا تعلم لغتنا لكنه أحيانا يخطي بالضمائر أقول أحيانا وليس دائما، في يوم من الأيام جاء لص وسرق سترة ذلك الشاب (القمصلة الثخينة التي يرتديها) حيث كان الوقت شتاء والثلج أو الصقيع لا يحتمل ولم يكن معنا نقود كافية لشراء ملابس إذ كنا نستلم نهاية كل أسبوع مساعدات قليلة من الصليب الأحمر.

حالما عرفنا بأمر السرقة ذهبنا إلى ذلك الشاب المسروق كي نواسيه ونعرض عليه أن نجمع له مالا يشتري قمصلة جديدة تقيه البرد..كان حقا غاضبا على السارق ..التفت إلينا وقال يشكرنا لكن بانفعال وحماس

- والله لو أعرف السارق الذي سرقني أطيّح حظكم (طبعا أنا لطّفت العبارة كثيرا بهذه الصيغة على طريقة بعض جامعي الحديث الشريف لأنّه قال والله لو عرفت السارق لن... ت خواتكم وإن كنتم لاتصدقونني فاسألوا الشاعر القدير جمال مصطفى الذي كان شاهدا على ذلك الحدث.

هاني الريس والخطوط الجوية العراقية

هاني الريس السياسي والصحفي البحراني وصل قبلي إلى الدنمارك بأسابيع عرضنا عليه أن يذهب إلى الخطوط الجوية العراقية ليجلب بعض الصحف إلينا لأنه من البحرين ولهجته تشفع له تقبل الفكرة ودخل وعندما سأل الموظف أشار عليه أن يرافقه إلى الطابق العلوي حيث الصحف ومعها يستضيفونه بفنجان قهوة، وعندما صعد كانت المفاجأة هناك نهروه وصاحوا بوجهه من أية محافظة أنت بغداد أم كربلاء العمارة أم البصرة أم الموصل وبدؤوا ينهالون عليه ضربا بالايدي وركلا بالأرجل ومن حسن حظ الأستاذ هاني أن هناك موظفة دنماركية تعمل في الطابق الأرضي أثارها الزعيق والصراخ فاتصلت بالشرطة الدنماركية التي حضرت وخلصته من أيدي موظفي الخطوط الجوية العراقية.

هناك الكثير في جعبتي من المفارقات التي وحدتها لاتصلح قصصا بل سر جمالها في أن تبقى كما هي وسأنشر الذي أتذكره منها.

***

د. قصي الشيخ عسكر

 

تنظر إلي نظراتك المعتادة، وتتحسر على وضعي الحالك، وتتأسف لأني ضعيف أعزل لا أملك ما أدفع به الأزمات المدلهمة عن نفسي، ثم تعود إلى خطابك المكرور الذي كان، في فترات مضت، يفلح في تسكين ألمي ويهدئ أوجاعي، لكنك لم تدر أنه ما عاد يضمد جراحي الغائرة، ولا يرسم أملا وأفقا رحبين أمام بصري؛ لأني بتُّ أرى الأمور في وضوحها، وأقضي الليالي الطوال مكلوما في صمت، وأهجر النوم مكرها لا طواعية مني، لا لشيء إلا لأمعن النظر، وأزايل الغشاوة من عينيّ، وأتأكد إن كنت في حال وعي ويقظة أم أني مثمل حتى النخاع بأوجاع وهمومي هذا الوطن. ولكن، وآه من لكن هذه، وجدتني في برزخ مدلهم: بين النوم واليقظة، بين الأحلام الوردية الناعمة والواقع الملموس القاسي.. إني حزين يا صاحبي، وحزني لما يغادرني وإنما طاب له المقام فأقام، وتغلغل بين مسامي.

حزين على حال الأستاذ الذي أفرغ من مكانته الاعتبارية والرمزية والاجتماعية، والنتيجة أنه أضحى لعبة في ظل سياسات فاشلة، وورقة محترقة بين انتزاع الشرعية المغتصبة، والرغبة الأكيدة في الوجود.

حزين على حال منعشي الصحة الوطنيين من الرجال والنساء، أولئك الذين يسحلون ويرفسون ويقمعون في الشوارع، والنتيجة أن الصحة أصبحت في مهب الريح.

حزين على حال فقراء المغرب الذين لم يعد لهم حق في الحياة، في العيش الكريم، في لقمة العيش الهنيّة، في الصحة، في التعليم، في..في الموت الكريم؛ لأن الأسعار المستعرة تحرق الفقير، وتجعله متلظيا بين نارين حاميّتين: نار الحقوق المهضومة، ونار تحصيل لقمة العيش البسيطة. فحتى العدس والبصل والخضر و... لم يعد بمقدوره شراؤها.

حزين على حال أولئك الفقراء المحتجين على انعدام الماء والكهرباء، والحانقين على غياب الوثائق الضرورية؛ ولكن ما يكلمني أكثر هو نضال هؤلاء من أجل الحصول على هوية تؤكد انتسابهم لهذا الوطن الذي يطردهم، هذا الوطن الذي أعتبره امرأة غريبة الأطوار: من أحبها تغرّب واحترق، ومن أعرض عنها اغتنى وتقرّب.

حزين على حال البيدونيين الذين يقبعون في بؤر هامشية، أولئك الذين ولدوا وترعرعوا في أحياء الصفيح: القصدير سقفهم وغطاؤهم، والأرض فراشهم ومضجعهم. ولما تلقوا الوعود بسكن لائق خدعوا؛ فوجدوا أنفسهم وأبناءهم في العراء طعمة للتشرد والاغتراب.

حزين على الجدار العازل والهوة السحيقة التي تفصل بين حكومتنا الرشيدة والشعب المغربي الفقير؛ هذه الحكومة التي تعيش في واقع غير واقعنا، وتنظر من برجها العاجي بحيث ترانا عكس ما نراها: فنحن حشرات ضعيفة تستحق التفقير والموت في نظرها، ونحن نرى أنفسنا أناسا يستأهلون عيشا كريما، وبين رؤيتها ورؤيتنا نحترق ونحترق، وفي كل احتراق يزداد بعدها عنا.

حزين على الجفاف الذي ضرب أرضنا المباركة، وجعلنا في خوف حقيقي من الفناء، لا لشيء إلا لأنا نحب الحياة، نحب العيش على وجه البسيطة مهما كلفنا الثمن.

حزين على العيون التي ترصد حركاتنا وسكناتنا، وألجمت أفواهنا وقمعت وسجنت أقلامنا، فما عدنا نسطع حتى الأنين والتوجع جهرا.

حزين على حال هذا الوطن الغالي الذي يتهدده الأعداء من كل ناحية، ويتربصون به الدوائر. ومن ثم، فإن الوطن محتاج لأبنائه الأوفياء، وأبناؤهم محتاجون لوطنهم الأبي، ولكي يظل هذا الحب مستمرا على حكومتنا أن ترأف بحالنا، وترحم عجزنا وضعفنا، وتعلم أن حب الوطن والغيرة على مكانته، والرغبة في تقدمه هي التي تشدّنا إلى البقاء على أرضه حتى وإن استمر احتراقنا وتلظينا.

***

محمد الورداشي

الكلمة فى العربية من حيث العدد تنقسم إلى مفرد ومثنى وجمع. وجاء سماعا عن العرب أنهم فى بعض الكلمات يجمعون الجمع، وهذا ما يسمى بجمع الجمع. وهو سماعى كما ذكرنا، فلا قاعدة يُقاس عليها. وهذه الكلمات التى نطلق عليها جمع الجمع، هى كلمات موروثة عن السابقين، وهى قليلة العدد. وقد عمد القدماء إلى هذه الظاهرة بهدف المبالغة والزيادة، فكأن الكلمة فى جمعها لا تكفى للتعبير عما فى النفس من زيادة أو كثرة ومبالغة، عندئذ عمد القدماء إلى جمع الجمع ليفى بالغرض. ومن أبرز العلماء الذين تناولوا هذه الظاهرة، نجد أبا حيان والمبرد والإبيارى.

ومن أبرز هذه الكلمات، نجد:4798 جدول جمع الجموع

ملاحظات فى جمع الجمع

1 – قد يتشابه عند البعض جمع الجمع، بجمع المؤنث السالم، مثل كلمات: رجالات، سادات. والفرق هنا بين جمع الجمع وجمع المؤنث السالم، هو أن جمع الجمع مفرده ليس كلمة مؤنثة، أما جمع المؤنث السالم فمفرده كلمة مؤنثة. وهذا هو الفارق الجوهرى بينهما. ومن الملاحظ أن البعض تنزلق به القدم فى مثل هذه الكلمات، فيقول إنها جاءت على جمع المؤنث السالم شذوذا، أو إنها جموع شاذة. وكلا الرأيين وقع فى المغبة، فلا هى جاءت جموعا مؤنثة ولا هى توصف بأنها شاذة. وإنما هى كلمات جمع الجمع جاءت على صورة جمع المؤنث السالم وليست جموع تأنيث سالمة. فالضبط الاصطلاحى أمر لازم، ولابد أولا من التحليل اللسانى القائم على العلم والمنهجية والبحث المتروى.

2 – استعمل القرآن الكريم ألفاظا من جمع الجمع، وهذا دليل لتسويغ صحتها وثبوتها فى اللسان العربى. ومن ناحية أخرى هو دليل دامغ يقطع القول بأنها جموع شاذة، فالقرآن لا يحوى شاذا ولا يستعمل شاردا. ومن ذلك قوله تعالى {إنَّها ترمِى بشَرَر كالقصْر كأنَّه جِمِالاتٌ صُفـْرٌ} [المرسلات / 32، 33]. وقوله تعالى {وقالوا رَبَّنا إنَّا أطعْنَا سَادَتنَا وكُبرَاءَنا فأضلونَا السَّبيلا} [الأحزاب / 67].

3 – كلمات جمع الجمع التى تأتى على صورة جمع المؤنث السالم، لا تأخذ علامات إعراب المؤنث السالم، وإنما تأخذ علامات إعراب جمع التكسير. وهذا دليل دامغ آخر على أنها ليست جموع تأنيث أو جموع تأنيث شاذة. وشاهد ذلك قوله {سادتنا} فى الآية السابقة، فإن اللفظة فى موضع نصب، فلو أنها جمع مؤنث سالم، لنصبت بالكسرة، لكننا نراها فى الآية الكريمة منصوبة بالفتحة.

4 – الشعر العربى عبر تاريخه يستعمل صيغة جمع الجمع، ومن ذلك:

قول كعب بن زهير:

فلا تأخـذنــى بأقــوال الــوشــاة

ولم أذنب، ولو كثرت عنى الأقاويل

وقول المتنبى:

لك علىَّ أيادٍ سابغة

أعُدُّ منها ولا أعددها

وختاما نرجو أن نكون تناولنا هذه الظاهرة اللغوية بتبسيط وعلمية، يفيد منها المتلقى.

***

د. أيمن عيسى - مصر

كنتم أطفالا مثلي، والأكيد إنكم أحسستم نفس الأحاسيس نحو أبائكم، الأم وبالأخص الأب ولم تستوعبوا أنه لم يكن بالإمكان أن يفهمكم!..

لماذا يبخل عني بأوقات اللعب؟...

لماذا يفرض علي وقتاً، لا يجب فيه أن أتجاوز باب المنزل؟..

وفي أحيان كثيرة يحذّرني من اللعب مع هذا آو ذاك، ومرات عديدة يعاقبني بشدّة، رغم أن هذا أو ذاك مجرد طفل لكنه يتلفظ بالكلام البذيء!...

لماذا لا يمل الآباء من التوكيد على الدراسة؟..

كل يوم، وفي كل ساعة...

لماذا يختار لي هو ملابسي، ولون البنطلون والقميص، وشكل الحذاء؟...

لماذا يحبُ أختي الصغيرة أكثر مني؟ وأنا الذّي جئتُ إلى الدنيا قبلها بسنوات، وأدخلتُ السرور إلى قلبه قبلها أيضا!...

لماذا يلزمني بأكل الطماطم واللفت والعدس؟..

ومن الطفولة انتقلتم إلى الشباب والمراهقة، ووقعتم في الحب وتزوجتم، وأنجبتم الأولاد والبنات!..

والآن انتم أباء وتشعرون بنفس الأحاسيس اتجاه أولادكم، والمعضلة القديمة لم تجدوا لها حلا! وتذكرتم طفولتكم أو جزء منها...والآن تقلقون لماذا ليس بإمكان أولادكم أن يفهموكم؟..

لماذا لا يدرك الطفل أن اللهو لا يجب أن يلتهم كل النهار وجزء من الليل، وإنما هناك دروس تُراجع وواجبات تُحل،وجلوس مع الأم أو الأب، ونوم...

لماذا يتذّمر الأولاد ولا يفهمون أن المكوث خارج البيت فيه مضار أكثر من المنافع ،أطفال السوء السيارات المسرعة، التدخين لذلك يجب أن يُحدد وقت للعب وان لا يتجاوز أبدا أذان المغرب...

لا يريدون أن يفهموا أنكم تقلقون لأجلهم، ويقولون متمردين أنه يوجد أطفال، سيئون، يدخنون يسرقون، ولا يبالون بنتائجهم المدرسية، ولا يحترمون لا كبير ولا صغير!..

فهل هؤلاء ترتاحون لهم لكي يصطحبهم أولادكم؟...

***

بقلم: عبدالقادر رالة / الجزائر

للكل أنسان أحلاما قد مضت وأخرى تلمع في الذكرى خيالات كالبرق في أعلى سماها.. والذين يبصرون بعقولهم بديع الواحد الأحد سبحانه وتعالى كما يتراءى في وحدة خلقه يدركون أن في خفايا الضياء والظلام تتبارى تلك الأطياف بوميض الجمال وهي تمتشق أحلامها الوردية لتصنع مالم يكن قد مر بالحسبان همسا.. لتصنع خيالات لمعانها بهجة بذلك الفرح العابر لحدود الأجساد وهي تبرق تيجانا قد جاد صانعها كلوحة فنان وهي تزين العواطف التي استدعاها الزمان بغفلة من العقول وهي راجحة بحكمتها لتسقبل الأنساما وهي معطرة بأزكى ندى نداها.

تلك العواطف ترتقي طيفا بطيف وقد تيقظت لترتقي بمشاعر الأحساس الذي تتقاطع عنده شتى المعاناة مع الأنبساط المؤطر بديعا بطيب الكلام الذي أسخرج حسنه من خبايا كنوز الأرض كتلك التي أكتنزت الى ما شاء خالقها.

في خضم كل ذلك ومضت الأطياف بأوقات هي الأغلى عند كل فردا وسر حياته لتثمر حماسة عنفوان يتوق الى الذرى ليغرد كالنوارس تشدو نغما على ضفاف أنهارا يناغي هدير مياهها بمحبة كل حصاها.

بعيدا بعيدا عن الضفاف تلمع الأطياف ثانية تمني النفس مجدا من ذلك الذي كان قد تحلق فوق الغيوم وهي تسري لتلتقط تلك الزهور وهي طافية حول الضفاف لتذهب بها الى فضاءات المكان واللامكانا.. لتخلد في سمر الزمان قصيد لحن بلحن خفي النغمات.. وفي الربيع تلوح أطياف الصباحات التي خطفت فوق الجمال بجمالها الأبصارا رقيقة الحسن تناغي ساحر المقلة برقة رشاقة وهي ترتحل بعيدا في الزمانا.

لتعود الأطياف وهنا على وهن حنينا الى شمس الصباح فيما قد مضى نقاء وأشراقا.. فينجلي عبق من صباح عابر بشذاه مابين الشواطىء لامعا بشروقه لأليء الشطأنا، ويلمع في زحمة الأطياف طيفا قد تفرد موشحا بسحره صقيلا مبرقا يسارع الخطى في البعد بعدا خلف الأفق مرئيا تارة وفي أخرى قد أختفى.. فيغيب مجددا ضياء بدر منير يتراقص فوق أمواج نهر بخريره هدارا.

وتهل بالأفراح موجات الأثير بوميضها البراق مسرعة الخطى محفوفة بأمال شاخت وهي تطارد في عمق الزمان بصيصا من عنفوان شبابها.. مزهوة ببهاء وأفراح قد خطت هي الأخرى بأقدارها لتكشف دررا بيضاء ناصعة مابين اعماق البحار تمني النفس أسعادا ربما قد أتى يوما أو أختفى.

وتلوح مابين النجوم تلك التي يلفتها المميز عن كل شيء تميزا بدنيا قد أستقرت بحكمة من شاء سواها, وفي خضم هذا وذاك تطل حوراء تستذكر مجدا بذلك الأعجابا وهي تعدو بزهراء ورد تزهو بنور سماها.. وفي ظلمة ليل تراءت سارونت بحر ممشوقة الخطى تعدو معطرة بأريج الأزهار تغرد بالبسمات صدقا وطيبا بوصف من نزار قبانيها.. ومن ثغرها الوضاح تحكي أطيفا وهي تسافر في فضاءات كون مابين بحاره في مرة وعند خلجانه في مرة اخرى.. حورية بحر تثير ببريق حضورها عواطف جياشة تشدو بلحن الكلام محبة العشاق بأول طلة عند لقياها.. لحن مؤطر بومضاااات أطياف عابرة للزمان.. بحلم في خفااااياها.

***

مجيد ملوك السامرائي، جغـرافـي/ كاتـب ومـؤلف وأستاذ جامعي

 

لما كان الكرم أحد تجليات مكارم الاخلاق لانها أحد الصفات الربانية التي يتحلى بها الانسان تخلقا باخلاق ربه وخالقه، فان صفة البخل المذمومة في الكتب السماوية وعند اهل الحضارات الانسانية وأصحاب الفطرة السوية تعدو لان تكون صفة شيطانية لانها تعكس عدم الثقة بما عند الباري من خير وكنوز لا تنفذ .

ولذلك قرن البخل بضعف الايمان، وبمخالفة الفطرة الانسانية خاصة عند العرب المشهورين بالكرم، وما خلد التاريخ حاتم الطائي الا لكرمه، ولذلك عندما ظهرت طائفة من المسلمين من أهل مرو في العصر العباسي بالبخل كان ذلك مثار دهشة مجتمع المسلمين وحفز ابو عثمان بحر المعروف بالجاحظ لأن يؤلف كتابه " نوادر البخلاء " والذي قدم من خلاله نقدا اجتماعيا لاذعا لهذه الطائفة البخيلة والتي تسبب بخلها في وضعها موضع السخرية والفكاهة حتى يومنا هذا.

فلا فضيلة تذكر للبخيل حتى لوكان عابدا ناسكا، وحين مُدحت امرأة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: صوّامة قوّامة، إلاّ أن فيها بخلاً. قال: "فما خيرها إذًا"، وقال بشر الحافي: "البخيل لا غيبة له" .

فالبخل بالمكر والدهاء لمنع قضاء حاجات الناس او تقديم اي معروف لهم، فالبخلاء ماكرين خداعين مثل الثعلب والغراب، لا يسطيعون افادة احد مهما تصنع بتقديم يد العون، ولذلك فلا يحظى البخيل بحب الناس أبدا ولا شفقتهم وتعاطفهم اذا ما أصيب بمصيبة.

ويتهكم الشعب العربي على البخيل بالعديد من القصص التي تنفر وتسخر من البخلاء على لسان الحيوان مثل قصة أبو حصين أو الحصيني او المشهورة بقصة " عزيمة ابو الحصين " التي يضرب بها المثل لمن يدعي انه يريد مساعدتك و الاخذ بيدك فيظهر لك انه قدم اليك شيئا و يثبت هذا على نفسه لكنك لا تستطيع الاستفادة ابدا مما قدمه لك.

وكما تورد " موسوعة الحكايات الشعبية " حين دعا الحصيني طيراً طويل المنقار لوليمة شهية، ولكنه قدم الطعام في صحن طويل مسطح، يصعب على الضيف أكله، لطول منقاره، ويسهل على المضيف أكله لأنه يلعق الأكل بلسانه!

وهناك العديد من الحكايات والقصص أبطالها الثعلب والغراب، وتبدأ الحكاية بدعوة الغراب للثعلب فدعا الغراب على شجرة من الشوك فأخذ الغراب يأكل من الشجرة دون أن يمسه ضر أما الثعلب فلم يستطع بسبب الشوك، ليرد الثعلب الدعوة بدعوة الغراب إلى الطعام على حجر أملس صلب فأكل الثعلب بلحس الطعام أما الغراب فلم يستطع فكلما نقب نقبة آلمه منقاره .

وتمتد الحكاية فتسرد ما جرى ما بين الغراب والثعلب كما نراه عند الجهيمان في حكاية (الغراب وأبو الحصين) فيطلب الغراب من أبي الحصين وهو " الثعلب " أن يريه الأرض فيحمله الثعلب، ثم يحمل الغراب الثعلب في الجو ويسقطه من الجو فيسقط في غدير ويشرب الثعلب كل ما في الغدير فتأتي راعيه مع غنمها وتسأل الثعلب عن الغدير فيخرج الماء من فمه فتعطيه شاه هزيلة ومعها ولد وبنت (حوية وحويان)، فيقوم الذئب ويأكل حوية وحويان وأمهم فينتقم الثعلب ويحتال على الذئب ويتشابه هذا مع ما نراه في حكاية الجهيمان .

أما أبو الحصين فقد اشترى طاقتين من الحرير وأخذ يعلقها على شجرة ويزعم أنها تنتج الحرير فاشترها رجل أخر بمبلغ كبير من المال ولكنه حذره بأن لا يحدث أحد بجوار الشجرة، وهكذا أخذ الثعلب يضع لفات الحرير في الشجرة في اليوم الأول والثاني فيحملها مشترة الشجرة ويبيعها، وفي اليوم الثالث أحدث تحتها الثعلب، ولم يجد المشتري الحرير في شجرته فذهب إلى أبي الحصين واخبره بالأمر فذهب الثعلب إلى مع الرجل ودار حول الشجرة وأراه المخلفات ووعده بأن الشجرة ستعود للنتاج بعد أسبوع، ليجمع الثعلب جميع أمواله ويسافر إلى إحدى المدن ويدخل في التجارة .

يعرف الثعلب بالروغان والمكر والخديعة والذكاء وقد قال العرب في الأمثال (أدهى من ثعلب)، ويعرف في القصص الشعبي بـ (أبو الحصين)،، وقد ذكر الجاحظ في الحيوان أن الغراب مصادق للثعلب، بينما تنقل ألف ليلة وليلة حكاية يحاول فيها الثعلب أن يخادع الغراب بمصادقته ولكن في النهاية وبعد ضرب الحكايات يرفض الغراب هذه الصداقة فينسحب الثعلب وهو حزين لأن الغراب كان أكثر خداعاً من الثعلب.

وما اكثر ما نعيشه اليوم من مكر وخداع الثعلب ابو حصين وصديقه الغراب من بخل وانانية وتدمير للشعوب وتضييع للامانات حفظنا الله من شرروهم .

***

سارة السهيل

 

صنفت السياحة المجتمعية - الثقافية في الادبيات السياحية على أنها شكل من أشكال السياحة المستدامة إلى جانب السياحة الايكولوجية والسياحة الايكوثقافية. وتشير إلى استثمار وتوظيف الموارد المختلفة (طبيعية، ثقافية، اجتماعية، تراثية، تاريخية، بشرية....) في مناطق جغرافية معينة في السياحة بشكل مخطط ومدروس، لتحقيق أعلى المنافع وأفضلها بالنسبة للمجتمعات المحلية التي تقطن فيها، وتحسين أوضاعها المعيشية (المستوى الجزئي) أولا، وبالنسبة لعموم المجتمع (المستوى الكلي) ثانيا. وللدفع باتجاه التنمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية على نحو فعال ومؤثر، وشريطة أن يكون ذلك بأقل التكاليف الممكنة، وفي منأى عن المثالب والعيوب المتوقعة في هذه الحالات ولأسباب معروفة، وخصوصا تلك التي تمس خصوصيات هذه المجتمعات المحلية من حيث العادات والتقاليد والقيم والأعراف السائدة فيها. وهي جوانب على قدر عال من الأهمية عند إيجاد وإنشاء سياحة مجتمعية – ثقافية فاعلة في السودان وغيره من البلدان في أفريقيا وفي العالم أجمع، وضرورة ملحة من أجل نجاحها واستمرارها وديمومتها، ووفقا لقواعد ومبادئ الاستدامة المعروفة، وبما يغني التراث الشعبي السائد في مناطق استيطان هذه المجتمعات، ويعمق هويتها الثقافية، ويوسع موروثها الثقافي الممتد إلى أزمنة قديمة. وبهذا يمكن للسياحة المجتمعية – الثقافية في السودان أن تحقق عدة أهداف رئيسية، ومنها: تشجيع ودعم الممارسات الثقافية المحلية بمختلف أنواعها أولا، والنهوض بالأنشطة الاقتصادية المحلية وتوسيعها وتنويعها ثانيا، وإبراز الأوجه المحلية المتميزة، ثقافية كانت أو بيئية أو فنية الخ...، وترسيخ مكانة السودان في السوق السياحية الافريقية، وهي سوق متنامية يوما بعد يوم وفقا لتقارير منظمة السياحة العالمية التابعة للأمم المتحدة. وبإمكاننا أن نسوق هنا بعض الأمثلة على نشوء وتنمية السياحة المجتمعية - الثقافية في القارة السمراء.  ومنها حالة (بوتسوانا) في جنوب أفريقيا. وجبل (برادنبرغ) في ناميبيا، وأيضا حالة (بلد دوغون) في مالي.

***

بنيامين يوخنا دانيال

الخرطوم – السودان في 24 آب 2016.

جاء هذا الموضوع بمناسبة انتهاء العمل بمشروع المجموعة الشعرية المشتركة (هذا العراق) التي أشترك بكتابتها 350 شاعرا من 17 دولة عربية.

ترى نظرية "الغائية" أن كل شيء موجود في الطبيعة، وكل العمليات التي تجري فيها، إنما خلقت وولدت وصدرت لتحقيق غاية، تكمن خلفها علة قد لا تكون مرئية لغيرهم، وغالبا تكون بطريقة واعية لدى الإنسان دون سواه من باقي المخلوقات. والغائية نفسها تتدخل في عملية تبدل المصطلحات ومنظور الوحدة وآليات التوحد وأشياء كثيرة أخرى، وقد قلت مرة في واحد من كتبي: مع التقدم المهول الذي حققه الإنسان بحرا وبرا وجوا وصولا إلى الفضاء الخارجي، ومع التقدم في العلاقات والتحالفات والممارسات والصداقات والتكتلات والتحالفات، ومع تغير العلاقة بين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان والكون، وجد العالم أنه لابد من إعادة تعريف وتسمية الأشياء، كل الأشياء المحيطة بنا، والتي نتعامل بها ومعها، كل الآليات والآلات، كل الحقائق، كل المسميات حتى العبادة، والدين، والقوة، والعلم، والحياة، والإنسان، والرجل والمرأة والطفل، والحرية، والأمن، والتنمية، والمجتمع، والدولة، والحق، والسلام، والإرهاب، والمدنية، والجنس والنضج، والبيئة، والمهارات، والفنون، والأخلاق، والمُثل، والشرف، والمال والفرح والحزن، كلها  أعيدت تسميتها، أو أعيد تعريفها. لم يعد أي شيء منها كما كان عليه قبل ذلك، حتى علاقتنا بالله سبحانه أعيدت تسميتها، بل حتى علاقتنا بأنفسنا أوجدت لها تسميات غريبة عن المألوف، وعلاقة الزوج بالزوجة، والأب بالابن، والأخ بالأخ، والفرد بالمجتمع وبالعشيرة وبالأمة؛ كلها أعيدت تسميتها وتعريفها، بما يناسب الواقع المفروض، دون النظر إلى علاقة الأشياء بمحيطها وأصلها الأول، وأحيانا دون النظر إلى علاقتها بمنظومة الأخلاق والسنن الموروثة، والقيم التي نشأت عليها المجتمعات، ولاسيما بعد الغزو الثقافي المدعوم بقوى مؤثرة قادرة متمكنة ذات سطوة وطَول وتَمَكُن وتأثير ساحر، جعل النسبية هي المعادل الموضوعي الذي يعلل سبب القبول والرفض.

ويعني هذا فيما يعنيه أن حركة الغائية تتفاقم مع تطور حياة الإنسان وتوسع مديات تحضره، وهي نفسها التي تجبرنا على إعادة النظر في بعض مصطلحاتنا، مثل مصطلح الوحدة، فنظرتنا لمصطلح الوحدة العربية التقليدية بمفهومها السياسي التقليدي الذي طالبت به ودعت إليه بعض الأحزاب القومية منذ أربعينيات القرن الماضي يجب أن تتغير هي الأخرى، لتكون دعوة إلى وحدة رؤى، وحدة فكر، وحدة أدب، وحدة تطلع لما هو أبعد من الحدود القومية الضيقة والشوفينية المقيتة. ومن هنا جاءت دعوتنا هذه، لا لتحسب على فكر قومي أو منهج سياسي أو ديني أو فئوي، طالما أن هذا الفكر وهذا المنهج عجزا كلاهما عن تحقيق جزئية صغيرة منها، بل جاءت لتكون بحد ذاتها فكرا ومنهجا له شخصيته المائزة ورؤيته المعبرة وروحه الإنسانية التي تتوافق مع الواقع ومع معطيات العلاقات الدولية المعاصرة المعقدة.

وقد يستغرب من يطلع على منهجنا الداعي إلى إحياء مشروع الوحدة العربية ثقافيا وليس سياسيا كونها تمثل جزءً فاعلا من كيان الإنسانية كلها؛ لا من خلال الدعوات الفارغة الفاشلة، وإنما من خلال لغة العرب أنفسهم، ومن خلال الشعر منها بالذات، ومن حقهم أن يستغربوا طالما أن الأعم الأغلب من الدعوات المعروفة والمشهورة سواء كانت سياسية أم قبلية أم دينية أم اقتصادية، فشلت في تحقيق هدفها أو مجرد الاقتراب من بعض حافات النجاح، بسبب تنوع مناهج وأساليب دعاة الوحدة أنفسهم، سواء كانت دينية أم قومية أم جندرية أم فكرية أم سياسية؛ وفقا لرؤى القائمين على مشروعها. وأنا واقعا سُئلت مثل هذا السؤال من أكثر من واحد ممن استغربوا من استخدامي الشعر لخلق رابط بين شعراء الأمة، إذ تكرر سؤال: لماذا الشعر على مسامعي عدة مرات، ومثله سؤال: هل تثق بالشعر، بعد أن فشلت الآليات الأخرى؛ ولأكثر من مرة؟ ورغم كونه سؤالا يبدو للوهلة الأولى تقليدياً ساذجاً بسيطا، لا يحتاج إلى عناء البحث عن الإجابة عنه، إلا أنه في معناه الافتراضي والفلسفي والحياتي عميقٌ جداً، ويستحق فعلا أن تكون الإجابة عنه بنفس مستواه الفكري. من هنا أقول في جوابي:

الشعرُ في معناه الأوسع صورةٌ من صور الحياة الأدبية التي لم تكن يوماً بمعزلٍ عن الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتربوية والأخلاقية والدينية، بل والمصيرية للمجتمعات والشعوب كلها، والشعرُ حسب الناقد الأدبي والفيلسوف الفرنسي "فابريس ميدال" هو الرابطة التي تؤدي إلى الذات، وإلى الآخرين، وبدونه لا يمكن العيش حقيقة. والشعر هو الجسر والباب والعالم، هو الشجاعة نفسها، وهو حارس الحضارة، ويحمل جذوة الحقيقة، وهو صديق كل حي في المعمورة، ويذهب دائما نحو العمق. ولأن الشعر مثلما وصفه صلاح عبد الصبور هو: فن اكتشاف الجانب الجمالي والوجودي من الحياة، والإنسان بلا شعر من شأنه أن يفقد فضيلة تقدير الحياة والنفس البشرية. ولأن الشعر ضرورة وفق توصيف "جان كوكتو"؛ الذي كان يتأوهُ محتاراً على أمل أن يعرف لماذا؟؛ وهو يبحث عن دور الشعر في العالم.  ولأني أؤمن أن ليس الشعر أن نقوله ونردده، وإنما الشعر الحقيقي هو الذي نعيشه ونَكُوُنَه ونتفاعل به ومن خلاله مع أنفسنا ومع بعضنا، وأن يشتعل في دمنا، ليتحول إلى وميض داخلي تستضيءُ به بصائرنا وبصيرتنا، ونستشف من أجوائه عبق إنسانيتنا. ولأن الشعر يحمل كل هذا الهطول الروحي والوجداني، كان ولا يزال على تواصل دائم مع حركة الإنسان وحركة التاريخ والوجود. وعلى مر التاريخ كان له دوره الفاعل والمتواصل في رصد تلك الأحداث، والتفاعل سلباً أو إيجاباً معها؛ وبالتالي كان لهذا التفاعل دوره في تغيير أنماط مسارات الحركة العامة للأمم، كلٌ ضمن محيطها الخاص، وصولاً إلى التأثير على المجتمع الإنساني كله عبر مراحل نشوئه وذروة عطائه.

ولأن الشعر امتدادات بوهيمية لحركة الإنسان بحثا عن المضمون والمعنى، وهرولة وراء الخلاصة المركزة جدا لموضوع لم يكتمل بعد، ولأنه مسافة موبوءة بكل أشكال المخاطر، يجازف من يدخلها بعمره وربما بقضيته، ولأن فيه دفقة شجاعة يمنحها للفرسان في ميادين الحروب حينما يرتجزون بعض أبيات منه، يحثون بواسطتها أنفسهم على تقحم المخاطر، أو يسمعون رجزاً من مؤيدين وحاثين ومشجعين لهم يزيدهم اندفاعا وتهورا، ولأن فيه خوفٌ وتحريضٌ ومجازفةٌ، مثلما هو  مصنعٌ  للجمال وأيقونة للسحر، سحر الكلمات التي يحولها الشاعر من مجرد جماد بارد لا روح فيه إلى حوريات تتوهج وتتراقص أمام مشاعل الفكر لتوقد فيه جذوة الحياة، لكل هذا كان الشعر قضيةً قائمةً مثلما هي القضايا الإنسانية الأخرى، ولاسيما بعد أن وظف الشعراءُ أشعارهم لخدمة القضايا تاريخياً، وهو الأمر الذي لم يجعل لتقادم الأيام والسنين أثراً يُفقد الشعر ألقه، فكل جيل نشأ وهو يتلفع بعباءة من سبقه من أسلافه، يبحث فيها وتحتها عن دفء المشاعر وحرارة الإحساس، من خلال الكلمات التي تم تشذيب مخرجاتها بعمق الإحساس المرهف والجمال الأخاذ، حيث تتوالد الرؤى وهي تحمل صور الماضي بألق جديد، يمتد ليرسم طيف المستقبل، فتتواصل الحياة التي تحترم قيمة الجمال الأسطوري، لا الجمال التقليدي وحده.

ودون الغوص في دنيا الشعر القديمة؛ التي يطول الحديث عنها، نجد منذ مستهل القرن التاسع عشر فيما عرف بعصر النهضة أو عصر التنوير العربي تواشجاً أسطورياً بين شعر القضية وقضية الشعر، فالشعر في هذه المرحلة تفاعل ضمن الإطار الزمني للأحداث، ذلك لأنه الأسرع في التعبير عن هموم الأمة وقضاياها الشائكة المشتركة الأخرى من غيره من صنوف الأدب بفضل بنيته الخطابية والأسلوبية، وذلك الحب  السليقي التراثي المتأصل في النفوس منذ أن كان العربي يتنفس الشعر، وعلى يديه يتعلم مناهج العيش، ومنذ أن كان الشعر نفسه ديوان العرب، فكان لساناً ناطقاً عن حال الأمة في حلها وترحالها، بما يبدو وكأنه يبحث دائما عن بيئة صالحة ليرتع فيها بأمان، ويرفع صوته معلنا عن نفسه. وكان فعله الكبير والمميز في حركات ونشاطات الجماهير المطالبة بخروج الاستعمار، أو بتصحيح الواقع الاجتماعي، وإنصاف العمال والفلاحين والفقراء والمعوزين والطبقات المعدمة، والدفاع عن جميع المستضعفين، أو لتأبين الشهداء الذين سقطوا في الانتفاضات الجماهيرية، أو للدفاع عن قضايا الأمة، أو لتأييد حق تقرير المصير للشعوب العربية المستَعْمَرَة، أو لتأييد الثورات الوطنية، أو لشحذ الهمم، مثلما حدث أثناء العدوان الإسرائيلي المتكرر، كان واضحا ومؤثرا.

في كل هذه المناطق الساخنة وساحات النزاع الشرس كانت للشعر صولات شهيرة، وكانت عقيرة الشعراء تترجم حال الأمة وتعبر عن بواطنها وروحها الوطنية، بما يبعث في الأمة أمل الخلاص القادم المرتقب، وكانت الجماهير نفسها تستمع إلى الشعراء وكأنها تسمع وصايا السماء، وتردد أقوالهم وكأنها تبحث بين ثناياها عن عزمٍ متأصل يزيد الحركة تسارعا نحو الأمام.

لكن انكفاء المعادلات التحررية، وفشل المشاريع الوحدوية التي لم تكن جادة، وتفشي روح القطرية والمناطقية، وتلاشي وهج الحركات والدعوات القومية، وانتشار الصراعات المصلحية الدينية والمذهبية والسياسية، وتفشي ظاهرة التكفير والنبذ، زائدا عسف الحكام وجور السلطات، وتحكم النظم العشائرية والقيم البدوية، وتنامي الروح اللامبالية، وأشياء كثيرة أخرى، اشتركت كلها سوية لتُثبَّط عزائم الشعراء وتُقعدهم، وتُبعدهم عن معايشة الحدث والتأثير فيه.

ثم لما جاءت حركات الشباب فيما عرف باسم "الربيع العربي" التي تسببت في سقوط أنظمة حكم شمولية.. ونظم أخرى، تَسبَّبَ سقوطها غير التقليدي في تخريب تلك البلدان وتدمير بناها التحتية، وتحويل شعوبها إلى "ميليشيات" متقاتلة فيما بينها، وبدل أن تنتظر الأمة الفرج على يد المنقذ، جاء الرد القاسي على أيدي الحركات الإسلامية الراديكالية المتطرفة، وصولا إلى ولادة "القاعدة" و"داعش" و"الميليشيات"؛ الذي زادت الطين بلة، وزاد رقعة التخريب اتساعا، بدا من خلال ذلك المشهد المأساوي المعقد؛ الذي ضخمت بعض فقراته بشكل يفوق حقيقتها على أرض الواقع وكأن حركة الشعر أصابها الشلل الرعاشي، ربما بسبب القنوط والهزيمة النفسية أو بسبب الخوف، خوف الشعراء على أنفسهم وعوائلهم ومصالحهم، أو خوفهم من أن تترجم أقوالهم إلى غير مقاصدها، فيقعون تحت المسائلة، أو يُحسبون على هذه الفئة أو تلك، وهم ليسوا منها.

مع كل ذلك، ومع كل الإخفاقات الكبيرة التي تعرض لها واقعنا العربي، ولأننا نحن من خلق أسطورة "العنقاء" ورسم صورتها في المخيال الجمعي، بدا وكأن الأحداث تتجدد بوجوه أخرى، وكأن المعادلة انقلبت إلى الضد، فعاد الشعر ليرفع رأسه مثله مثل العنقاء التي تنهض من بين أنقاض الخراب ورماد الحرائق لتحلق في دنيا الدهشة، ربما لأن الشعر لم يتخل يوماً عن قضيته، والقضايا نفسها كانت وباستمرار بحاجة ماسة إلى الشعر لتستمد منه العزم والقوة، فكيف ينهزم ويترك الساحة فارغة، يجول في أرجائها أنصاف المتعلمين المدعومين من الحكام المتسلطين؟ ولأن لكل فعلٍ فعلٌ مساوٍ له بالمقدار ومخالفٌ له بالاتجاه، ولأن الشعر فعلٌ لم ينهزم من ساحة المنازلة في أي واقعةِ تحدٍ خاضها من قبل، كان متوقعاً أن جذوته لابد وأن تتقد من جديد إذا مسها شرر قبس من خير، وأنه لا بد أن يزمجرُ بصوتٍ رعدي مسموعٍ، لكن وفق هذه الثنائية المتعارضة، في هذا العالم الغرائبي، وفي زمن الانفتاح السيبراني الإلكتروني، وفي عصر انفتاح الكل على الكل، حتى بدا وكأن الإنسان انفتح على عوالم جديدة حولته إلى كائن كوني يمتد ولاؤه إلى العالم كله وليس لمجرد رقعة جغرافية اسمها الوطن، أو مجموعة بشرية أسمها الأمة، أصبح الحديث عن الوطن والأمة جزءً من الموروث الأساطيري البالي الذي يوصم بالتخيل والماورائية، وصار مجرد نكتة سمجة لا ترتاح لها الأسماع، ولا تطيق الألسن التحدث عنها أو نطقها، وبالتالي، تعني محاولة الشعر العودة إلى الحياة الواقعية، لا من خلال سطحية البروج العاجية الوهمية، ولكن من خلال قضية مصيرية؛ تبدو وكأنها مجازفة غير محسوبة النتائج، ويبدو فعل من يعمل على إيقاد جذوة الشعر عملاً مجازفاً مجنوناً لا يحسب للواقع حساباً، ولا يضع الأمور في نصابها. لكن رغم ذلك علمتنا التجارب أن الإنسان ابن شرعي للمخاطر، وما كان ليبقى كل هذه السنين صامدا لولا التجارب الخطرة التي خاضها عبر تاريخه الطويل، والتي توارث ألقها الأبناء عن أسلافهم، والمخاطر نفسها تُعلِّم الإنسان ـ إلى درجة الإدمان ـ على المجازفة، وتكرار المجازفة مرة ومرتين دونما التفات إلى النتائج غير المحسوبة أو غير المحسومة، فالمجازفة بحد ذاتها هي نتيجة حتمية لكل صاحب قضية يؤمن بعدالتها.

ولأني صاحب قضية، قدمت لها الكثير من سنين عمري، ولم أحصد سوى التعب والتقتير والسجن والتعذيب والتشريد والاختطاف والتهجير، فقد مارست حقي في أن أطبق بعض منهجياتها من خلال الشعر، لا الشعر التقليدي المتداول من خلال جلسات بائسة أو مؤتمرات بلا معنى، وإنما من خلال التجميع الانتقائي الذي يصب في هدف مباشر واحد، مثلما تتجمع الغدران الصغيرة لتصب في واد سحيق تتجمع فيه مياهها لتتحول إلى نهر عظيم، يشعر من خلاله جميع من شارك بكتابته وكأنه ملكا شخصيا له وحده، وكأن ذلك النهر الزاخر فاض بفعل مياه غديره التي غذت النهر بالحياة، وهذا يستفز رغبة التوحد الإنساني في النفوس، على خلاف التنافر العبثي الذي يتحكم بالحياة اليوم.

من هذه الحافات الناتئة والمنحدرات الخطيرة الصعبة، أطلقت مشروع (قصيدة وطن؛ رائية العرب) عام 2020، وخرجت بمحصلة لا شبيه لها في التاريخ من قبل، تمخضت عن صنع قصيدة بوزن واحد وبقافية واحدة، تتألف من (371) بيتا، اشترك بكتابتها (139) شاعرا من أغلب الأقطار العربية. وقد أثبت نجاح المغامرة أن روح الوحدة والألفة العربية التي تبدو ظاهرا في أسوأ أحوالها، كانت مجرد تصور موهوم ومغالط، ومجرد كذبة صلعاء، وخرافة روج لها أعداء الأمة الحاقدين عليها وعلى وحدتها، فجذوة الوحدة وروحها لا زالت تعتمل في نفوس العرب الشرفاء وضمائرهم الحية قولا وفعلا واعتقادا. ولكي انقض كل ترهات الأعداء وأثبت لهم خطأهم، كررت المحاولة، وخضت المجازفة مرة أخرى، فأطلقت عام 2021 مشروع قصيدة (جرح وطن؛ عينية الوجع العربي)، التي تألفت من (423) بيتا بنفس الوزن والقافية، كتبها (177) شاعرا من (17) دولة عربية، ولو كنا مددنا مدة استلام المشاركات لشهر آخر لكان العدد قد تضاعف، ولما تخلت أي دولة عربية عن شرف المشاركة.

في المشروع الثاني لم يكن نجاح المغامرة وحده ما جلب الأنظار بدهشة وغرابة فحسب، بل جاء عدد المشاركين في كتابة القصيدة وعدد البلدان التي جاءوا منها ليثت للعالم أجمع أن نهر الوحدة العربية لن يجف، ولن تنجح أي قوة في العالم مهما عتت وتجبرت في سرقة مياهه العذبة، وستبقى أمواجه زاخرة بالحياة والحب والإنسانية والعطاء، وهو الأمل الكبير الذي دفعنا لنجازف مرة أخرى في بداية عام 2023 لنطلق مشروع (هذا العراق) ولكن بشكل آخر يختلف من حيث البناء والأسلوبية عن المشروعين السابقين، وتتلخص فكرته في أن يشارك كل شاعر من شعراء الأمة العربية بكتابة مقطوعة من خمسة أبيات بالوزن والقافية التي يختارها، على أن يبدأ الشطر الأول من البيت الأول من المقطوعة بجملة "هذا العراق". ومع كل التردد الذي كان يعتمل في النفوس، والخوف من ضعف الاستجابة، كان الأمل بصدق مشاعر أبناء الأمة تجاه أمتهم حافزا ودافعا قويا منحنا جرأة لا محدودة، بدأت تحقق مكاسبها مع وصول أولى المشاركات التي وردت إلينا تحمل الفرح، ثم سرعان ما تبنت بعض المنتديات الثقافية والمواقع الأدبية الترويج للفكرة؛ التي ما إن وصلت للشعراء العرب الجادين حتى بدأوا بأنفسهم يروجون للفكرة بين أصدقائهم ومعارفهم ومن على صفحاتهم في الفيسبوك، لتتحول قطرات الرّذاذ الصغيرة التي بلت طمعنا في بداية الأمر إلى طل، ثم رّش، ثم دّيم، ثم غيث، وسرعان ما تحولت إلى وابل شديد، فاضت بخيره صفحات الأمل الصادق، فكان هذا الكتاب دليلا على عمق علاقة العرب ببعضهم رغم المحن، ومقدار حبي أنا بالذات لأمتي العربية وللعراق الذي لا يقاس بالمقاييس المعروفة، العراق الذي أبدأ مع شروق شمس كل يوم جديدة بالتوضؤ بنوره، مرددا دعاء الوطنية الخالد: سيدي العراق إن أحلى سنين العمر تلك التي عشقتك فيها، ولأني لا زلت أعشقك إلى الآن أكثر من كل شيء، وأكثر من أي وقت مضى، فذلك يعني أن سنين عمري لا زالت حلوة، فأنا حينما تشعر روحي بالجفاف، ويهبُّ في أرجائها غبار الفوضى، أبلها بجميل ذكريات لقاك المتجددة في صباحاتك العذبة ، فيهطل الحب مدرارا، وتورق كروم سنيني، وتحلق النوارس في مديات عمري، تصدح بما هو آت من سعادات، فأتنشق نسائم الربيع ربيعا، وتغرق مشاعري ببحر حبك، وأهيم في فيض وجدك، حتى تتصابى سنين عمري الموغلة في القدم، وأرى بياض شعري والشيب الذي يكلل رأسي كتاب تجارب ملحمية تغفو بين طياته كل بقايا أمسي الذي تضمخ بطيب ترابك، وكلها مجرد غيوم صيف تدفعهن نسماتك العذبة إلى دنيا المشاعر، ليعربد الشوق في جنبات قلبي سكرانا من دون خمر، فعشقك هو خمري وصحوتي ويقيني، أنت يا كل العمر، يا أحلى سنيني.

بعد هذه التأملات أعود وأكرر طرح السؤال الذي طرح عليَّ: لماذا الشعر؟ وهل حقا أن الشعر الذي نجح قديما في أداء أكبر وأخطر مهام التاريخ ممكن أن ينجح اليوم في أداء المهمة نفسها، وبنفس الكفاءة والقدرة والقوة؟

وللبيان والتوضيح، أقول: انضوى العدد الخامس؛ كانون الأول 2022 من مجلة أوراق مجمعية التي يصدرها المجمع العلمي العراقي، وهو عدد خاص عن العربية بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية، انضوى على عدة مواضيع، تكلمت عن سوق عكاظ كظاهرة فنية ولغوية، ولأن سوق عكاظ كان في ظاهره مجرد ساحة يتبارى فيها الشعراء العرب بسلاح الشعر للفوز بالفحولة والصيت والسمعة والمركز، فذلك لا يمثل كل الحقيقة، الحقيقة تكلم عنها الأستاذ الدكتور إيـاد إبراهيم الباوي في موضوعه المعنون "قدسية عكاظ في الجاهلية والإسلام" المنشور في الصفحة 34 وما بعدها، وهي أن عكاظ الملتقى، كان يقام في ناحيـة مـن نواحـي مكـة عـلى مقربــة مــن الطائــف كل عــام، في موعــده الــذي تواضعتــه العــرب، على أرض تســمى "الأثيـداء"، ويستمر عـلى مـدى عشريـن يومــا الأولى مــن أيــام شهر ذي القعــدة كواحدة من الشعائر الدينية التي توارثتها العرب استعدادا لحج البيت، إذ كانوا يبدئون رحلـة حجـهم انطلاقـا مـن هذا السـوق باتجـاه سـوقي "ذي المجنـة" و"ذي المجـاز"، فهـذه الأسـواق هـي المواقيـت الشرعية لأهل الجاهلية، بـل تشـبه إلى حـد كبير تلـك المواضع التســعة (المواقيــت) التــي حددهــا الإســلام لمــن أراد أن يُحـْـرِم للحــج والعمــرة. ويعني هذا أن عكاظ لم يكن مجرد ساحة للتسابق شعرا، وإنما كان ميقاتا للحج الجاهلي.! وأن يتزامن مهرجان الشعر مع شعيرة دينية لها مكانتها وقدسيتها في النفوس، فذلك يعني أن للشعر منزلة ترقى إلى مستوى التقديس، وهذه حقيقة غائبة قلما التفت الباحثون إليها وإلى دلالاتها العميقة والوجدانية.

هذه القدسية لم تفقد ألقها حتى في زمن البعثة، بل وظفت لنصرة الدين الجديد، ومن ثم وظفها الحكام والسياسيون لدعم قضاياهم ومشاريعهم ومراكزهم ومناصبهم، ومن ثم متعهم وأنسهم وعبثهم، لكن قدسيتها بقيت تتحكم بها، فكم من مرة أصبحت سلاحا بيد المعارضين تنتهك خصوصيات السلطان وتقلق باله. هذه القدسية استمرت صفة غالبة للشعر الحقيقي، وهي اليوم بنفس ألقها الماضي، وسوف تستمر إلى الأبد، حيث يبقى الشعر متعة وسلاحا.

أما خصوصية موضوع هذا الكتاب؛ الذي انصب على نصرة العراق ظاهراً، من خلال جملة (هذا العراق) التي زينت بدايات جميع المشاركات، فهي لا تعني بالضرورة تقديم العراق على غيره، ولا تحيزا له، فأنا من خلال دعوتي، لم أطلب نصرة العراق وحده، بل طلبت نصرة الهوية المشتركة التي تجمعنا نحن الكل، لأن نصرة الجزء تدعم نصرة الكل، ولأن العراق جزءٌ من أمة حية، بمجموع بلدانها تمثل حائطا بني بحجارة التاريخ ليقف بوجه كل الأطماع مهما كانت هويتها، وأي حجر يضعف أو يتآكل أو يقع من هذا الحائط قد يودي به إلى التصدع والانهيار والسقوط، فإن لم يسقطه فإنه سيفقده متانته وقوته ويضعفه، بل إن مجرد سقوط حجر منه مهما كان صغيرا سوف يترك ثغرة تدخل من خلالها الرياح المسمومة الشريرة التي تريد به وبأهله السوء. الحائط نفسه عليه أن يحرص على سلامة أحجاره لأنه بحاجة إليها، مثلما على كل حجر منها أن يحرص على علاقاته بباقي الأحجار، لأنه هو الآخر بحاجة إليها، لكيلا تتخلخل موازنة الحائط ويصيبه الوهن، وهذا يعني أن نصرة الشعراء للعراق هي نصرة للأمة كلها وللوطن الكبير كله، ولكل بلد من بلدانه، وهذا هو المفهوم الحقيقي لقوة التماسك وتماسك القوة التي ندعو إليه بعد أن تأزمت أمور حياتنا بسبب هجمات الأعداء ومؤامرات الحاقدين في الداخل والخارج، وتفتت عرى التآلف بين إنساننا العربي هنا وهناك، إلى درجة احتقار الهوية والبحث عن هوايات جامعة أخرى لا أصول لها.

سؤال آخر يأتي عادة مكملا للسؤال الأول طالما سمعته من زملائي وأصدقائي والمحيطين بي حينما كنا نتحدث عن هذا المشروع: لماذا العراق؛ الذي تعرض إلى عسف وجور بعض إخوته، يتبنى فكرة الدعوة للوحدة؟

لماذا العراق؟ لأن العراق يا سادتي هو الأصل والجوهر، فهو كان موطن الرؤية الحضرية الإنسانية الأولى، وموطن الابتكارات الإنسانية الأولى، فيه نشأت أولى المدن في التاريخ، وعلى أرضه قامت أولى حضارات الإنسانية، وفيه عرف الإنسان الحرف والكتابة والعجلة لأول مرة، وفي شرائعه سنت أولى القوانين التي نظمت حياة الناس، وعزفت قيثاراته الذهبية أناشيد الأمل لتسمع البشرية سحر الموسيقى لأول مرة في حياتها، وفي أجوائه شعت الحكمة والأدب والفلسفة والتنوير، فشكلت بمجموعها سلسلة من التناقل الحضاري العراقية التي لم تنقطع عبر التاريخ، فقد كان العراق سباقا لصنع الأفذاذ من القادة والباحثين والمفكرين والعلماء واللغويين والأدباء والفنانين، ولم تخل أي حقبة بما فيها الحقب السوداء المظلمة من وجود مثل هؤلاء العظماء على أرضه، بما فيهم العلماء الأعلام الذين لا زالت علومهم ترفد الإنسانية بقواعد علومها المتجددة، والشعراء العظماء الذين لا زالت قصائدهم تسحر السامع وتطرب الماتع.

ومن أرض العراق خرجت كل علوم اللغة والعروض والبيان والبلاغة والنقد، فقواعد نحو لغة العرب وضعها العراقي أبو الأسود الدؤلي، وعلم عروض وبحور شعر الأمة العربية وضعها العراقي الخليل بن أحمد الفراهيدي، ومن خلال الجمع بين النحو والعروض ولدت طبقة فحول شعراء الأمة ولغوييها الخالدين الجاحظ والأصمعي وسيبويه وابن جني وابن مالك والمبرد والجرجاني وبشار بن برد وأبو العتاهية والفرزدق وأبو نوأس والمتنبي واليشكري وصفي الدين الحلي والجواهري وعبد المحسن الكاظمي ومحمد صالح بحر العلوم والزهاوي والرصافي والسياب ونازك الملائكة وعبد الرزاق عبد الواحد وكثيرون غيرهم. وبلد كالعراق هو جوهرة البلاد حري به أن يتصدر الدنيا كلها وليس العالم العربي وحده، لتكون دعواته انتصارا للإنسانية، كل الإنسانية، وليكون الشعر هو وسيلة وآلية دعوته للوحدة، ذلك لأن حتى أشجار النخيل في العراق تقول الشعر، ومن جني رطبها انمازت أشعار العراقيين بالحلاوة والطلاوة والعذوبة والجمال، فشعت أنوار الإبهار إلى العالم، ليتحول شعر العرب إلى تميمة تشع أنوارا في ظلمات ومخاطر الطريق، طريق أمة يريد الأعداء أن يطفئوا وهج نورها، وتأبى إلا أن تكون القائدة. ولذا لا غرابة أن تنبعث مشاريع الدعوة للوحدة من خلال الشعر من العراق دون غيره من البلدان العربية، وهذا ليس مصادرة لحق أحد! ولا غرابة أن يستجيب شعراء الأمة لهذه الدعوات فيردوا عليها بأحسن منها شعرا يفيض عذوبة وجمالا ومشاعر حب وود.

وأقول في ختام حديثي: إن ما تؤسس له هذه المشاريع الشعرية البنائية المشتركة؛ التي لا سابق لها في التاريخ كله، لا بين العرب وحدهم، بل حتى في البلدان والشعوب الأخرى، هو شيء أكبر من الشعر نفسه، وفيه دلالات على أن للإنسان القدرة على خلق المعجزات التي تدهش الرائي وتسر الناظر وتجبر الخاطر، وتفعل في جسد الأمة مثل فعل الدواء المقوي في الجسد المنهك المريض. والذي أرجوه وآمله أن تحفز مشاريعنا هذه جميع شعراء الأمة، ليبادروا إلى استنباط موضوعات جديدة على غرارها، وأن يسهموا في رفد المشاريع الجديدة المقترحة بأشعارهم الرائعة، فذلك لا يقوي أواصر الإخوة والصداقة بينهم فحسب، بل ويسهم في الترويج لقضايانا الوطنية، ويعمل على إعادة الاعتبار للشعر العمودي بعد أن تعرض إلى ضغوط شديدة، حدَّت من أثره في الحياة، إلى درجة استهجان بعضهم لمجرد سماعه أو التحدث عنه.

***

الدكتور صالح الطائي

عادة ما يؤدي النقد في الحياة الادبية والثقافة، وما إليهما، دورًا رياديًا يُساهم في تصويب المسيرة وتسديد الخطى، ويلفت النظر، عبر منظار من الماس، إلى أمر، أو أمور غابت عن أصحابها، وكان أجدر بهم الالتفات إليها، لتأتي أعمالهم وممارساتهم أيضًا، أكثر تكاملًا ولياقة. لهذا يُطلب من الناقد أن يكون مُثقفًا مُطلعًا ليقوم بدوره على أكمل وجوهه، وليقدم مساهمته في التقدم والازدهار المنشودين.. دائمًا وابدًا.

الناقد الثقافي والادبي بهذا المعنى يُعتبر ضرورة حياتية لا بد~ منها، لفتًا لما غاب وانبغى أن يكون حاضرًا، ومساهمة في تطورٍ نشده الجميعُ فغاب عن بعضهم وحضر لدى بعضهم الآخر، ومِن المهام الكبيرة التي يقوم بها الناقد الحق، مَهمة المساهمة في الجدل القائم بلورةً لمفهوم أو مفاهيم جديدة عادة ما تحتاج إليها الحياة بشتى مناحيها واتجاهاتها.

من تجارب نقدية سابقة سجّلت نجاحات مشهودة، يمكننا الاشارة إلى المواصفات التالية التي امتاز بها نقاد رياديون في الحياة عامة وفي حياتنا العربية خاصة.

1- تحمّل المسؤولية: أثبتت تجارب الماضيين البعيد والقريب، أن النقاد الحقيقيين، يتحملون مسؤوليتهم تجاه مجتمعاتهم كاملة، ولم يتردّدوا في قول كلمة حق، وانهم قالوا للأعور أنت أعور في عينه ولم يكتفوا بالمقولة التمويهية أنت نصف مبصر. ومن المعروف أن هؤلاء خسروا أحيانًا في قولهم كلمة الحق التي رأوها حاجة ملحة للتقدم والتطور، غير عابئين بالخسارة الآنية ومتطلّعين إلى الربح الابدي. وقد ذكر الناقد اللبناني الفذ مارون عبود في أكثر من مناسبة أنه خسر الكثير من أصدقائه عندما وجّه إليهم سهام انتقاداته، إلا أنه ربح ضميره. وقد استمعت إلى مثل هذا الكلام من الصديق الراحل الكاتب عيسى لوباني الذي اعتبره الكثيرون تلميذًا مجتهدًا لمارون عبود أو احد تلامذة مدرسته على الاقل. الناقد بهذا المعنى لا يقف موقف المتفرّج مما يعاني منه مجتمعه من مثالب، نواقص وسيئات، وإنما يتخذ موقفه الذي تبرع به ويساهم في المسيرة الصعبة. لا سيما عندما تزداد الظلمة المحيطة بها. إنه بهذا المعنى أشبه ما يكون بذاك البدر الذي تحدّث الشاعر عن الافتقاد إليه في الليلة الظلماء. وهو إنسان مسؤول قرّر ألا يكتفي بموقف المتفرج وخاض المعركة واضعًا في حسابه الربح او الخسارة.

2- الثقافة والمنطق: يحتاج الناقد والحالة هذه إلى ثقافة واطلاع واسعين، والا كيف يمكنه المساهمة في تسديد الخطى وتوجيهها إلى اهدافها المنشودة، وسط سديم كوني صعب الاختراق؟ وتزداد الحاجة إلى مثل هكذا ناقد كلّما ادلهمت سماء الثقافة وتعقدت أمور الحياة، ونشير في هذا السياق إلى تجربة المثقف اللبناني الرائع الراحل رياض نجيب الريس فقد بادر بعد مغادرته لبنانه للإقامة في مُغتربه اللندني لإصدار مجلة أطلق عليها اسم " الناقد"، وقد أدت هذه المجلة دورًا هامًا ورياديًا في تطوّر العديد من الرؤى والممارسات الادبية والثقافية، فلتطب ذكراه.

3- الأخلاق: يحتاج الناقد الجدير بهذه الصفة للتحلّي بمواصفات خُلقية أهمها الصدق والتوجّه المبني على منهجية، تنطلق من نُشدان الحقيقية الخالصة، مهما كلفه الامر من خسارة آنية، ونحن نتقاطع هنا مع ما قاله المثقف الفلسطيني البارز ادوارد سعيد طابت ذكراه، فقد وصف المثقف الحقيقي بأنه مشروع لقديس أو شهيد، يحمل روحه على كفه ولا يهاب الردى، بقدر ما ينشد حياة تسر الصديق. الناقد عندما يتحلّى بمثل هكذا خلق يتعالى عن نزواته الشخصية ويحاول الارتقاء إلى ملكوت الحقيقة، إنه يترفّع عن دنايا الامور ويرنو إلى آفاقها العليين. ولا يضع في حسابه سوى الحقيقة الصافية، بالطبع كما يراها من زاويته ومنطلقة المتين القائم على أرض معرفية لا تميد.

مُجمل الرأي ان الناقد الحق هو ذاك الانسان المسؤول المثقف ذو الاخلاق الرفيعة الذي آل على نفسه اتخاذ موقفه وموقعه، في دعم المسيرة الحياتية بشتى أبعادها، مؤثرًا موقف المشارك على زاوية المتفرج... ولامعًا مثل بدر في ليلة ظلماء.. شديدة الحلكة.

***

ناجي ظاهر

القصة من الأجناس الأدبية التي تسْتهوي الكثيرُ من القُــرَّاء الذين يأْسرُهم هذا النوعُ من النصوص الحكائية، فيجدون فيه المتعة، والفائدة؛ بل يميلُ الكثيرُ من هُـوّاة المطالعة لقراءة القصة ويستهويهم هذا الفنُّ، لما يتضمَّنه من الإثارة، والتشويق، والسّحر الأدبي الجذَّاب.

إن لقراءة القصة من جَـمِّ الإفادة المعرفية، واللغوية، والأسلوبية، والمتعة؛ لأن القصة أيضًا قد تكون أسلوبًا تربويٌّا ودعويًّا، قد انتهجه الرسل، والأنبياء في الدعوة إلى الله سبحانه؛ يقول تعالى: ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾. [الأعراف/ 176].

وذلك لــما تحمله القصص من العبر، والأحداث الواقعية التي تُجسِّد الحياة، وتُقرِّبها للأذهان وُتذلِّل فهمها، وتخــتصر الكثير من الشرح، والتبسيط الذي يكون فيه الحديث مباشرًا وعْــظيًّا، قد لا يؤتي ثمرته. وقراءة القصة أيضًا تُنمِّي المدارك العقلية، فقد أثبتَت الدراسات أن القصة تخصب الخيال وتُثريه، وبالتالي تُعطي مرونةً للتفكير، وتزيد من القدرة على الإبداع، فتُنشِّط الذاكرة بسبب حفظ أحداثها ونمط الشخصيات وعلاقتها بعضها ببعض.

في هذا الشّأْن صدر أخيرا عن دار " سامي" للطباعة والنشر والتوزيع بالوادي كتابٌ بعنوان:

{من أرْوع القصص.. في التحفيز والتغيير والسعادة والنجاح} للدكتور الإعلامي السابق في قناة الجزيرة، والأستاذ الجامعي حاليا في جامعة الشهيد حمة لخضر بالوادي. الطاهر اعمارة الأدغم.

الكتاب من الحجم المتوسط في 141 صفحة، تضمّنت إضافة إلى الإهداء والمقدّمة 60 نصًّا قصصيًّا اختارها، وحرّرها المؤلف الدكتور الطاهر الأدغم، مَــحْورها في سبعة محاور:

1 ــ في الحبّ والإحساس والتقدير.

2 ـــ في القوّة الذّاتية والنجاح.

3 ـــ في المهارات والتخطيط والأهداف

4 ـــ في الإيجابية.

5 ـــ في التغيير.

6 ـــ أنا وأنت والآخر.

7 ـــ في الرضا والسعادة.

من مُقدِّمة الكتاب:

«... القصة حاضرة في مسيرة حياتنا، فتقابلُنا، ونحن نقرأ هنا وهناك، ونحن نتحدّثُ مع الآخرين، ونستمع إلى الكبار، وأصحاب الخبرة، والتجربة، وحتى الصغار، وهم يعبّرون ببساطة وعفوية عن قصص، وحكايات، وخيالات.

وفي هذا الكتاب عددٌ مُعْتبرٌ من القصص المتنوِّعة ..60 قصة قرأتُ بعضها في الكتب، واستمعْتُ إلى عددٍ آخر من المحاضرين التحفيزيين، وغيرهم، وتابعْتُ قسْمًا منها عبْر مواقع التواصل الاجتماعي. ثمّ عزمْتُ على جمْعها في كتاب مع شيء من الحذْف، والتهذيب، والزيادة، والإثراء؛ ثم إعادة الصياغة والتصرّف في بعض المصطلحات، والمُسمّيات؛ فعددٌ من هذه القصص وصل إلينا من بيئات ثقافية أخرى؛ ومن ثمّ قد تحتاج إلى تقريب، أو تعديلٍ لِتُناسب ثقافتنا، وقيمنا، وموروثنا الاجتماعي. ص: 05

نماذج قصصية من الكتاب:

ــــ 1000 ألف دولار فقط

{وفي غمرة الفرحة بادر القبطان إلى سؤال الرجل عن أجرته؟

فأجاب: 1000 دولار فقط..

فاستغرب القبطان من هذه الأجرة العالية.. وصرخ في وجه الرجل:

ــــ 1000 دولار مقابل عدّة طَرَقات بمطرقة صغيرة على المحرّك.. وردّ الرجل بابتسامة، وثقة:

ــــ دولارٌ واحدٌ مقابل ضربات المطرقة و 99 دولار مقابل المهارة.}

المتسوّل والاستراتيجية

كان يجلس على رصيف طريق عامٍّ ..يضع أمامه لوحة كُتب عليها:

(أنا ضريرٌ ..أنا فاقدٌ للبصر).

ورغم ذلك لا يكسب من جلسته تلك إلّا القليل من عطايا الناس..عددٌ محدودٌ  من المارّة يهتمّون به، وبشأنه..

في يوم من الأيام مرّ به أحدُ خبراء الدعاية، والتسويق، فأشفق عليه، وتأثّر لحالته..يجلس ساعات عديدة ليكسب دراهم معدودة.. جلسة مرهقة لا يجني منها العائد المناسب. أخذ خبيرُ الدعاية اللوحةَ التي كانت أمام الضرير المتسوّل، وكتب عليها من جديد:

(نحن في فصل الربيع لكننا لا نستطيع رؤية جماله..)

ووضع اللوحة، وانصرف لحال سبيله دون أن يتحدّث مع المتسوّل. ولمّا عاد  الخبير في يوم آخر، ومشى من الطريق نفسها لاحظ أن العطايا التي يقدّمُها المارّة للمتسوّل زادت بقيمة أكبر.

وهكذا ودون الإشادة بالتسوّل مهما كانت الأسباب، والضرورات، نُدْرِكُ بوضوحٍ:

{تغيير الاستراتيجية = تغيير مجْرى الحياة}

قصص جميلة، ماتعة مُحمّلة بتجارب وخبرات استراتيجية تُحفّز على: تغيير مسار الحياة إلى الأفضل، كما التحفيز لتحقيق النجاح والسعادة.

قصص أتت من إعلاميّ سابقٍ متميّزٍ، وباحث أكاديميٍّ جامعيٍّ، ومؤلِّفٍ قدير صدرت له عديد الأعمال، منها:

1ــ قضايا عربية. 2 ـــ قضايا دولية. قضايا سوفية. 4 الفرعونية: تجلّيات معاصرة.5 ــ دندنات ثورية.6 ـــ دندنات ديمقراطية.

***

كتب: بشير خلف

هي سياحة حديثة نسبيا بالمقارنة مع أنواع وأشكال السياحة الأخرى، وقليلة التناول في الادبيات السياحية العربية، وهي أيضا من أنماط السياحة المستدامة التي نشأت في السبعينيات من القرن الماضي، وتأتي في اطار الاقتصاد منخفض الكربون – الاقتصاد منزوع الكربون – الاقتصاد منخفض الوقود الاحفوري – اقتصاد ما بعد الكربون . وتشير (السياحة منخفضة الكربون) إلى تلك السياحة التي تساهم بأقل قدر ممكن من انبعاثات الغازات الدفيئة المسببة للاحتباس الحراري – الاحترار العالمي وتغير المناخ والمعروفة أيضا ب (غازات الصوبة الخضراء) أو (غازات الاحتباس الحراري) من (ثاني أكسيد الكربون والميثان وأكسيد النيتروز والكلورفلوركربون وبخار الماء والأوزون) . وهي انبعاثات سجلت قفزة عالية منذ عام 1999 وبنسبة (45) في المائة وفقا للأمم المتحدة . ويتم ذلك بالعمل على محايدة انبعاثات الكربون من قبل وكلاء السفر والشركات السياحية في حدود الإمكان، وتخفيض الأثر السلبي للسفر على البيئة الطبيعية – المحيط الحيوي، باستخدام وسائل النقل الخضراء (السفر المستدام) مثل الباصات والسيارات  الكهربائية منعدمة الانبعاثات والدراجات الهوائية، واعتماد البرامج السياحية الخضراء التي تتضمن المشي وركوب العربات التي تجرها الحيوانات ومنع التدخين واشعال النيران في مناطق التخييم وأماكن التنزه الغابية (الغابات = مصائد الكربون – بالوعات أو مستودعات الكربون) منعا للحرائق وارتياد المطاعم التي تقدم وجبات طعام وطنية معدة من مواد منتجة محليا بالطرق التقليدية وغيرها، وقيام شركات النقل الجوي بمعادلة انبعاثات الكربون وتخفيض بصمته (بصمة الكربون = البصمة الكربونية)، وزيادة كفاءة استخدام الطاقة والمياه وترشيد استخدامها في المنشآت والمرافق السياحية بمختلف أنواعها وتبني اتجاهات وممارسات خضراء باستخدام مصادر الطاقة البديلة – المتجددة، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والطاقة الكهرومائية والحرارة الجوفية، لضمان الاستدامة البيئية والاقتصادية، فكان ظهور: (الرحلات منخفضة الكربون) و(السفر الواعي أخلاقيا)  و(السفر منخفض الكربون) و(المنتجات السياحية منخفضة الكربون) و(السفر المحايد لناحية الكربون) و(العطل منخفضة الكربون) و(الوجبات السياحية منخفضة الكربون) و(السلوك السياحي منخفض الكربون) و(قطاع السياحة والسفر منخفض الكربون) و(الفنادق منخفضة الكربون) و(المقاصد السياحية منخفضة الكربون) و(وجبات الطعام منخفضة الكربون) و(المشروبات منخفضة الكربون) .

وهي سياحة ظهرت وتنامت في السنوات الأخيرة، وانتشرت ثقافتها لدى أصحاب المشاريع السياحية (المنتجون) والسياح (المستهلكون) بتزايد الوعي بقيمة التراث الطبيعي لكوكبنا، وبأهمية البيئة الطبيعية الزاخرة بالأحياء البرية الحيوانية والنباتية والنظم الايكولوجية والتنوع الحيوي (الايكولوجي)، والتي تواجه الكثير من المخاطر والتحديات في ظل تفاقم كارثة التحولات المناخية وتزايد مخاطر الاحتباس الحراري على كوكب الأرض التي تشكل هاجسا حقيقيا للكثير من الحكومات والعلماء ومئات الملايين من سكان هذا الكوكب .

علما تساهم صناعة السياحة على مستوى العالم ب (5 %) من الانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري، وهي ناجمة عن البيوت الزجاجية (الدفيئات) المتمخضة عن الرحلات والاقامات لأغراض السياحة، ومعظمها (أي الانبعاثات) متأتى من أعمال النقل الجوي بالطائرات وبنسبة (40 %)، و(32 %) من النقل البري بالقطارات والباصات والسيارات ... الخ . و(3 %) من بقية أنواع النقل (السفن السياحية – الكروز .. الخ)، أي ما مجموعه (75 %) لعموم النقل بهدف السياحة . أما ال (25 %) من الانبعاثات التي تولدها صناعة السياحة فهي عن بقية النشاطات والاعمال المرتبطة بالايواء (الفنادق والمنتجعات) والطعام والشراب (المطاعم والمقاهي) والترفيه والاستجمام (مدن الملاهي والمدن المائية) وغيرها وفقا لدراسة أعدتها (منظمة السياحة العالمية) التابعة لمنظمة الأمم المتحدة بالتعاون مع (المنتدى الاقتصادي العالمي) و(منظمة الطيران المدني الدولية) و(برنامج الأمم المتحدة للبيئة)، وأصدرتها في شهر حزيران 2009 تحت عنوان (نحو سفر منخفض الكربون وقطاع السياحة) . وبحسب بحث حديث ل (دانيال سكوت وستيفن غوسلينغ وبأول بيترس وكولن مايكل هول) نشر في دورية (السياحة المستدامة 2015) فان استمرار السياحة الدولية على هذه الوتيرة يعني إيصال الانبعاثات التي تسبب بها إلى ثلاثة مليارات طن بحلول 2050، مسجلة بذلك زيادة بنسبة (135) في المائة بالمقارنة مع الانبعاثات الحالية، مع ضرورة الاخذ بعين الاعتبار الانبعاثات الصادرة عن الكثير من القطاعات والنشاطات الاقتصادية التي ترتبط بقطاع السياحة والسفر بعلاقات تكاملية وتبادلية . وهناك دول شهدت ممارسات وتطبيقات رائدة في مجال السياحة منخفضة الكربون في اطار الاستدامة البيئية والاقتصادية والاجتماعية، ومنها تايلاند في (كوه ماك) و(كوه ساموي) و(كوه تشانج) و(كوه كوت) التي تعتبر وجهات سياحية مثالية لممارسة السياحة منخفضة الكربون، ومملكة بوتان التي أطلقت مشروعا سياحيا منخفض الكربون في شباط 2012 ولمدة ثلاث سنوات ونصف وبتمويل من الاتحاد الأوروبي، بهدف استحداث حزمة سياحية منخفضة الكربون وتسويقها عالميا، وتتكون من (20) منتج سياحي مبتكر منخفض الكربون، وقد جرى اطلاقها في بورصة برلين الدولية للسياحة في دورتها ال (49 / 2015) .

وأيضا استراليا في الجبال الزرقاء (نيو ساوث ويلز)، والصين في منتزه شيشي الوطني للأراضي الرطبة ومنتزه ولينغيوان القومي، ومونتينيغرو (الجبل الأسود) التي تبنت برنامج فعال في سبيل محايدة الكربون في القطاع السياحي وبدعم وتمويل من (مرفق البيئة العالمي) و(برنامج الأمم المتحدة الإنمائي) وبقيمة (3424000) مليون دولار امريكي، وقد شهدت خلال الفترة 9 – 10 تشرين الأول 2015 انعقاد أول مؤتمر للسياحة منخفضة الكربون تحت رعاية مركز التنمية المستدامة / برنامج الأمم المتحدة الإنمائي .

***

بنيامين يوخنا دانيال

.....................

للمزيد من المعلومات ينظر (السياحة منخفضة الكربون: مقالات وبيبليوغرافيا) للباحث، مطبعة بيشوا، أربيل – العراق 2017 .

 

يمكن للإنسان أن يدخل قلوب الآخرين دون أن ينطق بكلمة واحدة، إذ يكفيه سلوكه الناطق بالصفات الكريمة والأخلاق الحميدة.

الأخلاق الحسنة هي الشيء الوحيد الدائم إلى الأبد وتجلب لصاحبها الاحترام والمحبّة، فالأخلاق هي الرصيد الباقي عند الناس، فإنه بتحسين الخلق نكن أغنى الأغنياء ..

الاحترام وسمو الأخلاق تواضع ورفعة وحكمة وإنصاف وعفو، أيضاً كتمان السر والتقوى والصدق والعفة

وإعطاء السائل والمكافأة بالصنائع وصلة الرحم العفاف وإصلاح الحال وإعانة الجيران جميعها دلالات دالة على حسن الخلق ..

فإن مكارم الأخلاق ومحاسنها وصلاً بيننا وبين صلاح أمرنا ورشدنا، فمن ادعى الفضل ناقص، إن المرء بالأخلاق يسمو ذكره وبها يُُفضّل في الورى ويوقّر، المرء بأصغريه: قلبه ولسانه، وبأخلاقه يسمو ذكره ..

التبسُم في وجه الآخرين صدقة وتفاؤل ورحمة، فإن حسن الخلق يذيب الخطايا ويّوجب المودّة، فإن خير الناس للناس خيرهم لنفسه، فمَن فرح للناس بالخير ومَن كان خير لأهله ..

الأخلاق بأن تكون صالحاً لشئ ما، مثل الإنسانية والسعي في الرزق والإخلاص والتقوى والمحبة والوفاء والصفاء، فالتربية الخلقيّة أهم للإنسان من الخبز والملبس وإصلاح الأخلاق ومرافقة الأخيار أول الطريق، فإصلاح الأمر بالأخلاق مرجعه وتقويم النفس بالأخلاق تستقم.

إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا. إن الشريف إذا تَقوَّى تواضع، والوضيع إذا تَقوَّى تكبّر، والعتاب خير من الحقد، والعفو عند المقدرة يصلح الكريم ويفسد اللئيم، إن القدوة الحسنة خير من النصيحة وخير من الوصيّة والقناعة كنز لا يفنى ..

فَمَن تواضع لله رفعه ومَنْ حسن خُلُقُه استراح وأراح، ومَنْ حسن خُلقُه وجب حقُّه. فَمَن شَبَّ على شيء شاب عليه ومَنْ عرف نفسه عرف ربه، ومَنْ لم يقنع باليسير لم يكتف بالكثير. فما يجب عليه غض البصر و ترْك كل إنسان ما لا يعنيه ..

***

منى فتحي حامد - مصر

تعودت أن أشتري خبز  الصباح من عند نفس الخباز وأنا في طريقي لإيصال أولادي إلى مدارسهم .

خباز من القلائل  الذين  يتقنون الخبز في أيامنا.

ومع انتهاء العام الدراسي تخليت عن سلك نفس الطريق وتخليت بذلك عن وفائي لنفس البائع. أصبحت أسلك طريقا مغايرا  يوصلني إلى العمل في أقصر وقت. صرت أقتني الخبز من أي بائع ألمحه بالصدفة.كان الطعم غير الطعم وكان مذاق الخبز يختلف كل يوم من سيء إلى أسوأ.

تساءلت لماذا يضطرنا سلوك طريق مختلف لصباحاتنا إلى التخلي عما يستحق الوفاء؟

قد يجيب من لا يهمه طعم الإجابات"إنها الظروف" وقد يجيب من يجهد  ذهنه في المسببات إنه الإنسان "أحادي الاتجاهات"، ضيع حب الوصول لديه كل المذاقات.

ولكن، أليس الطريق هو الدرب الذي نمشي عليه لكي نصل الي ما نريد؟

أحيانا نمشي في طريق توصلنا إلى ما نريد.  

وأحيانا أخرى نضطر إلى تغيير الطريق  فلا نظفر سوى بما يسد رمقنا دون أن يكون له مذاق الخبز اللذيذ.

نحن قليلا ما نبذل الجهد والعناء لنحافظ على درب  كنا نتذوق من خلاله ونستطعم، مأخوذون بفكرة الوصول.

 لكن كيف يكون الوصول عندما يكون بلا طعم؟

"فكرة الهدف، ‏أن تؤخذ بها، يفوتك الزهر على الدرب وشدو الطير وجمال رنّات خطواتك ، الهدف يسرق منك النزهة ولا يمنحك ذاته.." يقول الشاعر اللبناني وديع سعادة.

***

درصاف بندحر - تونس

 

ظلّ الأدب العربيّ المنطوق والمكتوب باللّسان اليوميّ على هامش الأدب العربيّ الفصيح  بالرّغم من إبداعاته الزّاخرة بالقيم الفنيّة والاِجتماعية إنّه أدب الحياة في أدقّ تفاصيلها النابضة بالشّجون والمعاناة

من آخر ما سمعت من القصائد قصيدة - البالة - للشاعر عبد الحكيم زرير في نادي القراءة بجمعية ابن عرفة وهي قصيدة من الشعر التونسي باللغة اليومية وـ البالة ـ كلمة سائرة على اللسان التونسي وهي كلمة مشتقة من أصلها الفرنسي من فعل emballer وتعني ذلك الكيس الذي يلفون فيه الثياب المستعملة والتي أصبحت أكوامها منشورة في كامل أسواق البلاد وغزت حتى الساحات والشوارع الرئيسية في العاصمة تونس حيث تسمع الباعة ينادون بأعلى الأصوات - م البالة ..م البالة…م البالة…أي أن هذه الثياب حضرت للتوّ فترى القوم رجالا ونساء وشبابا مقبلين عليها يتفحّصونها ويختارون ما يناسبهم من مختلف قطع الملابس وأنواعها من الحذاء إلى القبعات ومن الثياب الداخلية إلى المعاطف ومن الحقائب إلى النظّارات وقد يظفر أحدهم أحيانا بقطع من الملابس جديدة لم تستعمل أبدا وعلامة المحلّ أو المصنع ما تزال مثبّتة عليها .

الشاعر عبد الحكيم زرير نقل كل هذه المعاني والدلالات في قصيدته بأسلوب طريف وهزلي وبكثير من الإيحاءات وفي إيقاع حواريّ يجعل السامع يردّد معه لازمته الشعرية عند نهاية كل مقطع وهي : م البالة….م البالة

القصيدة حاملة لأبعاد اجتماعية واضحة فهي تعبّر عن الحالة الرثّة التي صار يعيش فيها أغلب الشعب التونسي وهذا هو الإبداع ضمن اللغة اليومية ذات الخصائص الفنية الطريفة إضافة إلى معانيها وإشاراتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الأخرى….م الباله….م الباله….م الباله…كل شيء في الباله…. أعان الله الشعب على سوء أحواله !!

* القصيدة

ــــــ البالَة ـــــــ

1- البالة البالة البالة

اليوم ناسي في حالة

نسوان مع رجّالة

بالبالة ممحونين

2- الشعب اليوم في حالة

لسوام طلعت شعّالة

صبح عايش عالحثالة

ما تسئلنيش منين

مالبالة

3- بو العيلة آشكون بيه

وسميڨ آشباش يززّيه

آشكون يلبّس فيه

واللهِ عندو سنين

مالبالة

4- أنا ومرتي وصغاري

وما عنديش ما نداري

مستور وحق الباري

ما تسئلنيش منين

مالبالة

5- حبيبي وخويا علاّلة

يتلفنلي يقلّي تعال

توّة حلّيت البالة

نقلّو استنّى درجين

منڤالة

6- هذِيّ اللّبْسَة شْبِيهَا

شِنُوَّة الخايِبْ فِيهَا

مانيشِ مِسِتِيكِي فِيها؟

مَا تِقُلِّيشْ مْنِينْ

مِالبَالَة

7- اش قولك في الكبّوط

بفلسة وزوز خيوط

ومكاتب جلد حوت

ما تقلّيش منين

مالبالة

8- والكسوة موش هبال

وبالصدريّة كمال

حسدني عليها الخال

ما تقلّيش منين

مالبالة

9- اِلسّوريّة شانال

ما خطرتشي عالبال

ومواتية السّروال

ما تقلّيش منين

مالبالة

10- آش قولك في السروال

دجين مالعال العال

ما لبسوشي مارسال

ما تقلّيش منين

مالبالة

11- المريول ديور جديد

مخدوم باباري حديد

ما عندي فيه ما نزيد

وما تقليش منين

مالبالة

12- كرافاتي بالطابع

وهذا العيد الرابع

كي يجينا العيد السابع

ما تقليش منين

مالبالة

13- هالمرسيّاز شبيها

لقيت لبسة وتواتيها

من مدّة انا شاريها

وما تقليش منين

مالبالة

14- بوطي مبطّن وحنِين

وشاري منو اثنين

يِحمل حصحاص وطين

ما تقليش منين

مالبالة

15- الكلّو بالمكشوف

اقربلي شويّة وشوف

لكلاست هاذم صوف

شاريهم بميتين

مالبالة

16- يا خويا يا بن عمي

ساكوش وجلدو غنمي

فيه كتاباتي وقلمي

ما تقليش منين

مالبالة

17- اليُومْ نَعْمِلْ فِي مَرْشَة

بْكِسْوَة رُطْبَة مُوشْ حَرْشَة

ضْرِيتْهأ مُوشْ غَالِيَة بَرْشَة

مَا فَاتِتْشِي الْعِشْرِينْ

مالبَالَة

18- في نصبة عالكيّاس

شريت منها أديداس

راه جاري في البالاص

كبّش يسئلني منين

مالبالة

19- شريتِ لبنتي أمبار

أَمَرِيكِي ومن دنفار

بالتّيكيّة يا فرار

هبلو ويقولو منين

مالبالة

20- برشا ﭭربج وتفش

في كومة متاع دبش

لقيت سبتة جلد حنش

تحفة وتقلّي منين

مالبالة

21- ولقيت سحابة عجب

عكاز بيد ذهب

أرخص من كيلو عنب

اسئلني وقلي منين

مالبالة

22- ونطيحلك بكشكول

بالتّصحاحة متاع جان بول

لا من بوتيك لا مول

زايد تسئلني منين

مالبالة

23- آشقولك في مراياتي

عجبت خويا البياتي

فصالة واللون مواتي

بقى يسئل فيّ منين

مالبالة

24- و سطيّش للحكومة

فيه وريقات ملمومة

مكتوب مصنوع فروما

تحلّفني تقلّي منين

مالبالة

25- الحكومة عملت طلّة

وجاتني بروبة بالحلّة

خرجتلي يا تباركالله

قلتلها منين هالزين

مالبالة

26- خْذِيتِلْهَا زُوزْ سْتَايِرْ

دُنْتَالْ وفِيهَا دْوأيِرْ

مَا كِسْبُوهَاشْ حْرَايِرْ

الأحَدْ مِالمَلاَّسِينْ

مالْبَالَة

27- عندي بنيّة ووليّد

نخمم كيفاش نعيّد

سروال وبوط جديّد

والباقي تقلي منين

مالبالة

28- لولد لقى مريول

أخضر في لون الفول

ومصوّر فيه بريول

يأخذ العقل منين

مالبالة

29- ولبنيّة لقات سوريّة

دنتال وفنطازيّة

فرحانة وتبوس فيّ

آفار تقلّي منين

مالبالة

30- شريت دبيّب لحفيدي

وبكيف صلّحتو بيدي

ما حلمشي بيه وليدي

وزيد اسئلني منين

مالبالة

31- مشيت للسوق ماتينال

لقيت قرص اوريجينال

الأفّيس وفاميليال

بدينار ماهوش باثنين

مالبالة

32- يَا خويا تحبش تلبس

إطلالة على سوق طبّس

خير مالبوتيك وأرخص

هاك تعرف توة منين

مالبالة

***

بقلم سُوف عبيد

منذ الصبا ولوحة الموناليزا (الجيوكاندا) للإيطالي ليوناردو دافنشي (1452 - 1519) تتوطن مخيلتي، وكم قرأتُ عنها وأمعنت النظر فيها، وحسبتها أيقونة الفن ورائعة الأزمان، وتنامت حتى أضفيت عليها تصورات من عندياتي، ومضت تتشامخ وتتأكد عبقرية صاحبها فيها، وتكاثرت القصص حولها، وواقعة سرقتها معروفة، وإضفاء القداسة عليها تنامت في الدنيا إلى درجة خارقة، وأصبحت من أكثر الأعمال الفنية شهرة في تأريخ الفن.

وذهبت ذات يوم إلى متحف اللوفر لرؤيتها، وكانت القاعة تزدحم بالناس من أرجاء المعمورة، وكلما إقتربت منها يتعاظم الزحام والتدافع، وتتسابق آلات التصوير، وبعد شق الأنفس وجدتني قبالتها، ويا ليتني ما رأيتها، فقد تهاوت تصوراتي عنها، ووجدتها لوحة عادية صغيرة الحجم، وإنسحبت من الزحام والأسئلة تعصف في رأسي.

هل نراها كما هي؟

هل نرى ما فينا عنها؟

ماذا فيها؟

لماذا هذا الإهتمام بلوحة بدت عادية؟!!

لهذا اليوم لم أجد جوابا يقنعني، البعض يرى أنها مسألة ثقافة وحسب، غير أن الإعلام سوّقها على أنها الأيقونة الخارقة للطبيعة، والذي رسمها قائد الدنيا بعبقريته الفنية، وهي التي تمثل أروع ما قدمه في حياته، على حد تعبيره!!

فهل رسم روحه فيها؟

هل شحنها بلمسات تتسرب إلى دياجير الأعماق البشرية؟!!

فقدتُ الإهتمام باللوحة بعد مشاهدتها، وكأنها كينونة خيالية سامقة تهاوت عند أول نظرة، وما عادت ذات قيمة ومعنى!!

فهل مَن يخبرنا عما في الموناليزا من أسرار أغفلتها؟!!

***

د. صادق السامرائي

في المثقف اليوم