قراءات نقدية

قراءات نقدية

استراتيجية التفكيك، ليست منهجا نقديا كما يصرح بذلك جاك دريدا بنفسه، بل هي استراتيجية لتعقب المعنى الخفيّ والمضمر والهامشيّ في ثنايا النصوص الأدبية، هذا المعنى الذي يصبح ركاما بمجرد تجليه ووضوحه، لتبدأ العملية من جديد، هدم وبناء يعقبهما هدم وبناء آخر، الأمر الذي يقودنا إلى عالم غير متناه من الدلالات التي تتناسل باستمرار. وفي هذا السياق النقدي الذي يطغى عليه الغموض، اخترنا المجموعة القصصية "عازار" للكاتب الحبيب اعزيزي الصادرة سنة 2023، وتكفلت دار بصمة بالتصفيف والتصميم، بينما طبعت في ورّاقة بلال ش.م.م. هي محاولة لفهم عوالم الجنون العجائبي القصصي بالجنون النقدي، عسى أن تتاح لنا إمكانية تأويل منطقية، تراعي خصائص النص القصصي من جهة، وتجربة الكاتب الإبداعية التي تمتد إلى أكثر من عشرين عاما من جهة ثانية.

استهل الكاتب مجموعته القصصية بقصة "الرجل الذي يحمل زوجته في القفص الأحمر"، حيث الزوجة/الأنثى تقبع في القفص، القفص بحمولته المقززة، والسالب للحرية، وفي هذا الملحق supplément بلغة دريدا، تتشكل عوالم النص القصصي الموازي/الهامشي، الذي يرفض التمركز الدلالي حول الخطاب المحوري، غير أن هذه العتبة (العنوان)، تعكس مفارقات وثنائيات ضدية تحتاج إلى الحفر بلغة مشيل فوكو، فالسجان هو الرجل/الزوج، إن الأمر أشبه بعالم أبيسي تئن فيه الأنثى من وطء الرجل/الذكر.

"زوجتي ماتت على الساعة الخامسة تماما" ص: 3، بهذه العبارة الصادمة تبدأ القصة، لتجعل القارئ يعيش في عالمين مختلفين، عالم الغياب/الموت، وعالم الحضور/الذكرى، ثنائية تتواسج في ثنايا القصة لتشكل ملامح قصة تفند تأويل العنوان، فالرجل بهذا المعنى أسير زوجته في قفصه الأحمر، الأنثى/الزوجة التي غيبها الموت، الرجل سجين ذكرياته، لكن ما يحدث للسارد في علاقته بالأنثى لا يمكن تأويله بهذه السذاجة عندما نسترسل في فعل القراءة، لا سيما عندما نعرف أنه كان يتأمل نسوة في ملصق إشهاري على عمارة أفيسين قبل أن تظهر له إحداهن ليحاورها كما يحاور الناس،  يقول السارد: "وظهرت فتاة الإشهار، قلت في نفسي، اللعنة. ما هذا الذي يحدث في هذا الشارع؟ كانت تضع المنديل الأحمر والصابو الطبي الأبيض. تحمل جهاز الكشف في يدها... مالت فتاة الإشهار نحو طاولتي بالذات ثم جلست أمامي. كانت تحمل نفس البسمة الجميلة التي في الصورة" ص 5-6

بين أنثى الغياب/الزوجة، والحضور/الملصق الإشهاري، هي أنثى واحدة، تعيش في القفص الأحمر، حيث الأسر والعذاب ورائحة القذارة، وكل الدلالات الراسخة في الذاكرة الجمعية للقارئ عن القفص، إنها أنثى المجتمع الرأسمالي، حيث أصبحت شيئا يعرض في واجهات المحلات التجارية، سلعة كغيرها من السلع المعروضة للبيع والشراء، هو رفض مطلق للمدنية القاتلة للإنسان، يقول السارد: "لم نكن سعداء أنا وزوجتي رانيا في هذا البيت الواسع، المكون من ثلاث غرف ومطبخ صغير وصالون كبير وبهو مفتوح على الشارع، حيث تنبت المقاهي مثل الجرب" ص 3.

لقد أصبحنا نعيش عصر ما بعد الإنسان، فليس للمبدع إلا أن يرفض كل أسباب استهلاكه، وما يؤيد هذا الطرح في التأويل، تجربة الكاتب اليسارية، حيث قضى زمنا غير يسير في النضال من أجل كرامة الإنسان وحريته، كما أن الأنثى هنا قد تكون الكاتب نفسه، الذي تكبله أغلال الواقع الأحمر المضرج بالانتكاسات... وهكذا تتيح استراتيجية التفكيك إمكانات هائلة للتأويل، وهو الأمر نفسه الذي جعل جاك دريدا ينبه قراءه من تحويلها إلى منهج نقدي.

تكاد تتساوق قصة "الرجل الذي يحمل زوجته في القفص الأحمر" مع قصة "سوزي.. أنثى المانيكان"، حيث تتحول أنثى المانيكان إلى إنسان يجالس ويختلط ويسكر، يقول السارد: "لم يصدق الثلاثة هذا الحادث الغريب: فتيات المانيكان الموضوعة في باب دكان الملابس في الحي... ثلاث فتيات من البلاستيك يجلسن على الكنبات.. حول الطاولة.. هنا أمام الأعين.. يتحركن..يبتسمن. وينظرن عينا في عين. مدت سوزي أصابعها، قبضت بخفة على أذن عاشور:

- حبيبي لا تخف، قل مرحبا للضيفات

همس بارتياب شديد

- مرحبا يا فتيات

مرت دقائق عصيبة من الشك والرعب، ثم تغير جو الحفلة" ص: 39

إنه التعبير القصصي المجازي لرصد الواقع في عصر ما بعد الإنسان، حيث يتحول إلى سلعة في سوق النخاسة، بينما تتحول الأنثى إلى مانكان، كل ما عليها فعله أن تعرض في واجهة المحلات التجارية، وتلبي رغبات الزبائن، وتحرص على سعادة الآخرين.

هما قصتان ذَوَي طابع عجائبي مغاير، في قالب سردي فريد، لكن برسالة واضحة ترفض أن تجعل من الأنثى سلعة في المجتمعات البرجوازية. وإذا كانت النزعة الإيديولجية هي المحرك الأساس لقصص الحبيب اعزيزي، فلا يجب إغفال الجانب الفني، لا سيما اختيار الشخصيات بدقة تناسب أدوارها في بناء الحدث، أو اختياره للسرد المتداخل الذي يتناسب مع الزمن الهلامي المنفلت أحيانا من منطق التتابع، وهذا راجع إلى العجائبية الطاغية الحضور في بناء العوالم السردية.

الأنثى أولا وأخيرا، الأنثى/الإنسان، الأنثى/الكاتب، مهما كانت تأويلات الأنثى، فهي نفسها الأنثى المضطهدة في قصة "أرسموك..شبح تالمست"، غير أنه اضطهاد الأنثى للأنثى هذه المرة، في مجتمع بدوي بعيد عن عالم الرأسمالية المقيت، الهامش المضمر، الشابة الساذجة سريعة النسيان التي تنتظر عودة حبيبها الميت منذ خمس سنوات، يقول السارد: "مرت خمس سنوات على باهيا وهي تكسر جماجم الجوز. تستخرج الأمخاخ الجافة. ترمي بها بلطف واضح في الصحن الأبيض. وحين يمتلِئ الأخير، تخطفه إحدى النساء بخفة البرق، فتفرغه في الكيس الذي يفتح فمه بين أقدام النساء" ص: 13

استغلال المجتمع البدوي والنسوة لباهيا، تكشف عن بطلة قصة تمثل آلاف النساء في البوادي وضواحي المدن، في قالب عجائبي يصبح فيه السارد ميتا، لكنه يحكي قصة وفاته بدقة متناهية، وأحداثا رافقت تلك الليلة التي غيّب فيها عن هذه الحياة، يقول السارد/الميت: "وجلست على عتبة الدار. أتفرج على مأتمي الذي انقلب بسرعة إلى حفلة تنكرية. مرت لحظات، ثم اشتعل الصياح من كل زاوية.

- باهيا. باهيا.باهيا

- ما بها

- لقد رمت بنفسها من سطح الدار" ص: 15

حول السارد قصة باهيا إلى تراجيديا الحياة في قالب عجائبي يعود فيه الغائب/الميت أرسموك، ويختفي الحضور/باهيا، لكشف حجم المأساة، كل ذلك في ثنائية ضدية تؤلف دلالات متناقضة في علاقة حب موؤود بين الحي والميت، الخير والشر، إنها مفارقات الواقع اليومي، وهنا تظهر الإيديولوجيا مرة أخرى، حيث الأنثى/الإنسان هي الأنثى، سواء في المجتمع البرجوازي أو المجتمع البدوي. إنه موقف ثابت بين ثنايا القصص، لا يتغير بتغير الظروف والسياقات، وهو الأمر الذي جعلني في حيرة، حيرة المابين إيديولوجي والفني-جمالي.

وإذا كانت استراتيجية التفكيك تبحث عن المهمل والمهمش في ثنايا النص الأدبي، فإن شخصية أرسموك، باعتبارها ثانوية مقارنة بباهيا، تستحق اهتمام القارئ أيضا، حيث الغياب/الموت الذي جعله يكتفي بالمراقبة والسرد، حد حريته وقدرته على إسعاد باهيا، أليس بؤسا مضاعفا أقل من معاناة باهيا؟

ويمكن لمتتبع هذه المجموعة القصصية أن يرصد خطين متوازيين ينتظمان في جل قصص "عازار"، خط اليأس وخط الأمل، وإذا كانت القصص السابقة تندرج ضمن الخط الأول، فإن قصة "الهارمونيكا" تندرج ضمن الخط الثاني، حيث يظهر الإقبال على الحياة والاستمتاع بالموسيقى والنجاح، النجاح الذي رافق قصة المعلم سيفاو وكفاحه من أجل تلاميذه المصابين بمتلازمة داون، يقول السارد: "بعدها شعر كما لو أن تيارا كهربائيا يسري في هذه الآلة الصغيرة، لكنه لم يهتم، بل ابتسم وبدأ في النفخ، فكر أنه لم يسبق أن وضع هارمونيكا في فمه طوال حياته. لكن الغريب هو هذا اللحن السحري المنسجم، والذي يكاد يرفع القسم كاملا إلى عالم خيالي" ص: 29

لا شك أن التأرجح بين قصص خط اليأس وخط الأمل، يرجع إلى الحالات النفسية للمبدع، وتأثره بواقعه الذي يحول أحداثه، بمهارته الإبداعية في خلق عوالم القصة، إلى عالم من الخلق العجائبي المتدفق كشلال هادر، تجعل القارئ ينسل من بيئته ليعيش في عوالم الجنون هذه.

وإذا كان الملمح الأساس لهذه القصة هو الأمل، فإن اليأس حاضر أيضا، فالمعلم سيفاو تعرض للمضايقات من طرف المدير والمفتش بسبب نتائج التلاميذ الضعيفة، يأس استبد به لإقامته في قرية تعيش ظروفا صعبة، لكنه استطاع بجده أن يجعل من التلاميذ المرضى بمتلازمة داون أن يجعل منهم متفوقين دراسيا.

إنها ثنائيات ضدية تؤثث مجمل نصوص المجموعة القصصية، وهي نفسها التي تجعلها عصية على قراءة عميقة تنفذ إلى الأماكن الأكثر عتمة، عتمات نجدها في قصة "عازار العائد لانتزاع ظلال الأحياء"، حيث المنطقة الوسطى بين الحياة والموت، و"ليلة القبض على حمار الليل" و"الأموات لا يتبولون في هذه الحانة" و"الأشباح لا تعود إلى باماكو"  و"كماريا"...  هي قصص تتأرجح بين اليأس والأمل، وثنائيات ضدية أخرى تخلق عالما مغرقا في العجائبية، هذه السمة المميزة للكاتب الحبيب اعزيزي.

الحبيب اعزيزي ليس كاتبا عاديا إطلاقا، ولربما ظلمه الهامش الذي ينتمي إليه، الهامش الذي ظل يدافع عنه، إبداعا ونضالا ميدانيا، لكن يجب علينا، نحن، عشاق الأدب ونقاده، أن ننتصر لأنفسنا بقراءة هذه الروائع، والتي تضاهي، في اعتقادي، كبار كتاب القصة في العالم، أمثال خورخي بورخيس وباولو كويلو...

***

عبيد لبروزيين

ديستوبيا العيش في وطن يسير نحو حتفه

عندما نفجع بالفقد تُثقب أرواحُنا ونغدو ذوي قابلية خرافية على أن نواصل الدّهشة بسذاجة متناهية، ونعيد اجترار ذات السؤال.. كيف يمكن للحياة أن تكون قاسية هكذا؟ أحداث تدمي القلوب ترويها الروائية المتمكّنة ذات النّفس السّردي الطويل " زكيّة علاّل" ضمن روايتها " عائد إلى قبري "، رواية الوطن المفقود والألم المسرود، ترويها بنَفَس واحد، وبنبض نصّ متّصل لا يتوقّف عن السريان حتّى النّهاية.حكاية بمثابة رسالة في ثوب ملحمة تراجيدية ذات شجون، توجّهها لكل عربي بل لكلّ إنسان، متّخذة من بلاغة اللّغة بطولة، وأسلوب الإمتاع والهدهدة ملاذا، لترتدي ثوب الرّواية وتعيش الأدوار مناصفة مع أبطال قصّتها ليكتشف القارىء في الأخير أنّها روائية بخلفية علمية ذات بعد نفسي إنساني.

من هي الكاتبة الرّوائية "زكيّة علاّل"؟

أيقونة ميلة الأولى التي يتدلّل الحرف بيدها، فيبدع القلم بصدق بوحها، كاتبة من الطراز الرفيع، مذيعة ومحاورة تخاطب بأسلوب بديع، بدأت الكتابة في منتصف الثمانينات، ونشرت في عدّة صحف وطنية منها النصر، الشروق، المساء، صوت الأحرار.. وفي مجلاّت عربية منها مجلة المنتدى بإمارة دبي. فازت بعدة جوائز وشهادات تقديرية أهمّها الجائزة الثانية للقصة عن مديرية الثقافة لولاية بومرداس سنة 2000، وجائزة القصة لوزارة المجاهدين سنة 2003 وجائزة كتامة للقصة سنة 2005، ونشير إلى أهمّ إصداراتها المدوّنة ما يلي:

وأحرقت سفينة العودة: مجوعة قصصية.. لعنة المنفى (مجموعة قصصية).. رسائل تتحدى النار والحصار، وأهمها وأمتعها الرواية قيد الدراسة " عائد إلى قبري ".

مسحة على غلاف الكتاب:

لا تُخْتَزَلُ الصورة ـــ كما النص في سميائيات ما بعد الحداثة وفي منطق الميتابنيوية ــــ في تفسير أحادي القطب بل تتجاوز إلى أبعد ما نتصوّر وفقا للحرّية التكفكية سواء تعلّق الأمر ببنية النّص أو رمزية الصورة والمشهد، لتقنعنا بأن ملكيتها تعود إلى الجميع، إلينا نحن وإليك أنت، فليس هناك من واسطة بينها وبينك.

الروائي المتمكّن من فنون الكتابة يلزمه قارىء متمكّن من فنون القراءة والتأويل، لذا بات من واجب القارىء أن لا يهمل قراءة الشّكل والغلاف قبل ولوج مضمون النّص، فالصّورة والإطار والمنظر تشكّل مقاربة تفسيرية للعلاقة الوطيدة بين المفاهيم العامة المؤطرة لحقل المرسلة البصرية، فلا بدّ أن يكون ناظرا ثاقبا، لا مبصرا عابرا، يعمل الفكر بعد البصر ممتطيا سرج السميائية الانثروبولوجية السيكولوجية لتحليل الصور المرافقة، فيدرك جزءا كبيرا من دلالات العنوان والنص على حدّ سواء. ذلك أن صورة الغلاف مركبة من لقطة تم اختيارها وتوليفه بلمسة فنية وبعين احترافية عملت بكل براعة تقنية ومهْنية على المشهد والألوان المتشابكة الممتزجة، فعلى يسار الغلاف وضمن كامل الصّفحة كُتِب تعريفا وافيا بالروائية وأعمالها ليختم في أسفلها بصورة صغيرة لدار النشر والناشر. أماّ على يمين الغلاف ـــ وهو اللاّفت عادة ــــ يتوسط إطار مساحة متدرجة اللون الأخضر الذي يسم الغلاف عامة، تشوبها لطخات دم حمراء، المعروف أن اللون الأخضر بكل درجاته رمز للخصب والجنان، ودليل الطاقة والقوة والحيوية، وفي هذا تجهيز وذخيرة لتنفيذ التنبيه الذي انذر به العنوان وأوجزه محتوى الإطار وهنا تكمن حساسية التوصيف اللوني، ومن جهة ثانية أُعْلَن ضمنيا بالتجاور مع الألوان الأخرى أن خصوبته ستكون ملاذا ومنتهى لأرواح مرهقة تتوق للفوز بتلك الجنان أمّا تركيز محتوى النّص فيكمن في الإطار الذي يحتوي شخصين بائسين يحتضنان بعضيهما وسمهما اللون البني والأصفر الشاحب الحاضر بكامل دلالته ليتواصل بذلك مع دلالة الخواء والتوقف عن الحياة التي قدّمها تشابك اللّونين البني والاصفر ذاتي سيميائية تدلّ على وطن غارق في تخمة الأحزان والخذلان.

المقاربة الاستراتيجية للعنوان:

بات العنوان خطوة مهمة في نجاح أي عمل ما باعتباره العتبة الأولى التي يرتبط بها المتلقي ويعبر من خلالها إلى المتن، وقد برعت وتفرّدت الكاتبة في انتقاء عنوان أكثر عمقا ودلالة على مضمون النص، يفضي بها إلى القول على لسان بطل الرواية مجازا:

عائد إلى قبري.. ما بين صدري وقبري، علاقة اسم ومعنى.. دفن ومحنة، الفرق هو أنّ القبر يدفن ميتا، وأنا دفنت أشياء بالصّدر حيّة. أراني سأبتدئ أيامي من آخرها فإني لا أقصّها عليكم، وهي تولد بل وهي تموت بعد أن تركتني كالنّجمة الآفلة، فرغ النور من حشوها وترغب في أن تشعّ لكن هيهات أن تفعل، أَلَا ويحك أيها القبر ألا تأتي إلا في الآخِر؟ أم أنك الحاضر الغادر؟ ولا تضع حدود معانيك بين الأحياء بعضهم من بعض، حتى يقوم بين الضّعف والقوة حدُّ المساواة. تحضر في ظلمتك حينا بعد حين إلى ميّتك الذي لم يمت! بل هرب من شيء تركه وراءه،وقدر الميت قبر، وحتمية الموتى قبورهم بل الأحياء الأموات، فلا يهربُ أحد منك إلا وجدك أمامه، أنت أبدا تنتظر غير متململ، هل القادم إليك فعلا شفي من مرض الحياة؟.. أم وقف التراب المتكلم يعقل عن التراب الصامت، ويعرف منه أن العمر على ما يمتدُّ محدودٌ بلحظة، وأن القوة على ما تبلغ محدودة بخمود، وأن الغايات على ما تتسع محدودة بانقطاع، وحتى القارَّات الخمس محدودة بقبر. إن هؤلاء الأحياء يحملون في ذواتهم معانيهم الميتة وأنت أبدا متقدّم إليهم غير متراجع، لا أحبّ أن يشطرني أي شيء في أي شيء إلى نصفي شيء، لكنّني وجدت نفسي نصفين، من حيث لم أتوقع ولم أسع يوما، لا أحبّ الأنصاف، ولست مع أي أحد يؤمن بنظرية الأنصاف، أنصاف الحلول وأنصاف العشّق وأنصاف الموت وأنصاف الحلم، لكنّني لم أحلّ إلاّ نصف المشاكل، ولم أصل إلاّ إلى أنصاف الحلول، ولم أحلم إلاّ نصف حلم(حلم على متن الطائرة بين حكمة الرشيد وسيف الحجاج )، كما لم أحبّ إلأّ نصف حبّ، ولم أمت إلاّ نصف موت، أنا نصف قادم من النار ونصف قادم من الجنة، في برزخ الوهم أقبع، ومن رحم النّكبات أولد كل يوم. ترى أيّهما هو الصّدق في حقيقته، ما نفرحُ به أو ما نحزنُ له؟ أما إن في الحياة مُرّا وإن في الحياة حلوا وكلاهما نقيض، فليس منهما شيء إلا هو ردّ للآخَر أو اعتراض فيه أو خلاف عليه، وتجدهما اثنين ولعلّ سبب الموت أنّك لا تجد إنسانا يعيش في حقيقته الإنسانية وضمن أوهام الحياة ونحو يقين اللاّحياة، يحيا بنصف مشاعر ونصف أحاسيس ونصف أحزان، نصف ضعف ونصف قوة ونصف نسيان ونصف ذاكرة، لا لشيء سوى أنّ الأنصاف للجبناء والمهزومين، لمنّ يكره اليدّ التي تصفعه ثم يقبّلها، ولأنني نصفٌ من حيث لا أريد ولا حيلة لي فيه، صفعني وطني وعدت إليه أقبّل يديه، أنا نصف حي ونصف رجل عائد إلى وطني لاتخذه قبري، وموتي فيه هو صحوي، ودونه رحيل طويل مفعم بالغياب فإمّا النهوض.. أو الخراب.

ديستوبيا العيش ضمن وهم الأمة العربية:

هي رواية من 288 صفحة صدرت عن "دار الاوطان " الجزائرية للنشر والطباعة، ظهرت في طبعتها الأولى سنة 2015، تروي الحب والتاريخ والمأساة، تنطوي على نقد عميق لأوضاع الأمّة العربية في قالب تراجيدي مفجع، وما شهدته من أحداث دامية وأحزان خلال فترة أواخر التسعينات، وهو نقد ينطبق على المنطقة العربية برمتها في مرحلة يطبعها العنف والانتقام،. يتولد هذا النقد من خلال الفضاء الروائي الذي يعدّ أحد المكونات السردية ذات الدينامية الخاصة في هذه الرواية، فبقدر ما تتجذر الشخصيات في الأرض، تتميّز مساراتها الوجودية وتأخذ أبعادا أكثر فرادة. في الفضاء الروائي تلتقي الشخصيات، وتتبلور العلائق التاريخية والجغرافية بين شعوب الامة العربية،التي تتقاسم الألم وتتنوع من حيث الأسباب، وتتقاطع التجارب والمصائر الفردية والجماعية. وتعود بالكاتبة إلى مأساة العشرية السوداء في الجزائر، حيث تصل خيبات الجزائر وجراحها بنكبة العراق بعد سقوط بغداد.. تتجسّد المأساة على يد صحفي جزائري عايش ألم الحرب والدّمار بين بغداد والجزائر. "يوسف" العائد إلى وطنه الذي يراه قبره بعد ما خلّف جزءا منه في بغداد إثر التحاقه بالعراق من أجل تغطية إعلامية، لإسقاط نظام صدّام حسين.. " نجوم سمائي تهاوت على قدم مبتورة خلّفتها ورائي ترقد في أرض بيني وبينها مسافة وجع.. أرض عاشرت فيها النار والخوف. وأحلاما رأيتها مشروعة.. لكنني رجعت منها مهزوما".

فيقدم هذا الصحفي على نبش قبر أبيه، للكشف عن سرّ طالما بحث عنه. وقد غادر القبر وترك فيه رأس أبيه المغدور دون جثّة، ينتقل هذا الشاب الصحفي من قريته التي خلّف فيها أمه الأرمة وأخته الوحيدة بعد أن فجعوا في مقتل والده مع جهل الأسباب، جمع يوسف كل ما في عينيه من الدموع وما فى قلبه من الأسى.ورحل نحو العاصمة لاستكمال الدراسة الجامعية، وهناك حصل على وظيفة في جريدة مرموقة كصحفي محترف، وقع في حب " سعاد" التي يرى فيها ضعفه الإنساني الذي أخرجه من سجن العقل وعاد به إلى رحابة الفطرة الأولى بكل عفويتها وصفائها ونقائها، سعاد التي يرى فيها تاريخه الحاضر وحبه الغائر، ليذهب بعدها في مهمة صحفية لتغطية الأحداث في العراق وهناك يقف شاهدا على سقوط بغداد، فيشهد معه حبا جديدا أخلط أوراقه وهو على محك الموت. " إنعام" المرأة المصرية الطاغية في الجمال الآتية من مدينة طاعنة في التاريخ، يعيش صراعا فهو رهين امرأتين إحداهما مدين لها بالحب والأخرى يرى فيها معنى الانتماء، حب هنا، وانتساب هناك، ألم هنا، ورعب هناك أيضا، فيقف مشدوها عصي الراحة ليتساءل: هل يمكن للرجل أن يجمع في صدره بين صورتين لامرأتين برائحتي حب مختلفتين دون أن تختلط رائحة الأولى بالثانية؟ هل يمكن أن يلتقي وجهان مشرقان في كف رجل واحد دون أن يخمش أحدهما الآخر.. ؟ لكن، لا هذا الحب ولا ذاك شفع له أمام قدره.. لينتهي به الأمر رفقة زملائه إلى ما كان يحسّه ولا يراه، فقد استشهد عمار الفلسطيني الذي كان يحمل بذور الشهادة في دمه، ورجعت انعام بعين واحدة لتضيف فجيعة أخرى إلى جملة فجائعها، أما يوسف بطلنا فيفقد رجله ليعود إلى وطن وهو نصف رجل، يجر رصيدا إضافيا إلى بنك أوجاعه فلا يرى في وطنه سوى قبرا ينتظره.. "مبتور حلمك، أيها العائد من حرب قذرة.. موؤود نهارك أيها الآتي من أزمنة الموت المعلب، والحب الذي بات يمشي بيننا على استحيا، مسكون صدرك بكل الانكسارات التي أوجدتك داخل خرائط مفتوحة على تضاريس لا تشبهك.. ".

وقفة تأمّلية:

تحيلنا الكاتبة "زكية علال" إلى التساؤل والحيرة في كلّ وقفة مع الأحداث، هذا التاريخ الذي توارثناه والجغرافية التي ترسم حدوده،كيف أسميناه وطنا؟! هذا الذي في كل قبر له جريمة، وفي كل خبر لنا فيه فجيعة؟ وطن؟ أي وطن هذا الذي كنا نحلم أن نموت من أجله.. وإذا بنا نموت على يديه، فعندما يستباح الوطن تصبح الدنيا سوق كبير للنخاسة وتصبح حياة الانسان فيها أرخص من التراب فلا أجد أبلغ مما قال فاروق جويدة: " الآن يا وطني أعود إليك، توصد في عيوني كل باب.. لم ضقـت يا وطني بنا؟ قد كان حلمي أن يزول الهم عني‏ عند بابك، قد كان حلمي أن أرى قبري على أعتابك، الملح كفّنني وكان الموج أرحم من عذابك، ورجعت كي أرتاح يوما في رحابك، وبخلت يا وطني بقبر يحتويني في ترابك، فبخلت يوما بالسكن، والآن تبخل بالكفن، ماذا أصابك يا وطـن..؟

***

بقلم الكاتبة: ليلى تبّاني من الجزائر

جيل دولوز وفيليكس غوتاري

ترجمة: صالح الرزوق

***

لا يمكننا ملاحظة التركيب (أو التجميع) في شيفرة ساكنة ونقد للمساحة الوطنية، ولكن في فك تجميع الشيفرة، وفي إزالة المساحة، وفي التسريع الروائي لكل من فك الشفرة وإلغاء المساحة (كما كان الحال في اللغة الألمانية -  أن تذهب دائما لما هو أبعد بهذه الحركة التي تسيطر على كل الحقل الاجتماعي). وهذه الطريقة أكثر كثافة من أي نقد. كاف يكلم نفسه. هدف المرء أن يحول ما كان طريقة ('proce'de) في الحقل الاجتماعي إلى سيرورة، بشكل حركة افتراضية لامتناهية وتفرض في حدودها القصوى التركيب الآلي للمحاكمة (proce's) لتبدو أنها واقع قيد التحقق، وهو فعليا هناك (4). وكل هذه العملية تدعى سيرورة، وهي على وجه الدقة دون نهاية. وتشير مارتا روبير إلى الرابط بين المحاكمة والسيرورة، وهذا بالتأكيد ليس سيرورة (أو عملية) عقلية ولا نفسية ولا جوانية.

وعليه هنا تجد الصفات الجديدة للتركيب الآلي الروائياتي ويكون متعارضا مع الدلائل والآلات التجريدية. ولا تفرض هذه الصفات تفسيرا معينا أو تصويرا اجتماعيا لكافكا، ولكن تقدم بحثا تجريبيا بصفة اجتماع سياسية. وبما أن التركيب يعمل فعلا في الحقيقي، يصبح السؤال: كيف يعمل؟. ما هي الوظيفة التي يقوم بها؟. (لاحقا سنسأل مم يتركب، وما هي مكوناته، وارتباطاته). بناء عليه علينا اتباع حركة عدة مستويات، واضعين بعين الاعتبار اللايقين الموضوعي حول آخر فصل مفترض وحول اليقين الذي تجده في ثاني وحتى آخر فصل. تقريبا كان فصل "في الكاتدرائية" سيء الحظ ولم يضعه ماكس برود بموضعه. وحسب أول انطباع، كان كل شيء خاطئا في "المحاكمة": حتى القانون، بالمقارنة مع القانون الكانطي، يضع الكذبة في مكان قاعدة كونية. فالمحامون هم محامون مزيفون، والقضاة هم قضاة مزيفون. "محققون حمقى"،"حراس فاسدون"، أو على الأقل وضيعون ويخفون المشاكل الحقيقية و"مجريات العدالة بعيدة المنال" والتي لم تعد تسمح بتقديم نفسها. مع ذلك إن لم يكن هذا المدخل مؤكدا، فهذا فقط بسبب سلطة مزيفة، ومن السيء أن تقيس العدالة بمعايير الخطأ والصواب.

أما الانطباع الثاني فهو أكثر أهمية: حيث يعتقد المرء أن القانون موجود، هناك في الحقيقة رغبة ورغبة فقط. العدالة رغبة وليست قانونا. كل إنسان في الحقيقة هو من فعل العدالة - ليس المشاهدين فقط، ولا الكاهن والرسام، ولكن أيضا المرأة الشابة الغامضة، والبنات الصغيرات المنحلات وتأخذن مجالا واسعا في "المحاكمة". وكتاب كاف في الكاتدرائية ليس كتاب صلوات، ولكنه ألبوم للمدينة. ويتضمن كتاب القاضي الصور الفاضحة حصرا. وهكذا يدون القانون في كتاب للعراة. وهنا لا تكون المشكلة مجرد إشارة لزيف العدالة في النهاية، ولكنها إشارة إلى الرغبة: فالمدانون أساسا أكثر الشخصيات وسامة لما لهم من جمال غريب. والقضاة يتصرفون ويفكرون "مثل أطفال". وتصادف أن طرفة بسيطة يمكن أن تهزم الكبت. العدالة ليست ضرورة، بالعكس تماما، حظ. ويرسمها تيتوريلي مجازيا بشكل حظ أعمى، رغبة مجنحة. وهي ليست إرادة ثابتة، ولكن رغبة متحركة. يقول كاف: من المستغرب كيف أنه لا يجب على العدالة أن تتحرك، كي لا يميل ميزانها. ويقول الكاهن في وقت آخر: “لا تريد المحكمة منك شيئا. وهي تستقبلك حينما تأتي وتصرفك حينما تذهب". والنساء الشابات لسن غامضات، لأنهن يخفين طبيعتهن وهي من ملحقات العدالة. بالعكس تظهرن أنفسهن كأنهن ملحقات لأنهن بنفس الوقت تجلبن المتعة للقضاة والمحامين والمدانين، من رغبة وحيدة وعجيبة ومتعددة الأصوات. وكل "المحاكمة" تتسلط عليها تعددية صوت الرغبة التي تمنحها قوة إيروتيكية. والكبت لا ينتمي للعدالة ما لم يرغب بنفسه - الرغبة في الواحد الذي يتعرض للكبت أيضا مثل الواحد الذي يكبت. وسلطات العدالة هي ليست تلك التي تبحث عن اعتداء، ولكنها تلك التي "تنجذب وتندفع بالاعتداء". تتحرى في المكان، وتبحث في الأرجاء، وتنبش في كل مكان. وهي عمياء ولا تقبل أي دليل، وتضع في حسبانها أحداثا عابرة، همسات قاعة المحكمة، أسرار القاعة، الضجيج الذي يسمع وراء الأبواب، دمدمات من وراء المشهد، كل تلك الأحداث الصغيرة التي تعبر عن الرغبة وعن حظوظها العشوائية.

إن لم تسمح العدالة لنفسها بالتمثيل، فهذا لأنها رغبة. ولا يمكن للرغبة أن تظهر على المسرح حيث أحيانا تظهر مثل حزب يعارض حزبا آخر (الرغبة ضد القانون)، وأحيانا مثل حضور طرفين تحت تأثير قانون أعلى يحكم توزيعهما وتكاتفهما. فكر بالتمثيل التراجيدي كما صوره هيغل: يتقدم على المسرح أنتيغون وكريون كأنهما حزبان اثنان. وبهذه الطريقة يتابع كاف التفكير بالعدالة في أول تحقيق معه. سيكون هناك طرفان. فريقان، أحدهما مفضل أكثر قليلا  للرغبة، والآخر للقانون، وتوزيعه سيحيل إلى قانون أعلى. ولكن كاف يلاحظ أن الأمر ليس فعلا هكذا: والمهم ليس ما يحصل في الاستئناف، أو في حركة الفريقين معا، ولكن في الهياج الجزيئي الذي يضع الممرات والأجنحة والأبواب الخلفية والغرف الجانبية في حركة. والمسرح في "أمريكا" ليس أكثر من جناح رحب، ممر واسع، ألغى كل النظارات وكل التمثيل. ويجري نفس الشيء في المجال السياسي (كاف نفسه يقارن مشهد الاستئناف باجتماع سياسي، وعلى نحو أدق، باجتماع ثلة اشتراكيين). وهناك الأمر المهم ليس فيما يحصل في الاستئناف حيث يناقش الحضور مشاكل إيديولوجية.

حقا القانون هو أحد هذه الإشكالات التي تخضع للنقاش. في كل مكان من كافكا - في "المحاكمة"، في "سور الصين العظيم"- يتم فحص القانون بضوء ترابطاته مع الجماعة التي ينتمي لها المتكلمون. ولكن سياسيا المهم يحصل في مكان آخر، في ممرات الصالة، وراء مشاهد الاجتماعات، حيث يواجه الناس الحقيقي، مشاكل الرغبة والسلطة الملحة - المشكلة الحقيقية للعدالة. من هذه النقطة وما بعد، من المهم إدانة فكرة تعالي القانون. لو أن الحالات الأخيرة غير متاحة ولا يمكن تمثيلها، فهذا لا يظهر كأنه من فعل التراتبية اللانهائية المنتمية للاهوت السلبي، ولكن نتيجة لتلامس الرغبة التي تتسبب بحدوث ما حدث ودائما في المكتب المجاور. وتلامس المكاتب، وتجزئة السلطة، تحل محل تراتبية الحالات  وحتمية السيطرة (وفعليا كشفت "القلعة" عن نفسها لتبدو مجزأة وتجميعات صاخبة ومتماسة على نمط بيروقراطية هابسبورغ أو موزاييك الأمم في الإمبراطورية النمساوية).

ولو أن كل شيء، كل شخص، جزء من العدالة، ولو أن كل شخص تابع للعدالة، من الكاهن إلى البنات الصغيرات، فهذا ليس بسبب تعالي القانون، ولكن بسبب حتمية الرغبة. وهذا هو الاكتشاف الذي كانت تحقيقات كافكا وخبراته تحجز نفسها فيه بسرعة.

فيما كان العم يحضه على الاهتمام بالمحاكمة بجدية، على سبيل المثال، وأن يستشير المحامي، وأن يمر بكل مراحل التسامي، يدرك كاف أنه عليه أن لا يسمح لنفسه بأي تمثيل، فهو بدون حاجة للتمثيل - وأنه يجب أن لا يقف أحد بينه وبين رغبته. وسوف يجد أن الرغبة فقط بالحركة، وبالانتقال من حجرة إلى حجرة، واتباع رغبته. سيتحكم بآلة التعبير: سيتحكم بالتحقيق، وسيكتب دون توقف، وسيطالب بإجازة من الغياب، كي يتمكن من تخصيص نفسه لهذا العمل "اللانهائي في خاتمة المطاف". وبهذا المعنى "المحاكمة" رواية لا تنتهي. حقل غير محدود من الحتمية عوضا عن التعالي اللامتناهي. وكان تعالي القانون خيالا، صورة لأعلى الأماكن، ولكن العدالة أقرب لصوت (العبارة) ولا يتوقف أبدا عن التحليق والابتعاد. وتعالي القانون آلة تجريدية، ولكن يوجد القانون فقط في تحقق التجميع الآلي للعدالة.

"المحاكمة" هي تفكيك كل المبررات المتعالية. لا يوجد هناك شيء لتحكم به على الرغبة. والقاضي ذاته تشكله الرغبة. والعدالة لا تعدو أن تكون السيرورة الحتمية للرغبة. وهذه السيرورة متدرجة، ولكن التدرج نتيجة للتلامسات. والمتلامس لا يعارض المستمر. بالعكس هو نسخة موضعية من المستمر وقابلة للتطويل بلا نهاية. وعليه هي أيضا تفكيك للمستمر. فهو دائما مكتب مجاور، دائما في غرفة لصيقة. وبارناباس "مرحب به في غرف خاصة، ولكنها جزء من كل، وهناك حواجز لا يوجد بعدها مزيد من الغرف. وهو ليس عمليا ممنوع من عبور الحواجز... ويجب أن لا تتخيل أن هذه الحواجز هي خط تقسيم محدد.. هناك حواجز يمكنه اجتيازها، وهي تماما مثل التي لم يمر منها على الإطلاق". العدالة هي تدرجات الرغبة، بوجود حدود تحريك تتعرض للإزاحة باستمرار.  هذه السيرورة، وهذا التدرج، وهذا الحقل الحتمي هو الذي ينظر له الرسام تيتوريلي على أنه تأجيل غير محدود. وجزء مركزي من "المحاكمة" يجعل من تيتوريلي شخصية خاصة في الرواية. ويميز بين ثلاث إمكانيات نظرية: الإنكار القطعي، الممكن أو الإنكار السطحي، والتأجيل غير المحدود. أول حالة لا توجد أبدا، لأنها تتضمن الموت أو إلغاء الرغبة التي يمكن أن تصل إلى نتيجة. من جهة أخرى الحالة الثانية تقابل آلة القانون التجريدية. وفي الواقع تعرف بمعارضة التيارات، وتبديل الأقطاب، وتوالي الفترات - تيار القانون المعاكس الذي يجيب على تيار الرغبة، وقطب الهرب الذي يجيب على قطب الكبت، وفترة الأزمة من أجل أزمة المصالحة. ويمكننا القول إن القانون الرسمي أحيانا يتراجع إلى التسامي وذلك بمغادرة حقل هو إيجابيا مفتوح على الرغبة، أو أحيانا يجعل المتسامي بنية تحتية واقعية وهرمية محتمة وقادرة على وقف وكبت الرغبة (في الواقع توجد عدة قراءات أفلاطونية جديدة لكافكا). وبطريقتين مختلفتين هذه الحالة، أو بالأحرى دورة هذا الإنكار السطحي، تقابل وضع كافكا في الرسائل أو في قصص الحيوانات أو الصيرورة الحيوانية. و"المحاكمة" في الفندق هي ضربة معاكسة للقانون الذي يرد على ضربة الرسائل، محاكمة لمصاص الدماء الذي يعلم جيدا أن أي إنكار لا يكون إلا سطحيا. وتعقب القطب الموجب لخط الهروب، ومحاكمة صيرورة الحيوان هو القطب السالب للقانون المتعالي الذي يسد طريق الخروج، وهذا يطرح فرضية عائلية للإيقاع مجددا بالفريق المذنب في الفخ - أودبة غريغور مجددا، التفاحة الأفلاطونية التي ألقاها أبوه إليه.  وهذه التفاحة هي بالضبط نفس التفاحة التي أكل منها كاف في مطلع "المحاكمة"، كأنها جزء من سلسلة مكسورة تجد رابطها في "المسخ". "لأن كل قصة كاف تدور حول الطريقة التي يدخل بها لمسافة أعمق في تأجيل غير محدود، متجاهلا كل صيغ الإنكار السطحي. وعليه هو يغادر آلة القانون التجريدية المعارض لقانون الرغبة، كما يعارض الجسم الروح، وكما يعارض الشكل المادة، وذلك ليدخل في مركب العدالة الآلي - وهذا يعني في الحتمية المشتركة للقانون غير المشفر والرغبة غير المحلية (التي فقدت أرضها).

ولكن ماذا يعني مصطلح التأجيل واللامحدود؟.

إذا رفض كاف الإنكار السطحي، فهذا ليس بسبب الرغبة بالإنكار الحقيقي، ولدرجة أقل ليس بسبب اليأس العاطفي الذي ينبع من ذنب ينهي تغذية نفسه. الذنب هو تماما من طرف الإنكار السطحي.  ويمكن القول إن الإنكار السطحي هو بنفس الوقت لانهائي، ومحدود، وغير مستمر. وهو لا نهائي لأنه دائري ويتبع عن مقربة "دورة المكاتب" على طول مسار دائرة كبيرة.  ولكنه محدود وغير مستمر لأن هدف الإدانة يقترب وينحسر بالنسبة لهذه الدورة. "يتمايل إلى الخلف والأمام بنوسان أضيق أو أوسع، بتأخير أطول أو أقصر: "والتيارات المعاكسة، والأقطاب المتعارضة، والفترات المتعارضة للبراءة والذنب والحرية والاعتقال الجديد. وبما أن الإنكار الحقيقي لا يقبل الشك، تقع مشكلة البراءة "أو" الذنب تماما في مجال الإنكار السطحي الذي يحدد الفترتين غير المتواصلتين وردة الواحد إلى الآخر. أضف لذلك البراءة افتراض شديد الغرابة بالمقارنة مع افتراض الذنب.

بريء أو مذنب، هذه هي مشكلة اللانهائي. وهي بالتأكيد ليست من نوع المشكلة التي يثيرها كافكا.

بالمقارنة التأجيل منته، ولا محدود، ومستمر. وهو منته لأن هذه ليست متعالية، لأنها تعمل على أجزاء. ولا يجب على المتهم أن يخضع إلى "ضغط وإثارة" أو أن يخاف من ردة حادة (لا شك الدورة تبقى، لكن "فقط في الدائرة الصغيرة التي تم حصرها بها وبطريقة صنعية"، وهذه الدورة الضيقة هي "محتملة" فقط، من رواسب الإنكار الظاهر).

وأيضا التأخير غير محدود ومستمر لأنه لا يتوقف عن إضافة جزء لآخر، بالاتصال مع الآخر، وبالتلامس مع الآخر، ليعمل قطعة بعد قطعة كي يدفع دائما الحدود إلى الوراء.

وهذه الأزمة مستمرة لأنها دائما من طرف ما يحصل. "الاتصال" بالعدالة، التلامس،  حل محل هرمية القانون. والتأخير إيجابي تماما ونشط - ويتابع على طول إلغاء فعل الآلة، ومع تركيب التجميع، ودائما قطعة بعد قطعة. وهذه هي السيرورة ذاتها، تتابع أثر حقل المحتوم (5). وحتى أنه أوضح في "القلعة" حيث أن كاف لا شيء سوى الرغبة: مشكلة منفردة، أن ينجز أو يحافظ على "الاتصال" مع القلعة، أن ينجز أو يحافظ على "التعاون".

***

........................

هوامش

4- كافكا. المحاكمة. 40:"ربما تعترض أنها ليست محاكمة على الإطلاق. وأنت محق تماما، لأنها محكمة فقط إذا نظرت إليها بهذا المنظار.

5- يبدو لنا أننا مخطئون تماما في تحديد التأجيل غير المحدود وكأنه حالة "إشكالية"، "لا قرار"، و"ضمير مذنب".

ان تكون شاعراً فعليك ان تمسك الكون بكلتا يديك، وان تعطي لمخيلتك حرية الغوص فيه، فالشعر كما يقول الرسام الهولندي فان كوخ (يحيط بنا في كل مكان، لكن للأسف وضعه على الورق ليس بسهولة النظر اليه) لهذا فمن العسير جدا ان تجد شاعرا يحلق بك في فضاءاته دون ارادتك، وان يجذبك لعالمه وأنت منقاد اليه.

ولأن الشعر هو (فن جمع المتعة بالحقيقة) بحسب رأي الشاعر والفنان صموئيل جونسون (١٧٠٩-١٧٤٨) فالقارئ يجد متعته ولذة القراءة في الشعر الذي يحرك الساكن فيه من مشاعر وأحاسيس وعمق في التفكير ويجعله مشاركاً فيما يقرأ، وهذا ما يرد بشكل واضح وانت تقرأ قصائد الشاعرة العراقية الهام الحسني، والتي تشير الى ما يشبه الهمس الى احلام الانثى الشرقية في زمن الحروب والمتاهات اللامتناهية:

(كنت سعيدة ، لا اعرف الحرب وما القتل

الطائرات..

البنادق..

المدافع..

الغربة..

التشرد..

وكل هذا الهراء.

كنت أعتقد اني لن أكبر أبداً

وأن الغد لن يأتي اطلاقا

لأن عقارب ساعتي اليدوية التي رسمتها بأسناني

كانت صامتة)

وان كان لابد من الصراخ، فهي تنتقي مبرراً لصرخاتها وأوجاعها علها تجد من ينصف أحلامها ويحقق طموحاتها، فالايام تمضي سريعا والرحلة في هذه الحياة قصيرة:

(رحلتنا سريعة وأيامنا جميلة بنا

من الذي يقرر متى نعيش؟

أنت/ أنتِ.. قلبك، عقلك، أم الأوقات .. الظروف.. المواقف أم الناس..

لا نعرف من لكنه هروب من السعادة أو الواقع بصورة أدق.)

ما يميز الحسني هو توغلها في اليومي، تغور في أعماقه، وتنتزع منه ما يمكن أن يكون اشارة للآخر، ومثابة للانطلاق بأحلامها نحو ما يبدد أحزانها من خلال مفارقات الحياة اليومية، انتقت من اليوميات ما يضعه في لبّة المشاعر والأحاسيس بعيداً عن الرتابة والتكرار، وقد كان جل ما يؤلمها هو الحجر الذكوري على الإنثى في مجتمعاتنا..

(فمن سينظر داخل زجاجة ويعرف أنني بها رهينة..

ايماني بكل شيء زائل

وأن الاقدار تتبدل..)

الزجاجة تلك هي مجرد مجموعة التقاليد البالية التي أطرت فيها مجتمعاتنا المرأة وحدّت من أبسط ما تستحقه من حرية وأوهمتها أنها (أي الزجاجة) لم تعد سوى أمان لا مناص منه.

في قصيدتها (متلازمان) تصف وبصوتين متجاورين، الرجل/ المرأة أنه في حياة كليهما ثمة شخص واحد:

(في حياة كل رجل

توجد امرأة واحدة

معها يصل الى حالة التوحد..)

(وفي حياة كل امرأة

يوجد رجل واحد

معه تجد اسمها

ورسمها

جنونها

ضعفها ورقتها)

لم تكتف في تصوير ما يراه الواحد بالآخر حيث لكل قاعدة شواذ، وفي الحياة كثير من هذا، لكنها تحيل كل ذلك الى القدر الذي يجمعهما ويوحدهما:

(ولكن..

ان يعثر كل طرف من هذين

الطرفين على الآخر

فهو قدر ونصيب)

هنا، كل طرف ينتظر الآخر، وهناك (حنين أبدي للنصف الغائب) هذا الحنين يقابله تحذر نجده في قصيدة (حواء) فالشاعرة تحذر من خدعتي الوقت والناس، فالأول (أي الوقت) قد لا يعطيك المساحة الكافية لفهم الآخرين، أما الثاني (ا] الناس) فهم الذين لا همّ لهم الا قطع الصلات وتعكير صفو العلاقات:

(احذري من خدعة الوقت

فهو رغم طوله جد قصير

واحذري من خداع الناس

فما من أحد يبقى لأحد)

أحلام المرأة/ الأنثى واضحة في عدد من نصوص الشاعرة الحسني منها نصوص (بركان ثائر ووقفة وحب حقيقي واعترافات صامتة وتكنولوجيا القلب) فهي وبمفردات غاية في الانتقاء.

في قصيدة قف تقول:

(ان لم تشعر بوخز في صدرك عندما نلتقي..

لا تسألني عن موعد للخروج سوية.

ان لم تختلس النظر الى ظهوري في مواقع التواصل بين الحين والآخر

ولم تكتب لي كثيرا

وتمحو ما اعترفت به..

ان لم تشعر بالارتباك حين أسألك عن حالك

ولم تقرأ محادثاتنا مراراً وتلتقط لها صوراً

لا تحادثني لمجرد تمضية الوقت وحسب..)

الوخز في الصدر، هو إشارة الشوق للقاء، وصدق المشاعر خلاله، وما تريده المرأة/ الأنثى لا يتعدى حدود تلك المشاعر.

وكذا الحال في قصيدة 'اعترافات صامتة' والتي تشير الى ما ذكرته في قصيدة 'قف'

(انصت اليك بقلب كامل..

تنهي الحديث وأنا متشوقة لتبدأه مجدداً.

أحذف رسائلي لتسألني عنها،

وأحاول أن أختصر كل مشاعري بمناداة إسمك)

وتلك الاعترافات لم تنته بهذه الشحنات من المشاعر انما تتعداها الى ما هو أعمق:

(فأنا لو أعطيتك هذا القلب لتقرأ ما فيه،

أهون عليّ من محاولة إخبارك عنه.)

هو الخوض في بحر الصدق وعنفوان الكلمة، وهو الرسم بالكلمات التي تدخل لب القلب دون تردد، فالصدق في المشاعر لا يحتاج الى إذن لكي يلج في صميم النفس:

(لا أعلم كيف كبرت بداخلي بهذه السرعة..

ولا أعلم كم ستظل تكبر،

كل ما أعرفه، أنني أحب ضحكتك،

وأقيس جميع أموري على قدر سعتها

هكذا يفرح قلبي!)

أن معرفة الاحساس، والشعور بالأخر، هو جل ما يثري العلاقات بين جانبين:

(أعرف جيداً هذا الشعور،

إنه أشبه بالنور الذي لا ينطفئ في قلبي).

الشاعرة إلهام الحسني تمسك بتلابيب الحياة قافزة على كل يومي بسيط لتكوّن منه فضاءً يسع أحلامها، وقصائدها التي تحاكي التقنيات الحديثة، واستخدامها بشكل يجعل من البعيد قريباً، والذي نسميه (الواقع الافتراضي) والذي يختلف جذرياً عن الحقيقي الذي نعيشه، طرفان في مكانين مختلفين، يتحدثان دون أن يلتقيا من قبل ليصبحا فيما بعد مدركين الى عمق العلاقة التي تربطهما.. في قصيدة (تكنولوجيا القلب) نجد هذا واضحاً:

(في هذا العالم الافتراضي،

ثمة أشخاص يقلبون الموازين،

يكسرون القواعد.

فأنت لا تحتاج أن تلتقي بأحدهم

وجهاً لوجه لتحبّه.

تشعر فجأة،

أن ملامحه تتناقلها القصائد.

وجوه أبطال الرواية، وصلوات الامهات

من نصوصه وتغريداته

تخلق صوتا دافئاً تطعمه لأذنيك)

هو العالم الجديد إذن، هذا الذي يشغلنا، وينوب عن عالمنا الذي نعيش فيه، ونكابد فيه، فيما العالم الذي صنعته التقنية الحديثة لا يخلو مما نحن فيه باستثناءات بسيطة لم تهتم بها القصائد إلا أنها تشكل على الواقع في معانداته للحياة:

(ثمة أشخاص هنا،

يؤسفني جداً ألاّ يجمعنا طريق ولا عمر،

وهم الأقربون)

إنها مفارقة الحياة، ما بين البعيد الذي تتوق اليه، والقريب الذي تؤسف لقربه!

أخيراً، لا بد من الإشارة الى أن الغوص في قصائد الشاعرة العراقية إلهام الحسني يحتاج الى أكثر من زاوية للقراءة، وهي تستحق أن يثنى على منجزها الإبداعي.

***

عبد الكريم العامري/ البصرة

مهما اختلفت الآراء والتعريفات في "أدب الثورة" الا انها تتفق على انه ذلك النّوع من الأدب الّذي يخلق الوعي في النّفوس ويعمّقه كما انه يفتح عيون الشّعب وبصيرته على الحقيقة ويكشف عورات الحكام الطغاة علاوة على دوره في تحريك النفوس الخاملة المستسلمة لكي تدرك طبيعة الواقع  الذي تعيشه، وهو ما أكدته الأعمال الأدبية ــ بمختلف اجناسها ــ التي تناولت الثورات السياسية والحركات الاجتماعية للشعوب المقهورة وكان للرواية شرف التصدي لهذه المهمة، فهي من بين اكثر الأشكال الأدبية استيعابا للتجارب والتغيرات الحاصلة بالمجتمعات ومنها الثورات والاحتجاجات الشعبية والجماهيرية وذلك لسعة المساحة المتاحة للروائي في حشد كم كبير فيها من الأحداث والشخصيات، والمعروف عن هذا النوع من الأدب انه لا يكتب في أثناء الثّورة ولا بعدها مباشرة، وإنّما يكتب بعد فترة من الزمن حيث يحتاج الأديب إلى المزيد من الوقت في التأمل والتّدقيق للإلمام بموضوع التغيير وافاقه المستقبلية، وقد شرع المبدع العراقي بكسر هذا السياق، فلم تكد انتفاضة تشرين العراقية تبلغ من عمرها سنوات قليلة وتفاعلاتها في الشارع ما تزال قائمة حتى سارع عدد ليس بالقليل من الكتاب العراقيين الى توثيق مآثرها وتدوين ما جرى فيها من انتهاكات انسانية بحق شباب عزّل وذلك من خلال اعمال ابداعية عراقية (رواية، شعر، قصة، مسرحية، مقالة) خرجت من مخاض الانتفاضة لتجسد عمقها وهويتها ايمانا من هؤلاء الكتاب ان الابداع فعل ثوري يجب ان ينتصر لكرامة الانسان وحريته حيث صدرت للأدباء العراقيين عدد من الاعمال الأدبية تناولت بطولات جيل العجائب جيل انتفاضة تشرين الخالدة ومن بينها رواية (جمجمة تشرين) للروائي العراقي عبد الكريم العبيدي والصادرة عام 2022 عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق.

وعلى الرغم من محاولة المؤلف النأي بروايته عن ملحمة تشرين وذلك من خلال التنويه الذي تصدر الرواية وأشار فيه انها رواية (من نسج الخيال وان شابهت حوادثها واشخاصها وامكنتها اشخاصا حقيقيين ص5) الا انه يمكن للقارئ ومنذ الصفحات الاولى للرواية الاستدلال على موضوعها وانحيازها التام لأدبيات انتفاضة تشرين الخالدة، فالمؤلف قام بإهداء العمل الى عائلته التي حالفت الثوار ورسمت لهم علامة النصر في ساحة التحرير الساحة التي شهدت ودارت فيها فصول المنازلة بين الاحرار والعبيد وصارت واحدة من سيمائيات الانتفاضة علاوة على المفردات العديدة التي وردت في الصفحات اللاحقة والتي لم يكن لها حضور بين العراقيين قبل انطلاق الانتفاضة من بينها (نريد وطن، الكمامات، الدخانيات، الجوكرية، الطرف الثالث، التك توك، الكواتم) وكذلك ما جرى من أحداث تناولتها الرواية وكلها تؤكد ان رواية تشرينية (كُتبتْ بأمر الشعب) وانها تنتمي الى أدب الثورات.

يكرس المؤلف الجزء الأول من روايته للكشف عن خلجات شخصياتها وخلفياتهم الاخلاقية والسياسية فيستهل الحوار بين الدخانية التي يرمز لها بـ (M) وسيدها القاتل الذي يطلب منها التهيؤ لنيل حريتها والخروج من الصناديق المغلقة للانطلاق صوب رؤوس الشباب المنتفضين ويبشرها انها (ستكون عروس العرائس ونجمة العواجل الاخبارية ص17) ويأتي رد الدخانية كاشفا عن وحدة النفوس الشريرة في تلك المنازلة (لا عليك.. انت أنا وأنا أنت كلانا في الأمر سيان، انت قاتل متمرس وعبد مأمور وقناص خطير في ميليشيات الطرف الثالث ومهمتك تطهير البلد من دنس الجوكريين ص20) ويتعمق الحوار بين الطرفين ليكشف المزيد من السادية التي كان عليها القتلة وذلك عندما تخاطب الدخانية سيدها (لا توجد متعة أجمل من رؤية جمجمة مثقوبة، يتصاعد الدخان منها، لا شيء يطربك سيدي أكثر من رؤية جوكري يخّر صريعا يتشخط في دمه وينازع الموت ص28) بهذه الطريقة الذكية من الحوار التي يلجأ فيها الروائي الى الأنسنة يقوم بإفراغ شحنات غضبه واحتجاجه غير المباشر على ما يجري للشباب المنتفض ويجعل من الدخانية لسانه الذي يجلد به القاتل ويمعن في اهانته بقولها (انك أميّ معتوه لا يقرأ ولا يكتب، لا تجيد فعل أي شيء سوى القتل، انت وحش بشري متخف، بحوزته قاذف قنابل وكل ما يعنيك هو ان تشبع غرائزك وتحافظ على حياتك وتبقى متسلطا، منغمس في غريزة القطيع وعبادة الرمز الأوحد ص30).

كما يكشف العبيدي في هذا الجزء من الرواية عن هوية تشرين والظروف التي دفعت الشباب للثورة عندما يختار احد ثوارها وهو الشاب " باهر" نموذجا ويقدمه شاب كابد الجوع والحرمان وضنك العيش حيث تخرّج من الجامعة وانضم الى ملايين العاطلين عن العمل وابتلته الظروف بإعالة شقيقاته الثلاث وأمه الأرملة ــ التي تضطرها ظروف الفقر الى العمل في الخدمة المنزلية لدى عائلة طبيب وحين (كبر واشتد عوده لم يجد وطنا مثل باقي الأوطان بل بلدا محتلا منهوبا، كعكعة يتقاسمها اللصوص ص45) فهل يحتاج مثل هذا الشاب الى المزيد من الصبر والانتظار لكي يحظى بالعيش الكريم !! وهل هناك اكثر من هذه الظروف القاسية دافعا ومبررا للثورة، هل يستحق ان تنتهي حياته باستقرار قنبلة دخانية في جمجمته لمجرد انه هتف (نريد وطن)؟ حتى ان القنبلة في نهاية المطاف كانت أكثر رحمة وانصاف من القتلة فقد منحته شهادة حسن السيرة والسلوك بعد ان أجرت مسحا خلال استقرارها في تجاويف جمجمته فتندم على فعلتها وانصياعها للقاتل الذي قذف بها فتقول عن الضحية (يا لشقائي! أهذه جمجمة جوكر جاسوس؟ أم قلب عاشق؟ هذا الجوكر العجيب سيدمرني، سيرته الذاتية مُحيّرة، لم أجد فيها معلومات تثبت ما ذهبت اليه، كل ما وجدته هو انه خريج جامعة، عاطل عن العمل، وشاعر واعد ينشر قصائد شعرية في الصحف والمجلات ص 112 )، وعند هذا الاكتشاف تبدأ نقطة التحول عند الدخانية بالتمرد فقد اصبحت تمتلك الشجاعة لتقول للقاتل (سأكشف خيوط جرائمك واثبات التهم الموجهة اليك، لم أعد " أم 99 إس، قنبلة صربية فتاكة أنا قنبلة نادمة ص94) وتزيد من حنقها وندمها فتكشف سيرة القاتل وتصفه بالمدمن الوضيع العبد مخاطبة ومذكرة اياه بنهايته التعيسة (ستفقد عالمك الكبتاجوني سريعا، وسيتخلى عنك الفيل الأزرق .. ستزول جميع النعم، كل المنافع واللذات، وسرعان ما سيرمي بك نصفك المهزوم الى الهاوية، الى مرتع الفضائح ص114).

لقد استخدم العبيدي لغة الحوار بين القتلة وسيلة لكشف زيفهم وشدة اجرامهم وتجردهم من الانسانية كما أدان افعالهم التي وصلت من الخسة في اقتحام الميليشيات المسلحة المستشفى والاعتداء على الطبيب الذي كان يعالج جرحى التظاهرات، كما اشارت الرواية الى المتغيرات التي أحدثتها انتفاضة تشرين في الوعي العراقي الذي مرّ بصحوة وطنية بعد طول سبات ومن بينها التحول في شخصية " يارا" ابنة الطبيب الذي تم الاعتداء عليه حيث كانت هذه الفتاة الارستقراطية لا تغادر اسوار القصر واذا بها ثائرة متمردة في ساحة التحرير وملهمة لشباب الثورة، وايضا بان التغيير في الوعي من خلال تفاعل الجماهير مع يوميات الانتفاضة حيث شهدت ساحة التحرير يوميا مبادرات انسانية طوعية ممثلة بالدور الشجاع لعربات التك توك والطواقم الطبية وفرق المسعفين والطبخ ووجبات الطعام التي يجلبها المواطنون بسياراتهم الشخصية اضافة الى التبرعات التي يوزعونها على المعتصمين وكذلك رسم اللوحات التي زينت الجدران وحملات التنظيف للساحة .

يكرس الروائي الجزء الثاني من روايته لإظهار الصراع الذي ينشب بين القتلة الذين يتخذون من ثنائية (القمع مقابل البقاء) منهجا في التعامل مع الشباب المنتفض، حيث تتصاعد نبرة التمرد في خطاب الدخانية الموجه الى القتلة كاشفة به عن عريهم وقرب نهايتهم (هكذا ظننتم، انت ورهطك، انكم احكمتم قبضتكم وأذللتم العباد، وغدوتم مستهينين بالأرواح، وبمنأى عن قواعد التجريم والعقاب، لم يدر في خلدك قط ان نهاراتك المزدانة بتهشيم الجماجم ولياليك الحافلة برنين الكريستال وبمعزوفات الفيل الأزرق قد ولت ولن تعود، ولكن كيف لك ان تعرف ان كل تلك الحصون والقلاع وأسيجة الأمن التي شُيدّت لحمايتكم لم تكم آمنة ولا منيعة ص93) .

ويقوم المؤلف بأسدال الستار على هذه الملحمة الوطنية في مشهد درامي مؤثر تجسده " سعودة " حين تأتي الى ساحة التحرير حاملة الدخانية التي فجرت جمجمة ابنها الشهيد " باهر" التي احتفظ بها الطبيب الذي أخرجها من رأسه لتضمها الى معرض مخلفات الـ .. وسط بكاء المتظاهرين لتؤكد ان هذه القنبلة ستبقى في متحف التاريخ شاهدا على اجرام وخسة القتلة .

رواية (جمجمة تشرين) شهادة انصاف وحسن سيرة وسلوك لانتفاضة تعد هزة تغيير مدهشة وتمثل شرارة أمل كاد يختنق في ظلمة اليأس ممثلا بصولة الشباب الذين هبوا من أجل الانتصار لوطن (مذبوح ومباح، بيع في بازار الخراب الأمريكي في عصر الردة والتراجع، وخراب الأزمنة القبيحة، وتقاسم الغنيمة، وتفريخ الأحزاب والعصابات وبيع " بغداد الرشيد " عاصمة الدنيا في سوق النخاسة ص 123) انها رواية الثقة بالنصر ولو بعد حين .

يذكر أن الروائي عبدالكريم العبيدي كان قد أصدر عدداً من الروايات وهي: ضياع في حفر الباطن، الذباب والزمرد، كم أكره القرن العشرين، ثمانية أعوام في باصورا، قصة عرش العراق و«مجموعة قصصية»، إضافة الى مسرحية فوبيا، وروايته «اللحية الأمريكية .. معزوفة سقوط بغداد» التي حازت على جائزة كتارا للرواية العربية عام 2018 .

***

ثامر الحاج امين

جيل دولوز وفيليكس غوتاري

ترجمة: صالح الرزوق

***

اللاهوت السلبي (أو لاهوت الغياب)، وتسامي القانون، وأولوية الذنب، هي الموضوعات السائدة في معظم الدراسات عن كافكا. وتقدم المقاطع المشهورة في "المحاكمة" (وكذلك في "مستعمرة العقوبات" و"سور الصين العظيم") القانون على أنه شكل نقي وفارغ ودون مضمون، له موضوع مجهول دائما:وعليه يمكن التعبير عن القانون من خلال جملة فقط، ويمكن إدراك الجملة فقط من خلال العقاب. ولا أحد يعلم جوانية القانون. لا أحد يعلم ما هو القانون في المستعمرة. وتكتب أذرع الآلة الجملة على جسد المحكوم، الذي لا يعرف القانون، وفي نفس الوقت تفرض هذه الأذرع عذابها عليه. وهكذا "سيتعرف على 'الجملة' وهي على جسده".

في "سور الصين العظيم": "شيء مؤلم جدا أن تكون محكوما بقوانين لا تعرفها... وجوهر الشفرة المجهولة هو في أنه يجب أن تكون دائما لغزا". وقد وضع كانط نظرية عقلانية عن ردة القانون من المفهوم الإغريقي إلى اليهود مسيحي. ولم يعد القانون يعتمد على خير مسبق يمنحه ماديته، ولكنه أصبح شكلا نقيا يرتكز ويعتمد عليه الخير كما هو. والخير هو الذي يعبر عنه القانون حينما يعبر عن نفسه. ويمكن القول إن كافكا وضع نفسه في محل جزء لا يتجزأ من هذه الردة. ولكن الأخلاق التي استثمرها تبين قصدا مختلفا كلية. بالنسبة له المسألة أدنى من أن تكون عن تمثيل هذه الصورة للقانون المتسامي والمجهول، وأقرب لتجزيء ميكانزم آلة من نوع مختلف تماما، غير أنه يحتاج لصورة هذا القانون فقط ليرتب عتاده ويجعلها نشطة مثل كل متكامل يحظى ب "انسجام وتزامن مثالي" (وما أن تختفي هذه الصورة - الفوتوغرافية تختفي أيضا أجزاء الآلة كما هو الحال في "مستعمرة العقوبات"). ويجب النظر إلى "المحاكمة" على أنها اختبارات علمية، وتقرير عن التجارب المجراة على عمل الآلة والتي يتحكم فيها القانون بالخطر الداهم لسيرورة العمل،  مثل دور لولب التعبئة الخارجي. ولذلك يجب العودة للنص في "المحاكمة" بحذر شديد. والمشكلة الأساسية هنا تعاني من سوء تفسير أهمية هذه النصوص النسبية، مع اتخاذ فرضيات غير مثبتة عن موضعها في الرواية، كما هو واضح على نحو خاص في طريقة ترتيب ماكس برود الأشياء لتأكيد أطروحته عن اللاهوت السلبي.

ولدينا فصلان شديدا الأهمية على نحو خاص: الفصل المكثف الأخير، عن إعدام كاف، والفصل السابق "في الكاتدرائية"، وفيه يمثل الكاهن خطاب القانون. لم يخبرنا أحد أن الفصل الأخير مكتوب في نهاية "المحاكمة". وربما كتبه كافكا حينما بدأ التنقيح والمراجعة، وكان لا يزال متأثرا بإنهاء علاقته مع فيليس. وهي نهاية غير ناضجة، ومؤجلة، وجهيضة. ولا أحد يمكنه التلاعب بالمكان الذي اختاره لها كافكا. وربما هو حلم يمكن أن يدخل في أي مكان في سياق الرواية. وبالفعل نشر كافكا مقطوعة أخرى، مستقلة وتحت عنوان "حلم"، وهي بالأساس رؤيا تمهيدية ل"المحاكمة". وعليه كان ماكس برود مصيبا حينما لاحظ كيف  كانت "المحاكمة" رواية دون نهاية، وبالضرورة  دون حدود:"بالنسبة لل "المحاكمة، حسب تصريح الكاتب حرفيا، أنت لن تصل أبدا إلى المحكمة العليا، وبمعنى من المعاني لا يمكن للرواية أن تنتهي - ويسهل أن تقول إنه يمكن تمديدها بشكل لانهائي" (ملاحظة لترجمة ويلا وإدوين موير. نيويورك. ألفريد أ نوبف، 1956. 334). وفكرة الانتهاء بإعدام كاف تتعارض مع اتجاه كل الرواية ومع صفة "التأجيل غير المحدود" الذي يتحكم ب "المحاكمة". وموضع إعدام كافكا في آخر فصل يبدو أن له مرادفا في تاريخ الأدب - موضع الوصف المشهور للطاعون في نهاية كتاب لوكريتوس. في الحالتين هو مشكلة تظهر أنه ليس أمام الأبيقوري في آخر دقيقة إلا أن يستسلم للألم، أو أنه يمكن ليهودي براغ أن يباشر متابعة الذنب الذي يعمل في داخله.

أما بالنسبة للفصل الآخر "في الكاتدرائية"، فإن الشرف الذي منح له، والذي يدل أنه على نحو ما مفتاح للرواية، ومع أنه دليل على المكانة الدينية للكتاب، يتعارض أيضا بشكل ملحوظ مع محتواه. وقصة "حارس بوابة القانون" تبقى غامضة جدا، ويدرك كاف أن الكاهن الذي يروي هذه القصة هو عضو في الجهاز القضائي، وهو دير للسجناء، وهذا عنصر واحد من سلسلة عناصر أخرى، وهو بلا ميزات، لأن السلسلة لا تتوقف عليه. ونحن نوافق على اقتراح أويترسبروت الداعي لنقل هذا الفصل بحيث يصبح قبل الفصل المعنون "المحامي والصناعي والرسام"(1). من وجهة نظر تسامي القانون فرضا، لا بد من وجود ارتباط ضروري معين يربط القانون مع الذنب، مع المجهول غير المعروف، ومع الجملة أو العبارة. والذنب في الحقيقة هو قبلي ويترادف مع التعالي، لكل شخص أو لكل إنسان، سواء هو مذنب أو بريء. ولو أنه بلا موضوع وأنه شكل نقي، لا يمكن للقانون أن يكون مجالا للمعرفة ولكنه تحديدا مجال للضرورة العملية المطلقة: يشرح الكاهن في الكاتدرائية أنه "من غير الضروري أن تقبل كل شيء على أنه صحيح، وعلى الإنسان أن يقبله على أنه ضروري".

وأخيرا لأن القانون دون موضوع للمعرفة، فهو يعمل فقط على أنه بيان وبيان محدد لنشاط العقاب: مقولة محفورة مباشرة على الحقيقي، على الجسد والبدن، وهي عبارة عملية تعاكس أي  نوع من الافتراضات والتأملات. كل هذه الموضوعات تقدم على نحو جيد في "المحاكمة". ولكن على وجه الدقة إن هذه الموضوعات ستتحول إلى موضوع تفكيك (تجزيء)، وحتى إزالة، لخبرات كافكا الطويلة. وأول جانب من هذا التفكيك موجود في "إزالة أي فكرة عن الذنب منذ البداية"، وهذا جزء من التهمة ذاتها: الإقرار ما هو إلا حركة سطحية وفيها يحتجزك القضاة والمحامون كي يمنعوك من الدخول بعلاقة مع الحركة الحقيقية - وهذا يعني العناية بقضاياك الشخصية(2).

ثانيا، سيفهم كاف حتى لو أن القانون يبقى غير معروف، فهذا ليس لأنه مستور بتعاليه، ولكن ببساطة لأنه دائما محروم من أي جوانية: هو دائما في مكتب مجاور، أو وراء الباب، في اللامتناهي (ونحن رأينا هذا فعلا بشكل واضح في أول فصل من "المحاكمة" حيث يجري كل شيء في "غرفة مجاورة").

ختاما، ليس القانون هو الذي يعلن عنه بسبب الطلب على التسامي المختفي. وتقريبا هو العكس تماما: العبارة، النطق، الذي يبني القانون باسم قوة الواحد المتسلطة وهو الذي يعلن عنه- يرتبك القانون بما ينطق به الوصي، والكتابة تسبق القانون، ولا تكون التعبير الضروري والمشتق منه.

وأسوأ ثلاث موضوعات في العديد من القراءات عن كافكا هي عن تسامي القانون وتعاليه، وجوانية الذنب، وذاتية النطق. وهي مرتبطة بكل الحماقات التي كتبت عن المجاز والاستعارة والرموز في أعمال كافكا. أضف إلى ذلك فكرة التراجيدي، والدراما الداخلية، والعلاقة الحميمة.  ودون أي شك يقدم كافكا الطعم. ويقدمه، بوجه خاص، إلى أوديب، ليس بسبب الرضا ولكن لأنه يريد أن يوظف أوديب على نحو خاص ليخدم مشروعه الشيطاني. ولا فائدة ترجى أبدا من البحث عن موضوع حول كاتب ما إن لم يسأل المرء بدقة متناهية ما هو وجه أهميته في ذلك العمل، وكيف يعمل (وليس ما هو "معناه"). وكافكا بحاجة ماسة للقانون والذنب والجوانية - إن تحركت على سطح أعماله. والحركة السطحية لا تعني أنها قناع يختفي تحته شيء آخر. الحركة السطحية تدل على نقاط إبطال الفعل، الفك، وهو ما سيحرك التجريب حتى يبرز حركة الجزيئات والتركيب الآلي والذي تنجم عنه نتيجة كونية هي حركة السطوح. ونود أن نقول إن القانون والذنب والجوانية موجودة في كل مكان. ولكن ما هو ضروري أن تفكر بجزء محدد من آلة الكتابة على سبيل المثال، كالأسلحة الأساسية الثلاثة - الرسائل والقصص والروايات - وكي تؤكد أن هذه الموضوعات ليست حاضرة في أي مكان ولا تعمل أبدا. وكل سلاح / عتاد منها له بالتأكيد نبرة مؤثرة أساسية.

ولكن في الرسائل، أنت على موعد مع الرعب وليس الذنب: الرعب من الفخ الذي تقترب منه، والرعب من عودة التيار، رعب مصاص الدم من أن يكون فجأة أمام ضوء النهار تحت شمس ساطعة، أو بمواجهة الدين، أو الثوم، أو أن الوتد ثقب القلب (وكافكا خائف جدا، في رسائله، من الناس ومما يمكن أن يحصل بسببهم، وهذا يختلف تماما عن الذنب أو الإهانة). وفي قصص التحول إلى حيوان يوجد مهرب ذو نبرة مؤثرة دون أي ترابط مع الذنب. كما أنه مختلف عن الرعب. بالتحول إلى حيوان أنت تعيش حياة الهروب أكثر من حياة الرعب (الحيوان في "الأخدود" لا يخاف حقا، و بنات آوى ليست مرعوبة - وتعيش في حالة "أمل جنوني"، والكلاب الموسيقيون  "التي تجرؤ على تحقيق شيء من هذا النوع لا تحتاج للخوف من مثل هذه الأشياء").

وأخيرا في الروايات من الغريب أن تلاحظ الدرجة التي بلغها كاف في التحرر من الإحساس بالذنب، والتحرر من الإحساس بالرعب، وعدم المباشرة بالفرار. وهو صاخب تماما ويقدم نبرة جديدة غريبة تماما، لها معنى التفكيك والذي هو في نفس الوقت يعني القاضي والمهندس، وهذا إحساس حقيقي، روح Gemut. الرعب، الهرب، التفكيك - يجب أن نفكر بها على أنها ثلاث عواطف، ثلاث كثافات، وترادف الميثاق مع الشيطان، والصيرورة الحيوانية، والمكننة والتركيب التراكمي.

فهل يجب ان ندعم التفسير الواقعي والاجتماعي لكافكا؟.

بالتأكيد، بما أنه أقرب إلى استحالة التفسير بشكل لامتناه. ومن المفيد أكثر أن تتكلم عن مشاكل الأدب الثانوي، عن وضع يهودي براغ، عن أمريكا، وعن البيروقراطية وعن المحاكمات الكبيرة، ولا أن نتكلم عن إله غائب.

يمكن للمرء الاعتراض أن أمريكا كافكا غير حقيقية، وأن إضراب نيويورك غير ملموس، وأن أصعب حالات العمل لا تقلل من كرامته في عمله، وأن انتخاب القاضي يقع في مجال اللغو التجريدي. ويمكن للمرء عن وجه حق أن يلاحظ أنه لم يكن هناك أي نقد لكافكا على الإطلاق. وحتى في "سور الصين العظيم" يمكن لحزب الأقلية أن يؤمن أن القانون هو حقيقة عبثية عن "النبالة": فالحزب لا يعبر عن الغضب، و"إن السبب الحقيقي في أن الأحزاب التي تعتقد أنه لم يعد للقانون وجود قليلة جدا - مع أن أطروحتها هي بأساليب معينة، جذابة جدا،  وتحترم دون جدال النبالة وحقها في أن تستمر بالوجود". في "المحاكمة" لا يهاجم كاف القانون ويضع نفسه طوعا مع الطرف القوي والجلادين: ويطعن فرانز الذي تلقى الجلد، ويرعب الشخص المتهم بإلقاء القبض عليه من ذراعه، وعند المحامي يسخر من بلوك.

في "القلعة" يحب كاف أن يخاطر ويعاقب كلما أمكن. هل يمكننا أن نقول، وهو ليس "ناقدا لعصره"، إن كافكا حول نقده "ليكون ضد نفسه وأن لا يكون لديه منصة غير 'منصة داخلية'؟". وهذا شيء غروتسكي، لأنه يوجه النقد إلى بعد من أبعاد التمثيل. وإن كان التمثيل ليس خارجيا، سيكون حصرا داخليا من الآن وصاعدا.

ولكن هناك حقا شيئ آخر في كافكا: فهو يحاول أن يستخلص من التمثيلات الاجتماعية مركبات لفظية ومركبات آلية.، وأن يفكك هذه المركبات. وفعليا في قصصه عن الحيوان كان كافكا يرسم خطوطا للهرب: ولكنه لم "يهرب من العالم"، ولكن العالم وتمثيلاته هو الذي قام بالهروب، ثم تبع تلك الخطوط.  كما أنه إشكالية عن الرؤية والكلام مثل خنفساء، مثل خنفساء الروث. أضف لذلك، في الروايات، يدفع تفكيك المركبات التمثيل الاجتماعي إلى الهروب بطريقة فعالة أكثر مما يقوم به ناقد، ويقترب من إلغاء الحدود  في عالم سياسي ليس له علاقة بنشاط العاطفة (3).

للكتابة دور مزدوج: ترجمة كل شيء إلى تركيبات وتفكيك التركيبات. والاثنان شيء واحد. ولهذا السبب نحن نميز في أعمال كافكا حالات هي في الواقع متداخلة مع بعضها البعض - أولا الدليل الآلي، ثم الآلات المختزلة والمتجردة،  وأخيرا تركيبات الآلة. دليلات الآلة هي إشارات تدل على تركيب لم يتحقق بعد أو تم تفكيكه، لأن المرء يعرف فقط الأجزاء المعزولة التي يمكن أن تشترك بتكوينه، ولكن ليس كيف تتشارك معا. وعلى الأغلب هذه الأجزاء هي كائنات حية، حيوانات، ولكنها ذات قيمة فقط كأجزاء متحركة أو مشاركات في تركيب تذهب لما هو أبعد من المكونات، ولغزها يستمر لأنها  فقط من يتحكم أو أنها جلاد هذا التركيب. وعليه إن الكلاب الموسيقية هي في الواقع أجزاء التركيب الموسيقي وتنتج ضجيجا "برفع وتنزيل أقدامها، وبتدوير الرأس، وبركضها وخمودها، والوضع الذي 'تأخذه' لترتيب نفسها". ولكن وظيفتها لا تعدو أن تكون دليلا، فهي "لا تتكلم، ولا تغني، وتبقى على وجه العموم صامتة، وتقريبا صامتة بحزم". وهذه الدليلات الآلية (وهي ليست مجازية أو رمزية أبدا) متطورة جدا بشكل خاص فيما يتعلق بالتحول إلى حيوان، وفي قصص الحيوانات. وتشكل "المسخ" مركبا معقدا وله عناصر - الدليل،  وهي غريغور -الحيوان والأخت الموسيقية، وهنا يكون موضوع - الدليل هو الطعام، والصورة، والتفاحة. وفيه تكون تضاريس الدليل هي المثلث العائلي والمثلث البيروقراطي.

الرأس المنكس الذي ينتصب والصخب الذي ينتهي إلى صوت ويخرجه عن مساره يعمل أيضا كدليل لهذا النوع في معظم هذه القصص، ولذلك هناك دليل آلي في كل مرة تقام فيها آلة، وتبدأ بالعمل. ومع ذلك لا يعرف المرء كيف أن الأجزاء المنعزلة التي تكونها وتدفعها للعمل تعمل هي فعليا. ولكن الوضع المعاكس يظهر أيضا في القصص: تظهر الآليات المجردة في الوجود تلقائيا، دون دلائل. ولكن في هذه الحالة لا تعمل، أو أنها لا تواصل عملها. وهذه هي الآلة في "مستعمرة العقوبات" التي تستجيب لقانون الحارس القديم ولا تقاوم تفكيكها. وهكذا هو المخلوق المسمى أودراديك والذي "يغري المرء في أن يؤمن أن المخلوق كان له في وقت ما نوع من الشكل المحسوس ولكنه الآن بقايا محطمة فقط. ولكن لا يبدو أن هذا هو الحال.. ويبدو المظهر العام دون معنى ولكنه بطريقته الخاصة ناجز على نحو مثالي".

وكذلك أيضا كرات بينغ بونغ بلومفيلد. ولكن يبدو أن تمثيل القانون المتعالي، بكل عناصر الذنب والمجاهيل التي يحملها، هي آلة تجريدية من هذا النوع. ولو أن الآلة في "مستعمرة العقوبات"، وهي ممثلة للقانون، تبدو أحفورية وخارج النطاق، وهذا ليس لأنه هناك قانون جديد، كما ادعى الناس مرارا، وهذا القانون أكثر حداثة، ولكن لأن شكل القانون على نحو عام، لا يمكن فصله، ولا يتطور، بطريقة محسوسة. ولهذا السبب تبدو القصص وكأنها تقاطع خطرين تمنعهما من إتمام عملهما، أو تجبرهما على البقاء غير تامين أو تمنعهما من التطور إلى روايات: إما لأنهما ليس أكثر من دلائل آلية تدل على التركيب، مهما كان وضعهما نشيطا في الظاهر، أو لأنهما يضعان قيد العمل آلات تجريدية كلها مجمعة ومركبة، ولكنها ميتة، ولا تفلح في الاتصال ماديا بأي شيء (ويجب أن ننتبه أن كافكا نشر بإرادته نصوصه عن القانون المتعالي في قصص قصيرة قام باقتباسها من عمل شامل).

عليه تبقى هناك تركيبات آلية بشكل موضوعات في الرواية. وفي هذه المرة تمتنع الدلائل الآلية عن أن تكون حيوانات. يجتمعون، ويتناسلون بشكل سلسلة، ويبدأون بالانتشار، ويأخذون أشكالا بشرية من كل الأنواع، أو أجزاء منها.

من جهة أخرى تتبدل الآلة التجريدية وتأخذ شكلا فرديا. وتتوقف عن أن تكون ملموسة ومعزولة. ولا يبقى لها وجود خارج التركيبات المادية والاجتماع سياسية التي تتقمصها.

وتنتشر فيها وتقدر درجة آليتها. وأخيرا تتوقف التركيبات عن العمل بصورة آلة في سياق تركيب وتجميع نفسها، وبطريقة غامضة، أو بصورة آلة تامة التجميع ولكنها لا تعمل، أو أنها متوقفة عن العمل. وتعمل فقط عبر التفكيك الذي تقود إليه الآلة وكذلك تقود إليه التمثيل. ولكنها تعمل، وهي تعمل فقط من خلال وبسبب تفكيك ذاتها. وهي تولد من هذا التفكيك (لم يكن التجميع والتركيب هو ما يهم كافكا على الإطلاق). وهذه الطريقة في التفكيك الإيجابي لا تستفيد من النقد الذي لا يزال جزءا من التمثيل. ولكن تكون متضمنة في استطالة، في تسريع، الحركة ككل والتي تعبر فعليا الحقل الاجتماعي. وتعمل في ظل افتراض حقيقي عمليا دون أن يكون فعليا (فقوى المستقبل الشيطانية المخصصة لهذه اللحظة تلامس فقط الباب).

***

........................

هوامش

1-انظر هيرمان أويترسبروت. هل أنت مستجد على أعمال كافكا؟.

(Antwerp: Vries-Brouwers). 1957.

2- كافكا. المحاكمة. 127: "علاوة على كل شيء، لو أنه عليه تحقيق أي شيء، من الأساسي أن يلغي من ذهنه ونهائيا فكرة الذنب المحتمل. وهذا الفعل القانوني ليس أكثر من صفقة تجارية لمصلحة البنك ، كما بين مرارا. وهي صفقة وفي داخلها، كما يجري غالبا، يتحرك الخطر والذي يجب بكل بساطة تجنبه".

3- حميمية البورجوازية الصغيرة وغياب أي نوع من النقد الاجتماعي هو الموضوع الأساسي للمعارضة الشيوعية المعادية لكافكا.  خذ على سبيل المثال دراسة نشرتها المجلة الأسبوعية "أكشين" عام 1946:" هل ينبغي إحراق كافكا؟". ثم أصبحت الأمور أصعب وأصبح كافكا على نحو متزايد مدانا لأنه ناشط ضد الاشتراكية، ومتورط في الصراع ضد البروليتاريا، بسبب اللوحات التي يرسمها للبيروقراطية. وتدخل سارتر في مؤتمر موسكو للسلام عام 1962 ودعا إلى تحليل أفضل للعلاقة ببن الفن والسياسة وبالأخص عند كافكا. ثم تابع مناسبتين في ليبليتة liblice في شيكوسلوفاكيا (1963و1965) وكلتاهما عن كافكا. ولاحظ المشاركون الإشارات على التبدل العميق، وفي الحقيقة، وردت مشاركات هامة من غولدستاكير وفيشر وكارست. ولكن دون مشاركين من روسيا. وكان للمشاركات وجود محدود في الدوائر الأدبية الاشتراكية. ولم تتكلم غير الصحافة الألمانية الشرقية عنها، ولإدانتها فقط. وقد تعرضت هذه المؤتمرات وتأثير كافكا للهجوم بحجة أنها أحد أسباب ربيع ثورات براغ. وأعلن غولدستاكر "نحن مدانان، أنا وأرنست فيشر، بأننا حاولنا استبعاد فاوست غوتة، وهو رمز الطبقة العاملة، من روح الاشتراكيين، وذلك لنستعيض عنه ببطل كافكا الحزين، غريغور سامسا، وهو رجل تحول إلى حشرة". وتوجب على غولدستاكر أن يهاجر إلى إنكلترا، وكارست إلى أمريكا. عن كل هذه المسائل، وعلى أوضاع الحكومات الشرقية المختلفة، وعن مقالات كارست وغولدستاكر الراهنة، انظر المقال الممتاز لأنتونين ليهام "كافكا بعد عشر سنوات" في الأزمنة الحديثة (تموز 1973).

* ترجمة الفصل الخامس من كتاب: كافكا - نحو أدب ثانوي. ص 43-52.

تتناول هذه القراءة شعر سعد ياسين يوسف من خلال محورين: الأول عن تعريف شاعرنا للشعر والثانية عن أهم سمات نصوصه الأخيرة بشكل خاص .

قبل سنوات كنت بصدد جمع تعريفات الشعراء عن الشعر - بعد أنْ اعتدنا قراءة تعريفات الشعر من النقاد - وقد جمعت تلك التعريفات في كتابي الموسوم ب (ما الشعر؟) فتوصلت إلى أنَّ تنوع المنابع الفكرية للشعراء يقود بالضرورة إلى اختلاف لغتهم ومن ثم تنوع تعريفاتهم، بمعنى أن تنوع المواقف الفكرية للشعراء يؤدي إلى اختلاف تعريفاتهم للشعر فيصبح تعريف كل شاعر بمثابة صوته الخاص وبصمته التي تميزه من الآخر.

وكان الدكتور سعد ياسين يوسف من ضمن الشعراء الذين استقيت منهم تعريف الشعر. ولأنه من ميسان من أعماق تاريخ العراق حيث ولدت الكلمة وانتشرت في بقاع البلدان فإنَّ مرجعية تعريفه للشعر تختلف عن الشعراء الآخرين فهو يضع الشعر في الحيز بين ما هو تاريخي وما قبل التاريخ، يضع الشعر في هذا الحدّ الفاصل بينهما حتى تبدو القصيدة عنده وكأنَّها كائن حي وُلد للتو، يعرّف الشعر فيقول:

"الشعر: تجسير للهوة بين ضفتين حيتين بصور جمالية مكثفة لغويا ًودلالياً تتدفق بنبضٍ متواتر لتولّد كماً هائلاً من حلقاتِ المعنى في موضوعٍ محدد"

إذن الشعر عنده تجسير للهوة بين ضفتين حيتين، وهاتان الضفتان  هما تماماً ما قبل التاريخ وما بعد التاريخ فتأتي القصيدة وكأنها مولودة من هذا الحد الفاصل بين الزمنين.

إنَّ هذا الفهم الحضاري المتقدم للشعر ألقى بظلاله على شعر سعد ياسين يوسف سيما في نصوصه الأخيرة التي أصبحت قادرة على إيقاظ الوعي الإنساني المطلوب بقدرتها على إحداث التغيير المرجو منها لأنها تضع يدها على الخلل بمعنى أنها لا تضخم السلبيات كما يفعل الكثير من الشعراء، بل تتجاوز المألوف من القصائد، وفي تقديري الشخصي أنَّه من السهل على الشاعر أنْ يضع يده على الخطأ غير أنَّ الصعوبة تكمن في أنْ يرشدنا إلى خطوة أولى من خطوات الحل، وسعد ياسين يوسف يضيء لنا السلبيات والأوهام من خلال جعل القارئ مشاركاً في خطوات الحل وتحفيزه على السؤال  والتفكير ؛ من هنا قلت: إنه يضيء السلبيات ولا يضخّمها ولا يتفنن في جلد المجتمع كما يفعل الجميع لذلك نجد في كلّ نصّ من نصوصه هناك بؤرة مضيئة تسهم في تعزيز الوعي الفكري عند القارئ وتمنح القارئ الخطوة أوالعتبة الأولى لتلقي نصوصه .

ثمة مسألة أخرى في نصوصه إلا وهي جدليّة الأفكار كونها عامل مهم من عوامل شعرية قصيدة النثر، فإذا انتفت هذه الصفة سقط جزء كبير من شروطها. وتتجلى لنا تلك الجدلية بكثرة في قصائده النايضة بالوعي عبر خطابها الجمالي.

المسألة الأهم عندي هو هذا النظام اللغوي المبتكر في قصائده الذي وضعني أمام اختيار وسؤال صعب :أي المناهج التي يمكن أنْ تخدم مثل هكذا نصوص؟ لا يمكن لأي نوع من المناهج النقدية أنْ يخدم نظاماً نصياً مبتكراً، فلو عرضنا نصوص سعد ياسين يوسف على مناهج النقد التقليدية لن نصل إلى نتيجة بالتأكيد، لكن – على وفق قراءاتنا لنصوصه - وجدنا أنَّ المنهج الاستقرائي والمنهج الاستنباطي نجحا في فهم هذه النصوص، المنهج الاستقرائي :"منهج يخدم نمطاً من التفسير يقوم على يقينية التجربة بمدركها الحسي الذي يتنامى من الجزء إلى الكل،" ويسير هذا المنهج جنباً إلى جنب مع المنهج الاستنباطي الذي يستمد يقينه من الكل إلى الجزء،و لم يغبْ المنهج الاستدلالي عن خدمة نصوصه، فهو وكما معروف للجميع يربط بين العقل والمقدمات والنتائج ويخدم مسألة الانتقال من فكرة إلى أخرى وهذا موجود بكثرة في قصائده الأخيرة لذلك قلت: إنَّ هناك نظاماً لغوياً مبتكراً علينا أنْ نتأنى قبل اختيار المنهج ونحاور خطواته قبل التطبيق .

ولو تناولنا نصا من نصوصه من مجموعة أشجار لاهثة في العراء* بعنوان (قلاع مخلعة الأبواب) ص 81، علما انني دائما ما أختار من نصوصه ما لا علاقة له بالشجرة، لأني ضد أنْ يُحجَم الشاعر برمز محدد فهذا يحدَ من ابداعه لذا فأنا أبحث في نصوصه عن تفرد آخر له وهو كثير..

ففي هذه القصيدة التي تناولتها في كتابي "عتبات نقدية" يقول فيها:

" قلاعُك..

تلكَ الَّتي لوّحت منها للغزاة ِ

بمفاتيحك

وارتفعتْ أعلامُهم المُتهرّئةُ

فوقَ أسوارهِا في ظلمةِ " سبتمْبَر "

خلّعتِ الرِّيحُ أبوابَها

ورمَتْها مرثيّة َرمْل ٍ

هَجرتْها القوافلُ

وما حفلتْ بها حوافرُ النَّدى..

وهي تدوسُ مفاتيحَها

الصَّدئةَ ... "

هذه القلاع تعيدنا إلى "قلعة كافكا" وصعوبة الوصول إليها، قلعة سعد ياسين يوسف أيضا قلعة يصعب الوصول إليها فهي بكل بساطة شاهد حيّ على مشوار حياة على أحداث وصعوبات وعلى ركام من الذكريات والخيبات ولكنها رغم ذلك هي مكان آمن، بدلالة المفتاح، المفتاح هنا سلاح ذو حدين فهو رمز للأمان إلى جانب السطوة والنفوذ، وكما قلت: إنَّ شاعرنا يجعل القارئ يشاركه في البحث ويحفزه على التفكير والسؤال فهو يعمد هنا إلى وضع القارئ في موضع إثارة وتساؤل وهو يشاركه ويستكشف معه مراسم تسليم ذلك المفتاح ومراسم رفع الأعلام التي ترفع أثناء المعركة وليس في نهايتها، وهي ليست دلالة على الاستسلام والخيانة، بل ان الشاعر ومن خلال هذه الاعلام ينقض عهدا بائداً،ينقض كلَّ مالم يعد مصدرا آمنا للحياة بدلالة السمة المتهرئة التي أعطاها للأعلام، وليس فقط في هذه القصيدة بل في معظم نصوصه الأخيرة نجد هناك استشرافا لمواسم أمان جديدة يفتح فيها الشاعر كوة أمل بثبات يحذَر فيه من الوقوع تحت وطأة الشعارات المزيفة بدلالة سمة الصدأ التي أعطاها للمفتاح في نهاية النص وهذا هو الحدَ الآخر من سلاح رمزية المفتاح .

إنَّ مثل هكذا نصّ قصير يمكن أن يُقرأ أكثر من قراءة ويمنحني أكثر من مستوى للتلقي، ففي هذا النصّ نجد ثلاثة مستويات للتلقي هي:

المستوى الإخباري الذي يستشرف فيها مواسم أمان جديدة يفتتح بها الشاعر كوة أمل جديدة.

والمستوى الثاني هو المستوى الرمزي وأقصد به هنا رمزي الأعلام والمفتاح، أما المستوى الثالث فهو المستوى الأسلوبي، أسلوب المخاطبة للقلعة وهذا ماتناولناه بالتفصيل في كتابنا القادم ان شاء الله الذي تناول مستويات التلقي في قصيدة النثر العراقية وكان لنصوص شاعرنا حصة فيها .

هذا هو النظام اللغوي الجديد والمتفرد الذي عنيته، لسعد ياسين يوسف.

***

ا. د. سهير أبو جلود

أستاذة الأدب الحديث ونقده في كلية الآداب - الجامعة المستنصرية

............................

* قراءة نقدية قُدمت من على منصة كلية آداب الجامعة المستنصرية لمناسبة الاحتفاء بمنجز الشاعر سعد ياسين يوسف في يوم الشعر العالمي بتاريخ 21-3-2023.

* سعد ياسين يوسف، أشجار لاهثة في العراء، مجموعة شعرية، دار أمل الجديدة للنشر، دمشق 2018، ص 81

يمتلك الحدث السردي، صياغة فنية في منتهى الشفافية والتشويق والمتعة المرهفة، في أسلوبها الرشيق ودراميتها المتصاعدة نحو الذروة، بأن تكتمل اجزاء صورتها الفنية والتعبيرية والفكرية في التدرج الدرامي للاحداث، تملك أهمية بالغة لأن مادتها الخام هي من أحداث التي برزت على المسرح السياسي، بكل عنفوان وأصبحت حديث الساعة، ماهية الظروف القاهرة والقاسية التي تدفع الى الهجرة، وخوض مغامرة عاصفة بالمخاطر والعواقب الوخيمة، مهاجرون أصبحوا شهية حيتان البحر، أو الموت والاعاقة، اضافة أن الهجرة أصبحت تجارة رابحة، قوامها الابتزاز والنصب والسرقة والغش، يعني المهاجر يكون الضحية الطيعة تحت أمرة المهرب، لعبة بين يديه، ولكن السؤال المشروع منْ فتح هذا الباب الخطير؟ ومنْ هو المسؤول في دفع الناس الى شق طريق الهجرة الخطير؟ بدون شك، حينما تسيطر على الواقع طفيليات هجينة، مغرورة ومتكبرة، تسلقت على الحكم والنفوذ والمال، وأصبحت فوق القانون والدولة، سلاحها السطوة والجشع والاستحواذ والابتزاز،لتكون عوامل في تفجر زوابع الظلم والحرمان والإرهاب . هذه الشريحة المتسلطة على رقاب الناس، تريد ارجاع الزمن الى الوراء الى زمن العبودية والذل والمهانة، تنتهك كرامة الانسان بأي شكل من الاشكال بكل بساطة، طالما هي تسيطر على رقاب الواقع والناس، ولكن بالمقابل الروح البشرية النزيهة و التواقة الى الحرية، ترفض الخنوع والذل وسلب الكرامة، وتخلق روح التحدي والمقاومة والرفض وتضحي بكل غالٍ ونفيس مهما كان الثمن الغالي، وهذه الخصائل لم تحسب لها بالحسبان هذه الشريحة الطفولية، ولم تقدر عواقبها (لو دامت لغيرك لما وصلت اليك)، فمن يقبل اهانة كرامته وسلب حقوقه في وضح النهار؟ ومنْ يقبل ان يعيش في الذل والمهانة والهوان؟ الطبيعة والقوانين السماوية والارضية، تقر لكل فعل رد فعل مضاد له، مهما طال الزمن فلابد من يوم الحساب، وتحت الرماد ناراً قد تتفجر في اية لحظة، لأن البشر ليس لعبة أو دمية لسطوة الطغيان، هذه المنطلقات الفكرية والتعبيرية من أحداث السرد الروائي في رواية (ضحكة موزارت) يقدمها المؤلف في شفراتها الرمزية الدالة الظاهرة والخفية بعمق الرؤية الفكرية الصائبة والواقعية، اذ لا يمكن لاي عاقل ان يغامر بالهجرة إلى الدول الاوربية، اذ لم يكن مضطراً بفعل الظروف القاهرة ضده، لأن مغامرة اللجوء محفوفة بالمخاطر، ولكن واقع البلاد المأزوم، يسد كل الأبواب والنوافذ . سوى أن يبقى نافذة الهجرة مفتوحة على مصراعيها.

×× أحداث المتن الروائي:

تتحدث الرواية بلغة السارد أو الراوي لاحداثها، وهي الشخصية المحورية التي تدور حولها الأحداث، بأنه مؤجر بيت من صاحب الدار (علوان) لعقد مدته خمس سنوات، وهذا التاجر الجشع الذي يملك الأملاك والعقارات والجاه والنفوذ والسطوة القاهرة، ويعتبر نفسه فوق القانون والدولة، يعتزم طرد المؤجر من الدار بكل وسيلة غير شرعية، وهذا المؤجر يرفض الطرد المهين والمذل، ويمتنع عن تنفيذه مهما كانت الأحوال، مما دفع المالك ان يمارس كل انواع التهديد والوعيد، وكيل الاهانات ومسخ الكرامة والاستهزاء به أمام عامة الناس، ويحاول أن يطرده من وظيفته ومصدر رزقه ايضاً، لذلك فكر في وسيلة التخلص من صاحب الدار المتنفذ والمتكبر، بأنه يتمنى أن يمتلك طاقية الاخفاء أو قبعة الاخفاء، فكر بها عندما كان حينذاك طالباً في المدرسة المتوسطة، عندما لفظ كلمة انكليزية بشكل سيء، اثار الضحك والاستهجان من الطلبة يتقدمهم المدرس، الذي وضعه في موقف حرج امام الطلبة، وتمنى لو عنده طاقية الاخفاء لرد الصاع صاعين، ويجعل المدرس اضحوكة واستهزاء امام الطلبة، رغم أن المدرس في اليوم الثاني، قدم اعتذاره الشديد،وانه آسف لما حصل، لهذا جاءت فكرة طاقية الإخفاء وهو يتابع ويراسل اخبار العالم الألماني (هولمر) الذي كما تذكر اخبار مواقع التواصل، بأن يشتغل على اختراعه لسنوات في صنع قبعة الإخفاء، ولكن لم يجد احداً من يجربها، وتيقن انها الحل الوحيد أو المنقذ الوحيد لرد الصاع بصاعين ضد صاحب الدار الجشع (علوان) وسيجعله محل تندر واستهزاء امام الناس ويسترجع كرامته المهدورة (مخرت عباب افكاري المتلاطمة عليَّ اجد شيئاً يريحني ويرد هيبتي المنارة أمام عائلتي وجيراني وزملائي الذين أنتبهوا الى اهانات وتجريح المسؤول، وسينقلون الحدث لعوائلهم بالتأكيد، أذ سيكون ثأري من المسؤول الذي اجهل أسمه ومن قريبه علوان) ص12 . فلابد أن يفتح قنوات الاتصال، ويسعى إلى الوصول إلى العالم الألماني (هولمر) ليعلن استعداده الكامل ليقوم في تنفيذ تجربة اختراعه الجديد قبعة الإخفاء، وان يشكو معاناته (بأن اذهب واقابل هولمر الالماني واتباحث معه واحكي قصتي، وما اوصلني الى التفكير باملاك هذا الاختراع، سأقول له كل شيء، ولن اكذب وابالغ في اقوالي، وفي لحظة صفاء وأنا بكامل قواي العقلية، قررت السفر إلى ألمانيا ومقابلة يوهان هولمر وجهاً لوجه ليحدث ما يحدث) ص17 .فباع مكتبته العامرة وحلي زوجته وما يملك من تعب السنين من المال، وقرر الهجرة أول محطة سفره هي تركيا، أن يجد مهرب ينقله الى احدى الجزر اليونانية القريبة من حدود تركيا، وتم الاتفاق مع أحد المهربين في مغامرة الإبحار بالقوارب المطاطية مع الآخرين، وهو يدرك حجم المخاطر الرحلة، ربما يكون نصيبه الغرق، ويكون طعماً شهياً لحيتان البحر، ولكن اصراره على الهجرة اقوى من كل المخاطر والعواقب الوخيمة، حتى يسترجع كرامته المهدورة، وابحر مع الاخرين من المهاجرين، وكانت العناية الإلهية حاضرة انقذته وانقذتهم من الموت والغرق، ووصل إلى إحدى الجزر القريبة، ثم انطلق مع الاخرين الى أثينا وبعدها الى الحدود، ودخل مقدونيا ثم صربيا ثم هنغاريا، كانت رحلة طويلة متعبة ومرهقة محفوفة بالعوائق والصعاب، ولكن عناده أن يصل إلى العالم الالماني مهما كلف الامر حتى يرد كرامته من (علوان الوقح الذي لا يهمه حرمة جار ابداً،أنسان خارج النظم والأخلاق، وعليَّ تلقينه الدرس الذي يستحقه، لا اعلم لماذا يقفز علوان الى ذاكرتي، وانا احاول تبديد قلقي وخوفي على مصير عائلتي) ص92 . لذلك تهون عليه المخاطر والصعاب، أمام تحقيق ارادته مهما كان الثمن، لان الاختراع الجديد بصنع طاقية الاخفا يستحق العناء والتعب، وحين يسألونه من جماعته من المهاجرين عن سببب الهجرة، يجيبهم بأنه يريد مقابلة العالم الألماني هولمر، يستغربون من كلامه، ولكنه يوضح هدفه لهم (- أحتاج منه شيئاً، اختراع جديد جئت آخذه منه، سيغير حياتي الى الابد، واعتقد أنه يستحق المعاناة والسفر الطويل) ص104 . ووصل إلى ألمانيا وذهب الى مختبر العالم الالماني وقابله وقال له (- لقد تحملت كل تلك الطرق الموحشة وغير القانونية والسير لساعات وساعات، كي اقابلك، قرأت أنك تقوم بتصنيع قبعة الإخفاء وهو الاختراع الاول في العالم) ص146 .

قال له العالم بأنه بالفعل يبحث عن شخص يجربه، ولم يجد احداً، بأنهم خائفون، أو انهم لم يصدقوا اختراعه، ونهض أمام العالم بأنه جاهز لتجربة، فقال له العالم الألماني (- هل تقول بأنك جئت الى هنا لتجربتها ؟

- ولدي فيها غاية آخرى .

- عاهدت نفسي أن لا تستخدم في غير محلها، ولا أريد إيذاء الناس، ولا استخدمها في اماتتهم أو سرقتهم،أو ابغي النفع المادي من روائها) ص148 . ومن جانب العالم الألماني أطلعه على تفاصيل العقد والاتفاق، بأنه سيمنحه المال الكبير كتعويض في حالة الفشل، ويحاول أن يسجل اسمه في دائرة الهجرة ويسهل الإجراءات، بعد التجربة، ولكنه طرح شرطاً حتى يوقع الاتفاق (- ماهو شرطك الجديد ؟

- تمنحني ملكية نصفها

- لماذا ؟

- هذا شرطي الوحيد) ص160، اهتز العالم الالماني غضباً واحتجاجاً ورفض الشرط، ودخل في جدال عقيم فترك العالم الالماني في مختبره . ونزل الى الشارع، محاولاً الاتصال بزوجته ليطمئن عليها وعلى اهله، فسمع صوت زوجته المتقطع يقول (- اسمع .... راح صوتها يتقطع .. علوان .....

- ما به ؟

- قتل ..... ماذا .... قت ......ل ..... قتلوه .....

كيف ؟ من قتله ؟ .....) ص 167 . انقطع الاتصال لنفاذ العملة المعدنية، وشعر بالإغماء والرعشة تجري في عروقه (- معقولة ؟ لا اصدق .. مات علوان واختفى من حياتي . أنه كلام كبير وخطير، ارتحت كثيراً، وانتعشت وزادني الخبر الصاعق بالثقة المفقودة منذ زمن . وشعرت بنشوة الفوز في المعركة، ولم أعد احتاج الى القبعة، ولا البقاء هنا) ص167 .

وزاد زهواَ وفخراً ولهفة، كيف الوصول الى العراق، وقد استعاد كرامته المهدورة، وكيف الوصول ؟، هل يملك الحصان الطائر يبرق به، والعالم الألماني قدم شكوى الى دائرة الهجرة، وهذه اتخذت قرار تسفيره الى تركيا، واستعد للسفر الى تركيا هو في نشوة النصر .

***

جمعة عبدالله

دراسةٌ بيئيَّةٌ مقارنةٌ في المُثُل والجَماليَّات

لئن كانت طبيعة الصِّراع التي انطوت عليها صُورة (البُحتري) للذِّئب قد وجَّهتها وجهةً معيَّنة، اتَّسَمَت بملامح التوحُّش والشراسة، فإنَّ طبيعة العلاقة التي كانت بين (الفرزدق) وذِئبه قد وجَّهت الصُّورة وجهةً معاكسة، اتَّسَمَت بهدوءٍ حَذِرٍ من الطَّرفَين، في محاولةٍ لكسب الودِّ والصداقة. ويبدو أنَّها قد أفلحت- على الأقلِّ- في الإبقاء على السَّلام بينهما:

وأَطْلَسَ عَسَّالٍ، وما كانَ صاحِبًا،

دَعَوْتُ بِناري(1) مَـوْهِـنًـا فأَتـانِـي

فلمَّا دَنا قُلْتُ: ادْنُ دُونَكَ، إِنَّـني

وإِيَّـاكَ فـي زادِي لَـمُشْـتَرِكـانِ

فبِتُّ أُسَوِّي الزَّادَ بَيْـنِـي وبَـيْـنَـهُ

عـلى ضَـوْءِ نَـارٍ، مَـرَّةً ودُخَـانِ

فقُلْتُ لَـهُ، لَـمَّا تَـكَـشَّرَ ضاحِكًا

وقائمُ سَيْـفِيْ مِنْ يَـدِيْ بِمَكـانِ:

تَعَـشَّ فإِنْ واثَقَتْنِـي لا تَخُـوْنُنِـي،

نَكُنْ مِثْلَ مَنْ، يا ذِئْبُ، يَصْطَحِبَانِ

وأَنْتَ امْرُؤٌ، يا ذِئْبُ، والغَدْرُ كُنْتُما

أُخَـيَّـيْنِ، كانا أُرْضِعَـا بِـلِـبَـانِ

ولَوْ غَيْرَنا نَبَّهْتَ تَلْتَمِسُ القِـرَى

أَتَـاكَ بِسَـهْـمٍ أو شَبَـاةِ سِـنَـانِ

وكُلُّ رَفِيْقَي كُلِّ رَحْلٍ، وإِنْ هُما

تَعاطَى القَنا قَـوْماهُما، أَخَوَانِ(2)

فبدا (الفرزدق) كمَنْ يدعو (الذِّئب) بناره- بخِلاف (البُحتري)- وكمَنْ يستقبله ضَيفًا. في حين دنا الذِّئب من زاده دُنُوًّا، لا هجومًا. فباتا متسامرَين بالرغم من الحَذَر، حتى إنَّ الشاعر ليكاد يرَى في تكشيرة الذِّئب ضَحِكًا، إلَّا أنَّه لا يغترُّ به؛ لأنَّه يعلم أنَّ الذِّئب والغَدر أُخَيَّان. وقد ذَكَّرَهُ مَعْرُوفَهُ، وامتنَّ عليه بطعامه- مع أن الذِّئاب «كواسب لا يُمَنُّ طَعامُها»، كما قال (لَبيد)(3)- ليَسْلَم من شَرِّه. وأجمل ما في صورة الذِّئب هذه ما خلعه الشاعر على الذِّئب من أَنْسَنَةٍ؛ فحاورَه، وسامرَه، وهو ما لم تتضمَّنه قصيدة البُحتري. وكأنَّ (الفرزدق)، ببيته الأخير، يُعبِّر عن رمزيَّة حكايته هذه. ولئن صحَّ ما قيل عن واقعيَّة حكايته مع الذِّئب- كما يؤكِّد ذلك خبرٌ سيق قبل القصيدة- فما يمنعُ ذلك من أنَّ الشاعر قد وظَّفها رمزيًّا، إمَّا للتعبير عن توحُّشه بعد فِراق صاحبته (نَوار)، التي يبكيها بعد أبيات الذِّئب مباشرة(4)، أو للتعبير عن سماحة قومه- الذين يذكرهم من بَعْد- وعن شجاعتهم، أو عن كلا هذين الموضوعين. ولعلَّ ذاك كان من أسباب الاتِّجاه الإنسانيِّ في تصوير الذِّئب وتعميقه.

-2-

ومن الشُّعراء مَن أَحَسَّ حُزنًا في عواء (الذِّئب)؛ فعبَّرَ عن ذلك قائلًا:

بِهِ الذِّئبُ مَحزونًا كأنَّ عُواءَهُ

عُواءُ فَصيلٍ آخِرَ اللَّيلِ مُحْثَلِ(5)

وآخَرون أحسُّوا لصوته طَرَبًا، قال (مغلِّس بن لقيط)(6):

عَوَى مِنهمُ ذِئبٌ فطَـرَّبَ عادِيًا

على فعليات(7) مُسْتَثَارٍ سَخيمُهـا

إذا هُنَّ لم يَلْحَسْنَ مِن ذي قَرابةٍ

دَمًا هُلِسَتْ أجسادُها ولحُومُها

وقال (الأُحيمر السَّعْدي)(8):

عَوَى الذِّئبُ فاستأنستُ بالذِّئبِ إذْ عَوَى

وصَـوَّتَ إِنـســانٌ فـكِــدتُ أَطِــيـرُ

وفي لوحةٍ إنسانيَّة صوَّر أحدُهم حُزن (الذِّئب) على فَقْد جِرائه، إذ يستقبل الرِّيحَ لعلَّه يجِد ريحها، فقال:

كسِيْدِ الغَضَى العادِي أَضَلَّ جِراءَهُ

على شَرَفٍ مُسْتَقْبِلَ الرِّيحِ يَلْحَبُ(9)

و(ذِئب الغَضَى) هو أخبث الذِّئاب، كما كانوا يصفونه. (10)

[ولحديث الذئاب بقيَّة تحليل].

***

أ. د. عبدالله بن أحمد الفَيفي

(رئيس الشؤون الثقافيَّة والإعلاميَّة بمجلس الشورى سابقًا- الأستاذ بجامعة المَلِك سعود)

............................

(1) رواه (المبرِّد، (1986)، الكامل، تحقيق: محمَّد أحمد الدالي، (بيروت: مؤسَّسة الرسالة، 1: 473): «رَفَعْتُ لناري»! ثمَّ خاض يحتجُّ لهذه الرواية، على أنَّها على سبيل القَلب. وما هي، في أغلب الظَّن، إلَّا على سبيل التصحيف من «دعوتُ بناري»، كما في ديوان الشاعر. وقد قاس (المبرِّد) روايته المقلوبة على قول العَرَب، تعبيرًا عن الكرَم: «رَفَعْتُ لَهُ ناري». غير أنَّ موقف (الفرزدق) مختلف؛ فهو لم يَرفع ناره (للذِّئب) ليستضيفه، بل فوجئ به آتيًا، لمَّا رأى ناره، كأنها دعته، فأطعمه، اتقاءً لشرِّه، كما أورد في قصيدته، وكما جاء في سياق حكايته مع الذِّئب، الواردة قبل القصيدة. (يُنظَر: (1983)، ديوان الفرزدق، بعناية: إيليا الحاوي، (بيروت: دار الكتاب اللبناني- مكتبة المدرسة)، 2: 590). والقول بالقَلب هاهنا تكلُّف، يسوِّغ إفساد الصياغة، بلا مُسَوِّغ، وفوق هذا يُفسِد شِعريَّة النصِّ. ذلك أنَّه لو صحَّ أنَّ الشاعر قال كما زعم المبرِّد، لكان التأويل على ظاهر البيت- بلا قَلبٍ- أشعَر؛ وكأنَّه يقول: إنَّه رفعَ الذِّئبَ لنار شِعره، لتُصوِّره، وتُؤَنْسِنه. غير أنَّ هذا ضربٌ حداثيٌّ من الشِّعريَّة، لا يحتمله مذهب الفرزدق، وليس من شِعر عصره في شيء. على أنَّ كثيرًا ممَّا يُنسَب إلى القَلب لا قَلب فيه، ومنه الآية القرآنيَّة ﴿مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالعُصْبَةِ أُوْلِـيْ القُوَّةِ﴾، التي استشهد بها (المبرِّد، 1: 475). فالمفاتح لثقلها تنوءُ بالعُصبة بالفعل، أي تَنُوْد بها وتَميل، وتُبعِدها عن سَويَّتها. فلا قَلْبَ، إذن، في الآية، بل هو تعبيرٌ جارٍ على ظاهر معناه. وهذا ما رجَّحه (الطَّبَري، (2001)، تفسير الطَّـبَري: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، تحقيق: عبدالله بن عبدالمحسن التركي، (القاهرة: دار هجر، 18: 318- 319/ سُورة القصص: الآية 76)، إذ قال: «وكان بعضُ أهلِ العَرَبيَّة من الكُوفيِّين يُنكِر هذا الذي قاله هذا القائلُ [أي القَلْب]... وقال آخرُ منهم في قوله: ﴿لَتَنُوءُ بِالعُصْبَةِ﴾: نَوْءُها بالعُصبة: أنْ تُثْقِلهم. وقال: المعنى: إنَّ مفاتحه لَتُنِيءُ العُصبةَ، تُميلُهن [كذا! والصواب: تُميلهم، أو تميلها] من ثِقْلها. فإذا أدخلتَ الباء، قلتَ: تَنوءُ بهم... وهذا القول الآخَر في تأويل قوله: ﴿لَتَنُوءُ بِالعُصْبَةِ﴾ أَولَى بالصَّواب من الأقوال الأُخَر؛ لمعنَيين: أحدهما، أنَّه تأويلٌ موافقٌ لظاهر التنزيل، والثاني: أنَّ الآثار التي ذكَرنا عن أهل التأويل بنحو هذا المعنى جاءت، وإنَّ قول مَن قال: معنى ذلك: ما إنَّ العُصبة لتَنوءُ بمفاتحه، إنَّما هو توجيهٌ منهم إلى أنَّ معناه: ما إنَّ العُصبة لتَنْهَض بمفاتحه، وإذا وُجِّه إلى ذلك لم يكن فيه من الدلالة على أنَّه أُريدَ به الخبرُ عن كثرة كنوزه على نحو ما فيه إذا وُجِّه إلى أنَّ معناه: إنَّ مفاتحَه تُثقِلُ العُصبةَ وتُميلُها؛ لأنَّه قد تَنْهَض العُصبةُ بالقليل من المفاتح وبالكثير. وإنَّما قصَد جَلَّ ثناؤه الخَبرَ عن كثرة ذلك، وإذا أُرِيدَ به الخَبرُ عن كثرته، كان لا شكَّ أنَّ الذي قالَه مَن ذكَرنا قوله، من أنَّ معناه: لتَنوءُ العُصبةُ بمفاتحه، قولٌ لا معنى له! هذا مع خلافه تأويلَ السَّلفِ في ذلك.» ويبدو الأمر واضحًا لكلِّ ذي سليقةٍ عَرَبيَّةٍ سليمةٍ من تحذلق النُّحاة، وشقشقة اللفظيِّين، ممَّن قد يحرِّفون المعاني من بعد مواضعها.

(2) الفرزدق، ديوانه 2: 590- 591.

(3) (1962)، شرح ديوان لَبيد بن ربيعة العامري، تحقيق: إحسان عبَّاس، (الكويت: وزارة الإرشاد والأنباء)، 308/ 38.

(4) يُنظَر: الفرزدق، 2: 591.

(5) (1982)، ديوان ذي الرُّمة، (شرح: أبي نصر أحمد بن حاتم الباهلي- صاحب الأصمعي، رواية: أبي العبَّاس ثعلب)، تحقيق: عبدالقدوس أبي صالح، (بيروت: مؤسَّسة الإيمان)، 3: 1488/ 62. ومن معاني «المُحْثَل»: الذي لم تُرضِعه أُمُّه.

(6) الجاحظ، (1965)، الحيوان، تحقيق: عبدالسَّلام محمَّد هارون، (مِصْر: مطبعة مصطفى البابي الحلبي)، 1: 378- 379.

(7) كذا، دون ضبطٍ من المحقِّق ولا شرح. وجاء في هامش (المرزباني، (2005)، معجم الشُّعراء، تحقيق: فاروق اسليم، (بيروت: دار صادر)، 364): «جاء في الهامش: أنشد الجاحظ، في «الحيوان»:

عَوَى مِنهمُ ذِئبٌ فطَـرَّبَ عاوِيًا // له مُجْلِباتٌ، مُسْتَثَارٌ سَخيمُهـا.»

والبيت هكذا أقرب إلى الصواب؛ لما يبدو أنَّه مسَّه من تصحيفٍ في نسخة «الحيوان» المطبوعة.

(8) يُنظَر: الجاحظ، م.ن، 1: 379.

(9) يُنظَر: م.ن، 4: 132.

(10) يُنظَر: أبو حنيفة الدينوري، (1974)، كتاب النبات، حقَّقه وشرحه وقدَّم له: برنهارد لفين، (فيسبادن- ألمانيا: فرانز شتاينر)، 155.

جويل باريس وكثرة البدع والأفكار الخاطئة في الطب النفسي

يندفع الكثير من المتحمسين للطب النفسي إلى إعطاء أهمية مبالغ في حجمها لكل من (فرويد) ومدرسة التحليل النفسي من جهة، ولفعالية الأدوية النفسية من جهة أخرى. هم يريدون أن يدافعوا عن أهمية ما يؤمنون به، لكن كثيراً ما تصير محاولاتهم التبجيلية تلك سبباً إضافياً ومبرراً للإنتقاص والسخرية من هذا التخصص الذي يعاني من مشكلة في رسم حدوده. فما هو الموقف الذي يجدر بنا اتخاذه أمام زعماء التحليل النفسي، وأهمهم فرويد؟ وكيف نقييم الأدوية النفسية وما هو دورها؟

أحد الكتب المهمة التي نجد فيها موقفاً علمياً جديراً بالإحترام هو كتاب (البدع والأفكار الخاطئة في الطب النفسي)١ للطبيب النفسي الكندي (جويل باريس Joel Paris)، وهو كتاب نشر اول مرة عام ٢٠١٣، وطبعته الثانية هذه السنة ٢٠٢٣، من منشورات كامبرج.

ويتكرر إسم هذا الطبيب النفسي في الكتب الأكاديمية للطب النفسي.

سنمر سريعاً في القسم الأول من هذه المقالة على أهم اسهامات هذا الطبيب النفسي المذكورة في الكتب المنهجية للطب النفسي، ثم نركز في القسم الثاني على كتابه المذكور (البدع والأفكار الخاطئة في الطب النفسي).

القسم الأول: اسهاماته المذكورة في الكتب الاكاديمية

يمكن أن نلخص ذكر (جويل باريس) في الكتب الأكاديمية بثلاث نقاط: الأولى انتقاده لكثرة التشخصيات النفسية، والثانية دراساته حول اضطرابات الشخصية خصوصا (الحدية)، والنقطة الثالثة دراساته حول موضوع الانتحار.

يعرف عن جويل باريس أنه أحد الأطباء الذين ينتقدون بشكل دائم كثرة التشخيصات النفسية، بحيث أننا في العصر الحالي صرنا نشخص الكثير من الناس الأصحاء بتشخيصات نفسية ونوصف لهم العلاج. ويذكر كتاب (فش Fish)٢ - وهو أحد أهم الكتب الأكاديمية للطب النفسي - رأي (باريس) ذاك الذي يشاركه فيه العديد من الاطباء النفسيين المعاصرين المهمين مثل (بيتر تايرور Peter Tyror) و(ألن فرانسيس Allen Frances).

هذا بالإضافة إلى أنه هناك لـ(باريس) عدد من المقالات في الصحف الكندية حول هذا الأمر، وكتاب نشر عام ٢٠١٥ من منشورات أوكسفورد الطبية - وهي منشورات معتمدة ورصينة - بعنوان (التشخيص المبالغ فيه في الطب النفسي Overdiagnosis in Psychiatry).

نجد في كتاب (كومبانيون Companion)٣ تركيزاً على ذكر بحوثه فيما يخص اضطرابات الشخصية وحقيقة أنهم يتحسنون مع الزمن، فله دراسة في الثمانينات وضحت بأن الكثير من مرضى اضطرابات الشخصية يشفون خلال ١٥ سنة، وقد أعاد الدراسة عام (٢٠٠١) ليجد أن مرضى الشخصية الحدية يشفى أغلبهم خلال ٢٧ سنة. وفي بحث له عام (٢٠٠٣) نجده يكتب بأن (من بين كل اضطرابات الشخصية فإن اضطراب الشخصية الحدية هو الأكثر احتمالاً لأن يشفى). وهو يحدد أن ما يشفى من أعراض الشخصية الحدية هو العلاقات مع الاخرين والاعراض المعرفية، بينما تبقى الاندفاعية والاعراض المزاجية كما هي.

علما ان (جويل باريس) شخصية معروفة بعض الشيء في كندا حيث يؤخذ رأيه في المحاكم ونجد الصحف تتكلم عنه حين تحصل جريمة ما فيطلبون رأي الخبراء في صحة المجرم العقلية، وله عدد من الكتب والدراسات حول اضطرابات الشخصية الحدية.

ونقرأ من كتاب (شوتر أوكسفورد Shorter)٤ بحثه الذي يفرق بين عدم ثبات المزاج الذي يحصل في اضطراب الشخصية الحدية من جهة، وذلك الذي يحصل في اضطراب الثنائي القطبية من جهة أخرى، والتفريق بين ذلك العرض في الحالتين يتم من خلال النقاط الأربع التالية: التاريخ العائلي، التغير المزاجي يكون سريع في اضطرابات الشخصية، وجود اعراض اخرى، وفي اضطربات الشخصية يكون سبب تغير المزاج عادة بسبب توتر في علاقة مع شخص آخر.

نرجع لكتاب (كومبانيون)٣ ونجد ذكر آخر لباريس في فصل الانتحار، فنجد أنه، وحسب دراسة لباريس، فإن الانتحار يحدث في اضطراب الشخصية الحدية بنسبة (١٠ بالمئة)، وهناك دراسة أخرى لبارس كذلك تقدم نسبة أعلى وهي (١٨ بالمئة). بينما هناك دراسات اخرى، ليست لباريس، وجدت أن تلك النسبة لا تتعدى (٤ بالمئة). فكما هو ملاحظ هنا فرق كبير بين الدراسات، وكأنه مصير اضطراب الشخصية الحدية هو إما أنهم يشفون مع تقدمهم في العمر، او أنهم (نسبة عالية نسبياً منهم) ينتحرون. يا له من إضطراب !!

هذا بالاضافة إلى أن لـ(باريس) دراسات عن الانتحار بشكل عام، حول العوامل العائلية الغير جينية المتمثلة في اساءة معاملة الاطفال واهمالهم وعلاقة ذلك بالانتحار.

القسم الثاني: كتاب البدع والأفكار الخادعة في الطب النفسي

دعونا الان نركز على كتاب (البدع والأفكار الخادعة في الطب النفسي) وهو كتاب قصير، 128 صفحة، ومهم. ينتقد فيه كل من التحليل النفسي والطب النفسي البيولوجي ويقدم البدائل لهما.

علما أن (جويل باريس) كان محللاً نفسياً، ثم صار يشكك في افكار مدرسة التحليل النفسي التي كانت تسود الطب النفسي الاكاديمي في أمريكا، فكتب كتاباً أسماه (سقوط الايقونة)، والايقونة تعني الرمز وهي ذات دلالة دينية، حيث يمكن أن نترجم عنوان الكتاب الى (سقوط الصنم)، وهو ينتقد فيه مدرسة التحليل النفسي وبالتحديد شخصيات زعماءها خصوصا (فرويد). ويبدو أنه بعد ان ترك تلك المدرسة طور افكاره اكثر فصارت انتقاداته تشمل الطب النفسي ككل، فنشر هذا الكتاب (البدع والافكار الخاطئة في الطب النفسي) عام ٢٠١٣ والذي اعيد نشره بطبعة جديدة عام ٢٠٢٣ من منشورات كامبرج.

النقاط التي سوف نتناولها من هذا الكتاب يمكن تلخيصها بأربع نقاط: الاولى (ما هي اخطاء التحليل النفسي؟)، الثانية (ما هي بدائل التحليل النفسي؟)، ثم الثالثة (ما هي اخطاء الطب النفسي البيولوجي؟) ورابعا (تصحيح مسار الطب النفسي البيولوجي والنفسي بالطب المستند إلى الدليل).

النقطة الاولى: اخطاء التحليل النفسي

يكتب (جويل باريس) عن تلك الفترة التي بزغ فيها التحليل النفسي، وهي نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، فقد ظهر في وقتها (زعماء) للطب النفسي. وكان العلم في ذلك الوقت يرتبط بشخصية (الزعيم) أكثر مما يعتمد على المعطيات. كان المؤسسين الأوائل يقدمون اراءهم التي تستند إلى خبرتهم السريرية، بلا أن يكونوا مضطرين إلى إسناد ما يقولونه ببحوث تجريبية بعيدة عن التحيز. فوق ذلك كان للمحللين النفسيين جواباً لكل شيء، فانجذب طلبة العلم لهم.

وكان من الصفاة المقبولة، بل المرغوبة، لمن يريد أن يكون عالماً خبيراً في تلك الفترة هو أن يصير متكبراً قليلاً، فقد كان ينظر لذلك على أنه ثقة في النفس. وبذلك لم يكن ينتظر من أن يقدم إسناداً لنظريته من خلال بحوث تجريبية، فتلك الامور قد تجعله يبدو متشككاً في نفسه، بل كان ينتظر منه أن يصير متغطرساً بعض الشيء.

فوق ذلك فقد قدم (فرويد) نظرية ساحرة تقول بأن هناك حقائق مخفية، لن يستطيع فهمها إلا أتباعه، فصار بذلك للتحليل النفسي جانباً غامضاً وسرياً. بل كان هناك شيء من الترقب الدرامي، فقد كان يطلب من المريض أن يستلقي على أريكة مصنوعة بشكل غريب، فهي تشبه الكرسي لكنها طويلة، ويقال له أن يتكلم في أي شأن يتوارد إلى ذهنه، فيما يجلس المعالج خلفه دون أن ينبس ببنت شفة. يا له من إخراج مسرحي!!

ولم يمتنع الزعماء الأوائل للتحليل النفسي عن تقديم أراء تمس كل زوايا الوجود الانساني، لم تفلت من قبضتهم لا الانثروبولوجيا ولا الفلسفة ولا الدين، بل حتى التأريخ والأدب. فتأثر بهم كل المفكرين، من مؤرخين وأدباء وفلاسفة وفنانين، وعارضهم رجال الدين فزاد ذلك من جاذبيتهم. بل الأكثر من ذلك أنهم أعطوا أهمية كبيرة للجنس، ليزيد ذلك من جرعة التشويق في نظريتهم.

وهم في الأخير قدموا كل ما قدموه، بلا قياسات نفسية محددة!

حين نقرأ تلك الانتقادات للتحليل النفسي التي يسطرها (جويل باريس) في كتابه، والتي لم ننقلها حرفياً بل حاولنا تلخيصها وإعادة صياغتها، نتخيل أنه لم يكن يوماً قريباً من تلك (المدرسة) النفسية. إلا أن حقيقة الأمر هي أنه كان قد تدرب على أن يصير محللاً نفسياً، لكنه انفصل نهائياً عن التحليل النفسي حين أدرك خطأ الفكرة المتمثلة في أهمية فترة الطفولة في نظرية التحليل النفسي، بما يسمى بـ(الحتمية determinisim) التي تستند على أفكار (سيجموند فرويد) حول الذاكرة.

لقد كان فرويد يقول ان كل الاحداث تبقى موجودة في الذاكرة بشكل مكبوت. وتلك كانت النقطة التي دفعت (جويل باريس) إلى أن يهجر التحليل النفسي. فالدراسات الحديثة تقول ان الاحداث ليست مسجلة بشكل دائم في الدماغ، وأن ما هو مسجل من ذكريات في عقولنا يجري تغييره من خلال التجارب اللاحقة. كان ممارسو التحليل النفسي يثيرون مشكلة بإدعاءهم أنه حتى حين لا يتذكر المريض انه تم الاساءة إليه وهو طفل، فإن ذلك لا يعني أن ذلك لم يحصل. كان لسان حالهم يقول للمريض: (أنت لا تتذكر أنه قد تمت الإساءة إليك، لكن هناك احتمال كبير انه قد حصل. وسبب نسيانك هو أنك تنكر، وأنت لا تدري بأنك تنكر). كأنهم كانوا يقومون بالايحاء للمريض بذلك وقد ينتهي الحال بأن يصدق المريض ذلك.

يذكر (باريس) بحوث عالمة النفس (إليزابيث لوفتوس Elizabeth Loftus) التي وضحت لنا من خلال دراساتها وبحوثها التجريبية انه لدينا بعض (الذكريات الزائفة)، بل أنه يمكن أن تتم عملية زراعة تلك الذكريات.

يكتب (باريس) بأنه قرر الانفصال بشكل كامل ونهائي عن التحليل النفسي حين تأكد من خطأ مبدأ (الحتمية الطفولية Childhood determinsism)، فقد أدرك خطأ الفكرة القائلة ان مشاكل الكبار النفسية تكمن جذورها في أحداث طفولتهم، فقد وجد (باريس) أن الكثير من الاشخاص تمرضوا وهم كبار رغم ان طفولتهم كانت سعيدة وخالية من الاحداث السلبية، وهناك كذلك في الجانب الآخر الكثير من الكبار السليمين الذين كانت طفولتهم مليئة بالاحداث السلبية. يذكر (باريس) خلاصة تلك الأفكار في كتاب (البدع والأفكار الخاطئة)، لكن يجدر بنا هنا أن نشير إلى أن له كتب أخرى خصصها لهذه المسألة تحديداً مثل كتاب (أساطير الطفولة Myths of Childhood)٥ وكتاب (أساطير الصدمات النفسية Myths of Trauma)٦.

ويقترح (جويل باريس) كبديلاً لـ(التحليل النفسي) التقليدي، ما يسمى بنظرية (التعلق Attachement) وذلك لأنها مرتبطة بعلم النفس الأكاديمية، وهناك تجارب في مختبرات علم النفس حول هذه النظرية.

يستشهد (باريس) ببحوث (مايكل روتر Michael Rutter) الذي راجع نظرية التعلق وقدم بحوثاً عن أثر الأحداث السلبية في النمو النفسي للطفل والمراهق، علما ان (مايكل روتر) هو طبيب نفسي يعتبر مؤسس للتخصص الدقيق (الطب النفسي للاطفال)، وله دراسة شهيرة جداً إسمها (دراسة جزيرة وايت Isle of Wight Study).

فباريس لا يكتفي بانتقاد النظريات القديمة بل يقدم البدائل الحديثة لها، والمتمثلة على سبيل المثال في أعمال (إليزابيث لوفتوس) فيما يخص الذاكرة، ونظرية التعلق كنظرية يمكن التأكد من صحتها تجريبياً على النقيض من التحليل النفسي، وأعمال (مايكل روتر) فيما يخص بأثر الأحداث السلبية في الطفولة وأثرها عند الكبر.

إنتقاده للطب النفسي البيولوجي

لا يكتفي (باريس) بانتقاد التحليل النفسي، بل هو من أشد المنتقدين لبعض جوانب الطب النفسي البيولوجي. يأخذ مثالاً عن ذلك في تطرقه للحديث عن طبيب نفسي كان معروفاً إسمه (إيوين كاميرون D. Ewen Cameron)، ويمكن وصفه على أنه كان (زعيماً) على حد سواء، مثل زعماء التحليل النفسي، فقد كان لفترة ما رئيس الجمعية الأمريكية للطب النفسي. وقد كان يعمل في جامعة (ماك جيل McGill) العريقة، لكن ذلك لم يمنع أن تبلغ ثقة هذا (الزعيم) بنفسه انه يزيد من جرعة الصدمات الكهربائية إلى مئة (١٠٠) جرعة للمريض الواحد معللاً أن ذلك سيسبب فقدان ذاكرة للمريض وبأن لفقدان الذاكرة تلك أثر علاجي، وبأن الدماغ سوف يرجع ويكون دوائر عصبية أكثر سلامة من السابقة. كل ذلك ولم يكن لديه أدنى دليل أو إثبات على أن ما يقوله صحيح.

ما هو الحل؟

بعد أن يقدم لنا (باريس) أدلته حول استنتاجه ذلك، يبدأ في الإشارة إلى المصادر الحقيقية التي يجب علينا الاعتماد عليها في تلقي المعلومات والآراء والنظريات حول الطب النفسي، وهي المصادر التي تعتمد على الأدلة الغير متحيزة، فنحن اليوم في عصر الطب المستند إلى الدليل.

فعلى صعيد علاقة الطب النفسي بعلم النفس ونظرياتها يشير كما أسلفنا لـ(مايكل روتر) وجهوده في عمل بحوث تجريبية تساعدنا على فهم النمو النفسي للطفل والمراهق، ويشير أكثر من مرة في كتابه للطبيب النفسي (ألن فرانسس Allen Frances) صاحب كتاب (إنقاذاً للسواء Saving Normality) - الذي ترجم للغة العربية - الذي يصحح الكثير من الأفكار الخاطئة حول حدود الطب النفسي وهو كتاب يشار إليه في الكتب المنهجية للطب النفسي كذلك مثل كتاب (فش).

يستشهد (باريس) أكثر من مرة بالجهود الاستثنائية التصحيحية لـ(دانييل كارلات Daniel Carlat) صاحب كتاب (الباب المخلوع للطب النفسي Unhinged) وكتاب (المقابلة النفسية Psychiatric Interview)، وصاحب موقع (منشورات كارلات) التي تراجع المعلومات الصيدلانية النفسية.

وفيما يخص المعلومات التي يجب أن نعتمدها حول الأدوية النفسية يذكرنا (باريس) أنه لا يجب أن تغيب عن ذهن الطبيب النفسي المعاصر الدراسات المعتبرة والموثوقة مثل دراسة (STAR*D) لمضادات الاكتئاب، ودراسة (CATIE) لمضادات الذهان. وكذلك توصيات ( المعهد الوطني البريطاني للصحة وجودة الرعاية NICE) التي تقترح على سبيل المثال أننا في حالة الاكتئاب البسيط علينا لا نسرع بوصف الدواء بل أن نعطي موعداً آخر للمراجع، وهو ما يسمى باستراتيجية (الانتظار والمراقبة Watchful waiting)، وتفضيل استخدام العلاجات الغير دوائية. وفي ذلك السياق ينتقد (باريس) حالنا اليوم فهو يكتب حرفياً: “أحيانا يكفي للمريض في عيادة الطبيب أن يذرف بعض الدموع كي يسارع الطبيب ويوصف له أدوية.”

وفي الكتاب تفاصيل كثيرة عن مشاكل وفضائح شركات الادوية وكيف أن تلك الشركات تستطيع الضغط على العلماء من أجل تمرير معلومة ما، وهو يذكر على سبيل المثال حين قاطعت شركات الأدوية مجلة (JAMA) مسببة خسارة مادية كبيرة لها. ويرجع ويذكر (دانييل كارلات) الذي يطلق عليه بأنه (استثناء) ويتحدث عن موقعه الالكتروني (منشورات كارلات).

وأخيراً يكتب عن بحوث العلاجات النفسية الكلامية ويؤشر على انهم تقريبا جميعا بنفس الكفاءة وباننا يجب ان نركز على العوامل المشتركة بينهم، ول(باريس) مقولة مهمة يجب أن ننتبه لها: “إن العلاج النفسي الكلامي ليس طريقة حميدة، ويجب أن تتم عملية تنظيم ممارسته بقوانين، بنفس طريقة القوانين التي تنظم استخدام الادوية!”

علما ان لباريس كتباً كثيرة منها كتبه (نقد مبني على الدليل للتحليل النفسي المعاصر) نشر عام ٢٠١٩، (الطبع والتطبع في الاضطرابات النفسية، أثر الجينات والبيئة) كتاب نشرت الطبعة الثانية منه عام ٢٠٢٠، (العوامل الاجتماعية في اضطرابات الشخصية) من منشورات كامبريج، وقد كان (بيتر تايرر)  قد كتب مقدمة الطبعة الاولى ونشرت الطبعة الثانية عام ٢٠٢٠، وكتاب (وصفات للعقل، نظرة نقدية للطب النفسي المعاصر) عام ٢٠٠٨، (استخدام وسوء استخدام الادوية النفسية، نقد مبني على الدليل) عام ٢٠١٠، (الدليل السريري الذكي للتصنيف الامريكي للامراض النفسية) خرجت الطبعة الاولى مع النسخة الخامسة، وثم تلتها الطبعة الثانية وهي من منشورات اوكسفورد، (العلاج النفسي في عصر تسوده النرجسية، الحداثة والعلم والمجتمع) عام ٢٠١٢.

الخاتمة:

كانت تلك مقالة عن (جويل باريس)، الطبيب النفسي الكندي الذي كان محللاً نفسياً ثم صحح لنفسه المسار بأن صار يستسقي معلوماته من البحوث النفسية الاكاديمية التي تجري في المختبرات والمثبتة علمياً، مركزاً على اهمية الطب المستند على الدليل. طبيب أدرك بحكمة بأن أفضل طريقة من أجل أن نمنح الطب النفسي ذلك القدر الذي يستحقه تكمن في أن نعرف حدوده، وأن نتجنب أن ننفخه بترهات فيتضخم كالبالونة يمكن أن تتفرقع ما أن يلامسها أصغر دبّوس.

***

كتابة: سامي عادل البدري

........................

1. Paris, J. (2013) Fads and Fallacies in Psychiatry. Cambridge University Press.

2. Casey, P. & Kelly, B. (2019) Fish’s Clinical Psychopathology: Signs and Symptoms in Psychiatry 4th Edition. RCPsych publications

3. Johnstone EC, Owens DC, Lawrie SM, Mcintosh AM, Sharpe S, (2010) Companion to Psychiatric Studies. 8th ed. New York: Elsevier

4. Harrison, P., Cowen, P., Burns, T. & Fazel, M. (2018) Shorter Oxford Textbook of Psychiatry, 7th Ed. Oxford University Press

5. Paris, J. (2013) Myths of Childhood. Routledge

6. Paris, J. (2022) Myths of Trauma: Why Adversity Does Not Necessarily Make Us Sick. Oxford University Press

1- الكتابة: النص/ الجسد

النص الأدبي ملغز في ولادته، تعتمل في نسج خلاياه عوامل لا يدرك كنهها إلا من كابد أوجاعها وقد يعسر القبض عليها وتفسيرها. النص بين الفكرة والإنجاز، بين مرحلته الجنينية وولادته مكتملا، رحلة مضنية، مليئة بالسهاد والأرق والتعب. فالكاتب / المبدع يقتطع من جسده، من فكره، من حياته شلوا ليعطينا نصا قد نستمتع بقراءته، قد يحلق بنا عاليا وبعيدا، قد يفتح لنا دروبا نحو جوهرها الفرد كما يقول محمود المسعدي، قد يفتح لنا نوافذ لتهوئة كياننا المنذور للزيف والخراب، مخاض ولادة النص مزيج من أسباب متعددة تبدأ برعب بياض الورقة ورعشة القلم واحتراق الأعصاب فلا عجب أن يولد النص " ملوثا " بأدران الجسد، بأبخرته المتصاعدة من جراء حمى الإبداع. إن النص ينبثق من احتكاك طاقة نفسية جوهرها الرغبة في نحت الكيان وصياغة الوجود لغة، بطاقة فيزيولوجية أساسها اللحم والدم والأعصاب الجسد وعن الطاقتين تتولد فيزيولوجيا الكتابة: الحروف والكلمات والجمل أي النص وقد قد من اللغة. جوهر الإبداع يكمن في اللغة ومن حق اللغة على المبدع أن يكون قادرا على افتضاض بكارتها، وتطويع كنوزها لمراميه، وفتق أسرارها، وخلق شبكات دلالية جديدة.. اللغة هذا الكائن المخيف، مخترق للتاريخ، يتردد صداه عبر الأزمنة والعصور. يقول رولان بارت:" إن النص سيف مسلول على الزمان والنسيان "(1). النص محتضن للأثر يضمن له شروط البقاء ويصحح ما للذاكرة من قصور وخلط. النص نسيج لغوي يحصن الكلام/ الأثر الإبداعي لأنه يفرض على متلقيه أن ينظر فيه ويحترمه. للنص كاريزما يستمدها من ميتافيزقاه. في القديم كان النص مرتبطا بميتافيزيقا الحقيقة، أي كان على النص أن يثبت صحة المكتوب كما يثبت القسم صحة الكلام (2). والنص من هذه الوجهة معبر عن أثر قد استقر فيه معنى واحدا، معنى حقيقيا ونهائيا حيث يتطابق الدال بالتداول (3). إن اختراق التطابق بين طرفي العلامة يفتح للغة مجالا للحلم وفضاء للتخييل وإمكانية للمبدع حتى يعيد توزيع نظام اللغة، فيصبح للنص ميتافيزيقا جديدة..هي ميتافيزيقا الحداثة تلك التي تحتاج لكل ما يسبقها حتى تتميز عن كل ما يسبقها فهي البدء من ذاتها (4). هاجسها تكريس نسبية المعرفة وتأصيل الإختلاف، من ذلك أصبح لكل نص الحق في تأسيس ميتافيزقاه.

2 - المعنى: الذاكرة / التاريخ

بآعتماد المقولات الماركسية يصبح الدال ملكا مشاعا كما يقول بارت والمعنى من جهة الكاتب أو من جهة القارىء أمر حاصل. ويصبح النص مسرحا لإنتاج يلتقي فيه منتج النص ومستهلكه/ قارؤه. وتكون إعادة الدال إلى الكاتب أو إلى القارىء أو إليهما معا بمثابة إعادة وسائل الإنتاج إلى المنتج وهكذا يتحول الأدب من مفهوم المنتوج إلى مفهوم الإنتاج. الإنتاج في هذه الحالة، حاصل المعاني الممكنة التي يحتملها النص. للكلمة بما هي حروف سحر وفتنة وأسرار وتاريخ، وهي بما تحويه من دلالة ذاتية une denotation وبما تشيعه من دلالة حافة une connotation ذاكرة يمكن نبشها وإحالتها على التاريخ. المعنى كائن حي، له لحظة ولادة ونمو وتحول، كما له لحظة ضعف ووهن. حضوره في التاريخ رهين استعمال المبدع له تداولا وتجديدا وتوظيفا..إنه ينفض عنه غبار الماضي وينتشله من غياهب النسيان فيعيد له بريقه وألقه. والمعنى قد يترك فيخفت توهجه وقد تقتنصه إحدى المؤسسات كمؤسسة القضاء أو الفقه أو الأدب..فتدجنه وتكبح فيه نزوعه إلى التجدد والعطاء. حين يستدعي المبدع المعاني القديمة، عليه أن يحذر من الوقوع تحت سطوة موروثها، فللماضي إغراؤه. عليه أن يخلصها مما علق بها من انحرافات ويزيل ما لحق بها من تشوهات ويفكها من أسر المؤسسة لها، حتى يمتلكها بكرا نقية، ثم يبعثها ثانية في سياقات جديدة، فتتحرك لديها رغبتها المكبوتة في الابتداع والاغتراب والتأسيس يقول د.حمادي صمود: " ليست اللغة في هذه النصوص (يقصد النصوص الراقية) أسماء لمسميات وإنما هي إمكان يختزل ارتداد لكل أطوار التاريخ التي علقت بها ليفتح أحاسيسنا على بهاء البدايات ونقائها حتى لكأن الكتابة الحق في جوهرها صراع مع ذاكرة اللغة ومحاولة إقصاء ما علق بها من تجارب الآخرين معها والرجوع بها إلى هذا الزمن السحيق لتتم للكاتب لذة التفرد ومتعة الامتلاك لها نقية بكرا لم يمسسها أحد قبله، معه تكتشف وجودها وفي رحاب ما كتب يبدأ تاريخها.."(5). إن المعنى بقدر ما يؤثر فيه التاريخ لأنه متداول في محيطه وفي تفاعل المؤثرات الخارجية، فإنه في الآن نفسه شاهد على عصره، يحتكم إليه ليدلي برأيه في أمهات القضايا. استنطاقه يكشف الرهانات المنذور إليها والإستراتيجيات التي يرام تحقيقها.

3 - المعنى: الترحال / التثاقف

المعاني حينما يكتمل تشكلها في أفكار ومفاهيم ومقولات ترفض المصادرة والاحتكار، وتتمرد على حدود المكان، يقول محمد لطفي اليوسفي: " إن عملية نقل المفهوم من ثقافة إلى أخرى لا يمكن أن يحصل على التمام إلا متى حدث فعل تحويله، فالأفكار والمفاهيم والمقولات تولد منذورة للسفر وللهجرة والترحال " (6). تأشيرتها في عبور الأقاليم والحضارات حملها المعرفي وكثافتها الدلالية وما تختزنه من رغبة جامحة في معانقة الآخر والانسلال داخل أنسجته المعرفية واختراق فضاءاته الثقافية. إن تاريخ الأفكار تاريخ هجرة لا إقامة، تاريخ ترحال وعبور وهو ما يمنح الثقافة أهميتها وخطورتها (7). المعاني كائنات عاشقة، تبحث دوما عمن تحاوره وتجسر معه علاقات تواصل وتنافذ. الآخر ضامن لتجددها وسفرها يؤمن بقاءها. المعاني إنسانية حد النخاع رغم ما يصيبها من انحسار وتكلس في بعض الأحيان على يدي أقوام أسارى نرجسيتهم المرضية. كل الأمم تحمل في موروثها بصمات الآخر، رائحته، لونه وطعمه. ولكل مفهوم مهما تقادم فرصة الانتعاش والتجدد. فرصة الانتقال من الدلالة المتعارفة إلى ما وراءها من دلالات ممكنة ومحتملة (8). إن نقل المعنى من لغة إلى لغة أخرى ومن ثقافة إلى أخرى، لا يعني البتة تبسيطه وإفقاره وإرغامه على النزول في غير أوطانه، بل يعني إثراءه بفتحه على أبعاد جديدة وتوسيع دائرة دلالاته الممكنة والمحتملة، وبذلك يتساوى ناقل المفهوم بمبتدعه، لأن النقل في هذه الحال يكون خلقا وتأسيسا . فالمفهوم حالما يحط رحاله في بيئته الجديدة يشرع في إحداث تغيرات في صميم الفكر الذي استعاره واستدعاه. إنه يفعل فعله في الفكر الذي الذي استقدمه خلخلة للسائد فيه وتجديدا لأسئلته واغتذاء بنسغه، كل ذلك مرتهن بمدى قابلية الفكر لذلك المعنى في حله وترحاله، يقيم علاقة بين عالمين مختلفين وثقافتين متغايرتين، وجودهما قائم على انفتاحهما أخذا وعطاء ولا تفاضل بينهما. ففي الأدب المقارن يتجلى بوضوح ترحال المعنى وهجرته. إنه سفر قائم على مفهوم التأثر الذي اعتمدته الفرنسية التقليدية في الأدب المقارن، والتأثر يحول الطرف المتأثر إلى طرف سلبي وينسب العناصر الإيجابية كلها إلى الطرف المؤثر وهو أمر وقع تجاوزه بل إثراؤه، فقد أمكن لنظرية جماليات التلقي الألمانية أن تبين أن التأثيرلا بد أن يسبق بتلق حتى يؤتي أكله والتلقي عملية إيجابية تتم وفق حاجيات المتلقي وبمبادرة منه وفي ضوء أفق توقعاته، فيصبح المتلقي طرفا فاعلا وإيجابيا وأصبح التلقي شرطا لأي تأثير وأصبح بالإمكان إستبدال مصطلح التأثير بمصطلح جديد هو " التلقي المنتج والإبداعي " (9). وهكذا تحولت دراسات " التلقي الإبداعي " إلى ميدان خصب من ميادين الدراسات الأدبية المقارنة، مجال آخر يسافر فيه المعنى، إنه التناص الذي تعتبره جوليا كريستيفا أحد مميزات النص الأساسية والتي تحيل على نصوص أخرى سابقة عنها أو معاصرة لها (10). وقد تكون هذه النصوص تنتمي إلى نفس الثقافة أو هي تنحدر من آداب مختلفة، والشيء نفسه يمكن أن يقال عن السيميائية بآعتبارها علما تمحض للدلالة على العلم الذي يعنى بدراسة تآلف الظواهر التي تستند إلى نظام علامي إبلاغي في الحياة الاجتماعية كنظام اللغة والأزياء والمآكل..(11). وهي أنظمة يمكن أن تتبادل بين الثقافات المختلفة.

***

بقلم: رمضان بن رمضان/ باحث من تونس

........................

المراجع والإحالات:

1- رولان بارت، "نظرية النص" ترجمة منجي الشملي، عبد الله صولة ومحمد القاضي، حوليات الجامعة التونسية، عدد27 السنة 1988، ص70.

2- الأثر تحويه اليد والنص يحويه الكلام.

3- الدال: مادية الحروف وأخذ بعضها برقاب بعض في ألفاظ وجمل وفقرات وفصول، والمدلول معنى أصلي، أحدي الدلالة نهائي، حسب ميتافيزيقا الحقيقة.

4- مطاع صفدي، " الحداثة/ ما بعد الحداثة:من تأويل القراءة إلى تمعين التأويل " مجلة الفكر العربي المعاصر، بيروت، العدد 54/55، أوت 1988.ص

5- حمادي صمود، قراءة نص شعري من ديوان " أغاني مهيار الدمشقي " لأدونيس، ضمن أعمال ندوة صناعة المعنى وتأويل النص، منشورات كلية الآداب بمنوبة، 1992، ص 353.

6- د.محمد لطفي اليوسفي، " أكادميون جدا صنعوا النقد علما...و نسوا مكائد اللغة وثأر الكلمات " جريدة أخبار الأدب، عدد 293، بتاريخ 21 فيفري 1989، ص 14.

7- المرجع نفسه ص 15

8- المرجع نفسه ص 15.

9- د.عبده عبود " الأدب المقارن والإتجاهات النقدية الحديثة "، مجلة عالم الفكر، المجلد الثامن والعشرون، العدد الأول، يوليو/ سبتمبر، 1999، ص ص293-294.

10- د.سعيد علوش، معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة، بيروت / الدار البيضاء، 1985، ص215.

11- د.عبد السلام المسدي، الأسلوبية والأسلوب، تونس، الدار العربية للكتاب، ط 3، 1982، ص 182.

مدخل: صدرت رواية "غابات الإسمنت" للروائيّة والشاعرة العراقيّة، ذكرى لعيبي، في طبعتها الأولى سنة 2023 م، أي بعد أحد عشر عقدا من ظهور رواية "زينب" لمحمد حسين هيكل (1913 م). حينذاك، كان الفنّ الروائي العربي في طور الجنين والتكوين في رحم الأدب العربي الحديث أيّام انبعاث النهضة الأدبيّة العربيّة في الشرق العربي (مصر، الشام، العراق)، وكان يعتريه الخجل والخوف من سلطة العادات والتقاليد ومن استبداد الدروشة الدينيّة. أمّا، وقد بلغت الرواية العربيّة المعاصرة مرحلة الفطام، فقد ظهرت على ساحتنا الأدبيّة ؛ السرديّة والشعريّة، أديبات ومبدعات وروائيات وشاعرات، شغلن الورى، وملأن الدنى - على قول الشاعر الجزائريّ والمجاهد الكبير مفدي زكريا -، وملأن الأنظار، وأسمعن - على قول شاعر الحكمة أبي الطيّب المتنبي - من بهم صمم. لقد جاءت سرديّة " غابات الإسمنت " لتنزع أقنعة الطابوهات السائدة خفية عن الأعين، في المجتمع الشرقي، وهي طابوهات ترعاها الأفكار الثيوقراطيّة، ويستغلّها الفساد السياسي والنفاق الاجتماعي الفظيع لقضاء مآربه الذاتيّة الضيّقة.

1 - سيميائية الذكورة الشرقيّة:

عُرفت الرجولة عند الإنسان العربي، منذ العصر الجاهلي، بمجموعة من الخصائص النفسيّة والأخلاقيّة، والسمات الجسديّة. فقد ارتبطت الرجولة بالشجاعة والشهامة والإباء والعزّة والمروءة والإقدام والقوّة والسؤدد والتضحيّة والإيثار. فإذا كانت الذكورة جنس، فإنّ الرجولة صفة يكتسبها الذكر بالدربة والتعلّم ومخالطة الرجال الحقيقيين والصادقين. فليس كل ذكر، هو بالضرورة، رجل. فقد يعيش المرء بذكورته، وهو فاقد للرجولة الحقة. وفي القرآن الكريم، ذُكر الرجال في مواضع البذل والتضحيّة والتعظيم. " مِنَ المُؤْمِنينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَه َعَلَيْه ِ، فَمِنْهُم مَنْ قَضَى نَحْبَهُ ومِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرْ ومَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاٌ " (الأحزاب / الآية 23)

عُرف المجتمع الشرقي (العربي / الإسلامي) منذ فترة ما قبل الاسلام بتمجيد الذكورة وتحقير الأنوثة. فكان الإنسان العربي في صحراء شبه الجزيرة العربيّة (اليمن ونجد والحجاز) يتشاءم من الأنثى ل، فإذا رزقه الله بنتا ظلّ وجهه مسودّا من شدّة الحزن والقنوط، إلى درجة الإقدام على وأدها. كما وصفه الله تعالى في محكم تنزيله. وهكذا انتشرت ظاهرة وأد البنات عند بعض القبائل العربيّة.

في رواية غابات الإسمنت، للروائيّة العراقيّة ذكرى لعيبي. قدّمت لنا بورتريه للرجل الشرقي، من خلال علاقاته المضطربة بالمرأة، زوجة وعشيقة. رجل في صورة شهريار زمانه، مستندا على عصا العصمة والقوامة.

بطلة الرواية هي السجينة، الجاسوسة، المخبرة، القاتلة لزوجها الخائن، إنعام عبد اللطيف الحاير (ميساء أدهم عبد الرحيم). أمرأة محكومة بثماني سنوات سجنا نافذا، جرّاء إقدامها على قتل زوجها الخائن وعشيقته، قضت منها ثلاث سنوات، واستفادت بالإفراج المسبق، وبشهادة (مزورة) حسن السلوك. وهو ضرب من الابتزاز الذي مارسته إدارة السجن، وعلى رأسها النقيب ابتسام علاّم، ومصالح المخابرات.

ترجع البطلة إنعام عبد اللطيف الحاير (ميساء أدهم عبد الرحيم)، سبب دخولها السجن إلى زوجها الذي ضبطته متلبسا بالخيانة مع عشيقة له. فما كان ردّ فعلها سوى قتلهما معا دفاعا عن شرفها، وقدسيّة الحياة الزوجيّة. أيّ أنّها ارتكبت فعلتها تلك (جريمتها) عن وعي وقصد وإصرار، لكنّ مجتمعها الشرقي، المحكوم بأغلال التقاليد والعادات الباليّة، لم ينصفها ولم يعذرها، بل أدانها - إلى جانب وسائل الإعلام - ووقف إلى جانب زوجها الخائن، وتبرأت منها أسرتها.

جاء على لسان الراوية إنعام عبد اللطيف الحاير: " الناس والصحف رأوني مجرمة أستحقّ القصاص، مشفقين على زوجي " ص 19.

فقد وقف المجتمع برمته إلى جانب زوجها، الطرف القويّ. لم يلتمس لها قطمير عذر. ونزع منها حقّ الدفاع عن شرفها وشرف الرباط المقدّس الذي جمعها بزوجها، اشفق على زوجها الخائن، الزاني، وحرمها من....

و في موضع آخر تعبّر الراوية البطلة بحسرة عن الأسى الذي لحقها من أهلها بعد الجريمة: " أمّا أهلي الذين تخلّيت عنهم وتخلّوا عنّي، منذ دخلت السجن، فقد لاموني على فعلتي، وحجّتهم، مادام زوجي وفّر لي السكن والعيش والعمل، فلأدعه يفعل ما يشاء، لم يعلق بأذهان الجميع سوى بركة الدم ومقتل القتل الشنيع " ص 19.

و هذا الموقف من الأهل، يدّل على ازدواجيّة المعايير الأخلاقيّة في المجتمعات الشرقيّة، والانحياز الفاضح للذكورة، وإلغاء الطرف الآخر (الأنوثة). فالرجل (سي السيّد) يفعل ما يشاء، وما يجري على المرأة لا يجري عليه ؛ يخون زوجته في السرّ والعلن، يزني بعشيقاته بال رادع يردعه. أيّ أنّه يمارس حريّته في إشباع نزواته ورغباته، ويستغلّ مركزه في المجتمع لفرض سلطته على زوجته، باسم القوامة والعصمة.

الرجل الشرقي، الذي لقّبه نجيب محفوظ في ثلاثيته المشهورة (قصر الشوق، السكريّة، بين القصرين)، بـ (سي السيّد)، الرجل الأنانيّ، الساديّ، الأرعن، الصنم المقدّس، الذي ينظر لزوجته الأميّة أو المتعلّمة نظرة دونيّة ونقص وعور (المرأة ناقصة عقل ودين).... " لأنّ الأفضل للمرأة وفق العادات والتقاليد والعرف السائد، أن تلزم الصمت أمام زوجها في كلّ الأحوال ؛ حين يهينها تصمت، وإذا ضربها تصمت، أما إذا رأته متلبّسا بالخيانة والزنا فما عليها قبل كل شيء، إلا أن تكبت بنفسها وتستر كأنّها هي المذنبة، وإلا ستكون مضغة للأفواه " ص 27.

عالجت الكاتبة ظاهرة الخيانة في المجتمع الشرقي، بكل أبعادها ؛ الجنسيّة والسياسيّة والدينيّة والفكريّة. جاء على لسان الراوية (بطلة الرواية) إنعام عبد اللطيف الحاير قولها " اكتشفت أنّنا نعيش في مواجهة تسونامي الكذب الأكبر، رجل الدين المزيّف يكذب.. والسياسي الموالي لغير بلده يكذب.. والمثقف الذي لا يحترم نفسه.. وغير المثقف الذي يتّخذ من الكذب باب سخريّة.. والفقير والصغير والكبير... " ص 133.

إذن يعاني المجتمع الشرقي من أزمة عميقة، ذات أبعاد أخلاقيّة وثقافيّة وفلسفيّة. فالخيانة في رأي الراوية، بطلة الرواية إنعام عبد اللطيف الحاير (ميساء أدهم عبد الرحيم) سليلة الكذب الأكبر. فإذا كان رجل الدين – وهو من صمّامات الاستقرار الاجتماعي - مزيّفا، كاذبا، محرّفا للدين ومزيّفا للحقائق، فإنّ عواقب ذلك وخيمة على الفرد والمجتمع. وهنا، تثير الروائيّة، من زاوية خفيّة وتلميحيّة أزمة التديّن المزيّف في المجتمع الشرقي، وما نتج عنه من مجموعات متعصّبة ومتطرّفة، وأخرى إرهابيّة، أهلكت الحرث والنسل. حيث وجدت هذه الأخيرة دعما ماليا ومعنويا وإعلاميّا من المنظّمات الماسونيّة والصهيونيّة والنصرانيّة المتطرّفة، نظرا لقدرتها على تدمير الذات الشرقيّة المعتدلة، بأيدي أبنائه المغَرر بهم.

وهذا رجل السياسة الخائن لبلده، والموالي لأعدائه والخدوم لهم، يبيع ضميره الوطني والمهني في سوق الخيانة والكذب، طمعا في تحقيق مكاسب ذاتيّة، خاصة. إنّ الفساد السياسي نابع من خيانة الرجل السياسي للأمانة والمسؤوليّة، حين يستغلّ منصبه السياسي الرفيع في إشباع نهمه المالي ونزواته وشهواته الجنسيّة. لقد اكتشفت الراوية، بطلة الرواية إنعام عبد اللطيف الحاير (ميساء أدهم عبد الرحيم) عالما عجيبا بعد دخولها السجن، وصداقتها للنقيب ابتسام علاّم. اكتشفت عوالم العهر والمخدّرات والخمور والرشوة والابتزاز والشذوذ الجنسي والخيانة الدينيّة والسياسيّة والثقافيّة والكذب الأكبر وغيرها من المفاسد المُهلكة، عوالم لا يعلمها إلاّ من ولج إلى دهاليزها المظلمة. تصف منزل السيّد رئيس غرفة التجارة قائلة: " هذا المنزل للعهر وعمل الصفقات " ص 118. وفي موضع آخر تصفه النقيب ابتسام علاّم قائلة: " الوقح يعقد صفقات لدول أخرى بأرباح من الطرفين " ص 120.

كان الرجل الشرقي البدوي – ومازال - رمزا للأنفة والإباء والفحولة والكرم والإيثار والغيرة والقوّة التفسيّة والبيولولوجيّة. يدافع عن قبيلته وعشيرته، ويحميها بماله وروحه.

حتى قال أحدهم:

وما أنا إلاّ من غزيّة إن غوت ** غويت وإن ترشد غزيّة أرشد.

و كان الرجل الشرقي، إذا وقع في يد العدوّ أسيرا، لا يقدم على خيانة قومه مهما لقيّ من العذاب أو الإغراء، لأن ذلك السلوك الشائن، في نظره، كما هو سائد في عرف قومه، ينزع عنه صفة الرجولة.

لكنّ مخرجات التمدّن والحداثة والعصرنة، قضت على كثير من المباديء والقيّم الساميّة المرتبطة بالرجولة، والحافظة لها. وذلك بسبب مغريات الحياة وشهواتها وحبّ المصالح الذاتيّة والتملّك والسلطة. " " هناك رجال يملكون السلطة والمال والقرار السياسي " ص 90.

رجال أفسدتهم السياسة الرعناء والمال القذر والجنس الحرام (العهر والبغاء). فصار الجنس – مثلا – قوّة سلبيّة، استُغلّت لابتزاز النفوس الضعيفة. رجل " نقطة ضعفه النساء " ص 108.

بل تحوّل الجنس لدى الرجل الشرقي المتمدّن ورقة سياسيّة مؤثرة في أيدي الخصوم، ووسيلة ضغط لنيل المناصب السياسيّة الساميّة، أو العزل منها. " المعلومات التي بين يدي، أنّ السيّد رئيس غرفة التجارة، وهو منصب رفيع، بيديه الاستيراد والتصدير، وغرفة تجارة البلد... عرفت أنّه مغرم بالنساء، على الرغم من أنّه متزوج من اثنتين، واحدة منهما أجنبيّة " ص 107 / 108.

و تتساءل السجينة نجاح قائلة: " القانون. ولماذا لا يُسنّ قانون مماثل يوقف نذالة الرجال وسعارهم؟ " ص 62.

فهذا الرجل الشرقي (المتمدّن) المتعجرف، الخاضع لسيكولوجيّة وعادات مجتمع (القطيع)، الذي سنّ قوانين لوأد عقل المرأة ثقافيا وسياسيّا، ومصادرة عواطفها ومشاعرها، وسعى إلى اعتقال أحلامها في سجن (الحريم)، لا يُنتظر منه أن يسنّ قانونا يدينه، ويعيده إلى جادة الصواب، بل يستحيل أن يتنازل عن سعاره ونذالته.

الرجل الشرقي في رواية " غابات الإسمنت " لذكرى لعيبي، كائن مقهور، ذو شخصيّة مزدوجة، متناقضة، رجل مكبّل الفكر. يحاول تعويض عقدته الدونيّة، باضطهاد زوجته بأساليب شتى. وأبرزها الخيانة والتعدّد دون ضرورة اجتماعيّة أو أخلاقيّة، اللهم إلاّ رغبته في الإشباع الجنسي.

تقول السجينة الراويّة) إنعام عبد اللطيف الحاير (ميساء أدهم عبد الرحيم)، تصف زوجها الذي خانها، بعد شهر من زواجهما، مع فتاة أجنبيّة من " جنسيّة أخرى... من بلد غير بلدنا، جاءت تبحث عن لقمة العيش " ص 14:

" تألمت كثيرا، وجنّ جنوني ؛ ثم تظاهرت بالبرود حين سمعت أنّ زوجي جرّدها من الشيء الذي لا يعوّض بثمن، وعوّضها عنه بمبلغ كبير من المال مقابل سكوتها، المهم أنّه اشترى شرفها مثلما يشتري أيّة سلعة تعجبه في السوق: جلاّبية، حذاء، قلم حبر، ساعة، سيارة، أي شيء يخطر في البال، حتى إذا ما شبع منه، رغب عنه فألقاه بعيدا عنه " ص 15.

رواية غابات الأسمنت، للروائيّة العراقيّة ذكرى لعيبي، إدانة صريحة ومباشرة لسلوكيات الذكر الشرقي المسنود اجتماعيا ودينيّا وعرفيّا. هذا الذكر الشرقيّ الجاحد، الذي أنجبته امرأة (والدته) ؛ فقد حملته وهنا على وهن تسعة من الأشهر المؤلمة، ووضعته وأرضعته حتى الفطام ورعته في طفولته حتّى شبّ واشتدّ عوده، وفي الأخير أنكر الجميل، وبدت له المرأة ناقصة عقل ودين.

سيميائية الرجل الشرقي في هذه الرواية، تفضح خلق النفاق في علاقة الرجل بالمرأة في المجتمع الشرقي. فهو يزعم الدفاع عن الشرف، ويرتكب (جرائم الشرف) في حقّ المرأة، ولا يعاقب الطرف الآخر بالعقوبة نفسها. وكأنّ الخيانة وانتهاك الشرف تخصّ المرأة دون الرجل، إنّه أسلوب الكيل بمكيالين.

يبدو الرجل في رواية غابات الأسمنت، لذكرى لعيبي / مصدر كل الشرور التي تلحق المرأة. فكلّ السجينات والمضطهدات في الرواية هن ضحايا للرجل الفاسد أخلاقيا وسياسيا، بل للرجل المصاب بعقدة الفوقيّة المتسلّطة. وكأنّ تسلّط الرجل على المرأة، مظهر من مظاهر إثبات الرجولة الزائفة.

سيميائية الأنوثة الشرقيّة:

قدّمت الروائيّة ذكرى لعيبي في روايتها " غابات الإسمنت " المرأة الشرقيّة في ثوب الضحيّة. وجعلت بطلتها (إنعام عبد اللطيف الحاير) أنموذجا نمطيّا لسيميائيّة علاقة اللاتوازن، واللاتكافؤ بين الرجل والمرأة في المجتمع الشرقي. فرغم انتشار التعليم، والفكر الديمقراطي والحريّة والوعي بين الإناث، لم تتغيّر نظرة الرجل الشرقي إلى زوجته. باعتبارها في نظره، امرأة مطيعة، خاضعة لإرادته، خادمة لرغباته، آلة للتناسل، لا تتعدّى وظيفتها رعاية الأبناء والقيام بالخدمات المنزليّة اليوميّة ؛ من طبخ وغسيل وكنس، وغيرها.

و إذا كانت المرأة الشرقيّة في البيئة المدنيّة والحضريّة، قد نالت قسطا من الحريّة والتعليم الابتدائي والعالي والجامعي، وانخرطت في سوق العمل، مثل نظيرتها في الغرب، فإنّ المرأة الريفيّة لم يتزحزح وضعها الاجتماعي قيد أنملة، بسبب موقف الرجل الريفي إزاء ها، ومازالت مجرّد جسد يستغلّه الرجل لإطفاء هيجانه الجنسي.

لقد كانت المرأة الشرقيّة قبل الاسلام وبعده، سيّدة في قومها، رغم لجوء بعض القبائل الجاهليّة إلى وأدها. لقد كانت الخنساء أعظم شاعرة في قومها، وكانت هند زوجة أبي سفيان سيّدة أيضا، وكانت السيّدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها زوج الرسول محمد بن عبد الله صلّى الله وعلى آله وسلّم، صاحبة تجارة في قومها قريش نحو الشام، وكانت خولة بنت الأزور بطلة قومها في الحرب، وكانت زنوبيا ملكة في عشيرتها ومملكتها في الشام، وكانت ولادة بنت المستكفي أديبة وشاعرة في قرطبة، وكانت لالة فاطمة نسومر قائدة في جيش المقاومة ضد المحتل الفرنسي في الجزائر، وكانت دلال المغربي، ومازالت، رمزا للتضحية والفداء في فلسطين، وكانت جميلات الجزائر * مثالا للشجاعة والتحرّر. والأمثلة كثيرة، لا يمكن حصرها، ولا إحصاؤها، أبدا.

في حياة بطلة الرواية (إنعام) مفارقة عجيبة، ليست من صنع الخيال، بل هي من صلب الواقع الغرائبي الشرقيّ المعيش. لقد مرّت حياة البطلة بالمحطات التاليّة: مواطنة عاديّة وزوجة، ثم مجرمة، قاتلة لزوجها الخائن وعشيقته، ثم سجينة مثليّة محكوم عليها بـ 8 سنوات سجنا نافذا، ثم عميلة في جهاز الأمن والمخابرات تحت ستار امرأة أعمال).

أيعقل أن تتحوّل من مجرمة مدانة إلى حارسة على أمن الوطن. أليس ذلك من غرائب الأمور؟ إنّ حماية الوطن من العدو، يوكل إلى أناس أسوياء أخلاقيّا وسيكولوجيا، وليس لأناس مرضى، ومسبوقين عدليّا.

لكنّ الأمر في المجتمعات التي يسوسها الاستبداد السياسي، والفساد الأخلاقي، يبدو عاديا تماما. " فأنا منذ كنت في السجن، تمّ تهيئتي لأستدرج شخصيات كبيرة ذات مقام وثقل " ص 144.

وفي الحوار التالي، الذي جرى بين السجينتين (سابقا)؛ مديحة وإنعام عبد اللطيف الحاير، تفضح لنا الروائيّة واقعا مليئا بالدسائس والمكائد، وهو استغلال المرأة المكسورة الجناح والخواطر وابتزازها مقابل تبوأ مكانة اجتماعيّة راقيّة مصطنعة.

- (مديحة). حبيبتي أنا سيّدة مجتمع... أتصدّقين؟

- (إنعام). وهل سيّدات المجتمع أفضل منك؟

! - (مديحة). من قحبة إلى قوادة

- (إنعام). لا تقولي هذا.... لم تقولين ذلك؟

- (مديحة). هذا هو الواقع، وإن اختلفت المسمّيات.

- (إنعام). هذه قسمتنا.. وهذا هو نصيبنا.. أفضل من أن نجد أنفسنا في الشارع، لا أحد يدفع عنّا مكروها والجميع يستغلّوننا. أسألك بالله: ما جدوى الرغيف حين يستبدّ الجوع بالأرواح؟ ص 131.

إن هذا الحوار السالف بين المرأتين السجينتين سلفا (مديحة وإنعام)، يجسّد لنا نموذج المرأة الشرقيّة المعذبة والمستعبدة في مجتمع تقليديّ ومتخلّف ومتعجرف، يحكمه التمييز الفاضح بين الذكر والأنثى. مجتمع يستغلّ المرأة جسديّا وماديّا وروحيّا، ويعاملها كسقط المتاع.

المرأة في رواية (غابات الإسمنت) لذكرى لعيبي، امرأة متعلّمة ومثقّفة، وعاملة، من بيئة مدنيّة وحضريّة، لا بيئة ريفيّة وأميّة، أيّ أنّها نالت قسطا من الحريّة. لكن وجودها في مجتمع ذكوري ساديّ وظالم ومتعصّب ومغلول بالعادات والتقاليد الموروثة، جعلها مضطهدة ومستعبدة وضحيّة مسلوبة الإرادة، مستسلمة لواقعها المعيش.

و كأنّ عالم السجن في حياة نساء " غابات الإسمنت " هو انعتاق من سجن آخر مفتوح اكثر قسوة ومرارة، بلا أبواب ولا أقفال حديديّة مغلقة ولا أسوار اسمنتيّة مسلّحة عاليّة. إنّه سجن الذكورة الشرقيّة الرعناء. فقد وجدت الشخصيات النسائيّة، الناميّة والجاهزة على حدّ سواء، في مجريات أحداث رواية غابات الأسمنت، للروائيّة ذكرى لعيبي، بين أسوار السجن فضاء أكثر حريّة من الفضاء خارج السجن، أيّ فضاء الشارع والحياة الطليقة. وهذا ما عبّرت عنه بطلة الرواية إنعام عبد اللطيف الحاير بقولها: " فقد رأيت أنوار المدينة، ونور النهار مع حبيبتي وأنا في السجن، حين كنت أخرج معها. " ص 126.

أجل، لقد وجدت تلك النساء السجينات ضربا من الحريّة في السجن المغلق. فطفقن يمارسن حياتهن من جديد، لكن بشكل مختلف ومغاير لحياتهنّ قبل إيداعهنّ السجن. فقد كانت الحياة داخل السجن مستقلّة عن الرجل، وكأنّ السجن حررهنّ من قيود الرجل وتعسفه وظلمه وعصمته وقوامته الزائفة. وهكذا تنقلب معايير الحياة، ويمنح السجن حريّة وطمأنينة أكثر من العيش خارجه. أي أنّ المكان (السجن والشارع والبيت) ينتحل رمزيّة سرياليّة،

فالبطلة (إنعام عبد اللطيف الحاير) (ميساء أدهم عبد الرحيم)، أطلقت العنان لممارسة حياتها المثليّة والجوسسة، مضحيّة بكلّ القيّم والمباديء التي آمنت بها، ودافعت عليها، وكأنّها مارست سيكولوجيّة الانتقام للتخلّص من العار الذي حلّ ببيتها، والتطهّر من الخوف. " وجدت أنّي أصبحت في لحظة الغضب رسّامة ماهرة، أرسم باللون الأحمر وحده ؛ إذ لا شريك معه من الألوان الأخرى. الزرقة تلاشت. الأصفر يهرب. الأخضر غائب... والدم المسفوح يتحدّث بصوت على وقع بكائي " ص 18 / 19...

فقد قتلت زوجها الخائن رفضا للخيانة، ولكنّها بالمقابل، خانت نفسها واسمها وهويّتها ومبادئها وقيّمها وأنوثتها وفطرتها وإنسانيتها حين قبلت الانخراط في عالم المثليّة الجنسيّة (الشذوذ الجنسي)، وتغيير اسمها إلى (ميساء أدهم عبد الرحيم). وهذه مفارقة، تكشف عن اضطراب سيكولوجي عميق، وتناقض سلوكيّ رهيب وخروج بيّن عن الفطرة السليمة. قد يبرّر (بضم الياء وفتح الراء الأولى) ذلك السلوك، برغبة البطلة إنعام عبد اللطيف الحاير (ميساء أدهم عبد الرحيم) في الانتقام من ماضيها الأسود، ومن بقايا ذاكرة مؤلمة، ونكاية في زوجها الخائن، أو محاولة لإثبات الفرق بين مفهومي الذكورة والرجولة. فقد سعت، وهي الأنثى قلبا وقالبا، إلى ممارسة طقوس الرجولة بعيدا عن الأنوثة لنفي مفهوم الذكورة عند الرجل الشرقي. وهو سلوك ينمّ عن عمق المأساة التي تعيشها المرأة الشرقيّة تحت نير الهيمنة الذكوريّة المكتسبة، والتي أوجدتها شريعة التقاليد والعادات البالية.

الهروب من الواقع المعيش، ليس، دائما، هو الحلّ المثالي في حياة الإنسان. وهو سلوك سلبي، يلجأ إليه الفرد حين يعجز عن التكيّف مع النسيج الاجتماعي. وهو سلوك نفسي قد ينشأ بسبب إصابة الشخص بطيف التوحّد، أو الكآبة أو انفصام الشخصيّة. لقد لجأت البطلة إنعام عبد اللطيف الحاير - وبغير إرادتها – إلى الاختفاء من عيون مجتمعها، وراء قناع الاسم المستعار (ميساء أدهم عبد الرحيم)، لبدء حياتها من جديد، وهو ما يعني أنّها لم تتحرّر، بل وضعت نفسها في سجن جديد اسمه (التنكّر).

ورغم كرهها للرجل، بعد حادثة خيانة زوجها لها مع عشيقته ومعاقبتهما بقتلهما معا، وانخراطها في المثليّة الجنسيّة، ما فتئت تحن إلى الرجل. لقد أدركت أن وظيفة الرجل في العمليّة الجنسيّة والإنجابيّة لا تؤديها المرأة. لذلك نجدها (وهي الكارهة والناقمة من الرجل) تقرّر الزواج مرّة أخرى لا من أجل تحقيق سنّة النكاح الشرعي التي تنجرّ عن الزواج الحلال عادة. وإنّما لغاية أخرى في نفسها، من أجل إنجاب وريث أو وريثة لما تملك من مال وعقار. " فكرة الزواج والنسل الذي هو امتداد رائعة جدا، اقتنعت بها تماما " ص 169.

كما عبّرت النقيب ابتسام علاّم عن رغبتها تلك لحبيبتها إنعام عبد اللطيف الحاير قائلة: " عندي المال والعقار ؛ لكن أين يذهب كل ذلك في المستقبل؟ وأنت أحببتك وأحبّك إلى الأبد، أين ستذهب أموالك؟ " ص 164 ثم أردفت قائلة بجدّ وإصرار: " نتزوّج ونحبل ثم نطلّق " ص 164.

و أفصحت لها عن مخاوفها من ضياع ثروتها في المستقبل بعد وفاتها، فهي لا تريد أن يرثها أهلها. و" لا تضيّع ثروتها وتذهب لأهلها الذين ظلموها " ص 166.

و بالمقابل، لم تعارض إنعام عبد اللطيف الحاير فكرة حبيبتها النقيب ابتسام علاّم. لقد كرهت فكرة الاقتران برجل مهما كان مركزه الاجتماعي، فالرجال عندها سواسيّة، وإن اختلفت صورهم وأعمارهم وحسبهم ونسبهم. فهم في نظرها ساديّون وخونة. وهذا، الموقف النمطي الذي عبّرت عنه البطلة إنعام عبد اللطيف الحاير، فيه الكثير من المبالغة القاسيّة والتطرّف المرضي والفوبيا الذكوريّة. إنّه موقف غير عادل، فظاهرة الخيانة الزوجيّة في المجتمع الشرقي استثنائيّة ولا تبلغ درجة العموم، ولا حتى درجة الجزئية. وقد تكون المرأة سببا مباشرا لها.

" لم أكن أريد العودة إلى حياتي القديمة، أنفر منها ولا أحنّ إليها قط، لذا ينبغي لي أن أخطط للمستقبل " ص 169. فهي ترغب في الإنجاب دون أن يدخل بها زوجها الجديد، أي دون ممارسة العلاقة الحميميّة المفروضة بين الزوجين. تقول إنعام عبد اللطيف الحاير عن زواجها من المفوّض عبد الحق " أصبحت زوجة مرّة أخرى.. زوجة بشكل آخر " ص 171. وتقول أيضا: " وكان أهم شرط عندي ألاّ يباشرني، بل نذهب إلى طبيبة من معارف ابتسام نسّقت معها لفحص السجينات، على أن تلقّحني من حيامن العريس في عيادتها، وتتأكد من تخصيب بويضتي" ص 170. وتعترف أيضا بقولها: " ومع قرفي الشديد من عبد الحق الذي رأيت فيه كلّ الرجال " ص 172. أي أنّ زواجها زواج مصلحيّ وظرفيّ، لا غير، فهي، كما تقول، كرهت جنس الرجال، كرها مطلقا، بسبب الخيانة،، ولا تثق في أحد منهم، وتصرّح قائلة: " قبل أن أراه قرفت منه، ذكّرني بصورة الدم، ولم أقنع نفسي قط أنّي يمكن أن أحبّه " ص 169.

ومن خلال اعترافات البطلة إنعام عبد اللطيف الحاير، والنقيب ابتسام علاّم، بدت لنا أن ما تعيشانه من شذوذ ومثليّة وكراهيّة للرجل، ناتج عن وجود فجوة سوداويّة في النشأة الأسريّة، والنظام والتربوي. وكلاهما مبنيّ على ملمح تفضيل الذكر على الأنثى، أو كما قال الفيلسوف أرسطو: " إن الطبيعة لم تزود المراة بأي استعداد عقلي يعتد به، ولذلك يجب أن تقتصر تربيتها على شؤون التدبير المنزلي والأمومة والحضانة وما إلى ذلك ". وأضاف: " ثلاث ليس لهن التصرف في انفسهن: العبد ليس له ارادة، والطفل له ارادة ناقصة، والمرأة لها ارادة وهي عاجزة ". وقال أيضا: " إن المرأة للرجل كالعبد للسيد، والعامل للعالم، والبربري لليوناني، وإن الرجل أعلى منزلة من المرأة ".

و هكذا، نلاحظ أن المرأة قد وقعت ضحيّة الفلاسفة ورجال الدين والأدباء والعامة. وكأنّها، كما قال أرسطو: " المراة رجل غير مكتمل ". أو كما ادّعى سانتو توماس دي أكينو قائلا: " المرأة خطأ في الطبيعة، فهي ولدت من نطفة قذرة. ". وكأن الرجل ولد من نطفة ذهبيّة. أو كما زعم رجل الدين والحقوق مارتن لوثر: " الرجال لديهم اكتاف عريضة وأرداف ضيّقة. لقد وهبوا الذكاء. النساء لديهنّ أكتاف ضيّقة وأرداف عريضة، لإنجاب الأطفال والبقاء في المنزل ".

إنّ الرجل الشرقي والغربي، هما من أوصلا المرأة الشرقيّة إلى مستوى الهوان والحرمان من الحقوق الفطريّة. ممّا جعلها تتمرّد عليه، وعلى فطرتها. لقد رأت البطلة إنعام عبد اللطيف الحاير أنّ كيّانها آيل إلى الزوال، وأنّ هويّتها، كأنثى، مهدّدة بالاضمحلال أو المحو في كنف وجود وجود رجل أرعن وخائن وساديّ. لهذه الأسباب وغيرها انتحلت المثليّة، وتقمّصت دور الرجل والأنثى معا، بمعيّة النقيب ابتسام علاّم وأوامرها ومغرياتها، وراحت تمارس الإشباع الجنسي بأسلوب شاذ.

رسمت الروائيّة ذكرى لعيبي المرأة الشرقيّة في صور متباينة:

- فهي الكائن الأنثوي المستضعف ماديا وروحيا، وهي ضحيّة طغيان منطق الذكورة في المجتمع الشرقي القائم على سيادة العادات والتقاليد البائدة.

- هي المرأة المتمرّدة، التي تحاول بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، التحرّرمن عبوديّة الذكورة، وذلك لتحقيق وجودها وتميّزها، والحفاظ على خصوصياتها المعنويّة ومكانتها الاجتماعية.

- هي المرأة المنتقمة، غير المستسلمة، التي تدافع عن شرف كيانها أمام خيانة الذكر (الزوج) لها. تحت ذريعتي العصمة والقوامة. ولو كان ذلك بارتكاب جرائم القتل، أو ممارسة سلوكيات شاذة، كالمثليّة أو الاختلاس أو السرقة أو المتاجرة في الممنوعات والمحرّمات.

- هي المرأة المتناقضة في سلوكياتها ؛ فهي تمقت خيانة الذكر من جهة، ومن جهة تخون فطرتها وأنوثتها بممارسة الشذوذ الجنسي (المثليّة)، وقبولها بتغيير اسمها، وانتحال اسما مستعارا كما فعلت إنعام عبد اللطيف الحاير، التي تحوّلت إلى ميساء أدهم عبد الرحيم.

- هي المرأة التي أنصفتها الديانات السماويّة، وظلمتها القوانين الوضعيّة، وسحقتها العادات والتقاليد الميّتة والمميتة، بل لم تنج من ألسنة بعض الفلاسفة والمفّكرين ورجال الدين، كـ: آرثر شوبنهاور، الذي وصف المرأة بأنّها (حيوان طويل الشعر وقصير التفكير) وسان خوان الدمشقي الذي زعم أنّ (المرأة حمار عنيد)، وفرانسيسكو دي كيفيدو القائل: (الدجاج يضع البيض والنساء القرون) وغيرهم.

وبالتالي فالمرأة في رواية غابات الأسمنت، لذكرى لعيبي، مصابة بـ (فوبيا) الذكورة والخيانة الزوجيّة ومشاعر الإحباط وأزمة الساديّة الذكوريّة، وتعاني من عقدة الدونيّة في محيطها الأسريّ والاجتماعيّ. وكلّها مشاعر وأحاسيس سالبة، تنمو مع النمو العقلي والبيولوجي، لتمسي جزءا من حياتها اليوميّة، بل تغدو في حكم المباديء ومرتبة القيّم الأخلاقيّة والاجتماعيّة المقدّسة، التي يحرم عليها الخروج عنها، وتُجرَّم إن خرجت عنها وتُعاقَب العقاب القاسي.

إن سيميائيّة العلاقة بين الذكورة والأنوثة الشرقيتين، في رواية " غابات اللإسمنت " لذكرى لعيبي، ذات وجه سلبيّ، لا تتجاوز مخرجاتها حدود القمع المعنوي والمادي الممارس من طرف " الذكورة " على الأنوثة. فعوض أن يكون الرجل حاميّا لوجود المرأة وشرفها، وداعما لدورها المنوط بها في بناء المجتمع على أسس سليمة. سيميائيّة تعكس سطوة العادات والتقاليد، وهيمنة فلسفة القوامة والعصمة المكتسبة من البيئة الثيوقراطيّة المتزمّتة.

كلّ الأديان السماويّة كرّمت المرأة، كما كرّمت الرجل. ولم تفرّق بينهما في ممارسة العبادة. وحدّدت لكل منهما دوره البيولوجي والاجتماعي بدقة وإيجابيّة. لكن الرجل المدّعي كمال العقل وصفة الحكمة والرشاد، حرّف دور المرأة وشوّه صورتها في المجتمع، وحوّلها إلى آمة تُمارس عليها سلوكات العبوديّة، وخدمة الرجل باسم الطاعة الزوجيّة. والغريب في تلك العلاقة غير المتكافئة، وغير العادلة، أنّ حاجة الذكر إلى الأنثى ضرورة فطريّة، ويستحيل استمرار عمليّة التناسل، وآليات التكاثر للجنس البشري في غياب الأنثى، بل إنّ الأمر يشمل جميع الكائنات الحيّة ؛ الحيوانيّة والنباتيّة، البريّة والمائيّة دون استثناء. إنّ ظاهرة المثليّة الجنسيّة أو يسمى (مجتمع الميم) القائم على الشذوذ الجنسي، ستفضي – لا محالة – إلى انقراض الجنس البشري. والسؤال الذي يحيّر العقلاء، ويشيب له الولدان: كيف تنجب المرأة دون نكاح الذكر لها؟ إنّه لمن المستحيل أن يحمل الذكر مثل الأنثى ويلد ويرضع. إنذ مجتمع الميم، الذي يروّج له في الغرب، باسم الحريّة والديمقراطيّة وحقوق الإنسان، سيغرق الإنسانيّة في مستقنع الفساد الأخلاقي، وسيسوقها إلى أمراض مستعصيّة ومزمنة ومهلكة..

خلاصة:

سعت الروائيّة ذكرى لعيبي، في روايتها غابات الإسمنت، إلى إبراز أهمّ الطابوهات المميتة، التي مازالت تتحكّم في المجتمعين العربي والإسلامي (المجتمع الشرقي)، وتديره من وراء ستائر العادات والتقاليد الباليّة. وهي طابوهات تنشط في الغرف والدهاليز والأقبيّة المظلمة. لكنّ لا أحد يجرؤ على فضحها، إمّا خجلا، وإمّا خوفا من ردود الأفراد والجماعات، خاصة الجماعات المقنّعة والمتلحفة بالدين، وإمّا اعتقادا بأن الخوض في الطابوهات انتهاك للخصوصيّة والحريّة الفرديّة، وتهديد للسلم الاجتماعي.

و مهما، يكن، فإن مفهوم الواقعيّة في الأدب، ليس تناول ما هو ظاهر للعامة والخاصة، وما هو منسجم مع قناعات القارئ وإيديولوجيته وتوجّهاته السياسيّة والدينيّة والثقافيّة، بل لا بد أن يمتلك الأديب ناصية الإبداع، وملكة التنقيب في أعماق النفس البشريّة – من خلال كتاباته السرديّة أو الشعريّة – ويمتلك الشجاعة الأدبيّة الكافيّة لمواجهة فوبيا الخوف من الآخر، وما ينجرّ عنها من الصمت واللامبلاة. وقد امتلكت الروائيّة العراقيّة ذكرى لعيبي، في روايتها غابات الإسمنت، الشجاعة الأدبيّة، وحطمت قيود الصمت، وفكّت أغلال الخوف واللامبالاة والنفاق الاجتماعي.

***

بقلم الناقد والروائي: علي فضيل العربي – الجزائر

........................

* غابات الإسمنت: رواية للكاتبة العراقيّة ذكرى لعيبي، صادرة في طبعتها الأولى سنة 2023 م، عن دار الدراويش للنشر والترجمة – كاوفبويرن – جمهورية ألمانيا الاتحادية.

* ذكرى لعيبي:

كاتبة وروائيّة وقاصة وشاعرة عراقيّة لامعة وغزيرة الإنتاج الإبداعي. من مواليد ميسان. هاجرت من العراق عام 2000 م، وهي تقيم بين ألمانيا ودبي. عضو في كل من: إتحاد كتاب وأدباء العراق، واتحاد كتاب وأدباء الإمارات، واتحاد الصحفيين العراقيين واتحاد الصحفيين والكتّاب العرب في أوربا. ودارة الشعر المغربي ومؤسسة حميد بن راشد النعيمي لجنة الطفولة والشباب (عضو سابق) مؤسسة المثقف العربي/ سيدني – أستراليا، مؤسسة وشبكة صدانا الثقافية / نائب رئيس إدارة مجلس المؤسسة لجنة دعم كتاب الطفل / القيادة العامة لشرطة الشارقة / عضو مؤسس نادي دبي للصحافة. بيت الشعر في الشارقة.

من إصداراتها:

لقد جاوزت إصدارتها 36 منجزا أدبيا، توزّع بين مجموعات قصصيّة للكبار وللأطفال وروايات ودواوين شعريّة ونصوص مفتوحة، وكتب مشتركة). نذكر على سبيل المثال، لا الحصر، مجموعات قصصيّة (الضيف، حبّ أخرص، ثامن بنات نعش، رسائل حنين، للخبز طعم آخر)، إضافة إلى مجموعة من الروايات (خطى في الضباب، يوميات ميريت، غابات الإسمنت،) كما لها إسهامات كثيرة في أدب الطفل (شمس ورحلة الأمس، حكاية الطاووس والثعلب، اللصوص والقلم المعطّر، قطرة الماء السعيدة)، أما إسهاماتها الشعرية، فنذكر لها ما يلي: (امرأة من كوز وعسل، يمامة تتهجّى النهار، بوح في خاصرة الغياب).أما الكتب المشتركة، فنذكر: ترانيم سومريّة المشتركة، العبور إلى أزمنة التيه، حكايات ميشا) وغيرها من الكتب.

لها لقاءات وأمسيات أدبيّة وشعريّة في كل من:

معرض الشارقة الدولي للكتاب.

مهرجان الشارقة القرائي للطفل.

إتحاد كتاب وأدباء الإمارات.

جمعية المثقفين العراقية / مالمو- السويد

النادي الثقافي العربي / الشارقة

قناة الشارقة الفضائية.

قناة الاتجاه العراقية.

قناة الشرقية من كلباء – هيئة الشارقة للإذاعة والتلفزيون.

عن المديرية العامة للثقافة والنشر السريانية صدر للشاعر سمير خوراني مجموعته الشعرية (تَلافِيفُ أحلامِ الخَريف) عام 2022 .

في هذه المجموعة زخ الشاعر عدد هائل من الصور الشعرية الجميلة والمتتشظية ما بين لهيب المبتدى وصقيعِ المنتهى من اجل خلق مشهدية شعرية دراماتيكية في ازدواجية الحضور كي تجعلك تشتاق وتنزلق الى حيث نقطة التمركز التي أنطلق منها إلى فضاءاتهِ المُحلقة في سماء الأنا الجمعية المتكاملة، من خلال لغة سردية شفافة تشد القارئ شداً وبتلهف مرهف يتابع مسارها الى حيث متنها ليمسك بتلافيف أحلامه الخريفية ليرتوي عطشه. وحيث الجميع يعاني من العطش في رحلته سائرا على حبله السري منطلقاً من سرته أو مهده الى حيث متاهات الازقة في الداخل وكما في الخارج.

منذ الوهلة الأولى نلتمس تعالقاً واسعاً بين السرد والشعر الغنائي من خلال تداخل الواقع والرؤى والاحلام في نصوصه الشعرية. فسنجد أنفسنا أمام تعالق أجناسي بين الأسلوب السردي الممتد أفقياً وأسلوب غنائي شعري يتمدد بشكل عمودي، حيث ترتكز عنونة المجموعة على ثلاثية متوازية ومتجانسة وهي (التلافيق، الاحلام، الخريف) ومن تزاوجها ولدت ثلاثية سردية تنتمي الى فضاء ميثيولوجي وهي (المبتدى،المنتهى، الحبل السري) وفي هذا الثالوث يدفع الشاعر وظائف كل عنصر فيه الى تشعيره واقترانه الواحد بالاخر وشد مفاصل علاقاتهما البعض مع البعض الاخر كي يرسل سيلا من النصوص الشعرية بلغة شفافة وجدانية ثرة في معانيها وفضائها السيرذاتي.

يستهل الشاعر سمير مجموعته هذه بعتبة الإهداء الى الشاعر العراقي (سركون بولس) الذي حاول أن يلتصق بجده الاول كلكامش قبل ما يقارب 5000 سنة وينتعل حذاءه ويحمل عزمه وسراجه تاركا بلدته اوروك / الحبانية وكركوك ليصل الى بلاد الارز لبنان، الا ان الشاعر سركون لم يستسلم مثل كلكامش وحيث تراءى لهما الوجود والخلود على شكل سراب فاصبحت بلاد الارز هي المنتهى لكلكامش فعاد الى حيث المبتدى إلا أن سركون سار الى حيث دول العم سام كي يتذوق الفودكا ومن ثم يتقمط هناك المنتهى.

الشاعر بقصيدته الجميلة هذه والمعنونة (عرّاف أور خارج الملكوت ) تتشظى الى حيث أعماق الصراع فيفتتح مجموعته الشعرية ليقول لنا:

أيُّها الرَّائي في زمنِ اللارؤيا

الُمتَبَصِّرُ في زمنٍ تعشُو فيهِ الأبصارُ والعُقُلُ

أيُّها الرّاحلُ بلا اعترافٍ أخير في كنيسةِ الشِّعرِ

أيُّها الحالمُ بوطنٍ يُرمِّم انكساراتِكَ الأَزَلُ

أيُّها الُمهاجرُ المُتْعَبُ من حملِ الحقائبِ وأتربةِ الُمدنِ الّتي تَتَشَظّى

في وجهكَ كالزُّجاجِ

أيُّها الثائرُ في زمنٍ استوى فيهِ الثُّوار والتُّجارُ

أيُّها الرّاغبُ في موتٍ أكثر جمالاً وجلالا

منذ البدء تجسد لنا القصيدة كماً هائلاً من الاحلام التي يداهمها الخريف منذ خطوتها الاولى فمنها ما تعود الى مهدها وتتقمط منتهاها واخرى تتأرجح وتتمرد بقوة وصخب، لتحاكي ملحمة سفر كلكامش وحيث يبدأ توتره الانفعالي في أوج التصاعد التراجيدي وهو يرى حلمه بالخلود يتكسر بموت صديقه أنكيدو وفقدانه لعشبة الخلود فتمتد ايقاعاته لتبلغ ذروتها، وهو يعي مـا حدث لكلكامش حدث لسركون بولس ولعشرات من ابناء شعبه.

كيف لا نتعب من حمل الحقائب ويتعذر علينا أن نتقمط مبتدانا ليكون لنا المنتهى ونحن نرى في أوطاننا قادتنا (كثيرون في الأضواءِ / وقليلون في العملْ / قصيدته " تساؤل") كيف لنا ان نجعل مبتدانا يتقمط منتهانا ونحن نعيش الوهم ليقول في قصيدته (وَهْم):

جَدِّي كانَ يقولُ لي: غداً سيكونُ أجمل

أُمِّي تردِّدُ بينَ الفيْنةِ والأخرى: غداً أجمل

أنا الآخر، أَوهَمتُ نفسي، تاراتٍ وتارات

بإنَّ الغدَ أجمل.

آلافُ الغُدودِ أَقْبَلتْ وَوَلّتْ، ولَم تكن جميلة!

وقبل أن أنقلَ العدوى لأطفالي

شطبتُ الغدَ الجميلِ من قاموسي

وصنعتُ حاضري المغتَدِي بِيِدِي

من خلال هذا الكم من الصّور الشّعريّة المرتبطة بالخيال تنكشف قدراته التصويرية ومن خلالها نقل تجربته واحساسه الى القارئ وهو يرسم لنا بكل جرأة صورة الآخر بمشاهد الواقع التصويرية على حقيقتها، دون رتوش تجميل كونها ذات علاقة متبادلة بين التصوير الشعري، وإيحاءاته في الرؤية الفكرية عبر الخيال وهو يستغيث بالرموز التاريخية، وشخصيات تركت بصماتها على أذهان القارئ ليؤهلنا أن نغوص في أعماق صوره الشعرية ودلالاتها التعبيرية.

الشاعر سمير خوراني في مجموعته هذه يتناول أحداث عاصفة ترسم للمواطن العراقي مسار رحلته وهو يبحث عن عالم الخلود متأبطاً تقلباته الناتجة كرد فعل للهزات العنيفة الذي يتلقاها سواء في مهده أو مهجره، فهو ملزم بان يبحث في مضمونه الروحي من خلال تصوير ذاتيته أي عالمه الداخلي فجاءت قصائده وكأتها مرآة الذات الفردية فمثلت أناه بوصفها فاعلا شعريا لتنوب عنه في ميدان (الأنا) ليأخذ من التمركز الأنوي وسيلة تفاعل وتواصل مع أنا الآخر ومن خلال فيضه الشعري. كما يقول في قصيدته (حلُمُ قديم):

في القريةِ الّتي كانَ كُلُّ شيءٍ فيها أَخضَرَ

كانَ الحُلُمُ يَنمُو كَشجرةِ الجَوزِ

وتَشْرَئِبُّ أَغصَانَهُ طُولَ المَدَى

لِتَحُطّ عليهِ الطّيورُ فَيُغَنّي:

ثم يقول

يَتَلاشَى الحلُمُ... تَتَهَاوَى الأُمنيةُ نَحوَ حَتْفِها

يُخَيِّمُ اللّيلُ مُتُثَاقِلاً،ثَمِلاً

الشاعر سمير خوراني ينطلق في مجموعته هذه من الذات الشاعرة بلحظاتها العاطفية المشحونة بالعواطف والأحساس فأنطلقت أناه منذ القصيدة الأولى نحو خريف الغربة إن كان في وطنه او في بلاد المهاجر لتتحد مع روح العديد من أبناء شعبه الذين يجمعهم وأياه المصير الغامض، ليقتحموا سوية منصة النص الشعري ويقيموا علاقة فيما بينهم، بأعتبارهم جزء مكمل لأناه وحيث الجميع بدأت أشجارهم الربيعية تتعرى في الخريف ليقول في قصيدته (الرحيل):

سَنسقُطُ كأَوراقِ الشَّجرِ

وُرَيْقَةً

وُرَيْقَةً

وندخلُ جوفَ الثَّرَى

كلُقَى الآثارِ

ولا ندرِي بعدَهَا

إن كُنّا سَنتلُو صلاتَنَا الأخيرة

في أرضٍ كُنّا نُسَمِّيها... وَطَنَاً

الشاعر سمير في ثنايا صوره الشعرية، يكمن الوطن والوطنية والحرية والانسانية و.. كلها عبارات تعويضية افتراضية لا وجود لها إلا في تلافيف حلمه الخريفي الذي صنعهُ بمخيلتهِ ، وتعبيراً عن حزنهِ وغربتهِ في وطنه او في مهجره يكون قد عبر تعبيرا عن حاجته لإثبات الذات وتحقيق الوجود. وكما يقول في نصه الخامس من تأملات:

طُوبى لي

فأنا مَحبُولٌ بوطنٍ من سبعةِ الآف عامٍ

وما زلتُ أنتظرُ.. الولادة

ولان المسافة التي يسير عليها الشاعر هي بطول حبله السري أو قماط مهده، لذا تراه ينتهي في نفس النقطة الذي يبتدئ منها مما يعطي للمكان منطلقا متينا لولوج خبايا تأويلاته والتي هي تأويلات لردود أفعال عوامل مختلفة باتت تشكل لديه تلافيف مسيرته باحثا عن الخلود كي يتشبث بدلالاته الحبلى برؤية جمالية وفلسفية لهذه التلافيف (الأماكن)، فأنتج لنا كينونة المكان وفاعليته على مستوى العلاقات التقابلية والضدّية في نصوصه الشعرية لذلك تجده يستنجد بالخيال للولوج الى عمق الصراع الدائر بين المبتدى والمنتهى مثلما يدور بين الميلاد والموت وهو يبحث عن أماكن جديدة علها يمتطي واقع حلمه للعثور على عشبة كلكامش وينال الخلود كما يقول في قصيدته ("لُعْبَة ):

أمّا أَنا، أيُّها السّادَة

فأظلُّ كَئِيباً

أجتَرُّ خَيْباتِي المُزمِنةَ

قُربَ نافِذَتِي

وأدخلُ في لُعبةِ البحثِ عنِ اللّامكان

نلاحظ أن الغربة المكانية والنفسية تسيطر على روح الشاعر حيث يعتبر حضور المكان مرهون بحسن استثمار الشاعر بتلافيفه في وسط صراعه مع مخيلته لتفرز له مكونات النص كي يفتح الطريق للمتلقي لتتبع مسار قصائد المجموعة من بدايتها وحتى نهايتها من خلال الصور الشعرية التي تزخر بها قصائده، وبهذا يصبح المكان مكونا مهما يساعد في صنع المعنى داخل النص.

إن النص يتخلق من خلال نصوص صغيرة يحولها إلى عناصر فاعلة تذوب في جسد النص، والتي تجعل منه قراءات متعددة، وكما في قصيدته (أرحل):

ارحَلْ

عن سمائِكَ المُغْبَرّةِ

وابحثْ عن سماءٍ تكونُ فيها النُّجومُ أَقربَ

وأَجملَ

وأَنصعَ

وأَصفَى

واتركْ أرضاً لا يَغْسِلُها المَطَرُ

إلى أرضٍ خضراءَ حُبْلى بالغيومِ والمَطَرِ والثَّلجِ

ففي قصيدته ("شِيواسارى) يكشف الستار عن زوال معالم الجمال في النفس البشرية وحيث الصراعات ورفع الشعارات المزيفة وقطع الرؤوس باسم الله دأبت على تشويه القيم الجميلة في قلوب الناس وحثتهم على ترك الإنتباه إلى ماخلق الله من جمال الأمكنة في هذه الدنيا وحيث سلبت المرء دهشته بعوالم الطبيعة وسحرها، لذا ينساق الشاعر بعفوية مع جدلية العلاقة بين أناه و بعض وجوه الطبيعة، والهادفة الى عكس رؤيته في الوجود وهو يضع بعض مقاييس التحول. حيث كل الاشياء التي تعطي وجودها من أجل اسعاد الاخر ينتهي بها الامر إلى الزوال.

يا نبعاً من الماءِ صافٍ

يجري تحتَ ظلالِ التوت

ويَمضِي الهُوَينَا حامِلاً

كلماتي وقُبُلاتي في سكوتْ. ها نحنُ- مثلكِ- ننتظرُ العُمْرَ

كي يفوتْ

ونموتْ

الشاعر يحاول دوما ان يكشف وينتقد الصراعات والانكسارات التي تلازمنا منذ المبتدى وستبقى تلازمنا وحتى المنتهى طالما نعيش في ساحة المزايدات. بمعنى آخر (الميلادُ أَوَّلُ خطوةٍ نَحوَ الفَنَاء / قصيدته (ميلادٌ وفَنَاء).

ولان الارض كروية لذا سيلتقي المتخلفون وتجار الزيف والمدعين زيفا ببضاعة اسمها الحرية وحقوق الانسان لذا تراه يقول في قصيدته (" لا فَرْق"):

ولأنّ الارضَ كرويةٌ لا مسَطّحة

فإنّ السائرينَ الى الوراء، تخلُّفا وتسلّفاً

والسائرينَ - بوهمِ الحرية- الى الامام،، تسَفُّفاً

سيلتقيان في نقطةٍ تُدعى

رأس الغباءِ الطّالِحِ

من خلال مجسَّات خيوط حبله السري الشعري يُضفي على صوره الشعرية المتناوبة شيئاً خاصَّاً من روحه الذاتية للتخفيف من شدَّةِ الصراع الداخلي الذي يعيشه الشاعر وكما نعيشه نحن، والتقليل من آثار تدفق إرهاصاته النفسيَّة والتي تصطدم بتداعياتنا الشعورية التي نواجهها في حياتنا اليومية وحيث التشاكل الدلالي من الصدمات والانكسارات التي نواجهها على مر السنين بسبب الحروب المتكررة تنعكس وتفيض بها نصوصه الشعرية. لذا تراه يتساءل في قصيدته (اندهاش) ويقول:

أَخْبِرني، أيُّها الكائنُ

كيفَ قَدَرْتَ

أن تَحمِلَ ثُقلَ آثامِنَا

من قبلُ ومن بعدُ

من غيرِ أن ترفعَ الشَّكوى أو تتذمِّرْ؟ !

تساؤلاته هذه مستخلصة من وقائع مَرايانا العاكسة لتكون لنا كاشفاً ضوئياً بصوته المحكي عن صدى تجلِّياته التعبيرية المؤثِّرة باستنطاقها الصوري الحركي التي تجذبه إليها لِمَا في الرُّوح الذاتية الشاعرة الظاهرة المتجلِّية والخفيَّة المُضمرة.

ففي قصيدته (ارتِداد) يطرح الشاعر كماً من الصور الشعرية لمظاهر الحياة وهي من فرط حبها للعطاء تتكسر لذا تراه يتساءل ويقول:

ولأنَّ حاضِري زورقٌ

أتأرجحُ فيهِ واقفاً

وغَدِي مَجهولٌ لا أفقَ فيهِ

أجِدُني مُنْجَذِبَاً قَسْراً

إلى حائِطٍ قديمٍ مَحْبولٍ بذكرى

اتَّكِىءُ عليهِ خِيفةَ التَيْهِ.

في الختام أقول: في قراءتي للمجموعة الشعرية من زاوية تأويلية وجدت النص الشعري لديه يمتد بامتداد حلمه السائر عبر تلافيف الحياة ليتجاوز على المساحة المرسومة له بين المبتدى والمنتهى بنصوص حبلى بالإبداع، وهي تستمد خاماتها الشعرية من معطيات الواقع وافرازاته الدالة في عمق الاحساس الصادق وهو يسير على منوال الشاعر الأمريكي والت وايتمان مقارعاً الواقع في الرصد والتقاط الارهاصات اليومية بمفردات شفافة ومباشرة. حيث تمكن الشاعر لما لهُ من ملكة شعرية قادرة على استقراء الأحداث التي تحصل يوميا وفق جدلية التفاعل بين الذات والآخر مع محيطه الداخلي والخارجي من خلال شخصيات تركت أثرها لدى الشاعر من أمثال الشاعر سركون بولس وسعدي يوسف و... مولداً صدمات قادرة على اجتراح ذائقة القارئ من خلال انسياب جوارحِهِ ومشاعرِهِ الفيَّاضةِ بألحان سلسة إلى مسامعِ القارئ. لذا فأن جمالية نصوصه هذه إنما تتأتى من الإيحاءات التي تشع بها صوره سواء من نصوصه الشعرية أو فلاشاته القصيرة. هذه الإيحاءات تراها حبلى بتأويلات عديدة. فمبارك لصديقنا الشاعر هذا الانجاز وتحية الى المديرية العامة للثقافة والفنون السريانية التي وفرت الفرصة لقرائه لقراءة نصوصه الجميلة لكي نحلم حلمه وهو يقول.

أُمْنِية"

في هذا الشِّتاءِ القارسِ والقاسِي

أحلُمُ بأن أكونَ برميلَ نفطٍ

تحتفلُ به المدافىءُ الفارغةُ لبيوتِ الفُقَراء

كي يَتَدَفَّأَ بنارِها الصِّغارُ

بدلاً أن يذهبوا الى ربِّهم في السَّماء

***

نزار حنا الديراني - ملبورن - استراليا

يعتبر العديد من النقاد "تشينوا أتشيبي" Chinua Achebe أشهر روائي أفريقي، وأكثر الكتاب الأفريقيين نفوذاً في جيله، والأب المؤسس للرواية الأفريقية. قدّمت روايته الأولى "الأشياء تتداعى" التي نشرها في عام 1958 تعارضاً مع الروايات الأوروبية عن الأفارقة، وشكلت تحدياً أيضًا للافتراضات التقليدية حول شكل ووظيفة الرواية. لقد أنشأ ابتكاره لمزيج هجين يجمع بين الأنماط الشفوية والأدبية، وإعادة تشكيله للغة الإنجليزية لنقل أصوات ومفاهيم "الإيغبو" Igbo نموذجًا وإلهامًا للروائيين الآخرين في جميع أنحاء القارة الأفريقية.

برعت كتاباته بتقديم القراء في جميع أنحاء العالم إلى الاستخدامات الإبداعية للغة والشكل، بالإضافة إلى الروايات الواقعية الداخلية للحياة والتاريخ الأفريقي الحديث. ليس فقط من خلال مساهماته الأدبية، ولكن أيضًا من خلال مناصرته للأهداف الجريئة لنيجيريا وأفريقيا، ساعد أتشيبي في إعادة تشكيل تصوّر التاريخ الأفريقي والثقافة والمكانة الأفريقية في العالم.

تُقدم الروايات الخمس والقصص القصيرة التي نشرها بين عامي 1958 و1987 سردًا لتاريخ نيجيريا المضطرب منذ بداية الحكم الاستعماري البريطاني. وأنشأت مجموعة من الشخصيات النابضة بالحياة التي تسعى بطرق مختلفة للسيطرة على تاريخها. وبصفته محررًا مؤسسًا لسلسلة كتاب "هاينمان الأفريقيين المؤثرين" influential Heinemann African writers  أشرف على نشر أكثر من مئة نص جعلت الكتابة الجيدة للأفارقة متاحة في جميع أنحاء العالم بطبعات ميسورة التكلفة.

طفولة المدرسة التبشيرية

ولد "ألبرت تشينالوموغ أتشيبي" born Albert Chinụalụmọgụ Achebe بتاريخ 16 نوفمبر 1930 في قرية "أوجيدي"  Ogidi بشرق نيجيريا، وبعد حوالي 40 عامًا من وصول المبشرين لأول مرة إلى المنطقة. أطلق عليه والديه الذين تحولوا إلى المسيحية اسم ألبرت تشينوالوموغو. في وقت لاحق وبمقال عن سيرته الذاتية بعنوان الملكة فيكتوريا ملكة إنجلترا، أخبر كيف أنه مثل الملكة فيكتوريا فقد ألبرت، لأن القومية المتنامية في نيجيريا لم تغب عن أتشيبي، فقام في الجامعة بإسقاط اسمه الإنجليزي "ألبرت" لصالح الاسم الإيغبوي "تشينوا"

كتب أن نشأته كمسيحي سمحت له بمراقبة عالمه بشكل أكثر وضوحًا. أصبحت المسافة الطفيفة عن كل ثقافة ليست انفصالًا، بل تجمعًا مثل الخطوة الخلفية الضرورية التي قد يتخذها المشاهد الحكيم من أجل رؤية اللوحة القماشية بشكل ثابت وكامل.

ومع ذلك، مُنع الأطفال في المدرسة التبشيرية المحلية من التحدث بلغة الإيغبو، وتم تشجيعهم على نبذ جميع التقاليد التي قد تكون مرتبطة بأسلوب حياة "وثني". ومع ذلك، فقد استوعب أتشيبي الحكايات الشعبية التي روتها له والدته وأخته الكبرى، وهي القصص التي وصفها بأنها "ذات جودة عميقة للسماء والغابات والأنهار".

عندما كان في الرابعة عشرة من عمره، تم إرسال أتشيبي إلى كلية الحكومة الاستعمارية المرموقة في أومواهيا، حيث كان من بين زملائه في المدرسة الشاعر "كريستوفر أوكيجبو" Christopher Okigbo صديقه المقرب. في عام 1948 حصل على منحة دراسية لدراسة الطب فيما أصبح يعرف بجامعة "إبادان" University of Ibadan ومع ذلك، بعد عامه الأول أدرك أن الكتابة هي أكثر ما تروق له، وانتقل إلى درجة علمية في الأدب الإنجليزي والدراسات الدينية والتاريخ.

على الرغم من أن مناهج اللغة الإنجليزية اتبعت عن كثب المناهج البريطانية، فقد قدم المعلمون أيضًا أعمالًا اعتبروها ذات صلة بطلابهم النيجيريين، مثل روايات "جويس كاري" Joyce Cary الأفريقية وقلب الظلام لـ "جوزيف كونراد" Joseph Conrad لكن مثل هذه الأعمال كانت تتعارض مع العقلية المتغيرة التي أحدثتها الحركات المناهضة للاستعمار في غرب إفريقيا في أعقاب الحرب العالمية الثانية.

كاتب يروي قصة الأفارقة

كان أتشيبي من بين العديد من نجوم الأدب المستقبليين، بما في ذلك "وول سوينكا" Wole Soyinka الذي ساهم بين عامي 1948 و1952 بقصص ومقالات في مجلات طلابية ذات توجه قومي. حتى في هذه النصوص المبكرة يمكن للمرء أن يميز الصفات المميزة لأشيبي: نظرة مسلية بشكل هادئ للنخبة المتعلمة، بنية متوازنة بعناية من التناقضات، متعة في محاكاة أنماط الخطاب المختلفة، الاهتمام بريف نيجيريا والتفاعل المضطرب بين الثقافات الغربية والإيغبو، والإصرار على ما رآه قيمة الإيغبو الحاسمة للتسامح. في إحدى هذه القصص يظهر المثل المفضل له لأول مرة: "دع الصقر يجلس ودع النسر يجلس".

بحلول الوقت الذي تخرج فيه في عام 1952  قرر أتشيبي أن يكون كاتبًا يروي قصة الأفارقة والمواجهة الاستعمارية من وجهة نظر أفريقية. كان أحد دوافعه هو رواية كاري النيجيرية Cary Nigeria "مستر جونسون" Mister Johnson والتي على الرغم من الإشادة بها من قبل النقاد الإنجليز بدت له "صورة أكثر سطحية لنيجيريا وللشخصية النيجيرية". كان يعتقد: "إذا كان هذا مشهوراً، فيجب على أحد أن يحاول النظر إليه من الداخل".

ما تم التخطيط له في الأصل كرواية طويلة واحدة بدءًا من استعمار شرق نيجيريا وانتهاءً قبل الاستقلال مباشرة، تحول إلى روايتين أقصر، الأولى رواية "أشياء تتداعى" Things Fall Apart (تدور أحداثها في أواخر القرن التاسع عشر) ورواية "لم يعد من السهولة" No Longer at   Ease  (تدور أحداثها في العقد السابق لاستقلال نيجيريا).

بينما تتناول الرواية الثانية حبكة السيد جونسون وتعيد سردها - قصة كاتب نيجيري شاب يأخذ رشوة وتحاكمه الإدارة الاستعمارية وحكمت عليه – تسعى الرواية الأولى  بنجاح باهر إلى استحضار الثقافة والمجتمع السيد.

تعيد رواية الأشياء تتداعى إنشاء ثقافة شفهية ووعي مشبع بأسلوب الحياة الزراعي الودي

والمتوحش، على حد تعبير أتشيبي "إن الشعوب الأفريقية لم تسمع عن الحضارة لأول مرة من الأوروبيين". في الوقت نفسه، سعى إلى تجنب تصوير أفريقيا ما قبل الاستعمار على أنها رعوية، رافضًا استحضار الحنين إلى الشاعر والسياسي السنغالي "ليوبولد سنغور" Léopold Senghor ومدرسة الكتابة الفرانكوفونية.

يظهر بطل الرواية "أوكونكو" Okonkwo كشخصية بطولية، ولكن جامدة، يخشى خوفه من الظهور ضعيفًا أن يتصرف بقسوة تجاه زوجاته وأطفاله، وأن يشارك في التضحية بشاب رهينة من قرية أخرى. تمت مقارنة توصيفها وعالمها الريفي المغلق مع عمدة "كاستيربريدج" Casterbridge من قبل الروائي الانجليزي "توماس هاردي" Thomas Hardy الذي أعجب به أتشيبي. بيعت "أشياء تتداعى" ملايين النسخ وترجمت إلى أكثر من 50 لغة.

رواية لم يعد من السهولة  No Longer at Ease التي تدور أحداثها في نيجيريا في الخمسينيات من القرن الماضي ونُشرت عام 1960 وتتناول قصة حفيد أوكونكو، وهو موظف حكومي نيجيري شاب مثالي يعود إلى وطنه بعد الدراسة في إنجلترا، ويجد راتبه غير كافٍ لنمط حياته المتوقع، فبدأ يتقاضى الرشوة.

الجمهورية الانفصالية

أولى رحلاته إلى الخارج  كانت بصفته رئيس قسم المحادثات في خدمة البث النيجيري (NBS) حيث تم إرساله في عام 1956 في دورة تدريبية قصيرة في هيئة الإذاعة البريطانية بلندن. بالعودة إلى نيجيريا  قام بتحرير وإنتاج برامج مناقشة وقصص قصيرة للمكتب الوطني للإحصاء في "إينوجو" Enugu بشرق نيجيريا، وتعلم الكثير عن كيفية عمل الحوارات الجيدة.  التقى هناك بـ "كريستي تشينوي أوكولي" Christie Chinwe Okoli وهي طالبة جميلة ورائعة من جامعة "إبادان" Ibadan. تزوجا عام 1961 وأنجبا أربعة أطفال.

أثناء إعداده لمقال عن رد فعل النيجيريين على الحكم الاستعماري المبكر، حقق أتشيبي في قصة كاهن من الإيغبو مسجون لرفضه التعاون مع البريطانيين. مفتونًا بالحكاية وشخصية الكاهن الفخورة جعل من هذه القضية محور روايته الثالثة "سهم الله" Arrow of God التي صدرت عام 1964. يعتبر بعض النقاد أن هذا العمل أعظم إنجازات أتشيبي ببنيته المعقدة وتوصيفه، واستجوابه للفجوات بين الرغبة الذاتية والقوى الخارجية في صنع التاريخ.

تم التركيز بصورة أكثر على المخاوف التي وردت في رواية سهم الله بشكل أكثر وضوحًا في روايته الساخرة الرابعة "رجل الشعب" A Man of the People التي صدرت عام 1988. وفي الرواية يفضح الفساد وعدم مسؤولية السياسيين وناخبيهم، وتنتهي بانقلاب عسكري - كما حدث بالفعل في نيجيريا بعد الاستقلال في عام 1966 وهو الانقلاب الذي أدى إلى محاولة انفصال "بيافرا" Biafra ونشوء حرب أهلية راح ضحيتها أكثر من مليون شخص.

وبيافرا هي رسميًا جمهورية كانت دولة انفصالية معترف بها جزئيًا في غرب إفريقيا، وأعلنت الاستقلال عن نيجيريا. استر قيامها من عام 1967 حتى عام 1970. وتألفت أراضيها من المنطقة الشرقية لنيجيريا التي تقطنها أغلبية "إيغبو" Igbo.

عندما بدأت مذبحة "إغبوس" Igbos في الشمال بعد الانقلاب، كان أتشيبي يعمل في هيئة الإذاعة النيجيرية في لاغوس Lagos وحذر أتشيبي من أنه قد يكون في خطر (كان ابن عمه أحد القادة العسكريين الذين اغتيلوا)، فأخذ عائلته إلى شرق نيجيريا. أصبح مدافعًا قويًا عن استقلال بيافرا، وسافر حول العالم للحصول على الدعم.

في رأيه، لم تكن بيافرا منطقة يمكن أن تضمن بقاء شعوب الإيغبو فحسب، بل كانت أيضًا نموذجًا مثاليًا. وفي حديثه عام 1968 أعلن: "تدافع بيافرا عن الاستقلال الحقيقي في إفريقيا، ونهاية 400 عام من الخزي والإذلال التي عانيناها في ارتباطنا بأوروبا. أعتقد أن قضيتنا صائبة وعادلة. وهذا ما يجب أن يدور الأدب حوله اليوم - الأسباب الصحيحة والعادلة".

على الرغم من أن الحرب انتهت بهزيمة الانفصاليون في قضية بيافران، إلا أن أتشيبي كان مصمماً على أن وجود شعب الإيغبو ووجهات نظره يجب أن تستمر داخل الأمة النيجيرية.

نوع جديد من الأدب

استندت مجموعته من القصائد "احذر أخي الروح" Beware Soul Brother الصادرة عام 1971، ومجلد القصص القصيرة "فتيات في الحرب وقصص أخرى"  Girls at War and Other Stories في 1972 على تجارب الحرب.

أصبح زميلًا باحثًا أول في جامعة نيجيرية، وهي  "جامعة نيجيريا نسوكا" University of Nigeria Nsukka وفي عام 1971 أسس هو ومجموعة من الأكاديميين النيجيريين مجلة Okike  وهي مجلة مهمة للكتابة الإبداعية الأفريقية والنقاش النقدي. كما كتب عدة كتب للأطفال.

في عام 1972 قبل أتشيبي الأستاذية الزائرة في جامعة "ماساتشوستس أمهيرست" University of Massachusetts Amherst حيث قام بتدريس الأدب الأفريقي واستمر في تحرير مجلة Okike. 

على الرغم من إدانته الشديدة للعنصرية والغطرسة الإمبريالية، إلا أن سخرية أتشيبي اللطيفة، والضحك الجاهز، وبهجته في الحكايات عن تصرفات الأطفال الغريبة، هي ما يتذكره زملائه في جامعة أمهيرست.

ولم يتراجع عن الجدل في المقالات والمحاضرات والمقابلات، وأعلن الحاجة إلى الكتابة الملتزمة في السياق الأفريقي. كما وسخر من الكتّاب والنقّاد الذين وجد مواقفهم تجاه الأفارقة متعالية أو عنصرية.

شجب رواية قلب الظلام في محاضرة بجامعة ماساتشوستس، تسببت في انسحاب الكثيرين من الجمهور احتجاجًا.

عاد أتشيبي إلى نيجيريا في عام 1976 ليعمل أستاذاً للأدب في جامعة نيجيريا حيث واصل التدريس، وأصبح رئيسًا لاتحاد الكتاب النيجيريين وقام بتحرير مجلة Uwa ndi Igbo وتعني "عالم شعب الإيغبو" وهي مجلة الحياة والثقافة لشعب الإيغبو. كما انتُخب نائباً للرئيس الوطني لحزب الفداء الشعبي ونشر كتيباً سياسياً بعنوان "مشكلة نيجيريا" The Trouble With  Nigeria  في عام 1983.

لم يخلق أتشيبي نوعًا جديدًا من الروايات فحسب، بل كان أيضًا غير راغب في تكرار نفس الصيغة في رواياته، التي أقامت كل منها حوارًا مع سابقتها تقنيًا ورسميًا، وكذلك فيما يتعلق بالشخصية والأوساط الاجتماعية.

وبلغت هذه العملية ذروتها في روايته الخامسة  Anthills of the Savannahالتي صدرت عام 1987، والتي علّق فيها على أشكال وموضوعات أعماله الخاصة بالكتّاب الأفارقة الآخرين.

تشدّد الرواية على أنه لا توجد قصة واحدة للأمة، بل تتعدد الروايات، تنسج الاستمرارية بين الأشكال والتقاليد الثقافية في الماضي والحاضر، والإيغبو والإنجليزية. تم تلخيص فلسفة وبنية وجمالية Anthills of the Savannah وفي الواقع هذا يمكن ملاحظته في جميع روايات  أتشيبي. وفي الجمل الأخيرة من مقالته "حقيقة الخيال" The Truth of Fiction يقول إن "الأدب الخيالي لا يستعبد إنه يحرر عقل الإنسان. إنه الحقيقة. ليس مثل شرائع العقيدة أو اللاعقلانية في التحيز والخرافات. إنه يبدأ كمغامرة في اكتشاف الذات وينتهي بالحكمة والضمير الإنساني".

الكاتب الأفريقي العظيم

أدى حادث سيارة وقع في عام 1990 إلى إصابة أتشيبي بالشلل. عرضت عليه كلية بارد Bard College في نيويورك إمكانية التدريس هناك، وقدمت التسهيلات التي يحتاجها. وباستخدام كرسي متحرك واصل السفر وإلقاء المحاضرات في الولايات المتحدة وأحيانًا في الخارج. نُشرت محادثاته في هارفارد عام 1998 تحت عنوان "الوطن والمنفى" Home and Exile.

نُشرت محاضراته الأخيرة ومقالاته عن سيرته الذاتية في عام 2009 "تعليم طفل محمي من بريطانيا" The Education of a British-Protected Child

انتقل إلى مدينة "بروفيدنس" Providenceالمدينة المكتظة في ولاية "رود آيلاند" Rhode Island في عام 2009 بعد تعيينه أستاذًا لدراسات "أفريكانا" Africana studies في جامعة "براون" Brown University.

نشر في عام 2012 كتاب "كان هناك بلد: تاريخ شخصي لبيافرا" There Was a Country: A Personal History of Biafra والذي كرر فيه إيمانه بالمثل التي ألهمت الروح القومية في أيام شبابه. أثارت روايته للأحداث التي أدت إلى الحرب الأهلية وسلوكها وتداعياتها ردود فعل قوية من مؤيدي قضية بيافران وكذلك من المعارضين لها.

حصل أتشيبي على العديد من الجوائز وأكثر من 30 درجة دكتوراه فخرية، ولكن من بين أكثر التكريمات الذي قد يكون أكثر تقديرًا وأهمية لديه كان من المناضل الشهير "نيلسون مانديلا" Nelson Mandela الذي كتب "كان هناك كاتب اسمه تشينوا أتشيبي، وفي رواياته سقطت جدران السجن".

حصل على العديد من التكريمات من الحكومة النيجيرية، إلا أن أتشيبي رفض جائزة "قائد الجمهورية الفيدرالية" في عام 2004، بسبب إحباطه من الوضع السياسي في بلاده.

على الرغم من شهرته العالمية، لم يحصل أتشيبي على جائزة نوبل للآداب، والتي اعتبرها بعض النقّاد - وخاصة النيجيريون – أنها غير عادلة. لكن كلية بارد  Bard College أسست في عام 2005 مركز تشينوا أتشيبي من أجل إنشاء مشاريع ديناميكية لأكثر الموهوبين من جيل جديد من الكتاب والفنانين من أصل أفريقي.

توفي الكاتب الأفريقي العظيم ـ الذي يكنّى في الغرب بـ "أبو الأدب الأفريقي" بالرغم من رفضه لهذا التوصيف ـ في 21 مارس 2013 بعد مرض قصير في بوسطن بالولايات المتحدة. وصفته صحيفة نيويورك تايمز في نعيه بأنه واحد من الروائيين الأكثر قراءة في أفريقيا وأحد الأدباء الشاهقين في القارة. دفن في مسقط رأسه أوجيدي.

***

د. حسن العاصي

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

مازال كتاب القصة القصيرة، والأقصوصة، من جيل الشباب، يثرون - من حين لآخر - الساحة الأدبيّة بنماذج قصصيّة، سرديّة، مدهشة، تعكس جانبا مضيئا من النهضة الأدبيّة المعاصرة، وصورا من الإبداع الأدبي الواعي والملتزم.

من العراق الشقيق، من أرض الأدب الأصيل، والعلم الوفير، أتحفتنا القاصة والشاعرة تماضر كريم*. بمجموعة قصصية. بعنوان "إيلا"**، في طبعتها الأولى 2023 م، عن مؤسسة أبجد للترجمة والنشر والتوزيع – العراق ضمّت بين دفتيها، سبعة وثلاثين نصا قصصيا، سبعة عشر نصا منها ينتمي إلى أدب الرسائل.

واستسمح القاريء الكريم إن أستهلّ هذه القراءة المتواضعة - بتناول عنوان المجموعة (إيلا) بشيء من الإطالة، لما له من دلالات، وجب الوقوف عندها. إنّ العنوان الأدبي هو عتبة النص السردي أو الشعري.، وقد يأخذ من الكاتب أو الشاعر وقتا ليس وجيزا لاختياره والرسو عليه. فهو الأصعب على الإطلاق، لأنّه بمثابة منارة البحر التي تهتدي على ضوئها السفن والقوارب. وكل من زعم أنّ العنوان الأدبي هيّن المبنى والمعنى فقد جهل مغزاه الحقيقي.

نحن أمام مجموعة قصصيّة، وسمتها صاحبها، القاصة العراقيّة، تماضر كريم بعنوان مثير للدهشة، لما يحمله من معان عميقة ويوحيه من رموز لغويّة وأسطوريّة وثقافيّة وروحيّة قديمة.

إيلا، وتعني بالعبريّة شجرة البلوط، التي ترمز إلى القوة والصلابة والمتانة ضد كل الصعوبات كلها من حولها وطول العمر والديمومة والارتفاع في العالمين الروحي والمادي.. هي شجرة جذورها عميقة جدا في الارض بحث يصعب بل لا يمكن كسرها واجتثاثها بسهولة. التي كان بعض الناس يعبدونها في الماضي. وهي الشجرة المقدسة في بعض ثقافات العالم. لقد لعبت دورا مهما في الاساطير كرمز للقوة الاساسية. كان زوجا لا ينفصل مع إله الرعد في الثقافة السلتية ***. وفي تم تنفيذ طقوس وثنية ومسيحية مختلفة، كالصلاة لها أو للآلهة التي تمثلها، من أجل القوة والمتانة. وقد اجريت بعد المحاكمات تحت اشجار البلوط القوية. وتستعمل في بعض الطقوس الدينية والروحية كملاذ روحيّ. لأنها شجرة محبوبة.

إن القيمة الرمزية لشجرة البلوط مدهشة، عندما وظّفها بعض الناس في صلاتهم للحديث مع أعلى القوى في هذا الكون.

و من الاعتقادات السائدة، أنه يمكن للناس الاختباء تحت شجرة البلوط لأنها تمنحهم الحماية اللازمة التي يريدونها في الحياة.

و بعد، تقول بطلة الرسائل " وتلك الأصابع التي عندما ألمسها أشعر أنّ العالم لا زال جميلا، رغم أنّنا محاطون بكل هذا الخراب " ص 189.

أجل، لا شيء يستطيع ترميم هذا الخراب سوى الحب والجمال. إنّه خراب أصاب النفوس في مقتل. فـ " الجمال يذبل قليلا لكنّه لا يموت " ص 175. ولن يتعافى هذا العالم من علله وأزماته وخرابه، ما لم يسد الحب والجمال بين البشر. بغض النظر عن كلّ الاختلافات والتباينات البيولوجيّة والإثنيّة والثقافيّة والدينيّة.

قصص " إيلا " اجتماعيّة بحتة، رصدت القاصة العراقيّة تماضر كريم في مضامينها، يوميات المجتمع العراقي، الذي لا تختلف يومياته عن المجتمعات العربيّة، في المشرق والمغرب العربيين، بعيدا عن ألغام السياسة ومطبّات الإيديولوجيّا. عوالمها الإنسانيّة لا يقيّدها عنصر الزمكان.

لقد اعتمدت القاصة على مجموعة من (التيمات) اليوميّة، العاديّة، الملتقطة من صلب الواقع المعيش. فبين الحب العذري والشقاء اليومي والهمّ الذي يلاحق المرأة العاملة، والتي تترك أبناءها وحيدين في المنزل، كما تركت فريدة حسن ابنتها ذات التسع سنوات وحيدة في البيت " وأخبرتها أنّها ستتسوق وتقوم بتسديد بعض الفواتير، ثم تعود، وأوصتها أن تعتني بنفسها جيّدا " ص 25.

تقف قصص القاصة تماضر كريم، لتدين سلوكيّات الكذب والنفاق والإهمال والخداع. وأغلب ضحاياه، هي المرأة، وخاصة الزوجة، فهي العنصر الخدوم في البيت، وهي التي تدفع الثمن مرارا وتكرارا. وتتعرّض للعنف المعنوي والمادي، لأنها في نظر زوجها كما زعم اليهود " جسد لا أقل ولا أكثر. هي ملاذ للمتعة وقضاء الشهوانية الحيوانية المفرطة "

" بالأمس نسيت نشر الملابس، واكتشف هو وجودها في الغسّالة، فهبطت يده على وجهي بعنف، وتركت زرقة قرب عيني، زرقة أحرجتني أمام الأولاد، وأمام جارتنا التي حضرت لتستدين مني بعض المال " ص 57. " سيطرق الباب عند الواحدة تماما، مع ستة من أصحابه " ص 57. " هكذا عندما يأتون، لن يكون هناك سوى تقديم الطعام، ومثل كل مرّة سيكون هو وأصحابه راضين وسعداء " ص 58. " سأكون مستعدّة مثل جنديّ على أهبة الاستعداد لحتفه " ص 60.

أهمّ ما شغل القاصة تماضر كريم في قصص مجموعتها (إيلا)، الهمّ الاجتماعي، وما يلاحق المرأة الشرقيّة من خسارات مقابل الرجل الشرقي، وانكسارات نفسيّة التي تعكسها علاقاتها بزوجها. هذا الزوج الذي تلاحقه، أحيانا، كالسراب. هذا الزوج الأنانيّ، الباحث عن سعادته الذاتيّة، بأيّ ثمن. ففي قصة (البداية من البحر)، يصدم الزوج زوجته بكل برودة دم، كأنّه يخاطب صنما لا زوجة من لحم ودم ومشاعر. أخبرها، دون أن يتلعثم، ودون خجل، أو تردّد، أنّه " في آخر رحلة له إلى دمشق، تزوّج من امرأة سوريّة، منذ حوالي سنة، وإنّها على وشك وضع طفلهما الأول " ص 11.

و لم يكتف الزوج الواثق من نفسه بذلك الخبر، بل زاد وأخبرها بـ " أنّه ينوي السفر معها إلى أوروبا " ص 11. والأدهى من ذلك قوله لها همسا: " ستصلك ورقة الطلاق قريبا..لكي تعيشي حياتك. " ص 12.

هكذا يمارس الرجل الشرقي هواية الزواج والطلاق، وكأنّها لعبة ذكوريّة متوارثة، وراسخة في جدار التراث، وفي ذاكرة العادات والتقاليد الباليّة.

استهلّت الكاتبة مجموعتها القصصيّة (إيلا)، بقصة (عودة)، وهي قصة.

" لا يمكن أبدا أن نحصل على كلّ شيء، نحن شركاء في هذه السعادة وهذا الجحيم " ص 16. (البداية من البحر).

" خطر لي أن مهما بنينا، فإن كل شيء سيهوي في النهاية، تماما مثل بيوت الرمال " ص 16.

في قصة فيتر تقع تلك الطالبة الجميلة، المثقفة جدا، ذات الشعر الأصفر والعينين الزرقاوين، والتي تدرس في قسم اللغة الفرنسيّة، تقع في حبّ شاب ميكانيكي. معتقدة أنّه شاعر وصحفيّ ويدير جريدة. " هي تظنّ أنّي صحفيّ وشاعر وأدير جريدة " ص 20.

" الأسوء من السواد تحت الأظافر والجلد هو أن تكتشف كل هذا الكذب " ص 22.

وعندما اكتشفت حقيقته، لم ترد فضحه بلسانها، تجنبا للفضيحة، بل لقد اكتشفت كذبه بأسلوب ينم عن ذكائها وفطنتها، وسموّ أخلاقها، وأصالة ثقافتها. ".. بعد أن أحكمت لفّ يدي، ضغطت عليها بطريقة ما. كأنّها أرادت أن تقول شيئا.. لا أعرف ما هو. لكنّه بدا شيئا جميلا. " ص 23.

إنّ الحب لا يعترف بالفوارق الاجتماعيّة والتفاوت الثقافي، ما لم يكتنفه الكذب والخداع والمشاعر الفوقيّة أو الدونيّة. فشخصيّة فيتر تبدو مهزوزة، غير واثقة من نفسها، مريضة نفسيّا، بسبب محدوديّة العلم والثقافة. عكس شخصيّة حبيبته الطالبة، فهي قويّة ورزينة وحكيمة، لأنّها متعلّمة ومثقفة وواعيّة. وهي مرآة تعكس مجتمعا متحرّرا من العادات والتقاليد القبلية والعشائريّة. مجتمعا يمقت الطبقيّة القائمة على المظاهر الماديّة - كما هو الحال في البيئات البورجوازيّة والرأسماليّة - وعلى التميّز الثقافي، كما هو الأمر عند النبلاء والأوليغارشية الثقافيّة.

في قصة إيلا التي وسمت بها القاصة تماضر كريم مجموعتها القصصيّة، مشهدان يجسّدان حالة العالم العربي: مشهد إيلا، وهي امرأة يهوديّة، أستاذة جامعيّة في مادة التاريخ، جاء بها الحنين والذاكرة إلى بغداد بحثا عن منزل أبيها الذي كان معلّما بإحدى المدارس الإعداديّة. صادف صاحب التكتك " تلك السيّدة ذات الشعر البنيّ المقصوص على طريقة الرجال " ص 63، والتي أعطته مبلغا مرتفعا، ليساعدها على إيجاد المنزل. كانت مستعدّة لبذل المزيد من المال من أجل تحقيق أمنيتها وغرضها المنشودين. إنّها رمز للعقليّة اليهوديّة، وللفلسفة التوراتيّة في الكيان الإسرائيلي الغاصب. فهو كيان مبنيّ على الأوهام التاريخيّة والأساطير التلموديّة والأكاذيب الإيديولوجيّة، طمعا في تأسيس دولة يهوديّة، تمتدّ من النيل إلى الفرات. إنّ التاريخ القديم، المزيّف عند دعاة الدولة اليهوديّة هو حجتهم الوحيدة الباقيّة في جعبتهم لتغليط العالم، بأنّ فلسطين وما جاورها ملك لهم. وهكذا يسعون إلى تدريس ذلك التاريخ المزوّر المتخم بالأكاذيب، كما زيّفوا التوراة، وهو سلوك ورثوه أبا عن جد، ليس غريبا عليهم. عندما وجدت إيلا منزل والدها مغلقا، حاولت فتحه " تركها تتأمّل المنزل، واندهش من محاولتها فتح الباب المقفل " ص 75. لكن صاحب التكتك ترجّاها ألاّ تحاول فتحه " أرجوك لا تحاولي الآن " ص 75.

أرادت القاصة العراقيّة تماضر كريم من خلال الحوار الذي جرى بين صاحب التكتك وإيلا اليهوديّة أن تعرّي مأساة الجيل الجديد في العراق والعالم العربي على حدّ سواء، إنّه جيل لا يهتم بالتاريخ، بل في إحدى البلاد العربيّة خرج طلبة المدارس في ثمانينيات القرن المنصرم إلى الشوارع مردّدين (التاريخ في المزبلة)، رافضين دراسته والامتحان فيه.

وتسأل تلك اليهوديّة صاحب التكتك عن اسمه، فيخبرها بأنّ اسمه عمّار، ثم تخبره أنّ اسمها إيلا، ويعني (شجرة البلوط)، تسترسل في الحوار التالي، وتسأل صاحب التكتك:

- " هل تقرأ ؟ " ص 70

- " لا... كان آخر كتاب قرأته هو في المعهد كي أنجح " ص 70

- " أنت غير مطّلع على تاريخ العراق إذن ؟ " ص 70

- " ليس كثيرا.. في معهد الإدارة لا يعبأون بالتاريخ " ص 70

ثم ليتأمّل معي أخي القاريء هذا الحوار الذي دار بين عمّار العراقي وإيلا اليهوديّة.

- " وأنت، ما هي دراستك ؟ " ص 71

- " درست التاريخ، وأنا الآن أدرّسه في الجامعة. " ص 71

- " أشكّ كثيرا أنّنا سنفهم حاضرنا من دون فهم الماضي " ص 72

- " ما معنى أن ندرس تلك الأشياء التي حصلت في الماضي ؟ " ص 71

إنّه حوار يجسّد عمق المأساة التي تعيشها الطبقة المتعلّمة والمثقّفة في البلاد العربيّة. فبينا ينبش الباحثون والمؤرخون اليهود بأظافرهم ونواجذهم في عوالم الأساطير والخرافات عن تاريخ مزيّف لبناء دولتهم المزعومة وكيانهم الوهمي، نجد يالمقابل، طائفة من المتعلّمين والمثقفين العرب والمسلمين يدعون إلى إلقاء التاريخ في غياهب النسيان وإهمال التراث ـ تحت عذر المعاصرة والتجديد والعولمة.

أمّا المشهد الثاني، فتجسّده مناظر كلّ من " الصبية الذين يعبثون بالتراب " ص 64. و" المرأة التي تنبش في المزابل " ص 64. و" الخضّار الذي يدور بعربته في الشوارع " ص 64. وهو يمثّل خلاصة سياسة الاستبداد والقمع والحرمان، التي تمارسها السلطة السياسيّة المكبّلة بسلاسل بارونات المال الفاسد المتدفّق من أنابيب الرشوة والمتاجرة بالمخدّرات واختلاس أموال النفط والغاز ونهبها وتبييضها.

ولقد أبدعت القاصة تماضر كريم ووفقت في ختام قصتها، بقولها: " حتى الأضواء تنكسر على الشارع، وتلاقي مصيرها هناك على الأسفلت. " ص 76، ثم تقول: " وصعد التكتك شاقا طريقه بين السيارات، وفي الطرقات المختصرة، وهو يراقب تكسّر الأضواء " ص 77.

لقد كانت خاتمة القصة انكسارا لحلم إيلا اليهوديّة، ونهاية لحلمها التلمودي الطامع. وانفتاح كوّة يقظة ووعي لدى عمّار. ذاك المواطن العربي، العراقي الواقع بين سندان الاستبداد ومطرقة الحياة، بين همومه اليوميّة لانتزاع رغيف الخبز الحافي، ولو من يد يهوديّة تفتّش عن زمان ماض، وذكريات أبيها وقومها.

في قصة "غرق" تتجلّى لنا مأساة أخرى من جملة المآسي الإنسانيّة، التي أفرزتها المدنيّة المعاصرة. ظاهرة التبرّع بالأعضاء الجسديّة. هي فكرة تبدو للمرء جيّدة، مادامت ستهب للمرضى الآخرين جرعة من الأمل، ومزيدا من الحياة. أجازها الطبّ الشرعي، واختلف حولها رجال الدين، لقطع الطريق أمام سماسرة وتجار ولصوص الأعضاء البشريّة. تقول البطلة، معبّرة عن رفضها للفكرة: " لم تكن تلك فكرة جيّدة، أن أتبرّع بأعضائي الداخليّة بعد موتي، كنت أريد لجسدي أن يُدفن كاملا. لا أدري كيف تمكّن من إقناعي ؟ " ص 99. لكن زوجها يبدو هادئا، مطمئنّا، وكأنّ الأمر لا يهمّه. بعدما وقّع رفقة زوجته على تلك الورقة. " فقد فعل ذلك وهو مبتسم وراض تماما " ص 99. " إنّه منسجم بشكل غريب مع كلّ شيء، مع هذا الهدوء العميق في منزلنا الخالي من الأطفال، مع النوم واليقظة والليل والصباح، مع قرارنا التوقيع على منح أعضائنا. مع الحزن وساعات الملل والصمت وإسقاط جنيننا الوحيد. إنّه ببساطة لا يقلق حول أيّ شيء. " ص 99 / 100. ولم تستسلم بطلة القصة، كديدن المرأة العراقيّة والعربيّة الحرّة، التي لا تفرّط في جسدها حيّا أو ميّتا. كانت على يقين أن منح أعضائها الداخليّة لامرأة غريبة، أو حتى ولو كانت من ذوي القربى، قرار فظيع. شبيه بمن فرّط في جزء من وطنه، ولو كان مقدار شبر من التراب. لقد حسمت أمرها، وقررت أن تمنح نفسها وجنينها لماء النهر الساكن، أيّ للحياة، مادام الماء رمزا للحياة والخلود والديمومة. "... لكنّهم لا يعرفون أنّي حسمت أمري، هم لن يأخذوا جسدي... كنت ببساطة قد قررت إغراق جسدي. " ص 103. " بدا ماء النهر ساكنا وساهما، للحظة بدا لي أنّه يدعوني، أنا وطفلي، معا، ها أنا أشعر به يركل بطني بنعومة، أنا خائفة قليلا نعم، لكنّي كلّما فكرت أنّنا لن نفترق. يهدأ قلبي، يهدأ كثيرا. " ص 103. هكذا تمرّدت بطلة القصة على واقع مرّ وأليم، بطله زوجها الذي أقنعها بما أقدمت عليه، حين تبرّعت بكل شيء، ولم تذر لنفسها سوى اللحم والعظم. " كان التبرّع بكل شيء كرما مبالغا فيه. اللحم والعظام هو ما تبقى فحسب " ص 100. إنّها قصة دلالتها الرمزيّة قويّة. هذا المواطن العربي ؛ المشرقيّ والمغاربيّ على السواء الغارق في المشقّة، يمارس السخاء بلا حدود، والجود الذي يفقر، والإقدام القتّال، طمعا في بلوغ السيادة. ورحم الله أبا الطيب المتنبي، الذي أشار إلى ذلك قائلا: لولا المشقة ساد الناس كلّهم.. الجود يُفقر والإقدام قتّال. لقد أضاع أشباه الرجال بعض الأوطان في جلسات خمر وقمار ورقص وغناء.

و تتناسل هموم المواطن العراقي المسحوق، ومن عادة الهموم أنّها لا ترحم عندما يستسلم لها المرء. في رسائل تلك المرأة العاشقة، المحبّة للحياة، في عزلتها في المشفى، التي استمرّت 17 يوما، بسبب وباء الكوفيد 19، أو ما أطلق عليه " وباء الكورونا "، الذي شلّ حياة الناس اليوميّة، وأرعب البشريّة، وأزهق مئات الآلاف من الأرواح. حتى اعتقد البعض أنّ نهاية العالم قد حلّت.

" يا إلهي. أين شجاعتك الآن ؟ ها أنا أواجه كلّ شيء وحدي.. الصداع والاختناق والغثيان والانطفاء. أواجه العتمة، والفراغ والذكريات والكوابيس. أواجه الرحيل بكل هذا الضعف " ص 187.

تكتشف عالم المعذّبين في الأرض. نساء أخريات مقهورات، قهرهنّ المرض والحرب والإرهاب والرعونة الذكوريّة والتقاليد والعادات البالية، فانفصلن عن مجتمعهنّ وأهالهنّ وعشائرهنّ مرغمات ومكرهات. " نحن محجورون رغما عنّا مع أدوارنا، حتى قبل أن نصبح بين هذه الجدران، هذه المرأة الباكية قد تكون أكثر حريّة ممن يعيشون في الخارج " ص 156. أجل، إنّ الحريّة عند بطلات قصص تماضر كريم، لها مفهوما فلسفيا، لا علاقة له بالمكان. ووجودهنّ في الحجر الصحي بين جدران المشفى، عند البعض أرحم من الخارج. فالحياة شعور فطريّ وإحساس عميق وسلوك يوميّ، حين تكون الروح تحلّق في رحاب الحريّة، مثل تلك الفتاة الأيزيديّة من سنجار، الهاربة من واقعها المرّ، اللاجئة عند خالها في بغداد، طلبا للحياة الآمنة. " إنّها فتاة أيزيديّة من سنجار. تعيش في بغداد من خالها. لا تريد العودة إلى هناك. تقول إنّ الذكريات هناك تدق في الروح كالمسامير. إنه تشبيه قاس، أليس كذلك " ص 145.

و بين الأمل والألم تحاول نساء تماضر كريم أن تحيا، وتستمرّ أحلامها المستقبليّة، والتطهّر من رجس المشاعر السوداويّة. أملا في أن تتمكّن أشعار أراغون وموباسان وفولتير من رتق جراحات الواقع المرّ. " كانت دراسة الشعر الفرنسي تثير أضعاف الشغف الذي تثيره المشارط والحقن والمعقّمات والبدلات البيض " ص 143. وهذا يعني أن أيّ مجتمع إنساني يتخلّى عن نظريّة (الوقاية خير من العلاج)، مجتمع مهدّد بأخطار الفناء. وما الحرب إلاّ نتيجة مباشرة لغياب الحب. أكانت حربا أهليّة، أو قبليّة، أو عشائريّة، أم كانت حربا إقليميّة أو عالميّة. إنّ الحياة هبة مقدّسة من الله، لا أحد له حقّ التصرّف فيها. وما ارتكبته به الجماعات الثيوقراطيّة والإرهابيّة والعنصريّة في بلاد الشام وشمال العراق وفي اليمن، اعتداء صارخ على حقّ مقدّس وهبه الله لابن آدم في الأرض.

نساء صدمهنّ الواقع المعيش. الفتاة الأيزيدية، الكرديّة، من سندار، التي تكابد آلام المرض من جهة، وآلام الذكريات القاسيّة الرابضة على قلبها كراحلة تمطت فوقها بكلكلها وعجزها. " إنها لا تستطيع أن تنسى "ص 146. " والدة الأيزيدية المنتحرة في بئر، قتلتها رعونة المجتمع الذكوري، ومسنّة تخلّى عنها أهلها وأحفادها، فقدت لذّة الحياة، " كأنّ شيئا ما تحطّم فيها " ص 147. وأخرى واقعة تحت وطأة الأحلام، بعدما انتُزعت منها حريّتها." فهي تحكي أثناء نومها، تفرط في أحلامها. " ص 147.

جاءت تلك الرسائل مفعمة بالحب والأمل، ولم تخل من الألم واليأس في ظلّ الحجر المفروض، بسبب وباء الكوفيد 19. لم تجد البطلة الحبيبة من مخرج لمجابهة هذا الواقع المستجدّ والقاسي، سوى الكتابة. رفيقاها القلم والورقة. ومن أجل التشبث بحبل الحياة، ومجابهة قسوة الحياة، ومرارة الوجود. " نعم هذا الوجود أشبه بحجر كبير. نحن أسرى هذه الرحلة القصيرة الداميّة " ص 156. طفقت تكتب الرسالة تلو الرسالة، متحديّة الحجر الصحي " اليوم لم أجد قلمي. هل هو الآخر سأم (سئم) من الحجر ؟ " ص 159.

لقد اكتشفت أنّ الحياة بسيطة وسهلة وسلسة، لكنّ الإنسان عقّدها بسلوكياته المتناقضة. " نحن نحتاج إلى البساطة، فلماذا تتعقّد الأمور على هذا الشكل " ص 156. لقد وهبنا الله كوكبا رائعا، لا مثيل له بين كواكب الكون. كوكبا للحياة في كنف الطبيعة المتوّجة بالجمال والحب والعشق والنور والسحر والماء والغذاء والأوكسجين والظلّ والحرور وعلّم جرا... لكنّ عبقريّة الغباء والرعونة والتألّه عند الإنسان، لوثت الأرض بأمراض الكراهيّة والعنصرية والحروب الداميّة. لقد حوّل العالم إلى غابة مجهولة الدروب والغايات. " انبثق أمامي وجه أبي. كان يحوطني بشكل غريب، كأنّه يحميني، ثم تلاحقت الوجوه، رأيت عددا من الذئاب أيضا، كانت تطير بشكل ما وتنهش الغيوم. كان مشهدا قاسيا. هطلت دماء كثيرة من السماء. لقد ارتعبت من مشهد نزف السماء. وركضت عن سقف لكي لا تلوّثني الدماء لكنّي لم أجد سوى فراغ شاسع " ص 167 / ص 168.

ما حلّ بالمرأة عبر التاريخ، يعجز اللسان عن وصفه. لم ينصفها سوى الإسلام – وهذه حقيقة بيّنة -، ولم ترفع من شأنها سوى الحضارة الإسلاميّة. أما الحضارات الشرقيّة والغربيّة، فقد أنزلتها منازل في الدرك الأسفل من الحياة. كما لم ينصفها بعض الفلاسفة القدماء والسياسيين والأدباء، ونالوا من إنسانيتها. وقد انعقد بفرنسا عام 673 م مؤتمر أوروبي حول تحديد الطبيعة القانونية للمرأة: هل هي إنسان أم حيوان ؟ فإذا كانت إنسانا، فهل تستفيد من جميع الحقوق أم لا ؟ وإذا كانت حيوانا فلا تستفيد من الحقوق. وبعد نقاشات حثيثة توصّلوا بالإجماع أن المرأة إنسان، ولكنّها لا تستفيد من الحقوق. كما اعتبرت الحضارة الاغريقية المرأة شجرة مسمومة، ورجس من عمل الشيطان، تباع كأي سلعة متاع. أمّا الفيلسوف الإغريقي، سقراط، فقد اعتبر (أن وجود المراة هو اكبر منشا ومصدر للازمة والانهيار في العالم. إن المرأة تشبه شجرة مسمومة، حيث يكون ظاهرها جميلا، ولكن عندما تأكل منها العصافير تموت حالا).

أمّا في الغرب الليبيرالي، الديمقراطي، المتشدّق بحقوق الإنسان، وحقوق المرأة،. فقد كتبت مجلة التايم الامريكية، أنّ حوالي ستة ملايين زوجة في امريكا يتعرضن للضرب والعنف الاسري ومن الفين لاربعة الاف يتعرضن للضرب حتى الموت. وفي دراسة لـ(مكتب التحقيقات الفيدرالي الامريكي 1979 م)، أنّ 40 في المائة من جوادث قتل النساء بسبب مشاكل أسرية و25 في المائة بسبب الانتحار. وفي دراسة أعدها د. جون بيرير استاذ مساعد لعلم النفس بين طلبته في جامعة كارولينا.)، أنّ 79 في المائة من المتعلمين يقومون بضرب زوجاتهم. وفي دراسة اعدها المكتب الامريكي. (و معد هذه الدراسة إفان ستارك، والتي فحصت 1360 سجلا للنساء، حيث قال: (إن ضرب النساء في أمريكا هو أكثر الأسباب شيوعا للجروح التي تصاب بها المراة). إن الأمثلة كثيرة، وإنّ الصورة المرسومة في الغرب محض خيال وأكاذيب. لكن يبدو أن المسلمين قد أصابهم العمى، مما حال دون وصول تلك الصورة إلى الناس كافة. إن الغرب ضائع في غياهب العنف والفراغ النفسي. أما الاسلام فقد أعطى للمرأة مكانة عالية وأعطاها حريتها كلّها، لكنّ بعض المسلمين أساءوا فهم النصوص وشوهوا تطبيقها واستغلالها. وحرموا المرأة من حقوقها الفطريّة.

إنّ ما لحق المرأة الشرقيّة من مصائب على يد الذكر، ليست من بنات الحاضر، بل هي جزء من الموروث الثقافي التراثي. عمرها أجيال وأجيال. ليس من السهل التعافي منها، بعدما امتدّت جذورها في تربة الروح، وانتشرت في المجتمع كمرض عضال لا يُرجى له برء وشيك. " أعرف بماذا تفكّر، تفكّر بأنّي الوحيدة التي لا تتحسّن. ليس ذنبي، تلك المشاكل التي ورثتها عن أجدادي " ص 148.

وفّقت القاصة تماضر كريم في رسم واقع المرأة في المجتمع الشرقي الذكوري. فجاءت صورتها متأرجحة بين نظريتي الواقعيّة الانتقادية والفلسفة المثاليّة. جاء على لسان البطلة في إحدى رسائلها لحبيبها قولها:

" أنا من ذلك النوع الذي لا يحب خوض المعارك من أجل الحصول على المكاسب. أنا أتنازل عنها.. أتركها لمن يحب. " ص 171. غير أنّها، بعد الذي تجرّعته من المرارة، اقتنعت أن ّ الحياة المثاليّة في خضم واقع موبوء، ضرب من الخيال والوهم. " الجمال يذبل قليلا لكنّه لا يموت، تلك كلماتك لي. تأكدت اليوم أنّ الجمال يذوي ويضمحّل ثم يموت تماما كأيّ شيء آخر " ص 175.

لقد تحوّلت نعمة الجمال إلى نقمة. " الجميلات يجذبن كثيرا من الأشياء السيّئة. ألم تفكّر في هذا من قبل ؟ " ص 175.

أجل الجميلات لا حظ لهنّ في الزواج، يشغلهنّ الحب عن الزواج، ويغرّهنّ الثناء، أكثرهنّ تلتهمهنّ العنوسة. ويضحك لهنّ الدهر، ويخدعهنّ الجمال. والبلاد الجميلة أكثر عرضة للطمع والغزو. جمالها يحرّك أطماع الأعداء فيها. أكثر البلاد جمالا، أكثرها وقوعا ضحيّة للغزو. لولا جمال العراق، ما غزاها المغول والتتار والانجليز والأمريكان. لولا جمال الشام ما غزها الأتراك والفرنسيين، ولولا سحر وفلسطين ما تكالب عليها الصهاينة وأعوانهم في الشرق والغرب. أجل، الجمال يجلب كثيرا من الأشياء السيّئة..

لقد اكتشفت البطلة المريضة في مشفى الحجر الصحي، أنّ نهايتها أقرب من حبل الوريد. ستموت، وتدع عالم الدنيا، والناس فيه كيأجوج ومأجوج. ستترك وراءها حبيبا خذلها في وقت كان يجب عليه أن يضحيّ من أجلها. لكن هذا حال المرأة الشرقيّة في أعبن الذكورة الشرقيّة ؛ متاع إلى حين. بل حديقة يانعة، مثمرة يلتهم الرجل منها ما طاب ولذّ، فإذا أصابها قحط وذهب ينوعها، هجرها وأنكر فضلها. " انحنى هامسا ويده تربت على يدي. (أرأيتِ لم يأتِ) " ص 177.

" كنت أريد مشاهدة الشمس وهي تتلاشى في البعيد بلا مبالاة " ص 180.

أجل، لقد تلاشى حبها، حين خذلها حبيبها، واستغنى عنها. إنّه منطق الذكورة الشرقيّة، المحكوم بالعادات والتقاليد ومبدأي القوامة والعصمة.

" لا بد من انتهاء كل شيء جميل. الأشياء الجميلة تبدأ لتنتهي، أليس من الأجدى أنّها لم تبدأ أصلا " ص 181/ ص 182.

خاتمة: قصص القاصة العراقيّة تماضر كريم، أنموذج للقصص الاجتماعي، الذي يعرّي عورات الواقع المعيش، في المجتمع الشرقي. ومن حقّ الناقد والقاريء أن يتساءلا: أما آن لهذا الشرق أن يغيّر نظرته إلى المرأة الشرقيّة ؟ ومتى يكفّ هذا الذكر الشرقي عن حديثه حول المرأة الشرقيّة ؟ وكأنّ الكلام غير المباح لا يحلو له دون الحديث عن المرأة الشرقيّة. لقد اعطتنا شهرزاد درسا في الذكاء والفطنة والعبقريّة، وحوّلت شهريار من سيّاف يقطع رقاب النساء إلى مستمع شغوف إلى حكايات شهرزاد ألف ليلة وليلة. كم كانت القاصة تماضر كريم مبدعة، وهي تكتب على لسان بطلة رسائلها هاتين العبارتين، التي تلخّص متن مجموعتها القصصيّة: " وتلك الأصابع التي عندما ألمسها أشعر أنّ العالم لا زال جميلا، رغم أنّنا محاطون بكل هذا الخراب. " ص 189. وفي في تساؤل ذلك الطبيب الحاذق، الذي يعرف كيف " يداوي الجراح العميقة، ويستأصل ما يؤذي الروح " ص 179. ذلك الطبيب الأثمن من كل من حولها، والذي أشعرها بالأمان والطمأنينة في غمرة المرض والمأساة: " أتساءل هل أنت تستطيع تحمل العالم من دونها ؟ هل تتعايش مع فكرة رحيلها ومع حقيقة أنّك خذلتها ؟ تبا لك. " ص 190. ذلك الطبيب الذي استطاع أن يروي ظمأ الشوق لديها بدلا من حبيبها الذي تخلّى عنها في لحظات العسر، كانت فيها في حاجة أشدّ إلى الوقوف بجانبها، ومواساة قلبها العليل. " عندما كنت على وشك أن أغفو اشتقت إليه. هل تدري ؟ إنّها المرة الأولى التي أشتاق فيها لشخص غيرك " ص 182. وبالمقابل، بدت على ملامح الطبيب آيات الحبّ والحسرة، لمعرفته المتأخرة بها، وتعلّقه بها بعد فوات الأوان. وقد عبّر عن ذلك في قوله:

" ألوم نفسي كثيرا لأنّي لم أعرفها قبلك، لكنت جنّبتها ألم خذلانك. لكني أتيت متأخرا. يا لبؤس الأشياء بعد أوانها " ص 191.

وما يلفت نظر القاريء، أسلوب القاصة الذي امتاز بالبساطة والسلاسة، خاصة في رسائلها على لسان بطلتها التي عانت من مرض الكوفيد 19 وما نجم عنه من حجر ودخول إلى المشفى، وموقف حبيبها منها. كانت لغة القاصة تماضر كريم نابضة بالحزن والأسى من جهة، ومفعمة بالحب والأمل. لغة منتزعة من واقع لا يرحم الضعفاء، ولا يعترف بكينونة الأنوثة، كما أقرتها الفطرة والشرائع السماويّة. لغة مسرّبة من رحم القلب لا من طرف اللسان. امتلكت القاصة تماضر كريم ناصيّة اللغة (و هي خريجة معهدها) إلى جانب الملكة الفنيّة لعمليّة القص، ونظرة واعيّة إلى واقعها المعيش. فكانت قصصها معبّرة بصدق عن طبقة المعذّبين في المجتمع الشرقي، من ضحايا الجهل والتخلّف والاستبداد. وأعود، وأؤكّد، إنّ ما جاء على لسان بطلة الرسائل " وتلك الأصابع التي عندما ألمسها أشعر أنّ العالم لا زال جميلا، رغم أنّنا محاطون بكل هذا الخراب. " ص 189. كشف لنا عن عبقريّة الكاتب، حين يكتب بصدق ونفاذ بصيرة. إنّ الفنّ الأصيل كفيل بإصلاح ما خرّبته الكراهيّة ودمّرته الحروب الصغرى والكبرى.

***

بقلم: الناقد والروائي علي فضيل العربي – الجزائر

..............................

هامش:

* تماضر كريم:  قاصة وشاعرة وكاتبة عراقية معاصرة. من مدينة بغداد، عاصمة العلم والأدب والثقافة. حاصلة على بكالوريوس آداب لغة عربيّة. كتبت الشعر والقصة والمقال في وقت مبكر من حياتها. ونشرت في صحف عراقية وعربيّة، كصحيفة المدائن العربية الصادرة بألمانيا، وصحيفة المثقف الصادرة بأستراليا، وصحيفة أوروك الصادرة عن وزارة الثقافة العراقيّة. من أعمالها المنشورة: ديوان شعريّ بعنوان: (مهاجرون إلى برلين) الصادرة عن دار الدراويش ببلغاريا. مجموعة قصصيّة (هذا ما حدث في مطار بغداد) عام 2022 م. ومجموعة قصصية بعنوان (إيلا). شاركت في برنامج سحر البيان من على شاشة العراقية 2007 م. فازت في مسابقة شبعاد للقصة القصيرة التابعة لمؤسسة الزمان على مستوى القطر بقصة (موت إيليا)، كما جائزة أفضل قصة في مسابقة جامعيّة على مستوى القطر. لها عدة مشاريع روائيّة غير مطبوعة، تنتظر النشر.

** إيلا: هو اسم من أصل إيرلندي، ومعناه في العربيّة، شعاع القمر الذي يكسر العتمة ويجعلها طريق ممهّد لكل شخص يسير فيها. كما يعني المرأة المثقفة ذات العقل المستنير والمعرفة القويّة. وهو من الأسماء المنتشرة في اليهودية. فكثير من البنات يحملن هذا الاسم. ومعناها في اللغة العبرية مخالف تماما عن معناه في اللغة العربية. فتجد أن معناه هنا، شجرة البلوط أو الغوال الصغير، لذلك ينتشر الاسم لما له من معنى رائع لهذا النوع من البشر. كما أنّ أمهات اليهود دائما ما تريد البحث عن أسماء قوية ومعبّرة عن مدى جمال البنت وصفاتها المؤنثة.

*** السلتية: يصفها أرنولد بأنّها مصطلح وصفي أو أداة كاشفة في اللغة الأكاديمية. وهم السلتيون مجموعة من القبائل، كانت منتشرة انتشارا واسعا، وتتضح ثقافتهم في المدافن والتحف الأثرية واللغة. اعتنقها موسيقيون وفنانون وكتاب مثل وليام بتلر. حاليا يستدعي الاسم التفكير في الفن التقليدي والأدب والموسيقى من إيرلندا وأستكلندا. وتعود أصول السلتيين إلى وسط أوروبا. ويتميّز السلتيون بأنّهم: أكبر مجموعة في أوربا القديمة، محاربون برابرة، يتخذون التلال مدافن لهم، أول من ارتدوا السراويل، قوانينهم شفهيّة، تنتسب لهم الملكة اللأسطورية " بوديكا " التي هزمت الرومان عام 61 م (نقلا عن موقع أنا أصدق العلم).

تعد رواية السيرة الذاتية من أحدث الأجناس الأدبية في تاريخ الكتابة الابداعية، كما هي فن مستقل من الكتابة السردية التي تختلف عن الرواية التقليدية في ان الروائي فيها يقوم بسرد احداث حقيقية وقعت له في حياته ومن خلالها تسليط الضوء على الواقع الاجتماعي الذي عاش فيه، وقد خاض الكتابة في هذا الحقل الابداعي عدد غير قليل من الكتاب العرب والأجانب وكذلك العراقيون ومن بينهم الروائي العراقي "سلام ابراهيم" الذي تدله بهذا النوع من الكتابة ولم يغادر محيط تجربته الشخصية منذ اول اصداراته وكانت مجموعة قصصية هي (رؤيا اليقين) الصادرة عام 1994  حيث هذه المجموعة وما أعقبها من اصدارات روائية وقصصية له والتي بلغت ثلاثة عشر كتابا جاءت كلها تدور في فلك سيرته الذاتية ويبدو التشبث بهذا النهج يعود الى اعتزاز المؤلف سلام ابراهيم بسيرته الضاجة بالمغامرات السياسية والغرامية والمعاناة العائلية وهناك ما يشفع له الاستمرار بهذا النوع من الكتابة فما مر به هذا الانسان المتشبث بالجمال والمشغول بالبحث عن الحقيقة ليس أمرا أو حدثا عاديا انما كان نتاج كفاح انساني شاق حفر أثاره في ذاكرة وحياة المؤلف وحياة عائلته، فقد انخرط في العمل السياسي مبكرا وجراء ذلك ذاق مرارة وقسوة التعذيب في أقبية الأمن، ثم عاش خيبات غرامية متعددة، وعندما شب مثقفا واعيا واجه الحرب وهرب من أهوالها صوب الكفاح المسلح ضد الدكتاتورية وكان كالمستجير من الرمضاء بالنار فقد خرج من تجربة الكفاح المسلح معطوب الرئتين نتيجة القصف الكيمياوي الذي تعرض له في معارك الجبال، وخلال هذه المسيرة الطويلة نجا من ميتات متعددة (حادث الغرق في طفولته، التعرض الى حادث دهس مميت، الاصابة بالقصف الكيمياوي، اعتقالات متعددة في اقبية الأمن)، فماذا تنتظر من روائي عاش كل هذه الاهوال ان يكتب؟ هذا السؤال يحلينا الى سؤال شبيه واجهه الروائي المغربي محمد شكري بخصوص الفضائح والصراحة غير المألوفة التي وردت في روايته (الخبز الحافي)  فرد على منتقديه قائلا : (أنا أكلت من القمامة ونمت في الشوارع فماذا تنتظرون مني أن أكتب عن الفراشات؟؟)، وفي احدى حواراتي مع الروائي الصديق " سلام ابراهيم " اقترحت عليه كتابة سيرته الذاتية واصدارها في كتاب خاص لكي ينهي بها هذا الشغف بالذكريات والتفرغ الى مواضيع انسانية أعم وأشمل في حياتنا العاصفة دائما بالمتغيرات، ويبدو انه استمع بجد الى ملاحظتي فدفع لنا بإصداره الجديد رواية (دونت سبيك أسطب) الصادرة مؤخرا عن دار أبجد للترجمة والنشر والتي تمثل خلاصة تجربته الحياتية فجاءت سيرة ذاتية مكتوبة بتاريخ متسلسل استهلها بالنشأة في ظروف عائلية واقتصادية قاسية وعلاقته بأسرته التي تحملت صنوف المضايقات والتنكيل من الاجهزة الامنية والرعب الذي عاشته خصوصا بعد انقلاب شباط 1963جراء انخراط ابناءها بالعمل الوطني في صفوف اليسار العراقي وقدمت خلالها  ابنا شهيدا اعدمه النظام مع ابن عمته وآخر هو ابن بنت ايضا تمت تصفيته وصولا الى  ــ الراوي ــ الذي تشرد في المنافي المتعددة .

يتخذ الروائي سلام ابراهيم من عبارة " دونت سبيك .. أسطب " عنوانا لروايته وهي أولى مؤشرات تعلقه بماضيه وشخصياته فهذه العبارة كانت واحدة من مخلفات والده الذي كثيرا ما كان يطلقها لحسم النقاش وانهاء الحوار وذلك عندما يُحاصر ولا يجد وسيلة مناسبة للرد على الاخر . وفي الرواية يتداخل الماضي بالحاضر ويستخدم فيها المؤلف تقنية الاسترجاع الفني ــ الفلاش باك ــ أي الرجوع بالذاكرة الى الوراء البعيد من أجل ربط الزمنين ، فمطلع الرواية يصور وصول الراوي ــ سلام ابراهيم ــ  الى رحمه الاول ــ بيته في الديوانية ــ بعد غيبة قسرية امتدت الى عقدين من الزمن قضاها في منافي متعددة، حيث يقف امام باب البيت مذهولا غير مصدق باللحظة الحاضرة التي طال بها حلمه وعندها ينفتح امامه خزان ذكرياته وينتقل الى ماضيه فيتذكر فقر العائلة ومعاناتها الحياتية حيث سنوات الجوع بسبب الفقر وكذلك الرعب الذي لاقته من الحكومات المختلفة ــ ملكية وجمهورية ــ وذلك بسبب هويتها اليسارية ويسرد بكل دقة وجرأة غير مألوفة معاناة تلك الأيام والسنوات التي تحملها الأب والأم ثم انتقال المعاناة الى الأبناء والأحفاد الذين ورثوا عنهم صلابة الموقف وصدق الانتماء وفي الاخير التاريخ المشّرف . 

الجزء الأهم من الرواية يتحدث الراوي ــ سلام ابراهيم ــ عن طفولته الشاقة التي ظهرت عليها ومنذ وقت مبكر من نشأته ملامح المشاكسة والتمرد، فقد عاش وهو يتصارع مع عائلته على تحقيق احلامه في الفكر الذي يؤمن به والمرأة التي يحبها، في حين تعاكس العائلة حريته المطلقة وتضيق الخناق عليه بسبب الخشية على طفلها من الانزلاق فتشدد الرقابة على سلوكه وعلاقاته وتوجهاته ويبقى الصراع بينهما قائما الى ان يشب فتى واعيا وينتزع حريته من العائلة ومن يقف في طريقه بما فيه التمرد على عمه خليل الحلاق الذي كبس ابن أخيه الصبي متلبسا بعريه مع عشيقته في البيت السري الذي اتخذ منه عمه مكانا لسهراته الماجنة والذي تسبب في احداث القطيعة بينهما وترك العمل في دكانه، ويتحدث عن طفولته بتفاصيل دقيقة وجريئة لا تخلو من سقطات بسب شهوات النفس الانسانية وأمراضها كالجنس والغيرة وتذكرنا بتفاصيل شبيهه لها من حيث الجرأة والخصوصية وردت في رواية (الخبز الحافي) للروائي المغربي محمد شكري فالروايتان خاضتا تفاصيل شديدة الحساسية والخطورة لا توافق في الكثير منها تقاليد مجتمعها وربما هذه الجرأة تولدت نتيجة نشأة الروائيين المذكورين التي كانت اشبه بالسير وسط حقل الغام .

في مرحلة طفولته وكذلك في مرحلة صباه التي اتسمت بالمراهقة والعناد والتمرد اضطر والده الى ايداعه في دكان عمه خليل الحلاق ومن هذا المكان انطلق للتعرف على العلاقات السرية لعمه واصدقائه وسهراتهم الماجنة مع النساء وطقوسهم اليومية في احتساء الخمرة والاستماع الى نكاتهم البذيئة وقد شهد جانبا من هذه العلاقات في البيوت السرية التي اتخذوها مكانا لقضاء متعتهم و تعلق عشيقاتهم به ومحاولة جره الى عالمهن الماجن ويذكر عن تلك الفترة اهم مغامرتين جنسيتين عاشهما للمرة الاولى وكانت مع فتاة البرميل التي منحته جسدها لقاء لفة تسد بها جوعها وأخرى مع شاب عمل معه في الدكان .

قامت رواية (دونت سبيك) على عدد من الشخصيات الفاعلة والمحرك الرئيسي في بناء الرواية من أمثال (عبد سوادي، خليل سوادي، موسى سوادي، عيسى سوادي، عليه عبود) فقد احتلت هذه الشخصيات النصيب الأوفر في الرواية كما اعطت للراوي طاقة دافعة وفتحت له افاقا واسعة في استحضار المزيد من الوقائع التي أغنى بها سيرته وفضح من خلالها زيف الكثير من الثوابت التي كان يتشبث بها البعض .

(دونت سبيك) ملحمة حياتية غنية بالأحداث والوقائع فمن خلال 444 صفحة بلغتها الرواية قدم فيها الروائي سلام ابراهيم صورته عاريا بلا تزويق ورتوش، فقد تعرّض لتجاربه ومغامراته في السرقة والنوم في الشوارع والتلصص على الجيران للاستمتاع بمشاهد المضاجعة بين زوجين ومغامراته الجنسية المبكرة وكل هذه الوقائع قدمها بصراحة وجرأة لا مثيل لها ولم تقف بوجهه اية قيم وتابوهات اجتماعية او دينية مبررا هذا التمرد والجرأة  والوضوح  في قوله (شبعت سجنا وتشردا، مقاوما أحمل بندقية، ثم ضائعا في بلدان المنافي، وما زلت لا أعير لقيم وأعراف مجتمعي اعتبارا واجد بها علة التخلف والخراب، فاحتقرتها سلوكا وعريتها كتابة ص 172) كما عرجّ في الرواية على صعاليك المدينة ومجانينها وأشقيائها وجرائم سلطة انقلاب شباط 1963 كما كشف جانبا من معاناة النساء مع ازواجهن الشاذين وذلك من خلال استماعه لشكواهن الى امه وهو طفل يتصنع البلاهة فجاءت روايته سيرة انسانية وفنية غارقة بالألم كتبها بنكهة ذاتية اتسمت بالتلقائية والعفوية الممتعة وكان البوح فيها ساطعا ومثيرا وجديرا بالالتفات اليه .

***

ثامر الحاج امين

حساسية ملفوظ الفقدان ومرثية الحداد النوعية

توطئة: تمنحنا إمكانية تجربة الشاعر الكبير عبد الرزاق الربيعي في شكلها الكلي والجزئي محمولات إضافية من الدلالات النوعية والمركزة عبر مجموعته (ليل الأرمل) ومجموعته المؤثرة (قليلا .. من كثير عزة) ذلك التشكل التمايزي في المنظور الأكثر دقة وأوجه وحدات وتفاصيل موضوعة وحساسية الفقدان وإمكانية شروع هذا الفقد في خلق لغة جمالية مؤثرة تكفلت بها الذات الشعرية التي اتخذت من مداليل الرثاء على ذات الفقيد وذاته ووحشتها عبر الأنساق المكانية والزمانية والصفاتية والأفعالية، شكلا في مستوى مأزومي لا نظير له في تسطير خصوصية دلالات الألم والإحساس بذلك الاغتراب في الأكوان الفراقية من سبحات وحشة الذات الشعرية .

ــ مرايا البياض ومعادلة الدلالة الاغترابية:

أن طبيعة العتبات النصية المصاحبة في أوليات المجموعة الشعرية (قليلا .. من كثير ــ عزة ــ ) وهي عبارة عن إحالات شعرية مشحونة بالاستعارة واطرادات الذات التي ترثي حال فقيدته الكريمة بعد رحيلها عن دار الدنيا بكل ما تحمل من أضواء وأنوار أحوالية وروحية وعاطفية في شغاف ذات الشاعر، الذي ظل بعد فراقها أكثر إنجذابا إلى تركاتها في ذاته وعبر (المكان ـ الزمان) التي تركتهما في حياد الأموات الخفي، لتكون لدى الشاعر موضوعا يقترح عليه الشروع في أقصى مراحل النزف الوصفي المنشطر ما بين (الزوج ــ الشاعر) وصولا إلى صياغة حالات الذات المفجوعة لديه بأسمى الدوال المتناغمة في دليلها ودقتها ومواطن وحشتها.نقرأ ما جاءت به قصيدة (تقاطع ألوان) ضمن مؤشراتها الفواصلية التي تمنح لحسية الملفوظ حضورا منقطعا بالحضور الأداتي في علامات الطباعة السطرية:

مَهَرَتْ حياتي بالبياضِ

وأسكتني في البياضِ

وألبستني

من مَبَاهِجِها البياض

....

..../ ص88

ترتكز محتملات الدوال على ذلك الدليل الشائع في المتعدد التطهيري، الذي يتخذ لذاته من خلال البنية التعريفية للبياض، ذلك الطابع الأدارجي في دوال (الزهد ـ الطهر ـ العفاف) أو ربما عبر هوية التقارب في دلالة (الصفاء المفرط) لذا فإن جملة (مهرت حياتي بالبياض) لا تتعارض مع المفهوم الاشتقاقي في كون البياض هو العلامة المرتبطة بالتطهر، خصوصا وأن جملة اللاحق حلت توكيدا على أن مفهوم البياض هو الرمزية إلى حد محتمل في ذلك الفضاء الخالص من شوائب ورذائل الخارج من حيز الكون البياضي (وأسكنتني في البياض) وبأعتبار أن حيوات الذات الواصفة مع ذلك الآخر أصبحت مرهونة بالبياض، إذ غدت جميع متصورات الذات إلى جانب ذلك الشريك إلى محصلة عفافية لا يمكن وصفها إلا بتعدد ما لا يجوز حصره من الافادات الأحوالية في وحدات القول، لذا وجدنا عبد الرزاق الربيعي، راح يستعين بالأداة السطرية المنقطعة، دليلا على محاكاة المتعدد والمرسل لا الحصري من عطايا سيدة البياض الأوحد (وسارت الأيام ــ حبلى بالبياض / ... ـــ ...) وبهذا الأسلوب الحذفي والمنقطع راح يغطي الشاعر ما تتصف به متواليات مستوى أحوال البياض ، ولو كان الأمر مقصورا في تعرفية خاصة من المسكوت عنه، ولكن صورة الخطاب في النص، كانت مؤتلفة على شاكلة أحتواء زمن ما بعد البياض، حتى جاءتنا هذه الجمل من تقاطع الألوان:

وعندَ تقاطعِ الألوانِ

والأزمانِ

والأسماءِ

والأنواءِ

والكلماتِ

والخيباتِ

والأحلامِ

والأورامِ./ص89

في هذه العملية المتتالية من المدلولات عن طريق تجاذب الدوال (وتترامى ــ التواريخ ــ الأزمنة ــ الأمكنة ــ خيبات الأحلام ــ نتوء الأورام) بدت لنا الفواصل متواصلة بالأسى والإقرار بالذات الواصفة ، كونها إلحاقا تواجه به متغيرات نوعية من الانقسام اللوني والتشكيلي.فلهذه المسميات ألوانها ومنحنياتها وتعرجاتها وشجونها وزوابعها والخوف من تقادمها نحو مزيدا من جراحها بعيدا في قارة الغياب (ذابت .. ثم غابت ــ في محيط من بياض) الدليل هنا إزاحة في لوحة البياض ضمن الترتيبات الحركية التي قامت بتوزيعها مرتكزات (تقاطع الألوان) فما خلت سوى الابعاد القيامية في أهوال اللون البرزخي، ولكن المعنى البياضي لم يجفل نوعه ولونه وسحنته، بل ظل محافظا على هالته البياضية في مملكته الغائبة بالبياض.

1ــ بلاغة الخطاب ومرسلة الرثاء المركبة:

سنحاول في دراستنا هذه تناول دلالات مجموعة (قليلا من كثير ــ عزة ــ ) حيث التعامل مع علاقات (الذات / المكان / مشكل المعنى) في حدود قيمة مرحلة حاسمة في تحولات قصيدة الشاعر الربيعي، ذلك تماشيا واتصالا مع مجموعة (ليل الأرمل) التي تسودها ذات الدلالة والقيمة والمحتوى من (حساسية ملفوظ الفقدان) ولكننا مادمنا في اجواء اسطرة الحزن في (قليلا ..من كثير عزة) سوف نواصل البحث في أهم ما جاءت به ثريا هذه المجموعة من أحوال وأشكال ومظاهر وصور لا يمكن العدول عنها بغير مداولتها على الأوجه المخصوصة.أقول إن طبيعة شعر الربيعي في حد ذاته كوظيفة قولية، يتعدى تجميد وتحجير وتعطيل الواقعة الشعرية ، بل إنها أي الواقعة في مسار شعرية الشاعر، حالة إنتاجية عذبة لأدق مكامن بلاغة واكتمال الشكل الشعري:فكيف إذا كان الأمر متعلقا بأقرب الذوات إلى قلبه، فكيف تكون تشكلات أوجه القصيدة كفعل حسي مهيمن ومتمثل ببرانية وجوانية الوجود الكينوني للشاعر نفسه.تكشف لنا قصيدة (ثياب) كأثر وكأنطباع، إلى حالة موجعة من علاقة الشاعر مع ذكريات زوجته المغفور لها.ويمكن اعتبار الحالة الملفوظية في احياز هذه القصيدة الذروة المثلى في قصيدة الرثاء المعاصرة من جهتي الشخصية وليس النقدية.أقول تكمن الإفاضة الحسية عبر لغة الشاعر وهوية الأشياء، طابعا تزاحمه ملامح النمط الشواهدي في النتيجة الشعرية.فالشاعر وظيفة تتدخل في مستوى آخر ولاشك، ومادام الأمر كذلك، فلنقرأ قليلا مما جاءت به قصيدة (ثياب):

ذكراكِ المعلّقةُ

في دولابِك

وحائطِ أحزاني

من ينزلها من عليائها

سوى يدك التي

أورقتْ

في الغياب؟/ص9

قد نفترض ها هنا أن العوامل الاستدلالية في الخطاب قد حلت بصورة من حدود (مجاورة ـ مقابلة) فهي في مستوى تعضيدي من الاستدلال الخاص، طالما أن صيغة التلفيظ (صوتي ــ مساند) قد تمت بلورتها في ممارسة متزامنة في القابلية الملفوظية وفضاء النص.وبما أن دوال النص ممارسة خاصة في إنتاج دلالة عبر ضمير الواصف، يستطيع الشاعر في الآن ذاته، مقاربة أشكاله الذاكراتية في مراحل ملائمة ـ تكثيفا بالمعنى ـ إلى أقصى اللحظات المكبوتة في استعادة الهواجس والصور والغرق في مخاطبة (من ينزلها من عليائها .. سوى يدك التي ..أورقت في الغياب) وعلى هذا النحو تسلم الذات الشعرية ملاحقات ملفوظها إلى غياهب ثلاثية القطب (الأنا ــ الهو ــ الأعلى) وقد تظهر مخلوقا في اللاوجود الزمني، سوى ما يعاود الذات الشاعرة من إحصاء مواعيد حياته السابقة والتي أصبحت الآن في ديمومة مجردة:

صباحٌ جديدُ

يطلُّ على الصمتِ

إذ لا لونَ للوقتِ

في ربوةِ اللامكانِ

فقومي من الليلِ

قولي لحراسِ نومكِ:

موعدُ إفطاري الآن

حانْ

وحانَ رجوعي لبيتي./ص91 قصيدة. قليلا..من كثير (عزة)

في الحقيقة تأخذ هذه القصيدة شكلا موجعا آخر يتجلى فيها الدال في النسق النصي تجليا يفوق مستوى وقابلية (النزف التخييلي) فهي عبر سطورها تتكشف بالصلات الدلالية الدينامية التي تجعل من وعي القراءة مشغلا قد لا يفي بكل أدواته لأجل إيصال المعنى للقارىء ، خصوصا وأن زخم الأسى في هذه القصيدة وأخرى لا تحتمله سوى أفعال القصيدة ذاتها، وربما الذائقة النقدية من جهة ما لا توفر مدلولا أكثر غنى وخصب من أعماق أحوال صور ومواقف وعبرات مقولة القصيدة في ذاتها.ولكننا على نحو ما نقول أن العاطفة وبلاغة اللغة في هذه المجموعة هي من أشد وأكثف ما تتطلبه حالات الفقدان حضورا ودالا ودلاليا.

ـــ ليل الأرمل: من الفقد الماحولي إلى فواجع الفاعل الإجرائي

إن طبيعة العلاقة المحفوفة بذات النكهة الفقدانية، جعلت من مشروع مجموعة الشاعر اللاحقة (ليل الأرمل) علاقة متلاحمة في الظاهر والباطن مع مجموعة الشاعر السابقة (قليلا .. من كثير ـ عزة) لذا يبقى واقع الخطاب الشعري بين كلتا المجموعتين تطابقا مع وظيفة (القصيدة الرثائية) العاملة على إضاءة الرؤية والكشف والفرادة في تجاوز التخييل النمطي في فنون قصيدة الرثاء الحداثوية، التي لا نأخذ منها عادة سوى مقررات الحالة دون شعريتها المؤثرة لدى شعراء اليوم والأمس.أنا شخصيا ممن ينطوي في قلبه وحسه ميلا وإقرارا بشعرية عبد الرزاق الربيعي، كما أن قراءتي لقصائد الشاعر الآن ليس محض ورقة اختبارية لأجل قصدية شاذة في نفوس البعض ، أقول لا أبدا فقط أني وجدت في تجارب هذا الشاعر الثمين ما لا أجده في شعر أفضلهم حالا، بأستثناء بعض التجارب الشعرية التي انتخبتها ذائقتي بطريقة خاصة لا يفارقها الانتقاء والاختبارية والتمحيص المسبق.فالربيعي في مجمل أعماله الشعرية قدم لنا الأنموذج الشعري عبر أدواته وحالاته ورؤاه ولغته، بمعنى ما جعل نصه موضوعا متعددا فيه من مسكونية الوعي الشعري ما راح يشكل في قصيدته الحساسية الشعرية المتبلورة ضمن توقد الرؤى والفعالية القولية المكينة.فمن خلال (ليل الأرمل) نتعرف على قصيدة (المشهد الأخير) المهداة إلى روح شقيقه محمد .. في مشهده الأخير:

في راحة (الأمير)

يبسطُ الطائرُ جنحيه

على الرمال

حيثُ المشهدُ الأخيرُ

الملاكُ جاهزٌ

و (كادر) السماءِ

جاهزٌ

العرشُ والضياءْ./ص11

ينفتح الشاعر في أداة قصيدته على تقانة السيناريو المسرحي.إذ إن جملة البدء (في راحة الأمير) تتضاهى وتتعامد مع رمزية الشكل الأسلوبي الملخص في جملة اللقطة (يبسط الطائر جنحيه) لتبدأ تجليات الكاميرا نحو وضعيات الدوال المشهدية (على الرمال ــ حيث المشهد الأخير ــ الملاك جاهز ــ وكادر السماء ــ جاهز) كما وتتوزع مناطق الرؤية المفصلية في المتن الشعري، إلى أوجه ملامح التصوير بدءا من (لقطة رأسية) وصولا إلى (لقطة قريبة):

مخرجُ الملهاةِ أعطى

شارةَ التصوير

(لقطةٌ قريبة)

من ساحلِ الجنة

والحضنِ الذي نحب

من سنين

(لقطة ...)

والكاميرات

دارتْ

(دارت الأيام) ./ص14

ـ تعليق القراءة:

تقودنا هذه الأحوال السيناريوية بالمعطى الصوري في القصيدة ، نحو غائيات قصدية، تمنحنا الترقب والإثارة تأثيرا إلى حيز إنتاج المصورات الشعرية داخل سياقات نموذجية من الابداع والتواصل نحو فسحة تأملية أخرى من أعمال شعرية حديثة للشاعر، سوف نعمل على استكمال قراءتها ومتابعتها عبر مشروعاتها المتشكلة في هيأتها الكفائية والإنتاجية الشديدة التمحور حول ثيمات الذات واستدعاءاتها المضيئة والكاشفة تحولا نحو شعرية موقعة بالتوقيع الإشاري الزاهد في لغته وقابلياته الظهورية والإحالية.

***

حيدر عبد الرضا

دراسة في رواية (ليون الأفريقي) للكاتب أمين معلوف وقفة مع كتاب (فاس) أنموذجا.. فواعل السرد بين الناظم الخارجي والفاعل الاستقرائي، الفصل الثاني، مبحث (2)

توطئة: أن من موجهات أوجه القيمة الإجمالية في محاور دلالات رواية (ليون الأفريقي) ليست مجرد حالة في إعادة الإنتاج للمقولات والأحداث والمواقف الأكثر مرجعية وحدود وهويات (المدون ـ المرجع) بقدر ما تشكل حقيقة مهامها المعالجة ــ تخييليا ودلاليا ــ، ذلك الجانب الإمكاني في مبثوث العلاقة العضوية والتنافذية بين (الروائي = التأريخي) كما أن علاقة خطاب السيرة الأحوالية في التدوين، ما هي إلا عين العلاقة المتكافئة بين (الرواية = التأريخ) بيد أن الفوارق النوعية بين أحوال خطاب الماقبل ونظيرها الحاضري، يمكننا تصنيفها على كونها العلاقة بكفيات خاصة من العاملية مع حقيقة مواضع المواقف، وكيفية اختلافها عندما يجري التعامل وإياها بموجب منظوريات وأنساق تبنى على أسس وخصائص ومميزات زمنية تحمها أوجه أكيدة من شرائط (التدوين ــ الوظيفة ــ الصياغة ــ المعالجة) وعلى هذا النحو يمكننا قبول الحضور التأريخي في سرود الرواية، شرطا إذا لم تكن الشواهد والعوامل الروائية متفقة مائة بالمئة مع وقائع التحقيب التأريخي.كل التعريفات والتحديدات التي تقدمها دلالات رواية (ليون الأفريقي) تكاد أن تكون عملا سرديا يرمي إلى توظيف علاقة ابداعية وتخييلية، إذ نلاحظ ثمة حالة تداخلية بين محاورتأريخية بالإضافة إلى عوامل تخييلية.ولهذا الأمر وجدنا ونحن نتداول فصول الرواية، بأن هناك جهة خاصة من (الحقيقة السياقية = التحقق التخييلي) وقبل محاولة دخولنا إلى تقديم بعض من أوجه الانماذج الوقائعية في المتن الفصولي من الرواية، نود التنويه إلى أن الرواية التأريخية المحدثة لا أواصر أو صلات بينها وبين (الرواية التأريخية في القرن التاسع عشر؟) التي نجد لمثلها لدى والتر سكوت نموذجا، صحيح أنها رواية ولكنها تظل إلحاقا دؤوبا بالخطاب والواقع التأريخي، كما يجعلها هذا التوجه عبارة عن سياق مندرج حول مواطن الوثيقة ــ التدوين، للمادة التأريخية، بعيدا عن أسس العلاقة المعالجة بالإبداع والتخييل الأدبي لسياق من الأنساق الإطارية للمدونة للمادة المرجعية.

ــ العلاقة الاقتضائية في مخصوصية التمثيلات السردية.

أن فنون السرديات من المسميات الاصطلاحية التي قام في وضعها الناقد الروسي (تودوروف) عام 1969 للدلالة على علم السرد الذي أخذ يشغل حيزا واسعا من اهتمام النقاد والباحثين ./ انظر: السردية وحدود المفهوم، بول بيرون، ترجمة عبد الله ابراهيم.وبتعبير أكثر دقة ووضوحا، فإن السرد الروائي يشير إلى الطريقة التي يختارها الروائي أو حتى الحكواتي الشعبي، ليقدم بها الحدث إلى الملتقى، فكأن السرد إذن هو نسيج الوقائع المتموقفة والمقولات في صورة محكية.مما يعني بصيغة ما أنه بإمكان الروائي تنظيم ومعالجة مادة تأريخية بموجب مؤديات خاصة من الأحداث والتوزيع الابداعي ــ التخييلي، وبذلك يمكن معاينة هذه المهمة في النظر إليها على إنها (محمولات تشكيلية) في البناء الفني اقترانا بحقيقة منظومة علاقة جمالية تستأثرها مستويات إمكانية من المواقع المحورية المترشحة في محددات الطلوع بالمادة التاريخية في صياغات دقيقة من الانساق والمعالجة والأسلوبية المستلهمة بين حدود متلازمة بين شكل المرجع السياقي وتطورات مضمونة السردي بالملفوظ والخطاب والزمانية المفترضة في نظام ظهورها التحفيزي والتقني.

1 ــ عام العرافين: تجسيد محاكاة الواقع ومحورية الفاعل المركزي:

لاشك أن بناء الشخصية الروائية في فصول رواية (ليون الأفريقي) ترتبط ارتباطا متعددا بماهية أفعال (الرواة ــ راوي الرواة) وذلك لأن عملية مسار الحكي تحدث في حدود مرحلة (شفاهية ــ نقلية) باعتبارها ذلك اللسان للحال الشخصي في المروى إليه.فلا يمكن أن تكون شخصية ليون راويا وهو لم يتعد السابعة أو الثامنة من العمر. خصوصا وأن طبيعة موضوعة الرواية متصلة بالشكل المرجعي المتعلق بحروب غرناطة وسقوطها على أيدي القشتاليين، إذن هناك مواقف ومشاهد وشخصيات وتحقيبات وصراعات لا بد من أن تكون مفصلة في مفادها المحكي.لذا وجدنا جميع مؤشرات الرواة جاءت (مروى إليه) تكاملا مع حيثيات ارتباط (الفاعل المركزي) بما يدل عليه في أوجه متباينة في مراحل الزمن والمكان والاتجاه الواقع عليه في موضوعة الحقبة الزمنية في حدودها التي تؤشر على طبيعة محددات زمن الفاعل المركزي.وعلى ضوء ما حلت به ارتباطات فصل (عام العرافين) نستدرك بأن هناك متعلقان اثنان هما (الناظم الخارجي ـــ الفاعل ـ المركزي ـ الاستقرائي) ولعل ما يلاحظ في صدد وظيفة الناظم الخارجي كونه المستوى السردي الذي يتكفل بالممكنات السردية (البرانية ــ الخارجية) أو ما يمكننا تسميته أيضا ب (خارج الحكي) أي الذي يقوم بحكي الحوادث والأحوال دون أن تكون له علاقة مشاركة في النص: (لم تكن سلمى تغفل عن تغيير مشيتها عندما كانت تمر بالساحة المربعة التي فيها سوق الأزهار./121: عام العرافين) ولتعزيز موقفنا من كون أن (أمين معلوف) قد غدا مستثمرا في محكي روايته مستويات خاصة (الملفوظ ــ التلفظ) فذلك ما يرجح قولنا بأن الخطاب الوارد هنا وهناك، ليس في الاتجاه التمثيلي للواقعة التأريخية وإنما جاءنا في (فاعلا وغير منفعلا)، دالا وغير مدلولا، يختص فيما يختص بحدود (الفضاء ـ المتن = نص سردي) ولو افترضنا بأن الحيز الوحداتي هنا مرويا عن ميثاق مرجعي، لما كان شكل المحكي يبدو كتوليفة ظاهرية من الخاصية الانشائية الموصولة بالتخييل وليس بالتوفيق المحاكاتي بين التدوين والمدرج المعالجاتي في مسافة الفضاء النصي.

2 ـ الفاعل الداخلي: الناظم الداخلي:

من الإمكان حصر وظيفة (الفاعل الذاتي) على إنها العملية التبئيرية ـ الجوانية ـ إذ يكون عمقها ذا تكوين داخلي.فيما نركز الضوء على كون الناظم الداخلي ممارسا للحكي بطريقة المبأر من الداخل، حتى يستوي المستوى السردي لديه كونه ذا المنظور البراني وعمقه الدراخلي.ومن خلال حالات الاشتغال المجملة في موضوعة (الشكل السردي ـ خارج الحكي ـ داخل الحكي ـ الفاعل الذاتي ـ الداخلي الخارجي) نستدرك الرؤية في العلاقة الحاصلة بين الفاعل الذاتي ومستوى ممكنات الحكي: (وقد أنتهى بي الأمر إلى ملاحظة سلوكها ـ وإذ راق لي على أنه لعبة جديدة حين كنت أتكروح إلى جانبها فقد كنت أتظاهر./ص121) إن مسافة الحكي هنا لا تعبر باسم الصوت السردي، بقدر ما تقدم متغيرات في ممارسة حكي المسافة الحاصلة في العلاقة بين (الراوي ـ الحكاية) ومن خلال هذين التجليين، سوف نلاحظ كل المظاهر المحققة من خلال التحولات والعينات السردية داخل صفة المنظور الأفعالي والحوادثي في مسار السرد.

ــ إمكانية استقصاء الاحوال المتحركة في إنتاج المحكي

1ــ فعاليات الاستنهاض وتشكيل الفضاء الروائي:

بهذا المعنى من عنونات ومؤشرات مباحث فروعنا، يصبح من السهل علينا معرفة وقائع إنتاج أحوال السرد المتحركة بالصورة المرجعية الشاهدة عبر الكيفية التخييلية وليس التقاطع السياقي في مأثورات التدوين التأريخي، حيث تحول الهدف من كونه واقعة مرجعية محددة، إلى احساس إبداعي في تلقي الحكي كممارسة بالصورة السردية، وهي الصورة التي تعرض الأشياء والأحوال على مواضع يتوزعها الوصف والتشكيل والانسجام في دلالة الفضاء والمتن الروائي، إذن لننظر رويدا إلى مغامرة الشخصية سلمى مع وردة اليهودية في منازل العرافين والمنجمين: (سارة المبرقشة: كان كل ما فيها يبدو لي غريبا، ثيابها التي تجمع كل الألوان، وضحكتها المتواصلة، وأسنانها الذهبية، وأقراطها الضخمة، ولا أنسى عطرها الخانق الذي تلقيته ملء منخري عندما ضمتني إلى صدرها./ ص122) إن القابلية الملفتة ها هنا تبرز لنا ذلك الدور الفعال الذي أثاره (المتن الحكائي) أي خلاصة مجموع الأحداث المتصلة فيما بينها، والتي يقع إخبارنا بها خلال علاقة ومستوى مخصوص من النظام الزمني والسببي للأحداث المحكية، وباستقلالية تتعدى جاهزية وأفتعال ربط الحوادث في المحكيات الشفاهية المنقولة عن الألسن.إذن نفهم من وراء ذلك كله أن المتن هو مادة الحكي التام، وبما يشير إليه المبنى من تقديم المادة بموجب تراتيبية تقنية.نلاحظ ما جاءت به حادثة لقاء سلمى بوردة اليهودية حيث كانت قائمة على نوعين من (حوافز معلنة ــ حوافز ضمنية = حوافز دينامية) .

2 ــ مؤثرات الإيقاع الصوتي وإيقاعية الأداة الحوارية:

يمكننا العثور على جملة تجليات قصدية وإيحائية في وحدات المستوى الأداتي في منطوق الأصوات الحروفية، بوصفها الوسيلة الصوتية الإيقاعية التي من خلالها يمكننا استدراك الوسائط العلاماتية التي تؤشر في أشكالها نحو وظائف خاصة في البنى الحوارية مثالا، وكذلك ما يجرى في مستوى المواطن الملفوظية وعلاقاتها الدلالية في أحوال المكان والزمن والمظاهر الخارجية والوضعية من مكامن الموقع الشخوصي: (وأنزلتني إلى الأرض قبل أن تتابع بصوت أكثر خفوتا (...) . / ص122 الرواية) تشتغل مثل هكذا تواظيف نحوية وإشارية إلى مواضع الأداء الصوتي، كمسلمة تتخللها صياغة أكثر قدرة على انماء هوية المتحدث، وعلى كون أن المحمول هنا أكثر تحديدا في مرحلته العمرية.اما ما تكمن خلفه وحدة (تتابع بصوت أكثر خفوتا؟) فهو ذلك المقتضى في حال كون الديانة اليهودية التي غدت أكثر رفضا في بلاد الأندلس، مما جعل وردة اليهودية خاضعة إلى ذلك الطابع النفسي والسلوكي الذي يجعلها تبقي اليهودية سرا حتى وهي في بلاد المنفى فاس.لا شك ان الوسائل الدرامية في حوارات المنطوق السردي، أكثر تعلقا بوظيفة (الراوي الداخلي) خصوصا في تلك المواقف التي توازي وعي وخاصية راوي الرواة: (لقد كان الانتقام من القشتاليين ولا ريب أمنية غالية جدا على قلب سلمى ./ص123 الرواية) إن إمكانية التحديد الضمائري في الفصول المتوسطة من الرواية، صار من التمحور والثبات حو الشخصية المشاركة (ليون = المروى إليه راويا) وذلك ما بدا لنا أكثر اشتغالا حينما غدا يتولى الحكي من خلال حال الشخوص لينتقل من خلاله راويا إلى مروى إليه، وربما أحيانا تضيع الحدود الفاصلة بين (الراوي ـ الشخصية) حتى تبدو كمحصلة (هوية متكلم غائب) أو هو ذلك النوع من خطاب الكاتب المركزي وإن كان ــ استنادا إلى معنى ـــ المؤلف الضمني في العادة ومن خلفه المؤلف الفعلي.

ــ تعليق القراءة:

عندما نستعرض مصير الشخصية سلمى في فصل (عام العرافين) وتلك المحاور السردية ـــ الاخبارية، من خلال فصل (عام النوادب) نستدرك توكيدا ان أغلب ما جاء في فصول رواية (ليون الأفريقي) قد لا يدخل في غالبه الأعظم ضمن جهة تحليلية وتقويمية، وذلك لكون الأسلوب الموظف في مسار نمو المواقف والشخصيات، أسلوبا مقاربا إلى دائرة (أقوال الراوي) والمروى إليه راويا، خصوصا وأن طبيعة النمو الحدثي جاءتنا مسرودة بطريقة الرواة أو راوي الرواة أو المتكلم بضمير الإجمال.ومن الجدير بالأهمية أن الرواية تحكى ضمن حركة الناقل والتنقل، وهذا ما يخلق احساسا جماليا بوثوقية (الراوي ـ البطل) ومجمل محكيات الرواية الواقعة بين حضور الذات (الفاعلة ــ الشاهدة) مما يجعل الخطاب أكثر تفعيلا للفواعل السردية الممكنة والمحتملة في التأويل والتحليل لهويات الرواة النواظم والفاعلين لأقصى ثيمات الخطاب تأشيرا في سياقه التأريخي وتمثيلاته الابداعية المعمقة في حراجات التخييل.

***

حيدر عبد الرضا

تتضمن المجموعة القصصية "محض خيال" لصاحبها أحمد بلقاسم مواقف، ووجهات نظر، وأحكاما في شأن قضايا متعددة: اجتماعية وسياسية وثقافية، معلنة بشكل صريح أحيانا، وضمنية مبطنة أحيانا أخرى، في شكل رسائل لمن يهمهم الأمر. ولست هنا في حاجة إلى تمحيص هذا المعطى وتدقيقه، فنصوص المجموعة شاهد علي ذلك، إذ يمكن للقارئ أن يطلع مثلا على قصة "نصيحة" التي ينتقد فيها الكاتب سلوكات بعض مدعي الثقافة الذين يبيحون لأنفسهم الخوض في مختلف المواضيع، وخاصة تلك التي يظنون أنها المطية الذلول، كالدين والسياسة، مفحما إياهم بلسان صريح: "أنصحك أن تترك الأدب للأدباء ...أنصحك أن تترك الدين لله" ص: 33.

وأما ما جاء من رسائل ضمنية، فيمكن تلمسها من خلال الحوار الدائر بين الأب وابنته العائدة من حقول التوت الاسبانية، وهي محملة بالعملة الصعبة، تطلب منه السماح لها باصطحاب أختها الصغرى إلى هناك، بعد أن استشعرت سعادته ورضاه على عائدها من العملة الصعبة. ولكي تكون الغلة مضاعفة، تقترح عليه ما يلي: "لو سمحت لشقيقتي بمرافقتي إلى هناك، لازددنا كيل بعير/ أيه نعم، لكن ألا ترين أنها لم تنضج بعد؟/ صحيح، ولكن يا أبتي هناك يعشقون الفاكهة قبل نضجها عشقا لا يقاوم" ص: 9. وهي رسالة تكشف المستور والخفي من وضع هؤلاء العاملات الموسميات، وضع مأساوي تداوله الاعلام، وصدحت به حناجر القهر لبعض الأبيات من العاملات، معبرة عن رفضهن لما تتعرضن له من مساومات في أجسادهن، واستغلال جنسي.

هذه الرسائل القوية، جعلتنا نؤكد منذ البداية أن الشكل الإبداعي في قصص أحمد بلقاسم مرتبط بالفكرة، وبرؤيته للقضايا والظواهر. لذلك فبدهي أن تجد هذه الأفكار ما يناقضها ويخالفها، وتولد نوعا من التصادم والصراع، شكل بنية درامية داخل نصوص المجموعة، لم يجد القاص من معين لإبرازه والتعبير عنه غير الإفادة من جنس المسرح شكلا ومضمونا. وليس الصراع بمعزل عن القصة والغريب عنها، فهو أحد مركباتها الداخلية، وأرفع الخيوط التي تقيم نسجها وهي ترتفع بالأحداث إلى قمة التوتر والأزمة، غير أن ما يلفت الانظار في قصص أحمد بلقاسم ويجعله خاصية من خصائص مجموعته "محض خيال" يكمن في العدة الدرامية التي استعان بها، والتي يعد الحوار أكثرها حضورا، مما جعله يدخل في جدلية مع السرد، وأحيانا يطغى عليه حتى ليكاد ينسينا إياه، بالإضافة إلى تعدد الأصوات المؤدي إلى تصادم فكري بين الشخصيات.

1- الشكل الحواري الدرامي:

يشكل الحوار في "محض خيال" علامة بارزة، وملمحا يستوقف كل متصفح لها، جثم على جل النصوص إلى حد تشكيله البنية الأساس في بعضها، كما في: "قصة سيلفي" ص: 11، و"أفراح" ص: 15، و"محض خيال" ص: 21، و"موطئ حبة بن" ص: 61، "وشيء يستحق الذكر" ص: 87" بل إن بعض النصوص افتتحت حواريا، واختتمت كذلك. وليس هذا الانجذاب نحو الحوار والإغراق فيه على حساب السرد والوصف اللذين شكلا الخطاب الأساس في مجاميعه القصصية السابقة إلا استجابة لواقع صار أكثر درامية، واقع لم تعد الذات الساردة قادرة على أن تحكيه، ولم يشف غليلها أن تسرد تفاصيله، وإنما صارت منجذبة إلى مسرحته، وعازمة على إظهار مأساته، تلك المأساة التي لن تقدم في صورتها الحقيقية، وبالحجم الذي وصلت إليه إلا باستعارة وسائل المسرح وآلياته، وعلى رأسها الحوار الذي مكن المبدع أحمد بلكاسم في الكثير من الأحيان من التعبير عن رأيه إزاء أعطاب المجتمع، وتشكيل صورة درامية كاملة منها، وأنساه في المقابل الاهتمام بالمتن الحكائي، فكانت الأولوية للمبنى على حساب الحدث، كما في قصة "بلا جواب" ص: 77 التي اقتصر فيها المتن الحكائي على حدث عابر، جاء عبارة عن "برولوج مسرحي" يتمثل في عدم تجاوب المتعلمين مع السارد الذي سيشكل بعد ذلك أحد أطراف الحوار، ويعطي للقصة بناء دراميا من خلال أسئلته لهم عن مهن المستقبل، فيكفون عن الجواب، ويرفضون كل اقتراحاته، رفض ينبئ السارد المحاور في النهاية إلى رغبتهم في اعتلاء كرسي داخل قبة البرلمان. وهذا الاهتمام بالمبنى، أي الحوار، كان فعالا في إبراز مأساوية الواقع المتمثلة في صورة السياسة لدى الناشئة، لم يكن بمقدور المتن الحكائي وخطابه السردي أن يقدماها بهذا الشكل المؤسف.

ومن حسنات توظيف الحوار أيضا أن أتاح للقارئ تمثل شخصيات القصة التي ليست إلا نماذج مجتمعية في أزماتها وصراعاتها، وتمثل الأفكار التي تحبل بها النصوص القصصية، سواء أكانت أفكار الكاتب أم الشخصيات الأخرى، وهي أفكار تتباين ما بين حداثية تنويرية، ورجعية متخلفة، اختارها الكاتب من الواقع المعيش محاولة منه مصادمتها وفضح المتخلف منها. وتعد قصة "منك نستفيد" مثالا صارخا لهذا التوظيف، فهي تصور لنا شخصية الخطيب وثقافته التي يمجها العقل السليم، ويرفضها المنطق، حين عزا عدم خشوع المصلين في صلاتهم إلى المعاصي، في حين يردها السارد الذي يفكر بكل واقعية إلى مشاكل اقتصادية واجتماعية، معارضا الخطيب بقوله: "لا، ليست المعاصي وحدها المسؤولة عن هذا المشكل العويص.../ المسؤول الخطير هي فواتير الماء والكهرباء، وأقساط البنك الطويلة الأمد، والمواعيد الطبية البعيدة الأجل، وأحكام القضاء القاسية جورا" ص: 80/ 81. وهكذا يصبح الحوار في المجموعة القصصية وسيلة لإخراج القارئ إلى الحياة، وإدماجه في حمأة الصراع، واتخاذ موقف من هذه النماذج المعروضة عليه، شخصيات كانت أم فكرا متداولا، ويتجاوز كونه مجرد سؤال وجواب .

إن الكاتب لم يجد بديلا عن الحوار، وهو يسعى إلى الإسهام- من موقعه- في تأسيس ثقافة مغايرة ومجتمع ديموقراطي حديث، فقد كان سبيله إلى توصيل الأفكار المتضمنة في المجموعة القصصية وتأصيلها لدى المتلقي، خاصة حين يكون هذا الحوار مشحونا بطاقة مؤثرة كالسخرية والتصوير والترميز. فحينذاك يجعل من هذه الأفكار البديل لثقافة "تجار الدين...وتجار المبادئ الذين يتاجرون في المعاطف الحزبية" ص: 85. وقد نحا هذا المنحى، وامتطى صهوة الحوار قديما، أهل الفلسفة والفكر، وهم يهمون إلى إنشاء عوالم جديدة ذات تأسيس في فكر الإنسانية، فاتخذوا لرسائلهم ومؤلفاتهم الفكرية والفلسفية شكلا حواريا.

وهذا المعطى نفسه، هو ما يزيدنا يقينا أن العناية بالشكل الحواري الدرامي في هذه المجموعة مرتبط برؤية الكاتب الفنية والفكرية للعالم، وهي رؤية أحمد بلكاسم الإنسان للواقع والوجود الإنساني، وموقفه من القضايا المجتمعية المختلفة محليا وعالميا التي لا يفتأ يعبر عنها في مجالسه وكتاباته المتنوعة، كالأحكام الجائرة، والتهم الملفقة، والمحاكمات السياسية، وحرية التعبير والتظاهر، كما في قصتي "محض خيال" و"حراك".

2- تعدد الأصوات:

ينصب هذا المحور على قضية تعدد الأصوات في المجموعة القصصية، في علاقتها بتعدد وجهات النظر على المستوى الفكري والإيديولوجي، مبتعدا ما أمكن عن المنظور السردي وعملية التبئير المرتبطة أشد الارتباط هي الأخرى بتعدد الأصوات، علما أن الفصل بينهما على مستوى الممارسة النقدية أمر بالغ الصعوبة، نظرا لتواشجهما. وليس الدافع إلى ذلك سوى الرغبة في إبراز الصراع الدائر بين شخصيات القصة على المستوى الفكري والايديولوجي، صراع كان فيه للحوار ولعبة الضمائر الدور الأساس.

فالتعدد الصوتي لا يتشكل من خلال التوظيفات اللغوية المتنوعة التي تجري بألسن مختلفة، والتي تعبر بها الشخصيات عن وجدانها ومشاعرها، بل بخروجها من الصوت الواحد، وما يخلقه هذا الخروج من حركية على مستوى الرؤى والأفكار التي تخلق بدورها مجابهات وصراعات بين الذات الساردة والذات المتلقية المتوجه إليها بالخطاب. فالسارد في أغلب النصوص ابتعد عن الصوت الواحد الذي قد يكرسه خطابا السرد والوصف مهما اختلفت المنظورات السردية، ولم يستفرد برأيه، وإنما عرض الرأي والرأي الآخر، حتى وإن كان في الأخير لا يحتفظ إلا بوجهة نظره، ويسفه ما عداها.

ويظهر انشغال الكاتب بالآخر من خلال مخاطبته ومحاورته مباشرة، أو من خلال إجراء الحوار بين مخاطبين، الشيء الذي سمح ببروز ضميري المتكلم والمخاطب. هذا المخاطب الذي يجسد في مختلف الأحوال وضعيات درامية، إما من خلال درجة وعيه، أو سلوكه، أو رؤيته للمجتمع وقضاياه. فيجعل منه السارد محط تهكم وسخرية، وكأن بالكاتب يقول مع سارتر: إن الآخر هو الجحيم، أو بالأحرى هو المسؤول عما آلت إليه أوضاعنا. وأبرز مثال على ذلك ما جاء في قصة "كلام موظفين لا غير" من آراء الرجل الذي انتقد كل شيء، فكان يتحول في رمشة عين من مهندس معماري إلى مثقف ضليع إلى مندوب لإدارة السجون...لكن بالرغم من نزقه الظاهر فهو يؤيد في النهاية تأييدا أعمى قرار الحكومة في كل ما تقوم به، يقول: "الحكومة أدرى بمصلحة الشعب، أما ما تقولونه أنتم مجرد كلام، كلام موظفين لا غير" ص: 76. أو في قصة "لا جواب" المشار إليها سابقا التي تظهر الصورة البئيسة التي آلت إليها المسؤولية السياسية ببلادنا، والتي أصبحت الطريق القصير الموصل إلى الاغتناء وجمع المال، وهي صورة صنعتها سلوكات السياسيين الحاليين وتصرفاتهم الذين بدت عليهم آثار نعم السياسة من سيارات فارهة، وسفريات في مختلف بقاع العالم، وتقاعد مريح...نعم لم يكن لهم أن يحلموا بها، لولا ريع السياسة وسحتها.

هذا ما يتعلق بالمخاطب، أما مقابله ضمير المتكلم، فهو يجسد في جل النصوص السارد الحاضر الذي ليس إلا الكاتب أحمد بلكاسم نفسه، الشاهد على ما يجري في محيطه، وأمام عينيه، أي أنه شاهد عيان على الأحداث، ومعايش للشخصيات، وبذلك فهو يشكل مادته الإبداعية من صلب الواقع بعيدا عما يمكن أن يجنح به الخيال الإبداعي. لهذا، أجد أن العنوان المقترح للمجموعة عنوانا مراوغا ومخادعا، فدرامية المواقف والأحداث التي يحكيها السارد ليست محض خيال، وإنما هي محض واقع، لكن بصياغة أدبية جمالية، جعلت النصوص القصصية "وشيا لا وشاية" على حد تعبير الكاتب أحمد بوزفور. ولا أعتبر لجوء القاص أحمد بلكاسم إلى هذا العنوان نوعا من التخفي والتستر، فلو شاء ذلك لما اعتمد ضمير المتكلم الفاضح الكاشف للذات الساردة، ولعوضه بضمير الغائب البعيد، والخارج عن دائرة الأحداث. إنه في نظري عنوان تهكمي جعل من الأحداث المسرودة والشخصيات الموصوفة سلوكاتها ووضعياتها مجرد كائنات متخيلة أو شخصيات "كارتونية" لا يعول عليها في تغيير الواقع والنهوض بالوطن، ووصفها بالمتخيلة هو استصغار لها، وتقزيم لأدوارها.

إن الكاتب لم يترك الآخر المخاطب على رسله، ولم يقف من تلك الوضعيات الدرامية التي جسدها موقف المتفرج، وإنما لجأ إلى مواجهته فكريا، ومدافعته إيديولوجيا لزعزعة قناعاته وتصحيح المغالطات لديه، الشيء الذي يؤكده اختياره تنويع الأصوات والحوار. فأمام التراجعات التي يعرفها المجتمع على مستوى الفكر والقيم، وبعد أن استعصى عليه تبصرة الآخر بالحقيقة في الواقع، سلك الكاتب مسلك الابداع والحكي، لعله يجد سبيلا إلى فكره المتصلب. ويعتبر الشخص الذي أصر على اعتبار السجن مدرسة بدل الأم، رغما عن أنف حافظ إبراهيم، في قصة "كلام موظفين لا غير" دليلا على ذلك. ص:76

لقد ساهمت مزاوجة الكاتب بين صوت المتكلم وصوت المخاطب وانتقاله بينهما في خلق "مساحة سردية معبأة برغبة الذات في اكتشاف كنهها المهدم، وحقيقة اغترابها في ظل الشعور بالضياع الذي يمارسه المكان بوصفه مسرحا للوجود" . والمكان هنا يضيق ليعبر عن الفضاء المحلي، ويتسع ليشمل الفضاء العالمي، لما تعرفه الأمكنة والأزمنة من تداخل وتأثير وتأثر في ظل القرية الكونية، أما الاغتراب عند الكاتب فهو اغتراب فكري وسلوكي على وجه الخصوص، عبر عنه في قصة "يقطينة" ص: 67. فقد تغير مفهوم الوطنية وحب الوطن، فأصبح المغربي ينقم على وطنه، بمجرد عبوره المتوسط، وجمع بعض الأورويات التي أضحت تتحكم في الوضع الاعتباري للأشخاص، فيصبح "رأس اليقطينة" المجوف الفارغ ذا قيمة اجتماعية، بينما يظل المثقف بالرغم من امتلائه الفكري والعلمي في الدرجة الثانية، إنها سلطة المال والجاه التي جعلت المثقف بما يحمله من قيم ومبادئ مغتربا في وطن تغيرت فيه المفاهيم، وتطبع فيه الانسان مع الفساد بشتى أنواعه، فأصبح الغش والخيانة والكذب عنوانا للذكاء والحذق، والأمانة والوفاء والصدق صفات للسذاجة.

بناء على المعطيات السالفة المتعلقة بالملامح الدرامية والتجليات المسرحية باعتبارها وسائل فنية، ثم الاعتناء بالفكرة والموقف باعتبارهما معطى موضوعيا ارتكزت عليهما المجموعة القصصية، تكون الكتابة الإبداعية عند أحمد بلقاسم كتابة واعية، تجمع بين الوعي الثقافي والوعي الفني اللذين لن ينتجا في النهاية سوى شكل إبداعي تجريبي أصيل، بعيدا عن الحذلقة اللغوية والتعمية الفنية التي تقترف في حق القصة والإبداع عموما تحت شعار التجريب. وإذا كان أحمد بلقاسم يختار من الوسائل الفنية ما يلائم الواقع الراهن الغارق في دراميته، فإني أعتقد جازما أن ذلك منتهى الصدق والالتزام في الكتابة الإبداعية لا بمفهومها الأخلاقي والسياسي، وإنما بمفهومها الفني الإبداعي الذي يعبر عن أصالة الكتابة الإبداعية وانخراطها في الشأن المجتمعي والإنساني.

***

الدكتور: محمد رحو

الخطباء الذين يكلمونكم عن الحب، والساسة الذين يخرقون آذانكم بالحديث عن الوطن والشرف والعدالة، كلهم يثيرون الغثيان (نيكوس كازنتزاكي / الاخوة الاعداء).

هذا جوهر الخطاب الروائي ودلالته الفكرية والتعبيرية، وهو يتناول أحداث عاصفة ترسم خارطة طريق الصراع السياسي في العراق التاريخية ومراحل تقلباته وهزاته العنيفة في بنية المجتمع، رواية تتحدث من خلال رحلتها الطويلة تجاوزت أكثر من نصف قرن، رسمت ملامح المراحل التاريخية التي مرت على العراق (الاحتلال العثماني ونهايته. الاحتلال الانكليزي واعطى الراية الى الحكم الملكي، العهد الملكي. العهد الجمهوري) يكشف المتن الروائي تراجيدية الازمنة، في الصراع السياسي والديني، يعطي صورة نقدية وفكرية في تراجيدية عقلية السلب والنهب (الفرهود)، التي أصبحت من العقلية العراقية المبطنة، والت تنهض من سباتها عند كل انقلاب سياسي أو في منزلقات أو منعطفات سياسية عاصفة تمر بالبلاد، في استغلال الفوضى والانفلات الأمني، ومستمر هذا النهج إلى يومنا هذا بأشكال مختلفة ومتنوعة، والرواية (أفراس الأعوام) للاديب المتمكن في لغة السرد الحديث وتقنياته الفنية المبتكرة والحديثة في الإبداع السردي المعاصر، وأسلوب صياغته وطرحه وتناوله بالخيال الفني الملهم عند الاستاذ زيد الشهيد، سلط الضوء الكاشف في البانوراما الواقع العراقي، عبر هذه المراحل السياسية في أزمنتها المختلفة، بموضوعية واقعية وانتقادية رصينة، من خلال الفصول الثلاثة للرواية، وكل فصل يمثل نقلة نوعية في مسارات كل مرحلة زمنية وسياسية، ومشبعة بالرؤية الفكرية في النقد والتحليل، من خلال رحلة طويلة. تؤرخ وتوثق وتصور عدسة مرآة كل مرحلة في التوثيق الروائي، عبر سيرة حياة بطل الرواية (جعفر حسن درجال / مثقف وسياسي ورسام) الذي عانى مرارتها ولوعتها بالمطاردة والسجن، هذه الاحداث السياسية العاصفة شكلت شرخاً عميقاً في بنية المجتمع، بل وضعت جدراناً حديدة لا يمكن اختراقها بالالوان الطائفية وزعانفها المسمومة، التي جعلت المجتمع التي جعلته ينزف دماً وجروحاً لا تندمل، غايتها الاولى طمس الهوية العراقية على مذبح الطائفية، ان تصب الزيت على النار، كما كانت في الماضي وتعيد الكرة في الحاضر ايضاً. لكي تشق كيان المجتمع الى صنفين متخانقين بالاحتقان السياسي والاجتماعي، مما يسهل عملية الاحتلال الأجنبي، الذي يجد ارضاً خصبة في تكريس الاحتلال والوصاية والنفوذ، هذه لعبة المحتل الأجنبي المفضلة في العراق، في تكريس شرخ الانقسام والعداوة والحقد داخل الكيان العراقي، تدور الأحداث السرد الروائي في مدينة (السماوة) ولكنه يرسم الصورة العراق باجمعه. في لغة سردية شفافة في سليقتها المبدعة، تشد القارئ شداً وبتلهف مرهف في متابعة مسار أحداثها الدراماتيكية المتصاعدة، في تراجيدية الأوضاع السياسية والاجتماعية والدينية. والرواية ايضاً تمثل تراجيدية موت الحب بنيران الطائفية، كأن الحب هو الضحية أو القربان على مذبح الطائفية الدموي. اعتقد جازماً ان رواية (أفراس الأعوام) تصلح لفيلم سينمائي ناجح، يتناول تاريخ العراق العاصف بالأحداث الجسام التي مرت به، لنجد أنفسنا في مرآة الماضي و نقارنه مع مرآة الحاضر. ويمكن ايجاز المتن الروائي بهذه النقاط المختصرة:

1 - الاحتلال العثماني ونهايته المخزية:

اعتمد على نهج: تفرق تسد في شق بنية المجتمع وطوائفه، بالانحياز والتمايز التام لطائفة على حساب طائفة آخرى، وبناء جدران اسمنتية بين الطائفة الشيعية والسنية (- الترك لا يعينون موظفاً ينتمي لمذهبنا الشيعي، بل من السنة فقط) ص49. وفي آخر أيامه لعب على الورقة الدينية في حربه مع الجيش الإنكليزي المحتل، بأنهم اعداء الاسلام، وجاءوا لكي يدنسوا أرض الإسلام الطاهرة، وهم اعداء الدين الاسلامي الحنيف، كفرة وملحدين، لكن هذه الورق خسرت وتمزقت في نهاية احتلاله للعراق.

2 - الاحتلال الانكليزي:

لعب على ورقة تنوير الناس بالثقافة الاوربية ومحاربة الفقر والتخلف، وتنشيط حركة التجارة والنشاط الاقتصادي في تطوير البلاد، ومحاولة رأب الصدع بين الطوائف، في فتح مجال العمل والتوظيف ان يكون لكل الطوائف والذين يمتلكون كفاءة، في تولي التوظيف والمسؤولية وأعطى الفرص للجميع. ومحاولة إحداث تغيرات بنهوض الشعب من الجهل والتخلف، وبدأت ملامح التغيير الجديدة تظهر على السطح (بمجيء الانكليز توجهت الحكومة لكسر جدران أن يكون موظفو الدولة من السنة فقط، فراحت تصدر تعيينات لمن يمتلك مؤهلات تثبت بمرور الأيام الكفوئين وتلغي توظيف المتلكئين وصارت المدينة تشهد وجوهاً من شبابها ورجالها يتسلمون الاعمال الوظيفية، مثلما تدفقت البضائع الأوروبية على المدينة وانتهى تداول الليرة العثمانية) ص 106.

3 - العهد الملكي:

حاول ترسيخ نهج مسار تطوير البلاد، بفتح المدارس وتشجيع التعليم بين الجنسين (الذكر والانثى)، وإدخال مظاهر جديد ة في المجتمع، وكسر رتابة الخمول في الحياة اليومية، وبدأت بوادر الخلاف الخلاف في العقلية العراقية، بين البداوة والمدنية، وفتح آفاق السجال الثقافي بين المحافظين على القديم، وبين أصحاب تحديث المجتمع وتنويره، وتنقية الاجواء الطائفية، وبداية خطوات التنوير الثقافي تبدأ في الظهور، ومحاولة كسر الاحتقان الطائفي، وتشجيع التجارة والعمل، ومحاولة تنقية الطقوس الدينية من شوائبها وعيوبها، وتصليح الشعائر الدينية بما هو يتفق مع الدين الإسلامي الحنيف، من خلال منع ممارسة في طقوس عاشوراء، مثل ضرب الزنجيل والتطبير (أصدار وزارة الداخلية في عام 1935، أمراً يمنع إقامة شعائر (الزنجيل) و (التطبير) واقتصار طقوس عاشوراء على إقامة جلسات الوعظ وتنوير العامة من الناس بخطأ اقامة مثل هكذا ممارسات لا تمت للدين الإسلامي الحنيف بشيء) ص187. وفي هذا العهد شهد تأسيس واقامة أحزاب سياسية متنوعة الاتجاهات السياسية، وتدخل في سجالات الصراع السياسي بينها، بوتيرة واسعة بالخلافات و التناحرات. مما ظهرت الاصطفافات السياسية، واضحة المعالم في الصراع، من يؤيد الحكم الملكي، ومن يعارضه، ودخلت المجموعات الدينية على خط هذه الصراعات، لكي تصب الزيت على النار. في الفتاوى الدينية التي عملت في إشعال الحريق في المسرح السياسي القائم، مثل الفتوى الدينية (الشيوعية كفر والحاد) والتي ساهمت في بلبلة الرأي العام، في تكفير الرأي الآخر، واستغلال بسطاء الناس في هذا المجال للقيام بالاعمال العدائية، واستمر هذا النهج بالتكفير الاخر أكثر عنفاً في العهد الجمهوري الوليد، بالهجوم على مقرات الحزب الشيوعي ونهب الأثاث البسيط وحرقه. وكلما دخلت الطائفية في اي زاوية من الحياة العامة أفسدته خراباً، حتى في العلاقات الاجتماعية، وحتى في نواحي الحب والزواج، توجه طعنات الموت اليه. فعندما أحب (جعفر حسن درجال) فتاة من الطائفة السنية (وهيبة) بشكل حب جارف ونقي، وعزم على الزواج منها، فصارح أمه لكي تقوم في تسهيل إجراءات الزواج. ارتعبت أمه بالغضب الشديد بالرفض والاحتجاج، كأن عقلها لا يصدق كلام ابنها، بأنه يعتزم الزواج من فتاة من الطائفة السنية (أمجنون ولدي هذا ؟ أنه يتحدث بثقة تفشيها ملامحه...يقول كلاماً لا يريد ان يسحبه أو يقلبه الى مزاح....أولئك أناس ليس من طينتنا ولا من مذهبنا..... كيف لنا الشيعة أن نقبل في عائلتنا سنية لا تقدس (علي) ولا تبكي على (الحسين)؟! كيف أن نقبل أن يمتزج دمها بدمنا ؟.. وكيف لوالدها السني أن يعطي أبنته لشيعي يراه بعيداً عن مذهبه وخارجاً عن دينه؟!) ص69. و(لا. يا ولدي أنت مجنون..... وإذا كانت هي تحبك فعلاً كما تزعم فمجنونة ايضاً) ص69. فأحدثت في نفسيته الاحباط والخيبة والحزن، وشعر قلبه يتكسر ويتفتت مرارة وحزناً. بأن حب قد ذهب الى ادراج الضياع، فشكى مرارة حزنه الى أحد اصحابه، وقام هذا ان يواسي معاناته و حزنه الشديد (عوائق لا مبرر لها، يا جعفر... افهمك وافهم معاناتك... المذاهب تفرق الأمم) ص76.

4 - العهد الجمهوري:

فتح باب الصراعات السياسية والحزبية على مصراعيها بعد سقوط الملكية، انتهت بحادثة المجزرة للعائلة الملكية. وأخذ العنف السياسي ينتقل من الشوارع الى داخل السجون والمعتقلات، ودخلت البلاد في بلبلة وفوضى سياسية في ضبابها الكثيف، كأن العهد الجمهوري فتح صندوق (باندورا) لتخرج منه كل الشرور العنيفة، كل الأمراض الاجتماعية والسياسية والدينية، ولعبت الفتاوى الدينية، في زيادة الاحتقان السياسي، لقد توحدت كل القوى المعادية التي تضررت بالثورة، الى العمل في اسقاطها وإجهاضها. حتى وصل العنف الى الشوارع، وحياكة الدسائس والمؤامرات بدفع مباشر من القوى الاستعمارية، وكذلك ساهمت مصر جمال عبدالناصر في السعي الى اسقاط الثورة، وكانت اذاعة صوت العرب من القاهرة تزعق بالعواء والنهيق ضد الثورة وزعيمها عبد الكريم قاسم في تحريف مجريات الأحداث بالكذب والدجل (كل يوم يتناهى الى مسامع انتهاكات إنسانية ! حتى لتمنَّى غالبية الناس العودة الى العهد الملكي. رغم أن البلاد يقوده حاكم نقي احب الوطن والشعب) ص216. أن نزاهة الزعيم ووطنيته وحبه للفقراء،و طموحه وصدقه في رفع الحيف ورفع الظلم والحرمان، فتح باب الخلاف والخصام، وفي سبيل إحداث الخلل في شعبية الزعيم الجماهيرية الواسعة، واعداء الثورة وجدوا الفرصة السانحة، بأن الزعيم تلكئ في وعوده ولم يحقق ما وعد به الشعب، بل أدخل البلاد في زاغور الأفاعي السامة، مما أفسح المجال للمؤامرات والدسائس أن تفلح بإسقاط الثورة في انقلاب عسكري دموي.

5 - ازمة ومحنة المثقف:

ضمن هذه الأجواء المتوترة بالغيوم السوداء من العنف والبلبة السياسية، حتى فتحت أبواب السجون، أثر بشكل سلبي على نكوص الحركة الثقافية، وأصبحت محنة للمثقف قائمة فعلاً، ووجد المثقف نفسه محاصراً ومطارداً، بل مهدداً في حياته، ضمن الانقسام السياسي والحزبي الرهيب والحاد، مما اصاب المثقف بالاحباط والخمول ومنهم (جعفر) الذي خفت عنفوانه المتمرد (أنت لا ترغب في رؤية الرسم.. أنت ترغب في تعنيف ذاتك. أيها المغمور بالنقاء... لكن مع هذا لا يجب أن أتركك تجذف بزورق الضياع. أنا معك) ص163.

6 - موت وهيبة:

ظلت ترفض الزواج لتحافظ على حبها المغدور، ولم تتزوج إلا بعدما تزوج (جعفر) وعندما داهمها شبح الموت وهي راقدة فراشه في لحظاتها الاخيرة، كلفت بأنها بأن ينقل وصيتها الى (جعفر) ووافق ابنها على مهمة نقل رسالتها، التي احتفظت بها طيلة عمرها، وهي في اللحظات الاخيرة لتودع الحياة. ونقل وصية أمه المتوفاة الى (جعفر):

(لقد ترجتني وهي على فراش الموت، أن أعيد أليك هديتك لتحتفظ بها، ظناً منها أنك خير حافظ لها

- لا. بل هي رسالة على انها احتفظت بحبها لي حتى اللحظة الاخيرة) ص 267.

ثم ينال الموت بعد ذلك من (جعفر) لم يشاهد بعد ذلك ما مر به العراق من المآسي، من المجازر والكوارث والفرهود، والطائفية تعود في رونقها الذهبية بالخراب في تدمير العراق.

***

جمعة عبدالله – كاتب وناقد

ظهر سرد القصص مع تطور العقل البشري لتطبيق التفكير السببي وهيكلة الأحداث في سرد ولغة سمحت للبشر الأوائل بمشاركة المعلومات مع بعضهم البعض. أتاح سرد القصص في وقت مبكر فرصة للتعرف على الأخطار والأعراف الاجتماعية، مع الترفيه عن المستمعين أيضاً.

في المنطقة العربية يُعتبر الأدب الذي أُنتج في العصر الجاهلي أقدم العصور الأدبية ـ عصر ما قبل الإسلام ـ وهو فن الشعر والنثر وكان ينتشر شفهياً بين الناس عبر الذين حفظوا الشعر من الشعراء، إلى أن جاء عصر التدوين بظهور جماعة "الرواة" وكان من أشهرهم "حماد بن سلمة" و"خلف الأحمر" و"أبو عمر بن العلاء" و"الأصمعي". موطن هذا الأدب الجزيرة العربية التي كانت ميداناً للصراعات والغزوات بين القبائل التي ارتبطت فيما بينها اجتماعياً وتجارياً بعلاقات اقتصادية وسياسية أثرت على الأدب الجاهلي.

مرّت الآداب بأطوار متعددة، من عصر الأدب الشفهي، إلى الورقي، ثم من الأدب التناظري التفاعلي، إلى الأدب الرقمي.

الأدب الشفهي

أو الخطابة أو الأدب الشعبي، هو نوع من الأدب يتم التحدث به، أو سرده، أو غنائه بصورة شفهية عكس ما هو مكتوب. لا يوجد تعريف موحد للأدب الشفهي، حيث استخدم علماء الأنثروبولوجيا أوصافاً مختلفة للأدب الشفهي أو الأدب الشعبي. يشير التصور الواسع إليها على أنها أدبيات تتميز بالنقل الشفهي وغياب أي شكل ثابت عنها. تتضمن هذه الأدبيات الشعر، والنثر، القصص، والأساطير، والتاريخ عبر الأجيال في شكل منطوق.

مجتمعات ما قبل القراءة والكتابة ـ بحكم تعريفها ـ لم يكن لديها أدب مكتوب، ولكنها امتلكت تقاليد شفوية غنية ومتنوعة مثل الملاحم الشعبية، والروايات الشعبية (بما في ذلك الحكايات والخرافات) والدراما الشعبية، والأمثال، والأغاني الشعبية  التي تشكل بشكل فعال الأدب الشفهي. حتى عندما يتم جمعها ونشرها من قبل علماء مثل الفلكلوريين و لا يزال يشار إلى ذلك الأدب ـ في كثير من الأحيان ـ باسم "الأدب الشفهي". تطرح الأنواع المختلفة من الأدب الشفهي تحديات تصنيف للعلماء بسبب الدينامية الثقافية في العصر الرقمي الحديث.

قد تواصل المجتمعات المتعلمة والمتطورة التقاليد الشفهية، لا سيما داخل الأسرة (على سبيل المثال قصص ما قبل النوم) أو الهياكل الاجتماعية غير الرسمية. ويمكن اعتبار سرد الأساطير الحضرية مثالاً على الأدب الشفهي، كما يمكن اعتبار النكات من الأدب الشفهي أيضاً.

تشكل الآداب الشفهية بشكل عام مكوناً أساسياً للثقافة، ولكنها تعمل بطرق عديدة كما قد يتوقع المرء أن يفعل الأدب. يظل الأدب الشفهي أكثر شيوعاً من الكتابة الأكاديمية والشعبية.

فالآداب الشفهية تعني شيئًا يتم تمريره من خلال الكلمة المنطوقة، ولأنها تستند إلى اللغة المنطوقة فإنها تنبض بالحياة فقط في مجتمع حي متجدد. وعندما تتلاشى حياة المجتمع تفقد الشفهية وظيفتها وتموت. فهي تحتاج إلى أشخاص في بيئة اجتماعية حية، لأنها تحتاج إلى الحياة نفسها لتظل حية وتتجدد.

الأدب المكتوب

بدأ تاريخ الكتابة بشكل مستقل في أجزاء مختلفة من العالم، في بلاد ما بين النهرين حوالي 3200 قبل الميلاد، وفي الصين القديمة حوالي 1250 قبل الميلاد، وفي أمريكا الوسطى حوالي 650 قبل الميلاد.

الأدب السومري هو أقدم أدب معروف، كتب في سومر. لم يتم تحديد أنواع الأدب بوضوح، وتضمنت جميع الأدب السومري جوانب شعرية. توضح القصائد السومرية العناصر الأساسية للشعر، بما في ذلك الخطوط والصور والمجاز. تم دمج البشر والآلهة والحيوانات المتكلمة والأشياء الجامدة كشخصيات. وتم دمج كل من التشويق والفكاهة في القصص السومرية.

تمت مشاركة هذه القصص شفهياً في المقام الأول، على الرغم من تسجيلها أيضاً من قبل الكتبة. ارتبطت بعض الأعمال بآلات موسيقية أو سياقات معينة وربما تم أداؤها في أماكن محددة.

أثر الثورات الصناعية على الآداب

تأثرت الآداب بشكل كبير بالثورات الصناعية الأولى، والثانية، والثالثة، والرابعة. خلال الفترة الفيكتورية، حفزت الثورة الصناعية عملية تغيير اجتماعية وسياسية واقتصادية ضخمة. قام الكتاب الذين اجتذبهم هذا التحول بإنتاج مجموعة كبيرة من المقالات، والروايات، والقصائد، والمسرحيات، والسير الذاتية، والإنتاج الصحفي. حاول الكثيرون معالجة ثقافة الآلة كقوة اجتماعية ملحّة وموضوعا أدبياً، خاصة خلال ذروة الخيال الصناعي الواقعي والنقد الاجتماعي من ثلاثينيات إلى خمسينيات القرن التاسع عشر. بينما أنتج آخرون مثل "تشارلز ديكنز" Charles Dickens انتقادات اجتماعية مثيرة لاستغلال الطبقة العاملة.

شهد الأدب الإنجليزي والفرنسي في القرن الثامن عشر تغييرات هائلة على مستوى الموضوع، والأسلوب، والمظهر. أدى النمو الاقتصادي والتقدم التكنولوجي الهائل إلى تغييرات داخلية في بنية المجتمعات الغربية التي ازدهرت، مما مكّن الآداب أن تتطور تتغير.

خلال عصر الثورة الصناعية الثانية في الفترة ما بين 1871 و1914 حذر بعض الروائيين من العواقب المرتبطة بالتخلي عن العاطفة البشرية واعتماد طريقة الآلة. تساءل شعراء مثل "ويليام وردزورث" William Wordsworthعن المكان الذي ينتمي إليه الفنان الاستبطاني في مطالعة النفس والتأمل الباطني في وقت يُعرف باسم العصر الميكانيكي. بالتأكيد مثلما سعى محرك واتس البخاري إلى إعادة تعريف توقعات المجتمع الصناعي، بحث الأدباء البريطانيون عن منظور جديد داخل الرومانسية يفسر التبديل بين تقدير الإنسان والاعتماد الجديد على الآلة.

أعرب معظم المفكرين والمؤلفين في إنجلترا عن اهتمام مبكر بعقلانية العلم ودقته. لكن سرعان ما تغير هذا عندما نظر الرومانسيون إلى تطور الآلة هذا باعتباره تهديداً للفرد. في مقدمة الإصدار الثاني من الأغاني الغنائية  أعلن "وردزورث" أنه مع اقتراب التكنولوجيا من كونها في طليعة الثقافة، يتحول العقل إلى "حالة من السبات شبه الوحشي" وبالمثل  قدم "ديكنز هارد تايمز" Dickens Hard Times للقارئ صورة صالحة للغاية للمدن الصناعية التي تظهر كأراضي قاحلة تسكنها الطبقة العاملة. جميع هذه التحولات الهامة في بنية المجتمعات ودرجة تطورها انعكست في الآداب والفنون: الشعر، والنثر، والقصة، والرواية، والمسرح، والتلفزيون، والسينما.

ما هي الرقمنة؟

الرقمنة هي عملية تحويل المعلومات إلى تنسيق رقمي (أي يمكن قراءته بواسطة الحاسوب). والنتيجة هي تمثيل كائن، أو صورة، أو صوت، أو مستند، أو إشارة (عادةً إشارة تناظرية) يتم الحصول عليها عن طريق توليد سلسلة من الأرقام التي تصف مجموعة منفصلة من النقاط أو العينات. تسمى النتيجة التمثيل الرقمي، أو بشكل أكثر تحديداً صورة رقمية للكائن والشكل الرقمي للإشارة. تكون البيانات الرقمية في الممارسة الحديثة  في شكل أرقام ثنائية، مما يسهل المعالجة بواسطة أجهزة الحاسوب الرقمية والعمليات الأخرى، ولكن الرقمنة تعني ببساطة "تحويل مادة المصدر التناظرية إلى تنسيق رقمي" ويمكن استخدام النظام العشري أو أي نظام رقمي آخر بدلاً منه.

تعتبر الرقمنة ذات أهمية حاسمة في معالجة البيانات وتخزينها ونقلها، لأنها تسمح بنقل المعلومات من جميع الأنواع في جميع التنسيقات بنفس الكفاءة وكذلك البيانات المختلطة.

لديها القدرة على المشاركة والوصول إليها بسهولة أكبر، ومن الناحية النظرية  يمكن نشرها إلى أجل غير مسمى دون فقدان التوليد، شريطة أن يتم ترحيلها إلى تنسيقات جديدة ومستقرة حسب الحاجة. وقد أدت هذه الإمكانات إلى مشاريع الرقمنة المؤسسية المصممة لتحسين الوصول والنمو السريع في مجال الحفظ الرقمي.

تتعلق الرقمنة عموماً بالاقتراب من التحول إلى مكان عمل رقمي ومواجهة التحول الرقمي. علاوة على ذلك، يتعلق الأمر بإنشاء مصادر رقمية جديدة للدخل في هذه العملية. غالباً ما يشار إلى الرقمنة باسم التحول الرقمي أيضاً.

أصبحت الرقمنة الكلمة الطنانة الكبيرة. حديث عن ضرورة رقمنة الشركات، والمؤسسات، والدوائر الحكومية، وأن القطاع العام يجب أن يصبح رقمياً، لكن ماذا يعني هذا حقاً؟

إذا نظرنا إلى الشركات، فإن كلمة الرقمنة تشير في الغالب إلى تحسين، أو تغيير العمليات، أو الوظائف، أو الأنشطة التجارية الحالية للشركة، باستخدام التقنيات الرقمية، أو البيانات الرقمية.

يمكن القول إن البيانات هي الكلمة الأساسية، حيث إنها بالتحديد البيانات التي تحاول تكوينها من خلال المعلومات الرقمية. يمكن أن يكون على سبيل المثال، نظاماً يمنح الشركة نظرة ثاقبة لمشاركة العملاء، حيث يمكن للشركة بالتالي استخدام البيانات الموجودة في عملياتها التجارية.

لذلك فإن الأمر يتعلق بالبحث في المبادرات الرقمية المستهدفة التي يمكن أن تساعد في رفع مستوى الشركة أو دعمها. قد يكون من الصعب على الشركة تغيير عملياتها الأساسية، ولكن غالبًا ما يكون من الضروري مواكبة العصر.

أحيانًا يتم الخلط بين الرقمنة والحفظ الرقمي على أنهما شيء واحد. إنهما شيئان مختلفان، لكن الرقمنة غالباً ما تكون خطوة أولى حيوية في الحفظ الرقمي. تقوم المكتبات ودور المحفوظات والمتاحف ومؤسسات الذاكرة الأخرى برقمنة العناصر للحفاظ على المواد الهشة وإنشاء المزيد من نقاط الوصول للمستفيدين. يؤدي القيام بذلك إلى خلق تحديات أمام المتخصصين في مجال المعلومات. ويمكن أن تكون الحلول متنوعة مثل المؤسسات التي تنفذها. تقترب بعض المواد التناظرية مثل أشرطة الصوت والفيديو، من نهاية دورة حياتها، ومن المهم رقمنتها قبل تقادم المعدات وتدهور الوسائط مما يجعل البيانات غير قابلة للاسترداد.

تعد رقمنة الكتب، والصور، والأفلام، والشرائح، طريقة شائعة للحفاظ على الوسائط المتعددة. يمكن لرقمنة الأشرطة التناظرية قبل أن تتحلل ـ أو بعد حدوث الضرر بالفعل ـ أن تنقذ النسخ الوحيدة من الموسيقى الثقافية المحلية والتقليدية للأجيال القادمة للدراسة والاستمتاع بها.

يمكن أن توفر الرقمنة وسيلة للحفاظ على محتوى المواد عن طريق إنشاء صورة طبق الأصل للعنصر يمكن الوصول إليها من أجل تقليل الضغط على الأصول الهشة بالفعل. بالنسبة للأصوات، فإن رقمنة التسجيلات التناظرية القديمة هي تأمين أساسي ضد التقادم التكنولوجي.

تتم معالجة مشكلة الكتب الهشة السائدة التي تواجه المكتبات في جميع أنحاء العالم من خلال حل رقمي لحفظ الكتب على المدى الطويل. منذ منتصف القرن التاسع عشر كانت الكتب تُطبع على ورق من لب الخشب، والذي يتحول إلى حامضي عندما يتحلل. قد يتطور التدهور إلى النقطة التي يصبح فيها الكتاب غير قابل للاستخدام تماماً. من الناحية النظرية، إذا لم تتم معالجة هذه العناوين المتداولة على نطاق واسع بعمليات إزالة الحموضة، فستفقد المواد الموجودة على تلك الصفحات الحمضية. مع تطور التكنولوجيا الرقمية، يزداد تفضيلها كطريقة لحفظ هذه المواد. ويرجع ذلك أساساً إلى أنها يمكن أن توفر نقاط وصول أسهل وتقليل الحاجة إلى مساحة التخزين المادية بشكل كبير.

الأدب الرقمي

خرج الأدب من تنسيق الكتاب الكلاسيكي وهو متاح اليوم على كل من الحاسوب وجهاز iPad والهاتف المحمول. بمعنى آخر، أصبح الأدب رقمياً، لكن ماذا يعني ذلك حقاً؟

الأدب الرقمي هو أدب متعدد الوسائط. أي أن السرد يستخدم وسائط مختلفة، مثل النص، والرمز، والصوت، والصور، والفيديو. غالباً ما يكون هناك أسلوب مرح واستكشافي لاستكشاف عمل ما، حيث يتم تشغيل العديد من الوسائط معاً. يخلق التقاء الأدب والإمكانيات التكنولوجية أنواعاً وأشكالاً جديدة تماماً للقراءة. وبصفتك قارئاً، فأنت ملاّح ويمكنك غالباً التفاعل مع السرد، تماماً كما يؤثر اختلاط النص والصوت والصور على الحواس وتجربة القراءة بطرق مختلفة. إن الأعمال الأدبية الرقمية ليست خطية. وبصفتك قارئاً ملاحاً، يمكنك التنقل بين وسائط مختلفة.

الأدب الرقمي شيء يتجاوز حدود ممارساتنا الثقافية وقراءتنا، إنه يتحدانا، ويحفزنا على الانفتاح عقلياً، ويمارس سلطة على فهمنا لما هو الأدب. إنها تجربة قراءة مختلفة عما اعتدنا عليه.

الأدب الرقمي ليس كتباً إلكترونية. عادةً ما يكون الكتاب الإلكتروني نصاً تقليدياً - كما هو الحال في كتاب يحتوي على صفحات ورقية - يتم نشره للتو في شكل إلكتروني. يمكن من حيث المبدأ طباعته وقراءته. لا يمكن القيام بذلك مع الأدب الرقمي دون فقدان المحتوى وفهم العمل.

لقراءة الأدب الرقمي، نجد أعمالاً مختارة منه على موقع الويب، والبعض الآخر يطلب منك تنزيل تطبيق لهاتفك المحمول أو جهازك اللوحي. تتنوع الأعمال على نطاق واسع في شكل التعبير والنوع والطريقة التي تتفاعل بها. بعض الأعمال أكثر تقليدية، بينما يتحدى البعض الآخر فهمك للأدب.

القاسم المشترك بين مؤلفي الأدب الرقمي هو أن المؤلفين يريدون تجربة أشكال الأدب واللعب بها. إذا كنت تريد أن ترى ما يمكن أن يفعله الأدب الرقمي، فمن المستحسن أن تغوص في أكثر من عمل، لأن أشكال التعبير مختلفة تماماً.

من المهم ملاحظة أن الأدب الرقمي هو الأدب الذي يعمل مع المنصات الرقمية التي نتحرك فيها جميعاً، ويعلق عليها ويستخدمها. وبالتالي فإن الأدب الرقمي لا علاقة له بالكتب الإلكترونية - على الأقل ليست الكتب الإلكترونية التي تُفهم على أنها كتاب مطبوع يتم نقله مباشرة إلى تنسيق الكتاب الإلكتروني.

ماذا يحدث للأدب عندما يتم رقمنة البيئة؟

لماذا يصر بعض المؤلفين على الكتابة بخط اليد، ويصر البعض على استخدام آلة كاتبة، بينما يعتقد آخرون أن الحاسوب يمنح الحرية؟ وماذا عن الأدب الذي لا يمكن قراءته إلا على الشاشة؟

تميل المناقشات حول الأدب والرقمنة إلى أن تصبح شديدة الاستقطاب. هل مات الكتاب الورقي؟ هل ما زلنا نفكر في أفكار عميقة ومتماسكة عندما يبدو أن التكنولوجيا تشير إلى عكس ذلك؟ أم أن التكنولوجيا الرقمية تفتح إمكانيات غير متخيلة لتوصيل الأدب وتجربته؟

ينشغل عدد من الباحثين حول العالم بكيفية وضع التطور الرقمي حسب الموضوع في الأدب المعاصر، وكيف تتشكل أشكال التعبير الأدبية من خلال تقنيات الكتابة والقراءة الجديدة، وفحص ما إذا كانت عمليات التغيير التكنولوجي تساعد في تغيير مفاهيم مثل "المؤلف" و "القارئ" و "الكتاب" و "النص الأدبي".

لا يمكن عكس التطور التكنولوجي. في "الأدب في عصر رقمي"، يتم رسم صورة متوازنة ومعقدة لتأثيرات الرقمنة على الأدب - واستكشاف الأدب للرقمية - دون تنبؤات متشائمة حول موت الكتاب الورقي، أو تفتت وتحلل الأدب أو تدهوره.

لربط النصوص معاً

كانت الروابط التشعبية والارتباطات التشعبية هي بداية الأدب الرقمي، ومنذ أواخر الثمانينيات بدأ الناس في الخارج يتحدثون عن خيال النص التشعبي. قام الناشر الأمريكي وشركة البرمجيات Eastgate بتطوير برنامج الحاسوب Storyspace  والذي مكن المؤلفين من كتابة قصصهم بنص تشعبي. من بين أفضل الأعمال المعروفة في هذا السياق، عمل أدبي إلكتروني ـ نصر تشعبي ـ للمؤلفة الأمريكية "شيلي جاكسون" Shelly Jackson قصة بعنوان "الفتاة المرقعة" Patchwork Girl.

يجعل الارتباط التشعبي من الممكن تجاوز تدفق النص، وربط النصوص مع بعضها في شبكة. كما يمكن توصيل الصورة والصوت والنص بطرق جديدة. أصبح هذا الشرط الأساسي - وهو أنه يجب على القارئ أيضاً التنقل بنشاط من خلال النقرات أو أي تفاعل آخر - عنصراً مركزياً في الأدب الرقمي منذ ذلك الحين.

على سبيل المثال، الارتباط التشعبي هو جزء مضمّن من بنية السرد في أول رواية iPad وهي للروائية الدنمركية "ميريت بريدز هيل" Merete Pryds Helleبعنوان "جنازة" Begravelsen.  ترتبط هنا قصة الجريمة الرئيسية بقصص جانبية أصغر، والتي يمكن للقارئ تحديدها وإيقافها عن طريق النقر على سلسلة من النعي أثناء السرد.

من قصائد الفلاش إلى التطبيقات الأدبية

"شعر الفلاش" هو اتجاه قوي آخر إلى جانب النص التشعبي. غالبًا ما تُترك في هذا الاتجاه مبادرة أقل للقارئ مقابل تجربة بصرية وجمالية أكثر، يتم تنفيذها في برنامج Flash. ومن هنا جاء الاسم.

الشعر الرقمي له جذور واضحة في تقليد الشعر البصري والشعر الملموس. يتم تحويل الحروف والكلمات والجمل إلى صور مجردة أو دمجها مع الرسوم المتحركة والأصوات في الأعمال الرقمية حيث يرتبط الشكل والمحتوى بقوة.

ومع ذلك، لم يعد الفلاش الأداة المفضلة للشعر الرقمي أو الأدب الرقمي بشكل عام.

مع تطوير الوسائط الرقمية الجديدة، تظهر أشكال جديدة للأدب الرقمي أيضاً. أحدث التطبيقات في هذه السلسلة هي التطبيقات الأدبية التي حلت محل تنسيق الفلاش من نواح كثيرة.

تم تصميم التطبيقات الأدبية لكل من الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية، وأصبح iPad من Apple على وجه الخصوص وسيلة شائعة للتطبيقات الجديدة.

iPad  محبوب الأدب الرقمي

هناك العديد من الاتجاهات في تطبيقات الأدب في الوقت الحالي. تمت إعادة إصدار الأعمال القديمة في إصدارات جديدة وأضيف إليها الكثير من المواد، مثل رواية "على الطريق" On the Road للروائي والشاعر الأمريكي "جاك كيرواك" Jack Kerouac. كان العمل جزءًا من تجربة حيوية أوسع في الفنون الأدبية والموسيقية والبصرية الأمريكية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.

يستخدم الكتاب الآخرون الشكل الجديد لإنشاء المزيد من الأعمال الأدبية التجريبية. على سبيل المثال "يورغ بيرينجر" Jörg Piringer  الذي يتكون عمله الحائز على جائزة

من الأحرف الأبجدية والتي يمكن للمستخدم من تحريك الشاشة ـ من خلال تحريك جهاز iPadـ أثناء إصدار أصوات مختلفة.

يقدم iPad إمكانيات تقنية جديدة للأدب الرقمي. يسهّل سطحه المرئي وشاشته الحساسة للضغط تفاعل المستخدم، في حين أن حجمه يجعل التعامل معه أيسر من الحاسوب. من ناحية أخرى، تمثل الوسائط الجديدة تحدياً أيضاً حيث يتم باستمرار إطلاق تحديثات جديدة أو أنظمة جديدة تماماً، لتحل محل الإصدارات السابقة. لذلك من الضروري صيانة وتحديث التطبيقات الأدبية التي يتم نشرها لضمان بقائها قابلة للاستخدام في الوسائط الجديدة.

الأدب الرقمي أدب المستقبل

مع انتشار الوسائط الرقمية بشكل متزايد، سيصبح الوصول إلى الأدب الرقمي في متناول الجميع أكثر وأكثر. لم تعد أجهزة الحاسوب والأجهزة اللوحية وسائط أجنبية بالنسبة لنا. بل على العكس تماماً، أصبح استخدام القراء للوسائط أمراً مألوفا، تتيح لهم التجول بين/ حول العديد من المنصات الرقمية بسهولة وأناقة.

مثلما ساعدت الوسائط الرقمية في دفع تطور الأدب الرقمي، فإنها تعمل أيضاً على تعزيز إدراكنا للأدب. مع الروايات التفاعلية الجديدة، أصبحنا نستخدم للأدب بدلاً من قراءته، كما يجب أن يعتاد المؤلفون اكتساب القدرة والمهارة على سرد القصص بأكثر من النص وحده.

كانت الأعمال الأولى التي خرجت من الأدب الرقمي تجريبية للغاية، لكن اليوم يبدو أن الأدب الرقمي يجد جاذبية أوسع مع تطوير التطبيقات الأدبية لجميع الأذواق.

أظهرت دراسة أجراها اتحاد الناشرين الدنمركيين أن صناعة الكتب في الدنمرك قد حققت نمواً لافتاً خلال أزمة كورونا. بينما تم إغلاق المكتبات ودور السينما والمسارح والمتاحف، ارتفعت مبيعات الكتب بشكل مضطرد. فقد زادت مبيعات الكتب عام 2020 وعام 2021 بنسبة 15.6% وذلك عبر التجارة الالكترونية التي زادت في تلك الفترة بنسبة24.2%  .

إذا نظرنا إلى التنسيقات التي اختارها الدنماركيون لقراءتها أثناء أزمة كورونا، سنلاحظ أن التنسيقات الرقمية مثل الكتب الإلكترونية وخاصة الكتب الصوتية زادت مبيعاتها بنسبة %57.8 وبالتالي تبدو وكأنها ستشكل أدب المستقبل.

التحول الرقمي في الدنمرك سيغيّر صناعة النشر وتصوراتنا للكتب إلى الأبد. بالنسبة للمستقبل ستكون الكتب إلى حد كبير كتباً مسموعة على الرغم من هيمنة الكتاب المطبوع على السوق للآن. في نفس الوقت الذي تحصل فيه طفرات حاسمة في عادات القراء الدنمركيين لصالح الأدب الرقمي والكتب الصوتية لا يزال ثلاثة من بين كل أربعة من عشاق الكتب يختارون الكتاب الورقي عند القراءة.

***

د. حسن العاصي

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

يطل علينا الأديب الأسير كميل أو حنيش  بروايته مريم مريام  بما تحمله من إربكات وطروحات فكرية وسياسية اقل ما يقال فيها أنّها مثيرة للجدل. حاول الكاتب من خلالها التعرض لمسائل اللجوء والنكبة والحلول المقترحة او المتخيّلة لحل معضلة الشعب الفلسطيني وذهب أبعد من ذلك إلى حد طرح تساؤل حول إمكانية او قابلية التعايش المشترك بين الشعبين او بين العرب واليهود.

ينطلق الكاتب في روايته من بلدة صفُّوريّة التي تعرضت للقصف بالطائرات وتم تهجير أهلها بالكامل لجأ البعض منهم إلى شمال الناصرة وأقاموا في حيّ خاص بهم عرف بحي الصفافرة.

الرواية تعتمد أساسا على مريمتين  مريم الفلسطينية العربية ومريام اليهودية الأوروبية، وقد عمد الكاتب ولسبب ما  إلى إبراز أوجه التشابه في العذابات والمعاناة لكل منهما،. مريم العربية عاشت أحداث النكبة وشهدت على دمار بلدتها صفُّوريّة  وقصفها بالطائرات وتهجير أهلها، وكذلك مريام اليهودية شهدت أحداث المحرقة وأسهبت في وصفها وما لاقاه اليهود من عمليات تصفية في معسكر أوشفيتز النازي، وكما أنّ مريم العربية قتل زوجها محمود على أيدي العصابات الصهيونية ،كذلك فإن مريام فقدت زوجها آدم قتيلا في مواجهة الفدائيين الفلسطينيين، هذا التشابه ولو بشكل نسبي بين مأساة كل منهما كأن المُراد منه الولوج إلى فكرة التسامح والتلاقي لذا كان المدخل لهذا الطرح هو الزواج الذي حصل بين إلياس ابن مريّم العربية وبين شلوميت ابنة مريام اليهودية وكان من ثمرة هذا الزواج ولادة ابنهما  ابراهيم أو أبرا . ولكن يجب أن لا يغيب عن بالنا أنّه رغم التشابه الظاهر في ظروف هاتين المرأتين إلاّ أن هناك  فرقا كبيرا بين ما انتهت إليه الأمور، فمريم العربيّة تحولت من مواطنة إلى لاجئة في بلدها غائبة حاضرة كما يقال، في حين أنّ مريام تحولت من شريدة أوروبية إلى مستوطنة ومغتصبة لبيت مريم في فلسطين.

بالعودة إلى زواج الياس وشلوميت  والذي اعتبر بمثابة الحل وجسر التواصل وبداية التصالح بين الشعبين، فإنّ هذا الزواج برمزيته  يشكل حلا فرديا ولا يمكن التعويل عليه بالرغم من الإيحاءات السياسية التي حملها لكنه أثبت عدم جدواه وعدم قابليته ليكون الحل المنشود بدليل انهما عاشا في عزلة تامة عن الجميع ولم يلتفتا إلى ما يجري من تطورات سياسية  واكثر من ذلك أنجبا ابراهيم الذي عاش طفولة معطوبة تملأها التشوهات ويعوزها الإنتساب الحقيقي، وعانى طويلا من عقدة تعدد الهويات.فالبعض من أفراد أسرته بشقيَّها العربي واليهودي يعمل على تعريبه والبعض الآخر يجهد على تهويده.

لقد أبدع الكاتب في وصف المكان وخاصة بلدة صفُّوريَّة التي هي أجمل مكان في العالم، وتتربَّعُ فوق سفح جبلٍ، تلالها مكتظَّة بأشجار السَّرو والصنوبر والبلُّوط والتين والزيتون. تطالعك الناصرة من جهة الجنوب ومن الشمال تجد ديرٌ للقدِّيسة حنَّا وفي رأس البلدة تشمخ قرية ظاهر العمر. وكذلك عين الماء وشجرة التين العسالي والتي هي برأيي إحدى شخصيات الرواية.كما يذكرنا الكاتب  ببعض ما تجود به البراري والجبال مثل الزعرور، التوت البرِّي، الزعتر، النرجس والحُميّض وغيرها من النباتات والأزهار.

تطرح الرواية فكرة الانتماء الإنساني وتقدّمُه على بقية الإنتماءات المتعددة كما قال عيسى أبو سريع : "إنّ الانتماءات العرقيَّة والدينيّة والقوميّة والطائفيّة ليست هي الاساس،إنّها انتماءات زائفة  متخيَّلة وتحجب الهويّة الإنسانيَّة المشتركة للبشر، أمَّا الانتماء الإنساني فهو الانتماء الأرقى والأعمق والأكثر صدقاً وانسجاماً مع النفس البشريَّة".

انطلاقا من هذه النظرة حول البعد الانساني وسموه، يمكن اعتبارالهوية بأنّها انتماء إنساني وأخلاقي ووجداني قبل كل شيء، أمّا الوطن فهو المسألة الثقافية والأخلاقية وهو الانحياز للهويّة الإنسانيَّة وللحب والعدل،وكما يقول تشي غيفارا "أينما وُجد الظلم فذاك موطني".

هذه النظرة الإنسانية والدعوة إلى الانتماء الإنساني تبدو في جوهرها دعوة راقية تستحق التوقف عندها، ولكن يبقى السؤال هل يستطيع الإسرائيلي أن يرتقي إلى هذه الدعوة وأن يتخلى عن عنصريته وجبروته ويعود إلى إنسانيته المفقودة، ويتوقف عن إقتلاع البشر والحجر من جذورهم وأيضا عن إقتلاع الشجر كما فعل بحناس عندما اقتلع شجرة التين العسالي رغبة منه في قطع كل ذكرى وأمل لمريم بهذه الأرض . الإجابة على هذا السؤال أظنها معروفة سلفا ولكن لا بد من طرحه.

وفي سعيّه لتوضيح الفكرة والعودة إلى الجذور الموحِدة  فقد أحسن الكاتب في اخيار الأسماء وتوظيف معانيها في خدمة تلك الفكرة، مريم ومريام هما في الأصل واحد ويؤديان نفس المعنى الكنعاني القديم  الذي هو  نتيجة زواج الإله مُر بالآلهة يّم فنشأ اسم مريم أو مريام، وأيضا إنّ اعتماد هذين الإسمين في الرواية فيه محاولة ربط غسم مريم بالتوحيد بين الديانات من خلال الإشارة إلى مريم الممتلئة بنعمة الربّ ومباركة ثمرة بطنها يسوع الناصري والتي خصّها القرآن الكريم بسورة من سوره.  وكذلك جاء اختيار اسم ابراهيم وهو ثمرة زواج العربي من اليهودية دلالة أيضا على ان الشعبين يعودان في الأصل إلى جدّ واحد هو نبيينا إبراهيم. ناهيك عن تسمية زوجة الياس بشلوميت بمعنى السلام. كما قدمت الرواية شرحا مفصلا عن تاريخ اليهودية الصحيح وليس كما ورد في إدعاءاتهم.

قدّم لنا الكاتب بعضا من الحلول المطروحة سابقاً  وحاليا لحل القضية، ومنها ما طرحته مريام على مريم بأن تعيد لها بيتها او تمنحها التعويض الملائم، هذا الطرح أقل ما يقال فيه أنّه طرح مفخخ وهو إشارة بشكل أو بآخر إلى ما طُرح ويُطرح في بعض المنتديات بمعنى عودة مجتزأة ومنقوصة لبعض من تم تهجيرهم وتقطيع لأواصر النسيج الفلسطيني بحيث يعود الأصل وتمنع العودة على الفروع الذين سيبقون في أرض الشتات والمخيمات. لهذا كان رفض مريم لهذا الطرح حاسما جازماً.

واضح للجميع أنّ الرواية تتحدث عن أجيال ثلاثة، جيل مريم ومريام وجيل الياس وشلوميت وأخيرا جيل ابراهيم وعنّات.

لو أردنا التوغل في تحليل شخصيات هذه الأجيال ومن الجانب الفلسطيني تحديدا نجد ان جيل الأجداد المتمثل بالجدَّة مريّم، هو الجيل الأكثر إخلاصاً والتصاقاً بالأرض والقضية، تحدثنا الرواية كيف أن مريم جمعت ما في حوزتها من حليّ ذهبيَّة ووضعتُها في كفّ محمود، وقالت له بحسم: بِعْها واشترِ بثمنها بارودة. وهنا يبرز دور المرأة الفلسطينية المجاهدة والمُضَحيّة بكل ما تملك في سبيل العزة والكرامة، وأيضا تُبرز الرواية تعلق هذا الجيل جيل مريم بحق العودة والأمل بتحقيق هذا الحلم، لذا كان ما يشبه البروفة للعودة تمثلت في رحلة الربيع التي أقامتها مريم مع بقية النسوة للإطلالة على مشارف وتلال صفُّوريّة وعادت من هناك بشتلة من شجرة التين العسالي لتزرعها في احواض الزرع في حي الصفافرة لتبقى الشاهد والشهيد على بقاء القضية حيّة في الوجدان. بالرغم من الفارق الكبير بين هذه الشتلة وتلك التينة، فهذه التينة هي الأصل  أمّا هذه الشتلة فهي الفرع ، التينة عنوان صمود لا تنفك تقاوم أمّا الشتلة فهي عنوان استسلام ولاجئة في حوض الزرع في حي الصفافرة كبقية اللاجئين.

أيضا فإن الجدّة مريّم تمتعت بمنسوب عالٍ من الوعيّ والثقافة السياسية لمدوامتها على تتبع نشرات الأخبار، وهي التي أصرّت على المشاركة في المظاهرات المنددة بالاحتلال ولم تنخدع يوما بالسلام المزعوم الذي أنتجته معاهدة أوسلو وكان تعليقها الأشد بلاغة وإيلاما: "اليوم فقط أدرك أنّي لن أعود إطلاقاً إلى صفُّوريّة؛ لقد تهاوى الحلم الكبير بعد أن أصبحت فلسطين هي الضفَّة وغزَّة فقط وهذا يعني أنَّنا بتنا خارج الحسابات.". وكانت مؤمنة بمقولة ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة وبأن بالعودة الى البلدات والبيوت تحتاج إلى حرب.

ولإثبات أحقيتها بهذه الأرض وبأن مريام مجرد طارئة ودخيلة على فلسطين جاءت من أقاصي الدنيا لتحتلَّ مكان مريم  وتقيم سعادتها فوق حطامها وحطام أهلها تطلب مريم من  حفيدها إبراهيم أن يسأل جدّته اليهودية مريام هل جرَّبت أن تقيم علاقة مع الطبيعة من حولها؟ هل تعرف ما ينبت في جبال القريّة؟ وهل باستطاعتها أن تسمّي نوعاً واحداً من أنواع النباتات والأشجار البريَّة؟.

وفيما يشبه إحدى سيناريوهات المفاوضات التي تصل دائما إلى الطريق المسدود، تبرز الرواية ما قام به ابراهيم من نقل رسائل تفاوضية بين جدتيّه العربية واليهودية للتوصل إلى نوع من التسامح والغفران والتعايش المشترك وفي هذا الشأن تسأل مريم ماذا خسرت مريام بسببي لكي تسامحني او تغفر لي ؟ ستقول لي إنّها خسرت زوجاً كان يقاتل الفدائيين الذين هجَّرهم من ديارهم؟ هل نحن من قتلنا أهلها وتسببنا في المحرقة؟ وهل هي على استعداد أن تخلي مكانها وتعيد لي بيتي مقابل التسامح والغفران؟. ليأتيها الجواب بلسان مريام  معترفة بأحقية مريم بالبيت ولكن أين سأذهب بعد ذلك، هل أغادر بيتي لأغدو لاجئة، وبمنطق المنتصر المتعجرف تقول إنّها الحرب، والعرب هم من اختاروا الحرب فليتحملوا نتائجها، والمنتصر هو من يقرر مصير المهزوم.

الجيل الثاني الذي تحدثت عنه الرواية وهو جيل الأبناء وقد برزت منه فئة تدعو للتعايش والتسامح ونبذ الخلافات تمثل بكل من الياس وزوجته شلوميت، فئة يمكن القول عنها أنّها ارتضت الأمر الواقع والتطبيع الكامل ونأت بنفسها عن كل الصراعات السياسية والإيدلوجية دون أن تبذل أي مجهود او تطالب بحق.

أمّا الجيل الثالث فهو جيل الأحفاد، ومنه كان ابراهيم أو أبرا ضائعا بين انتمائين وهويتين عربية ويهودية  وفي هذا إشارة ولو خفية إلى المخاطر التي تهدد الهوية الحقيقية للشعب الفلسطيني إذا ما جرى التمادي او التغاضي عن الخصوصيات الضامنة لهذه الهوية.

ختاما نقول هذه الرواية رواية سياسية وفكرية بامتياز حاولت البحث عن حل لمسألة الصراع القائم والأمل بمجيء يوم تستعاد فيه الحقوق والأرض، يوما يراه المحتل بعيدا ونراه قريباً بهمّة  وسواعد الأبطال والمجاهدين.

***

عفيف قاووق – لبنان.

رواية البلدة الاخرى للروائي العربي المصري، ابراهيم عبد المجيد؛ رواية محملة بالكثير من الاسئلة عن الواقع العربي الذي كان في ذلك الوقت؛ يتجه الى، أو بداية الطريق الى هاوية التمزق والتشتت والتشظي. كما انها تحمل بين كلماتها التي رسمت مصائر اباطلها، وبطلها المركزي او شخصيتها المركزية، الذي عاين واقعيا وحياتيا؛ ابطال الرواية بعين الفاحص والمتشارك معهم في هذه المصائر. إنما بصورة حيوية، أو ان السارد الماهر بل هو البارع تجليا في هذا السرد؛ أذ، لم تكن هذه الاسئلة والاشارات، والرموز المضمرة بين ثنايا السرد، مباشرة ابدا، بل انها قالت ما قالته من خلال واقع معيش لأبطالها الذين تمحور نشاطاتهم واعمالهم حول عمل ونشاط البطل المركزي الا وهو؛ اسماعيل؛ في واقع مرير والاشد منه مرارة هو واقع الحياة التي تركوه واراءهم، وظل يطاردهم في غربتهم. الزمن الروائي في اواخر عام 1979، وهو العام الذي شهد ثلاث احداث بارزة استراتيجيا، والتي سوف لاحقا، بعد عدة سنوات؛ تلعب دورا محوريا تماما في تغيير الواقع العربي نحو ما هو معيش في الوقت الحاضر؛ اي ان الرواية كانت قد تنبأت بما هو حاصل الآن في الواقع العربي، من غير ان تقول هذا الاستقراء بوضوح اي بصورة مباشرة وفي الوقت ذاته قالته بوضوح تام؛ عبر مصائر الابطال والمصير الذي ينتظر الشخصية المركزية؛ كل هذا كان التعرف عليه، او على هذه المصائر من خلال حياة هذه الشخصيات التي تبحث في الغربة والاغتراب عن حياة حرة وكريمة ولو بعد حين.. ان هذه الاحداث ذات الابعاد الاستراتيجية؛ هي الثورة في ايران التي اطاحت بنظام الشاه، والغزو الروسي او غزو الاتحاد السوفيتي لأفغانستان، وتوقيع اتفاقيات كامب ديفيد بين بجين والسادات ونكسون." ينتهي الارسال التلفزيوني، وادخل حجرتي اقلب في الصحف والمجلات التي يشتريها سعيد ووجيه، ويتركانها في المطبخ بعد قراءتها. كل الصحف تتحدث عن السادات وتلعنه، وحملت المجلات عنوانا يقول: الا من رصاصة تزف الى رأس الخائن؟! فوق العنوان صورة للسادات في البدلة العسكرية الالمانية وفي فمه البايب الشهير." - انك تكره السادات. أليس كذلك مستر اسماعيل؟ - ذلك واجب مستمر اسماعيل، واجب ان نكرههم جميعا. إنني اعرف كثيرا عن مصر. عن مظاهرات يناير العام الماضي. مظاهرات الفقراء في باكستان نحتاج مثلها لكن العسكريين اغبياء يطلقون الرصاص على الناس. انهم جميعا ضدنا مستر اسماعيل. كل هؤلاء الرؤساء ضدنا. أننا بحق تعساء جدا." ارشد الباكستاني، يعمل ميكانيكيا في ورشة الشركة؛ هو الشخصية هنا، في هذا الحوار بينه وبين اسماعيل المصري المسؤول عن توقيت حضور عمال الشركة وتوقيت انصرافهم يدون كل ذلك في سجل، بالإضافة الى قيامه بالترجمة للتقارير الفنية التي يتم ارسالها إليه من قبل الامريكيون الذين يقومون بتلك الاعمال. تربطه علاقة صداقة مع اسماعيل، او علاقة ابعد من علاقة العمل. اسماعيل يشتاق له كثيرا حين يتأخر في الحضور إليه، يوم او يومين، ليس من اجل التوقيع على الحضور والانصراف، إنما شكل اخر خارج علاقة العمل. في عام 1979؛ شهدت باكستان تحولات بالضد من الديمقراطية، فقد تم الاطاحة ببوتو المنتخب ديمقراطيا، واودع السجن، بقيادة ضياء الحق، احد قادة الجيش؛ بعد الغزو الروسي لأفغانستان؛ تم لاحقا، بعد فترة وجيزة، من اعتقاله؛ اصدار حكم بالإعدام عليه. كان اعدام بوتو الشغل الشاغل لأرشد الباكستاني. ان الانظمة الاستبدادية ومنها نظام ضياء الحق؛ تطارد شعوبهم حتى وهم في غربتهم سعيا وراء تحسين اوضاعهم المعاشية، وظروف حياتهم. يتحملون الاغتراب عندما تضيق بهم ظروف الحياة وانعدام فرص العمل والحياة الكريمة في بلدانهم. يعود الباكستانيون بعد انقضاء اجازاتهم، لم يعد ارشد معهم. يفتقده اسماعيل. يسألهم عنه. يكون الجواب الذي يسمعه اسماعيل منهم؛ مؤلما، ومسببا، المزيد من الحزن والأسى على المصير الذي، ربما ينتظره. يقول الباكستانيون عندما سألهم عنه: لقد تم اعتقاله حين نزل من الطائرة، من قوات الامن. يقولون انه متهم بمساعدة المعارضة، ماليا، وان المعارضة قد ارسلتهم، هو وغيره الكثير، الى دول الخليج العربي؛ اولا كي ينقذونهم من السجن وثانيا لجمع اموال من العمل في السعودية وبقية دول الخليج العربي لصالح المعارضة. لم يقل شيئا، ظل صامتا، إنما داخله كان يمور بالألم والحزن والغضب. تحضر امامه؛ مظاهرات الطلاب، عندما كان في حينها، طالبا جامعيا، في السنوات الاولى لعهد السادات، وكيف يتم اطلاق الرصاص عليهم لتفريقهم، وزج البعض منهم في المعتقلات. يتحرك من مقر الشركة بسيارته التي كان قبل اشهر قد علمه ارشد قيادتها. يقودها بطيش او بغضب استمر دفينا داخل نفسه، لم يبح به لأحد. لكنه تفجر او انه هو من فجره بقيادة سيارته بجنون، في شوارع تبوك وفي دروبها الخلفية، لا يلوي على شيء، ولا هدف له، فقط ان يقودها بسرعة فائقة. تعترضه سيارة اخرى، حين حاول التخلص منها، لم يتمكن، ولم يسيطر عليها، تقذفه السيارة والاصطدام الى النهر الثاني للطريق. ينجو بأعجوبة. تفاجيء ان من صدمه، صالح صاحب الدار المؤجرة لهم من قبله. هو الطالب الذي رفض اسماعيل تدريسه من المحاضرة الاولي، لا يريد ان يدرس، يريد النجاح بلا دراسة، عبر رشوة المدرسين العرب والاجانب. تتخلل كتلة النص الروائي تداعيات تشحن بالمعاني جسد النص. حين يفتح عينيه في المستشفى؛ تحط عيناه على وجه عايدة الممرضة المصرية، واقفه الى جانب الدكتور وجيه، جراح المستشفى، الذي يسكن معه في الدار. " كنت مارا في الطريق عندما حدث الاصطدام. حسن حظك اوجدني في المكان في تلك اللحظة. صالح صدمك قاصدا. بإمكانك مقاضاته؛ بطلب التعويض." ثم ينصرفان دكتور وجيه والممرضة عايدة. الممرضة عايدة تثير فيه، أو تحرك فيه الكثير من الاحاسيس، منذ راها ذات ليلة، حين سهر مع الدكتور. يرى انه منجذب إليها بقوة، فيها شيء خفي، حزين ومؤلم هذا الشيء، لكنه لا يعرف ما هو. يخرج بعد يوم واحد من المستشفى، لكنه يدخل إليه، تاليا، بعد شهر؛ لأستأصل الزائدة الدودية، يرقد فيه؛ لأيام. في احدى ليالي رقوده في المستشفى؛ يسمع صوت نجاة الصغيرة. يقف في الرواق امام غرفة عايدة الذي يبث منها صوت الغناء الشجي المملوء بالحزن والاسى. ينصت مأخوذا بسكون الليل وصمت المكان. ثمة نحيب في الغرفة. "عايدة تبكي" لم ينتبه الى باب الغرفة حين فتح. " – لم اقصد. أنا متأسف. لم اقصد ان اسبب لك الألم." – لا عليك. لم تسبب لي اي ألم." يقضى معها في الغرفة دقائق كثيرة. حدثته عنها وعن عائلتها. اخوها هاشم مشلولا. اخوتها او بقية عائلتها سعداء بما ترسل لهم من المال. هي سوف تظل هنا؛ لترعى عن بعد، اخيها هاشم حتى يعود كما كان، قبل شلله. هاشم شارك في مظاهرة ضد نظام السادات؛ اصابته رصاصة. الشرطة اطلقت النار عليهم. تصر على عدم الزواج حتى ولو بعد عشرين عاما، الى ان يشفى هاشم من شلله. مع تدفق الروي على لسان اسماعيل الشخصية المحورية؛ نتعرف على مآل شخصيات الرواية. الدكتور رأفت يسافر الى امريكا لجلب اجهزة لعيادته في طنطا، غادر في اليوم التالي لنزول اسماعيل في الدار، حتى يكون قريبا من ابنه المريض. " عندي عيادة في طنطا، وسأسافر من هنا الى امريكا اشتري بعض الاجهزة، واعود اعمل بالعيادة واعيش كأي مواطن يعتمد على عقله وقوته.. هل تراني مخطئا؟ إنما القدر كان له بالمرصاد؛ يموت قبل ان يصل الى مصر. يرزح المجتمع السعودي وبالذات نساء هذا البلد العربي؛ تحت نظام اجتماعي صارم، تفتقد فيه، المرأة السعودية، ادميتها حتى تتحول الى كائن من لحم والدم بلا روح، تتحول الى قطعة من حجر؛ يضم في داخله كم هائل من نار العواطف والاحاسيس الانسانية المشروعة، تبحث لها عن مخرج ما حتى ولو كان ضئيلا كي تخرج الطاقة الكامنة فيه او فيها، حتى لا ينفجر ويتشظى الحجر. إنما هذه المحاولة او المحاولات تصطدم بعيون كاشفة للظلام والمستور في ظلاله، وحتى لو كانت هذه المحاولات في البرية خارج المدن، او داخل غرفة مقفلة الباب؛ فالعيون الرادرية تكشف كل نأمة او اي حركة مهما كانت في اي حيز من الوجود تحركت. واضحة شابة في مقتبل العمر، جدها لأبيها مصري، استوطن السعودية من عقود. يقوم اسماعيل بتدريسها الادب الانكليزي، بتكليف من اخيها خالد. عندما يلتقيها في اول محاضرة؛ ينجذب إليها بنفس درجة انجذابه لعايدة الممرضة المصرية؛ فيهما جمال عربي اخاذ جذبه إليه بقوة. يتأكد من انها هي التي كان قد راها في اول ساعة، من اول مساء لوصوله الى تبوك؛ تطوف بها سيارة شرطة في الشارع الرئيسي لتبوك. " واضحة بنت سليمان بن سبيل التلميذة في المدرسة المتوسطة بالعزيزة كانت تخرج كل يوم بعد الدراسة، مع اليمني اليامي بين عبد الله اليامي.. كانت تخرج معه كل يوم الى طريق تيماء المهجور." يتوقف اسماعيل عن اعطاءها المحاضرات؛ اخوها خالد طلب منه التوقف عن تدريسها مؤقتا. صالح وشى بهم؛ من انهم يحتسون الخمر في الدار. تقبض عليهم الشرطة في الليل. ينتشر الخبر في تبوك. واضحة الفتاة اليافعة الممتلئة بالحيوية وحب الحياة، الطامحة لحياة افضل؛ حياة تعثر فيها على نفسها وذاتها؛ لكنها تنتهي بفضيحة وفجيعة، لم يكن اسماعيل طرفا فيها. يسافر اسماعيل الى القاهرة لمعرفة امر البضائع التي تعاقدت الشركة على توريدها لحسابها عن طريق او بواسطة لاري الخبير الامريكي للشركة. يخبره مدير شركة الشحن من انه لا اساس لمثل هذه البضائع، لا هنا، ولا في امريكا، اي ان العملية مزورة بالكامل. " هذه ردود التلكس. لا بضائع خرجت من سان فرانسيسكو، ولا بضائع وصلت الى مطار من مطارات الرحلة. ازداد عم عبد الله امتعاضا وقال للاري – اذن جهز نفسك للسفر. وقام ليغادر المكتب، لكنه ابتسم فجأة وقال - لا تنس ان تأخذ روس معك، لا تتركها وحدها في الكامب" في بيت الخبير الامريكي لاري؛ فقد دعته زوجته روز" ليس في الامر حيلة يا روز. أنا مصري فلن يصدقني الناس هنا ويكذبوكما. رأيت في عينيها ألما فأسرعت بالخروج... سمعتها تصرخ! – انت أغبى رجل في العالم يا لاري، ولن اتركك تفوز بكل شيء." الممرضة المصرية، عايدة، تنقل الى قرية الضبا ومن ثم بأمر وزير الصحة يتم نقلها الى مستشفى في الرياض." جاءت زيارة الوزير في وقت دقيق. كنت بدأت افقد شيئا من قوتي، وبدا الخوف يجد مسالك الى قلبي. ما ابشع المستوصف في الليل. كل طارق للباب من اجل الدواء اظنه رجل امن جاء للقبض على هاشم، كانوا يأتون في الليل دائما." الدكتور وجيه هو الأخر يتم نقله الى ذات المستشفى في الرياض. سعيد الذي يعمل مدرسا، يعود الى مصر. لم يبق في الدار الا هو. ينتقل الى دار اخرى، صالح طلب منه اخلاءها. يؤجر دار اخرى، لم يشأ ان يشاركه احد فيها. تمر الليالي عليه في وحدة قاتلة، وموحشة في ليل بدى له، لم ينته. يتصفح المجلات والجرائد. تكاد لا تخلو من عملية فدائية في الاراضي الفلسطينية المحتلة؛ يتوقف امامها فاحصا، متأملا، وموجوعا؛ لوضع منذر احد عمال الشركة. " انظر ضاع ثديي الامين من حريق قذيفة مرت من امامي، وانظر هذا الهور في ربلة ساقي.. وهذه ذراعي فيها عشر خرز. أنا من عائلة فداوية يا اخ اسماعيل. لا تخبر أحدا بما رأيت من جسمي. يعرفون اني كنت فدائيا فيرحلونني يا أستاذ. - معقول؟! – جدا." العالم يمور بالاحداث، الجرائد تنقل إليه تطورات العالم واحداثه. الطلاب في ايران؛ يقومون بمهاجمة السفارة الامريكية، واحتجاز الدبلوماسيين الامريكيين داخل السفارة. الامريكيون يقومون بعملية فاشلة في تحرير الرهائن الامريكيين في السفارة الامريكية. تهب عاصفة ترابية تحطم مروحيتين، يقتل جميع افراد المجموعة الخاصة الامريكية. في هذه الاثناء تصل إليه رسائل من الاسكندرية. اخاه يخبره بمرض امه. يطلب منه ارسال كمية من المال لغرض العلاج. ثم تنقطع الرسائل لأسابيع. تاليا بعد هذه الاسابيع؛ يتسلم رسالة من اخيه تخبره بموت امه. " وانا اتقلب ساقطا ولا تلحق بي الذراعان اللتان ميزت بينهما وجه امي فزعا ولا اصل الى قرار الهاوية." في الطائرة كان معه على متنها؛ نبيل عامل الكافتيريا. ما ان ارتفعت الطائرة قليلا في السماء الا وصوت المضيفة يعلن عن خلل فني في الطائرة.. لاحظ ان نبيل قد اغمي عليه. مما اجبره على ان يشد له حزام الامان. في المطار ابصر عم عبد الله مدير الشركة مع مجموعة من الشرطة. يقول بالكاد له نبيل: ليس هناك خلل فني. انا اخذت جميع المال الذي في الخزنة؛ عرفت رقمها السري" - لا اظن ان الله يكرهك يا نبيل. هز رأسه وابتسم وقال: ليت خالي اعطاني الفلوس ولم يمت، وليت المدرس تركني فتعلمت، وليت الضابط لم يدفع بي الى اصلاحية الاحداث. واجهش يبكي فجأة ثم قام وتركني!.

***

مزهر جبر الساعدي

الروائية المغربية زكية خيرهم تناقش في نهاية "سري الخطير" موضوعاتِ العذرية والشرف وختان الإناث

رواية الكاتبة المغربية زكية خيرهم “نهاية سري الخطير”، مهمة جدا لكونها مكرسة لقضايا المرأة الشرقية، المسلمة والعربية في منطقة الشرق الأوسط والمغرب العربي. وهي جريئة لأنها اهتمت بالذات بعذرية الفتاة التي تعد إحدى أهم بوهات مجتمعات الشرقيين والمسلمين. ولهذا ليس من الغريب أن تجلب إهتمام المفكرين والنقاد حيث كتب عنها الاستاذ إبراهيم البليهي مؤكداً على أهميتها وتأثرها بكتّابٍ أوروبيين وعرب عقلانيين مثل شكسبير ونجيب محفوظ والعروي وبن جلون وآخرين، ويرى أن “نهاية سرّي الخطير”  تتميز “بمعالجة عقلانية باهرة لقضية ثقافية وإجتماعية شديدة التعقيد”. ص 5. كذلك كتب عنها الدكتور خليل إبراهيم حسونة والكاتب أحمد محمود القاسم ويوسف عز الدين والأديب والشاعر عبد الكريم الكيلاني و د. عبد العلي جبار و د. يوسف الكايدي. وأحاول هنا تسليط الضوء على بعض جوانب هذا العمل الجاد من خلال قراءتي الشخصية لها. يقوم معمار هذه الرواية على صيغة سردية قديمة: لقاء- فراق ومعاناة – لقاء ونهاية سعيدة من خلال ستة عشر فصلاً، يبدأ بالأول بعنوان “أشهد أنك عذراء” مثير ومقلق ويوحي بمضمون معقد، وينتهي بالأخير “وعادت شهرزاد إلى فاس” عنوان رحب يشير إلى نهاية سعيدة بعد أقل بقليل من خمسمائة صفحة. تعتمد هذه الرواية على موضوعة مهمة للغاية إذ إن البطلة المراهقه غاليه تتعرض لشيء بسيط جداً لو كانت تعيش في بيئة عائلية ومجتمعية متفتحة، لكنه هنا حدثٌ “لا يرفع رأسها” وتخشى منه: قطرة دم تنزف منها على ملابسها الداخلية. تُخبر غاليه اختَها غير الشقيقة “العنود” بالأمر، التي تقول لها بعد أن “إبتسمت إبتسامة خبيثة..لنذهب بسرعة إلى الحمام لكي أغسل بقعة الدم من سروالك ولا تقولي لأحد عن هذا السر الخطير. قالت غالية وجسمها يرتعش: سر خطير؟ ماذا تقصدين؟ هل أنا مريضة؟ هل عندما يخرج الدم من الفتاة يعتبر عيباً؟ وسراً خطيراً هل، هل، توقف الكلام في حلقها وانفجرت تبكي، وإذا بأختها تمسك بيدها بقوة تجرها إلى الحمّام غسلت سروالها وقالت لها بلهجة المعلم إن اخبرت امك ستضربك لأن الدم عندما يخرج من البنت يعتبر عيباً كبيراً إحفظي هذا السر بيني وبينك كأن شيئاً لم يكن”. ص 14. أوهمتْ “العنود” أختَها غاليه أن هذا يعني أنها ليست عذراء، ويجب عليها أن تخفي الحديث مع والدتها حول هذا الأمر! الكاتبة تبني روايتَها ال 475 صفحة على هذا الحدث “الجلل” الصغير الكبير، وتصور البطلة منذ تلك اللحظة وهي في خوف وألم كونها “ليست عذراء. وهكذا تُصاب الطفلة بأزمة نفسية تؤدي إلى إضطرابات في شخصيتها وتؤثر على سلوكها اليومي وتصبح العائلة كلها مشغولة بها و”بمشاكساتها” مع أخوتها الأولاد الذين يأمرون وينهون، و”إضراباتها” عن الطعام والدراسة. كثيراً ماتسمع غاليه أهلها يرددون على مسامعها كلاماً من قبيل: “إذا جلستِ في البيت بدون دراسة علينا تزويجك”! من المؤسف أن هذه الموضوعة اهم شي بالنسبة للبنت في أغلب الأسَر الشرقية، وهي أن تتزوج بناتهم بأي ثمن وبأسرع وقت لكي يسترن أنفسهن وشرفهن وبالذات في الأرياف والأوساط المحافظة. لكنها كانت تعاني ما تعاني وتبذل كل جهدها من أجل أن  تحصل على المساواة مع أخوتها، وهو أمر شبه مستحيل، كونها تنتمي إلى عائلة تقليدية لدرجة أنها لا تستطيع أن تتحدث عن هذا الأمر العادي مع والدتها رغم أنها تربوية تعمل في التدريس. عَمّتُها تسكن معهم في نفس البيت، تتعاطف معها لكنها مغلوبة على أمرها، ولا يمكن أن تتحسن الامور، ولهذا تظل تعيش في هاجس خوف إنكشاف “السر الخطير”. قد يجد بعضُ القراء صعوبةَ تقبّل هذا الحدث أوالإقتناع به، لكن يمكن توقع كل شيء في المجتمعات والعائلات المتزمتة المغلقة، ويبقى في النهاية معبّراً عن فكرة تجسّد واقعاً مريراً. وتبقى طبعا منذ تلك اللحظة تعيش في هذا الهم الكبير والمعاناة مما يدفعها لأن تكون أكثر عدوانية وإنعزالية من أهلها، فتثير تساؤلات الأهل وشكوكهم، لماذا تبتعد عن العائلة. الأليغوريا: قد يكون من المفيد الإشارة هنا إلى بعض الأليغوريا في هذه الرواية المتجسدة بدءًا من الأسماء: البطلة “غالية” إسم على مسمى، قوية الشكيمة، نَسَوية، ترفض العذرية وطقوس ليلة الدخلة والتقاليد القديمة ولا تقبل الأمور على عواهنها، وتطلب المساواة مع الذكور. والدها القاضي المتخصص بالشريعة المعروف “سلطان“، هو أيضاً إسمه يدل على حقيقته، متسلط ومتزمت يفضل الأولاد على البنات بإسم الدين ويعطيهم إمتيازات. أختُها الكبيرة غير الشقيقة “العنود“، إسم عربي قديم غير متداول كثيراً في المغرب، لكن الروائية تستخدمه هنا، قد يكون لغرض تكامل المنظومة الأليغورية، فهذه الشخصية صاحبة الإبتسامة “الخبيثة” تظهر مرتين في كل هذه السردية الطويلة، في بدايتها ونهايتها، في المرة الأولى أقنعتها أو “أوهمتها” بدافع نفسي عفوي أو “شرّير”  مقصود بأن قطرة الدم النازفة منها تعني أنها غير عذراء، وفي الثانية يوم عرسها وزواجها بعادل لتسألها عن عذريتها، فيا ترى هل هذا مقصود أم أنها الصدفة لاسيما وأنها ليست شقيقتها؟ العائلة تجسد أيضاً رمزَ التراث، إنها تمثّلُ شمال أفريقيا الحقيقية، المتمسكة بالتقاليد، فالأب موريتاني والأم سودانية، والأطفال ولدوا في مدينة فاس المغربية التاريخية العريقة. أما الشخصية الأليغورية الأخرى فهو عادل “حبيب قلبها” وفارسها، وزوجها الحقيقي، الذي سنأتي عليه لاحقاً، ونرى أن هذه الفكرة معزّزة بموضوعة أليغوريا الطريق المتجسدة في تنقلات البطلة واسفارها وبحثها عن الذات. وقد يكون لفكرة قطرة الدم النازفة من الأنثى المراهقة غاليه ايضاً أليغوريا رمزية لايمكن إهمالها، تتضح للقاريء المتأمل بعد إنتهائه من هذا العمل.  بيان الواقع الإجتماعي: ورغم أن الأم مُدرّسة ومتفتحه، لكنها لا تتحدث مع أولادها وبناتها بصراحة عن هذه الأمور الخاصة، وطبعا يفضلون الاولاد على البنات ويعتبرونهم أهم منهنَ وأفضل، مما يثير رد فعل البطلة غالية واصبحت تعاني نفسياً وتطلب التحرر، تذكرنا برواية “أنا حرة” لإحسان عبد القدوس، وهي تحب دائما وأبداً أن تثبت أنها لا تختلف عن الذكور. وليس عبثاً أن تذكر الكاتبة زكيه خيرهم رواية “طفل الرمال” للكاتب المغربي بن جلون الصادرة عام 1985، فهي من أهم النتاجات التي تعالج موضوعة “الذكورية” في المجتمعات العربية من خلال تكريسها لشخصية “أحمد” الذي هو في الحقيقة البنت الثامنة لوالدها، لكنه ربّاها كولد تعويضاً عن “النقص” الذي يعاني منه. وعندما تتوقف “غاليه” عن الدراسة، تضغط العائلة عليها بقسوة لتتزوج، ويصبح الزواج أهم وأغلى من كل شيء، سيما وأن عائلتها متزمتة دينياً. من المفترض أن يكون من الطبيعي أن ترجع البنت إلى أمها وتستفسر منها عن قطرة الدم النازفة من أعضائها التناسلية، لكن الخوف كبير جداً بالذات بعد “نصيحة”  أختها العنود، ورغم التطورات والبرامج وبعض الإنفتاح في العالم العربي. وفي الحقيقة، حتى في الغرب هناك عائلات لا يحسن أولياء الأمور الحديث مع أطفالهم في قضايا حساسة، يشعرون بالخجل، لكن على الاقل هناك طرق أخرى يفتحون بها مثل هذه المواضيع. توظف الروائية هذا الحدث لتبني عليه الحبكة والمضمون وتصف تطورها من خلال السلوك النفسي لبطلتها غالية، وتلتقط حالات اجتماعية كثيرة تعينها في بيان الواقع، بإعتباره أهم مقومات النوع الروائي. وقد يعود لهذا السبب إتسام لغة بعض مقاطع الرواية بالمباشرة الإجتماعية والتلوين بالأسود والأبيض أحياناً وعدم تناول الشخصيات من الداخل وتحليلها، وهي من الأمور المتوقعة في مثل هذه الأعمال. كمثال على ذلك نلاحظ أن الكاتبة  لم تتطرق لشخصية أختها “العنود” حتى بعد زواجها من عادل، وإستفسارها عن عذريتها، بل أهملتها، لإنشغالها بطرح القضايا الإجتماعية على حساب المستوى الفني في بعض المقاطع، لاسيما أن هذا العمل (475 صفحة) وأن كتابة الرواية الطويلة بالذات جهدٌ مضنٍ يحتاج بالتأكيد إلى المزيد من التأني والمراجعة. يمكن أن نلاحظ هذه السمة في مقطع طويل تعبر فيه الكاتبة عن فكرها على لسان بطلتها: “لا أريد أن أتزوج رجلاً يمتحن شرفي بدمي ويضعه على خرقة بيضاء ويقدمها في صينية لكي يراها أهلي .. إن الشرف لايقاس بالبكارة..إن الرجل من غير شرف مادام  يروي لزوجته مغامراته الغرامية مع البنات قبل ان يرتبط بها..”. ص 119. ونفس الشيء يقال في مقطع آخر، حيث تقترب اللغة من المقال، وتورد الكاتبة هنا عدة امثال ضد المرأة دفعةً واحدةً بدلاً من توزيعها في الحوارات الحيوية أو المونولوجات. “إن في بلاد العُرب من الأمثال التي لا تحمل للمرأة إلا إهانات تحطم كلَّ شيء جميل.. كل بليه سببها وليّه، يابن مقطعة البضور، البنت عار ولو كانت مريم،  اللي بغى العذاب يرافق النسا والكلاب.. ص .123

تركز الكاتبة على تخلف التربية الاجتماعية وتنتقد التقاليد البالية وبالذات تفضيل الاولاد على البنات، وأيضا تفضل دائما أن تكون هي في المقدمة ولا تحب أن تكون في المؤخرة، كرمز التنافس بين الذكور والإناث. ‏مرة أخرى أقول إن هذه الرواية مهمة لأنها تدخل في عمق التابوهات/ المحرمات التي تبقى سرية ولا احد يعلم بها، مع الأسف! تصوروا أن مراهقة تنزفُ منها قطرة دم ولا تعرف فيما إذا هي الدورة الشهرية أم لا. وتخشى مراجعة الطبيب ليفحصها في كل هذه الفترة علماً إذا إكتشف الطبيب مثلا أنها ليست عذراء، فهذا أمر خطير حقاً، يمكن أن يعرضها للمضايقات أو حتى الموت. وتبيّن الروائية الواقع الإجتماعي المتخلف، أيضاً من خلال التعامل مع البنات، مثل فحصهن بين فترة وآخرى في المدرسة للتأكد من عذريتهن، وتنتقد هذا الأمر على لسان بطلتها غاليه، وتقول لوالدها: “المستقيم مستقيم سواء كان في المغرب أو في أمريكا. لم يعجبه كلامها. إعتبره تحدياً فهو القاضي والإمام، وهو الدكتور في الشريعة والقانون، وهو الذي سبقها إلى الحياة وسيد العارفين، وهي عليها أن تطيع وتسمع من غير نقاش، لأن طاعة الوالدين طاعة لله..”. ص 22

هذا الحديث عن الأب يعني أيضاً رمزية العالم الأبوي، الذي اشرنا إليه، كذلك تقول له وهي تحاول أن تتمرد على والدها لأنه رفض أن تذهب للدراسة في أمريكا: “يا أبي أنا أطيعك ونحن كذلك عندنا فرن كبير في المطبخ. إن أردتني الآن أن أوقده وأدخله سأفعل في الحال لكن، تأكد أنني لست ذلك الطفل الصالح الذي نجا بمعجزة من الله. فزمن المعجزات قد انتهى وهذا الفرن سوف ينهي حياتي ويضع حداً لها وهذا ما أتمناه غادرها الخوف دون ضجة ولامسها حد الجنون. هرعت الى المطبخ، أمسكت علبة الكبريت .. تحاول إشعال الفرن كي تدخل فيه ص 24”.  وتخلت عن التقاليد وأصبحت ترفع صوتها على والدها كموقف جديد من الكاتبة التي تصور تطور الشخصية الروائية وهي تتجه نحو “التمرد” حسب حالتها النفسية، “أما أخواتها فاتخذن الصمت مدادا وكنَّ فقط ينظرن إليها مندهشات لانقلابها على والدها الذي يعتبر الحاكم الذي لا ترد له كلمة ص 24”. لاحظ مفردات مثل “إضرابها وتمردها وانقلابها” لها دلالات رمزية كبيرة جدا هنا في البنية الروائية وتطور السرد إذ إنها تعبّر عن تحول جذري في شخصية البطلة غالية، وأصبحت ثائرةً رغم  قلقها على والدها وهذا يعني موقف الروائية “الثوري أو المعارض” كأنها تدعو جيل الإناث الجديد إلى المطالبة بحقوقه والوقوف ضد أساليب التربية القديمة، “ثلاثة أيام وهي مضربة عن الطعام والشراب ص 25”. لكن التربية الدينية العميقة و”خوفها من النار جعلها تخرج من غرفتها معلنةً هزيمتها، تتعثر صوب مكتب والدها وأسمال روحها ممزقة، ثملة بكل انواع الخنوع. وجدته يطالع كتاباً، اقتربت منه في هدوء أقرب إلى الخوف، قبلت يده في صمت منكسر، اما هو فكان يسترق النظر إليها بطرف عينه من وراء كتابه وابتسامة رضا ملثمة بقناع من هدوء مفتعل تعلو وجهه ص 25”.  ومع ذلك تحلم بالكوابيس حيث “يحمل والدها خنجراً” ويحاول أن يقتلها رغم أنها تحبه وهو يحبها ص 27!

توظفُ الكاتبة الموضوعة الإجتماعية لتسلط الضوء على تساؤلات كثيرة حول التقاليد خاصة عن “ليلة الدخلة” التي تبدأ روايتَها بوصف تفاصيلها، حيث تتجمع العجائز بالذات يحاولن معرفة فيما إذا كانت العروس عذراء أم لا، من خلال المنديل الأبيض الملطخ بقطرة دم، وتنتهي بها ص 8-9. تعتمد بنية الرواية على الحركة الدائمة، وتغير الزمان والمكان، ونحن نتحرك في زمن آخر من خلال السفر من المغرب إلى فضاء آخر، نخرج منه إلى الجزائر ومنه إلى ليبيا ومنها إلى تونس ومنها إلى أمريكا ومنها العودة إلى الوطن المغرب، وبعدها إلى النرويج حيث تستقر مع زوجها. تتكون علاقات الزمان والمكان أو ما يسمى بالهرونوتوب (الزمكان) بالتدريج، وليس صدفةً أن يصبح النرويج هنا رمزَ الإستقرار وأنه المكان الذي تذهب فيه إلى مستشفى الأوليفول ليتحقق طبيبُها من عذريتها أو عدمها، ويصير مكان النهاية السعيدة بعد إزالة غشاء بكارتها بعملية خاصة ص 460.

نلاحظ هنا أن الكاتبة تبدأ روايتَها بالحديث عن غشاء البكارة والعذرية وخوفها من فقدانها وتكوّن عُقَدِ سرِّها الخطير، وتنتهي به في الصفحات الأخيرة حيث تصف بالتفصيل فحص الطبيب النرويجي الشاب لها ليخبرها بأنها عذراء. وتتفق معه على موعد لإزالته بعملية جراحية، لتقول لخطيبها عادل: “إن كنت تريدني أنا، قبلتك زوجاً. وإن كنت تريد عذريتي فهي هناك في مستشفى الأوليفول ص 468”. من المؤكد أن قسماً كبيراً من القراء الشرقيين لن يتفهمَ هذا الموقف المتحرر من العذرية، لكنه ينسجم مع كل مغزى الرواية وهدفها.  الحركة والسفر في هذه الرواية رمز أليغوري يُعبّر عن طريق حياة البطلة، التي تتعرض إلى مظاهر حزينة ومؤلمة تفضح المجتمع العربي، منها مثلاً أنها تسافر مع رجل كبير بالسن وزوجته الشابة، المفروض أنه يحافظ عليها ويهتم بها كما أوصاه والدها الذي ساعده وأعطاه نقوداً، لكنه بالعكس تنكر له وتحرش بها، إلا أن السائق عرف بذلك وطرده من السيارة، وقال له “ألا تخجل من نفسك؟ ص 68، وأنه أيضا يعامل زوجته معاملة الحيوان. تصفُ الكاتبةُ بدقة كيف تحرشَ بها هذا الشيخ المسن الذي يدعي التدين: “.. حتى وضع يده مرة اخرى على ظهرها ويدأ ينزلها شيئا فشيئا إلى الأسفل، فنهضت من مكانها ودموعها خرساء على جسدها المنهك. جلست على أرضية السيارة مقرفصه حتى شعرت بتنميل رؤوس أصابع رجليها من ثقل جسدها.. لم تعرها فاطمه اي انتباه. ولم تسأل نفسها ما الذي دفع غاليه للجلوس بتلك الطريقة. .. ماذا كان بوسعها أن تفعل؟  إكتفت بانشغالها برضيعها الذي يبكي الضجيج المتغلغل في أحشائها ص 66”.  تقدم الروائية زكيه خيرهن مقاربة  إنتقادية للمجتمع من خلال وصف لسردية ذات مغزى عميق: سائق السيارة سمير، مدرس الفلسفة سابقاً، يريد التخلص من التقاليد البالية، تضايق جداً من العجوز الدجال، كأنه هو جرثومة يعمل على إستئصالها من المجتمع، قال للمسافرين بتلقائية: “إن هذا الرجل العجوز تطاول على الفتاة.. العطب ليس في السيارة ولكن في هذا العجوز لا أريده في سيارتي ص 67“. تتحدث الكاتبة عن رواية الطاهر بن جلون “طفل الرمال” الإجتماعية مع سائق السيارة سمير الذي تنشأ بينها وبينه علاقة جميلة، علاقة تفاهم في ليبيا، إلا أنه أيضا إسم على مسمى، مجرد سمير في الحكي والنظرية والشعارات، لا يتقبل فكرة أن تكون زوجته غير عذراء رغم انه ناصرَ المرأة وأخته كما يدّعي. تضع الروائية بطلها ضمن فكرة الإختبار، فكثيراً ما تحدّث لها هذا السائق الشاب سمير عن الآلام التي تعاني منها أخته وعن التمييز في التربية بينها وبينه في عائلته، لكنه عندما يحب غالية يواجهها بأنه لا يقبل أن تكون زوجته غير عذراء، وتبين تناقضات الرجل الشرقي. وبعد وصولهما إلى ليبيا يواصلان اللقاءات بعد قصص طويلة جدا مع عائلة الشيخ وسوء تصرفاته، وهي تحاول بهذه الطريقة أن تفضح الناس الذين يتظاهرون بالتدين وأنهم في حقيقة الأمر ليس لهم علاقة بالدين الحقيقي وإنما يتاجرون ويتسترون به. توقفت الكاتبة عند هذا الموضوع كما لاحظتُ، في فضاءات أخرى من الرواية، ومن المفيد هنا الإشارة إلى وجود تصورلدى بعض تجمعات المسلمين المغتربين في أوروبا عن إستعمال الدرّاجة يؤدي إلى إنفضاض غشاء البكارة عند الفتيات، ولهذا يمتنعن عن إستعماله مما يؤثر على موقفهن في المجتمع وتمييزهن عن زميلاتهن الأخريات. وتنجح الروائية بتقديم مجموعة شباب من الجيل المغربي الجديد، مثلا هذا السائق سمير يحدّثها عن أخته، يخبرها أن أمه “تدربها دوما على كيفية الجلوس بإحتشام والتحدث باختصار وحياء، وهمّ عائلتي أن توفق أختي بعريس وبحياة عائلية سعيدة، دون الإشارة إلى وجوب بلوغها مراتب العلم والثقافة التي تعتبر بنظرهم أمراً ثانوياً، المهم أن تتعلم الطبخ وتنظيف البيت، ويُمنع عليها اللعب خارج البيت وركوب الدراجة والقفز على الحبل لأن ذلك قد يفقدها عذريتها ص 53”.

تُصوّرُ الكاتبةُ زكيه خيرهم الشبابَ في السيارة وهُم في مزاج جميل، أحدهم يغني أغاني جميلة، ويشعر القارئ أن هذا الطريق وكما أسلفنا رمزُ الحياة، بحلوها ومرّها رغم المتزمتين، تلتقي البطلة مع ذلك بناس منفتحين على العالم مثل سمير، كان متفهما لوضع المرأة ويقول لأحد الآباء منتقداً مظاهر المجتمع وأساليب التربية القديمة: “لا أستطيع أن افهمكم أنتم الآباء ولا أستطيع أن افهم اسلوب الضرب والقمع الذي تمارسونه مع بناتكم!! الضرب لا يصلح الأخطاء، بل يزيد من تراكمها واستعصائها ص 71”. في ليبيا تتغير علاقة غاليه مع هذه العائلة المغربية التي كان والد غاليه يعوّل عليها كثيراً وترك إبنته تذهب معها، لكن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن. تُضطر غالية للإنتقال من بيت إلى آخر في طرابلس حتى تعرفت إلى الدكتور السوداني الأصيل نبيل الأميركي الذي يشتغل في المركز الأفريقي، بينما اشتغلت في شركة ليبيه وتعرضت للتحرش من المسؤول، فتركته. نلاحظ في هذه الرواية أن الكاتبة تصور أليغوريا الطريق ورمزيته كما أسلفنا، والصعوبات وكأنها تُقدم الحياة الجارية أو رمز الحياة كما يظهر واضحاً: “شرع الرجل في الغناء، والمسافرون يصفقون، أما هي فكانت تنظر إلى تلك الطريق الطويلة وكأن لانهاية لها. طريق مقفرة نائية..لم تكن ترى إلا طريق طويلة وصحراء شاسعة ص 69”. في تونس يحاول الدكتور نبيل أن يسعد زوجته “الرسمية أو الشكلية” غاليه، لكنها تصدّه، تقول بين نفسها “هل أنا مستقلة أم محتلة.. إن أجبرني أن اشاركه حياته فسرّي سينكشف ونهايتي ستكون وخيمة ..هل أنا زوجته أو لستُ زوجته؟  لم اكن أريد منه سوى إقناع والديّ بأن يتركاني أسافر لمتابعة الدراسة ص 342”. وهكذا تحاول أن تصف حياتها مع زوجها “الشكلي” الدكتور نبيل: شخصان يسكنان معاً بلا علاقة زوجية. ومع ذلك تتسائل غاليه: “لماذا شعرتُ بإمتعاض عندما ذكر زوجته؟ لماذا شعرت بالغيرة؟ ص 352. لموضوعة ختان الإناث أهمية ايضا في الرواية من خلال ذكريات الطفولة بالتفصيل عنها حيث تمت عملية الختان، “وأنا أتذكر في وهم طفولتي الممتدة ما بين فتحات رجليّ إلى أن أصبحتا فخذين عريضين كبيرين. ص 353. تصف الكاتبة الاختلافات الثقافية حتى ضمن الدين الواحد، في أمريكا تلتقي المسلمين الأفارقة إحداهم تقول لها: “أفريقيا للأفريقيين وليس للعرب”، ويذكرون أن “المسيحية ظهرت في أفريقيا، والمسيح أسود وليس أبيض”. ص 402. ولأنها تعاني نفسياً وتعود دائما إلى “سرها الخطير“، تقول الكاتبة عنها مثلاً: تريد أن “تنهي دراستها لتسترجع بها قوتها وتبعد بها الخوف من سرها الخطير”.  ص 406. إلا أنها تتردد فتتساءل: هل أرجع إلى المغرب فمهما بلغت من الدرجات العلمية فطاعة الوالدين واجبة علي، إن أرغموني على الزواج هل الشهادة الجامعية ستحجب عني الإتصالات وإجباري على الزواج؟  إن الإسلام اعطاني حق الاختيار وحق الرفق، لكن رب الأسرة الذي أنجبتني هؤلاء لهم الامتلاك والتصرف في مستقبلي. ص 406. وتبين الكاتبة أن غالية النَسَوية الرافضة للتقاليد تلتزم بالدين الإسلامي الوسط، فهي مثلا تصلي وتقرأ كتبَ نوال السعداوي.  ص 417. كذلك تتحدث عن رفضها للثقافة الأمريكية وتصف مثلا أن احد الأبطال يقول: “ما زالت روح الغزو مسيطرة على العقلية الأمريكية حتى الآن وتظهر جليا في أفلامهم مثل فيلم “الوطني” يبرر القتل والعنف والدماء.. فتاريخ “بنجامين مارتن” ليس ناصع البياض فهو بطل مذبحة مثّلَ فيها بأشلاء قتلى الفرنسيين”.  ص 412. وتتعرف غاليه إلى أحد زملائها في العمل يتعرض للضرب بالسكين كرمز لمظاهر العنف في هذا البلد ص 425، وعلى اللبناني العربي أنطوان، وتعيش بعض التناقضات بين الثقافتين، لكنها تبين أيضا أن الحرية الغربية ليست هي الفُضلى، من خلال تصوير فتاة تعرضت للاغتصاب، ومع ذلك لا تستطيع  الشكوى عند الشرطة لان والدها سناتور وتخشى فضحه. ص 428. لوتشيو زميلها في العمل كان يتصور أنه يمكن أن يمارس الجنس معها من أول لقاء، لكنها ترفض ذلك وتشرح له سبب ممانعتها مثل هذه العلاقة بدون زواج. إنه شخص متحرر غير مبالٍ فتكون التبعات سلبيةً، يتعرض فيما بعد للضرب وتتأثر كثيراً. وهكذا تهيّأ الكاتبة قارءَها لتمهيد الخاتمة من خلال تعرفها على زميل جديد إسمه “عادل”  يبدو انه اسم على مسمى، يحمل رمزاً كما ذكرنا، ” اغدق عليها القليل من ثروته والكثير من ذاته وحبه. علّمها أن تؤمن بالحياة ..عادل كان لها الفارس القوي الذي يتكلم صامتاً..” لكنه عادل معها ومتفهّمٌ لمواقفها الجريئة من قضايا المرأة في مجتمع محافظ، لا يتخلّى عن مفهوم العذرية.  ص 460. هذا هو الموقف الإيجابي الوحيد في حياتها، وقد أتقنت الروائية تقديمه كونه يتناسب مع بنية هذا النوع من الروايات وصيغتها، التي أشرنا إليها في بداية مقالنا: لقاء – مغامرات وصعوبات وأهوال- نهاية سعيدة، كما تعودنا عليها في النتاجات الشعبية القديمة. تقول الكاتبة عن غاليه: “تمنته زوجاً .. ارادته حلالاً، لم يكن لها من جسر العبور إليها إلى أن تكشف بنفسها سرها الخطير، لابد أن اذهب عند الطبيب النسائي وأكشف عن حالي، لابد من الذهاب إلى طبيب نسائي كي اقطع الشك باليقين فإما أن أكون له وإما أن يكون الموت لي، لابد أن أبدّدَ الغيوم الهشه وأفسح المجال لرؤية اوضح. ص 460. تتصل بالطبيب في المستشفى وتأخذ موعداً معه لكي يفحصها ويتأكد من عذريتها، وفي النتيجة يقول لها إنها عذراء. وكرست الصفحات الاخيرة لهذه الموضوعة، “ويقول لي الطبيب أنت عذراء.. أهذا هو هذا هو سري الخطير؟ هذا هو الوهم الذي قتلني.. ازهقَ روحي، بدّدَ حنيني الى وطني. ص 464. تطلب من الطبيب أن يزيل البكارة بإجراء “عملية بسيطة يشق فيها غشاء البكارة” ص 465، وليس في ليلة الدخلة بعرس مع زوجها كما جرت العادة، تعبيراً عن رفضها لهذه العادة البالية حسب رأيها. وتخبر حبيبها وزوجها القادم عادل بهذا الأمر. “تخلصت غاليه أخيراً من وهم العذرية“. ص 467. وأتوقع كما أشرتُ، أن يختلف بعض القراء مع الكاتبة، وقد يعتبرون الفكرة إفتراضيةً وغير واقعية، وهنا تكمن أليغوريتها ورمزيتها. ويُعقد زواج غالية التي يدلّ إسمها على شخصيتها كما أسلفنا، مع “عادل” رمز العدالة والتطور والإنفتاح، على، دون أن نتعرف على سلوكه الشخصي ولا أوصافه الداخلية والخارجية، لأنه هو أيضاً أليغوري (رمزي) الطابع كما ذكرنا، ويذهبان إلى حديقة قصر الملك، “قال لها هل تقبليني زوجاً لك؟ قالت له: إن كنت تريدني أنا؟ قبلتك زوجاً وإن كنت تريد عذرية فهي هناك في مستشفى الأوليفول”،  ولم يتضايق، بل بالعكس “انطلق مسرعاً إلى غرفته بالحي الجامعي. أما هي فكانت تضحك، إلى أن وصل صوتها إلى الفضاء”. ص 468.  يقول لها هل تقبليني زوجا لك..” بينما تردد هي: “ضمني الى صدرك بقوة، إصهر روحك بروحي.. إجمع قلبينا كي يخفقا معاً”. ص 469. إنها النهاية السعيدة كما قلنا كخاتمة لحكايات تذكرنا بألف ليله وليله: الفصل السادس عشر، العنوان التراثي الرحب:  “وعادت شهرزاد إلى فاس“، وصلت غاليه مع حبيبها إلى المغرب، حيث أقامت عائلتها عرساً فخماً، هنا، في منزل  القاضي سلطان حشد كبير من الناس..إختفى عادل بينهم، .. انعقدت حلقات الرقص والغناء للنساء والرجال، .. طبول مغربية، إيقاعات موريتانية وسودانية..”. ص 472. لم يتخلَّ العريسان غاليه وعادل عن “ليلة الدخلة” ولا طقوسها كما يُفترَض ويُتوقّع كنتيجة لموقفهما المعارض لها وللمنظومة الأليغورية الوعظية التي أشرتُ إليها، لكنها هنا مجرد “تمثيلية” للتسلية قاما بها إحتراماً لمشاعر العائلة والأصدقاء: “وحانت ليلة الدخلة ودخلت مع عادل إلى الغرفة التي كانت يوماً منفردةً فيها مع عريسها السابق نبيل. دُقت الطبول وارتفعت الزغاريد، وإنهال على باب غرفتهما طرقٌ. ..عادل .. يخرج شفرة حلاقة من حقيبته ويكشف عن فخذه محاولاً جرحه لإخراج شيءٍ من الدم. كان العرق يتصبب على وجهه ويده ترتعش.. لم يستطع أن يجرح نفسه..وأخيرا قام بذلك الإنجاز العظيم.. مسحَ بقطعة قماش بيضاء على فخذه .. ألقى بها خارج الباب وأغلقه. زادت الزغاريد في الارتفاع وزادت الاصوات في التهاليل”. ص 472.  وبهذه الخاتمة نلاحظ أن الكاتبة كأنها تريد أن توصم المجتمع العربي بالنفاق والمظاهر والتقاليد البالية. !

***

د. زهير ياسين شليبة

أستاذ جامعي عراقي مقيم في الدنمرك

.......................

* زكيه خيرهم. نهاية سرّي الخطير. وكالة سفنكس للترجمة والنشر والتوزيع 2017

في حقول الحروف ترتقي أقلام الإبداع، تجلب الكاتبة والروائية الفلسطينية إيمان الناطور بسحرها الشاعري وحسها المرهف، تنزف عبير الكلمات المعطرة بالأسى والحزن، تنادي بصوت الأمل والصمود في واقع فلسطيني ملتهب. تلوح في أفق الرواية وتعانقها بحنانها، تأخذنا في رحلة لا تنسى بين صفحاتها، حيث تتجلى رؤية الكاتبة الفذة التي تغوص في عمق التاريخ وتأسرنا بقصص الجدات والأجداد المليئة بالحكايا الخيالية والحقيقية. بأسلوبها الفريد وبمفرداتها الشاعرية، تبني عوالم متنوعة تجرفنا بعيدًا عن الواقع المعاش إلى أفق أكثر ملامسة للروح والخيال. تشدنا بقوة ذاتها وعذوبة كلماتها المختلفة والمعبرة، فتتراقص الأفكار في أرجاء النص وتتراقص الأحرف بأنغام الشعر والمشاعر. إيمان الناطور تنبض بالألم والجمال في آن واحد، وتعيد بناء الواقع بخيوطها الشاعرية وأحرفها المبدعة. تزهو إيمان الناطور، الكاتبة المبدعة، بأقلامها الساحرة، ترسم لنا لوحات من الكلمات المعطرة بالأسى والحزن، تروي قصة واقع فلسطيني ترقص على أوتار قلوبنا. تنغمس في أعماق الزمن وتستحضر حكايا الجدود. تنسج الخيال والواقع بألوانها المتعددة. تعبق رواياتها بشغف الحرية وشجاعة الإنسان، تبني عوالمًا متنوعة وتشرق بنور الكلمات المتألقة. تتلألأ أعمالها بالقدرة على صياغة القصص وتخطي الحواجز اللغوية، تلتقط تفاصيل الحياة الفلسطينية تحت الاحتلال وتنسجها في خيوط روائية تلتهم القلوب. تنساب لغتها برقة شاعرية وجمالية، حيث ترقص الأحرف وترسم المشاهد بألوانها المبدعة. تعبّر رواياتها بعمق عن تأثير الحرب والمعاناة على الفرد وتجسد رسائل تعزز الحرية الشخصية وتحمل الأمل عاليًا. تحليل شخصياتها يبهرنا بتنوع الأفكار وتعدد وجهات النظر، ترسم بكلماتها لوحات غنية بالإنسانية والتعبير العميق. بصوت الشاعر والروائي المتقن، تسرد قصة الفلسطينيين بكل تعقيداتها وتأسرنا بجمالية الكلمات وعمق المشاعر.

تمتاز جدتي بالإنكار، لكنني أجد في عينيها ذئابًا تتواطأ مع أشجار الغابة، على مر السنين ظلت جدتي تلوح لي بالتآمر الذي لم تخبرني به، وما زالت ستارة الليل تخفيه بعد، وها أنا الآن أكبرت، صمت جدتي يغيب لكي أدرك حقيقة التآمر، أفهم الآن أن أشجار الفول لا تصل إلى السماء، وأن عالم العجائب لم يكن سوى وهم ضخم يبتلعني، وأن وطني لم يضيع بل تم فقده بصورة متعمدة، وأن ليلى كانت ضحية للذئاب منذ زمنٍ بعيد. ومن خلال مأساتي العميقة، ينبعث سؤالٌ من أعماق المعاناة، هو سؤال الحرمان من الهوية والانتماء، أتساءل: "هل يحق لجميع الجنسيات امتلاك أرض الفلسطيني، وحده الفلسطيني نفسه يظل محرومًا؟... أعلم أن الفلسطيني يتعرض للاضطهاد، وأنه يحارب لسنوات من أجل حقوقه، غالبًا ما يفقد أحبائه دون أن يستردهم، لأن قوانين الغربان لا تعرف معنى الرحمة". وعلى الرغم من ذلك، يبقى للفلسطيني شعلة الأمل مشتعلة في حكايات الجدات ومفاتيح البيت القديم. بعبقها الشاعري وجمالها المعاني، تستقر رواية "رسائل الخريف الضائعة" في عمقها النقدي وثراءها الأدبي. ترصد تجربة الفلسطينيين بصورة متنوعة وجذابة، تأتينا بلمحات عميقة لحياة الشعب الفلسطيني تحت ظروفه الصعبة. تنقلنا في رحلة روحية مثيرة، نرى من خلالها شخصية ليلى تكشف تأثير النزوح والتشرد، بينما يلقي الضوء على محنة الأسرى الفلسطينيين شخصية حسين. تتناول الرواية مواضيع حساسة مثل الهوية والوطن والانتماء، وتعكس الواقع السياسي والاجتماعي المعقد في المنطقة. بأسلوب سردي متقن وجذاب، تحملنا الرواية في أحضان تجربة شخصياتها المتنوعة وتفاصيل حياتهم اليومية. تستخدم اللغة والأساليب اللغوية ببراعة لنقل رسائلها الأساسية بشكل فعّال وجميل. تشجعنا على التفكير النقدي والتحليلي للواقع الفلسطيني، وتعزز الوعي الاجتماعي. بشكل عام، "رسائل الخريف الضائعة" هي تحفة أدبية تضيء الأدب النقدي والفلسطيني، تعيد لنا تجربة الشعب الفلسطيني بتعدد أبعادها. في شخصيات مثل ليلى نكتشف تأثير النزوح والتشرد على الفرد والمجتمع، وبحسين نشاهد محنة الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال.

في رحاب رواية "رسائل الخريف الضائعة" تعانق العمق النقدي وتغنى الثراء الأدبي، تأخذنا في رحلة ملحمية لاكتشاف تجربة الفلسطينيين بألوانها المتعددة. تتجسد في شخصياتها المتنوعة، من ليلى وحسين، طيف التحديات التي تلتف حولهم. تشدنا الرواية لعالم مرهف يكشف تأثير النزوح والتشرد، ويكشف مأساة الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال. تمسك الرواية بالمواضيع الحساسة والأساسية في حياة الفلسطينيين، كالهوية والوطن والانتماء والحقوق الإنسانية. تعكس واقعًا سياسيًا واجتماعيًا معقدًا في المنطقة، وترسم الضوء على تحديات يواجهها الفلسطينيون. بأسلوبها السردي الجاذب والمثير، تأسرنا الرواية في رحلة عاطفية للاندماج في حياة الشخصيات وتفاصيلها اليومية. تتألق اللغة والأساليب اللغوية المستخدمة بجمالها وتنقل رسائلها بقوة وجاذبية. تعزز الوعي الاجتماعي وتحثنا على التفكير النقدي والتحليلي للحقيقة الفلسطينية. بوجه عام، "رسائل الخريف الضائعة" تضفي قيمة فريدة على الأدب النقدي والفلسطيني، حيث تجسد تجربة الشعب الفلسطيني بأبعادها المتعددة بشخصيات تأسر القلوب. إنها رواية تحمل ثراء التاريخ والثقافة، تدفعنا للتأمل والاندماج في قصتها الفريدة.

في رحاب رواية "رسائل الخريف الضائعة" تزيد قيمة الأدب النقدي والفلسطيني، بروعتها وعمقها تنقلنا في رحلة سحرية مليئة بالروح والتأمل. تترجم الرواية براعةً وعمقًا تجربة الشعب الفلسطيني بكل تأثيرها، تحمل ثروةً من تاريخٍ وثقافةٍ في صفحاتها، وتجعلنا نتأمل ونتوغل في رحلتها الفريدة. تنبثق منها رسائلٌ عميقة تكشف تحديات وتطلعات الشعب الفلسطيني، وتداعب أحاسيسنا وتستفز عواطفنا مع قصتها الملهمة. تكشف عن قوة الأدب وقيمة الفن في رحابتها، تعتبر "رسائل الخريف الضائعة" فنًا فلسطينيًا رفيعًا يستحق التأمل والاستيعاب. تسحر القلوب وتحرك العقول للتفكير والتأمل في قضايا الإنسان والمجتمع. تجسد براعة الرواية بشكل كامل تجربة الشعب الفلسطيني، وتسلط الضوء على مسائل هامة كالهوية والانتماء والحقوق الإنسانية. تقدم قراءة نقدية قوية وعميقة، تعكس دراسة شاملة للشخصيات والأحداث والمواضيع واللغة والبنية الدرامية والرموز. تتجلى روعة هذا الفن الأدبي المتكامل في توازنه بين العناصر الفنية والمحتوى العميق. وليس ذلك فقط، بل تعزز الرواية التعاطف مع القضية الفلسطينية ونضالها، وتشجع القراء على التفكير العميق في المسائل الإنسانية والاجتماعية التي يواجهها الشعب الفلسطيني . بعد تجربة قراءة رواية "رسائل الخريف الضائعة"، ندرك أنها تمتاز بإثارة التأمل والتفكير. تحمل قصة الشعب الفلسطيني بألوانها المتعددة وتكشف عن صراعاته وتحدياته المتعددة. تنقلنا في رحلة روحية مشوقة، نشعر من خلالها بقسوة الواقع وتأثيره على الفرد والمجتمع. تستعرض الرواية مواضيع حساسة وقضايا إنسانية عميقة مثل الهوية والانتماء وحقوق الإنسان. تبرز القوة الروائية للرواية من خلال استخدامها للغة الجميلة والأساليب الأدبية المتقنة. تتميز بوصفها رحلة مثيرة وتوازن فني ممتاز بين الواقعية والتجريبية. تعزز قوة الرؤية وعمق الفكر في كلماتها وأحداثها، مما يلهمنا للتأمل والاندماج في تجربة الشخصيات والمواقف التي تعيشها. باختصار، رواية "رسائل الخريف الضائعة" هي أعمال أدبية رائعة تنقلنا إلى عالم الشعب الفلسطيني بأسلوب سردي مدهش وعمق فكري ملهم. تعكس التجربة الفلسطينية بكل تعقيداتها وتحمل رسائل هامة تتعلق بالإنسانية والعدالة الاجتماعية. تستحق هذه الرواية الفنية الاستكشاف والاستمتاع بها كمصدر ثمين للتأمل والتحليل.

في بياض الصفحات، تنثر الرواية أنغام الوجدان، تلمس أوتار الروح وترتقي بالأفكار إلى عالم الفن. إنها أكثر من مجرد حكاية، فهي نهضة للإنسان ونضال للوطن، تسعى لترسيخ الوعي وتنبيه الضمائر. تحثّ على التعاطف والتضامن، وتدعو القارئ للوقوف مع الشعوب المظلومة، بدءًا من الفلسطينيين الأبطال. يجسد أدب هذه الرواية الوجع والأمل، ويروي قصة شعب يصارع الظلم ويحمل في قلبه رغبة جارفة في الحرية والعدالة. بغض النظر عن خلفية القارئ، ستتسلل الرواية إلى دواخله، تتغلغل في عمق الوجدان وتعزف ألحان المقاومة والأمل. في عبق كلماتها ترقص الحقائق، تنزف الأحداث والمواقف، وتعبث بالخيال بأسلوب شاعري يسكب المعاني. وعندما تصل إلى نهايتها، تفتح "رسائل الخريف الضائعة" أفقًا جديدًا للتأمل، وتطلق أسئلة تحوم في فضاء الذات. إنها رحلة فريدة في طرقات الوجدان، تلمس الجراح وتنشر الأمل، وتجعلنا نستشرف المستقبل بثقة وإيمان.

***

زكية خيرهم

 

عتبات ومتون بين التنوع الأسلوبي ونمطية النصوص

توطئة: تجسد الفنون الثقافية في مجالات النص المسرحي، مفهوما إجرائيا في رصد العوالم الشخوصية المتحاورة والمتماثلة في شكل مؤطرات العنصر المكاني الذي يعد بمثابة المحور الثبوتي بطبيعته المتيحة لحالات المعطى الموضوعي تشكلا لما يشبه حالة الواقعي باللغة والحركة والشعور كوجهات وسائطية في مستوى منتج العلاقة الدلالية في بعدها المتصل والمنفصل عن موجهات السارد العليم.أن المتتبع الناشط والنهم إلى فنون العرض المسرحي، لربما يستطيع أن يفهم بأن مسارات الوظائف الأكثر فاعلية في طبيعة وبيئة المرسل الدلالي المسرحي غالبا ما تقتصر على أنماط وثيمات (المحور الاجتماعي ــ المحور الطليعي ــ المحور المابعد الحداثوي) كذلك أن ظهور مثل هذه الأساليب وطبيعة آلياتها شكلت مشروعية خاصة في خاصية تجسيدها كفاعلية عضوية في عاملية الخطاب المسرحي.وقد ضاعف في امتداد هذا الخطاب جملة إجرائية من العناصر (الممثل ـــ الإضاءة ــ منطقة العرض ـــ الإخراج)ومن الممكن أن يبدو العرض المسرحي أشكالا وأنواعا متعددة في الفروقات وإمكانية النوع النصي، كما الحال في تجربة الكاتب عبد الحليم مهودر في مجموعة مسرحياته المصنفة بـ(مسرحية إذاعية ــ مسرح الدمى ــ موندراما ــ مسرحية للأطفال) وتبعا لهذه التصانيف الأسلوبية المتصلة بالممارسة الأدائية للنص المسرحي، نلاحظ أن مهودر راح يقدم لكل ممارسة نوعية من واقع العرض الحواري المسرحي، جملة صياغات حاصلة بالدلالة والمحاكاة التي تتلبس الصوت الشخوصي انطباعا في كونه الشخصية الأكثر جنوحا في ملامحها الفضائية الدالة.

ـــ أصوات وأسئلة وعلاقة متحولة:

تعد الصورة بمفهومها المسرحي الذي يقترحه البعض نقاد الفن المسرحي بمثابة الشكل النوعي الذي يتم إدراكه بمشاهدة معرفية تترصدها مجسات الذائقة البصرية والروح المتذوقة.ولأن طبيعة عروض مجموعة (لون آخر للصمت) جاءتنا عبر الوقائع المقروءة وليس عبر الأداة المجسدة في المسار من الأجواء الحاصلة من العرض عبر خشبة التمثيل المسرحي، يمكننا حينئذ قراءتها كأصوات صورية ليس فيها حرارة العرض المسرحي، كحركة الممثل وواقع التفصيل العياني من جهة خشبة العرض، لذا فإننا سوف نتعامل مع النصوص كأصوات صورية لا تحمل ثوابت المنطلق الخيوطي في الدراما العروضية، ولكنها من جهة أخرى تحمل حياة الدال الصوتي وصورته الإيقاعية التي ترتفع بالخطاب الفضائي نحو مسارية (لعبة التخاطب) إن لم نقل لعبة الإيماءة الجسدية المتحققة، وعلى هذا النحو تتخذ طابعية الصور في قوام التحاور الصوتي المقروء، تظافرا عبر المكونات التي تجعل من (الصورة ــ الصوت) وحدتان شاملتان ومتماسكتان، كما الحال في هذه الوحدات الشعرية من مسرحية (صوت الحجر): ( يعدو .. يسرع .. والأفكار تلاحقه .. تزحم عقله .. ملتفتا خوافا .. يلتقط الأنفاس .. وتعثر رجله: آه .. يا ألم الجرح القاتل. / ص7: صوت الحجر) فالدوال الصورية إذا، هي الشكل المشبع بالظهور الشكلي و المضموني وبكل عناصرهما المكابدة في منظومة مأزومية الحياة والوجود.فالنص المسرحي ــ الشعري، ها هنا يشكل بذاته ذلك التأمل التصوري لماهية الحالة وجوهرها، وحين تكون للمقاطع الإخراجية كيفيتها في رؤية الأشياء وتخيلها وإعادة بنائها، فأن ما يقدمه الكاتب مهودر يعد نموذجا مستخلصا من تفاعل (رؤية ــ حركة = عالم داخلي ــ مكنون صورة) كما الحال في هذه المتواليات: (الجندي الصهيوني: من أنت يا هذا: ـ أبن العرب .. أنقذوني .. أنقذوا جسدي .. أنقذوا صوتي./ص17) وكلما أزدادت حقيقة المكون (الصوتي ــ الصوري ) بدت لنا جوهرية العلاقة أكثر كشفا وشكلا وفعالية.

ـــ مسرح الدمى: بين خاصية الثيمة وآهلية الواقعة المؤنسنة:

تكاد بنيات التحول أو التداخل بين العوامل الثابتة والمتحولة في دلالات النص المسرحي الخاص بوقائع ـ مسرح الدمى ـ أو ما يطلق عليه أيضا في شكله المحلي ـ مسرح العرائس ـ حيث يعد هذا الأسلوب من العرض المقروء معادلا سيسيولوجيا تسعى من خلاله ( الأبطال ) في النص الحواري إلى بلوغ منطقة التصارع بين الأضداد أو تقديم الوظيفة الموعظية القادمة من أثر مرجعية أمتلكت زمانها وسياقها الاحتفاظي بمنطق التفاصيل واستطلاع البيئة الحكائية: (الراوي: كان يا مكان .. كان بحار صاحب سفينة تنقل البضائع بين مدينتين على شاطىء البحر ./ ص22: مسرحية (السفينة).

1 ــ الراوي شاهدا: الرؤية من الخارج:

تشكل وظيفة (الراوي = كان يا مكان) في الأدب القصصي والمسرحي الخاص بالمحكي في مسرور أدب الأطفال، اعتمادا على اللازمة التراتيبية لصيغة الزمن والمكان المتحققة من خلالها تداولية الشكل الأخباري الحكواتي عبر واصلة (كان يا مكان؟) وهذه الوحدة المقتربية هي من القدرة على خلق المبنى التقليدي في المسرود الشفاهي .فهناك من يرى أن مفهوم اللازمة ـ كان يا مكان ـ هي صيغة من الترتيب للحوادث، وتارة من يعتقد كونها إعادة المروي في حبكة التبئير الجاذب إلى طرف التلقي.نقول أن الراوي في القصة أو المسرحية كلاهما يقدمان الحكي في خصائص معرفة الشخصية والأحداث الحكائية.وهناك ثلة من النقاد من يؤكد على أن نصوص أدب الأطفال غالبا ما تكون متجاوزة في البدائل الضمائرية، حيث تكون العلاقة متساوية بين (الراوي ـ الشخصية ) ويصور السارد للقارىء في هذا النص المسرحي عدة أطراف شخوصية بدءا من (الراوي ـ البحار ـ القمر ـ الشمس ـ العصفور ـ النورس ـ الحمار ـ الفيل)إذ نعاين أن الكاتب مهودر يسعى لإدخال مضامين تربوية أكثر إيغالا بهدف زرع روح الإرشاد والنصح، ولا يعني هذا أن تصبح المسرحية خالية من إمكانية طابعها الأدواتي، فهي لغة ومضمونا، وإخراجا مقروءا تدعمها مخيلة تتجلى سطوعها في أهمية العلاقة المتماسكة في الأجزاء العاملية المتحاورة بلوغا معادلا.

ـ شيطنة العجوز وبراءة إبليس: قبل رحيل إبليس

أن فن الموندراما بالطبع هو أحدى الفنون الدرامية التي شاع توظيفها في الأشكال المسرحية التجريبية والتي فاق خطابها رقعته خلال القرن العشرين على أنها الأجزاء المتكونة من المشاهد، إذ يتم توظيف شخصية واحدة في العلاقة الحوارية، إذ يوحدها الواقع الافتراضي مع صورة الآخر في الطرف اللامرئي من خشبة العرض، وعلى النحو الذي تتكاثر فيه ممارسة الاشارات العلامية والإيمائية على أن وجود ذلك الآخر، شخصية حاضرة في مجمل خواصها التفصيلية: (العجوز: تجلس على دكة في وسط المسرح ـ تكلم نفسها ـ السفينة التي يكثر ملاحيها تغرق.. أنا وهذا الإبليس في مكان واحد يجعل عملنا يتعارض على رغم أن عملنا واحد يجب أن أتخلص منه لكي أطبخ طبخاتي على مزاجي./ص39 المشهد الأول: مسرحية ـ قبل رحيل إبليس ــ لا بد من الإشارة بادىء ذي بدء، من أن موضوعة هذه الموندراما معتمدة على رؤية درامية مرتهنة بعمق غواية الشر في داخل الشخصية العجوز، مما جعلها أكثر كيدا من أبليس، الذي غدا راحلا مفترقا تاركا للعجوز تحقيق مكائدها الجرمية حيث نتابع تجربة عبد الحليم مهودر في السرد القصصي والروائي والمسرحي، لايغيب عنا أيضا دوره ككاتبا للحكايات الساخرة وبعض من أعماله الوثائقية.أما في ما يخص تجربة مسرحيات (لون آخر للصمت) فهي بحد ذاتها تعكس الكفاءة النخبوية لهذا الكاتب البصري، الذي ما يزال دؤوبا في تقديم النصوص الابداعية سواء كان الأمر في مجال القصة القصيرة أو الرواية أو المسرح أو التوثيق المرجعي لأهم مظاهر المحافل الأدبية والثقافية في مدينة البصرة، التي من خلالها يحقق الوعي القائم بالحضور الممكن والاحساس به كإمكانية معرفية في سلطة الثقافة والمثقف.

***

حيدر عبد الرضا

 

 

(دراسةٌ بيئيَّةٌ مقارنةٌ في المُثُل والجَماليَّات)

يمكن القول إنَّ محرِّك الهيبة من (الذِّئب) وراء تصويره تلك الصور النمطيَّة في الشِّعر العَرَبي، أي إنَّ الشاعر يلمح في كُلِّ صِفَةٍ يصف بها الذِّئب ما توحي به ممَّا رسمه للذِّئب من معاني في مخيِّلته. وبمعنًى آخَر أن الشاعر- إذ يصف الذِّئب- فإنَّه لا يصف بالضرورة ذلك الحيوان المعروف، الذي شاهده في البيئة، لكنه يجسِّد في نموذجه: الشرَّ، والغدر، وشراسة الطبع. ومن أجل ذلك فهو قد يُهوِّل في وصفه فوق ما يُعرَف عنه في الواقع، وقد لا يكون عَرَفَ الذِّئب عَيانًا، وإنَّما يتَّخذه رمزًا فنِّيا لتلك المعاني التي قدَّمنا. ومن هذا تصويره في قصيدة (البُحتري)(1)، مثلًا:

وأَطْلَسَ مِلْءِ العَيْنِ يَحْمِلُ زَوْرَهُ

وأَضلاعَهُ مِنْ جانِبَيْهِ شَوًى نَهْدُ

لَهُ ذَنَبٌ مِثْلُ الرِّشَاءِ يَجُرُّهُ

ومَتْنٌ كمَتْنِ القَوْسِ، أَعْوَجُ ، مُنْأَدُّ

طَوَاهُ الطَّوَى حتَّى استَمَرَّ مَرِيْرُهُ

فما فِيْهِ إِلَّا العَظْمُ والرُّوْحُ والجِلْدُ

فهو «مِلْءُ العَين»، من مهابته في نفس الشاعر لا في حقيقته، وإلَّا كيف يكون «مِلْء العَين» و«ما فيه إلَّا العظم والروح والجِلد»؟! ثمَّ إنَّه يبدو متناقض الصورة، ففي حين يصوِّره «يَحْمِلُ زَوْرَهُ وأَضلاعَهُ مِنْ جانِبَيْهِ شَوًى نَهْدُ»- وهي صورةٌ قد تنطبق على (الفِيل) لا على الذِّئب- يُمعِن في تصوير هُزاله؛ إذ طَواه الطَّوى حتى استمرَّ مريره. ولا يتهيَّأ الخروج من هذه المناقضة إلَّا أن تكون صورته الأُولى صورةً معنويَّة(2)، بما تنطوي عليه من إعظامه وتهيُّبه، والأخرى واقعيَّة، إلَّا أنها تثير كذلك رموز الشِّدَّة والحِدَّة في صورته، أكثر ممَّا تنقله من صورته الشكليَّة والتكوينيَّة. ولذا تراه يكثِّف في بيته الأخير معناه هذا، بما يصفه به من الطَّوى، واستمرار المرير، وهما صفتان تقتضيان أن يكون أشدَّ ضراوةً ووحشيَّة.

وليس ببعيدٍ عن هذا الهدف الفنِّي ما اعتاده الشُّعراءُ من تصوير (الذِّئب) منجردَ الشَّعر، مشبِّهين به رِماحهم أو خيلهم مُغيرةً على الأعداء. فيقول (الحُطيئة)(3):

بِكُلِّ أَجْرَدَ كالسِّرحانِ مُطَّرِدٍ

وشَطْبَةٍ كعُقابِ الدَّجْنِ تُزْهِيْنِي

ويقول:

وكُلُّ أَجْرَدَ كالسِّرحانِ آزَرَهُ

مَسْحُ الأَكُفِّ وسَقْيٌ بَعْدَ إِطْعَامِ

فانجراد شَعر الذِّئب هاهنا لا يُعبِّر عن صِفة شَعره بمقدار ما يُعبِّر عن: روح التمرُّد، والانفلات، والمراوغة، وسَعة الحِيلة، إلى آخِر هذه الصفات التي يوحي بها انجراد شَعره، والتي أحبَّ الشاعر أن يتَّصف بها رمحه وتتَّصف بها فرسه في مواجهة خصومه. حتى قال (ابن مُقْبِل)(4):

لا تَحْلُبُ الحَرْبُ مِنِّي بَعْدَ عِيْنَتِها

إِلَّا عُلالَةَ سِيْدٍ مَارِدٍ سَدِمِ

أي: إن الحرب لا تنال منه شيئًا، إلَّا كما يمكن النيل من ذِئبٍ ماردٍ هائج.

وفي تصوير (الذِّئبَ) لدَى (البُحتري) يهتمُّ بتأكيد جوعه، كما رأينا. وقد كانوا يقولون: «رماه الله بداء الذِّئب»، أي الجوع؛ لأنهم يزعمون أنْ لا داء له سِواه(5)، وهو في مدافعة دائه هذا يكون في أشد حالاته شراسة. والشاعر يُلاحِظ هذا فيُوظِّفه في تصويره، إلَّا أنَّه يقول:

سَما ليْ وبيْ مِنْ شِدَّةِ الجُوْعِ ما بِهِ

بِبَيْدَاءَ لم تُحْسَسْ بِها عِيْشَةٌ رَغْدُ

كِلانا بِها ذِئْبٌ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ

بِصَاحِبِهِ ، والجِدُّ يُتْعِسُهُ الجَدُّ(6)

فهو هنا ينظر إلى نفسه هو؛ ولأنَّه يودُّ أنْ يَرَى في الذِّئب نفسَه: «كلانا بها ذِئب»، فإنَّه يخلِّص صورته ممَّا لا يودُّ أن يراه في نفسه؛ فلا يَصِفُه بالغدر، مثلًا، كما فعل (الفرزدق) في قصيدته، بل يستبقي من صفاته- في علاقته الصراعيَّة معه- ما يجعل من تغلُّبه عليه، في النهاية، فوزًا عظيمًا:

فما ازدادَ إلَّا جُرْأَةً وصَرَامَةً،

وأَيْقَنْتُ أَنَّ الأَمْرَ مِنْهُ هُوَ الجِدُّ

فأَتْبعْتُها أُخْرَى فأَضْلَلْتُ نَصْلَها

بحيثُ يكونُ اللُّبُّ والرُّعْبُ والحِقْدُ

فَخَرَّ وقد أوردتُهُ مَنْهَلَ الرَّدَى

على ظَمإٍ لو أَنَّهُ عَذُبَ الوِرْدُ(7)

يُعْجِب الشاعرَ فيه أنَّه كلَّما اشتدَّ عليه الموقف، من جوعٍ أو خوفٍ، ازداد جُرأةً وصرامةً وجِدًّا، لولا أنَّه غزا بنصله جماع تلك الروح كلِّها: «بحيثُ يكونُ اللُّبُّ والرُّعْبُ والحِقْدُ»، فخَرَّ الذِّئب. إنَّه لا يكاد يموت، وإذا مات، مات واقفًا، ثمَّ يَخِرُّ كيانًا عظيمًا، يحقُّ للشاعر الفخر بانتصاره عليه. وهكذا يكون الدافع الرمزي، وراء هذه الصُّورة، سببًا في اجتهاد الشاعر للتجويد فيها.

[ولحديث الذئاب بقيَّة تحليل].

***

أ. د. عبدالله بن أحمد الفَيفي

............................

(1)  (1977)، ديوان البُحتري، تحقيق: حسن كامل الصيرفي، (القاهرة: دار المعارف، 743.

(2)  ويؤيِّدها عند (البُحتري)، خاصَّة، أنَّه كان يعيش في الحاضرة، مع ما عُرِف عنه من طبعٍ، أبعد ما يكون عن مثل ذلك الموقف الذي صوَّر فيه نفسه. هذا بالإضافة إلى العلاقة الواضحة بين وصف (الذِّئب) والصراع معه وبين خصومة الشاعر مع (آل الضحَّاك)، الذين ذكرهم في القصيدة، قبل أبياته هذه.

(3)  الحُطيئة، (1958)، ديوان الحُطيئة، (شرح: ابن السكِّيت، والسكَّري، والسجستاني)، تحقيق: نعمان أمين طه، (مِصْر: مطبعة البابي الحلبي وأولاده، 87، 227.

(4)  (1962)، ذيل ديوان ابن مُقْبِل، تحقيق: عِزَّة حسن، (دمشق: مديريَّة إحياء التراث القديم، 399/ 9.

(5)  يُنظَر: ابن منظور، لسان العَرَب، (ذأب).

(6)  البُحتري، ديوانه، 743.

في الديوان: «والجَدُّ يُتْعِسُهُ الجَدُّ«! ولعلَّ صوابه كما أثبتناه؛ فالجِدُّ: الاجتهاد، والجَدُّ: الحظُّ. أي إن نتائج الاجتهاد قد يحول دونها سوء الحظِّ.

(7)  م.ن، 744.

لا يكتب مظفر النواب قصيدته حسب القوانين السائدة في كتابة الشعر الشعبي، بل هي تفرض منطقها الخاص بالشعر، القصيدة الجديدة لمظفر لا تبدأ بالموضوع، انما الموضوع أحد مكتشفاتها، إحدى منصاتها للتوغل عبره نحو الموضوعات الكبرى، نحو (القضية)، وهي الكينونة التي تنبع من خصوصية النواب، من تجربته الحياتية، وشخصيته الاستثنائية.

في شعره أشياء عديدة، مثل الأبواب والدفاتر والمحطات والشبابيك، الناس، النهر والهور، أشياء كما هي، ومع ذلك عندما تدخلها في دينامية الحقل المغناطيسي للنص، تأخذ أبعاداً أخرى، مما يعيدنا الى فكرة السيميائية في الشعر، لا التقليدية منها، انما الاشياء والمفردات نفسها، تتحول الى معادن، والقصيدة الى مختبر.

قصيدة (لابد يردّون باچر)، من القصائد التي كتبها مظفر النواب في سنوات عمره الاخيرة، لم يكن النواب فيها مستعداً للتخلي عن أناه، أو تذويبها لم يعد في العمر متسعاً، كي يواجه المشكلات الصعبة في تجربته الحياتية،

گاعد بشباچك من اسنين واتنه

وهالدفاتر تركض تشيل الجنط

والحزن إلمن

ناس ما منهم گمر

ناس مايسوون خاشوگة شكر

احساس عميق بالخيبة، وفقدان الأمل، حتى صار الألم السمة البارزة لقصائد مظفر الأخيرة، وصارت الغربة والاحباط أهم سماته، التي تكشف عن طبيعة مكوناته، كيف يكون حال الشاعر وهو يواجه حالة الانفصال، عن اؤلئك الذين يتناسون، أو يدعون النسيان، الشاعر أمام هذا العقوق مطالب ان يفعل المستحيل ليخترق سكونه، في خضم الألم الذي يعيشه من اجل ان يتوازن ويكتب:

والناس الردتهم

نسوا من اسنين اسمك والمحطّة،

وخلّوا ادموعك نهر

يحسّ ان كل ما عنده لم يكن كافياً لكي يصرخ، لكي يعبر عن هذا الذهول، بالشعر، لكن ليس بشعر المأساة، انما بشعر كأنه ينعى نفسه:

أدري بيك تريد تبچي

ابچي وحدك، آنه ساكت

بس أحلفك ياگلب يا چبير

لا ينخطف لونك لو شفتهم

النواب يكفيه صوت يصعد من كعب قدميه إلى رئتيه، فيقيء صراخاً ودماً، هكذا كان الصمت، يتضمن الصراخ الذي لا يكاد يسمعه عند نفسه،

لم تكن القضية خاضعة للمزاد، والدم ليس حمّالة قصائد إلى صفحات الجرائد والمجلات، ذلك خارج لعبة الشعر، كان مظفر يتوهم انه حسم امره مرة واحدة مع الماضي والمكابدة على الجرح، واذا به يكتشف الحقيقة بانه مازال ينزف، فيما يعنيه انه ربح كل خساراته، لانها رأسماله الرمزي، قوامه خسارات مركبة، واذ لا بيت يخاف عليه، ولا ثروة يسعى اليها، ولا حبيبة تفتك فيه، يجد نفسه في أحسن حال مقتصداً في النكد، يحتفل بمن أحب على طريقته:

اثكل شويه يگلبي

مرّة خلّيهم محطة

وانت سافر

كان النواب مزيج كأسه، من صداقات، الى اشراقات، الى عناوين عتب، وقراءات في عذابات الانسان، الى الغور في عمق الذات، (الذاتي)، فالانساني، لذا حين يهدأ موكب الندب، يعلن انه وحده يحمل عبء الراية الحمراء، ولم يكن النواب حامل راية، انما كان مقاتلاً في خط النار، على مراحل، وبحسب مزاج، ثم بصراحة كان ذاك التشاكي المتشاكس، العنيد، الكاشف، الصاخب مرات، في هدوء عجيب. وحنين غير منقطع، الغريب في مظفر هذا الحياء، فما أقرب ما يحدو به الشوق لأفيائه الأولى، حينما يمتلىء قلبه حنيناً يستدر العيون، رغم جروح الأساءات، وثقل الرزايا:

لاينخطف لونك لو شفتهم

سلّم بسرعة

ولو نشدوك

تعرف واحد يگص التذاكر

گلهم الشباچ گصلهم شهر

فتنطلق نجواه على البعد الى الوطن، عندما تختلط الغربة بالليل، يطل الوطن الأم يناجيه، فيصحو على بصمات خطواته الاولى فيه.

تجليات مظفر الأخيرة، تبدو وهو يحاور الموت الذي يدنو منه، كأنها حدوس الراحل، اذ يهاتف صحبه، في الشام، وعمّان، ولندن، كدّسَ خبرة شعره وحياته للناس الذين أحبهم وانتمى اليهم، على حافة الوطن سار، والمساف البعيد قطع، ببصيرة نفذ الى آفاق وآماد، أوصلت مقلته إلى (العدسة) المكّبرة لينشد، فامتاز بتلك القدرة على الكشف، واثارة الأسئلة، كأن الحادثات والعوادي تتكشف قبل أن تقع، أمام تلك البصيرة،

منح الشاعر العصمة لشعره في انحيازها للانسان، واتخذ من جمهوره صحبة ضد زمان النكد، وبرغم جمهرة المعارف، وحشد المتأثرين والمتلقين، كان النواب يخاف العزلة والوحدة، وهكذا اعتاد أن يطرق باب قلبه بيمينه، وباليسار ينظر الى تاريخه يرفع راية الفقراء والثورة، والكلمات التي لا تموت، وأسى شعبه، فمازج بين جيفارا والحلاج، ثم ابن المقفع وصويحب، ليصنع نموذجه في بطل عصره والأزمنة، لكنه بحسرة يقول:

شگد خطيه

اليفرش عيونه درب

للماله جيّه

لم يلذ بالصخرة مقيداً، بل انطلق واثقاً يشعل تحت أقدام الطغاة، بارود شعره، أولئك اللائذين بالمصالح والمنافع، وبنار شعره أيضاً أضاء كهوف اللصوص والمتسلقين، وسخر من الموت المجاني، وباستحقاق الصداقة، ورفقة المجالدة، والضنى المزمن، ناقشه محبوه، فاختلفوا، واتفقوا على الاختلاف لانه عافية حضارة العقل، والضمير الذي لا يخون. طبيعته ان لا يتطابق، وإن جامل أو انحنى للريح بهدوء، حتى يعبر هو من عاصفة الاختناق والقسر، الى رحابه، حريته.

منذ البداية أرادوه على وفق المواصفات متطابقاً مع الشروط، فتمرد، لم يتردد في شدّ قوس الهجاء لكل من يحاول إغلاق نوافذ الأمل، يصادر حريته، ويكبّل معصميه بالقيد، أويمدّ حباله لشنقه، ينفي وجوده، فكان أول العارفين بالمنزلق، ليتساءل هل يزرع الشعر ليتناسل، أم يتيه في المغارة؟ فاختار الأول.

***

جمال العتّابي

تقنية المزج بين الفلسفة والسايكولوجية والأخلاق عند الكاتب عبد الرزاق الغالبي في نصه (قد يكمن في الإحسان شراً!).. دراسة نقدية ذرائعية حسب إستراتيجية الإستقطاع الذرائعي.

المقدمة:

حين ولجت الى قراءة هذا النص وهو ينتمي الى حد كبير من المقطوعة السردية.. فعنوانه كان بوابة مخبوء بداخلها رسالة موجهة الى شخص معني بقرائتها دون البوح جهرة عن اسمه او عنوانه.. و لعل الكاتب بهذا العنوان يروم إيصال رسالته اقوى من ان يذكر فيها المعنون له بها.. إن دخولي النص من خلال منظوري الخاص الذي اتخذته لنفسي حين الكتابة او تحديد المخبوءات بين السطور للدراسة، فحين نعتمد النقد الذرائعي تكون المهمة أكبر ف فلسفة النقد الذرائعي للنص بعلمية المداخل و الادوات بإستخدام الدلالات سواء البصرية منها و اعني المنظور عينا، او الشكل العام للنص.. يراد له إلماما تخصصيا او عامة إذا كان النقد بمحدودية الاستقطاع، احتاج الكاتب عبد الرزاق الغالبي لأن يخلو بنفسه حين كتابة نصه المقالي هذا واعتمد الاتيان بالتأريخ الفكري أو العقلي ليسبر اغوار ما يريد إيصاله من خلال نصه هاته.

.. الاستدلال النفسي.. :

أختيار المفردات او الكلمات بشكل فلسفي لونه بألوان إخرى من حمولة الكلمة، مرة في سخرية ومرة بجد جعلت من المتلقي بين عالمين.. فإنتحار الكلام بين الشفتين دلاله نفسية واضحة ان الانتحار كان دون شاهد عيان، فلو كان كذلك لكان إنتحار المفردات على الشفتين، لأن الكاتب اختار المفردات بعناية.. لهذا برر ذلك ان مثل هكذا صياغة تزعج الكلمات و تصنع من الحلاوة مرارة.. فلوي المفردات فنا ايضا يستعملها من يجيد فرك اصابعه من هرج في ايصال رسالة ما.. والغالبي نجح في اتباع اسلوب يخصه هو طارحا تشريح نصه الى من يرغب ان يعيد بناء صياغته بمنظوره الخاص واعني القاريء.. لذا حين دخلت عالم هذا النص بمنظور عين الفسيفساء او منظور عين النملة التي ترى الاشياء من زوايا مختلفة عن البقية وبعيون متعددة وهذه خاصية لا تجيدها سواها.. لأنها تعكس رؤيتها على بلورة المقصود من المنظور من الصغر الى الكبر كلمة واحدة كفبلة بأن توصل رسالة كاملة.. الدلالات المتعددة في نص الغالبي.. اباح الكاتب الغالبي في نصه الى انه يعرف قاتله وسمح له بالتقرب منه الى حد كبير وقد نهل من معين ضيافته كمؤازر له، لكنه ما ان تمكن حتى استغل ذلك القرب بغرز سكينه في خاصرته وقد استعان بدلالته استحضار مقوله (حتى انت يا بروتس) لما تماثل له من ان الغدر لا يمكن ان يؤطر بعلاقة صداقة او قرابة او صحبة.. العرض المسرحي كدلالة ابعد فلسفيا شرع الغالبي في مسرحة نصه منذ البداية فقد وضع الخطوط بشل متوازي كي تنال حظوتها من القاريء دون ان يتناسى الدهشة!!! التي ستتركها المفردات على وجه المتلقي، فمسحة نصه أضافت له الابعاد النفسية والسايكلوجية بشكل بات مسرحا عالمية وليس مجرد نص للقراءة.. لم يستهلك ادوات الابهار حين اشار الى مقارنة وإن كنت أراها بعيدة لكنه استحضر العناوين او المقولات كي تكون هناك مفارقة الاحداث مكررة لا تحدها زمكانية، فمحورية العناق بين المفردات لا يمكن ان تتماشى بين الشخصيتين رغم انه بَيّن ان ما قيل كحكمة او مقولة هي المعني لا الشخوص.. دلالة استرجاع الصراع الازلي.. استخدم الصراع عنوانا آخر ليعطي محاكاة تأريخية بأن الصراع أزلي و لا يمكن ان تجمعه صورة واحدة او مقولة، ان التصرف في اللجوء الى الامثال هو بمثابة إلقاء اللوم على اي جرأة يمكن ان يحسبها المتلقي عصيان او خطأ او لوم اي اعتبارها احداث سابقة حصلت من قبل

الإستدلال الفلسفي:

وجنح الكاتب الغالبي نحو الفلسفة ليحسن الأقتضاب والهروب من الإسهاب والحشو فاختار مفردات محملة بالإفك اللغوي بعد ان صاغ عنوان رسالته حول الاحسان ذكر البعد العميق لذلك الاحسان مستحضرا مقولة للامام علي عليه السلام ( إتق شر من احسنت إليه) فمن اكثر بلاغة من نفس الرسول بتلك العبارة تلافى اي جلبة يمكن ان تثار فهو اجاز لنفسه ان يستخدم العبارات لا الشخوص في مقارنه الواقع البعيد البعيد، والبعيد القريب، والقريب البعيد.. والمستقبل القريب البعيد، هذه لا يمكن ان تتبلور إلا من خلال فلسفة عين النملة النظرة الفسيفسائية للاشياء.. فالإنسان حين يرى الاشياء بعينه المجردة براها مقلوبة معكوسة، بيد انها تدخل الى الدماغ كأشارات تُعدل الصورة بعدها كي تكون معتدلة.. اما منظور عين النملة فهي ترى الاشياء من خلال عيون كثيرة تتعشق الصور من ابعاد مختلفة حتى تكون صورة واحدة سواء وهي صغيرة او حين تكبر بالتدرج.. وهذا بالضبط ما حصل في نص الكاتب عبد الرزاق الغالبي الذي استطاع ان يوزع صور نصه بعناوين مفردات فلسفية ممسرحة الى حد كبير وأمثال كي تصل الرسالة من عدة مداخل مع وجود عامل الابهار في صياغة النص الذي رامه شكسبيريا و لعله حين عرج على اختلاف التجربين كان غرضه لا مقارنة الشخوص بل ما قالاه.. فشتان بين انسان لا يملك من القول شيئا الى انسان هو القول كله.. دلالة بمنظور فلسفي و نفسي.. لا اخفي ان الغالبي صنع من نصه نصا لا يمكن ان يصيغه سوى قيادي متمكن من ادواته وذلك ما طرحه و بينه مقارنه بين أمة الامام علي عليه السلام التي قادها و بقي إرثها، وبين من قاد جيلا في فترة زمنية خبت إلا من سطور.. إن تجدد الافعال بين عامة الناس بالنسبة للمقولتين خصخص الفئات وحتى الطبقات و الحقب المتعاقبة بين من يمكنه ان يستلم الرسالة او يأخذ عبرة عنها، والغرض أعمق من طرح النص بهذه الكيفية الفلسفية، فليس كل من يقرأ النص يفهم المعنى او الغرض.. إن الغالبي طرح نصا عبقريا فكل من يقرأها يمكنه ان يفصله رداء يرتديه على ما واجهه في الحياة من مغباة صحب او اصدقاء او اقارب او اغراب.. إن الثيمة التي صاغها لا تتوقف على زمن معين او تصرف عابر مر و انتهى، بل هي متجددة ما دامت الحياة ومغرياتها.. ولعله حين تسائل عن مستلم الرسالة الثاني شبيه بمستلمها الاول.. دلالة ان الاحقاب يمكن ان تتغير لكن النفس البشرية لا تتغير وإن بدا عليها التحضر والتمدن، كما اجاب مؤكدا ان هناك اختلاف إنساني و ليس عقائدي مبينا ان طرحه ليس عقائديا لكنه إنسانيا.. و الانسان تحكمه الغريزة الحيوانية و الأنا الى جانب عامل الغيرة و الطمع و الخيانة.. الخ من سلبيات اجتماعية تتنامى مع النفس البشرية التي تحمل مؤهلات الاصابة بتلك الامراض.. الدلالة الزمكانية.. الرسالة الاخيرة التي وجهها الغالبي الى صاحبه الذي يعنيه بنصه حيث انه يتوقع ان يصدر فعل آخر اشد شناعة او اكثر غدرا، فاستعرض خاصرته رغم توقعه الغدر وهي اقل وطأة، عكس يوليوس قيصر الذي كانت خاصرته لا تعلم من اين سيأتيها الغدر، لذا كانت وطأة الغدر اكبر واشنع خاصة حين رآها جاءت من صديق مقرب إليه في زمكانية لم يحددها الغالبي لكنه تركها الى الظروف التي تحكمها الاقدار، ولعل الدلالة تبقى مستمرة الى قيام الساعة فالزمكانية في النص مفتوحة كون حدث الخيانة والاحسان عاملان لابد من تواجدهما في وقت واحد دون زمكانية تحدهما..

الإستدلال الأخلاقي:

الأخلاق في الأدب هو جنوح وإمتثال للمثل العليا في الكتابة لتكون نموذجا في تربية المجتمع الموجة رسائل الأدباء نحوهم وهنا تمكن الكاتب الغالبي بتوجيه عدة رسائل أخلاقية متماثلة:

الرسالة الأولى: الغدر.. بمهوم الخيانة.. والخياة.. بمفهوم الغدر ولخصها بقول مشهور:

حتى أنت يا بروتس

الرسالة الثانية: ألإحسان.. بمفهوم الشر ونكران الجميل.. الشر.. بمفهوم الغدر وسكين الأحسان

مكان المقارنة الأخلاقية في تلك الرسالتين مقارنة فلسفية نفسية مزج الكاتب في هذا النص بين السايكولوجية والفلسفة والأخلاق كدرس مدرسي في مدرسة الحياة..

النص الأصلي:

قد يكمن في الإحسان شراً..!

عبد الرزاق الغالبي

قالها مرة وانتحر الكلام بين الشفتين.. قول كهذا يزعج الكلمات ويصنع من المر حلويات.. مفارقات تفوق الاتفاق وتعلن عجز القادرين، تلتفت حولك وسكين يغرز في خاصرتك من أعز مؤازر،قاسمك الألم مرارا وفوق عقرب ساعتها سبب في موتك.. عمرك سمعت عن ميت يئن في قبره وترتسم فوق قبره علامة استفهام..!؟ المغدور لا يموت مادامت علامة الاستفهام تصنع الأسئلة..!

اعتقاد لم يمر في بال شكسبير حتى،ولو كان عميقا بفلسفة الخيانة،فقد أطلقها بقول بسيط فوق قارعة الحضارة: (حتى أنت يا بروتس)، شأن جعله مسرحي العصور،عادته أن يدخل مبدأً فلسفياً في كل مسرحية،و لم يبلغ العمق الفلسفي عند يوليوس قيصر لو تماثل قولاً مع الإمام عليّ(ع) بتوازٍأخلاقي،حين صاغ ذات الأمر بمقولة أقوى من مقولة قيصر،و جعلها صراعاً أبدياً بين خير وشر،وليس غدر وخيانة - اتقاء شر يقابل إحسان-: (اتق شر من أحسنت إليه..) والفرق بين القولين يحكمه مبدأ القوة بالتعبير، والصدق في النوايا، تتدلى القوة دوما من تجربة الجمع و أخلاقية الجزء، يمر بها أصحاب القولين،والقول مرآة الشخصية،حتما ستغلب شخصية الثاني لكونه قاد مجتمعاً بأخلاق عظيمة،لكن الأول كان رجلاً متواضعاً في قيمته الجمعية والمقارنة بين القولين تعني المقارنة بين التجربتين..

علي قاد أمة، خليفتها الرابع وشكسبير قاد أجيالاً ولم يقد أمة،فاختلاف التجربتين يفرض القوة بين القولين،فالقول رسالة وقائله باعث ينشد درساً بتضمير مساو لمسؤؤولية المرسل ومحصلة المستلم وعمق تأثير الرسالة.. فهل ياترى مستلم رسالة الثاني شبيه بمستلم رسالة الأول،حتما هناك اختلاف انساني وليس عقائدي لكون المسالة يتلبسها الانجاز بالفعل وليس بالقول،الغدر أقبح خيانة والخيانة أقبح غدر.. ويتفق الطرفان..! تأخر صاحبي كثيراً وتجاوز حد المبدأ المرسوم، إن لم تفعلها اليوم فغداً قريب،و خاصرتي لا تزال تنتظر سكيناً سيصلها،حتماً،في غفلة من زمكانية الزمن مادام قيصر لن يموت وماقيل عن تجربة أضحى معياراً..

***

بقلم الناقد الذرائعي : عبد الجبار الحمدي

5/202

تعرية المسكوت عنه في "لعبة الدوائر الفارغة" للكاتب العراقي "علي لفته سعيد"، الصادرة عن دار العراب/ دمشق/2023 ودار الصحيفة العربية / العراق.

شهدت مادة روايات ما بعد 2003 التحولات العنيفة التي مر بها المجتمع العراقي بعد الإحتلال الأمريكي والذي عمل على تمزيق العراق كهوية بتضخيم أقوامه وطوائفه والصراعات الدموية والقتل على الهوية تمهيدا لبناء عراق طائفي جديد وما تركه من معضلات وقضايا شائكة لا تزال تُعمل في النسيج العراقي إلى تشظي الوطن عندما تنازعه لصوص الطوائف بأحزابها المتبرقعة بالدين.

ونجد الكاتب علي لفته وهو ابن هذا الواقع بضبابيته وفوضاه قد كتب تحت سطوة الحدث وبذلك يكون قد وثق للحدث في عمله لعبة الدوائر الفارغة ما أنتج صنعة أدبية تزخر بالجمال لأنها توثق مشاعر وانفعالات اللحظة التي عاشها من تمزق . حيث تعد الكتابة الروائية تعبيرا عن تفاعل الكاتب مع واقعه وظروفه.

واعتمد علي لفته في عمله على تقنيات تجريبية جديدة اخترق من خلالها تابوهات المثلث المحرم ليس لشيء إلا لتصحيح المسار وتسليط الضوء على أمراض اجتماعية تتعلق بهذه المحرمات التي يزخر بها المجتمع العراقي والذي أفرزته فوضى الحروب.

فنحن أمام عمل يكشف وجود المسكوت عنه وحضوره في اللاوعي الفردي والجمعي. وتيمة المسكوت عنه لبنة أساسية في الخطاب المعاصر كونها تعالج موضوعات غير مصرح بها كانت ممنوعة من الطرح في وقت مضى. وقد جاءت لعبة الدوائر الفارغة كخطاب متحرر يعري التابوهات ويغوص في حيثيات المحرم السياسي والديني والجنسي فكسر الصمت،اخترق الساكن وفضح المستور.

وظف علي لفته هذه التيمة كما ذكرنا سابقا ليعكس واقع العراق الراهن المتأزم حيث تنبني جلّ أحداث العمل في بيتين فخمين أحدهما أقرب للقصر في حي راق لا يشبه الأحياء الشعبية في مدينة بغداد والزمن جائحة كورونا.

العنوان وهو العتبة الأولى للنص يختصر المضمون في كلماته الثلاثة لعبة الدوائر الفارغة،لعبة لم يتقنها أبطالها حيث يجعلها الكاتب مرة خارجها وأخرى على حوافها وثالثة داخلها ،هي لعبة السياسة والدين والجنس من يدخلها يخرج خاسرا خالي الوفاض لا يحمل سوى أدرانها ،لعبة مصغرة عن واحدة أكبر منها مضمونها رضوخ الشعوب وصمتهم حتى كأنهم دمى وأدوات بأيدي حكامهم.فعلى لسان أبي جاسم موجها كلامة لجاريه ابي عدنان وأبي سرحان ص178" عليكما أن تفهما أنها لعبة تشبه الدوائر الفارغة ،لا شيء يمكن الوصول فيها على نتيجة".

تكشف رواية لعبة الدوائر الفارغة، مجموعة من المحضورات والممنوعات التي تمس القضايا الدينية ومنها المتمثلة في شخصية المسلحين الذين يقاتلون باسم الدين حين اقتحموا بيت أبي عدنان واغتصبوا زوجته عالية وسجلوا عملية الاغتصاب وعرضوها أمام الزوج لإرغامه على الالتحاق بهم ففي ص52 عن عالية على لسان السارد" حين فتحت عينيها وجدت أحدهم يقف فوق رأسها ويصور وجهها وأسفل المسلح" وفي ص53 على لسان عالية لزوجها" ضاجعوني خمسة".

حيث يتبين لنا من هذا المشهد تجاوز هؤلاء لشرع الله في إحلال ما حرم.

كما يتجلى للمتلقي اختراق المحظور الديني من خلال شخصية أبو سرحان الذي يعلم أن مصدر أمواله وطعامه من سكوته عن زوجته التي تمارس الرذيلة ففي ص63 على لسان وعد لزوجها" الزوج الذي يرسل زوجته لتأتي بالطعام دون إعطائها دينارا عليه ألا يشك".

أما ما يخص كشف المستور وهاجس الجنس فقد قدم علي لفته وصفا صارخا في غير مشهد جنسي وتحدث بجراة كبيرة عن المسكوت عنه.فالمراة في المجتمع العراقي مجرد وسيلة يستمتع بها الرجل ليخمد شهوته ففي ص146 عن ساجدة وزوجها " يسحبها إلى حضنه فتكون له مثل أنثى عطشة فيغدق عليها فخولة هائجة".

كما ويصور علي لفته تصويرا واضحا ومكشوفا للانحلال الخلقي في المجتمع مجسدا في شخصية البطلات ساجدة ،عالية،وعد فعلى لسان ساجدة ص104"أول رجل فتح زر قميصي ليرى جزء من نهدي كنت فيها أرتعش ..لكني تركته يفعل ما يشاء ولولا سماعه الأذان لتمادى أكثر لكني حصلت على توقيع عقد استيراد ثريات إلى أخد المشاريع الرئاسية". ففي هذا المشهد أراد الكاتب تعرية الواقع ونزع الحجاب عن المسكوت عنه من خلال تصوير الحياة الاجتماعية الفاسدة التي تتلذذ بالمحرمان وتغوص بالمجون ،فالأجساد أصبحت معرضة للبيع والشراء كأي سلعة مقابل ثمن دسم.

كما تصور الرواية عجز الازواج من خلال شخصية وعد حيث تركض خلف غير زوجها العاجز جنسيا والذي تعرض لإصابة أثناء تفجير لسد جوع شهواتها الجنسية وحرمانها ويظهر هذا ص35"قارنت بينه وبين بائع أجهزة الهواتف المحمولة الذي أراد مراودتها لقاء منحها هاتفا جديدا....كانت أسرع في اللهاث ليس خلف جهاز الهاتف بل لمقارنة أنوثتها كيف تتفجر".كما وتعتبر رواية لعبة الدوائر الفارغة مرتعا خصبا لتابو السلطة والفساد السياسي فقد أقدم الكاتب على خرق الواقع السياسي فتناول تساقط المنظومات القيمية وثوابتها السياسية طوال العقود المنصرمة وتداعي أنساقها المجتمعية بفعل الإذلال والإقصاء بعد أن كرست التحولات السياسية الجديدة قيم المحاصصة المبنية على الطائفة والدين والعرق وقد اتضح هذا ص114 عندما جاءت على لسان مالك المطعم لمنتظر عامل الدليفري"لا تقل لي حكومة محاصصة وتعيينات خاصة.هذه تجدها في كل المراحل وكل الدول...لا دولة بلا محاصصة ولا واسطة".

ففضح بذلك علي لفته خلتل اختراق المسكوت عنه مجموعة الممارسات التي تتجرأ السلطة على اقترافها ضد الشعب الذي ذاق ويلات الحروب على مدى عقود ويذوق الآن ويلات الانقسامات والطائفية.

كما يتطرق الكاتب إلى ظاهرة الهجرة غير الشرعية بسبب انعدام الأمان والكرامة وقد جاء هذا عندما اقترح أبو عدنان على زوجته الهرب عن طريق تهريبهم إلى الأردن ص23.

كما تناول الكاتب في روايته موضوع الإرهاب وهو مصطلح سياسي ديني بطريقة مكثفة وغاص في بحر الحقائق لينقلها للمتلقي بكل جرأة وصراحة وأنهم جماعة متطرفة ذوي عقيدة خاطئة تقتل باسم الله والدين فهم يتبعون ما يتماشى مع مصالحهم وأيديولوجياتهم وكل من يريد أن يسلك مسلك هذه الجماعات لا بد ان يغير مظهره ولباسه.كما ونتلمس في لعبة الدوائر الفارغة قضية جهاد النكاح وهذا ما جاء على لسان قريب أبي سرحان ص67" عليك نسيان تلك الكافرة..هنا يمكنك الزواج من اية فتاة تختارها" وهنا عمد الكاتب ان يبين كيف تتم عملية غسل الدماغ.

بقي ان نقول بأن علي لفته استطاع التقاط الجمال من القبح والقيمة الإنسانية من خراب الروح في دوائر فارغة وسط ضجيج سيهدأ يوما ليسمع لعبة تلك الدوائر صوتها للعالم.

***

قراءة بديعة النعيمي

(الأصعب هو امتلاك الفكرة، والأسهل قطع الرؤوس)... دوستوفسكي.

رواية «عروس الفرات» للكاتب علي المؤمن، صدرت عن دار روافد في بيروت في العام 2016، وتقع في (240) صفحة، وتتألف من ثمانية فصول.

ملخص الرواية

الرواية تحكي مأساة عائلة عراقية نجفية (أباء، أبناء وأحفاد) من سكنة محلة الحويش، يتم تصفيتهم بالكامل من قبل رجال الأمن بعد تعرضهم للاعتقال التعسفي، نتيجة اشتراك عدد من الأبناء في تنظيم سري إسلامي معارض للنظام الحاكم في ذلك الوقت. تتألف هذه العائلة من الأب (عبد الرزاق حسين الموسوي) وزوجته (حليمة نوفل جاسم) وأولادهما:

ــ (الدكتور عادل) وزوجته (نور) وطفليهما (هشام وآمنة)

ــ (أحمد) الموظف في مديرية شرطة النجف، وزوجته (ياسمين) وطفلهما (علي)

ــ (صلاح) خريج كلية الهندسة، حديث عهد بالزواج، وزوجته (زهراء)

ــ (ياسر) طالب في المرحلة المتوسطة

ــ (شيماء) طالبة في المرحلة الثانية في كلية طب الكوفة.

بعد أن يتم اكتشاف خلايا التنظيم، يهرب دكتور عادل مع زوجته وطفليه من النجف إلى بغداد، وعندما يحاولان الهرب خارج العراق بجواز مزوّر، يتم القبض عليهما، ليُعدما لاحقاً مع طفليهما في أحد معتقلات الأمن. صلاح هو الآخر يُلقى عليه القبض أيضاً ليُعدم سريعاً. أما أحمد فيحاول التخفي عن أنظار رجال الأمن، ولكن يُلقى عليه القبض، ثم يُفرج عنه لعدم وجود أدلة واعترافات ضده، ولكنه يُساق للاشتراك في جبهة الحرب بين العراق وإيران، ومن هناك يقرر الهروب إلى إيران وينجح في ذلك. وفيما كانت قوة من رجال الأمن تحاول اعتقال بقية عائلة عبد الرزاق، يتعرض ياسر للقتل بعد أن حاول المقاومة.

في المعتقل تتعرض العائلة لأبشع أنواع التعذيب والتعسف وهتك الأعراض، بإشراف النقيب (فلاح) أحد أشرس ضباط جهاز الأمن، وجلاوزته الغلاظ، فيُخنق الطفل علي من قبل أحد رجال الأمن كوسيلة ضغط على العائلة، ويموت الأب عبد الرزاق كمداً وغيضاً وهو يرى ابنته شيماء تتعرض للاغتصاب أمامه، ليتم إعدامها هي الأخرى لاحقاً، وتفقد الأم رشدها بعد صدمتها جراء ما حدث، ليتم تسفيرها مع كنّتها ياسمين إلى إيران بحجة التبعية والخيانة؛ فتموت الأم نتيجة إصابتها بلغم عند الحدود، وتصل ياسمين سالمة بعد معاناة كبيرة، لتلتقي بزوجها أحمد لاحقاً في أحد مخيمات اللاجئين العراقيين في إيران.

العُنف والقمع والاعتقال في الرواية العربية

رحم الله نزار قباني الذي عُرف بنقده اللاذع لسياسات الانظمة العربية، وبسخرية تقترب من الكوميديا السوداء:

(هل تعرفون من أنا؟

مواطن يسكن في دولة قمعستان..

فأرض قمعستان جاء ذكرها في معجم البلدان

ومن أهم صادراتها

حقائباً جلدية

مصنوعة من جلد الإنسان)(1).

يلجأ النظام الحاكم غالباً في منظومة العالم الثالث، ومنها منطقتنا العربية، للعنف والقمع والاضطهاد لمواطنيه، لضمان تشبّثه بالسلطة واستمراره بالحكم إلى أطول فترة ممكنة، وكأنه يتعامل وفق القاعدة الميكيافلية: (الغاية تبرر الوسيلة).

موضوعة (ثيمة) العنف والاضطهاد السياسي والاعتقال وممارسات التعذيب وثنائية الجلاد والضحية الذي تطرقت له رواية «عروس الفرات»، سبق وأن تم تناوله كثيراً من خلال عشرات الروايات العربية، ولعل أهمها: رواية «شرق المتوسط» لعبد الرحمن منيف، رواية «الوشم» لعبد الرحمن الربيعي، رواية «مكان اسمه كُميت» لنجم والي، رواية «خضر قد والعصر الزيتوني» لنصيف فلك، رواية «العسكري الأسود» ليوسف إدريس، رواية «الكرنك» لنجيب محفوظ، رواية «وليمة لأعشاب البحر» لحيدر حيدر، رواية «الحياة لحظة» لسلام إبراهيم، رواية «مقامة الكيروسين» لطه حامد الشبيب، رواية «سيرة الرماد» لخديجة مروازي، رواية «تلك العتمة الباهرة» للطاهر بن جلّون، رواية «المدغور» عمل مشترك لبشير الخلفي ورحمة بن سليمان، وغيرها من روايات أخرى. هذه الروايات رسمت للقارئ العربي صورة السادية البشعة وشهوة القتل التي تتمثلها أجهزة المخابرات والأمن وخفافيش الظلام في البلدان العربية بصورة عامة. وإذا كانت بعض هذه الروايات كـ«شرق المتوسط»، و«الوشم» لجأت إلى لغة التشفير، فلم تكشف هويتها المباشرة والبيئة الحقيقية التي تناولتها، وتركتها للقارئ أن يكتشف ذلك بنفسه على اعتبار أن البيئة العربية متشابهة لتوظيف هكذا (ثيمة) ، فإن روايات أخرى قد كشفت ذلك القناع مكاناً وزماناً واسماً صريحاً، كروايات «الكرنك»، و«العسكري الأسود» في مصر، ورواية «المدغور» في تونس، ورواية «سيرة الرماد» في المغرب، وروايات عراقية كثيرة، ومنها رواية «عروس الفرات».

تحليل الرواية

(ليس المطلوب من النقد أن يشرح أو يوضح، مطلوب منه أيضاً أن يضيف، أن يعيد صياغة الجمال ضمن مقولاته الخاصة)(2).

تدور أحداث رواية «عروس الفرات» بدرجات متفاوتة بين النجف، وبغداد، ومعتقل الأمن، والحدود العراقية الإيرانية، ومعسكر اللاجئين العراقيين في إيران. وزمان الرواية بين الأعوام 1979 و1982. تناوب أدوار البطولة في الرواية عدّة شخصيات بدرجات متفاوتة أيضاً: الأب عبد الرزاق، الابن دكتور عادل، الابن الثاني أحمد، البنت شيماء، زوجة أحمد ياسمين، والنقيب فلاح في جهاز الأمن، وهو ما يُعبر عنه في أدبيات النقد بـ(البطل الضد).

اتسمت الرواية بالبساطة والوضوح والمباشرة والواقعية والتسجيلية، وهي تعد وثيقة مهمة لحقبة قاسية مرّ بها العراق وهو يرزح تحت ثقل نظام يحبس الأنفاس، ويحكم بقبضة من حديد؛ حيث كشفت الرواية (وهذا ليس خافياً على أحد) الأسلوب القمعي لذلك النظام الشمولي الذي يسحق الناس كأنما يسحق نملة، من دون رحمة ولا شفقة كما جاء على لسان فلاح النقيب في جهاز الأمن: ((السيد الرئيس منع دخول الرحمة إلى أجهزة الأمن والمخابرات، لا طفل.. ولا عجوز.. ولا شاب.. ولا فتاة.. الكل سواسية.. مجرمون.. جواسيس.. عملاء. بشرفي سنسحقكم كالنمل.. أولاد العاهرات.. يريدون أخذ الحكم منا!))(3).

لقد عبّرت الرواية وبصدق عن موضوعة الاضطهاد السياسي في العراق خلال حقبة النظام البعثي الفاشستي، وتداعيات هذا الاضطهاد من معاناة وتوترات وانفعالات نفسية حادة، تجسّدت بشكل واضح على حياة شخصيات الرواية. كما جاءت الرواية لتكون شهادة حقيقية ومهمة من صور التضحية والبطولة لمعتقلي الرأي.

تناول السرد في رواية «عروس الفرات» ثلاث شخصيات: الراوي العليم وله حصة الأسد في السرد، وأحمد الابن المطارد من قبل أزلام السلطة، وزوجته ياسمين. ولكون هذه الرواية تنتمي لما يُسمى بالرواية السياسية من جهة، ولأدب السجون من جهة أخرى؛ فمن الطبيعي أن ترصد الرواية الأبعاد النفسية والسيكولوجية لشخصياتها، من خلال كشف انفعالاتها وشعورها وهواجسها، وهي تعيش أزمة الصراع مع السلطة المتمثلة بجهازها القمعي (رجال الأمن) وقبضتهم الحديدية.

نجح الكاتب علي المؤمن في رسم وتصوير شخصيات روايته وسبر أغوارها، واستخدام لغة الحوار المناسبة لها، غير أننا نشكل عليه انحيازه الكامل لاتجاه فكري واحد (التيار الإسلامي)، كأنّ لا غيره في الساحة العراقية والعربية، حيث تتعدد التيارات والايديولوجيات والانتماءات بشكل واضح، وظلت الرواية حبيسة البعد الواحد؛ فلم تستثمر الجدل الثقافي والفكري المتعدد الأبعاد، الذي يتمظهر من خلاله الحوارات والآراء المختلفة، ولم تتخلص من تقليدية التجربة الشخصية الأحادية وضغوطها وصراعها غير المتكافئ مع السلطة؛ فجنحت الرواية إلى ما يُسمى برواية الصوت الواحد، الذي يقف خلفه الكاتب مهيمناً بأيديولوجيته وفكره.

شيماء: عروس الفرات

(في السجن، كل شيء يُعرض أمام أعين الجلاد وسياطه، ويكون الجسد هو الموضوع الذي يمارس عليه الجلاد ساديته)(4).

يُعد محو الجسد وقمعه، أحد تمظهرات رواية ما بعد الحداثية التي يلجأ إليها الكاتب العربي؛ فيستدعي الواقع السياسي المأزوم الذي يُدار من قبل أنظمة شمولية مستبدّة، تقوم على مصادرة الآخر وتهميشه وإلغائه وإذلاله، وصولاً إلى محو جسده بصورة نهائية؛ فتكون التصفية الجسدية هي جزء رئيس من سياسة السلطة المستبدّة.

عنوان رواية «عروس الفرات» يشي بوجود ضحية، وهو عنوان يتناص مع أسطورة (عروس النيل)، عندما كان المصريون القدماء يلقون بأجمل الفتيات في نهر النيل في موسم الفيضان كقربان له. والقربان في رواية «عروس الفرات» هي شيماء عبد الرزاق الموسوي، وذنبها أنها شقيقة لشخص مطلوب للنظام وهارب خارج البلد.

في فضاء المعتقل وهو بحسب أدبيات النقد، المكان المغلق والمعادي، يتم انتهاك جسد (شيماء) بشكل صارخ عندما يتجرد الجلاد من طبيعته الإنسانية ومن كل القيم، ويتحول إلى ذئب كاسر يفتك بالضحية متجاوزاً كل الخطوط الحمراء التي وضعتها الشرائع السماوية والقوانين الدولية والأعراف الاجتماعية؛ فتقدم لنا «عروس الفرات» هذا المشهد المؤلم: ((أعطى النقيب مساعديه إشارة البدء؛ فاندفعوا نحوها بشوق، وبحركات ماجنة، وراحوا يتناوشون ثيابها بأيديهم شدّاً وتمزيقاً واستلالاً، حتى عرّوها تماماً من كل ملابسها.. وهي تستنجد بالله ورسوله وأهل بيته. وقفوا ينظرون بعيونهم الشرهة إلى جسدها المرتعد الأوصال خوفاً واستحياء. غمز النقيب إلى أحد مساعديه، الرجل القصير، الضخم الجثة، المفتول العضلات، ذي الكفين السميكتين، والرأس الأصلع.. همهم النقيب هاتفاً بالأمر: أنا بشوق لأمتع ناظري. ابتسم المساعد ابتسامة صفراء، كأنه يعد نفسه لتنفيذ أمر رئيسه بلهفة. كمّوا صوت شيماء بخرقة قماش لفوها على فمها الدامي، فلم يعد يدوّي في أنحاء الغرفة، ولا في أرجاء المبنى، لكنه بقي مدوياً.. يصرخ في طوايا الضمائر.. لا يخرس الزمن صداه..))(5).

وإذا كانت بعض الروايات العربية قد عبّرت عن انهزامية السجين السياسي أمام الجلّاد، مثل روايات «شرق المتوسط»، و«الوشم»؛ فإن رواية «عروس الفرات» عبّرت عن الموقف البطولي والثبات على المبدأ، من خلال موقف الإباء والشموخ لدى شيماء: ((شيماء كانت أشبه بالثورة المتأججة، بالبركان المتفجر، وهي تشاهد ابن أخيها قتيلاً، فاختلطت صرخاتها مع صدى ضرباتها العنيفة للجدار برأسها: يا ذئاباً نتنة.. يا كلاباً مسعورة.. أتكتبون سطوراً في الولاء لرئيسكم القذر.. بدم الطفولة المسفوحة.. هاكم دمي يا قتلة فخذوه. كانت هذه الكلمات كافية لتستحيل شيماء إلى كتلة من الدماء حتى أغمي عليها))(6).

جاء اغتصاب (شيماء) في زنزانة الأمن وإعدامها لاحقاً، وإعدام أفراد عائلتها، ليعبّر عن اغتصاب وإعدام للوطن وللأرض وللمجتمع، وجاء كمحاولة ساذجة وسخيفة ومتهورة لاغتصاب ذاكرة الشعوب ومحوها من الوجود. أقول ساذجة وسخيفة ومتهورة لأن ذاكرة الشعوب لن تموت، الجلاد هو من يموت في نهاية المطاف، طال به الزمن أم قصر. ولا شكّ أن استدعاء رواية «عروس الفرات» لفعل الاغتصاب، إنما هو إدانة صارخة للنظام السياسي الذي سمح وشرّع لهذا الفعل. ((في هذا العصر العربي الزنيم العاهر، وفي مواجهة هذه الكوكبة المتألقة، والتي تملأ سماء الوطن، وفي ظل أعتى القوى والأساليب الهمجية؛ فإن كلمة (لا)، هي البطولة بذاتها. وكلما كانت (لا) مصقولة أكثر، نافذة أكثر، قوية أكثر؛ فقد قلت لعصرك ما يجب أن يقال، وقلت (للأقوياء) رأيك فيهم، وسميت الأشياء بأسمائها الحقيقية.))(7).

***

عبد الله الميالي - كاتب وناقد أدبي من العراق

...................

الإحالات

(1) نزار قباني، ديوان (قصائد مغضوب عليها) ص24، منشورات نزار قباني، بيروت، 1986.

(2) عبد الرحمن منيف، رسائل عبد الرحمن منيف، مجلة نزوى، العدد 84، أكتوبر 2015.

(3) علي المؤمن، عروس الفرات، ص171.

(4) سعيد بنگراد، مجلة علامات، العدد 23، يناير 2005.

(5) علي المؤمن، عروس الفرات، ص204 ـــ 210.

(6) المصدر السابق، ص184

(7) عبد الرحمن منيف، رسائل عبد الرحمن منيف، مجلة نزوى، العدد 84 ، أكتوبر 2015.

 

الوقوف أمام الصرح الشعري للشاعر المرهف الأستاذ أبو فراس جابر الصنهاجي لا يخلو من لذة وجمالية. فشعره يتضمن وعيا جماليا نتعرف من خلاله على ذاتيته ومتخيله، وإحساسه بالجمال في أنقى تجلياته. وهو انعكاس لأحاسيسه وتفاعله مع الكون. الشيء الذي يضعنا أمام تجربة شعرية ثرية ومتنوعة . وهذا ما نلمسه بوضوح ونحن نبحر في رحاب ديوانه ونخوض في عبابه مستمتعين بدرره الساطعة مستضئين بنور أقماره المشرقة.

يقع ديوان أحرقت مراكبي المولود الجديد للمبدع أبو فراس في مائة وأربع صفحات، ويتضمّن أربعا وعشرين قصيدة، تتوزع بين الشعر العمودي وشعر التفعيلة والقصيدة النثرية، مع تقديم راقٍ للناقدة التونسية نجلاء المزي. والولوج لديوان الشاعر أبو فراس الصنهاجي يقتضي منّا أن نطأ عتبته ممثلة في عنوانه أحرقت مراكبي، وهذا العنوان يحيل إلى حدث فتح الأندلس كما أشارت إلى ذلك الناقدة التونسية، هذا الفتح الذي كان بطله طارق بن زياد القائد المغربي وأمير طنجة الأمازيغي الأصول، الذي قاد جيشا أغلب أفراده مغاربة.

اعراب العنوان

أحرقتُ: فعل ماض مبني على السكون والتاء المتحركة ضمير متصل في محل رفع فاعل

مراكبي: مفعول به منصوب بالكسرة النائبة عن الفتحة للتعذر وهو مضاف والياء ضمير متصل في محل جر مضاف إليه.

العنوان مقتبس من قصيدة عمودية تحمل نفس العنوان، تتميز بزجالة في اللفظ و تجويد في المعني. يقول الشاعر: ص 52

أيغريك أني أتيتك حافيا

وأحرقت المراكب والخياما

ألا هزي سهما بعين رميته

أصاب قلبا تغنى بك وهاما

قصيدة تمتح من قاموس الشعر العربي الأصيل وهذا ما نلمسه من خلال الحقول المعجمية لهذا النص و"يقصد بمفهوم الحقل المعجمي مجموع الألفاظ التي تتعلق بموضوع معين" : حقل العشق (وشوقاه، بعشقها..) وحقل الحرب (السهام، المراكب، الخيام، الخميس، رمح، قائد...) وحقل الطبيعة (البدر، النجم، الأفنان، الورود نسيم الليل) وحقل الطيور (الحمام، الباز... إلخ

إذا تجاوزنا العتبة وولجنا المتن، فإننا نجد أنفسنا أمام فيض جمالي دافق يتشرب لغته من الموروث الثقافي العربي سواء القديم أو الحديث الحامل لجينات تاريخ الهوية المغربية المتأصلة التي تميز المغاربة عن غيرهم من الشعوب، لأنها تؤسس لعلاقة وجدانية راسخة بين الذات الشاعرة ووجدان الأمة. والملاحظ أنه يمكننا الوقوف من خلال القصائد العمودية وهي كالتالي:

1) ابتهال

2) عبير وردة

3) أحرقت مراكبي

4) شموع المدارس

5) مهاجر إليك ناسك

6) رجوع إليك

على الحضور الانساني، والعاطفي، والوصفي، وعلى تجربة الشاعر الجمالية من خلال التجليات والإشراقات الوجدانية. وهذا يتطلب منا إنصاتا دقيقا إلى هذه النصوص الشعرية، عبر البحث، والكشف والسفر، في التجربة الجمالية والإنسان والرؤيا والمعمار النصي. إن للحب لذة لا مثيل لها. جنة دنيوية. وعبقا صوفيا موسوما بالتماهي بين العقل والوجدان. والشاعر في هذه النصوص يؤكد على الصورة الشعرية، والموسيقى والإحساس والوجدان، والمخيلة. إنه يكشف لنا حبه لشعرية النص وقوته التعبيرية. وجدير بالذكر أن نصوصا مثل أحرقت مراكبي، وابتهال، رجوع إليك ذات صلة قوية بعمود الشعر العربي التي وضع لبناتها الأولى الجرجاني وأجمَل أركانها المرزوقي بقوله: «إنهم كانوا يحاولون شرفَ المعنى وصحته، وجزالةَ اللفظ واستقامته، والإصابة في الوصف ـ ومن اجتماع هذه الأسباب الثلاثة كثرت سوائر الأمثال وشوارد الأبيات ـ والمقاربةَ في التشبيهِ، والتحامَ أجزاء النظم والتئامها على تخيُّرٍ من لذيذ الوزن، ومناسبة المستعار منه للمستعار له، ومشاكلةَ اللفظ للمعنى وشدة اقتضائهما للقافية حتى لا منافرة بينهما. فهذه سبعة أبوابٍ هي عمود الشعر، ولكلِّ باب منها معيار»، فعمود الشعر له سبعة أركان تتحقق في القصيدة من غير قسمة على البيت لكل عنصر، لكنها تقع مواقع الاستحسان باعتدالها، وتأخذ منابر الكراهة بزيادتها واجتلابها. فنحن مثلا عندما نقرأ لأبو فراس قوله:

أنا الذي أمسك النجم سابحا

وجئت بالبدر خوفا أن يساما

نتذكر بَيْتَ المتنبي: “أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي........ وأسمعت كلماتي من به صَمَمُ

وهذا يوضح مدى تأثر شاعرنا بما عاشه وخَبّره على امتداد سنوات سواء من خلال دراسته الأكاديمية للأدب العربي أو تدريسه لمادة اللغة العربية فقد راكم ثقافة شعرية تجمع بين الشعر القديم والمعاصر متمثلا في تجربة الإحياء والبعث وتجربة سؤال الذات وتكسير البنية، ما أثر بشكل واضح في رسم مساره الإبداعي المتسم بالثراء والعمق. يقول الشاعر أبو فراس في قصيدة ابتهال:

ارحم والدي فضلا منك وكرما

واغفر بعفوك رَبِّي والخير لك

والزهراء فاطم بنت محمد

وسيد الشهداء الذي استنصرك

بحق الإمام الذي كرمت وجهه

فعاش للحق داعيا حتى لقيك

في هذا النص نلمس النفس الصوفي الوجداني لدى الشاعر ونلاحظ أن كلماته تبين كثافة العشق التي تملأ قلبه والنور الذي يغشى عينيه. والبياض الذي يصبغ دواخله. إن شعره يمثل واقعه. وبالتالي تتماهى الكلمات مع ذاته، وتصبغ صوره، التي نرى من خلالها أنها " الموهبة الخلاقة التي يتحكم بواسطتها الإنسان في القوى الكامنة في الطبيعة وفي نفسه" .

الديوان يضم أيضا قصائد نثرية. لغتها وصُورها الشعرية تعبر عن ذاته وعاطفته وتعكس طموحه في كتابة قصيدة شعرية حداثية. وقد اختار أبو فراس هذا الجنس الأدبي "كتقنية كتابية تعبيرية تعكس مشاعره وبوحه. واعيا بتقنيات قصيدة النثر كشعر حداثي من حيث البناء والتوظيف والتناص والسرد" . نقتطف من قصيدة وشم في الذاكرة هذا المقطع ص 78

كم أنت طيبة يا عزيزتي

وراقية يا سيدتي

هل تذكرين أيام كنا وحدين

أياما جاورنا فيها الموت

شاركنا العنكبوت المأوى

ونمل أحمر

والصرار كان يزورنا ليلا..يتفقدنا

كان ليلنا طويلا يا سيدتي

والشمس دائمة المغيب

تبحث عنا

لجوء أبو فراس لكتابة قصيدة النثر يمثل رغبة قوية لديه للتجديد ومسايرة التطور الذي يعرفه الشعر العربي الحداثي الذي راكم تجارب شعرية مؤثرة مع ظهور شعراء مبدعين من طينة أنسي الحاج ومحمد الماغوط وأدونيس ويوسف الخال أغنوا هذه التجربة وساهموا في تطويرها وقد وجدوا ضالتهم التي ینشدونھا في كتاب (قصيدة النثر من

بودلیر حتى أیامنا) للكاتبة الفرنسية سوزان برنار وقد تبنت مجلة شعر الصادرة ببيروت سنة 1957 م معظم إبداعاتهم ومقالتهم التنظيرية، يقول يوسف الخال في العدد 6 ص 152من مجلة شعر:" " نحن نجدد في الشعر لا لأننا قررنا أن نجدد، نحن نجدد، لأن الحیاة بدأت تتجدد فینا، أو قل: تجددنا".ويقول أيضا في نفس المجلة:" أن الشعر تجربة شخصية كیانیة فريدة، وأنّ التعبير عنھا يجب أن یَتِمّ بتحرير تام من تأثير القوالب التقليدية الموروثة، والقواعد الموضوعة ". الأكيد أن هذا الآراء رغم جرأتها فهذا لا يمنع من التأكيد "أن الحداثة العربية ينبغي أن تنبع من الجذور العربية نفسها، ولا يمكن أن تكون صدى لسواها، ولا يمكن أن يكون هناك انقطاع مع الماضي أبدا " كما يؤكد جهاد فضل، لأن الملاحظ أن البعض ينظر لقصيدة النثر باعتبارها مطية ذلولاً، كما يحسبون، يبثون من خلالها خواطرهم من جهة، وباعتبارها من جهة أخرى تمثل حركة «الحداثة» الشعرية، التي انبثقت من الشعرية الغربية.

الشاعر أبو فراس لم يكتب قصيدة النثر إلا وهو مطلع على الموروث الشعري القديم سواء خلال العصر الجاهلي أو العصر الأموي والعباسي والأندلسي وكذلك له اطلاع واسع على الشعر العربي المعاصر وبالتالي فله رصيد قوي وأدوات فنية أكسبت نصوصه الشعرية النثرية. نلمسها في صوره الشعرية ذات البعد الايحائي والتعبيري يقول شاعرنا الأريب:

ينهض الشهيد في عنفوان

يقبل تربته

مسك وزعفران

على وسادة خضراء

كان متكئا

بردة عليه ناصعة البياض

سبع حجج خلت

وافيات على الفراق

يمشي مطمئنا بين قطوف دانية

يتوضأ من آنية من فضة

يتابع ورده في خشوع

يرفع سبابته. إلى السماء

يشهد أن منزله رحب

والمضيف كريم

يبتسم مشرق الوجه كعادته

2 - الصورة الشعرية والإيقاع:

الصورة الشعرية والايقاع: من المتعارف عليه أن الصورة الشعرية هي تركيب لغوي لتصوير معنى عقلي وعاطفي متخيل لوجود علاقة بين شيئين، وهي تبنى بأساليب متعددة من أهمها: المشابهة والتجسيد والتشخيص والتجريد. وتستند على مكونات ثلاث:

1) اللغة من خلال الألفاظ يوصل الشاعر المعنى

2) العاطفة وهي تعبير عما يخالج ذات الشاعر من أحاسيس

3) الخيال ويستند عليه الشاعر لنقل صور وتمثلات تتجاوز الواقع

ويجدر بنا التأكيد على أن هناك أيضا مُكوّنا التشبيه والاستعارة التي قد تكون صريحة أو مكنية و أصلها تشبيه حذف أحد طرفيه، .يضاف إليها أيضا الرمز والأسطورة والانزياح. فإلى أي حد نجح شاعرنا في منح المتلقي صورا شعرية ماتعة؟

إن سبر أغوار نصوص أبو فراس الصنهاجي يجعلنا نكتشف أنه اشتغل على تطوير الصور الشعري داخل النص حيث جعلها تتحرك وتُثري النص.فداخل هذه الصور الشعرية نجد توظيفه للتضاد والمقابلة لرصد تلك الحركة داخل النص وكذا المقابلة لخلق الجمال، ومنح المتلقي فرصا متعددة للتأويل والاستمتاع بتوهج هذه الصور ورفع درجة الوعي لديه بقيمة الكتابة الشعرية الزجلية، وهناك نماذج متعددة. يقول الشاعر أبو فراس في قصيدة عبير وردة :

زهراء البيت فاحت أريجا

كروضة تريحني من نصب

تطوف علينا سعيدة بمشيتها

كأنها بدر في بيتنا الرحب

ص47

في هذا النموذج نكتشف الاشتغال القوي للشاعر على الصورة الشعرية، وتوسله بالاستعارة المكنية حيث يحضر المُشبّه "المستعار له" وهو زهراء ويُحذف المشبه به "المستعار منه"، وهو الزهرة ويُكنّى عن هذا المشبّه به المحذوف بشيء من لوازمه وصفاته (فاحت أريجا)،يقول الشاعر:

نجوم زينت فضاء مدارسنا

إن السماء تزينها الأقمار

المراد بالنجوم هنا المدرسون والمدرسات الاستعارة هنا تصريحية حيث ذُكر فيها المشبه به "المستعار منه" النجوم وحُذف المشبه المستعار له وهو المدرسون. والاستعارة هنا تتجاوز مستواها الدلالي المتداول إلى المستوى الايحائي وذلك بتوظيفها ألفاظا تتجاوز معناها الحقيقي لتؤدي معنى ثانيّاً في بعد مجازي. يقول الشاعر قصيدة ص :

في تلك الليلة

من ليالي الحصاد الدافئة

كنا في غمرة نغازل النجوم

فينا وفي الأعين

الحالمة كنا

على ربوة ناعسة

والقمر يقظا يحرسنا

وعندما تحجبه غيمة

من غيوم الليل السريعة

نسرق رشفات بسرعة البرق

في هذا المقطع يستحضر الكاتب لغة خارجة عن المألوف ويستدعي ظاهرة الانزياح وهذا نلمسه في تشكيل لغته الشعرية، وتعميق محتواها الدلالي وامتيازها الشعري الذي يحفظ له بصمته الإبداعية، ويتيح له إثبات ذاته الفكرية. 

الانزياح في اللغة هو زوالُ الشّيء وتنحّيه، ويكون بمعنى ذهب وتباعدَ، وبذلك يكون في اللغة له علاقة بالذهاب والتباعد والتنحّي، أيْ تغيير حال معينة وعدم الالتزام بها، وقد ترتبط الدلالة اللغويّة بشيء غير المكان كقول: زاح عنه المرض أيْ زال عنه، أمّا اصطلاحًا فهو يُشبه دلالتَه اللُّغويّة فهو الخروج عن المألوف والمُعتاد، والتنحّي عن السائد والمتعارَف عليه، وهو أيضًا إضافة جماليّة ينقل المبدع من خلالها تجربته الشعوريّة للمتلقي ويعمل على التأثير فيه، وبذلك فإن الانزياح إذا يحقق قيمةً جمالية:

كنا في غمرة نغازل النجوم

فينا وفي الأعين

الحالمة كنا

على ربوة ناعسة

والقمر يقظا يحرسنا

الانزياح هنا دلالي حيث تنزاح الدوال عن دلالاتها الأصلية فتختفي الدلالات المألوفة لتحل محلها دلالات جديدة غير معهودة ولا محدودة:

نغازل النجوم

ربوة ناعسة

بالنسبة للإيقاع :يقول ابن فارس المتوفي سنة 395م ميلادية: "إن أهل العروض مجمعون على أنه لا فرق بين صناعة العروض وصناعة الإيقاع، إلا أن صناعة الإيقاع تقسم الزمان بالنغم، وصناعة العروض تقسم الزمان بالحروف المسموعة" أما عند ابن طباطبا فيرتبط الإيقاع باعتدال الوزن وصواب المعنى. في حين عند المحدثين فإن الايقاع هو التتابع والتواتر ما بين حالتي الصمت والكلام؛ حيث تتراكب الأصوات مع الألفاظ والانتقال ما بين الخفة والثقل ليخلقا معًا فضاء الجمال.. والايقاع:

1- داخلي يستند على الموازنة (يعني أن يكون البيت متعادلًا في الأوزان والألفاظ، ) والتكرار (هو مجموعة من الوظائف من أبرزها لفت الانتباه والتأكيد على المعنى ونحو ذلك)

2- خارجي و هو العروض والقافية.

فألى أي حد نجح الشاعر أبو فراس جابر الصنهاجي في تطويع نصوصه بشكل يخدم نسق التتابعات والإرجاعات ذاتِ الطابع الزمني والموسيقي، ليقوم بوظيفة جمالية مع غيره من عناصر تشكيل النص الشعري ؟وإلى أي حدّ نجح في صياغة شعره على النحو الموسيقي الذي يتناسب وخلجات نفسه ودفق مشاعره؟

أرجع محمد مندور في:" الشعر العربي: غناؤه وإنشاده وأوزانه» الوزن إلى كم التفاعيل، والإيقاع إلى النبر أو الارتكاز عن طريق تردد ظاهرة صوتية ما على مسافات زمنية محددة.

النبر: " ظاهرة صوتية دقيقة تهدف إلى إبراز الصوت على مقطع من الكلمة. في العربية لا يغير النبر المعنى لكنه قد يساعد السامع على الفهم." سنأخذ كنموذج قصيدة أحرقت مراكبي: ص 52:

واشوقاه إليك يرفع المقاما

وهجر حبيب حملني الملاما

أيغريك أني أتيتك حافيا

وأحرقت المراكب والخياما

ألا هزي سهما بعين رميته

أصاب قلبا تغنى بك وهاما

في قصيدة أحرقت مراكبي نلمس جمالية الايقاع الداخلي من خلال التواشج اللفظي: "التقاء الكلمات في جمل في صورة او اكثر من جهة اللفظ، " مما يخلق تناغما داخل الاسطر الشعرية ويربطهما ببعضهما رابط موسيقى محبب يشد انتباه المستمع للقصيدة ونجده كملمح أسلوبي للسيطرة على الموسيقى الداخلية بشكل يحقق الانسجام ما بين الألفاظ والمسموعات اللتان تؤديان معًا إلى تحقيق الغاية التركيبية التي تؤدي إلى الوصول إلى غاية البلاغة والبيان. كما نلاحظ أن الصنهاجي استغل كل الإمكانيات الإيقاعية المتاحة لتحقيق تناغم موسيقي يخدم البنية الجوهرية للنص. فمن الاصوات المهيمنة على القصيدة اصوات حروف المد (الواو، والياء والالف) . وكما هو معلوم أن أصوات المد مجهورة والجهر سمة صوتيه، وهي من الحركات الطوال تحمل الينا من خلال سياقها احدى خفقات التهيب والحيرة التي تسيطر على نفس شاعرنا فتصيبها بالحزن والكأبة. يقول الشاعر ص 52:

والأعمال بخواتيمها حدثنا

أصحابي هيا نحسن الختاما

على جزرة عضوا بنواجدهم

فنسوا دعوة حملوها أعواما

بالنسبة للقافية وهي الحروف التي يلتزم بها الشاعر في آخر كل بيت من أبيات القصيدة. وتبدأ من آخر حرف ساكن إلى أول ساكن مع الحرف المتحرك الذي قبل الساكن.

بالنسبة للبيت الأول فالقافية هي لَامَا بألف مشبعة

بالنسبة للروي الحرف الذي تُبنى عليه القصيدة فيقال : قصيدة بائية أو رائية أو دالية. فالروي في بيت الشاعر الصنهاجي هو الميم وبالتالي قصيدته ميمية.

هذه في أخر الأمر مجرد قراءة انطباعية بسبب ضيق الوقت لديوان أخينا الشاعر الفاضل سي جابر الصنهاجي حفظه الله أتمنى أن تنال القبول والرضى

***

محمد محضار

 

 

الوظائف التكوينية في الانسجام النصّي.. خشخشات تنقر النافذة للشاعرة السورية: رماح بوبو

ننساق وراء الوظائف وتكوينها، ومنها الوظائف السياقية التي تؤدي إلى وظائف حركية لتكوين استقراء النصّ؛ وهو ضمن حركة الخلق من خلال الأدوات الفنّية وحركة الأفعال، ومنها حركة أفعال الكلام المعتمدة في النصّ المنفرد؛ ومنها أيضاً الأفعال الانتقالية والتموضعية، أي أنّها الأفعال التي تنسجم مع الحدث الشعري وليست تلك التي تخبرنا عنه، حيث أنّ النصّ يعتبر ذلك حدثاً منفصلاً عن الأحداث العامة التي تمرّ بنا، فاليومي غير الخيالي، والواقعي غير التصوّري، وفي الوقت نفسه أنّ النصّ الشعري وانسجامه مع الحدث، يعتبر النصّ الخلاق، حيث يتداخل من خلاله الخيالي والواقعي والتصوّري، أي أنّه سيعيش حالة فكرية وتفكّرية مع الشاعر.

يتعلّق النصّ الشعري بجديده وليس بموروثه أو تكرار ما أبدعه الآخرون، لذلك لكلّ نصّ جديد، ذات جديدة، ومتعلّقات غير مطروقة، فليس هناك انسجام نصّي يخرج من النصّية إلى النصّ، بدون تأثيرات انسجامية، فالحدث الشعري يعيش مع الشاعر وإن كان لقطة لحظوية، فهذه اللقطة أو اللحظة ستكبر عندما يغذّيها الشاعر بما يلائم حركة الدال في النصّ المنظور.

طالما أنّنا في الوسط الوظيفي والمتعلقات النصّية من خلال وظائف النصّ التكوينية وانسجاماتها، إذن نحن في منطقة المقاربات التداولية والتي يبدو من خلالها الصراع بين الـ " أنا " والآخر، وكذلك بين الأشياء، فليست جميع الأشياء منسجمة مع بعضها، فبعضها يتعلّق بفعل تنافري، وبعضها بفعل تناقضي، وبعضها ينحاز إلى الفعل المختلف، وهو الدالّة المختلفة التي نسعى إلى توضيحها من خلال نصوص الشاعرة السورية رماح بوبو.

يعتبر النظام التداولي ذا تنظيم داخلي للنصّ، ولكن في الوقت نفسه نلاحظ تشعّباته وعدم استقراره في نقطة معيّنة، فإذا أخذنا القول اللغوي للنصّ الشعري، نجده ضمن المتعلقات النصّية، فالنصّ لغة قبل كلّ شيء، لغة ليست بدائية وليست مطروقة بشكلها اليومي، بقدر ما تسعفنا هذه اللغة في التناقضات والاختلافات النصّية، وتشكل المشهد النصّي المنظور، وذلك بين سياق التواصل وسياق التفاعل؛ ويكون للنصّ الشعري خصوصيته الجمالية ضمن المنظور الاستطيقي، حيث تعتبر الجمالية العنصر الفعل مع كلّ نصّ نموذجي يمنحنا الرمزية من جهة أو ماوراء الواقع من جهة أخرى.

ترتبط القدرة بوسائل وعلاقات ذاتية أو عقلية، لذلك عندما نطرق باب الأحلام، فهي ضمن قدرة الشاعر وترجمته الشعرية لهذه الخصوصية؛ ومن هنا، يبدأ بالتنقية النصّية، وهي تنقية الصورة التكوينية وكيفية اندماجها ضمن الفعل التلقائي، حيث أن الكتابة لدى الشاعرة السورية رماح بوبوـ تعتمد التلقائية من جهة والولوج إلى التفكّر الآني من جهة أخرى.3210 خشخشات

الانسجام النصّي التداولي

من خلال أدوات النصّ والعلاقات العميقة بين الجمل الشعرية وبين النصّية، تصل إلى اندماجات تواصلية في المنظور النصّي، وهي الآلية التي نرغب الوصول إليها من خلال نصوص الشاعرة السورية رماح بوبو.

يؤدّي الانسجام النصّي إلى التماسك الفعلي للنصّ، وتظهر من خلاله الصور الشعرية وفعل الإثارة، حيث أنّ تبديل المفردات الشعرية يؤدّي إلى رمزيتها أو الإشارة إليها من خلال تقريبها من النصّ واندماجها  بالجمل التركيبية، ويكون لأنواعية الأفعال الصدارة أيضاً في إيجاد الدلالات التي يعتمدها النصّ الشعري؛ والنصّ لدى الشاعرة السورية رماح بوبو، يحوي وسائل لغوية مختلفة، فتارة تقودنا عبر الرمزية وتارة أخرى إلى لغة ماوراء الواقع، بالإضافة إلى رومانسية الحدث الشعري الذي تعتمده في بعض النصوص، وهو التعبير اللغوي المخاتل والذي يعتمد على الإيحاء والتنبيه والاستعارة.

تائهةٌ

كوعلٍ على شرفة نهدة!

كأنّي في بال المغيب

دفء صباحٍ

وفي بال الصّباح

غفوة ناي بعيد!

وحزينة

كبنفسجة قصيرة السّاق

لم تستطع أن

تلبّي توق الإناء !

وكأنّني محض عشبةٍ كلّما

همّت ذبولاً

رشّها جنون الفصول برشّة ماء فلم

تجد ماتقول!

من قصيدة: مزراب القمر – ص 9 – خشخشات تنقر النافذة

دلالات اللغة كثيرة، ولكن وقوفنا ليس فقط في هذه المنطقة، بقدر وقوفنا بمناطق أخرى من خلال النسيج النصّي أوّلاً، والانسجام النصّي ثانياً، وهما فعلان للتداول النصّي، ويعتبران من مهام النصّ الشعري وتشكيلاته الفنّية والعلاقات التي تربط الجمل ببعضها.

أما من ناحية العلاقات الدلالية في الانسجام النصّي، فهي تقودنا إلى السببية والعمومية والخصوصية والتفصيل والأضداد، ولا يكاد نصّ من النصوص أن يخلو من المتعلقات السببية التي تعوم حول الذات الحقيقية، ومن هنا نستطيع أن نكون ولو بجزء حتمي مع تفكيك لبعض الجمل الشعرية وتواصلها من خلال الوظيفة التفاعلية والإخبارية.

تائهةٌ + كوعلٍ على شرفة نهدة! + كأنّي في بال المغيب + دفء صباحٍ + وفي بال الصّباح + غفوة ناي بعيد! + وحزينة + كبنفسجة قصيرة السّاق + لم تستطع أن + تلبّي توق الإناء ! + وكأنّني محض عشبةٍ كلّما + همّت ذبولاً + رشّها جنون الفصول برشّة ماء فلم + تجد ماتقول!

تفتتح الشاعرة السورية رماح بوبو مجموعتها الشعرية (خشخشات تنقر النافذة) بنصّ تحت عنوان؛ مزراب القمر، وهي تقود الآخر إلى جدل التيه؛ أي أنّ الثابت منها غير متحوّل طالما قد سخّرت مشاعرها في مسلك التيه؛ وذلك من خلال المعنى المنظور للنصّ، وكأنّ الشاعرة تطلب من المتلقي أن يندمج مع شطور المأساة التي أشارت إليها بالاختيار، فعندما يتغزّل الشاعر بالمرآة، فالمرآة عاكسة للمادة، والذي يختفي خلف المرآة لايظهر بشكل معكوس، ومن هنا، فقد أرادت الشاعرة أن يكون المتلقي واقفاً خلف المرآة لكي يلاحظ ماخفي خلفها، وكذلك الذين يأتون ويؤدون دورهم أمام المرآة، وما نظرية التشبيه إلا كونها عملية اشتغال؛ سخّرتها الشاعرة رماح بوبو كي تكون العنصر المتفاعل في نصّها. وهي تؤدي واجبها في التصوير المنظور، فقد بدا الاختلاف اللغوي وتكوين الصورة الشعرية من خلال هذه النظرية والتي تعد جزءاً من الكيان النصّي المعتمد.

إنّ بعض عمليات التشبيه التي اعتمدتها الشاعرة رماح تتوضّح من خلال حرف " الكاف " وبعضها اندمج من خلال الجملة المتواصلة، مثلاً : تائهةٌ + كوعلٍ على شرفة نهدة!

وفي بال الصّباح + غفوة ناي بعيد!

الأولى كانت واضحة من خلال حرف الكاف، أما الثانية فقد تجاوزت التوضيح، ولتوضيحها أكثر كأنّها قالت لنا : وفي بال الصّباح = كغفوة ناي بعيد!..... إلا أنّها تجاوزت هذا الحرف واعتمدت على الجملة كي تكون منسجمة تماماً وجزءاً من كيان الجملة الشعرية، وذلك لكي تعطي الشاعرة بعداً إثارياً للمتلقي.

ونستطيع أن نطلق على مثل هذا التشبيه بالتشبيه الضمني وهو يأتي ضمن سياق تركيب الجملة الشعرية، وهناك الكثير من الأمثلة واعتماد الشعراء على التشبيه الضمني في فنّ حياكة النصّ الشعري الحديث؛ ومن الممكن أيضا أي يوحي الشاعر ببعض أفكاره ضمن التشبيه الضمني، وليس هناك شاعر لايحمل فكراً أو مبدأ من المبادئ الحياتية أو نظرية من نظريات الفلاسفة.

عندما بدأت الشاعرة بمفردة (تائهة) لاحظنا أنّ القول والقول الشعري يستمدّ بهجته من السكوت، أي أنّ الصمت قد أوحت به الشاعرة رماح بوبو: وكأنّني محض عشبةٍ كلّما + همّت ذبولاً + رشّها جنون الفصول برشّة ماء فلم + تجد ما تقول!...

أردتّ يوماً أن أكون عريفة الصفّ

لكنّي

كتبت أسماء رفاقي الساكتين

ففوجئتُ

أنّ معلّمتي تحبّ السكوت

وتكره خطّي المائل!

أردتّ أن أكون سيّدة أنيقة

لكنّهم

نظروا إلى خدوش ركبتيّ

وصاحوا.. هذه ماعز!

شرّدوني للتلال

أوّل التلّ دفلى

آخر التلّ.. يباب!

وصعدتّ

كلّما عوى بوجهي خبرٌ عاجل

عويتُ

كلّما هدهدتني إقحوانةٌ مهاجرة

بكيتُ

من قصيدة: مزراب القمر – ص 9 – خشخشات تنقر النافذة

هل تكون المعرفة أوّلا، أم اللغة، فالذي يقودنا إلى المعارف هي اللغة، وذلك في الحالة المشروعة وكيفية توصيل الرسالة النصّية، ولكن، في الوقت نفسه، إنّ اللغة هي النصّ ولا نعتبرها وسيلة (مقامية) في الجانب النصّي. بما أنّ البنية النصّية وليدة عدة سياقات وانعكاسات تفكّرية ومرجعيات مختلفة تجمّعت في الذات الحقيقية ربّما لفترة طويلة، وتظهر من خلال علاقات خاصة في النصّ المكتوب بينها وبين المعاني المحمولة والتي ترافق جزئيات النصّ والتي في الوقت نفسه تتحوّل إلى مواضيع في النصّ المنظور؛ (ليس النصّ الأدبي هو الذي بين أيدينا، بل هو مملكة بناء تحمل مخاضات بناء سابقة في البنية الشعورية والفكرية، فلابدّ من تجلية النقاب عنها، وبث مكنوناتها وانعكاساتها على النصّ – إبداعيات النصّ الأدبي – ص 8 – الدكتورة سعاد جبر سعيد).

أردتّ يوماً أن أكون عريفة الصفّ + لكنّي + كتبت أسماء رفاقي الساكتين + ففوجئتُ + أنّ معلّمتي تحبّ السكوت + وتكره خطّي المائل!

أردتّ أن أكون سيّدة أنيقة + لكنّهم + نظروا إلى خدوش ركبتيّ + وصاحوا.. هذه ماعز! + شرّدوني للتلال + أوّل التلّ دفلى + آخر التلّ.. يباب! + وصعدتّ + كلّما عوى بوجهي خبرٌ عاجل + عويتُ + كلّما هدهدتني إقحوانةٌ مهاجرة + بكيتُ

ننظر إلى النصّ حسب المعاني التي يحضنها ويبثها للمتلقي، وإذا نظرنا في قصيدة (مزراب القمر) فسوف نلاحظ أنّ القصيدة تمّت حياكتها على صيغة مقاطع منسجمة مع بعضها، واستطعت الآن أن اعتمد التقطيع حسب المعاني التي رسمتها الشاعرة السورية رماح بوبو.

إنّ تناسق الجمل وانسجامها، لاتستدعي ضيافة التضاد، فالجملة التواصلية التي تحتفظ بالمعنى والتأويل لا تضاف إلى جملة إضافية متنافرة معها، ففي هذه الحالة فلن يستقيم المعنى، وكذلك لايكون الطرف الآخر مضاداً للأوّل، فحالة الاندماج قائمة؛ مثلاً:

أردتّ أن أكون سيّدة أنيقة = الشاعرة رماح لديها رغبة، من الفعل أراد (أردتّ أن أكون) واندماج الفعل مع فعل آخر (أكون) إذاً هناك تحوّل، أي ستصبح، فماذا ستصبح من خلال رغبتها؟ (عريفة الصفّ) ومن خلال مراقبتها للطلبة، تكتشف بما هو في حوزة المعلمة؛ الموضوع الذي بثته الشاعرة ليس كما ورد بمباشرته، وإنما هناك تأويلاً وقصدية مختلفة، وقد أختارت شخصياتها باعتبارها من الأشياء الحركية، فقد كان رفاقها في المدرسة، وكانت المعلّمة، هذه المسمّيات ضمن وظيفة الكلام الذي رسمته بمعاني.

أمّا في المقطع الثاني، نلاحظ الاختلاف الوارد، فاتصال المعنى اتصل بقوّة بالسياق، وقد كوّنت الشاعرة رماح مقطعها تحت خيمة الأثر الذي يتركه القول والقول الشعري:

كلّما عوى بوجهي خبرٌ عاجل = عويتُ

هل نستطيع أن نعتبر هذه المرحلة من المراحل المتناهية؟

نشر الأخبار العاجلة والكاذبة أيضاً، لا حدود لها، وهي ضمن اللامتناهي، ليس على مستوى النصّ الشعري لكي يُضاف إلى التأويل، بل على مستوى التفكّر الذهني والمنظور التصوّري الذي يرافق الشاعرة في حالة الكتابة أوّلاً وفي حالة المتعلق من المعنى ثانياً.

من خلال فنّ القول والقول المتقدم، تتغيّر اتجاهات النصّ كلما تغيّرت الحالات الفنّية؛ ومن الطبيعي أن تكون الحالة الفنّية والعلاقات بين الجمل غير ثابتة في مجموعة من النصوص، وإذا كانت كذلك فسوف يكون للملل مساحة لابأس بها من جهة، وتكون للتشابه وجوه عديدة من جهة أخرى، ونركّز على القدرة والقدرة الذاتية في تحرّكات الذات، وفي تحرّكات اتجاهات النصّ، حيث الثبات ليس من شيمته، ومن خلال هذا المنظور، أستطيع أن أضع بعض الوظائف التي تخصّ نصوص الشاعرة السورية رماح بوبو.

الوظائف التكوينية

المنظور التكويني للنسق الدال

وظيفة التعلق النصّي

وظيفة التعلق الذاتي

نتّجه نحو نوعية الوظيفة، فالوظائف التي تظهر في النصّ الشعري عديدة، ولكن الذي يجعلنا أن نتجه إلى النصّ ككتلة نصّية هو عامل الاختلاف اللغوي، حيث أن بناء الصورة الشعرية لايكفيها الخيال فقط، وإنما هناك عوامل لغوية مختلفة من جهة وعدم محدودية التركيب اللغوي من جهة ثانية، ومن هنا، تنبت لدى الشاعر بعض العلاقات بين الذات الحقيقية والمفردة والتركيب اللغوي.

الوظائف التكوينية

تنسجم الوظائف التي يختارها الشاعر في المنظور النصّي بداية من النصّ المقروء والذي يكون عادة قابلاً للتبدّلات وإضافة بعض المسمّيات العلائقية بين الجمل لتواصلها من خلال اللغة أولاً ومن خلال المعنى ثانياً؛ وأوّل وحدة لغوية تعتبر المطلع اللغوي الأوّل لافتتاح النصّ الشعري مابعد العنونة، والتي تشكّل  رأس الهرم والعتبة الدلالية الأولى، حيث أنّ دالة العنونة تعتبر المفتتح التوظيفي للنصّ، وهوَ الباب الشرعي الذي من خلاله من الممكن أن يقودنا إلى النصّ المرافق لها.

ولكي ندخل إلى المنظور النصّي من الممكن أن نكون في انسجام مع البناءين العلوي والسفلي للنصّ، حيث أنّ القاعدة النصّية تخبرنا بأنّ المكوّنات الجزئية للنصّ الشعري، تعتبر منظورها الوظيفي في تكوين النصّ الشعري، ومن الممكن جداً أن يكون للجزء تصويره أو حجته التي تشكّل موضوعاً من معنى تام، والذي يظهر أمام المتلقي إما على صيغة صورة شعرية غير مطروقة، أو لغة مختلفة تحمل منظورها الفلسفي؛ وهي في طريقها لتكوينات وظيفية من خلال قدرة الشاعر على التصوّرات وحركة فعل المتخيّل في المنظور النصّي.

من خلال المكوّنات الذاتية نتخذ من الوظيفة الذاتية العنصر الرئيسي في المنظور النصّي، وذلك لأنّ الذات الحقيقية تخفي خلف عملها الكثير من العوالم المحمّلة بالمعاني، وعندما يتجه الشاعر نحو الرمزية أو نحو عالم ماوراء الواقع، فهو ليس هارباً من الواقع المنظور أو الواقع المهتز الذي يجلب الويلات له وللذين من حوله، بل هذه تكون اختيارات تلقائية تدخل في مؤسّسة النصّ الجمالية، ومنها نصوغ شبكة من الأستطيقا في المنظور النصّي.

فيروسات تتزحلقُ على درابزين الشّعر

لو شئتَ

اسرعْ

اختبئ في قبوكَ

وإلا

لامحالةَ

ستصابُ

كشبحٍ أبيض

بعدوى

الحياة !

من قصيدة: فيروس 1 – خشخشات تنقر النافذة – ص 13

نستطيع أن نكون مع الذات التكوينية في حالة تأسيس القدرة الموضوعية والتي تنتج عن قدرة في المعاني والتأويل؛ لذلك عندما ينطلق الجزء، نلاحظه لايتوقف، فهو متآخ مع الأجزاء الأخرى لخلق مسار تسلسلي خارج اللغة المألوفة، كأنّ الشاعر يتخذ من هذا التآخي زمرة الفردي (الحالة الفردية) مع معرفة غير متناهية، وذلك لأنّ النصّ الشعري يعتمد اللامحدود عند الخلق.

فيروسات تتزحلقُ على درابزين الشّعر + لو شئتَ + اسرعْ + اختبئ في قبوكَ + وإلا + لامحالةَ + ستصابُ + كشبحٍ أبيض +  بعدوى + الحياة !

النصّ لدى الشاعرة السورية رماح بوبو عبارة عن صورة شعرية منظورة، وهي ذات علاقة بين الذات الحقيقية والمعنى، المعنى الذي يتحوّل إلى موضوع، فتصبح المعادلة:

كلّ موضوع = معنى واحد، والمعنى على علاقة مع الذات الحقيقية. فنقول:

العلاقة المطلقة = الذات + الموضوع / العالم... باعتبار أنّ العالم هو أحد عوالم المعاني التي انتمت إليها الذات الحقيقية؛ ومن هنا، فقد استطاعت الشاعرة رماح أن تجني الحياة (الحركة طبعاً) من خلال الهروب إليها، والمرء لاوسيلة لديه سوى الهروب ثانية إلى بيت الحياة.

أعرف شاعراً لم يزلْ

يفتُّ الغزَل بالحليب

يشدو وهو

يجدل كلّ صباحٍ

ضفائر البلاد المصابة بالتوحّد

يرسمُ شجيرةً على زجاج الـ " بيك آب " المغبرَ

ويدعو أن

تراها العصافير التي ارتحلت...

من قصيدة: شجيرتي في غبارٍ أحمر – خشخشات تنقر النافذة – ص 23

من الممكن جداً أن يكتب الشاعر بما فكّرت به بفترة آنية، وتنسب فعل القول إلى شاعر أو شخص آخر، وهي الإحالة التي يرغب أن يُدخلها من بوّابة الفعل التأثيري، فالمفاهيم والقصدية والترادف والتصوّرات (الاعتقاد) والتحقق والتواصل؛ كلّها مقاربات وبنى حتمية ترافق النصّ، فالمعاني التي تشكّلها هذه الاتجاهات، هي معاني دلالية يرافقها فعل الحركة بفروعه المتعدّدة، مثلاً؛ الانتقالية، والتموضعية، والمقامية، والرأسية.. الخ فالممكن من الأفعال يصبح ضمن اللامحدود، أي أنّ المحدود يفتح ذراعيه لكي تنطلق تلك الأفعال بمعانيها ودلالاتها الزمنية والفعلية.

أعرف شاعراً لم يزلْ + يفتُّ الغزَل بالحليب + يشدو وهو + يجدل كلّ صباحٍ + ضفائر البلاد المصابة بالتوحّد + يرسمُ شجيرةً على زجاج الـ " بيك آب " المغبرَ + ويدعو أن + تراها العصافير التي ارتحلت...

من خلال التماسك النصّي، هناك السمة النصّية والتي تستمد علاقتها من التماسك النصّي، ولكي نترجم هذه السمة النصّية وما طرقته الشاعرة السورية رماح بوبو، نرى أنّها أوجدت عنصر التشبيه من خلال هذا التماسك، وعنصر التشبيه لايخرج من كونها شاعرة، لذلك أحالت المعنى لشاعر آخر (لم تتطرق إلى سمة أخرى مثلا؛ لم تقل أعرف طبيباً، أو معلماً) بل مازالت في المدار الشعري، فهي:

أعرف شاعراً لم يزلْ + يفتُّ الغزَل بالحليب... ومن خلال معرفتها بهذا الشاعر، فقد كان سمة دلالية، وهي التي منحته اللقب من خلال المسمّى الدلالي للأسماء؛ ومن هنا، يكون التفسير الإجرائي، بعلاقة الجملة الجزئية مع علاقة الأجزاء الأخرى لكي يكون للمعنى سمته الدلالية أوّلا، وتماسكه التكميلي ثانياً.

المنظور التكويني للنسق الدال

من أهم الأنساق الدالة في النصّ هما النسقين اللغوي والدلالي، حيث تتشكّل العلاقة بينهما في مكوّنات النصّ وخلقه من جديد، باعتبار أن النصّ المكتوب كان مقروءاً في المساحة الذهنية قبل أن يكون نصّاً تجريبياً والاعتماد على تدقيقه وسمات انتمائه للنوع قبل كلّ شيء.

يعتبر النصّ المقروء من الأنساق الدالة المغلقة، فهو مخصّص للذهنية قبل الكتابة، ومخصّص للتفكّر الحتمي قبيل الظهور؛ لذلك يكون النصّ ضمن نسقه الدال ذا استقلالية أوّلا، وهو مغلق يشتغل لذاته عند استقلالية اللغة الشعرية التي ترافقه وتظهره للكتابة، فإذا كان الدال (كنسق دال) مادياً، فإنّه يتعامل مع المنظور المادي، فتكون الأشياء المادية أمامه، وأمّا المدلول فسوف يشكّل العنصر اللامادي أمامه، وأن القسم المفهوم للدليل هو قسم (المعنى) لذلك يكون التشكيل الدلالي من السمات الدلالية.

رجلٌ

كلّما آوته برتقالةٌ

صار حطباً

*

امرأةٌ

كلّما ناولوها دمعة

صارت ذئبةٌ وكسرت النوافذ

*

صديقٌ

كلّما لوّحت له بأغنية

انكسرت بنا رقبة الطريق !

وحبيبان

لم يصدّقا رنين ضحكتهما

فانتحرا قبل

هبوب الرصاصة!

من قصيدة : مخالب زنبقة – خشخشات تنقر النافذة – ص 43

يتناول النسق حياة النصّ، والعلاقات التي انسجمت بين أدواته، مثلاً : النسق اللغوي من أهم العناصر الدالة في حياة النصّ، حيث أنّ النصّ الشعري فيعمل على إيجاد المعاني والتأويلات ويساعد على انسجامها، وهو المساعد للبث (الباث) المرسِل الذي بواسطته يكون القول والقول المتقدم، باعتبار أنّ النصّ الشعري يعتمد القول كرسالة موجهة، ومن الضروري لهذه الرسالة هناك المرسِل (الباث) الذي أكدنا على تواجده في كتاباتنا المتعدّدة.

رجلٌ = كلّما آوته برتقالةٌ + صار حطباً

امرأةٌ = كلّما ناولوها دمعة + صارت ذئبةٌ وكسرت النوافذ

صديقٌ = كلّما لوّحت له بأغنية + انكسرت بنا رقبة الطريق ! + وحبيبان + لم يصدّقا رنين ضحكتهما + فانتحرا قبل + هبوب الرصاصة!

المكتوب أمامنا ليست تعاريف منطلقة انطلقت منها الشاعرة رماح بوبو، بقدر ماهي مقاطع تراوحت بين الطول والقصر، ومكثت بين شطورها الصور الشعرية، فكلّ مقطع يصوّر للمتلقي حالة، فلحالة الرجل الذي رسمته دون الـ " التعريف " خصوصيته عامة وليس منسوباً لأحد، وكذلك المرأة والصديق. هذه الاستعارات التي اشتغلت عليها الشاعرة نلاحظ أنّ هناك الدليل = الدال + المدلول، وهذا ماجاء به " دي سوسير) وتصوّره للعلامة.

تعتمد الشاعرة عادة في تركيب نصوصها على الشيفرات، وهي تنطلق من البنية الدليلية التركيبية والتي تكون فيها الرمزية العامل المنظور في تركيب النصّ من جهة، والانزياح اللغوي الذي يعطي للنصّ نكهة وأسلوباً خاصاً من جهة أخرى؛ فالرجل = يقابله البرتقالة، وهو يحترق، بينما خصّصت المرأة بالدمعة وذلك لعاطفتها الانسيابية، ولا تستبعدها عن الشراسة والتي مثلتها كشراسة الذئب.

إنّ الدائرة التي جمعت هذه الخصوصيات وكّلتها الشاعرة للصديق، هكذا كانت نظرة الشاعرة رماح بوبو وهي تقودنا عبر علاقات تربط محاورها الدلالات، ويخضع النصّ لنظام داخلي.

الموت ليس موجعاً أبداً

هو نهايةٌ جميلةٌ

ابتسامة مجفّفة وكفى!

مايوجع

ألا تحبّ ابنتي فساتينها الزرق

ولا توسّد ورد – الله.. الله ! في كتابها

مايوجع أن يفقد الشعراءُ أسنانهم الأمامية

أن تصير الشاعرات أكثر سمنة

فيتخففن من حرف الـ " وااو ! "

أين ستلتحف الدهشة حينها؟

وكم ستعجّ البلاد بـ (طنابر)

الهراء المهرّب؟!

من قصيدة: ابتسامة مجفّفة - خشخشات تنقر النافذة – ص 47

إنّ النشاط النصّي يبدأ من أوّل وحدة لغوية مختلفة، ومن هنا، يكون للنصّ الشعري مطالع متتالية بحكم العلاقات التي بين عناصر النصّ من جهة، وبين الجمل الشعرية من جهة أخرى، ويكون للعلاقات، علاقات نصّية حيث أنّها تشكّل البؤرة الرئيسية لحركة النصّ، ويكون لحركة الأفعال (التي تشكل جزءاً من المستويات النحوية) خصوبة دلالية؛ تتشابك فيما بينها من خلال جدلية العلاقات المتواجدة، للحصول على حركة دلالية ناضجة تؤدي غرضها في التفاعل النصّي.

الموت ليس موجعاً أبداً + هو نهايةٌ جميلةٌ + ابتسامة مجفّفة وكفى! + مايوجع + ألا تحبّ ابنتي فساتينها الزرق + ولا توسّد ورد – الله.. الله ! في كتابها + مايوجع أن يفقد الشعراءُ أسنانهم الأمامية + أن تصير الشاعرات أكثر سمنة + فيتخففن من حرف الـ " وااو ! " + أين ستلتحف الدهشة حينها؟ + وكم ستعجّ البلاد بـ (طنابر) + الهراء المهرّب؟!

إن التدقيق في بنية الجملة من خلال مفهومها وتأويلها، يقودنا إلى أنّ الشاعرة رماح بوبو نشّطت مبدأ الأمل والتأمّل؛ فقد تواصلت مع الأوجاع تحت مسمّيات عديدة، ومنها ذكرت الموت، (الموت ليس موجعاً أبداً) وهي الوحدة اللغوية التي كانت مطلعاً للنصّ، إذن النسق الدال الذي ميّز مفهوم النصّ للالتقاء مع المعنى هي الصورة العقلية التي أطلقتها الشاعرة وقد كانت ضمن تعدّدية مفردة (الوجع) كمعنى متواصل مع الجمل الشعرية، فالوجع من المفاهيم غير المادية، ولكنّه من الأشياء، ومن هنا، كتبت الشاعرة قلقها عبر شيفرة الألم، الذي جعلته أحد مفاتيح المعنى في المفهوم النصّي.

وظيفة التعلّق النصّي

تعتبر وظيفة التعلق النصّي من الوظائف المهمة بعد وظيفتي اللغوية والدلالية، حيث تشكّل وظيفة التعلق، التعلق الدلالي أيضاً، وذلك لأنّ المعاني تختفي خلف الدلالات، وبما أن النصّ يبحث عن معنى وذلك من خلال التأويل، وخصوصاً عندما تكون المساحة المهيئة، مساحة رمزية.

يكون الأثر النصّي، هو أثر المقروء عندما يكون الشاعر في الحالة الكتابية، لذلك وجلّ ما يكون للنصّ ليس الأثر الباقي، بقدر ما يكون الأثر على المأثور، فالخلق النصّي هو الأثر المستجدّ، هو الخامة العليا التي تنهض من خلال نوعين من الدلالة؛ وهي الدلالة العقلية، والدلالة الطبيعية، فالأولى ابتكارية تعتمد الأثر التجميلي، أي أن يكون لفلسفة الجمال أثرها في النصّ، والثانية طبيعية، إما أن تكون محسوسة أو خارج المحسوس، وفي الحالتين يكون الأثر البصري وسقوطه الشاقولي على جمالية الحدث، له الميزة في التقارب الفنّي من جهة، وتوظيف الرابط الذهني بالمنظور الواقعي من جهة أخرى.

الموت ليس موجعاً أبداً

هوَ نهايةٌ جميلةٌ

ابتسامة مجفّفة وكفى!

مايوجعُ

أن يستقيلَ المساءُ من عمله

كنادلٍ للشهوةِ

وأن تقصر قامته

هكذا فجأة !

مايوجعُ

أن يفقد الشعراءُ أسنانهم الأمامية

أن تصير الشاعرات أكثر سمنة

فيتخففنَ من حرف الـ " وااو ! "

أين ستلتحفُ الدهشة حينها؟

وكم ستعجّ البلاد بـ (طنابر)

الهراء المهرّب ؟!

من قصيدة: ابتسامةٌ مجفّفة – ص 47 - خشخشات تنقر النافذة

إنّ الربط العلائقي الذي يوحي للشاعر، هو كيفية إيجاد المعنى، وبما أنّ المعنى من المتعلقات النصّية، فسيكون موضوعاً متحوّلاً يندمج مع الذات الحقيقية. إذن نحصل على دال بموضوع معيّن؛ فيكون الدال على المعنى التعييني في النصّ المنظور؛ والمطابقة التي تقودنا، مطابقة النصّ كخلق إيجابي على موضوع دال على معنى في وضعية حقيقية يستعيرها الشاعر من المنظور الواقعي.

الموت ليس موجعاً أبداً + هوَ نهايةٌ جميلةٌ + ابتسامة مجفّفة وكفى!

مايوجعُ + أن يستقيلَ المساءُ من عمله + كنادلٍ للشهوةِ + وأن تقصر قامته + هكذا فجأة !

مايوجعُ + أن يفقد الشعراءُ أسنانهم الأمامية + أن تصير الشاعرات أكثر سمنة + فيتخففنَ من حرف الـ " وااو ! " + أين ستلتحفُ الدهشة حينها؟ + وكم ستعجّ البلاد بـ (طنابر) + الهراء المهرّب ؟!

يعتبر نظام التخييل كواقعة تعلّقية دائمة؛ صاهر للكائنات الأخرى المرئية منها واللامرئية، لذلك فالشاعر هو المتمثل الحسّي الملموس في النظام النصّي، ومن هنا، قد تتمّ بعض التغييرات أو تتمّ بعض التنقلات من أنساق ابستيمية منتجة إلى مفاهيم صيرورة ترافق النصّ المكتوب؛ وهكذا يكون للشاعر الآلة المحرّكة لجميع أدوات النصّ، حيث أنّ العلاقات تتبلور بمنظور واحد.

مهما كانت الاتجاهات القصدية التي رافقت الشاعرة رماح بوبو، فهي تتعلق بتبلور واحد، مثلا لسان حال تفكرية مع مفردة الموت؛ لو سألنا لماذا الموت ؟ لا تعتبر الإجابة عن هذا السؤال مفهوما أبدياً للموت، فمسالك الموت عديدة، ولكن بالنهاية لايحمل غير مسمّى واحد وهو نهاية الحياة، وهكذا أرادت أن تعلن عن الأموات في بيئتها السورية.

لقد وظفت الشاعرة بعض المفردات المرافقة لمفردة الموت، ومنها مفردة الوجع، إذن الموت ليس موجعاً، ولكن طريقة الموت موجعة، فالأنين يئنّ من خلال الهروب من الذات والأوجاع التي تلاحق الجميع.

وظيفة التعلق الذاتي

إنّ التعلق الذاتي، يعني كلّ ما تعلّق بالذات بين الماضي والآني والمستقبل، وخصوصاً عندما تكون الأحلام قد طرقت باب الذات الحقيقية التي تعمل على إيجاد علاقات آنية، علاقات بين العناصر التخييلية والمنظور النصّي، حيث تواجد الصور الشعرية والتصوّرات ويكون للذات الشاعرة مهام الخلق الذاتي ومهام الخلق النصّي، ففي الأولى لاتنتمي الذات إلى ذاتها بقدر ماتجذب ذوات الآخرين وتعلن القول من خلال القول الذاتي وكأنّنا نستقبل الذات التي تواجهنا بينما هي تنوب من خلال الممارسة عن الذوات الأخرى؛ أمّا الثانية (مهام الخلق النصّي)، نستطيع أن نقول أنّ الأولى هي تهيئة ذاتية تصل إلى حدّ الغليان، ومن هنا، لاتستقرّ الذات المغلقة في منطقة واحدة، فهي متنقلة بين العناصر النصّية وبين العناصر الذاتية. ومن أولى المتعلقات في مهام الخلق النصّي، البنى الدلالية التي تشكّل حالتي الاستقطابين الداخلي والخارجي؛ ولكن الذي يدفع المتعلقات الدلالية في الذات هو فعل الإثارة، حيث يكون للتأثيرية عدة مناطق ومنها الأشياء things والأماكن places والوقائع facts.

وقال: من قاتلكم ؟

/ وكنت أحمل جسدي على كفّي كقميص

مطويّ على عجل

وكانت أسناني تصطكّ ويرميني الضباب

بدنانير من صقيع /

قلت: أحلامي

فما التفتَ !..

وقال: من قاتلكم ؟

/ وكان الشوك ينمو ليغطي كرة رأسي المرميّة أمامه

ومن جراحي تنمو نواقيس كثيرة ! /

قلت: إيماني

فما التفتَ !

وقال : من قتلكم ؟

من قصيدة : في حضرته - ص 55 - خشخشات تنقر النافذة

عندما يتمّ تحديد اتجاهات النص الشعري، هذا يعني فإنّ البث عبر القناة قد قام بتحديد الرسالة والمعنى الذي تحمله، ومن هنا، يتمتّع النصّ ويتوسّع أكثر وذلك لأنّ المعاني قد انحصرت بدلالات معيّـنة، حسب رأي النحاة، وأهمّ تلك الدلالات هي الدلالة اللغوية والتي يكون للدال حركته اللفظية ويكون للمدلول مساحة واسعة من المعاني وذلك بانتقال المتعلقات الذاتية من التذكر إلى التفكّر، ونحصل على معاني تلتقي بالمنظور الفلسفي ولغته التي تشغل العالم، من ناحية النتائج أو من ناحية الممارسة العملية على الواقع النصّي.

وقال: من قاتلكم ؟..... / وكنت أحمل جسدي على كفّي كقميص + مطويّ على عجل + وكانت أسناني تصطكّ ويرميني الضباب + بدنانير من صقيع / + قلت: أحلامي

فما التفتَ !.. ..... وقال: من قاتلكم ؟

/ وكان الشوك ينمو ليغطي كرة رأسي المرميّة أمامه + ومن جراحي تنمو نواقيس كثيرة ! /

قلت: إيماني + فما التفتَ ! ... وقال : من قتلكم ؟

عندما تطرّقت لموضوعي الخلق الذاتي والخلق النصّي؛ سنكون الآن مع الفعل الآني لكي ندمج الخلقين بخلق واحد، فقد حملت الشاعرة رماح بوبو في ذهنيتها المختفية، حملت موضوع القتل والقاتل، وفي الوقت نفسه نبحث عن الاستدلال في المنظور النصّي، فالإيحاءات التي اعتمدتها الشاعرة رماح بوبو كانت ضمن مفهوم البناء الدلالي، لذلك تأتي قوّة المعاني من قوّة الدلالة النصّية.

في المجال الدلالي الأوّل الذي انشغل بالشخص الآخر الغائب، نلاحظ أن التفكّر الذي اعتمدته الشاعرة، تفكر القتل مع بيانات حِجاجية اعتمدتها في الجمل الشعرية:

وقال: من قاتلكم ؟ = قلت أحلامي

القتال الدائر بين الشخص السائل الغائب، قتال المفاهيم التي طرحتها الشاعرة في المفهوم النصّي؛ لذلك فعملية الاستدلال المعتمد هي الحصول على مفاهيم جديدة:

نلاحظ المصاحبة اللغوية لدلالة القتل قد جاءت الكلمات ملائمة في الجمل الشعرية، وبعض هذه المفردات قد أعطت معاني ومفاهيم مختلفة من خلال عملية التركيب اللغوي.

مجيء كلمات دالة على الهروب من الواقع، وقد نشب القلق والخوف وذلك من خلال التعابير التي رسمتها الشاعرة رماح بوبو.

كأن تحصر الشاعرة رماح بعض الجمل بين خطين، أو لنقل بين قوسين لايلتقيان إلا بمشيئة اللغة، لذلك فقد استعملت الشاعرة السورية رماح بعض الدلالات العامة، وبعض الدلالات المعرفية، ففي الأولى نجد  نقل الحدث الشعري والبحث عن عنوان بما كتبه الروائي.

اعتمدت الشاعرة على لغة استدلالية بين السؤال والشرح، وبين اللاشرح والأسئلة المطروحة ضمن النصّ المنظور.

***

كتابة: علاء حمد

 

 

دراسةٌ بيئيَّةٌ مقارنةٌ في المُثُل والجَماليَّات

يُعنَى (البُحتريُّ)(1) بتصوير أسنان (الذِّئب) وصوت قَضْقَضَته، قائلًا:

يُقَضْقِضُ عُصْلًا في أَسِرَّتِها الرَّدَى

كقَضْقَضَةِ المَقْرُورِ أَرْعَدَهُ البَرْدُ

والعُصْل: جمع أَعْصَل، وناب أَعْصَل: بيِّن العَصَل، أي معوجٌّ شديد.(2) والشاعر، بالتشبيه الذي تضمَّنه بيته، قد أحسنَ تصوير قَضْقَضَة الذِّئب، كما أحسنَ بتوظيف الموسيقى اللفظيَّة، في كلمة "يُقَضْقِض"؛ بما تحمله (القاف) و(الضاد) من غِلَظٍ وشِدَّة، مع (الراء) التردُّديَّة، التي تتكرَّر في أجزاء البيت، لتُضِيف حيويَّةً أدائيَّةً في تمثيل حركة أسنان الذِّئب وصوتها.

ويُصوِّر (ابنُ مُقْبِل)(3) (الذِّئبَ)، وقد افترس ولد بقرةٍ وحشيَّة، واصفًا جسمه، وسَعة شِدقَيه، وخِفَّة حركته، إذ يقول:

حتَّى احـتوَى بِكرَها بالجَـوِّ مُطَّرِدٌ

سَمَعْمَعٌ أَهْـرَتُ الشِّدْقَيْنِ زُهْلُـوْلُ

شَـدَّ المَماضِـغَ مِـنْـهُ كُـلَّ مُنْـصَرَفٍ

مِنْ جانِـبَـيهِ، وفي الخُرْطُومِ تَسْهيلُ

لم يَـبْـقَ مِنْ زَغَبٍ طَـارَ النَّسِيْلُ بِـهِ

عـلى قَـرا مَـتْـنِــهِ إلَّا شَــمالِـيْـلُ

كـأنَّمـا بَـيـنَ عَـيـنَـيـهِ وزُبْـرَتِـهِ

مِنْ صَبْغِـهِ في دِمَـاءِ القَـوْمِ مِنْدِيـلُ

كالرُّمْحِ أَرْقَلَ في الكفَّينِ واطَّرَدَتْ

مِنْـهُ القَـنَـاةُ ، وفـيها لَـهْـذَمٌ غُـوْلُ

يَطْـوِيْ المَـفَـاوزَ غِيطانًا، ومَنْـهَلُـهُ

مِنْ قُـلَّةِ الحَـزْنِ أَحْوَاضٌ عَدامِـيْلُ

فيحشد من صفات الذِّئب ما يُجَسِّد صورتَه: مطَّردَ الجِسم، قويَّه، سَمَعْمَعًا: خفيفًا، واسعَ الشِّدقَين، في خرطومه طُول، أجردَ الشَّعر، إلَّا بقايا زَغَب على ظهره، متلطِّخًا بالدِّماء، كالرُّمح، قلقًا لا يَقِرُّ له قرار. يُكثِّف بصفاته هذه الإحساسَ بشراسته وتوحُّشه. وهو نمطٌ من الوصف يتردَّد في الشِّعر العَرَبي القديم، لا لتصوير هيئة الذِّئب، لذاتها، بل للتعبير عن نظرتهم إلى هذا الحيوان، وما كان يمثِّله في المخيِّلة من الشَّر والغَدر، مع شِدَّة الصَّبْر والمِراس.(4) وهذا شاعرٌ آخَر يقول في التخويف منه:

الخَـوْفُ خَـيرٌ لـكَ مِنْ لُغـاطِ

ومِـنْ أُلالاتٍ إلـى الأَراطـي

ومِنْ طَويلٍ الخَطْمِ ذي اهْتِماطِ

ذي ذَنَـبٍ أَجْـرَدَ كالمِـسْـوَاطِ

يَمـتـلِخُ العَينَـينِ بانـتـشـاطِ

وفَـرْوَةَ الرَّأْسِ عَنِ المِـلْطَـاطِ(5)

فهو جريء: "ذو اهتماط". يلفت الشاعرَ منه: خَطْمُه وذنَبُه، الأوَّل بطوله، وما يوحي به من الحِدَّة والشَّراسة، والآخَر بانجراده- يشبِّهه بالمِسواط، وهو الخشبة التي يحرَّك بها ما في القِدر ليختلط(6)- وما يوحي به من شِدَّته وحيلته وغدره، مستشهِدًا على ذلك بامتلاخه عَين البعير؛ إذْ يُقال: إنَّ الذِّئب "يأتي البعيرَ- وهو باركٌ- فيحكُّ أصلَ ذنَبه، كأنَّما ينزع القُراد منه، فيستلذُّ ذلك البعيرُ، ثمَّ يدنو إلى جَنبه، فيفعل كذلك، فإذا التفت البعيرُ التحسَ عَيْنَـهُ بلسانه فقلعَها، وذلك التقريد."(7) وما زعمهم أنَّ الذِّئب يقتلع عَين البعير بلحسه إيَّاها إلَّا وهمٌ محض، لا يُتصوَّر واقعه، وإنَّما هو وليد ما يحمله الذِّئب في المخيِّلة الشَّعبيَّة من صورةٍ نمطيَّةٍ للشَّرِّ والغَدر المفزِعَين.

[ولحديث الذئاب بقيَّة تحليل].

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

رئيس الشؤون الثقافيَّة والإعلاميَّة بمجلس الشورى سابقًا- الأستاذ بجامعة المَلِك سعود

.........................

(1) (1977)، ديوان البُحتري، تحقيق: حسن كامل الصيرفي، (القاهرة: دار المعارف)، 743.

(2) يُنظَر: الجوهري، صِحاح اللُّغة، (عصل).

(3) (1962)، ذيل ديوان ابن مُقْبِل، تحقيق: عِزَّة حسن، (دمشق: مديريَّة إحياء التراث القديم)، 385- 387/ 35- 40.

وتُنسَب القصيدة التي منها الأبيات إلى (جِران العَود) أيضًا. (يُنظَر: (1931)، ديوان جِران العَود النُّمَيري، رواية: أبي سعيد السكَّري، باعتناء: أحمد نسيم، (القاهرة: دار الكتب المِصْريَّة)، 40- 41).

(4) ويُنظَر: الفَيفي، عبدالله بن أحمد، (1999)، شِعر ابن مُقْبِل: قَلَق الخَضْرَمة بين الجاهلي والإسلامي (دراسة تحليليَّة نقديَّة)، (جازان: نادي جازان الأدبي)، 1: 367- 368.

(5) الحُطيئة، (1958)، ديوان الحُطيئة، (شرح: ابن السكِّيت، والسكَّري، والسجستاني)، تحقيق: نعمان أمين طه، (مِصْر: مطبعة البابي الحلبي وأولاده)، 65.

(6) يُنظَر: ابن منظور، لسان العَرَب، (سوط).

(7) يُنظَر: الحُطيئة، م.ن.

ومن هذا جاء المجاز المركَّب التمثيلي في قول العَرَب: «فلانٌ يُقَرِّد فلانًا»، أي يتلطَّف له، كمن يزيل القُراد عن جسم البعير ليسكُن إليه. وهو ما يَرِد على ألسنة العوامِّ في بعض لهجات الجزيرة العَرَبيَّة اليوم، في قولهم: «فلان يقَرْدِن فلانًا». على أنَّ في معنى (التَّقريد)، كما في معنى (القَرْدَنة)، إشارة إلى التلطُّف للخِداع، لا التلطُّف الخيِّر، نجد أصله في زعم العَرَب هذا، أنَّ الذِّئب يُقَرِّد البعير ليلتحس عينه.

من الطريف أن يتبادر الى الذهن من أول وهلة بعد قراءة اسم الرواية انها عن الجنس اللطيف والعلاقات الاجتماعية بين النصف الثاني من المجتمع الانساني ... وهلم جرا ولكن حينما نقرأ الإهداء:

" إلى الأعزاء علي عبد الرزاق باذيب، وعبد الله سالم بازوير، وزيد مطيع دماج.

أعذروني، لأن حبي لكم سوغ لي جريمة التطفل على ساحة ملغومة من إرثكم السردي والشعبي.

أنا شاهد أيضا، فقد كنت هناك، قرب وادي الدراقن" .

نفهم من ذلك ونعي أننا أمام عمل يعكس تاريخ الأحداث السياسية في رواية لشاهد عليها في شهر كانون الثاني/يناير 1986 في عدن عاصمة اليمن الديمقراطي، عاشها بكل حذافيرها ومنعطفاتها، بحلوها ومرها كما يقول المثل العربي. والكاتب (سلام عبود) هاجر الى جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في أواسط العام 1974 . عمل في عدن بالتدريس في مدارسها في سبعينيات القرن الماضي وكذلك في مركز البحوث التربوية التابع لوزارة التربية في ثمانينيات القرن نفسه، تزوج وخلف فيها.

أبطال الرواية من الجنس اللطيف حيث قام الكاتب بتقسيمهم الى إمرأة وهي كما يفهم من سير أحداث الرواية كوسيما الهنغارية، أما الخمسة نساء فهن: أنس، شفيقة، شهناز، صباح، أم الخير اللذين ينتمون الى مختلف مناطق ومناحي اليمن الديمقراطي وقتذاك. أما شخوص الرواية الآخرين فهم: الزوقري، نعمان علوي، سعيد أحمد، هادي صالح ناشر، فاروق علي أحمد، الضابط ابن الحسني، ابن السيد، هيثم قاسم طاهر، أبو أيوب وآخرين.

يتميز أسلوب سلام عبود في كتابة الرواية بأنه على الرغم من وجود اطناب فيه إلا أنه يشد القاريء لسلاسة انسياب أحداث الرواية وتشوقه الى معرفة الكثير عنها من خلال سبرأسرارها والغور في بواطن العلاقات الاجتماعية والانسانية في المجتمع اليمني .

أنا متابع لما ينشره من الكتب منذ صدور أول كتاب له بعنوان: نشوء وتطور القصة القصيرة في اليمن الصادر في العام 1993 في شمال السويد في مدينة لوليو حينما كان سلام يقيم في مدينة بودن في شمال السويد أيضا. ومن ثم تتابعت صدور أعماله الأدبية وأبحاثه الثقافية والاجتماعية والسياسية والمسرحية ونصوصه التسجيلية.3197 سلام عبود

تربطني بسلام عبود علاقة زمالة جامعية منذ العام 1968 حينما كنا طلبة في جامعة بغداد على الرغم من اننا درسنا في اختصاصين مختلفين، فهو درس اللغة العربية وآدابها في كلية الآداب وأنا درست الاقتصاد في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية. افترقنا بعد التخرج والتقينا بعد مرور اثنتي عشر سنة في مدينة عدن الساحلية عاصمة اليمن الديمقراطي، وقد كتبت عن ظروف هذا اللقاء في أربعة مقالات بعنوان: ذكريات استاذ عراقي في جامعة عدن في العام 2021 التي نشرت في عدة مواقع اخبارية وأدبية منها الحوار المتمدن وموقع تللسقف وموقع أخبار وصحيفة الزمان العراقية-الطبعة الدولية.

تتميز رواية امرأة وخمس نساء بحبكة أسلوبها الأدبي والفني وهذا ليس بغريب على الكاتب لأنه استغرق عشرون سنة (1992-2012) في كتابتها كما تعكس الرواية ليس فقط أحداث شهر يناير العام 1986 ولكنها تعكس مسيرة الحزب الاشتراكي اليمني والانقسامات التي حصلت فيه وقتذاك بسبب النظام القبلي في البلاد وتبعية هذه المحافظة أو تلك لهذه القبيلة أو لأخرى. ولم يتمكن الحزب من القضاء أو حتى التقليل من آثارها على مستقبل البلد.

بعد عودة عبد الفتاح اسماعيل من الاتحاد السوفيتي في ربيع العام 1985، كنت حينها موجودا في عدن وأمارس عملي استاذا محاضرا في كلية الاقتصاد بجامعة عدن. كنت أشعر أن الشارع السياسي في عدن وبقية مدن اليمن الديمقراطي يغلي ويمكن للمرأ أن يتحسس ذلك في جميع دوائر ومؤسسات الدولة ومن ضمنها جامعة عدن. كانت وفود من اتحاد الشبيبة اليمني الديمقراطي (أشيد) تزور عبد الفتاح اسماعيل في بيته الكائن في حي كريتر في عدن. وكان الأمن اليمني يراقب البيت ويصور جميع الزائرين. هذا ما سمعته من طلبتي الذي كان عدد منهم على صلة أو يعملون في جهاز الأمن المدني (لجنة أمن الدولة) والمخابرات العسكرية.

وكذلك شاهدت ذلك بأم عيني حينما ذهبت الى المحكمة العليا لتصديق دعوة زوجتي لزيارة عدن، حدثت مشادة كلامية بين موظف من مدينة الضالع من أنصار علي عنتر وشرطي من محافظة أبين من أنصار علي ناصر محمد كان يقف أمام مكتب الحاكم الذي صادف أن ذهب لتناول الغذاء في الساعة الحادية والنصف صباحا.

كان الصراع شديدًا بين علي ناصر محمد، الذي اتهم باحتكار السلطة، وبين علي عنتر، الذي عاد ليعلن تحالفه مع عبدالفتاح إسماعيل ضد علي ناصر محمد، خاصة بعد أن أعفي من منصبه كوزير للدفاع. كان عبدالفتاح قد عين عقب عودته سكرتيرًا للدائرة العامة للحزب الإشتراكي اليمني، غير أن الصراع بين الفريقين اشتد وبلغ ذروته في 13 يناير 1986، أثناء اجتماع المكتب السياسي في مدينة عدن. أقدم الحارس الشخصي لعلي ناصر محمد على إطلاق النار على أعضاء المكتب السياسي، فقُتل الحارس على الفور، وقُتِل معه صالح مصلح، وعلي شائع هادي، وآخرون، ونجا عبدالفتاح إسماعيل. قُصفت داره فيما بعد بالمدافع قصفًا عنيفاً، غير أن اخباره انقطعت ولا يزال مصيره مجهولاً. شكلت لجنة خاصة للتحقيق حول مصيره وكان التقرير الذي خلصت إلية اللجنة قد أكد أنه احترق في مصفحة تعرضت لكمين قرب القيادة البحرية، لكن هذا التقرير لم يقدم دليلاً على ذلك [1].

قام الكاتب سلام عبود بعكس هذا الصراع في رواية أبطالها الرئيسيين أمرأة وخمسة نساء مع أزواجهم اللذين كانوا يشغلون مناصب رفيعة في الدولة. تتناول الرواية قصة زواج كل واحدة منهن والأسباب الحقيقية التي تقف خلف هذه الزيجات المبنية على حب أو لمصلحة شخصية من أجل تبوأ المناصب الادارية والحزبية في السلم الحزبي والإداري. ومع ذلك نرى أن سلام سعي في روايته بيان واظهار قصة حب حقيقية ومحزنة في نفس الوقت بين عازفة البيانو كوسيما الهنغارية وبين سعيد أحمد راجح (كادر في سكرتارية اللجنة المركزية ومحاضر في الفلسفة) الذي تعرف عليها حينما كان يدرس في بودابست. واستشهاده وهو في طريق عودته من العمل الى منزله. ومن ثم مشقة البحث عن سعيد وكوسيما التي لاتعرف الا بضعة كلمات من اللغة العربية وتلفظها بلكنة أجنبية. تعرضت كوسيما لاغتصاب من قبل عدة أشخاص في العمارة المثلثة في حي خور مكسر، هجموا عليها وهي نائمة في احدى شقق هذه العمارة التي قام العراقي عصام بمساعدتها في الدخول اليها والاستحمام فيها. تمكنت كوسيما من الخروج من العمارة المثلثة في حالة مرثية لها وبملابس ممزقة ولحسن حظها تم العثورعليها من قبل الزوقري بعد يوم من خروجها من العمارة المثلثة.

ذهبت أنس والزوقري الى المكان الذي توجد فيه كوسيما وقاموا بمساعدتها في الوصول الى دار أم الخير حيث ساعدوها وأسكنوها معهم في غرفة لوحدها لعدة أيام. ومن ثم الاتصال بسفارة هنغاريا التي قامت بتسهيل سفرها الى بودابست.

بدأت العلاقة بين أنس وزوجها نعمان علوي بأستغلال الثاني لمنصبه في سفارة اليمن الديمقراطي كي يؤثر عليها وتقع في حباله بعلاقة غرامية ولكنه بعد أن عرف أنها أخت هادي عضو اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني تغير موقفه منها وخصوصا وأنها كانت تدرس في مرحلة الدكتوراه في العلوم الاجتماعية والانثروبولوجيا ولهذا قام بطلب يدها من أخيها هادي.

أما صباح وقصة زواجها من عبد اللطيف بدأت حينما قام باستدعائها وكان حينها يشغل نائب وزير التجارة والعضو المرشح في اللجنة المركزية . كانت تعمل في قسم حسابات الوزارة (ص122)، فعل ذلك حتى يتعرف عليها جيدا ويتعرف على أحاسيسها منه قبل أن يتقدم لخطبتها من أهلها ومن ثم مراسيم عقد القران وحفلة العرس. كانت تنظر اليه بالشكل التالي:" الرجل السعيد لا يهمه كثيرا اذا كان الصوت الانثوي الملتاع لذة، الخارج من فم المرأة، مولودا في الجسد بالفطرة أم هو من صناعة مالك الجسد" ص335.

قالت صباح ذلك وهي تعقد مقارنة بينها وبين شفيقة التي تعتبرها "غبية وجاهلة حينما تتباهى بلحمتها التافهة! الجاهلة الغبية لا تعلم أن العبرة لا تكمن بامتلاك هذا الشيء وعدم امتلاكه . العبرة تكمن في النتائج، والغايات. أنا أستطيع أن أصنع ذروتي الجنسية بإرادتي، بذوقي، بمزاجي، متى وأين اشاء. أستطيع أن أطيلها، أنوعها، أعمقها، أفسدها، كما اشاء، بالطريقة التي تعجبني وتنفعني . أفعل ذلك وأنا أحقق رضا شريكي، وأتحكم بمقدار توافقي معه في تلك اللحظة." ( ص335) .

كانت النساء الخمسة (أنس وصباح وشفيقة وشهناز وأم الخير) اللاتي اجتمعن مع أولادهن وبناتهن في بيت أم الخير يتحدثون عن كافة المواضيع والقضايا السياسية والاجتماعية والتربوية ...الخ ويناقشونها بالقدر الذي يعرفون تفاصيل هذه أو تلك الحادثة والتي لها علاقة بمرحلة تاريخية ما من مراحل تطور اليمن الديمقراطي . وهذا ليس بالغريب طالما هؤلاء النسوة اما متزوجات من أشخاص يملكون تأثير في المجتمع اليمني الديمقراطي وفي سياسة البلد طالما يحتلون مناصب ادارية أو سياسية في الدولة أو شقيقات أومحضيات من هؤلاء القادة البارزين في الحزب الاشتراكي اليمني.

تمكنت صباح من تطويع زوجها عبد اللطيف منذ أيام الخطوبة حينما "طلبت منه أن تعلن الخطوبة رسميا ولكن أن يتمهلا في عقد الزواج... قابل عبد اللطيف رحلتها الاعتراضية التي قطعت إتمام زواجهما، بشيء من النفور والكدر. لكنه وافق مستسلما أمام حججها القوية" (ص223).

قامت النسوة بمناقشة التحالفات السياسية بين علي ناصر وعلي عنتر وعبد الفتاح اسماعيل وعلي سالم البيض ..الخ وبرعت في ذلك شفيقة اعتمادا وانطلاقا من قضية ختان النساء وتأثيرها على الثورة والزواج بأمرأتين (ص207 - 212)، " لبثت النسوة حائرات في تفسيرات شفيقة. عقلها الصغير يخلط الحابل بالنابل . لكنها لم تكن بعيدة عن الواقع السياسي، كما كن يحسبن، ولم تكن مغفلة سياسيا. هي على معرفة بمجرى الثورة كلها...الخ " ص212.

" اكتشفت شهناز كنز شفيقة السري بمصادفة محضة، حينما أعارتها شفيقة فيلما عرييا جديدا قالت أنه وصل الى عدن توا مقرطس لكنها تفاجأت حينما عرضته في البيت فوجدت أنه فيلم إباحي مرعب" (ص219).

لاتقدر شهناز على ترك عدن والعيش في بلد آخر أو حتى في أية مدينة يمنية أخرى غير عدن حين تقول:" .......فأنا أخشى أن أكون بلا عدن. من دون عدن لن أكون سوى أم بلا رحم. هذا قدري المرعب، الذي لا أملك خيارا فيه. عدن أمي وأبي ووجودي. أنا ابنة عدن سواء أكانت ثورية أم استعمارية. هنا، في عدن أكون أو لا أكون. سواء أكنت رجلا في ثوب امرأة، أم امرأة في ثوب رجل. عدن تمنحني جنسي الذي أستحقه. أنا وعدن وجود واحد، جسد واحد، وروح واحد " (ص259) .

حلم ام الخير بزوجها تحقق في واقع الحال . " كانت في مدينة "غيل باوزير" لم تزل طالبة، حينما رأت رسالة ملقاة على الأرض، سقطت من صندوق الرسائل الممتلئ، المنتصب على عمود في الطريق المؤدية الى مدرستها....الخ " (ص325). وتمثل أم الخير مجتمع حضرموت الذي يختلف عن مجتمعات عدن ولحج وأبين من حيث قوة العلاقات الاجتماعية وطبيعة العمل الذي يرتكز على التجارة الخارجية بالدرجة الأولى، ولذلك نجد أن الحضارمة مشهورين بعملهم هذا منذ قديم الزمان وانتشارهم في مشارق الأرض ومغاربها.

كما وأن تجمع هؤلاء النسوة في بيت أم الخير في ظل هذا الظرف الصعب لم يأتي عن عبث، وإنما جاء بحكم منزلة أم الخير بينهن من حيث احترام الجميع لها، هذا من جهة، وموقع البيت الأكثر أمانا من جهة أخرى وسعته بحيث يكفي هذا العدد من النساء والأطفال.

يتمكن قارىء الرواية من فهم علاقتهن ببعض على حقيقتها على الرغم من أنها تبدوعلاقة حميمية وقائمة على حبهم لبعضهم البعض، ولكنه يكتشف أن كل واحدة منهن تضمر شيئا ما داخل نفسها بإتجاه الأخريات. وهنا أراد سلام عبود أن يظهر طبيعة نفسية الانسان المزدوجة التي يكتنف جوهرها على الصراع بين الخير والشر.

وتقول صباح في مكان آخر من الرواية حول رأيها بأنس: " رغما عن كوننا متزوجتين من رجلين متقاربين في الأفكار والمناصب الحزبية والحكومية . أنا وهي، على عكس أم الخير، نتشابه في سلطتنا العاطفية، هي بقوة أهلها، وأنا بقوة إيماني بجمالي. القوة قاسمنا المشترك. حتى أم الخير المستكينة، الخانعة، تختزن قدرا عظيما من القوة الخفية، قوة النملة . لكن مبدأ القوة عندي لا يقود إلى معادلة زوج قاتل وأخ قتيل" (ص331). وفي الصفحة 332 تستمر صباح في القول:" فرضية الزواج عندي تقوم على معادلة حياتية بسيطة : ادفع تربح، وبما أننا ندفع كثيرا، فمن المؤكد أننا نربح كثيرا أيضا" وهنا يظهر مفهوم الربح والخسارة التجاري الميركانتيلي في عقل صباح . تستمر صباح في عكس مدى فهمها للعلاقات الزوجية والأسرية بالشكل التالي: " نحن نتبادل الأرباح، لكن أنس تتبادل الخسائر، وأم الخير توفر وتدخرالأرباح. أما شفيقة فهي في نظري إحدى مصاعب ومصائب الحياة وتفصيلاتها المزعجة. لابد أن نعترف بوجودها. ولن يجب أن نعترف بها باعتبارها خطرا، لايمكن تجاهل شروره وضبط احتمالاته المؤذية " (ص332).

جاء ذكر الشيوعيين العراقيين في الرواية كونهم موجودين في اليمن الديمقراطي منذ أواسط سبعينيات القرن الماضي حيث كانوا قليلين وعددهم لا يتجاوز عدد الأصابع، إلا أن هذا العدد تضاعف عدة مرات حتى تجاوزالألف شخص من رجال ونساء وأطفال من مختلف مدن العراق في نهاية سبعينيات القرن الماضي بعد وصولهم الى عدن عبر الكويت أو عبر دول أخرى نتيجة بطش النظام الديكتاتوري بهم.

كان العراقيون يعملون في عدة مدن يمنية وبمختلف الاختصاصات والمستويات، في التعليم الجامعي والثانوي ومنهم كوادر طبية وهندسية. وفي العام 1983 أفتتحوا كازينو في منطقة الجولة (الكولة) بمدينة عدن في الجهة الأخرى من فندق عدن التي قامت شركة فرنسية ببنائه.

تمتاز شخصية الزوقري الذي يلعب دورا رئيسيا في الرواية منذ بدايتها وحتى نهايتها بأنها تمثل صوت الشعب اليمني الجنوبي الحقيقي الذي لا غبار عليه، فهو يقول مايفكر به ويعتقد أنه الصواب بدون لف ودوران. انسان بسيط على سليقته كما خلقته الطبيعة. انه يمثل ذلك الجيل النقي، جيل الثورة اليمنية الجنوبي الذي قارع الاستعمار البريطاني في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، جيل الجبهة القومية للتحرير قبل أن تلوثه البيروقراطية الادارية [2]. وقبل أن تتكون طبقة النومينكلاتورا في اليمن الديمقراطي التي باتت تسيطر على معظم قطاعات ادارة الاقتصاد الوطني [3]، على الرغم من تظاهرها بأنها خادمة للشعب ولكنها باتت تدير ظهرها للشعب و تسكن في بيوت عالية أسيجتها وحراسة خاصة بها في منطقة خور مكسر . أما الناس البسطاء والذي الزوقري أحدهم فلا تهتم بهم النومينكلاتورا كما هو الحال بالنسبة للطبقات الكادحة في الاتحاد السوفيتي في سبعينيات وثمانينيات وحتى تسعينيات القرن الماضي.

ينتهي الفصل الأخير من الرواية والذي يحمل رقم 35 بأن يستيقظ الزوقري من نومه العميق وهو يفكر أين هو الآن؟ وجد نفسه بين قوارير الويسكي الفاخرة واعتقد أنه في الجنة

التي وعدهم بها الحزب الاشتراكي اليمني. "قوارير خمر بعلامات تجارية إنجليزية! نهض وهو يحمل قارورة مملوءة بالويسكي. انتصب مترنحا، متسائلا: مالفرق، إذا كان هو الآن هنا أو هناك، في الجنة أو في النار!" (ص465-466). ذهب يبحث عن العيال في بيت الدكتورة أنس وفي بيت صباح ولكن الأبواب مغلقة. فكر مليا واتجه صوب بيت أم الخير.

وبعد طرق باب بيت أم الخير عدة مرات وقيامه بركل الباب الخارجي ورمي الحجر صوب النوافذ وسماعه تكسر زجاج نافذة غرفة الاستقبال، قامت أم الخير بفتح الباب ومن ثم توجيه كلمات توبيخ له: صرعتنا يا مجنون وبدوره جاوبها : صرعني إحساسك المرهف رفيقة أم الخير، هل أنت ميتة؟ (466).

بعد أن عرف الزوقري مكان أطفاله، أخذ يسأل عن طليقته شفيقة التي اختفت. واثناء البحث عن شفيقة يعثر على النقيب بخيت با حويرث الذي كانت اصابته بليغة في بطنه. طلب باحويرث من الزوقري أن يأخذ مسدسه وينهي حياته ولكن الأخير رفض ذلك بإعتبار أن الانتحار حرام. ولكن قام بصب الويسكي في جوفه حتى يتحمل ألم الجرح العميق. بعد محادثة طويلة مع باحويرث، ذهب الزوقري للبحث عن شفيقة في المرآب. تمكن من العثور عليها في صندوق السيارة الخلفي مغطاة بالخرق والبطانيات التي لفت بها صباح المجوهرات والتحف المسروقة من إحدى المؤسسات الحكومية. صرخ بملء حنجرته وبرك على الأرض يبكي بحرقة.

بعد مرور قليل من الوقت حملها على ساعديه وتوجه صوب العمارة المثلثة [4] في خورمكسر، تاركا خلفه باحويرث وقد تحول هذيانه الى حشرجات متقطعة ( ص476) .

وقف أمام العمارة المثلثة التي تشبه العملاق الحجري في حالة هستيرية وصاح:

"أنا هنا أنا الزوقري اليماني بن اليماني الى أبعد جد، محرر الجياع والعبيد ومنقذ الجماهير الكادحة من رجس الكومبرادور والاستعمار" (476).

"يا شباب ...انتهى زمن الكفاح المسلح، وانتهت عصور حروب التحرير الشعبية.

اليوم يومنا, لا جناح يمينيا منحرفا، ولا جناح يساريا متطرفا. اليوم يومنا، يومنا نحن .(ص477)

-   الجناح اليميني الانتهازي دحر، والجناح اليساري المغامر نحر. هذا يومكم (ص478).

طوق جسد شفيقة بحنان وخشية، كما لو أنه يطوق فقاعة دموية كبيرة في سبيلها الى الانفجار والتلاشي في العدم . سار بتحد وإصرار ....مخترقا معزوفة نعيق الغربان الجنائزي....متيقنا أن الغربان الوقحة تخاطبه، تجادله، تتفاوض معه، ومن المؤكد جدا جدا أنها تساومه على جسد شفيقة (ص478-479) .

أنا أعتقد أن هذه الرواية تستحق جائزة أدبية من مستوى عال وتنتج على شكل فيلم فني لأنها وثقت وسجلت أحداث تاريخية حقيقية عصيبة مرت بها مدينة عدن بشكل خاص وعموم اليمن الديمقراطي .

كما أن الرواية ينقصها فهرسة الفصول.

مع خالص الود والاعتزاز.

امرأة وخمس نساء

سلام عبود

الطبعة الأولى 2016، عدد الصفحات 479.

منشورات الجمل، بغداد-بيروت 2016

***

أ.د. سناء عبد القادر مصطفى

................

[1] https://ar.wikipedia.org/wiki/عبد_الفتاح_إسماعيل_الجوفي

[2] . الجبهة القومية للتحرير (بالإنجليزية: National Liberation Front - NLF)‏ هي إحدى فصائل المقاومة للاستعمار البريطاني لعدن.[2] تمكنت من نشر نفوذها قبل الاستقلال على حساب منافستها جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل (جبهة التحرير) واستطاعت الانفراد بالسلطة بعد الاستقلال واعلان جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في 30 نوفمبر عام 1967.

[3] تتكون طبقة النومينكلارا من أعضاء المكتب السياسي واللجنة المركزية واللجان المنطقية والمحلية اللذين يتمتعون بامتيازات خاصة بهم مثل السكن والمخازن والسيارات ...الخ . ظهر هذا المصطلح لأول مرة في كتاب ميخائيل فوسلينسكي: النومينكلاتورا: الطبقة الحاكمة في الاتحاد السوفيتي الذي صدر باللغة الروسية في لندن في العام 1985 . قمت بترجمته الى العربية وصدر في مدينة الرباط بالمغرب في العام 2001 تحت عنوان: سقوط الامبراطورية الحمراء، دار نشر الزمن - سلسلة ضفاف.

[4] بنيت العمارة المثلثة في خور مكسر بعدن من قبل الاتحاد السوفيتي في العام 1985 وتم اسكان عدد كبيرفيها من المدرسين والمهندسين والأطباء وأساتذة من جامعة عدن من العرب والأجانب اللذين كانوا يعملون في اليمن الديمقراطي.

" أحبُّ اسمي الجديد، نادني "خيّ جيديوس". أتعلم يا صاحبي؟ بهذا الاسم أصبحت إنسانا جديدا.. فقد ساعدَني لأتغلّبَ على ماضيّ الذي أضحى هاجسي، ومنحني الأمل بالمستقبل.. يوم حملت هذا الاسم شعرت بمقدرة عظيمة على المغفرة .." هكذا تنهي  الكاتبة المخملية  "مارلين وديع سعادة"روايتها "خيّ جيديوس "، الصّادرة بطبعتها الأولى سنة 2013 من ضمن منشورات مؤسّسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافية. في مركز الرّواية، التي تقع في 142 صفحة، واثنا عشر فصلا غير معنون، متباينة الشّخصيات من رجال ونساء وأطفال، من شتّى الطبقات،  توشَّح غلاف الرواية برسم لامرأتين تبدو على ملامحهما الباهتة بوادر الحزن، إحداهما تواسي الأخرى، يوحي المشهد بتصميم على مواجهة المصير المكلّل بالنهايات المخيّبة، والخسارات المتلاحقة، وغير ببعيد يظهر شابٌّ يحاول أن يواسي انكسارهما، أماّ الموغل في المشهد فلا يتوه عن طيف رجلين في أعلى الغلاف يتعانقان، وكأنّ الخلاص من براثن الكراهية كلّلاه بتحابهما وتصافحهما، فيما احتوى الغلاف في أسفله تقريبا اسم الكاتبة الثّلاثي، بخط أبيض بارز، واعتلاه عنوان الرّواية الرئيسي ملحق بعنوان فرعي يختزل أحداثها  " ثمار الحرب وقائع وأبعاد "، قابله في الشقّ الثاني ملخّص كلمة الناشر المؤثرة التي تحمل في طيّاتها إيحاءً يغري القارئ باستكناه النّص، وسبر أغواره فتعمّد مصمّم الغلاف على إقحامها لما فيها من التشويق والدافعية لولوج عالم الرّواية. أمّا لون الغلاف  فقد استحوذ عليه اللّون الرمادي  وسيطرته على الجزء الأكبر من هذه المساحة الاشهارية، وحتى وإن لمسنا حرص مصمم الغلاف على إحداث نوع من التطابق بين اللّون والمواضيع الممثلة، فسيادة اللون الرّمادي  المزاوج  لللّون الأخضر، جعلت صورة الغلاف تبدو وكأنها تعبّر عن واقعية الأشياء والمواضيع المشكّلة لهذا النص الروائي،والّتي تراوح بين رماد  خلّفته الحرب وخضرة ربيع تَعِدُ به القلوب المتسامحة المتحابّة.

لا بدّ من الإشارة إلى الكاتبة والتّعريف بمنتوجها الأدبي الذي كنت أنا شخصيا أجهله، لولا مقال شدّني في إحدى المناسبات، جعلني أوغل في نصوصها وأبحث لها عن المزيد، حتى وجدتَّني أتواصل معها، وتغدق على بالمحبة وتهديني شيئا من كتاباتها، وكانت روايتنا قيد الدراسة. مارلين وديع سعادة، كاتبة مخملية الأسلوب، القلم بيدها مطواع، طود قائم في نصاب صافٍ يشفُّ عن داخله، به النورُ أشعَّ فيه فشفّ عن روح جميلة ناعمة متحابة متآخية، سعت إلى الكتابة فسخّرت قلمها خادما مطيعا لنشر الخير والتآخي بين البشر على اختلاف أديانهم وأجناسهم. تشي نصوصها بمهارة عالية في توظيف اللّغة، وتزفّ منتوجها الأدبي بأسلوب سلس راق، وهي إذ تكتب تظهر أشياء وتضمر أخرى، لا تبوح بها فما دام لكلّ امرىء باطن لا يشركه فيه إلاّ الغيب وحده، إلاّ ما تنبىء به ضمن ما ينفلت من زلاّت قلم يطيع سطوة جأش المشاعر، هذا إن كان قارئها على دراية بالفكر متوغّل في التأويل النّصي، فلا يجد من الصعوبة في الكشف عن ميل كاتبتنا إلى الفكر والتنوير وحب الفلسفة والحكمة، فلا تنفكّ تنهل من كبار المفكرين وتنوّه بالنادي الفلسفي البيروتي "أستازيا فوريم " وهي التي تفاخر باستلامها كتبا من المفكّر اللبناني جهاد نعمان ومن غيره من المفكرين والفلاسفة، مؤمنة تماما أنّ أدبا لا يتفلسف، وفلسفة لا تتأدّب يبقيان بدون بقاء، لأنّ كلًّا منهما واجب وجودٍ للآخر. وهذا يعني أنّ فلسفة الأدب هي ذاتها أدب الفلسفة، فلا تكتفي ولا تكفّ عن التزوّد بمختلف فنون الأدب من شعر وقصّة وراوية، تقرأ بنهم واهتمام، وتحلّل ما تقرأ، فتزيد من ثراء فكرها وسماقة لغتها.فتجد في القراءة ملاذها وحلاّ لمشكلات الحياة، كما ترى أنّ في غير القراءة تتعقّد كل البسائط.

وحي العنوان نوافل وأركان:

حملت الرواية عنوانا لافتا مثيرا  للتساؤل والبحث والإلحاح على قراءة النّص من أجل فكّ شيفرته العميقة، ليجد القارىـىء نفسه يبحر بين أمواج بحر الرواية وأحداثها، يتقفّى أثر العنوان  فلا يجد له أثرا، سوى أن يستسلم للاستمرار في القراءة، ليستمرّ في الاكتشاف عبر فصول، تعمّدت الروائية عدم عنونتها تجنبا للافصاح عن أحداثها، ليجد بذلك نصّا مفتوحا يكاد يخلو من العنوان لولا أن يتفطّن القارىء إلى كلمة "خيّ " ليربطها بالتعميد والصلاح والغفران والأخوة بين أطياف البشر على اختلاف توجّهاتهم، ووفق اسقاط العنوان الفرعي " ثمار الحرب وقائع وأبعاد " ينقشع ضباب الرؤية وتنجلي الغمامة أمامنا،كي ندرك شيئا فشيئا تبعات الحرب وثمارها وأبعادها وامتداداتها البائسة. فيختزل العنوان كلّ فرائض النص ونوافله وأركانه،ما ينمّ عن مهارة الكاتبة في انتقائه كعتبة فاصلة جامعة مانعة. لنصل في الأخير إلى أنّ العنوان هو اسم البطل الرئيسي للرواية الذي بدأت به وانتهت عنده ومعه باسم هو اختاره لنفسه " خيّ جيديوس " قائلا : "المغفرة لكلِّ من يسيء إليّ، حتّى الذين قتلوا أهلي.. لقد منحني اسمي الجديد محبّة كبيرة لكلّ الناس.. كلّنا أخوة "..ص 137.

يدقّون طبول الحرب ونعزف ترنيمة الحب

لا يخفى على القارئ أن رواية " خيّ جيديوس " في مجملها، أحداث وقعت بين سنتي 1988 و1976.لم تكن مجرد رواية يسرح فيها خيال الكاتبة لينسج أفكارا غريبة، إنما هي قصص حقيقية لشخصيات حقيقية أيضا، عايشتِ الحرب اللّبنانية الداخلية، لم تعمد الكاتبة  إلى تدوينها إلاّ بعد مدّ وجزر، وأخيرا دوّنت الوجع، فكان انجرافا في عالم البؤس حيث العنف وحده قوت المبدعين اليومي.

اختارت الكاتبة حقبة زمنيّة محدّدة تأجّج فيها العنف واستفحل البؤس وتفشّى الفساد فغمر القلوب بالغيّ وعماها عن الرّشد، إنّها قرية " الغمر" مسرح الأحداث وملحمة الجرائم غير المبرّرة، تقلّدت دور البطولة أربع شخصيات رئيسية وأخر ثانوية، وعلى لسانهم سُردت الأحداث بضمير الهو، دمجت الكاتبة أصوات متعدّدة للسرد، بفنيّة متقنة. وأسلوب المحترفين  حيث تفتتح النص بهروب الطفل "وسام" ــ الشخصية المحورية في الرواية ــ عبر شاحنة نقل الخضار وتعرّضه لحادث أفقده الذاكرة، لم يكن هروبه سوى النّفاد بجلده من المحرقة التي مَسّت القريةَ وأتَتْ على أخضَرِها ويابِسها، لتتبنّاه سيدة دون أن تعرف اسمه ولا هويته، كانت السّيّدة من عائلة " الصّائغ" اضطرت لمنحه اسم "عصام" . تتوالى الأحداث بسرد ممتع ووصف دقيق مترامي الأطراف وموغلا في التفاصيل، تقلّدت دور البطولة "مريم" إلى جانب السّيد "ناصيف الرّاعي "، كانت مريم البنت الوحيدة للخواجا "جورج سالم " الذي قضى رفقة زوجته جرّاء المذبحة التي طالت منزله، فالكل أسير للحظات العنف وضرب الخناجر في "الغمر" لم تسلم مريم من شرّ البرابرة، وكانت ضحية هيجانهم الجنسي، فكانت الفتاة الأشهى والأقرب من الاغتصاب الذي أثمر طفلا من الخطيئة التي نسبت إليها دون ذنب منها ولا حيلة، الأمر الذي عرّضها لنبذ أهل القرية وحقد جارتها " حنّة"، التي تتفنّن في أذيتها من سبب ومن دونه، تتوالى الأحداث لتنسج خيوطا تتداخل فيها شخصيات ثانوية كثيرة وتظهر الشخصية الرئيسية الثّالثة في الرواية متمثّلة في الفتاة " هبة" التي هي ابنة عمّ لمريم،  تلتقي بمريم وبأبي ناصيف الذي كان يرعاها ويقوم بشؤون منزل والدها "الخواجا جورج"، تتشابك الأحداث وتتعاظم لتصل إلى الذروة، حيث يلتقي "عصام" بهبة ويجمعهما حب كبير لينتهي بموت هبة رفقة خالها بعد أن تعرف أن عصام هو نفسه الأخ الضّال لمريم وهو "وسام" ابن عمّها الذي قررت مربيته الرحيل به الى الخارج، تستمرّ ثيمة البؤس والحزن والمعاناة تطغى على ذلك السرد القصصي الجميل الذي يجبر القارىء على استكمال النهاية دون توقّف، لتتعاظم عند اصابة مريم بالفالج ووفاتها بعد معاناة مع المرض تاركة وراءها " شربل" ثمرة الخطيئة. يستعيد "وسام " ذاكرته ويستعيد معها كل معانيي الانسانية، فيصير أخا لشربل يأخذ بيده ويرعاه ويستقران في دير الكهنوت، حيث المحبّة والسلام يقتبس وسام اسما جديدا يليق بوضعه " خيّ جيديوس " ويصبح ابن مريم " الأخ شربل". فيقرّر الأخوان الغفران والتسامح لأنّه أرقى أنواع النسيان. وتصفية أكداس من الكراهية والحقد، هروبا من مجتمع الكراهية فيه تجمع والحب يفرق، بعد أن تيقّنا، أنه لا يوجد إلا سحر واحد وقوة واحدة وخلاص واحد، وهو الحب التسامح والغفران، فقرّرا أن يعزفا سويّا ترنيمة الحبّ بعد دقّ طويل لطبول الحرب.

***

القارئة الوفية ليلى تبّاني من الجزائر

بفضل العمل المتنوع (في التمثيل والتأليف والإخراج …) ضمن دائرة الفن المسرحي يتمكن الفنان من امتلاك رؤى ومهارات ومعالجات - قد - لا يمتلكها غيره من الذين يعملون باتجاه احادي مثل التأليف حصرا او في الاخراج حصرا. وعليه يمكن ان نشهد تكاملا فنيا وأدبيا حين يكتب المؤلف بمخيلة وفكر المخرج.

مؤلفة مسرحية (استثمار)* د.ايمان الكبيسي متنوعة الاهتمامات، كتبت نصوصا للأطفال والكبار، أخرجت عرضا بعنوان (تويتر نسائي) اخذ مساحة جميلة حين قدمته على خشبة المسرح الوطني، وهي استاذة أكاديمية في جامعة لها محاضراتها وأبحاثها المسرحية وأصدرت أكثر من مجموعة نصوص مسرحية موجهة للأطفال منها (زهرة الماغنوليا) و(الكرى وأحلام الملائكة) ومجموعة من خمس نصوص موجهة للفتيان ضمن كتاب مسرح الفتيان المشترك مع د. حسين علي هارف، وكتبت (قالت لي العرافة) و(أيوب) مجموعتان من النصوص الموجهة للكبار.

تضطلع المرأة في عموم كتابات (الكبيسي) بدور بارز وقوي، وفي نص مسرحية (استثمار) تضع شخصيات مسرحيتها في معادلة تبدو غير متكافئة رياضيا وغير متوازنة نفسيا (أربعة نساء مقابل رجل واحد) مما يجعل القارئ يتساءل منذ السطور الاولى: لماذا اربع إلى واحد؟ ليندفع في تلمس الاجابة، ويتجلى في هذا الامر مهارة المؤلفة لأنها زرعت مصدرا للأثارة منذ البداية واسست لعملية التشويق. 

تستهل المسرحية بمشهد رقصة ثم تصفح جرائد وبعدها تنطق المرأة رقم ١ كلمة (ملل) رقم ٢ تضحك المرأة رقم ٣ تبكي، وتعود المرأة رقم ٢ للضحك، تقوم المرأة رقم ٤ بوصفهن: مجانين .. نسوة مجانين .

منحت (الكبيسي) نسوتها أرقاما ولم تمنحهن أسماء، ولا حتى صفات، دلالة تجريد الشخصيات من الملامح وابقاءهن في إطار واحد بلا تمايز وكأنهن شخصية واحدة بأربعة نسخ، أو شخصية واحدة مقطعة إلى أربعة أجزاء مع الاخذ بالاعتبار ان النسوة بأعمار متباينة وان الاحداث تجري في مكان نسوي (صالون تجميل بأربعة كراسي)

اشتغلت المؤلفة على مفردات تفتح المخيلة عملية الإخراج بِعَدِها قيما اساسية تتبلور من خلالها الفكرة الأساس وتتضح معالم الشخصيات وبواسطتها تنبني الأحداث ويتشكل الجو النفسي العام، من هذه المفردات/ القيم:

* مفردة لغة الكلام: وجدت اللغة للتعبير والتواصل الاجتماعي والفكري، وأن استخدام اللغة المحكية اليومية البسيطة أمر يقرب أفكار النص من المتلقي ويقدمها بحوار واضح ودون تعقيد ولا مغالاة في التعبير:

3- مقبرة نموذجية يعنياننا سندفن (vip)

2- سيكون هناك (واي فاي) مجاني

1- وخدمة توصيل مجاني

2- وتكسي كريم ايضا.

1- ربما ستكون لنا رواتب تقاعدية ومن دون استقطاعات.

2- انها النعيم

4- هي النعيم حقا.

* مفردة الجريدة… سواء أمسكت بها الشخصيات بصورة صحيحة ام أمسكتها بصورة مقلوبة، فهي مصدر خبر لمشروع جديد، تعتقد النسوة الأربع انه يلبي حاجتهن للعمل أو السكن،  وتبين ان المشروع هو (مقبرة نموذجية) وقد تقبلت النسوة الفكرة.

* قرع الصنج كفاصل موسيقي بين تحولات المشهد النفسية وكمؤثر صوتي يتزامن مع بعض العبارات بقصد تأكيدها.

* مفردة قصائد الحب: تسخر النسوة من مشروع المقبرة، وفي الوقت نفسه يفكرن بسرقة فكرة المقبرة ويتباحثن بكيفية انشاءها، تتفق النسوة على التضحية برجالهن للبدء بالمشروع ونجاحه ويصدف أن اثنان من رجالهن على الاقل يكتبون قصائد بمفردات متشابهة، بلا شك ان مصدر القصائد واحد، وان الحرب ذات الأشكال المتعددة أخذت الكثير من الرجال (الاب والاخ والزوج والحبيب) وذهبت القصائد معهم، وحالما يتم الشروع بالتخطيط للعمل بالمشروع  تدخل شخصية (الرجل) لتبدأ مرحلة تصاعد الفعل الدرامي.

* مفردة بدلات مشفى المجانين يأتي بها الرجل ويلبسها للنساء الأربع وينادي عليهن بإسم واحد ذي دلالة واضحة ( فقيدة ضايع تايه) لتجيب النسوة بكلمة (نعم) كلهن فقيدات بنات ضائع تائه، هذا ما اطلقه الرجل عليهن وقد يجسد نظرة الرجل لهن، بل ويذهب الرجل الى ابعد من ذلك حين يتهم النسوة بسرقة ارض والده التي يقمن المشروع عليها وأنه جاء لتنفيذ الحكم.

* مفردة الاسم والاسم المناقض:  يكشف الرجل عن اسمه (فائز بخيت منصور) ذي الدلالة النقيضة تماما لاسم النسوة وان الذي اعطى الحق للرجل بتنفيذ الحكم هم (القاضي ورجل الامن والمدعي العام) ويبدو انهم كلهم رجال، وفي هذا إذكاء وتصعيد للصراع الذي اشعلته (د.ايمان الكبيسي) بين الأنوثة والذكورة، بين الرجل الواحد والاربع نساء، بين الباحثات عن الاستثمار المشروع في الارض وبين وريث الارض من ابيه بإسناد من سلطة الأمن والقضاء حتى انه يتهم النسوة بالجنون ويحكم عليهن بالإعدام ويخبرهن بانه سيقوم بالدفن بعد الاعدام في المقبرة النموذجية، وانه يرفض استئناف المحاكمة لانه هو نفسه - وهذه نهاية صادمة-  القاضي ورجل الأمن والادعاء العام.

كتبت المؤلفة  هذا النص بمخيلة المخرج يتضح ذلك من خلال جميع مفردات النص، بما فيها تحديد مكان الأحداث (صالون التجميل) الذي استحال إلى مشفى مجانين ثم عاد في النهاية الى حالته الاولى عندما جلست النسوة على كراسي الصالون وتدلت أجهزة تسريح الشعر من جديد (الشسوار) على رؤوسهن مع إصرار المؤلفة - بحسب ارشاداتها - على أن يكون ثمة شبه بين التكوين الأخير للشخصيات وبين القبور

نهاية سالبة للنساء وناصرة للرجل هكذا ارادتها (الكبيسي) لان النساء في مسرحيتها تمثل امرأة واحدة ولكنها مجزأة، انها حيرى ومترددة وبلا قرار، في حين صورت الرجل بقرار وسلطة مستمدة من القضاء، في هذا دفع واضح نحو: يا امرأة كوني واحدة وإلا تحول مكان التجميل الى قبر.

***

ا. د. حبيب ظاهر

......................

* نص مسرحية (استثمار) منشور في مجلة (الفرجة) الاليكترونية - الثلاثاء 9/ مايو/2023.

قراءة في "بكائيات في الغربة والاغتراب" للروائي والشاعر عبد الكريم الكيلاني

الغربة والاغتراب، مفهومان يشيران إلى الحالة التي يشعر بها الإنسان بعدم الانتماء والاستقرار، في المكان الذي يعيش فيه، فيرجح السبب وراء ذلك، هجرته القسرية، أو الانتقال الذاتي لأسباب شخصية، أو اجتماعية. ومن المحتمل أن يؤدي الوحدة والانعزالية، إلى البكاء والتألم، خاصة إذا كان الفرد يفتقد الدعم العاطفي والاجتماعي الذي يحتاج إليه. ولذلك، يمكن أن تكون قصائد البكاء والتألم. النتيجة الطبيعية لتلك الحالة، في الأدب الغربي، يوجد العديد من الأعمال الأدبية، التي تتناول موضوع البعد عن الوطن، والتي قد تتضمن قصائد البكاء والتألم. ومن الأمثلة على ذلك، الشاعر الأمريكي الإنجليزي "تي. إس. اليوت في قصيدته "الأرض اليباب"، وليدلان توماس، في قصيدته التي تحث على الصمود والمقاومة في وجه الموت "لا تستسلم لتلك الليلة الطيبة". ومن أمثلة الأدب الشرقي والإسلامي. يمكن ذكر العديد من الأعمال الأدبية التي تعكس تراثنا الثقافي والأدبي، ومنها شعراء مشهورون مثل الشاعر الأندلسي ابن زيدون، والشاعر السوري نزار قباني والشاعر المصري أحمد شوقي والشاعر العراقي مظفر النواب والعديد من الشعراء الآخرين. كما يمكن ذكر العديد من الروايات والقصص العربية والإسلامية التي تعكس ثقافتنا وتاريخنا، مثل رواية ألف ليلة وليلة ، ورواية الأسود يليق بك للكاتب السوداني حمور زياد ورواية موسم الهجرة الى الشمال للاديب الراحل الطيب صالح، والعديد من الأعمال الأخرى. ويمكن أيضًا الإشارة إلى الأدب الغربي الذي يحوي العديد من الأعمال الأدبية الرائعة، مثل رواية مذلون مهانون لكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي ورواية عيناك للكاتب الفرنسي إليف شافاك ورواية ضوء افتراضي للكاتب الأمريكي ويليام جيبسون والعديد من الأعمال الأدبية الأخرى التي تشكل جزءًا من التراث الأدبي الغربي. وبالتالي، يمكن القول بأن الأدب بشكل عام يعكس الثقافة والتاريخ والتجارب الإنسانية، ويمثل جزءًا هامًا من التراث الثقافي للشعوب المختلفة.

بكائيات في الغربة والاغتراب للشاعر والروائي عبد الكريم الكيلاني، في قصيدته "الشرطي"، نجد العراقي البسيط وهو يخوض تجربة شديدة الصعوبة، حيث يتعرض لاستجواب قاسٍ من قبل شرطي يسأله عن هويته ومكان وجوده. يجيب المواطن بكل حزن وأسى، مؤكداً بأنه كوردي وأنه في طريقه إلى كردستان. وما إن يسأله الشرطي عن مكان وجوده السابق، حتى يجيب بصدق أنه كان يعيش في بغداد. ولكن، هنا يتدخل البلاغة والرمزية في القصيدة، حيث يسأل الشرطي عن الفرق بينهما، فهل يكمن الاختلاف بينهما في العاصمة بغداد أو في أربيل؟ ويجيب المواطن بحزن ويقول بصدق: "الفرق لا يهمني، فأنا أحب العراق بصباحه وليله. ومن هنا، تأتي رمزية هذه القصيدة، فالعراق هو بلد الشموخ والعزة، وليس هناك فرق بين أبنائه، سواء كانوا من الشمال أو الجنوب، الشرق أو الغرب. فكلهم أبناء هذا الوطن الذي يحتضنهم جميعًا. إنها قصيدة تمزج بين البلاغة والشعر والواقعية، وتصور الحقيقة الصادمة التي يعيشها العديد من الأشخاص في الغربة والاغتراب، وتحث على التمسك بالوطن والانتماء إليه، دون النظر إلى أي اختلاف بين أبنائه. تتميز هذه القصيدة باللغة الجميلة والموضوع المؤلم الذي يعبر عن الحزن والوحدة التي يشعر بها المواطن العراقي في هذا الموقف.

في قصيدة "أنا وأنت"، تأخذنا عبر رحلة مؤلمة إلى عالم مظلم يسوده الفساد والعنف والظلم، حيث يعيش الإنسان في حالة تشرد وضياع. تصوّر القصيدة الحالة الإنسانية بشكل عام، وتتركّز على عدم الانتماء لأي مجتمع أو فئة معينة. يستخدم الشاعر في القصيدة تشبيهات ورموز قوية تعزّز الصورة الأليمة للحياة، حيث يصف الغروب بـ"مدائن" والخطيبين بـ"هائمان حد الوجع المسلوب"، مما يجسّد الضياع والتشرد. ويستخدم الشاعر تشبيه "العتاة" بأنّهم حاملون لقرص الشمس في جيوبهم، ويصف الحالة النفسية للإنسان الذي يبحث عن تاريخه الملطخ بالعار والهزائم. وفي نهاية القصيدة، يستخدم الشاعر تشبيه الحبيب والسهم المسموم لوصف العنف والظلم الذي يمارسه الناس بعضهم على بعض. يتم تصوير الحبيب بصفة الطاغية الذي يقود الشخصين للتشرد والتعب، والسهم المسموم يرمز إلى الجريمة والعنف الذي يحاول الشاعر الهروب منه. بشكل عام، تعد "أنا وأنت" قصيدة شاعرية مؤثرة تصوّر الحالة الإنسانية العامة وتدعونا للتفكير في واقعنا المعاصر وتحليل الظواهر  الاجتماعية التي تؤثر على حياتنا بشكل عام. إنّها قصيدة تستحق القراءة والتأمل فيها، فهي تشكل دعوة للتمرد على الفساد والعنف والظلم وتحاول إلهامنا بالأمل والتغيير.  

قصيدة "غربتنا" تتميز بالشعرية والرمزية والبلاغة، حيث يستخدم الكاتب الصور الشاعرية والتشبيهات والرموز التي ترمز إلى الحرية والبحث عن التاريخ والهوية المفقودة. كما يستخدم الحوار والوصف والتعبير عن الأحداث بطريقة جميلة وواضحة. تعبر القصيدة عن الصعوبات التي يواجهها الشخصان في العثور على هويتهم وتاريخهم المفقود، ويحمل رسالة مؤثرة عن الشجاعة والإيمان بالأمل والتحلي بالصبر والثبات في وجه الصعاب والتحديات. كما تم استخدام العديد من الرموز مثل "العار والهزائم" و"مخارج الحروف في متاهة الكلام" و"السراب والواحة التي ترمقهم العيون بالظنون والأوهام". استخدم عبد الكريم الكيلاني الكثير من العبارات والجمل الشاعرية، مثل "يرتّقان صدر الحب في مواسم الغياب" كما استخدم الحوار مما يضفي عمقاً على القصيدة. وبذلك يعطي القارئ صورة شاملة عن المعاناة التي يتعرض لها الشخص الذي يسعى للحرية، والتضحيات التي يجب عليه القيام بها لتحقيق هذا الهدف. ومن الناحية الشعرية، تمتاز هذه القصائد بالإيقاع السريع والنغم العميق. بشكل عام، تمثل عملًا أدبيًا فنيًا جميلًا، يحتوي على العديد من الرموز والأفكار العميقة التي تتحدث عن معاناة الإنسان في البحث عن الحرية، وتجسد الرسالة الإنسانية العالمية التي تعبر عن النضال الحقيقي، ومواجهة القيود والظلم والاضطهاد.

إذا نظرتم إلى قصائد "بكائيات في الغربة والاغتراب"، ستجدون نغمات شاعرية عذبة يرتلها الشاعر بأسلوبه الفريد، فيعبر بكل بلاغة ورمزية عن الألم الذي ينخر في دواخل الناس، والشوق العميق إلى الحرية والوطن. ففي قصيدة "الحرية"، يتحدث الشاعر عن حالة اليأس والتشاؤم التي يعيشها الناس في بلادهم، ويوجه رسالة واضحة بأن الحرية هي الحقيقة التي يجب السعي إليها، يعبر  عن الرغبة الشديدة في التحرر من القيود والظلم، وبأن الحرية هي المفتاح الوحيد لتحقيق السعادة والازدهار في الحياة. وهذا ينطبق على كل الناس في كل مكان، حيث يعتبر الحرية حقاً أساسياً للإنسانية والكرامة الإنسانية. ويصوّر هذه الحالة المأساوية بصورة الكرسي الأبدي والسونيتة التي تعبّر عن تشرد الإنسان وغربته، وتزيد من قساوة الوضع الذي يعيشه.

في النهاية، يطلب الشاعر بأسلوب موسيقي وفني أن يقتلوه يومياً باسم الحرية، ليخرج من حالة الحرمان الذي يعيشه، ويتحرر من طغيان الظروف الصعبة، ويجد طريقه نحو الحياة الحرة والكريمة. إنها قصائد تتحدث عن معاناة الإنسان في العزلة والانعزالية، وتحمل بداخلها رسائل شديدة الأهمية، تعبر عن رغبة الإنسان في الحرية والعدالة، وتدعو إلى النضال والصمود في وجه القيود والحرمان. تخيّل الألم الذي يشعر به الإنسان المشرد، والذي يجعله يشعر وكأنه كرسيٌ أبدي يجلس فوقه طيلة الوقت، ويعزفُ خلفَ جراحه باسمِ الحرية. يترددُ صداه في أرجاء الفضاء، معزوفةُ الأمل الوحيدة التي تبقى على الرغمِ من كلِ الصعاب والتحديات. في هذه اللحظات اليائسة، يستلطفنا الشاعر بحنينٍ عميق، ويدعونا إلى مشاركته هذا الألم، لنعيشَ معاً رحلةَ البحث عن الحرية والعدالة. وبالرغم من صعوبةِ المسيرة واختلافِ الطرق، فإن الأملَ الدافع الذي يتغذى من الفن والأدب والثقافة يظلُّ شعلةً مضيئةً لا تنطفئ. يتغنى الشاعر عبد الكريم الكيلاني بمدينته الحرة، لكنها في الوقت ذاته يعبر عن حزنه الشديد لما يعانيه شعبه من محن وألم. فقد تتغطرسُ أوشحةُ النوح والبكاء والأنين في مسامع السكان، وتزيحُ الستار عن واقعٍ قاسٍ يستحقُ التغيير. وفي النهاية، يتحدث الشاعر عن شوقٍ عميقٍ للحرية المطلقة، فيدعونا إلى قتله يومياً باسمِ الحرية، لأنه يشعر وكأنه مقتول منذ سنين. لكنه يعزفُ موسيقَىً من الأمل بعد كلِّ الألم، ويشعر بالثقةِ بأنَّ غدًا أفضل. عبد الكريم الكيلاني هو شاعر وكاتب عراقي معاصر، معروف بأسلوبه الشعري الراقي والمؤثر. يتميز أسلوبه بالرمزية والشعرية العميقة، يعالج في قصائده قضايا الحرية والهوية والعدالة، وينتقد بشكل حاد الظلم والاضطهاد. تعبر قصائده عن معاناة الإنسان في بحثه عن الحرية والكرامة الإنسانية، وتحمل رسائل قوية تدعو إلى النضال والصمود في وجه القيود والحرمان. كما تتميز قصائده بالعمق الفلسفي والأدبي، حيث يتم استخدام الصور الشاعرية والتشبيهات بشكل مميز وجذاب إن ما يميز شعر الكيلاني هو قدرته على تجسيد المشاعر والأحاسيس الإنسانية العميقة بشكل جميل وراقي، وتوصيل رسالته بأسلوب شعري متقن. يستخدم الكيلاني الكثير من الرموز والصور الشعرية التي تجعل من قصائده أعمالاً فنية رائعة.

***

زكية خيرهم

مدخل: بما أنّ الرواية والقصة والفيلم والمسرحيّة والفن التشكيليّ بكل أشكالها وفي سياقاتها العامة هي مشروع فكريّ إنسانيّ، يهدف إلى بناء وعي الإنسان وإعادة تشكيله دائما بما يخدم الإنسان ذاته وقضاياه المصيريّة، لذلك سيظل هذا المشروع مع بقيّة المشاريع الموازيّة في الفلسفة وعلم الاجتماع، يؤثر بالضرورة على عقول الناس ومسيرة حياتهم وتطلعاتهم، وسيظل أيضاً محط استخدامٍ من قبل من ينادي بتطور الإنسان وتنميته، أو من قبل من يعمل على تخلفه وتشيئه وتذريره... وهذا في الحقيقة ما يدفعنا للكتابة عن هذا المشروع كي نُظهر تلك الرؤى والأفكار والنظريات التي يستخدمها الفنانون والأدباء والفلاسفة وعلماء الاجتماع، في أعمالهم تحت ذرائع غالباً ما تتخذ من مسألة الدفاع عن حريّة الإنسان وفردانيته وقضاياه الماديّة والروحيّة وسيلة أو ذريعة. لذلك تأتي قضيّة "الأدب الوجيز" ضمن رؤى هذا المشروع بالضرورة.

لقد ركز القرن العشرين في اهتماماته الفنيّة والأدبيّة على الحداثة التقدميّة - أي ما بعد الحداثة - إلى الحد الذي كادت أن تُهمل فيه الحداثة المحافظة، أي الحداثة التي بشرت بها الحركة الأنسيّة أولاً، ثم عصر التنوير ً بعد قيام الثورة الصناعيّة ثانياً، وظهور الطبقة البرجوازيّة، كطبقة حملت المشروع النهضوي ضد استبداد الكنيسة والنبلاء والملك. وعلى هذا الأساس راح الفنانون والأدباء والنقاد الذين اشتغلوا ويشتغلون على هذه القضايا في هذا القرن، يعلنون سخريتهم تجاه أيّة صيغة فنيّة أو أدبيّة أو فلسفيّة أخرى غير الصيغة الما بعد حداثيّة.

إن ما أطلق عليهم اسم (الفنانون الأكاديميون) على سبيل المثال لا الحصر  في القرن التاسع عشر، اعتقدوا – أي الفنانون الأكاديميون - أن ما يقومون به من أعمال فنيّة سيعمل على تحسين العالم عبر عرض أعمالهم الفنيّة التي تتضمن أو تعكس تلك القيم الأخلاقيّة المحافظة والنبيلة معاً، وهذا ما تدل  عليه تلك الأعمال الفنيّة  الفاضلة والمبدعة التي كانت تلهم العاطفة الدينيّة وتدفعها للعمل الصالح والنبيل الذي يطمح الجميع إلى محاكاته أو التشبه به في هذه الحياة.

أما العالم الحديث الذي راح ينعكس في الأعمال الأكاديميّة المعبرة عنه، وفي حالات تقدمه المتوالي، فلم تكن هذه الأعمال في حقيقة أمرها أكثر من تجسيد للواقع الراهن وداعم له وعارض لمستقبله بطريقة لا يهمها كثيراً الحفاظ على قيمه الإيجابيّة وتنميتها. بينما نجد الفنانين والأدباء المحافظين قد رغبوا في الحفاظ على واقعهم ومؤسساته، وفضلوا التغيير التدريجيّ التقدميّ لهذا الواقع على التغير الراديكاليّ. هذا في الوقت الذي نجد فيه أيضا أن هذه الأعمال المعاصرة (الما بعد حداثويّة) كثيرا ما كانت تُنتقد من قبل المؤسسات السياسيّة والدينيّة معا، كونها وضعت ثقتها في نطاق المنفعة الفردانيّة، هذه المنفعة التي اعتقدوا أن انطلاقتها كانت مع فلاسفة عصر التنوير في القرن الثامن عشر، وقد وصلت الآن إلى مرحلة التفسخ الاجتماعيّ بسبب قضايا كثيرة في هذا العصر، أهمها،  نمو المدن، وانتشار الفساد الاجتماعيّ بسبب مفرزات الثورة الصناعيّة، وسيادة النظام الرأسماليّ المتوحش، الذي شجع على الفرديّة، وجعل من الفرد الذي أخذ يميل إلى الشر في عالم المنافسة هذا، حيوانا متوحشا. لذلك فكل هذا، كان وراء  تمجيد (روسو) مثلاً للطبيعة، وتشجيع العدد الكبير من الحداثيين ليعطوا حياة الريف صفة المثاليّة، وهذا هو ذاته أيضا الذي دفع (توماس جفرسون) للعيش في بلده قريبا من الطبيعة، وإعلان رغبته بأن يكون اقتصاد الولايات المتحدة اقتصاداً زراعيّا بكامله.

عند المقارنة ما بين الحداثة المحافظة والحداثة التقدميّة، أي ما بعد الحداثة - نجد أن الحداثة المحافظة بقيت مقيّدة بالأفكار القديمة الميالة إلى دعم القيم الايجابيّة في المجتمع المعاصر، بينما الحداثة التقدميّة، أو ما بعد الحداثة،  راحت تتبنى المواقف المعادية للمجتمع ومؤسساته القائمة، ثم  بطريقة أو بأخرى أخذت تناضل تجاه كل السلطات القائمة تحت اسم الحريّة، وبذلك تكون قد أساءت لقيم البرجوازيّة الليبراليّة المحافظة عن قصد أو بدونه.

على العموم ولكي لا نظلم تيار ما بعد الحداثة برمته، نحن لا نعدم في الحقيقة بعض المواقف التنويريّة العقلانيّة ذات التوجه اليساريّ إلى حد ما المشبعة بالبعد الإنسانيّ، بمعظم أنساقه المعرفيّة وفي مقدمتها الأدب والفن والفلسفة وعلم الاجتماع، وذلك من خلال  اهتمام أصحاب هذه المواقف التقدميّة بالقضايا السياسيّة والاجتماعيّة، أو بمجمل ما يتعلق بهموم المجتمع المعاصر وخصوصا في هموم حلقاته الدنيا أو الفقيرة، وإلى حد ما في حلقاته الوسطى الراضيّة عن نفسها بشكل متزايد. فمن خلال أعمالهم الفنيّة والأدبيّة راحوا يبثون هموم القوى الاجتماعيّة الفقيرة في المجتمع المعاصر بشكل مباشر أو غير مباشر، مدركين ضرورة عنونتها والعمل على تصحيحها، مثل، معاناة الفلاحين، واستغلال الفقراء، والبغاء... الخ . إضافة إلى ذلك، لقد راح هذا الفصيل المابعد  حداثيّ التقدمي، وبشكل متطرف من خلال أفكار التنوير الداعيّة  للحريّة والمساواة، يعمل على تثقيف العامة بغية مواجهة القوى الاجتماعيّة المحافظة صونا للحياة وخلق مكاناً أفضل لعيش الإنسان فيه. وهذا الموقف المتخذ هنا من قبل هذا الفصيل التقدميّ، وأمام موقف الحداثيين المحافظين الذين تمسكوا بالماضي والتقليد معا، فان الفصيل  التقدمي هذا رفض التقليد عن قصد. ولكن بالرغم من أن الحاضر في خط حركته وتطوره الحتميّ والإراديّ يكون في سياقه العام أكثر حداثةً، إلا أن التقليد يستمر في حضوره  ممتداً في نسيج الحاضر.

إنّ رفض الماضي أصبح أمرا ضروريّا بالنسبة لفنانيّ وأدباء وفلاسفة ما بعد الحداثة، وبخاصة مع قدوم الحرب الكونيّة الأولى التي عنت بالنسبة لهم الفشل الذريع للتقليد وقيمه، ثم أن الكوارث التي ولدها التصنيع والتي تجلت في نتائج هذه الحرب، بينت بشكل من الأشكال أنّ تلك الثقة العظيمة التي منحت للعلم والتقدم التكنولوجيّ من حيث قدرتهما على خلق عالم أفضل، أتبتت فشلها بشكل واضح، مثلما بينت أيضا أنّ بروز المدارس المابعد حداثويّة، كالسرياليّة والرمزيّة والوجوديّة والعبثيّة والتفكيكيّة وغيرها في الفن والأدب والفلسفة، هي علامات بارزة على انبثاق ما سميّ بـ (ما بعد الحداثة) من البنيّة الذهنيّة والعقليّة للفنان أو الأديب أو الفيلسوف أو عالم الاجتماع.

دعونا نعمل هنا على توصيف (ما بعد الحداثة) لنقول: إنّ اعتقاد طلائع الاتجاه الحداثيّ التقدميّ  والليبراليّ منذ القرن الثامن عشر بشعارات الحريّة والعدالة والمساواة، غالبا ما تجلى في الفن والأدب والفلسفة بشكل واضح لا يقبل الدحض، فهذا الاتجاه الذي أصبحت الحريّة في أبعادها الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والثقافية  أحد مواضيعه الهامة، مثلما تجلت الحريّة أيضا كأسلوب فني تمثل في اختيار شكل ومضمون العمل الفنيّ والأدبيّ، وذلك كله جاء تعبيراً عن ممارسة حقوق الفنان والأديب الذي آمن بتيار ما بعد الحداثة، وعمل على لفت نظر الآخرين تجاهها.

في مرحلة متقدمة من القرن العشرين، أصبحت ممارسة الحريّة الفنيّة والأدبيّة والفكريّة عموماً، متطرفة بالنسبة لمتبني هذا التيار الفكريّ أو المشتغلين عليه، فالفنانون والأدباء أخذوا يبحثون هنا عن الحريّة في صيغتها المتطرفة، ليس في مجال القواعد والقوانين الأكاديميّة للفن والأدب فحسب، بل وفي نطاق حاجات الشعب أيضاً، فمسألة التطرف المبكرة في الدعوة  للحريّة بالنسبة لهم كانت وراء الفكرة التي راحت تقول: إن الفن أو الأدب الذي سينتج من اليوم، لم يعد في حقيقته من أجل الشعب، بل هو من أجل الفن. أي الفن والأدب المجردين من صلتهما العضويّة بالمجتمع وقضاياه المصيريّة.

مع ملاحظة مشهد معطيات ما بعد الحداثة في الأدب والفن والفلسفة، يأتي شعار (الفن من أجل الفن)، و كذلك الأدب من ضمنه على اعتباره شكلاً من أشكال الابداع الفني، ليشكل أساس دعوةٍ للتحرر من أيّ قيود تحد من حريّة الإنسان وفردانيته. ففي الوقت الذي نجد فيه ممارسة شعار (الفن للفن) تعبيرا عن الحريّة، نجده في أبعاده غير المعلنة ليس أكثر من (خدعة)، و(إهانة) مدروسة تجاه إحساس أو وعي البرجوازي في مرحلته الليبراليّة التقدميّة او الكلاسيكيّة، التي أراد فيها الفن والأدب أن يحملا معانٍ وأهدافاً وقيماً تساعد على تنوير وتعليم الأخلاق، (فلاسفة وأدباء وفنانيّ عصر التنوير أنموذجاً). وهذا لم يعد محققا في هذه الأعمال الفنيّة الما بعد حداثويّة، حيث نجد الفنان الما بعد حداثيّ على سبيل المثال يقول بمرح : " قررت أن يكون غرض فنيّ ليس لتلك "الأشياء النبيلة "  أي نشر قيم التعليم والتثقيف والتربية.

وفي مقال للكاتب (Oscar Wilde)  بعنوان: (  (The Soul of Man Under Socialis نشر عام 1891 جاء فيه : ( إنّ العمل الفنيّ هو النتيجة للمزاجيّة الفريدة، فجماله يأتي من حقيقة ما يكون عليه الكاتب أو الفنان، وهو في حقيقة أمره لا يملك شيئا في عمله لما يريد الآخرون تحقيقه. إن الفنان في اللحظة التي يأخذ فيها إشارة أو ملاحظة ما يريده الآخرون ويجرب تحقيقه في أعماله لا يعود فناناّ، ويتحول إلى لعبة، أو حرفيّ هزليّ، أو ربما تاجر شريف أو غير شريف، وفي نهاية المطاف، هو لن يملك أكثر من الادعاء بأنه فنانا فحسب). (راجع دراستنا الفن من أجل الفن المشار إليها نهاية الدراسة).

على أية حال، إنّ شعار الفن للفن، أو الأدب للأدب المعبر عن طموحات تيار ما بعد الحداثة، ويأتي  "الأدب الوجيز" أنموذجاً تطبيقيّاً لهذا الشعار، ولتوجهات تيار ما بعد الحداثة في نسقه السلبيّ معاً، وهو (خديعة أو وهم) كما أشرنا في موقع سابق، تمخضت عنه نتائج عكسيّة.

إنّ "الأدب الوجيز"  كنسق ادبيٍّ ما بعد حداثوي، يشتغل على تحطيم السرديات الكبرى في الملاحم الشعريّة أو الروايات. وهذا التحطيم سينال بالضرورة الكثير من التكنيك الفني في السرد وما يتطلبه العمل الأدبي من زمان ومكان وشخصيات وحوادث وتناقضات وآلام وأفراح المجتمع، وكل ما يتعلق بأهداف الأدب كوسيلة هامة لتغيير الفرد والمجتمع.

إنّ "الأدب الوجيز" يركز على الفكرة (الومضة) التي تشير إلى قضيّة ما من القضايا الماديّة أو الروحيّة، معزولة عن محيطها الاجتماعيّ والتاريخيّ.. لذلك هي أقرب - أي الفكرة - إلى موقف ذاتيّ للكاتب يعتمد على الحدسيّة والإدراك السطحيّ البعيد عن عمق أو جوهر الفكرة أو الظاهرة المطروحة، من حيث تشكلها وأسباب ظهورها وأهدافها. أي بعيدا عن سيرورتها وصيرورتها التاريخيتين وأهدافها.

إنّ الأدب الوجيز في نهاية المطاف هو أدب يدخل في مضمار نظريات ورؤى ما بعد الحداثة، التي حطمت فكرة الدولة والدين والأخلاق والتاريخ وكل القيم النبيلة التي تهدف لبناء الإنسان.. أي بتعبير آخر، هي نظريات تشتغل على نطاق التفكيك وموت القيم النبيلة. وما نظريّة الأدب الوجيز في جوهرها إلا تجل من تجليات ما بعد الحداثة، فهدفها تفكيك النص الأدبيّ واقصاء الكثير من مكوناته الفنيّة وحتى الفكريّة الملتزمة بقضايا الناس ومشاكلهم الحياتيّة، لتدفع بالفكرة ذاتها إلى مجال المواقف الذهنيّة، وليس إلى المواقف العقلانيّة النقديّة التي تهتم بالإنسان وقيمه النبيلة. وبالتالي هي تساهم في تحطيم الأدب وأسسه وكل جمالياته وتكنيكه السردي وشخوصه ولغته وأفكاره العقلانيّة.

إنّ البرجوازي نفسه الذي له ذوقه وأفكاره الحداثيّة التي مثلها فلاسفة عصر التنوير، راح عبر شعار الفن للفن ذاته،  يواجه بسرعة انحراف الفن والأدب عن مسارهما وتحولهما إلى وسيلة تعزز إيقاف أو إبطال مفعول المؤثرات الحقيقيّة للفن والأدب تجاه كل ما هو ضار أو مفيد في المجتمع، أي تحويله إلى فن أو أدب مجردين، وهذا ما راق له بعد أن تحوّل إلى رأسماليّ متوحش يهمه الربح، والربح فقط، تحت مظلة النظام العالميّ الجديد.

في نهاية القرن التاسع عشر، وجدت الإرهاصات الأوليّة للنقد الفني بعمومه من قبل نقاد ومؤرخي الفن والأدب، حيث كانت هذه الارهاصات النقديّة ذات مفاهيمَ شكلانيّةٍ، مُبعدة بشكل فعال مسألة (المعنى أو القصد) عن مكانته أو اعتباراته النقديّة، لذلك راح الفن والأدب يناقشان قضاياهما انطلاقا من هذه الفترة – نهاية القرن التاسع عشر وصاعدا - في نطاق مفاهيمَ أنموذجيةٍ آخذين بعين الاعتبار اللون، الخط، الشكل، الفراغ، التركيب، موت المؤلف، القطع مع الماضي، تحطيم فكرة الزمان والمكان، تحطيم السرديات والتركيز على الومضات الفكريّة المشبعة بالذاتية.. الخ آملاً هذا الفنان أو الأديب، وتحت أي اعتبار اجتماعي، أو سياسي، أو بيانات  تقدميّة معلنة .. الخ، أن ينجز عمله الفني أو الأدبي. ففي مثل هذا المقاربة الفنيّة أو الأدبيّة، تجد الفنانين والأدباء في الحقيقة، الهواة منهم، وإلى حد ما بعض المحترفين أيضا، مع تحقيق حرفيتهم واستقراهم الفني، راحوا يفقدون أهداف الحداثة الحقيقيّة في صيغتها الليبرالية الممثلة لعصر التنوير، شاؤا أم أبوا،  ليستغرقوا في الأسلوب الشكلي من التفكير الفني أو الأدبي. ودفاعا عن هذا الموقف الفني أو الأدبي، أخذ الجدل يدور حول، أنّ هذا الأسلوب المتبع هنا، يعبر تماما عن وظيفة الفن أو الأدب، وهذه الوظيفة تقوم على تعزيز وحفظ قيم وأحاسيس الحياة الإنسانيّة المتمدنة، ومحاولة البقاء بعيدا عن التأثيرات المؤذية بشكل عام، وإلى أقصى حد ممكن الثقافة التكنولوجيّة في بعدها  اللاإنساني .

أخيرا نقول في هذا الاتجاه:  لقد ظهرت هناك فكرة أنّ الفن أو الأدب الحديثين مورسا كليّاً داخل محيط صيغي مغلقٍ، ثم راحا ينفصلان بالضرورة عن محيطهما الاجتماعي كي لا يتلوّثا بالعالم الخارجي. لقد لمس الكثير من كتاب وأدباء ونقاد "ما بعد الحداثة  " أن الأعمال الفنيّة والأدبيّة في عالم ما بعد الحداثة قد أنجزت استقلالها الذاتي في مرجعيتها، الأمر الذي جعل الأعمال الفنيّة والأدبيّة تبدوا وكأنها ظاهرة معزولة تماما وفي  شيء من النقاء الفكريّ المجرد عن الواقع، أي أنه لم يعد الفن والأدب يّحكمان من قبل دوافع إنسانيّة، بل أخذا يّحكمان في الواقع من قبل قوانين غامضة كليّاً وبأساليب متطورة. وبتعبير آخر يمكن القول أيضا في هذا الاتجاه : إنّ الفن والأدب قد انفصلا عن الزمن الماديّ وعن كل ما يتعلق بالأحداث العاديّة للناس العاديين .

إنّ الاستقلال الذاتيّ لطبيعة الفن والأدب، يعني الإجابة الصحيّة عن تلك الأسئلة المطروحة حول مفاهيمها. فتاريخ ما بعد الحداثة وفق هذا التصور، بني فقط للتأثير في نفسه، وتكون مرجعيته من ذاته كليّاً.

إنّ مؤرخي الفن والأدب التقليديين ونقادهما رغبوا بتزايد اقتراب الفنانين الآخرين من فن وأدب ما بعد الحداثة، مثلما رغبوا أيضا بذاك النوع من الحديث الذي أخذ يدور حول الفترات التي راحت تتزايد فيها قيمة الوهم، عن إمكانيّة أنّ تاريخ كتابة الفن والأدب يمكن أن تتم وفقا لخط عظيم واحد من الترابط المنهجي المنظم، بالرغم من إيمانهم بأنّ التنظيم أو النظام يسمح للمرء أن يربط الفن والأدب المفضلين في الفترة المعيوشة بفن وأدب الماضي الأصيل، وذلك من خلال إمكانيات استعادة الملاحظات المنطقيّة للتقدم في الزمن الماضي، ولكن هذه الإمكانيات على ما يُعتقد، هي رأي غير مهم هنا، وأريد تسويقها في مفاهيم على ما يبدو أنها ذات ميول تاريخيّة عاطفيّة، لم تصمد أمام حتمية التطور، وخاصة في حقل النظام العالمي الجديد الذي فرضته طبيعة الرأسماليّة بعد أن أصبحت متوحشة، وتجاوزت هي ذاتها قيمها الليبراليّة التنويريّة العقلانيّة مع بداية صعودها.

أما بالنسبة لجهة المؤسسين المحافظين، فقد فقدوا قدراتهم على الصمود حقيقة، أمام التيار الشكلانيّ كأداة أو موقف منهجي فعال جدا في توجيه الفن والأدب المنفلتين من عقالهما، والمشوشين إلى حد كبير. فالعديد من التيارات الفنيّة والأدبيّة والفلسفيّة وعلم الاجتماع، راحت تّفرخ في النصف الأول من القرن العشرين، الأمر الذي حال ما بين رغبات المؤسسين المحافظين، والسيل الجارف لتيار ما بعد الحداثة بكل أنساقه المعرفيّة، التي راح كتابها وفلاسفتها وأدباؤها وفنانوها يشتغلون يداً بيد مع سوق الفن والأدب والفكر الذي كان مهتما فقط بالنقود وليس بالمعنى. هذا السوق الذي استوعب وبحيويّة كل المحاولات التخريبيّة والهدامة، أو كل ما هو ثائر على الطبيعة والمجتمع وقيمه الإنسانيّة.

نعم.. إنّ تحييد الفن والأدب في عالم ما بعد الحداثة، ذاته قد نال مسألة تنظيم الأعمال الفنيّة والأدبيّة التي كانت تستخدم من خلال العمل الإبداعي لتاريخ الفن أو الأدب، فهذه اللوحة قد  أصبحت وإلى حد كبير مجردة أيضاً من أي معنى حقيقي أو أصيل بالنسبة للعمل الفني أو الأدبي. فكل ذلك، كان يؤكد وبشكل لا يقبل الشك، بأن الصيغة الجماليّة الشكلانيّة تريد امتلاك الأولويّة في تقرير وظيفة الفن والأدب، بدلاً من التركيز على مضمون العلاقات الاجتماعيّة والسياسيّة للمحيط الاجتماعيّ التي يوجد فيه الفنان أو الأديب، ومحاولة تغيير هذا المضمون نحو رقي الإنسان وتقدمه.

على العموم، بالنسبة للفن والأدب لكي يكونا وسيلةً فاعلةً من أجل تطوير المجتمع، فهما يحتاجان إلى أن يكونا قابلين للفهم من قبل جمهور المهتمين من الناس قدر الإمكان، ولكون الفن والأدب لم تكن أهميتهما تكمن في كونهما مجرد صورة أو كلمة أو فكرة مجردة خارج السياقات التاريخيّة، بل إنّ أهميتهما الحقيقيّة والصادقة تكمن وراء هذه الصورة أو الكلمة أو الفكرة المشبعة بالقيم الإنسانيّة، داخل الحقل التاريخي لنشاط الناس الماديّ والروحيّ معاً. فالفن والأدب ليسا صيغةً واحدةً من جهة، والصيغة الواحدة ذاتها قابلة لأن تعطي دلالات عدة من جهة ثانية، ولكن هناك شيئاً واحداً يدعى (فناً أو أدباً)، وهو عنصر مشترك مع الكل، ومهما يكن هذا الشيء الفنيّ أو الأدبيّ، فهو شيء كونيٌّ يشبه الحقيقة العلميّة في الفهم التنويري، والفن والأدب بعمومهما قد امتلكا هذه الشيء أو هذه السمة بكل وضوح .

ملاك القول:  إنّ أول خطوة كانت باتجاه طريق التجريد ابتدأت مع العمل على إبعاد كل العناصر التي تساعد على إخفاء أو إبعاد الأهداف المميزة للعمل الفنيّ أو الأدبيّ التي تميل إلى تحقيق وظائفهما الاجتماعيّة. هذا وقد كان الفن والأدب في المدرسة التجريديّة أو السورياليّ أو الرمزيّة أو البنيويّة أو التفكيكيّة أو التعبيريّة أو الوجوديّة وغيرها، ويأتي "الأدب الوجيز" بالنسبة للبعض ممرا أيضاً لتحقيق أهداف أخرى تتعلق بالجانب الروحيّ أكثر من الجانب الماديّ، وباعتقادي أنّ دعاة الأدب الوجيز اليوم  هم يريدون بعلمهم أو بدونه،  على أن يكون الأدب الوجيز مصدر إلهام روحي آخر أمام ضياعات الإنسان في وجوده الاجتماعي، أي ضياعه في عالم إنتاجه لخيراته الماديّة والروحيّة.

إنّ التجريديّة وكل مدارس ما بعد الحداثة الفنيّة والأدبيّة والفلسفيّة وغيرها، تعمل على استخدام نوع من التخطيط البعيد عن العالم الماديّ، عالم الإنسان في علاقاته اليوميّة المباشرة، لقد امتلكت مدارس ما بعد الحداثة إمكانياتٍ كبيرةً في الإيحاء، أو الوصف  أو الإيماء المجرد إلى عالم الروح.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سورية

.......................

المراجع:

إن هذه الدراسة قامت على مرجعين أساسيين هما:

1- (الفن من أجل الفن – قراءة في المفهوم.) وهي دراسة قمت بترجمتها للكاتب Christopher L. C. E Witcombe - Art for Art's Sake - witcombe.sbc.edu/modernism/roots.html، وقد نُشرت في العديد من المواقع الالكترونيّة العربيّة يمكن الرجوع إليها.

2 -  (كتبنا قضايا التنوير – إصدار دار التكوين – دمشق – 2010. راجع الدراسات المتعلقة بالحداثة وما بعد الحداثة.

1ـ على سبيل البدء:

مرّت أزمان والنّقّاد يعتنون بنصوص غيرهم من المبدعين نقدا وانتقادا، مدحا وتجريحا، شرحا وتشريحًا. وكانوا بتلك العناية والرّعاية قوّة دفع كبيرة ساهمت بالارتقاء بالنّصوص الى درجات عليا من الأدبية والجمالية وساهمت في ربط علاقات إفادية بين النص والقراء. وخلال هذه الازمان لم يسه النّقّاد عن توصيف النصوص وفرزها وتصنيفها، ولم يتوانوا في تقييم الأدباء وتقسيمهم فقسموا الشّعراء مثلا الى أربع درجات. وقسّموا الأدب الى أشكال كثيرة. وقد فعلوا ذلك أحيانا باعتماد معايير شتى لا تخضع دائما الى الموضوعية وانما الى عوامل مختلفة مثل الزمن والظروف الاجتماعية ودرجات المعرفة وحتى الذوق والمزاج. والسؤال الذي اود طرحه: ماذا فعل النّقّاد بنصوصهم النّقدية؟ هل طوّروها لتواكب الحداثة أم انهم اكتفوا بالكنس أمام ديار غيرهم بأسلحة قديمة اهترأت مفاتيحها فلم تعد قادرة على فتح باب نصّ "حديثّ"؟

وان كنت لا أستطيع الإجابة عن هذا السؤال، لعدم الاختصاص، فإنني سأحاول في هذه الورقة ان اثير الموضوع املا في تذكير أصدقائي النّقاد بدورهم الرّيادي في ضرورة الاتيان بشيء قد يرفع نصوصهم الى كوكبة القافلة ان لم أقل ناصيتها ليتمكنوا من قيادة الحركة الأدبية أو في أضعف الأحوال أن تواكب نصوصهم النقدية النهضة التي شهدتها النصوص الإبداعية الأخرى.

2 ـ الأبستمولوجيا والصفة:

يقول بعض من اللغويّين أن جذع العربية حرفان لا ثلاثة ويسمّون العربية لغة المثاني. وحتى أبيّن حقيقة أبستمولوجيا كلمة "نقد " اعتمدت هذه النظرية وبنيت على أسس حَرْفيْ النّون والقاف (الجذع الثّنائي لفعل نقد) وولّدت منهما جميع الالفاظ الممكنة بإضافة الحرف الثّالث. وخلصت إلى أن كل الالفاظ المولّدة تدور حول المعنى نفسه وهو تسليط قوّة مادّية (ملموسة) أو معنوية (محسوسة) على شيء بغية إصلاحه او تهذيبه او تزيينه. فنقّى ونقب ونقد ونقح ونقس ونقر ونقش ونقص ونقض ونقط ونقل ونقم، كلّ هذه الأفعال يقودها رأس الحربة الذي نعوّل عليه أي نقد، تبيّن أن مهمّة النّاقد لا تكمن في ابداع (خلق) نصّ جديد إنما في تناول نصّ موجود بغية فرز الجيّد منه وتقييمه وذلك بتسليط قوّة فكريّة عليه، وهو غير مطالب باختلاق نص من خياله وانما بالاشتغال على ابداع غيره بطريقة لا تخلو من الفنّ والجمالية: يفحص النّاقد النّصّ معتمدا على مخزونه اللّغوي وعلى فطنته وذكائه وعلى ذاكرته وما ادّخرته لوقت الحاجة، يفكّكه ويعيد بناءه. وهذا العمل لا يقدر عليه من دبّ وهبّ فللنّقد شروط عديدة منها: الكفاءة والدّرجة العلمية وموهبة التحليل والتفسير والقدرة على استنطاق النّصّ وحذق الدّخول الى أعماقه. فالنّصّ يتكلّم إن دفعته الى الكلام ويبوح بأسراره إن أمسكته من النّاصية. والنّاصية في نظرنا هي لا وعي الكاتب المبثوث بين السّطور وخلف العبارة. وعلى النّاقد القنّاص أن يتمكّن من تعرية الوجه الخافي من النّصّ واستحضار ظروف ولادته.

3 ــ على النّاقد أن يشابه الطّبيب:

ان النّاقد وهو يضع جسد النص الادبي على طاولة الفحص هو طبيب يحاول ان يستنطق الجسد المريض لتحصل عنده فكرة كلية (البنيوية = l’état général) معتمدا على علم الفيزيولوجيا (الاسلوبية = (la physiologie ومتبيّنا علامات المرض (سيميولوجيا = la sémiologie). تقول الحكمة الأساسية في فن الطب: ليس هنالك مَرضٌ بل هنالك فقط مرْضى (il n’y a pas de maladies ,il n’y a que des malades ). ما يعني أن الطبيب لا يمكنه أن يطبّق المعارف نفسها على جميع المصابين بمرض واحد. كذلك الناقد لا يمكنه أن يطبق المذاهب نفسها على كل النصوص فهي تختلف من شخص الى اخر ومن بيئة الى أخرى، وقد تختلف عند الكاتب نفسه باختلاف ظروف الكتابة. فليس هنالك مدارس نقدية أصلا ولا قوالب جاهزة يستوردها الناقد في علب لغوية. وحتى إن وجدت، فهي تولد مع كل نصّ وتتوزّع ما بين وعي ولا وعي الكاتب. فلا يحقّ للنّاقد ان يتعمّد تطويع النصّ لمذاهب نقدية غريبة عنه وعن البيئة التي خلق فيها.

4ــ عنوان النّصّ، المتاهة الأخرى:

لعلّ أوّل زلّة يرتكبها النّاقد الكلاسيكي هي اهتمامه بالعنوان. اذ يعتبر كثير من النّقّاد أنّ عنوان النّص هو العتبة الأولى التي تسبق المتن ويخصّونه بقراءة معمّقة وشاملة تمسح حتّى شكل الخطّ ولونه. بل ويصرّ بعضهم على أهمّية العنوان فيضعه في مرتبة المضاف ويترك البقية مضافا اليه لا يخرج عن طاعته الا بتأويل. شقّ ثالث يمنح للعنوان صفة المبتدأ ويسمّي البقية خبرا لذلك المبتدأ اللّقيط الباحث عن نسب. يشترك كل هؤلاء في منح قيمة للعنوان لا يستحقّها لتكون في أحيان كثيرة واجهة مصطنعة وشمّاعة تأويلات. أمّا في الواقع فلا يضع المبدع، شاعرا كان أو قاصّا، عنوانا لنصّه الا بعد وقت من الانتهاء من كتابته والاشتغال عليه. وقد تطول مدّة البحث عن عنوان فتفوق المساحة الزّمنية التي استهلكتها كتابة النّص ومراجعته. وقد يرشّح الكاتب عدّة عناوين يعرض بعضها على قرّائه وأصدقائه. ولنفرض أن رأي هؤلاء النّقّاد صحيح وان العنوان هو بالفعل مبتدأ وأن المتن خبر له فماذا يساوي المبتدأ دون خبر؟ لا شيء سوى كلمة مجرّدة خالية من كل معنى فالخبر هو الذي يرفع من شأن المبتدأ ويمنحه معناه وصفته. نقول مثلا: البحر ونتوقف هنا حيث لا معنى ولا شيء حتى يحين الخبر فنقول البحر مائج فنفهم سببا ونتيجة لذلك الهيجان الخ. العنوان في اعتقادنا تلخيص للنّص وباب الخروج منه ولا مفتاح الدخول اليه.

5ـ لكيلا يبقى النّقّاد أنصاف نقّاد:

أغلب النّقّاد يتعلّمون ممارسة النّقد في كليات الآداب والعلوم الإنسانية فيتخرجون منها بشهادة في احدى اللغات أو العلوم الإنسانية مثل الجغرافيا والتاريخ والحضارة. وقد ينهون دراستهم بالحصول على نصف شهادة نظرا لتفرّع الاختصاصات في زماننا فالأدب صار آدابا منها القديم ومنها الحديث. فماذا يفعل النّاقد أمام نصّ مشحون بالمعارف العلمية الحديثة (خيال علمي، علوم صحيحة، تكنولوجيا، انترنت) وهو الذي لم يتعلّم كيف يأخذ الأشياء بمنطق الأشياء؟ سيجد نفسه عاجزا عن فهم النّصّ وقد لا يتجرّا ‘ن التعبير عن عجزه فيكتفي بقراءة سطحية بسيطة سلاحه اللغة ولا شيء غير اللغة يقيس من خلالها النّصّ وينقده فيضرّ به ويضرّ بقارئه.

5ــ تقديرا للنّاقد:

أحيانا، يجد النّاقد نفسه في وضعية لا يحسد عليها خصوصا اذا كانت تربطه بصاحب النّص علاقة أو معرفة قد تفرض عليه التضحية بقسط من النزاهة وبشيء من الموضوعية. وقد يكون الناقد مجبرا لغاية أخرى على التخلّي عن رأيه تجنبا لما عسى أن يلحق به من أذى فنحن نعلم أن سوق النّقد والجوائز والقراءات صارت حامية وأنشأت لها أنصارا وسماسرة من النّقّاد أنفسهم فجعلت بعضهم يختارون المكان الأسلم، المربح والمريح، فلا يخجلون من التضحية بدرجات معارفهم إرضاء لخاطر مانح الجائزة أو للحاصل عليها. وهذا الموقف خالص الأجر أضرّ بالنّصوص الأدبية عموما وأفقد السّاحة ثقة القرّاء.

لذلك قلت مرة في حيرة النّاقد باحثا له عن أعذار تنزّه عمله:

... ينْقادُ النَّاقِد للفوْضَى

ما أعذبَ هذا المنفَى!

وبلا مأوَى...

يتلجلجُ قلبُ الناقِد ما بين الألفاظِ

تضيعُ رؤاه

مخمورًا ينبُش في الأنقاضِ

ما أصعبَ أن يتحكَّم نصٌّ في أحْجيةِ القاضِي.

***

د. المولدي فرّوج / تونس

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم