آراء

آراء

قراءة في المشهد الإقليمي في ضوء التصعيد المتبادل بين حزب الله والكيان الإسرائيلي وإيران

في سياق التصعيد بين "إسرائيل" وحزب الله لا بد من تقدير مدى جدية حرب التصريحات النارية المتبادلة بين الطرفين، وعلاقة مناورات الحزب الأخيرة التي شاركت فيها قوات الرضوان المدربة على العمليات الخاصة، على نحو احتلال مواقع إسرائيلية داخلية بغية اختطاف ما يتيسر من جنود الاحتلال، والانسحاب بهم إلى قواعد الحزب الداخلية بسلام.. ناهيك عن تجريب إيران لصاروخ خيبر الفرط صوتي بدلالاته المعنوية.

صحيح بأنه لا سبيل إلى المقارنة بين ترسانة الأسلحة الدقيقة التي يمتلكها حزب الله، ونظير ذلك لدى جيش كيان الاحتلال الإسرائيلي الذي يعتبر من القوى الإقليمية العظمى؛ ولكن في حرب الإرادات فالكفة تميل دائماً إلى المقاومة.

وكانت اختبارات الإرادة في كل مواجهات هذا الجيش المصاب برهاب المستقبل، مع المقاومة في قطاع غزة أو جنوب لبنان، تثبت فشله في ضبط ساعة الاشتباك، وعجزه عن التصدي للصواريخ التي أصابت الكيان في العمق؛ ما أدّى إلى هزيمة جيش الاحتلال معنويا.

وكان بوسع خبراء حزب الله الاستراتيجيين التقاط أهم نقاط الضعف في أداء هذا الجيش من خلال مواجهاته مع المقاومة في غزة، والتي تتجلى بما يلي:

أولاً:- اعتماد جيش الاحتلال على قوات الردع الصاروخي التي فشلت في التصدي لثلثي صواريخ المقاومة حيث أصابت أهدافها في العمق الإسرائيلي، كالقبة الحديدية ومقلاع داوود.

ثانياً:- الاعتماد على سلاح الطيران في الهجوم الجوي "الهمجي"، باستخدام المسيرات الانتحارية، بالإضافة إلى سلاح الطيران الذي يستخدم أكثر الطائرات الحربية تطوراً في القصف المدمر للقطاع كطائرات (ف 16) واستخدامها للقنابل المحرمة دولياً دون أن يكسر ذلك إرادة المقاومة.

ثالثاً:- تهميش سلاح المشاة وتردده في اقتحام غزة ما سيجعله عاجزاً عن احتلال جنوب لبنان في أي حرب مستقبلية مع حزب الله، خلافاً لما حدث عام 1982 حينما وصلت هذه القوات إلى مشارف بيروت إلى أن كنستها المقاومة.

ويعزو خبراء عدم كفاءة سلاح المشاة الإسرائيلي إلى العوامل التالية:

- قلة تجربته الميدانية وترهله.

- ضعف عزيمة جنوده، وهبوط الروح المعنوية لديهم.

- عزوف الشباب الإسرائيلي عن الالتحاق بهذا السلاح، ما قد يُفْشِلُ أيةَ دعوةٍ للاحتياط من خلال التجنيد الإجباري.

وهذه الحقائق تاتي خلافاً لقدرة حزب الله النوعية، والتي تتحكم بها إرادة لا تلين، إلى جانب خبرته الميدانية في سوريا، ناهيك عن القوة الصاروخية القادرة على ضرب العمق الإسرائيلي بكفاءة واقتدار، رغم التفوق الإسرائيلي العسكري، أضف إلى كل ذلك الدعم الإيراني المفتوح للحزب عسكرياً.

إن تصاعد التهديدات الكلامية النارية بين قادة حزب الله والاحتلال الإسرائيلي تبقى مرهونة بتغيير قواعد الاشتباك التي حددت بعد حرب تموز 2006 بين حزب الله وجيش الاحتلال الإسرائيلي.

فهل ثمة رهانات جديدة على تغيير تلك القواعد في إطار حرب إقليمية مدمرة؟

إن عوامل التغيير أمست العلامة الأبرز في تلك التصريحات المتبادلة والتي توحي وكأن الحرب باتت وشيكة على الأبواب.

ويتجلى ذلك وفق المنظور الإسرائيلي على اعتبار أن حزب الله من أهم الأذرع الإيرانية "الإرهابية" العاملة في الجبهة الإسرائيلية الشمالية والشمال الشرقي (سوريا).

أما بالنسبة لحزب الله في إطار وحدة الساحات فإنه يعتبر "إسرائيل" احتلالاً بغيضاً لفلسطين ومقدساتها، ناهيك عن احتلالها مزارع شبعا اللبنانية.. وإن علاقة الحزب بإيران استراتيجية فلا فكاك بينهما.

لذلك تدرك "إسرائيل" خطورة الرهان الإيراني على هذه الاستراتيجية في التصدي لتهديداتها الجادة إذا أقدمت على قصف أهم المنشآت الإيرانية النووية التي أقيمت تحت منسوب 100 متر في قلب أحد الجبال.

ومن هذا المنطلق جاءت تصريحات رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي هنغبي، التصعيدية، في أن نتنياهو سيحصل على دعم لضرب منشآت إيران النووية إذا استُنفدت كل الطرق. وفي إشارة للتحصينات الإيرانية في جوف الأرض، قال هنغبي بشكل غير مباشر: “سنصل لكل هدف في إيران أينما كان” وهو يراهن على أم القنابل الأمريكية التي لا تتجاوز قدرتها الاختراقية عمق 60 متراً ما سيحوّل كلامه إلى أوهام.

ويتهم الإسرائيليون إيران بتخصيب اليورانيوم على عتبة 95% ما يمنحها القدرة والجاهزية لصنع قنبلة نووية.. وهو ما انكرته إيران على اعتبار أنها لم تتجاوز عتبة أل 60% من التخصيب.

أضف إلى ذلك قيام إيران بتجربة صاروخ خيبر الفرط صوتي الذي تتجاوز سرعته سرعة الصوت ب 16 مرة ولديه قدرة تفجيرية ضخمة وقادر على حمل رؤوس نووية.

من جهتها كانت المناورات التي أجراها حزب الله في الجنوب اللبناني مؤخراً هي من حرك السجال الكلامي بين الطرفين، كونها تضمنت عمليات اقتحام للحدود الإسرائيلية وتنفيذ عمليات اختطاف افتراضية لجنود إسرائيليين.

وضمن هذا التصعيد اللفظي صدر بيان عن نتنياهو قال إنّه تجول في الفترة الأخيرة بين معسكرات جهاز المخابرات والمؤسسة الأمنية، وأدهشته القدرات البشرية والتقنية لمواجهة التهديدات والتي تمكّن "إسرائيل" من مفاجأة أعدائها ومواجهتهم والتفوّق عليهم مجتمعين.

وهذا كلام منسوخ لا يسمن ولا يغني من جوع فتقديرات حزب الله لجيش الاحتلال وخاصة سلاح المشاة، تأتي خلاف ذلك.

لا بل أن قائد جيش الاحتلال هرتسي هليفي، قال إن إيران تستخدم سوريا منطقةَ حربٍ محتملة مع "إسرائيل"، مشدداً على أن حزب الله “مُرْتَدَعٌ بشدة” عن شنّ حرب شاملة، وأن "إسرائيل" مستعدة جيداً على الجبهة الشمالية. وهذا كلام ليس عملياً وإنما جاء للاستهلاك المحلي.

ورداً على هذه التصريحات قال مسؤول إيراني "الجزيرة"، إن أي اعتداء عسكري على المنشآت النووية سيقابل برد واسع وغير مسبوق، وإن كلام "إسرائيل" مجرد تحريض ودعاية.. مشدداً على أن طهران مستمرة في تطوير قدراتها العسكرية في كافة المجالات، وأن ذلك هو ما يزعج "إسرائيل".

فوفق مراقبين إسرائيليين فإن نتنياهو يستثمر هذه الأجواء ويعود ليستخدمَ إيران وحزب الله معاً فزاعةً؛ حتى يقنعَ الإسرائييليين بأن "إسرائيل" بحاجة لقائد قوي يفهم بالأمن ومجرّب، وذلك من أجل كسب بعض النقاط وزيادة شعبيته في معركته الداخلية الصعبة.

أما خارجياً فيحاول نتنياهو إعادة فزاعة إيران للعودة إلى الخليج كضامن لأمنه، بعد أن عادت العلاقات السعودية الإيرانية إلى مجاريها في ظل حرب أوكرانية اشغلت الناتو والإمريكيين.

***

بقلم بكر السباتين

29 مايو 2023

الشمًّاعة وجمعها شَمَّعات أو العلًّاقة وهي قطعة أثاث يمكن تعليق الملابس عليها، والشماعة عبارة عن مجموعة من الخطافات الملحقة بجدار وتستخدم بشكل أساسي لتعليق المعاطف والسترات والسراويل ولتخزين الحقائب والمظلات وعصي المشي والأحذية وغيرها من الأشياء، هذا ما جاء في تعريفها بالموسوعة الحرة (ويكيبيديا)، وهذه الشماعات او العلاقات نجحت الأنظمة السياسية الشمولية في شرقنا الأوسط بتطويرها واستخدامها كوسيلة لإدامة حكمها وديمومته، ورغم اختلافها مع بعضها حد الاقتتال أحيانا، الا انها تشترك في نمط السلوك والتفكير، ومن أبرز ظواهر تلك المنظومة من التفكير والسلوك هو تعليق أسباب تشبثها بالسلطة بشماعات الشعارات التي تداعب الجانب العاطفي للشعوب سواء كان دينياً او مذهبياً او قومياً، وهي تستخدمها أيضا لتعلق عليها كثير من إرهاصاتها وأسباب فشلها أو مبررات قيامها بأمر ما مخالف للقوانين أو الأعراف، لتكون سبباً مقنعاً للتمويه واستغفال الشعوب وإدامة حكمها، وهي بذلك أي تلك الشماعات تكفي لكي تكون مبرراً لاتخاذ أي إجراء أو تمرير أي قانون أو مشروع خارج سياقات القوانين المتعارف عليها دستورياً، ولعلّ أكثر الدول والأنظمة استخداماً لهذه الشماعات نجدها في العراق وسوريا وليبيا واليمن وإيران والعديد من الأنظمة المشابهة لطبيعة النظام السياسي والاجتماعي السائد في هذه الدول.

ولعل أخطر استخدام لتلك الشماعات هي التهم الموجهة لمعارضي النظم السياسية خارج إطار القضاء، ففي أواخر خمسينيات القرن الماضي حينما بدأت مرحلة الحكم الشمولي في العراق بمذبحة العائلة الملكية، كانت تهمة أي معارض للنظام هي شماعة الرجعية والعمالة للإمبريالية والاستعمار، ثم تطورت لتشمل القومية والتدين، وكانت العروبة والكردية والإسلامية السياسية تهمة كافية لتعلق صاحبها على المشنقة او التصفية الصامتة، وما كادت أن تنتهي تلك الفترة بانقلاب 8 شباط 1963م حتى بدأت موجة انتقام وحشي وصلت الى درجة إصدار بيان حكومي سيء الصيت اسمه البيان 13 الذي أباح قتل كل معارض للبعثيين وفي مقدمتهم الشيوعيين وبقية اليساريين، وقد أتاح هذا البيان لكل شخص لديه مشكلة مع شخص آخر أن يتهمه بالشيوعية او اليسارية أو المعارضة لكي يتم إعدامه فوراً، وخلال أسابيع من شهري شباط وآذار 1963م غرق العراق في حمامات دماءٍ ومذابح قتل فيها الآلاف من المواطنين لا علاقة لأغلبيتهم بالسياسة وتعليق تصفيتهم على شماعة الشيوعية والإلحاد والمعارضة للنظام.

إنها شماعات الموت التي حولت البلاد الى صراعات دموية حادة مهدت لحروب داخلية طاحنة في كوردستان العراق ومن ثم مع الشيعة والسنة ايضاً، راح ضحيتها مئات الآلاف من خيرة أبناء وبنات العراق ومن كل المكونات القومية والدينية والمذهبية والسياسية، لا لشيء إلا لكونهم معارضين او مشتبه بمعارضتهم أو أقربائهم، كما كانوا يصنفونهم حتى الدرجة الرابعة من القرابة، ناهيك عن الحروب الخارجية مع إيران والكويت والتحالف الدولي أدت الى تدمير العراق لعشرات السنين القادمة.

والمؤلم ان كل هذه الفواجع وحمامات الدم والمآسي لم تنتج معارضة قادرة على إسقاط تلك الأنظمة الا بمساعدة خارجية، كما حصل في ليبيا وأفغانستان وايران وسوريا الى حد ما، وفي العراق تحولت المساعدة الى احتلال العراق وأسقاط هيكل نظام الأنفالات والأسلحة الكيماوية والمقابر الجماعية والجيش الشعبي والأمن الخاص وبقية مؤسسات صناعة الموت، وقد توفرت فرصة ذهبية امام النخب السياسية وشعوب تلك البلدان رغم مرارة الاحتلال لإعادة بناء الدولة والخروج من ظلمات النظم الشمولية، لكن للأسف ورغم النجاحات التي تحققت في عدة ميادين إلا أنها اصطدمت بإرث متكلس من السلوك وطريقة التفكير التي لم تختلف كثيرا عن سابقاتها من الأنظمة، بل ربما تجاوزتها في أحيان عديدة، ليس في العراق فحسب بل في كل من ليبيا واليمن وايران وأفغانستان، وبدلاً من دكتاتور واحد وجيش واحد وأجهزة أمن واحدة، انشطرت الى العشرات حيث فرخت الأجهزة الخاصة بصناعة الموت العديد من الجماعات المسلحة والميليشيات الدينية والمذهبية المتطرفة، وكما تتوالد القطط الشباطية توالدت الشماعات فأصبحت شماعة داعش والبعث والسيادة والحشد المقدس وتحرير القدس والصهيونية والتطبيع والطائفية وكل واحدة من هذه الشماعات ترسل صاحبها الى ما وراء الشمس، وترسل البلاد الى حقبة من الصراعات الأكثر عنفاً ودموية من الأنظمة السابقة.

وخلاصة القول لقد نهضت اليابان وكوريا الجنوبية وألمانيا بعد حروب طاحنة مدمرة وتحولت الى قوى عظمى خففت من وطأة الاحتلال في إعادة بناء البلاد وإعمارها، لكن ما حصل لدينا وبعد عقدين من الزمان وأكثر من ألفي مليار دولار كناتج قومي، أكد بما لا يقبل الشك بأن ثقافة الشماعات وعدم قبول الاخر بل والإصرار على إبادته متكلسة في النظام التربوي والاجتماعي ليس للنخب الحاكمة فقط بل حتى لدى غالبية المحكومين.

إن البناء والتقدم ليس في المباني الشاهقة بل في إعداد وبناء العقول الشاهقة!

***

مقدمة: تمر (حركة التحرر الوطني الفلسطيني المعاصرة) بأزمة بنيوية ووظيفية عميقة: أزمة قيادة، أزمة برنامج وطني، أزمة فكر وأيديولوجيا، ثم أزمة انقسام ووصول الخيارات المعلنة أو البرامج الحزبية لطريق مسدود سواء كان خيار المفاوضات والتسوية السلمية لدى منظمة التحرير وفصائلها أو خيار المقاومة لدى حركة حماس ومن يشايعها من الفصائل، ومما زاد من تفاقم الأزمة تغير الظروف الموضوعية والذاتية التي كانت حاضرة عند تأسيس المشروع الوطني في بداياته، فالمتغيرات والتحولات الإقليمية والدولية التي استجدت على مجريات الصراع كانهيار المعسكر الاشتراكي والنظام الإقليمي العربي وصعود الإسلام السياسي وفوضى ما يسمى الربيع العربي وموجة التطبيع الأخيرة بين أنظمة عربية وإسرائيل، بالإضافة الى الانقسام الداخلي وصعود اليمين الصهيوني الأكثر تطرفا وعنصرية، كلها أمور زادت من إرباك المشروع الوطني كمشروع تحرر وطني.

هذه الأزمة المركبة ومع أنها أزمة قوى وبرامج سياسية إلا أن استمرارها يؤثر مستقبلا على الحقوق الوطنية السياسية، فالاستيطان في الضفة والتهويد في القدس والانقسام السياسي والجغرافي بين غزة والضفة وتراجع الدافعية النضالية لدى غالبية فصائل العمل الوطني والانشغال بهموم ومتطلبات الحياة اليومية وتزايد المراهنة على المتغيرات الخارجية... الخ، كلها أمور ستُخرِج – إن لم تكن أخرجت – الحالة الفلسطينية من سياق حركة التحرر الوطني ووضعته على تخوم متاهة سياسية مفتوحة على كل الاحتمالات.

لا شك أن مصير الشعوب وتاريخها لا يرتهنا بتقلب الأزمان ولا بتغير موازين قوى إقليمية أو دولية، والأهم من ذلك لا يرتهنا بمصير ومآل الأحزاب والنخب السياسية التي تفرزها كل مرحلة. فإذا كان صعود وسقوط دول وإمبراطوريات لم يلغ وجود الشعب الفلسطيني فإن هزائم وفشل أحزاب ونخب لن يلغي وجود الشعب والقضية، ولكنها تحتم إعادة النظر في البرامج واستراتيجيات العمل بل إعادة النظر في شرعية تحكم نفس القوى السياسية المأرومة بمصير الشعب الفلسطيني، ذلك أن الأحزاب والنخب لا تصنع الشعب والحقوق الوطنية ولكن الشعب هو الذي يصنع الأحزاب والنخب.

الحالة الفلسطينية المأزومة تستدعي مراجعة إستراتيجية شمولية لمجمل الحالة السياسية الفلسطينية وخصوصا للبرنامج الوطني الذي وضع في منتصف الستينيات وطرأت عليه تغيرات لاحقة لم تحض بموافقة كل القوى السياسية. نظرا للغموض الذي يشوب تشخيص الحالة الفلسطينية الراهنة وتعريف النظام السياسي والمشروع والبرنامج الوطني، فسنتطرق لهذه الأمور قبل تناول إستراتيجية المرحلة المقبلة.

المحور الأول: المشروع الوطني كنظام سياسي لحركات التحرر الوطني

هناك إشكال على مستوى استعمال المفردات والمصطلحات لتوصيف الحالة السياسية الفلسطينية فهل هي حركة تحرر وطني؟ أم سلطة وطنية؟ أم سلطة حكم ذاتي تحت الاحتلال؟ أم سلطة دولة؟ وفي ظل الانقسام أليس الأقرب للواقع الحديث عن سلطتين وحكومتين ومشروعين سياسيين واحد وطني وآخر إسلاموي؟ وينتج عن هذا الإشكال إشكال في النعت المناسب للمؤسسة السياسية الناظمة للحياة السياسية، هل هو النظام السياسي؟ أم منظمة التحرير الفلسطينية وميثاقها ومؤسساتها؟ أم المشروع الوطني؟ أم البرنامج الحكومي؟

إجرائيا سنستعمل مصطلح النظام السياسي لوصف كل أشكال الفعل السياسي والمؤسسات السياسية الفلسطينية التي تشتغل على القضية الفلسطينية سواء كانت رسمية أو غير رسمية، في السلطة او في المعارضة وبغض النظر عن أشكال الفعل السياسي الذي تمارسه: عسكريا جهاديا او سياسيا.

1- تعريف النظام السياسي

التعريف التقليدي للنظام السياسي هو نظام الحكم بمعنى المؤسسات الحكومية الثلاث: تنفيذية وتشريعية وقضائية، والتي تقوم بمهمة الدفاع عن الوطن ضد التهديدات الخارجية وضمان الترابط الداخلي، هذا التعريف للنظام يربط النظام السياسي بالدولة، وهو تعريف مستمد أساسا من التعريف التقليدي لعلم السياسة بأنه علم الدولة، إلا أن التطور الذي عرفه علم السياسة مع تطور وتعقد الحياة السياسية وتجاوزها لحدود الدولة، دفع بعلماء السياسية إلى تعريف علم السياسة كعلم السلطة، وعليه، أصبح النظام السياسي يعرف كمفهوم تحليلي أكثر مما هو نظام مؤسساتي مضبوط كما توحي كلمة نظام، وضمن هذه الرؤية عرفت موسوعة العلوم السياسية، النظام السياسي هو " مجموع التفاعلات والأدوار المتداخلة والمتشابكة التي تتعلق بالتخصيص السلطوي للقيم، أي بتوزيع الأشياء ذات القيمة بموجب قرارات سياسية ملزمة للجميع (دايفد استون)، أو التي تتضمن الاستخدام الفعلي أو التهديد باستخدام الإرغام المادي المشروع في سبيل تحقيق تكامل وتكيف المجتمع على الصعيدين الداخلي والخارجي (جابرييل الموند)، أو التي تدور حول القوة والسلطة والحكم (روبرت دولُ)، أو التي تتعلق بتحديد المشكلات وصنع وتنفيذ القرارات السياسية " .

هذا يعني أن النظام السياسي قد يشمل الدولة ولكنه قد يتجاوزها ليستوعب علاقات وتفاعلات سلطوية إما مشمولة بالدولة كالأحزاب والجماعات العرقية والطائفية ذات الثقافات المغايرة والمضادة للدولة، وإما تتعدى حدود الدولة كظاهرة الإرهاب الدولة أو العنف متعدي القوميات أو حركات التحرر الوطني أو التداعيات السياسية للعولمة.

وفي جميع الحالات، فان مؤشرات وجود الظاهرة أو التركيبة السياسية التي يمكن تسميتها بالنظام السياسي هي التالي:

أ - قيادة سياسية ذات سلطة أكراهية – بدرجة ما-.

ب- مؤسسات سياسية وإدارية مدنية وعسكرية واقتصادية

ج - هدف محل توافق وطني

د-إستراتيجية عمل وطنية

لا بد من الإشارة إلى أن النظام السياسي هو نسق فرعي بالنسبة للمجتمع، فهذا الأخير كنظام أو منظومة كلية يتشكل من عدة أنساق فبالإضافة إلى النسق- النظام- السياسي، هناك النسق الديني والنسق الاقتصادي والنسق الثقافي، واتساق هذه الأنساق وانسجامها مع بعضها البعض هو الذي يحفظ للمجتمع توازنه واستقراره، واختلال نسق من هذه الأنساق يؤثر سلبا على بقية الأنساق وبالتالي على استقرار المجتمع وتوازنه. وفي هذا يرى ديفد استون " إن الحياة السياسية هي جسد من التفاعلات ذات الحدود الخاصة التي تحيطها نظم اجتماعية تؤثر فيها بشكل مستمر "، وهو يعتبر ان النظام السياسي مثل (العلبة السوداء) ولا يهم ما يجري داخل العلبة بل علاقات النظام مع بيئته، وهذه البيئة على نوعين :الأول هو النظم الأخرى المكونة للنظام الاجتماعي العام كالنظام الاقتصادي والنظام الثقافي والنظام الديني الخ، والثاني مكون من البيئة الخارجية أو غير الاجتماعية، كالنظام البيئي، النظام البيولوجي، النظام النفسي والنظام الدولي.

هذه المقاربة النسقية لمفهوم النظام السياسي مهمة عند معالجة النظام السياسي الفلسطيني، فالحديث عن أزمة النظام السياسي الفلسطيني لا يعنى فقط أزمة تشكيل الحكومة ولا الصراع على المناصب بل أيضا وأهم من ذلك تأثير الاحتلال و الأجندة الخارجية والبعد الديني في الصراع سواء بين الفلسطينيين والإسرائيليين أو بين الفلسطينيين وبعضهم بعضا بالإضافة إلى المحددات الاقتصادية الناتجة عن الارتهان للتمويل الخارجي.

2- المشروع (البرنامج) الوطني ضرورة حياتية للشعوب الخاضعة للاحتلال.

لا تستقيم السياسات العامة للأمم والدول بدون رؤية، والرؤية هي الهدف وإستراتيجية تحقيقه، والرؤية عند الشعب الخاضع للاحتلال هي المشروع الوطني التحرري وبرنامج للعمل الوطني قابل للتكيف مع المتغيرات دون أن يفقد بوصلة الاتجاه نحو الهدف الاستراتيجي. لا يمكن أن ينجح شعب خاضع للاحتلال بدون مشروع وطني وثوابت متَفَق عليها تُلهم الشعب وتوحده وتستنفر قواه للدفاع عنها.

ما وراء الفشل المتعاظم والتخبط الواضح والتيه المعمم على مستوى كافة نخب ومؤسسات الحالة السياسية الفلسطينية، يكمن غياب الرؤية أو غياب المشروع الوطني وعدم ثبات برامج العمل الوطني وتعددها بتعدد الأحزاب .فشل المفاوضات والخلاف الداخلي حولها، الاختلاف حول مفهوم المقاومة، فشل المصالحة، الفوضى والفلتان الأمني والاجتماعي، الصراع على سلطة وهمية، فساد نخب ومجتمع مدني وحكومات، هجرة الشباب والانتقال من المطالبة بحق العودة إلى المطالبة بحق الهجرة، العجز عن القيام بانتفاضة جديدة وحتى عدم القدرة على ممارسة المقاومة الشعبية السلمية الخ، ليس ما سبق المشاكل الحقيقية أو جوهر القضية بل هي تداعيات ونتائج لغياب الرؤية أو المشروع الوطني بما يتضمن من ثوابت وطنية. استمرار التركيز على أزمة المفاوضات وأزمة المقاومة وغيرها، إنما هو هروب من جوهر المشكل وهو غياب مشروع وطني وثوابت وطنية، وهو غياب إما لعدم الإيمان بالمشروع الوطني أو لعدم القدرة على تحمّل استحقاقاته.

مع أن سؤال الأزمة صاحب المشروع الوطني الفلسطيني منذ ولادته إلا أنه تحول من سؤال حول أزمة المشروع الوطني إلى سؤال حول ماهية المشروع الوطني ثم سؤال حول الوجود بحيث يجوز التساؤل اليوم هل يوجد مشروع وطني فلسطيني؟

الواقع يقول إنه بالرغم من أن كلمة المشروع الوطني والثوابت الوطنية من أكثر المفردات تكرارا عند القوى السياسية الفلسطينية، إلا انه لا يوجد مشروع وطني ولا ثوابت محل توافق، بل ينتظر الفلسطينيون من يضع لهم مشروعهم الوطني، فكما صنع العرب منظمة التحرير بداية يبدو أن الفلسطينيين اليوم وبعد أن نفض العرب يدهم من القضية ينتظرون من الرباعية أو من إيران أن يصيغا لهم مشروعا وكيانا ولا بأس أن ينعته الفلسطينيون بالوطني أو مشروع مقاومة إن شاءوا.

قد يتساءل البعض كيف لا يوجد مشروع أو برنامج وطني وعندنا أكثر من خمسة عشر حزبا وفصيلا لكل منها برنامجها وإستراتيجيتها ونصفها يملك ميليشيات وقوات مسلحة؟ كيف لا يوجد مشروع وطني وكل الأحزاب تتحدث عن المشروع الوطني وتبرر عملياتها العسكرية بأنها من اجل المشروع الوطني والدفاع عن الثوابت الوطنية! وتبرر قتالها مع بعضها البعض بأنه من اجل المشروع الوطني؟ كيف لا يوجد مشروع وطني ولدينا حكومتان وسلطتان لكل منها أجهزتها الأمنية والشرطية ووزرائها وقوانينها وعلاقاتها الخارجية الخ ؟ كيف لا يوجد مشروع وطني وقد اندلعت حرب أهلية باسمه ودخل آلاف الفلسطينيين سجونا فلسطينية وقُتل بعضهم في هذه السجون وعُذب و آخرون باسم المشروع الوطني والدفاع عن الثوابت؟ كيف لا يوجد مشروع وطني وهناك منظمة التحرير الفلسطينية وميثاقها وقرارات مجالسها الوطنية ولجنتها التنفيذية والمجلس المركزي؟!.

وقد يقول قائل إن وجود شعب تحت الاحتلال يعني تلقائيا وجود مشروع وبرنامج تحرر وطني، وهذا قول يحتاج لمراجعة. صحيح أنه يوجد احتلال صهيوني ويوجد أكثر من 14 مليون فلسطيني يحملون الوطن معهم أينما حلوا وارتحلوا ويربون أبنائهم على حب الوطن و التوق للعودة إليه، و صحيح أن قرارات دولية تعترف للفلسطينيين بحق تقرير المصير وبعضها يعترف لهم بالحق في دولة الخ، ولكن، هذه أمور قد تضعف مع مرور الزمن أو تشتغل عليها إطراف محلية أو إقليمية ودوليه وتخرجها عن سياقها الوطني من خلال حلول جزئية وتسويات إقليمية.

إن كان يوجد مشروع وطني فما هي مكوناته من حيث الهدف والوسيلة والإطار والمرجعية؟ وإن كان يوجد ثوابت وطنية فما هي؟ هل هي المنصوص عليها في الميثاق الوطني قبل تعديله أم ثوابت ما بعد التعديل؟ هل هي التي تتحدث عنها حركة حماس، ام الثوابت التي تتحدث عنها حركة فتح، ام الثوابت التي تتحدث عنها حركة الجهاد الإسلامي الخ؟ أم الثوابت التي يتحدث عنها اللاجئون في الشتات؟

منظمة التحرير في وضعها الحالي لم تعد مشروعا وطنيا ممثلا لكل الشعب الفلسطيني ليس فقط بسبب تآكلها داخليا ولاعترافها بإسرائيل وصيرورتها ملحقا للسلطة واستحقاقاتها الخارجية بعد أن كانت مؤسِسَة لها، بل أيضا لأنها أصبحت جزءا من الخلاف الفلسطيني ولا تعترف بها حركة حماس والجهاد الإسلامي وتتحفظ على ممارساتها فصائل حتى من داخلها، فغياب توافق وطني حول المنظمة يقلل من أهمية اعتراف كل دول العالم بها، أيضا المفاوضات ليست مشروعا وطنيا، والسلطة و الحكومة ليستا مشروعا وطنيا، ومجرد الحديث عن مقاومة وحتى ممارستها بشكل فصائلي ليس مشروعا وطنيا.

لو كان عندنا مشروع وطني حقيقي ولو كان عندنا ثوابت محل توافق وطني ما كان الانقسام وما كان فشل المصالحة وفشل مئات جولات الحوار، لو كان لدينا مشروع وطني ما وُضِعت وثائق متعددة ومواثيق شرف كإعلان القاهرة 2005 ووثيقة الوفاق الوطني 2006 واتفاق القاهرة 2008، وورقة المصالحة التي تم التوقيع عليها في أبريل 2011 وبروتوكول القاهرة للمصالحة 2017 وكلها لم تنفذ حتى اليوم، لو كان لدينا مشروعا وطنيا وثوابت وطنية ما كانت كل المؤسسات القائمة فاقدة للشرعية الدستورية (حسب مقتضيات القانون الأساسي) ولشرعية التوافق الوطني، لو كان لدينا مشروعا وطنيا ما كان هذا التراشق والاتهامات المتبادلة بالخيانة والتكفير ما بين من يتحدثون عن المشروع الوطني، لو كان لدينا مشروعا وطنيا ما كان هذا حالنا وما كان هذا التدخل الفج من القوى الخارجية في قضيتنا الوطنية .

إن كان كل ما سبق من تشكيلات سياسية وبرامج حزبية ليس مشروعا وطنيا، فما هو المشروع الوطني ؟.ندرك جيدا صعوبة تحديد المشروع الوطني في الحالة الفلسطينية والصعوبة الأكبر في وضعه موضع التنفيذ، نظرا لتداخل الماضي مع الحاضر، الدين مع السياسة مع الاقتصاد، الوطني مع القومي مع الإسلامي، الشرعية الدولية مع الشرعية التاريخية والشرعية الدينية، ونظرا لطبيعة الاحتلال الصهيوني الاستيطاني ألإجلائي الخ، ونظرا لأن بعض مكونات النخب السياسية الفلسطينية وخاصة نخب السلطتين، بدأت تفقد إيمانها بعدالة القضية وبدأت حسابات السلطة والمصلحة الآنية تطغى عندها على حسابات المصلحة الوطنية، ومن هنا فإن أي توجه لإعادة البناء النظري للمشروع الوطني ووضع آليات لتنفيذه يجب أن يبدأ كخطوة أولى خارج حسابات السلطتين وخارج ارتباطات الحزبين الكبيرين ومن خلال التعامل مع الشعب الفلسطيني ليس كساكنة غزة والقطاع بل كشعب قوامه أكثر من 14 مليون مواطن.

إن استمر كل حزب وحركة في التصرف باعتبار أنه يمثل المشروع الوطني، واستمر في تحميل مسؤولية أي خلل أو تقصير أو عدم إنجاز للآخرين من الأحزاب أو للتآمر الخارجي فهذا سيؤدي لمزيد من ضياع ما تبقى من أرض وكرامة وطنية. لذا فالأمر يحتاج لتفكير إبداعي خلاق لتأسيس عقد سياسي أو مشروع وطني جديد، وإن كان الحديث عن مشروع وطني جديد يستفز البعض ممن قد يفسرون الدعوة بأنها تجاوز للأحزاب والنضالات السابقة، وهي ليست كذلك، فلنقل إننا نحتاج لاستنهاض الحالة الوطنية على أُسس جديدة. ومن حيث المبدأ فحتى نكون أمام مشروع وطني يجب توافق الأغلبية على مرتكزات أي مشروع وطني وهي: 1- الهدف 2- الوسيلة أو الوسائل لتحقيق الهدف 3- المرجعية 4- الإطار 5-الثوابت. وسنفصل لاحقا هذه العناصر.

3- المشروع الوطني الأول: مشاريع في مشروع

تم التعامل مع منظمة التحرير منذ قرار إنشائها بداية في قالمة العربية عام 1964 كتجسيد للكيانية السياسية الفلسطينية، من حيث وجود قيادة ومؤسسات: رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، واللجنة التنفيذية والمجلس المركزي والمجلس الوطني الفلسطيني والقضاء الثوري والكفاح المسلح الخ، كما حدد الميثاق القومي 1964 ثم الوطني 1968 الإستراتيجية والهدف، فكانت بداية إستراتيجية الكفاح المسلح ثم بالتدريج ومن خلال صياغات تحويريه ومبطنة تم الانتقال من الكفاح المسلح إلى العمل السياسي. هذا التحول بالإستراتيجية رافقه أو بالأدق كان نتيجة استعداد لتحوير الأهداف من تحرير كل فلسطين إلى القبول بدولة على أساس الشرعية الدولية.

كان النظام السياسي وحتى علم 1968 نظام حركة تحرر وطني تتمركز خارج فلسطين وتخضع للقيادة العربية المشتركة، وهو ما جعل المحددات الخارجية تلعب دورا كبيرا في قيام النظام السياسي- منظمة التحرير- بداية ثم التأثير والتدخل الفج في رسم سياساته وحركاته السياسية لاحقا. هيمنة فصائل الكفاح المسلح على المنظمة عام 1968 حرر منظمة التحرير نسبيا من التبعية العربية الرسمية ثم جاء قرار قمة الرباط 1974 بالاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا ووحيدا ليزيد من هامش الحرية إلا أن منظمة التحرير ومجمل القضية بقيت متأثرة بمحيطها العربي والإقليمي.

لم يكن النظام السياسي الفلسطيني - ومنذ أن وجدت القضية الفلسطينية كقضية كفاح من أجل الاستقلال وحق تقرير المصير - هو الفاعل الوحيد في رسم إطار الصراع وتحديد أهدافه وأبعاده، بل كان طرفا ضمن أطراف متعددة عربية ودولية. لا شك أن الشعب الفلسطيني هو المعني أكثر من غيره بالصراع بفعل وقوعه مباشرة في بؤرة الحدث وبفعل كونه الأكثر تضررا من مجريات الأحداث إلا أن دوره كفاعل كان مقيدا ومحكوما بالفاعلين الآخرين وبموازين القوى التي يصنعونها، وما كان يسمى النظام السياسي الفلسطيني الذي جسدته منظمة التحرير الفلسطينية هو في حقيقته ليس مشروعا وطنيا خالصا بل مشروعا خليطا من مشاريع أربعة: المشروع الوطني الفلسطيني والمشروع القومي العربي والمشروع الإسلامي والمشروع التحرري العالمي. وكنتيجة لذلك أيضا، فإن التحويرات التي طرأت على البرنامج الوطني والنكسات والهزائم التي تعرض لها النظام السياسي الفلسطيني عبر محطاته المأساوية البارزة 1967 هزيمة يونيو وضياع الضفة والقطاع، 1970 أحداث الأردن، 1982 الخروج من لبنان، 1983 الانشقاق داخل فتح و 1990 تداعيات الغزو العراق للكويت، ثم الدخول الاضطراري بعملية السلام وتوقيع اتفاقية أوسلو، وأخيرا الانقسام ... لم تكن نتيجة لتقاعس أو تقصير الشعب الفلسطيني ونظامه السياسي بل كان للأطراف الأخرى العربية والدولية المصنفة ضمن معادلة الصراع دور رئيس في حدوثها وتحمل مسئوليتها، كذلك الأمر بالنسبة للإنجازات السياسية التي تحققت، فلم يكن مرجعها فقط النضال الفلسطيني وفعالية النظام السياسي بل لعبت الأطراف الأخرى دورا في تحقيقها أو في تضخيمها.

ويمكن القول إن البرنامج الوطني الذي كان يتصدى له النظام السياسي الفلسطيني اختزن في ثناياه أربع قضايا أو مشاريع أو هو حصيلة لهم:

المشروع الأول: المشروع الوطني الفلسطيني الرافض للوجود الصهيوني في فلسطين والمتطلع للاستقلال إنه المشروع الذي يقف في الصدارة عند الحديث عن القضية الفلسطينية فهو عمادها وجوهرها وعامودها الفقري.

المشروع الثاني: القومي الوحدوي العربي حيث كانت كل القوى والأنظمة القومية تقول بتحرير فلسطين وتعتبر الوجود الصهيوني تهديدا للأمن القومي العربي وعائقا أمام الوحدة العربية، بل إن كثيرا من الأنظمة العربية كانت تعتبر تحرير فلسطين من أولى مهامها، وتحت شعار البعد القومي للقضية وقومية المعركة ووحدة المصير كانت الأنظمة- خصوصا القومية والثورية- تتدخل بشكل سافر في حياة الفلسطينيين وفي مسار مشروعهم الوطني.

المشروع الثالث: المشروع الإسلامي. نظريا جمعت فلسطين والقدس الشريف بما تمثلانه من رموز دينية وبما تجسدانه من معان روحية عميقة لدى المسلمين كافة كل المسلمين عرب وغير عرب، وتضمن خطاب الأنظمة والحركات الإسلامية ما يؤكد التزامها نظريا بتحرير فلسطين ورفض الوجود الصهيوني فيها من منطلق ديني، ولكن على مستوى الممارسة تفاوت العطاء وتباينت أساليب التعامل فهناك من المسلمين من اكتفى بالدعوات الصالحات للشعب الفلسطيني وهناك من رأى أن طريق تحرير فلسطين لا تمر القدس بل عبر كابول وكشمير بل حتى نيويورك وواشنطن. وفي زمن ما يسمى الربيع العربي هيمن الخطاب الديني على غيره إلا أن فلسطين كانت غائبة عن اهتمامات الاسلامويين بل عززت إسرائيل من مكانتها ونفوذها مستغلة فوضى (الربيع العربي).

المشروع الرابع: المشروع التحرري العالمي حيث كانت حركة التحرر العالمية تلتقي مع كل من المشاريع الثلاثة على قاعدة معاداة الصهيونية والإمبريالية ومحاربة الاستعمار بكل صوره وأشكاله، وكان على رأس حركة التحرر العالمية الاتحاد السوفيتي والصين ومجموعة دول المسكر الاشتراكي والتي دعمت ومدت حركات التحرر في العالم الثالث بما فيها حركة التحرر العربية وعلى رأسها حركة المقاومة الفلسطينية بالمال والسلاح ونسجت معها علاقات (إستراتيجية) عسكرية وسياسية اقتصادية وكانت أكبر نصير لها داخل هيئة الأمم المتحدة.

هذه المشاريع الأربعة كانت تتداخل مع بعضها البعض، تقترب من بعضها أحيانا فتتعزز مكانة النظام السياسي الفلسطيني، أو تتنافر وتتصادم فيتأزم النظام السياسي الفلسطيني وتنتكس القضية الفلسطينية. وبالرجوع إلى الميثاق الوطني الفلسطيني الذي رسم معالم النظام السياسي الفلسطيني نجد قوة حضور المحددات الخارجية الأربعة سواء عند تحديد الإستراتيجية النضالية، فمهمة التحرير لم تكن مسؤولية فلسطينية خالصة، حيث نص الميثاق أن الفلسطينيين (طليعة) الأمة العربية والإسلامية وحركة التحرير العالمية في معركة التحرير، وهدف التحرير هدف قومي وإسلامي، حيث فلسطين جزء من الأمة العربية ولم يكن مسموح للفلسطينيين بالتفريط بأي جزء منها حتى لدواعي المصلحة الوطنية الفلسطينية، حتى انه تم التنصيص في الميثاق القومي الفلسطيني على أن لا تمارس المنظمة أي سيادة على الضفة وغزة، وفلسطين أيضا وقف إسلامي لا يجوز التفريط بأي جزء منها.

حتى السلطة التي تمارسها القيادة الفلسطينية كانت سلطة معنوية أكثر منها سلطة سيادية، بسبب وجود المنظمة على ارض غير فلسطينية وخضوع الفلسطينيين للاحتلال، فالسلطة الإكراهية للقيادة الفلسطينية كانت تصطدم بالسلطة السياسية والسيادية لأنظمة أخرى، ولم يختلف وضع المؤسسات السياسية بما فيها التنظيمات المسلحة كثيرا من حيث ما تمارس من سلطة وسيادية أو من حيث قدرتها على تنظيم الشعب الفلسطيني.

فلا غرو إذن أن النظام السياسي الفلسطيني قبل 1988 كان محكوما بمعادلة معقدة ومستحيلة التحقيق وهي التوافق بين المحددات أو الشروط الأربعة المشار إليها، فأي إخلال بشرط من هذه الشروط أو تَرَجُع أي طرف عن التزامه سينعكس سلبا على النظام السياسي الفلسطيني وبالتالي على إنجاز البرنامج الوطني.

كان توازن هذه المشاريع الأربعة وتوافقها ولو على قاعدة الحد الأدنى هو الذي حكم النظام السياسي الفلسطيني خلال ثلاثة عقود، سواء في حالات احتدام الصراع والحرب أو في مرحلة البحث عن حلول سلمية للصراع، حيث كان لكل طرف مصلحة في استمرارية (التحالف) أو التنسيق فيما يتعلق بالشأن الفلسطيني إما من منطلق المصلحة المشتركة في مواجهة عدو مشترك أو لمصلحة خاصة لكل طرف، وكانت النظام السياسي الفلسطيني معني أكثر من غيره بالحفاظ على الترابط والتنسيق بين المشاريع الأربعة ولو على قاعدة الحد الأدنى، وكان دائم السعي لتعويض أي نقص في فاعلية أداء أي بُعد من الأبعاد الأربعة بتقوية وتعزيز فاعلية الأبعاد الأخرى. فغياب وانتكاسة المشروع القومي بعد حرب 67 تمت محاولة تعويضه بتقوية المشروع الفلسطيني وتصعيد الكفاح المسلح ضد إسرائيل وانتكاسة المشروع الوطني الفلسطيني بعد أحداث أيلول 1970 تم تداركه بتقوية الوجود الفاعل للقضية على المستويين العربي والدولي، وانتكاسة المشروع القومي العربي بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد جرت محاولة التقليل من مخاطرة بتقوية المشروع الوطني الفلسطيني وبتفعيل دور المشروع التحرري العالمي سواء على مستوى تعزيز مكانة القضية الفلسطينية بين دول العالم أو تفعيل قرارات الشرعية الدولية ومكانة المنظمة داخل الأمم المتحدة وفي المنظمات الدولية الأخرى، إلا أن ما لم يخطر على بال المخططين داخل النظام السياسي الفلسطيني أن تحدث الانتكاسة على كافة المستويات.

ارتهان النظام السياسي وبرنامج العمل الوطني للمحددات الخارجية كان جليا في التحويرات التي طرأت على البرنامج الوطني حيث كانت كل تراجع لأي من المشاريع المشار إليها أو التصادم معها يؤدي لخلخلة البرنامج الوطني وخفض سقف تطلعاته وصيرورته أكثر تطويعا لفكر التسوية وللبحث عن حلول وسط بأجراء تحويرات على المشروع الوطني تحت عنوان التكتيك السياسي تارة والعقلانية السياسية تارة اخرى.

فبعد أحداث الأردن عام 1970 وسلبية الموقف العربي تبنت المنظمة فكرة الدولة الديمقراطية على كامل فلسطيني عام 1971 والتي تمنح لليهود المقيمين على أرض فلسطين حقوق متساوية مع المسلمين والمسيحيين، فيما كان الميثاق لا يعترف بحقوق لليهود إلا الذين كانوا يعيشون فيها قبل 1947، وبعد حرب أكتوبر 1973 تبنت المنظمة فكرة المرحلية وتبنت البرنامج المرحلي الذي يتحدث عن سلطة وطنية مؤقتة، ومع توقيع اتفاقية كامب ديفيد ثم حرب لبنان 1982 والتقاعس العربي في نصرة الثورة اعترفت المنظمة بقرارات الشرعية الدولية وتطويع البرنامج الوطني لهذه القرارات وهو ما تم تبنيه رسميا في إعلان الدولة في الجزائر عام 1988، وجاءت حرب الخليج الثانية وما أدت من انهيار للنظام الإقليمي العربي ثم انهيار المعسكر الاشتراكي للارتماء في أحضان التسوية الأمريكية التي أدت إلى مؤتمر مدريد 1991ثم توقيع اتفاقية أوسلو 1993 التي أسست لسلطة الحكم الذاتي الفلسطيني وأخرجت البرنامج التحرري الوطني من ماهيته وأدخلته في متاهة جديدة.

المحور الثاني: تعدد البرامج وانقلاب السلطة على المشروع الوطني

1- محاولات متعثرة لإنقاذ المشروع الوطني:

تزامنت الانتفاضة الأولى 1987 ثم الإعلان عن قيام الدولة في اجتماع المجلس الوطني في الجزائر عام 1988 مع ظهور حركتي حماس والجهاد الإسلامي من خارج إطار المشروع الوطني والنظام السياسي الرسمي- منظمة التحرير الفلسطينية - وببرنامج ديني سياسي بمرجعيات وأهداف وتحالفات متعارضة مع البرنامج الوطني، وإن كان ظهور هذه القوى عزز من الانتفاضة واستقطب شرائح شعبية داخلية وخارجية داعمة للشعب الفلسطيني إلا أنها شكلت حالة انقسام حاد في النظام السياسي الفلسطيني مهدت بدورها لانهيار هذا النظام لاحقا. بالإضافة لظهور الإسلام السياسي الفلسطيني بأجندة مغايرة للبرنامج الوطني أوجد اتفاق أوسلو الذي وقعته منظمة التحرير مع إسرائيل عام 1993 خلخلة في مرتكزات النظام السياسي بل شكل خروجا عن البرنامج الوطني الأول، وبهذين المتغيرين باتت ثوابت البرنامج الوطني اقل بكثير من المتغيرات التي طرأت عليه.

نظرا لمحدودية الإمكانيات الفلسطينية: العسكرية والاقتصادية والديمغرافية – الشتات والاحتلال- فقد استمرت التدخلات الخارجية في لعب الدور الرئيس في توجيه النظام السياسي، إلا أن القوى المؤثرة اختلفت جذريا عن سابقاتها وهو اختلاف أدى لتحول النظام السياسي عن أهدافه وإستراتيجيته، فإذا كانت سابقا قوى صديقة أو حليفة تجمعها بالمشروع السياسي الفلسطيني قواسم مشتركة، فأنها هذه المرة قوى غير صديقة أو معادية لمنظمة التحرير ومشروعها السياسي، أو صديقة ولكن لها أجندة خاصة بها، أو صديقة ولكن غير مؤثرة.

إذن ما بعد أوسلو حدثت خلخلة للنظام السياسي الفلسطيني بعناصره الأربعة المشار إليها – القيادة والمؤسسات والهدف والإستراتيجية – صحيح انه مع تأزم مسلسل التسوية وتهرب إسرائيل من التزاماتها وخصوصا مع انتفاضة الأقصى – سبتمبر 2000- حاول النظام السياسي الفلسطيني أن يعود لمرتكزاته القديمة و يرمم السفن التي أحرقتها اتفاقية أوسلو سواء من حيث دعم أو السكوت عن ممارسي العمليات الفدائية، أو من خلال التأكيد على حق العودة وعدم التفريط بالثوابت أو إحياء مؤسسات منظمة التحرير وخصوصا اللجنة التنفيذية والمجلس المركزي والمؤسسات القيادة لحركة فتح وتغيير القيادة بعد وفاة الرئيس أبو عمار، ثم إجراء انتخابات بلدية وتشريعية وتشكيل حكومة وحدة وطنية الخ، إلا أن كل هذه المحاولات لم تفلح في إخراج النظام السياسي الفلسطيني من مأزقه بل وصل الأمر للانقسام الراهن.

التيه السياسي الراهن الذي يعاني منه النظام السياسي الفلسطيني ليس خللا ظرفيا وعابرا، بل خلل بنيويا قبل أن يكون وظيفيا، سواء تعلق الأمر بكل حزب وحركة على حدة أو من خلال ما تم تسميته بالمشروع الوطني القائل بدولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة عاصمتها القدس وحل عادل لقضية ألاجئين.

خلل الفصائل يكمن في كونها فصائل منفردة لا يجمعها إطار وطني واحد ولو ضمن ائتلاف كما كان الحال مع منظمة التحرير في سنوات السبعينيات أو جبهة تحرير فيتنام أو جبهة تحرير الجزائر الخ، والخلل أيضا في غياب استقلالية قرارها وتبعيتها لأجندة دول وأطراف خارجية لأسباب أيديولوجية وغالبا ما تؤدي التبعية الأيديولوجية لتبعية مالية والمال الخارجي له ثمن سياسي لا يتوافق غالبا من المصلحة الوطنية، هذا بالإضافة إلى أن تبعية حزب أو حركة لمرجعية خارجية يؤشر على ضعف الانتماء للوطن: ثقافة وهوية وانتماء، وهي تبعية تعيق الشراكة السياسية الوطنية بما فيها التوصل لإستراتيجية عمل وطني. أن يكون لكل حزب إستراتيجية سياسية وعسكرية خاصة به وميليشيات مسلحة بل ومستشفيات وجامعات ومعسكرات تدريب هذا لا يعني وجود إستراتيجية عمل وطني، ولا يندرج في إطار التعددية السياسية والحزبية التي تعرفها المجتمعات الديمقراطية، حال الأحزاب والحركات السياسية في فلسطين فئوية مدمرة للمشروع الوطني وكانت أهم أسباب فشله.

أما خلل (المشروع الوطني) الذي تقوده حركة فتح ومنظمة التحرير فيكمن، بالإضافة أنه لا يعبر عن توافق وطني حيث لا تقر به حركة حماس والجهاد الإسلامي وقوى أخرى، إنه مرتهن بالتسوية السياسية ولن تقوم له قائمة إلا في إطار تسوية سياسية تُقر بها إسرائيل، وذلك بسبب مرجعية هذا المشروع وهي الاتفاقات الموقعة التي تعتمدها المنظمة والسلطة لإنجاز هذا المشروع، وبسبب الجغرافيا السياسية حيث تفصل إسرائيل ما بين الضفة وغزة، ومن هنا تصبح إسرائيل وكأنها شريك في هذا المشروع الوطني.

إن كان هذا كان حال المشروع الوطني قبل الانقسام وفصل غزة عن الضفة وفي ظل وجود أفق للتسوية فكيف الحال الآن مع الانقسام ومع وصول مسار المفاوضات لطريق مسدود ووصول مشروع المقاومة عند فصائل غزة لطريق مسدود أيضا وانغلاق أفق المصالحة الوطنية؟

بغض النظر عن المرامي غير البريئة للبعض من القول بمأزق العمل الوطني الفلسطيني بكل أبعاده الوطنية واليسارية والإسلاموية، فإن واقع الحال يقول بأن النظام السياسي الفلسطيني بمؤسساته الرسمية وغير الرسمية وبنخبه الحاكمة وغير الحاكمة وما يرتبط به وبها ويدور حوله وحولها من إيديولوجيات وثقافات سياسية وتكوينات اجتماعية وبغض النظر عن الشعارات التي ترفعها :المقاومة والجهاد أو التسوية والمفاوضات، هذا النظام يعيش مأزقا وجوديا حقيقيا وخصوصا مع وصول حكومة اليمين الصهيوني مع نتنياهو للحكم في إسرائيل وانكشاف وهم المراهنة على الإدارة الأمريكية الجديدة بعد تراجعها عن مواقفها بشأن الاستيطان أيضا مع موجة التطبيع العربي الجديدة مع الكيان الصهيوني. أن يؤول واقع الحال بعد خمس وسبعين سنة من النكبة وبعد خمسين عاما تقريبا من تأسيس منظمة التحرير وثلاثين عاما من المفاوضات العبثية، و بعد انتفاضتين أزهقتا أرواح الآلاف من الشباب ودمار شامل في مؤسسات وبنية المجتمع، وبعد ستة عشر سنة من الحرب الأهلية وانقسام النظام السياسي...، أن يؤول الأمر بعد كل ذلك لهذا التيه السياسي وحالة التدمير الذاتي التي تمارسها القوى السياسية بحق بعضها البعض وبحق الوطن وهو الأخطر، فهذا يعني أن كل مكونات النظام السياسي تعاني خللا استراتيجيا بنيويا ووظيفيا.

لو كان الخلل ناتجا فقط عن اختلال موازين القوى مع العدو وتخلي من يُفترض أنهم أخوة وأصدقاء وشركاء لنا في المصير القومي والانتماء الإسلامي عن واجبهم، وهو أمر حاصل، ولو كانت صيرورة الحال لسوء الحال الذي نحن فيه يعود فقط للعدو وممارساته وتحالفاته وللمحيط الإقليمي لهان الأمر، بل وكان دافعا للشعب على مزيد من السير في نفس الطريق و لكان الشعب على استعداد لتقديم المزيد من التضحيات، فلا يمكن أن ننتظر من العدو إلا كل إرهاب وقمع، ولكن الواقع يقول بأن أخطاء داخلية لعبت دورا كبيرا في الخلل الحاصل وفي تمكين العدو من تحقيق أهدافه سواء على مستوى إفشال مشروع السلام الفلسطيني أو محاصرة خيار المقاومة أو إحداث الانقسام والفتنة الداخلية أو تكثيف الاستيطان واستكمال تهويد القدس.

لا تقتصر خطورة الأمر عند هذا الحد بل تتجاوزه لما هو اخطر، فبدلا من أن تعترف النخب الفلسطينية المأزومة بأخطائها وتفسح المجال لآخرين أو على الأقل تقوم بمراجعة نقدية شمولية تراجع فيها مسيرتها فتصحح ما أعوج من سلوك وتقَوِّمَ ما ثبت فشله من نهج وتحاسب حيث تجب المحاسبة، بدلا من ذلك، تمارس اليوم سياسة الهروب إلى الأمام بطرح خيارات لا واقعية أو بتحميل كل طرف الطرف الآخر مسؤولية ما يجري .

هذه النخب والأحزاب وبسياسة الهروب إلى الأمام التي تنتهجها تريد أن تبرئ نفسها وتهيئ الشعب ليقبل بتسيدها عليه مجددا في ظل الخراب القائم ولتسوقه نحو عبثية جديدة، عبثية قد تأخذ اسم (كل الخيارات مفتوحة)[1]من طرف نفس النخبة بل نفس الشخصيات التي قادت عملية المفاوضات تحت شعار (الحياة مفاوضات) بما مكن العدو من تكثيف مشروعه الاستيطاني والتغطية على جرائمه، أو عبثية التلويح بشعار المقاومة والانتفاضة ووحدة الساحات من خلال تطوير حماس للصواريخ وتلويحها بالاستعداد لتحقيق نصر جديد إن حاولت إسرائيل دخول قطاع غزة أو اعتدت على قادة المقاومة، وكأن حماس حققت بالفعل نصرا في كل نهجها المسلح السابق، وكأن غزة أكثر قدسية من القدس بحيث لا تجوز المقاومة ولا تُستعمل الصواريخ إلا دفاعا عن الإمارة الربانية في غزة.

2- ضرورة المراجعة الشمولية للمشروع والبرنامج الوطني

نتحدث عن مراجعة شمولية ليس بهدف التشهير بالقوى السياسية القائمة ولا تبشيرا بقوى ونخب جديدة قادمة قريبا، فلا يبدو في الأفق إمكانية ظهور قوى وطنية جديدة، ويبدو انه غير مسموح بظهور هذه القوى إلا إذا كانت بسقف سياسي أقل. مرد المطالبة بالمراجعة الشمولية والتي طالما طالبنا هو رد الاعتبار لمشروع وطني تحرري أطاحت به المفاوضات العبثية والمقاومة العبثية والصراعات الداخلية والمؤامرات الإقليمية بالإضافة للعدوان الصهيوني المستمر، مشروع لا يستمد مبررات ومشروعية وجوده من النخب السياسية لأنه ليس تجسيدا إرادويا لهذه النخب، ولا يستمد مشروعيته من محصلة موازين قوى إقليمية أو دولية، فهذه فاعلة ولا شك في التأثير على استراتيجياته وتحديد تخوم تحالفاته ولكنها لم تمنحه شرعية الوجود ولا تستطيع أن تلغي وجوده. إنه مشروع تحرر وطني يستمد مبررات وشرعية وجوده من عدالة القضية الوطنية الفلسطينية وهي عدالة مستمدة من التاريخ ومن اعتراف الشرعية الدولية بالقضية الفلسطينية كقضية تقرير مصير سياسي لشعب خاضع للاحتلال [2]، مشروع تحرر وطني يستمد مبررات وشرعية وجوده من واقع وجود شعب فلسطيني قوامه أكثر من أربعة عشر مليونا نسمة بما يميز هذا الشعب من ثقافة وهوية وانتماء للأرض لم تستطع كل سياسات العدو من تغييبها. هذا معناه أن المأزق والخلل هو مأزق نخبة وأحزاب وليس مأزق شعب عمره أكثر من أربع آلاف سنة لم تستطع كل جحافل الإمبراطوريات وتداول أشكال الهيمنة من شطب اسم فلسطين أو تذويبه، وهذا هو مصدر فخر الشعب الفلسطيني ومصدر قلق الكيان الصهيوني.

شعب بهذا العمق التاريخي، وقضية بهذه العدالة التي يتزايد اعتراف العالم بها يجب أن لا يُعلق مصيره ومصيرها بمصير أحزاب ونخب وبتعثراتها ومآزقها، وارتباطاتها الخارجية، القضية الوطنية والمشروع الوطني لا يستمدان شرعيتهم: وجودا وعدالة، من النخب والأحزاب، بل إن هذه الأخيرة هي التي تستمد شرعية وجودها ومبررات استمرارها من قدرتها على تحمل مسؤولية القضية الوطنية والسير بها نحو تحقيق الهدف وهو الحرية والاستقلال .الأحزاب والنخب مجرد أدوات أو تشكيلات مؤقتة، فيما القضية الوطنية كينونة وهوية تتسم بالاستمرارية والدوام. يجب أن تهجر القوى السياسية الأنوية الحزبية والإيديولوجية التي تجعلها تعتقد وتريد من الشعب أن يعتقد بأن التأييد الشعبي والرسمي الذي حظيت وتحظى به القضية الآن عالميا يعود الفضل فيه للأحزاب، هذه الأنوية مرفوضة أخلاقيا وواقعيا، العالم الخارجي لا يدعم القضية الفلسطينية بسبب تأييده لنهج وإيديولوجية الأحزاب لأن العالم يتعاطف مع قضيتنا لأنه يدرك بأنها قضية عادلة، يتعاطف مع الشعب الفلسطيني لأنه شعب ضعيف يتعرض لعدوان همجي بربري من دولة أكبر وأقوى منه عسكريا متحالفة مع دولة عظمى سيئة السمعة-الولايات المتحدة الأمريكية-، ما حرك الرأي العام العالمي ليخرج بمظاهرات ومسيرات ضد إسرائيل وحرك المنظمات الحقوقية والمنظمات الدولية لتطالب بتقديم قادة إسرائيل للمحاكم الدولية... ليست صواريخ حماس ولا مهارة المفاوض الفلسطيني، بل عدالة القضية ومعاناة الشعب.

بناء على ما سبق فلا الزعم بالشرعية التاريخية أو الشرعية الجهادية أو الشرعية الدينية للأحزاب والطبقة السياسية يمنحها الحق بمصادرة القضية الوطنية والاستحواذ عليها بعيدا عن ثوابت الأمة التي يتم صياغتها بالتوافق الوطني، والطامة الكبرى في هذا السياق عندما تدعي القوى السياسية، التي يفترض أنها حركات مقاومة، إنها تستمد شرعيتها من صناديق الانتخابات! طامة كبرى لأنه لم يحدث في التاريخ أن استمدت حركة تحرر وطني شرعية وجودها من انتخابات تجري في ظل الاحتلال، فالاحتلال بما هو نفي لحرية وسيادة الشعب يتناقض مع الانتخابات الديمقراطية بما هي تجسيد لإرادة الأمة، فأي سيادة وحرية تحوزها القوى التي تزعم بأنها تملك شرعية مستمدة من صناديق الانتخابات في ظل الاحتلال؟ أين الحرية والسيادة عند حركة حماس: تنظيما وحكومة في قطاع غزة؟ وأين الحرية والسيادة لحركة فتح والسلطة في الضفة الغربية.

حركات التحرر الوطني تستمد شرعيتها من الشعب الذي يلتف حولها لأنه يشعر بأنها تمثل أمانيه وأهدافه الوطنية وتقوده في معركة التحرر الوطني، تستمد شرعيتها من مقاومتها للاحتلال بكل أشكال المقاومة، الشعب الخاضع للاحتلال لا يضفي شرعية على حركة التحرر لأنها تمنحه راتبا وتسهل عليه متطلبات الحياة اليومية في ظل الاحتلال. تحويل وظيفة حركات التحرر من المقاومة الشعبية الواحدة والموحدة في ظل قيادة وحدة وطنية إلى سلطة وحكومة تؤَّمِن رواتب ووظائف لمنتسبيها يشكل حرفا لطبيعة مرحلة التحرر الوطني وأولوياتها بل خرقا للقانون الدولي الذي يحدد ويضبط مسؤولية دولة الاحتلال وحقوق الشعب الخاضع للاحتلال إن الوظيفة التي تقوم بها السلطتان والحكومتان في غزة والقطاع وظيفة (غير وطنية) لأنها تخفف عن دولة الاحتلال أعباء ومسؤوليات الاحتلال دون أن تمنح الشعب الحرية والاستقلال! وإن كان مقياس الحكم على شعبية وشرعية التنظيمات والهيئات القائمة في مجتمع خاضع للاحتلال هو قدرتها على تقديم خدمات للمواطنين، فإن أكبر حزب وأكثرها حضورا وتأثيرا هو (حزب وكالة الغوث) حيث تقدم وكالة الغوث خدمات وأجور لحوالي 72% من سكان غزة مثلا.

إن أرادت القوى والنخب السياسية المتواجدة في السلطة: سلطة غزة وسلطة الضفة، أن تُقيِّم نفسها كحركات تحرر وطني وتختبر شعبيتها ومدى تأييد الشعب لأيديولوجيتها ومبادئها وممارساتها، فلتوقِف الرواتب والامتيازات والرشاوى التي تقدمها، آنذاك ستكتشف أن نسبة المؤيدين الحقيقيين لها لن تزيد عن20%. لقد حولت الأحزاب والقوى والنخب المسيطرة في فلسطين المناضلين والمجاهدين إلى موظفين ومرتزقة وسلطت عليهم لعنة الراتب وبات الراتب بالنسبة لكثيرين منهم أهم من الوطن. الحالة الطبيعية أن المناضلين الحقيقيين والشعب بمجمله ينتزع من قوت غذاء أبنائه ليقدمه لحركات التحرر الحقيقية، الانتماء لحركات التحرر وللثورة يقوم على العطاء والبذل وليس الأخذ والاسترزاق. أن تقوم من يفترض أنها قوى تحرر وطني بتشكيل حكومات في ظل الاحتلال وتقدم رواتب وامتيازات للشعب من مصادر تمويل خارجية[3] لكل منها أجندة خاصة بها حتى وإن كانت متعارضة، فهذا يطرح سؤالا حول ماذا تعني الوطنية والمشروع الوطني واستقلالية القرار؟ وماذا تعني حركة التحرر الوطني؟ لقد وقعت كل الفصائل والحركات في مصيدة السلطة وأصابتها لعنة الراتب وهي لعنة ما كانت تصيبها لو لم تكن نخبها مستعدة لهذا الإغراء.

ومن المفارقات في المشهد السياسي الفلسطيني وخصوصا الحزبي، أن نشاهد أحزابا تتحدث عن انتصارات وتحتفل بانتصارات فيما المشروع الوطني والقضية الوطنية برمتها في حالة تراجع! كيف يمكن أن ينتصر حزب وينهزم وطن؟ أضف إلى ذلك ما نلاحظه من تضخم تعرفه أحزاب سياسية: تضخم مالي وتضخم في الشعارات والإعلام في ظل الانقسام والخراب المعمم للوطن، فهل وجدت الأحزاب والنخب لمصلحة القضية الوطنية أم بالعكس؟ يبدو أن بعض الأحزاب والقوى توظف القضية الوطنية ومعاناة الشعب لتعلي من شأن برنامجها وأيديولوجيتها، المهم بالنسبة لها هو الحزب والحركة نفسها أما الوطن والشعب فلهما رب يحميهما أو يُترك مصيرهما للأجيال القادمة، وبالتالي يصبح هدف بعض نخب الأحزاب والحركات السياسية يقتصر على كيفية توظيف معاناة الشعب لتغتني وتُسمن وتضمن حياة كريمة لأبنائهم وذويهم.

المحور الثالث: استقراء أسباب مأزق المشروع الوطني كمدخل لإستراتيجية جديدة

عود على بدء نقول، إن كانت أزمة المشروع الوطني وصلت اليوم لدرجة الاعتراف الصريح من القادة بالأزمة وبالطريق المسدود، إلا أن مأزق المشروع الوطني كان حاضرا وملموسا قبل ذلك بكثير وله محطات كثيرة كانت تستوجب التوقف عندها وعمل مراجعة إستراتيجية، بل يمكن القول إن المشروع الوطني ولد مأزوما، إلا أن المعاندة والمكابرة كانا سيد الموقف، مما فاقم من الأزمة وأوصلها إلى ما هي عليه اليوم.

كان من المفروض أن تكون وقفة المراجعة منتصف مايو 1999 عندما انتهت المرحلة الانتقالية للحكم الذاتي دون دفع إسرائيل ما عليها من استحقاقات بموجب اتفاقية أوسلو التي تقول بأن مدة سلطة الحكم الذاتي خمس سنوات بعدها تبدأ مفاوضات الوضع النهائي التي ستؤدي لإنهاء الاحتلال، آنذاك كان من المفروض أن يتم الإعلان عن تجسيد قيام الدولة، ولكن التحذيرات بل والتهديدات التي انهالت على الرئيس أبو عمار دفعته للتراجع عن قرار كان سيتخذه بهذا الشأن، وللأسف فإن التحذيرات والضغوطات جاءت من دول عربية كبيرة وخصوصا مصر وليس فقط من إسرائيل وواشنطن.

وكان يُفترض أن تحدث المراجعة الإستراتيجية بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد الثانية عندما تم تهديد الرئيس أبو عمار إن لم يوقع على ما عرضه عليه الأمريكيون والإسرائيليون ولكن أبو عمار لجأ لمراجعة بطريقته الخاصة وبغياب إستراتيجية وطنية ونقصد بذلك انتفاضة الأقصى التي كان من الممكن أن تدشن لمرحلة جديدة لولا الصراعات الداخلية وتوظيفها لأغراض حزبية، فبدلا من أن تشكل انتفاضة الأقصى منطلقا لمراجعة تؤسس لحالة نضالية جديدة فاقمت من أزمة النظام السياسي عندما تحولت لحالة من الفوضى والفلتان الأمني وانتهت الانتفاضة بالانقسام، لقد جرى مع انتفاضة الأقصى ما جرى مع انتفاضة 1987 التي انتهت بتوقيع اتفاقات أوسلو أو كانت نتيجتها تسوية أوسلو![4].

وكانت المراجعة واجبة عندما اقتحم الجيش الإسرائيلي الضفة الغربية في أوج انتفاضة الأقصى في مارس 2002 ومحاصرة الرئيس بالمقاطعة وهي محاصرة شاركت فيها الأنظمة العربية عندما حالت بينه وبين مخاطبة شعبه والعرب والعالم عبر الهاتف أثناء القمة العربية في بيروت، بل وحوصر الرئيس ونهجه من أطراف فلسطينية أيضا.

وكانت المراجعة واجبة عندما قامت إسرائيل باغتيال الرئيس أبو عمار بالسم في نوفمبر 2004 وممن شاركوا في اغتياله كانوا على رأس مشيعيه، وبعضهم كان في مواقع متقدمة في قيادة المشروع الوطني والسلطة بعد غيابه.

كما كانت المراجعة الإستراتيجية واجبة عندما عم الانفلات الأمني مناطق السلطة خلال عامي 2005 و2006 ثم حدث الانقسام والحرب الأهلية.

وكانت المراجعة واجبة عندما قامت إسرائيل بأكبر عمليات استيطان في الضفة وتهويد القدس وعندما أعلنت عدم اعترافها بالاتفاقات الموقعة ثم شكل نتنياهو حكومة يمينية عنصرية متطرفة يقول بعض أعضائها أنه لا يوجد شعب فلسطيني وتقوم باقتحامات يومية للمسجد الأقصى، وعندما قام المستوطنون بمسيرة الإعلام في مايو 2023.

لو كانت تجري مراجعات دورية ولو جرت مراجعة إستراتيجية بعد أية من المحطات المشار إليها وخصوصا في المراحل الأولى لكان من الممكن تدارك الوضع وما كان وصل الحال لهذا المأزق المعمم.

لا غرو أن موجبات القيام بمراجعة شمولية كثيرة وعلى رأسها وصول المشروع الوطني ومجمل الحالة السياسية إلى طريق مسدود، وقبل محاولة استشفاف ممكنات الخروج من المأزق لا بأس من تلمس أهم أسباب عدم إجراء مراجعات إستراتيجية، وهي كما نرى:

أولا: غياب فضيلة وثقافة النقد الذاتي

المراجعة والمحاسبة جزء من ثقافة النقد الذاتي وهذه ثقافة وفضيلة لا تتوفر إلا عند النخب المنتمية لثقافة الديمقراطية أو التي نذرت نفسها لخدمة الوطن، هذه الثقافة غائبة عن النخب السياسية الفلسطينية كما هي غائبة عند كل النخب السياسية العربية التي تمارس المراجعة والمحاسبة بطريقتها الخاصة من خلال الانقلابات والمؤامرات أو ينوب عنها الخارج في إحداث وتوجيه المراجعة. غياب هذه الفضيلة عند النخب الفلسطينية يعود لغياب الديمقراطية داخل الأحزاب وبسبب مركبات نفسية عند قيادات ونخب العمل الوطني والإسلامي بكل أيديولوجياتها.

ثانيا: ضعف إن لم يكن غياب مؤسسة القيادة الجامعة.

تاريخيا هناك أزمة قيادة لدى الفلسطينيين، سواء بسبب عدم تعود الفلسطينيين على حكم أنفسهم بأنفسهم بسبب الاحتلال، وبالتالي عدم مراكمة تراث سياسي ومؤسساتي حول القيادة، أو بسبب الشتات وبالتالي صعوبة وجود مؤسسة قيادة كلية وشمولية عابرة للحدود. وتاريخيا اشتكى الفلسطينيون من ضعف وطنية قياداتهم التقليدية التي تدافع عن مصالحها أكثر من دفاعها عن الوطن، وما أشبه اليوم بالبارحة، حيث استمرأت قيادات سياسية التفرد بالزعامة والقيادة وتم اختزال الوطن بالحزب أو الحركة ثم اختزال هذه الأخيرة بالمكتب السياسي أو اللجنة المركزية وانتهى الأمر أخيرا بتمركز كل السلطات والصلاحيات بيد القائد الأوحد وثلة المستشارين المحيطين به[5].

سيطرة قيادات كارزماتية أو دكتاتورية: ثورية أو دينية على مركز القرار السياسي والمالي، دكتاتوريات تَزعُم امتلاكها الحقيقة المطلقة، يجعل من المراجعة والمحاسبة إهانة لها وتشكيك بقدراتها القيادية، وما يطيل من العمر السياسي للزعامات والأبوات هو عدم تعود الناس على التعامل مع مؤسسات وقوانين، حيث استمرئوا أن يكونوا رعايا يقودهم راع.

المؤشر الأهم على أزمة القيادة يتجاوز الشخصيات وقدراتها ليمس صفتها التمثيلية، فضعف القيادات جزء من المشكلة، والأخطر هو ضيق نطاق الصفة التمثيلية للقادة حتى وإن عملوا في إطار مؤسسة. غياب قيادة وحدة وطنية ثم الانقسام، أدى لضعف مؤسسة القيادة، فلا توجد اليوم مؤسسة قيادة تمثل كل الشعب ويخضع لها كل الشعب وجود قيادات بعدد الأحزاب والحركات السياسية لا يعني وجود مؤسسة قيادة، مؤسسة القيادة لا تكون إلا إن أخذت طابعا وطنيا كليا شرعيا.

ثالثا: غياب حالة شعبية ضاغطة على القيادات السياسية.

الثقافة السائدة تقلل من شأن المواطن لصالح الحاكم، غالبية الناس تعتقد أن الزعماء السياسيين قدر لا فكاك منه أو أنهم ربانيون (فلو لم يشأ الله أن يكونوا قادة لما كانوا) أو يعتقدون بأن لا حيلة لتغييرهم لأنهم مدعومون ومسنودون من قوى كبرى أو من دول إقليمية. أيضا المواطن لا يفكر بمحاسبة الحاكمين أو مطالبتهم بمراجعة سياساتهم ما دام هو نفسه لا يؤمن بمبدأ المراجعة والمحاسبة داخل بيته أو عمله. ثقافة الخضوع وبرادغم الطاعة هو ما يحكم علاقة المواطن بالقائد وخصوصا إن كان القائد يتصرف تحت غطاء الثورية والجهادية والدين. يضاف إلى ذلك إن شتات الشعب الفلسطيني ووقوع غالبية التجمعات الفلسطينية تحت سيطرة سلطات غير فلسطينية يُضعف من قوة تأثير الجمهور الفلسطيني في الضغط على قيادته. وقد حاول الشباب في مارس 2011 الخروج إلى الشارع مطالبين بإنهاء الانقسام متأثرين بالربيع العربي إلا أن محاولتهم فشلت بسبب قمع السلطتين وتخلي الأحزاب عليهم.

رابعا: انسلاخ الأحزاب عن منظومة حركات التحرر الوطني

حيث أصبحت القيادات التاريخية والمؤسِّسَة محاطة بنخب انتهازية ومصلحية راكمت الثروات وأقامت شبكة مصالح من الصعب التخلي عنها، وبالتالي تشعر أن كل مراجعة ومحاسبة قد تطيح بها ومن هنا تعمل على إفشال أي توجه في هذا السياق، وأسوأ مَن في هذه النخب هم أبناء وأقارب القادة، فتصبح النخبة الفاسدة مستقوية بأبناء وأخوة وأقارب الزعيم والقائد، والمؤسف أن غالبية أبناء قادة العمل الوطني والإسلامي لم يسيروا على نهج آبائهم بل درسوا في أرقى الجامعات الأوروبية والأمريكية وأصبحوا من أصحاب الملايين و الشركات الضخمة في داخل الوطن وخارجه وأسسوا شراكة مصالح حتى مع إسرائيليين وبعض أبناء القادة أصبحوا لصوصا وفاسدين ومتعاونين مع الاحتلال، وهكذا أصبحت هناك حالة انفصام شخصية وخطاب عند النخب السياسية، فهي تتكلم كحركة تحرر وتمارس كسلطة، وبالرغم من أن الشعب كما العالم الخارجي ينظر لهم ويعاملهم كفاشلين كحركة تحرر وفاشلين كسلطة سياسية، إلا أنهم مستمرون في غيهم .

خامسا: فساد السلطة/ السلطتين وتواطؤ النخب ومؤسسات المجتمع المدني.

الأزمات والمآزق التي مر بها الشعب والنظام السياسي كانت تُنتج نخب وطبقات مستفيدة في كافة الفصائل وسواء كانت في السلطة أو في المعارضة. فهناك أغنياء الانتفاضة وأغنياء المقاومة والجهاد وأغنياء السلطة وأغنياء بناء الجدار العنصري وأغنياء الحصار وأغنياء الأنفاق ....هذه النخب المستفيدة أصبحت نافذة في مراكز صنع القرار في غزة والضفة، وتشكلت معادلة ضمنية بأن يبرر كل طرف عدم القيام بمراجعة ومحاسبة داخلية بأخطاء وتجاوزات وتهديدات الطرف الثاني، بمعنى أن كل نخبة سياسية لكل حزب وفصيل وتحت شعار وجود تهديد العدو الصهيوني والمنافس الوطني تروج مقولة إن الظروف لا تسمح بالمحاسبة والمراجعة الآن، وأن يتحدث الطرفان عن الأخطاء السياسية لكل منهما بل وصل الأمر لدرجة الاتهام بالخيانة أو التكفير دون أن يثير أي منهما وبتعمق في ملفات الفساد المالي لدى الطرف الثاني هذا معناه التواطؤ على الفساد، وقد بان أن فساد سلطة وحكومة حماس لا يقل عن فساد السلطة الوطنية إذا أخذنا بعين الاعتبار الفترة الزمنية لكل منهما والإنجازات التي حققها كل منهما !. أضف إلى ذلك أن هذا الفساد للنخب والذي تغذية أطراف خارجية متعددة أرتبط به جزء كبير من الشعب الذي أصبح بدوره مستفيدا من الواقع[6]فمؤسسات المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية ليست بعيدة عن حالة الفساد والتواطؤ. ولكن أسوء ما نخشاه في هذا السياق، أن هذا التواطؤ للنخب سيتمظهر قريبا في توافق ضمني بين النخبتين المأزومتين، في الضفة وغزة أو في فتح وحماس، على تحويل التقسيم إلى تقاسم غير وطني، ما نخشاه أنه وبالرغم من عدائهما المعلن إلا أنهما سيواجهان معا أية قوة ثورية ونضالية جديدة وصادقة في مسعاها أو أية قوة متمردة تنبثق عن أي منهما وستواجهان معا أي أصوات مستقلة تتحدث عن فسادهما.

سادسا: الجهل السياسي.

كثير من قيادات العمل الوطني ونخبها تعتقد أن ما تقوم به هو الصحيح ويمثل المصلحة الوطنية، فثقافتها وخلفيتها الفكرية والعسكرية تجعلها تعتقد أنها حامية المشروع الوطني وحامية حمى الوطن وأن العثرات التي تواجه مشروعها السياسي تعود للتآمر الخارجي وليس لها ولنهجها. لقد لمسنا عمق الجهل السياسي لدى المفاوضين منذ مؤتمر مدريد حتى اليوم وذلك من خلال الاتفاقات الموقعة السياسية والاقتصادية ونصوصها الملتبسة والتي كانت تفسر دائما لمصلحة إسرائيل، ولا أدل من ذلك أن نكتشف وكما قال الرئيس أبو مازن إن المفاوضات كانت تسير بدون مرجعية ![7]ولاحظنا الجهل السياسي في التعامل مع الشرعية الدولية حيث تعاملت القيادة مع الشرعية الدولية تارة بالرفض المطلق لها وتارة بالارتماء بأحضانها، وحتى عندما أقرت القيادات بأهمية الشرعية الدولية تعاملت معها وكأنها دار ندوتنا أو احد دواويننا دون فهم وإدراك للآليات التي تحكم التعامل الدولي. وكان الجهل السياسي أكثر وضوحا وخطورة عند ممارسي الكفاح المسلح والجهاد، الذين اعتقدوا أن الكفاح المسلحة والجهاد مجرد حمل السلاح والاشتباك مع العدو جاهلين قواعد وقوانين الحرب وحرب العصابات، و جاهلين تَعقُد وتشابك الشأن العسكري مع السياسي مع الاقتصادي الداخل مع الخارج الخ, ولذا كانت النتيجة آلاف الشهداء وتدمير البنية التحتية دون أي إنجاز سياسي حقيقي .لا يمكن إجراء مراجعات دون الاعتراف بالخطأ ونخبنا السياسية تعتقد أنها منزهة عن الخطأ!. هذا لا يعني أن كل ما جرى من خراب للمشروع الوطني يعود للجهل بل للفساد دورا فيما جرى كما بينا، والخطورة عندما يجتمع الجهل السياسي مع الفساد السياسي عند نفس النخبة.

سابعا: غياب استقلالية القرار والارتهان لأجندة خارجية.

باتت كل مكونات النظام السياسي فاقدة لاستقلالية القرار بغض النظر عن الجهة التي يُصادَر القرار لصالحها، هذا الأمر يجعل القيادات تشعر بالعجز وألا جدوى أية مراجعة أو تصحيح للمسار ما دامت تؤمن بأن التغيير سيكون خارجيا ومهما فعل الفلسطينيون فلن يغيروا من الواقع، ومن هنا تصبح قوة الدفع تجاه الارتباط بالخارج أقوى من قوة الدفع نحو المراجعات الداخلية وبالتالي المصالحة في إطار سياسة الالتقاء وسط الطريق. كما أن الارتهان بالخارج يعيق المراجعات الداخلية لأن الحكم على صحة نهج أي تنظيم أو سلطة فلسطينية لم يعد يقاس اعتمادا على توافقها مع المصلحة الوطنية بل بمدى تجاوبها مع اشتراطات الخارج، وحيث أن الخارج مستفيد من الواقع الفلسطيني بل ويغديه فلن يسمح بأي مراجعات فلسطينية داخلية.

هذه الحالة موجودة منذ تأسيس منظمة التحرير التي تشكلت بقرار قمة عربية واستمرت الوصاية عليها لحين من الزمن، و حتى بعد ظهور نسبي لاستقلالية القرار الفلسطيني بقيت التدخلات العربية المباشرة أو من خلال التنظيمات التابعة للأنظمة تعيق أية مراجعات جذرية للعمل السياسي، كانت سياسة إرضاء كل الأنظمة العربية وحتى غير العربية أهم عوائق المراجعة والمحاسبة، وعندما حاولت حركة فتح عمل بعض المراجعات والمحاسبة تعرض بعض قادتها للاغتيال على يد محسوبين على الأنظمة، واليوم تزايد حجم وتأثير التدخلات الخارجية بالشأن الفلسطيني، فهي عربية وإقليمية إسلامية ودولية، وما نلاحظه من تهديدات إسرائيلية علنية وأمريكية مبطنة للرئيس أبو مازن إن هو أنجز المصالحة مع حركة حماس مؤشرا على هذه الضغوط.

ثامنا: المراهنة على الانتخابات ثم التهرب منها

لا شك أن الانتخابات في الدول الديمقراطية أهم آلية للمراجعة والمحاسبة حيث تتكفل صناديق الانتخابات بعملية الفرز، فمن خلال الانتخابات يعاقب الشعب المخطئين وغير الأكفاء ويوصل لمركز القرار من يعتقد انه الأكثر حرصا على مصالح الوطن، ولكن الانتخابات وحتى تقوم بهذه الوظيفة تحتاج لمؤسسات وثقافة ديمقراطية و فوق ذلك تحتاج لحرية المواطن في الاختيار والتعبير الحر عن رأيه، وهذا أمر غير متوفر في الحالة الفلسطينية حيث الاحتلال هو السيد. ومع ذلك فقد راهن الشعب والنخب السياسية على إمكانية إصلاح السلطة والنظام السياسي من خلال العملية الانتخابية المفروضة بمقتضى الاتفاقات الموقعة، هذه المراهنة أضعفت وغيبت، وخصوصا في الفترة الأخيرة، أي جهد للإصلاح والمحاسبة خارج العملية الانتخابية، وللأسف فإن الانتخابات الفلسطينية بدلا من أن تساعد على إصلاح النظام السياسي زادت من تأزمه وأصبحت الانتخابات بحد ذاتها إشكالا وقضية خلافية. ومع تجدد الحديث عن المصالحة وتوقيع الورقة المصرية للمصالحة تجدد الحديث عن الانتخابات كمخرج لأزمة النظام، ولا نعتقد أن الانتخابات ستُخرِج النظام السياسي من أزمته إن لم تكن مسبوقة بتوافق على أسس البرنامج الوطني.

تاسعا: ضعف دور الانتلجنسيا

دون الخوض بجدل أبستمولوجي حول وجود أو عدم وجود انتلجنسيا فلسطينية وعربية بشكل عام فواقع الحال وما أُصطلح عليه كمكون من مكونات المجتمع، وجود طبقة أو فئة المثقفين والمفكرين الذين يتميزون عن غيرهم بحرفة الكتابة والتنظير والتعبير عن كل ألوان الثقافة الوطنية، إنها الطبقة أو الفئة التي تعبر عن الثوابت والقيم الوطنية المتحررة –أو هكذا يجب أن تكون- من الحسابات الحزبية الضيقة.

تاريخيا كان يقال إن الشعب الفلسطيني يتميز بالثقافة وبمثقفيه الذين تركوا بصماتهم عبر العالم، ولكن الملاحظ أن دور هؤلاء في الوقت الراهن ضئيل وليسوا في مستوى الدور المُنتَظَر منهم، وهذا يعود إما لواقع الشتات وما يفرضه من قيود على حرية المثقف الفلسطيني في التعبير عن هويته الوطنية وممارسة دوره الوطني، أو لان المثقف لا يشعر أن السلطة والأحزاب القائمة تعبر عن تطلعاته الوطنية أو تجسد المشروع الوطني كما يرتئيه، أو لأن السلطة استقطبت كثيرا من هؤلاء المثقفين الذين تحولوا لأبواق تُجمل صورة السلطة ونهجها وبالتالي خانوا الأمانة وتخلوا عن دورهم الطليعي، كما أن عديدا من المثقفين فضلوا الانكفاء على أنفسهم والابتعاد عن الحياة العامة معتبرين أن المرحلة مرحة فتنة والأفضل تجنبها.

عندما يصبح الشعب المُحبَط منشغلا بضمان استمرار تأمين قوت يومه وخائفا على مستقبله، وعندما تصبح النخب السياسية منشغلة بالصراع على السلطة ومراكمة الثروة، فمن يدق الجرس ويدعو لكسر جدران السجن؟ إنهم المثقفون وأصحاب الرأي، وعندما يغيب هؤلاء يضعف الأمل بالتغيير أو تتقدم قوى جديدة تحت عنوان ثقافي أو أيديولوجي لتملأ الفراغ وتدق الجرس وهذه القوى اليوم هم المفتون والوعاظ ورجال الدين، فتملأ الثقافة الدينية المشوهة الفراغ الذي تركه المثقفون الوطنيون، ويحل رجل الدين محل المثقف وبالتالي يمارس رجال الدين عملية المراجعة والمحاسبة حسب رؤيتهم ومنطقهم ويؤسسون لبديل أيضا حسب رؤيتهم ومنطقهم وهو بديل كما بانت ملامحه لن يؤدي إلا لمزيد من التيه والضياع.

عاشرا: السلطة الفلسطينية

كان من المفترض أن تحل سلطة وطنية فلسطينية محل سلطة الاحتلال، ولكن الذي جرى انه أضيفت سلطة إلى جانب سلطة الاحتلال. حتى القوى التي كانت تنتقد السلطة تعيش اليوم على فتاتها أو تسعى لتصبح سلطة. ولأن غالبية الشعب والقوى السياسية أصبحت مستفيدة من السلطة، ولأن التفكير بالمراجعة يعني التفكير بحل السلطة، فقد باتت المراجعة والبحث عن بدائل للوضع السياسي الراهن يثير القلق عند شرائح اجتماعية وقوى سياسية متعددة.

لقد وقعت كل القوى السياسية تقريبا بإشكالية التوفيق بين السلطة السياسية المؤسساتية والعلنية والتي تعمل داخل الأراضي المحتلة وتعيش بمداخيل الدول المانحة التي تربط ما بين التمويل والالتزام بالأجندة السياسية الخاصة بهذه الدول من جانب، و زعمها بأنها حركة تحرر وطني مهمتها مقاومة الاحتلال من جانب آخر. الثورة وحركة التحرر لها فقهها واستحقاقاتها والسلطة الدولانية لها فقهها. واليوم باتت السلطتان والحكومتان عبئا على المشروع الوطني كمشروع حركة تحرر، مما يتطلب إعادة النظر بوظيفة السلطتين.

المحور الرابع: نحو إستراتيجية وطنية جديدة.

اليوم، لم تعد المراجعة التي تؤسِس لمشروع وبرنامج وطني جديد خيارا من عدة خيارات بل ضرورة وطنية. إن لم تأخذ قوى من داخل النظام السياسي الفلسطيني أو من داخل الحالة السياسية الفلسطينية بشكل عام المبادرة فهناك قوى وأطراف خارجية ستأخذها. منطقة الشرق الأوسط، والقضية الفلسطينية خصوصا، لا تسمح بوجود فراغ سياسي. تاريخيا كانت أطراف عربية وإقليمية تملأ فراغ غياب الفاعل الفلسطيني، ومنظمة التحرير في بداية ظهورها مثال على ذلك، هذا ناهيك أن مشاريع التوطين والوصاية والتدويل تخيم على أجواء الحالة الفلسطينية المأزومة اليوم. سياسة الترقيع والتلفيق والهروب إلى الأمام والتخفي وراء الأيديولوجيات والشعارات الكبيرة الفارغة لم تعد تجدي اليوم، الحقوق الوطنية المسلوبة لن تعيدها واشنطن ولا الرباعية ولا جيوش المسلمين والعرب ولا محور المقامة. نعم الشرعية الدولية ضرورية والتضامن العالمي مهم والأيديولوجيات مفيدة كأدوات للتعبئة والتحريض، إلا أن كل هذه الأمور لا تنوب عن فعل الشعب صاحب القضية.

المراجعة الشمولية المؤسِسة لمشروع وطني جديد أو المصحِحة لمسار المشروع الوطني كفكرة حاضرة ومبهمة عند الجمهور، يجب أن تتجاوز إفرازات المشكلة وتتعامل مع أصولها ومسبباتها الحقيقية.

المطلوب مشروع وطني جديد، ليس مشروع سلطة وحكومة بل مشروع حركة تحرر وطني يجمع ما بين مشروع سلام فلسطيني من جانب والحق بالمقاومة من جانب آخر.

1- مرتكزات المشروع الوطني المنشود:

المشروع الوطني التحرري الفلسطيني ليس شعارا أو صياغة لغوية جميلة ومتناسقة وليس محاصصة وتقاسم مغانم السلطة بين القوى السياسية، بل برنامج عمل وأسلوب حياة وإستراتيجية كفاحية للفلسطينيين كشعب ما زال خاضعا للاحتلال، كما أن الهدف من تأسيس أو إعادة بناء المشروع الوطني المنشود ليس فقط إيجاد مخارج للأزمات الراهنة كالانقسام ووجود سلطتين وحكومتين وأزمة انتخابات وأزمة مفاوضات الخ، بل هو بمثابة خطة طريق تسير عليها الأجيال الراهنة والأجيال القادمة إلى حين تحقيق الاستقلال الوطني.

المشروع الوطني أكبر وأشمل من السلطة والانتخابات والأحزاب، فهذه إن كانت تخدم هذا المشروع وتعززه كان بها وإن لم يكن فلا يمكن التخلي عن المشروع الوطني من اجلها. أيضا المشروع الوطني لا ينفصل عن الثقافة والهوية الوطنية ولا عن الثقافة الديمقراطية كثقافة تعددية، ففي ثقافتنا الوطنية متسع للجميع، ومن لا يؤمن بثقافتنا وهويتنا الوطنية وتنوعها وامتدادها لأكثر من أربعة آلاف سنة لا يمكنه أن يكون جزءا من المشروع الوطني فبالأحرى قيادته.

ثوابت الأمة وحقوقها الوطنية ليست حقل تجارب للإيديولوجيات عابرة الوطنيات، ولا تخضع لموازين القوى الإقليمية والدولية، عندما لا يعرف الشعب ثوابته ومرجعياته ولا تتوافق قواه السياسية على تعريف لها، فهذا يشكك في عدالة قضيته الوطنية. ما كان لأصحاب الإيديولوجيات القومية والإسلامية أن يتراموا على قضيتنا وينصِّبوا أنفسهم أوصياء لولا ضعف الحالة الوطنية وتفشي الخلافات الداخلية[8].التدخلات سواء باسم العروبة أو باسم الإسلام امتهان لكرامتنا الوطنية وتشكيك بحقنا بدولة، فلماذا يجوز للمصريين والسوريين والإيرانيين أن يكون لهم دول وطنية خاصة بهم فيما يُحرَم علينا إقامة دولة فلسطينية خاصة بنا؟ الدولة الوطنية الفلسطينية لا تعني القطع مع الأبعاد القومية أو الإسلامية للقضية.

عندما يكون للعرب والفكر القومي وللمسلمين والحركة الإسلامية عنوان واحد متفق عليه، فسنكون أول من يسير من ورائه ونسلمه مقاليد أمورنا، ولكن لن نتخلى عن هويتنا وثقافتنا الوطنية ولا عن حلمنا بدولة وكيان وطني يحفظ لنا كرامتنا وإنسانيتنا لصالح الآخرين، وطن يعيش فيه أبناؤنا مرفوعين الرأس بلا احتلال صهيوني ولا وصاية عربية، ولن نستمر معلقين بحبال وهم مدعو القومية والإسلاموية ليوظفونا كما يوظفوا شعارات القومية والإسلام لخدمة مشاريعهم الوطنية أو الإقليمية أو الحزبية إن لم يكن الشخصية.

هذا الكيان الوطني الفلسطيني ضرورة لأي مشروع قومي وحدوي عربي صادق أو مشروع وحدوي إسلامي صادق، مشروعنا الوطني رأس حربة لوقف توسع الكيان الإسرائيلي ببعديه الصهيوني واليهودي، فمن لا يقف إلى جانب المشروع الوطني التحرري الفلسطيني لا يمكنه أن يكون قوميا عربيا وحدويا ولا إسلاميا حقيقيا، كما أن المشروع الوطني الفلسطيني لن يكتب له النجاح بدون بعديه :العربي والإسلامي .هذا الهدف/المشروع الوطني يتطلب إخضاع كل الأيديولوجيات له بحيث تصبح إحدى مكوناته لا أن يُلحق المشروع الوطني بمشاريع قومية وإسلاموية مأزومة.

هذا الهدف الوطني يجب أن يكون محل توافق وطني ويتجنب التصادم مع الشرعية الدولية التي تعترف للشعب الفلسطيني بالحق في تقرير المصير السياسي على أرضه وبحقه في دولة خاصة به. الدولة هدف مشروع ولكنها ليست المشروع الوطني، فهذا سابق في وجوده على هدف الدولة وهو سيستمر ما استمر الاحتلال ويجب ألا يخضع للتجاذبات والمناورات حول مفهوم حل الدولتين. ولكن وحيث أنه يوجد توجه دولي لحسم الصراع في المنطقة على أساس حل الدولتين، فيجب أن نتوحد على مفهوم الدولة التي نريد، سواء كانت حسب قرار التقسيم أو دولة في الضفة وغزة، حتى إن كانت دولة على كامل فلسطين التاريخية فالمهم هو توافق وطني على هدف يناضل كل الفلسطينيين من اجله تحت قيادة وحدة وطنية، آخذين بعين الاعتبار عدم جدية إسرائيل في التعامل مع حل الدولتين وعدم قدرة المنتظم الدولي الآن على إجبار إسرائيل على الانسحاب من كل الأراضي المحتلة عام 1967 بما فيها القدس وعودة اللاجئين الفلسطينيين. هذا يعني أن الدولة هي إحدى المعارك التي على المشروع الوطني التحرري خوضها، وقد يضطر أيضا لخوض معارك ضد التوطين والتدويل والوصاية.

إعادة بناء وتأسيس المشروع الوطني كمشروع حركة تحرر وطني يعني التعامل مع شعب قوامه أكثر من 14 مليون فلسطيني في الداخل وفي الشتات، يتطلب تفعيل دور نصف الشعب الفلسطيني الذي رُكن على الرف منذ توقيع اتفاقات أوسلو دون تجاهل الأوضاع في غزة والضفة، الأمر الذي يتطلب أن يضع هذا المشروع على سلم اهتماماته رفع الحصار عن قطاع غزة ومواجهة الاستيطان والتهويد في الضفة والقدس.

مدخل هذا المشروع ليس بالضرورة الانتخابات التشريعية والرئاسية وليس التوافق على حكومة وحدة وطنية، بل إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية لتستوعب الكل الفلسطيني، لو تمكنا من بناء منظمة التحرير على أسس جديدة وبقيادة جديدة فسيكون حل بقية القضايا أيسر كثيرا، لن تنجح أية مصالحة أو شراكة سياسية أو مشروع وطني إن بقي أي فصيل فلسطيني خارج إطار منظمة التحرير الفلسطينية، لأن منظمة التحرير ليست حزبا أو فصيلا بل الكيانية السياسية التي يعترف بها العالم اجمع [9]. هذا المشروع الوطني الجديد يجب أن يُعيد الاعتبار للأبعاد القومية والإسلامية والدولية للقضية الفلسطينية على أسس جديدة لا تجعل المشروع الوطني ومجمل القضية ملحقة بهذا البعد أو ذلك.

من حيث المبدأ فالمشروع الوطني التحرري محل النقاش يجب أن يحسم من خلال التوافق في الأمور الخمسة التالية التي تشكل مرتكزات أي مشروع وطني وهي ما يجب أن تشتغل عليها أية مصالحة وطنية حقيقية:

أ‌) – الهدف:

نحن هنا نتحدث عن أهداف شعب خاضع للاحتلال وهي أهداف إستراتيجية متعالية مؤقتا عن المشاكل الفرعية الناتجة عن الصراعات الداخلية وتعقيدات الحياة اليومية والمناكفات السياسية الناتجة عن الانقسام. بعد صياغة والاتفاق على المشروع الوطني وتشكيل قيادة وحدة وطنية سيكون لهذه المشاكل الأولوية في التعامل وكثير منها سينتهي تلقائيا في حالة التوافق على المشروع الوطني. عندما نتحدث عن أهداف لمشروع وطني فإننا نتحدث عن بدائل لحالة التيه القائمة وللمشاريع غير الوطنية التي يتم العمل عليها علنا أو بطريقة خفية.

وعليه، فالهدف الاستراتيجي هو الإجابة عن: ماذا يريد الفلسطينيون؟ أو كيف يرون حقوقهم المشروعة؟ أو ما هو الحق الذي يناضلون من اجله؟ هل يريدون تحرير كل فلسطين من البحر إلى النهر؟ أم دولة في غزة والضفة بما فيها القدس؟ أم دولة ثنائية القومية على كامل فلسطين الانتدابية؟ أم دولة غزة؟ أم دولة غزة الموسعة لتشمل أجزاء من سيناء مقابل التخلي عن الضفة والقدس؟ أم دولة مؤقتة على جزء من الضفة وقطاع غزة؟ أم تقاسم وظيفي ما بين أجزاء من الضفة والأردن وإسرائيل؟ أم اتحاد كونفدرالي ما بين غزة وأجزاء من الضفة وربما الأردن أيضا؟ أم الأردن وطن للفلسطينيين؟ هل يقبل الفلسطينيون مبدأ تبادل الأراضي؟ هل يريد الفلسطينيون القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية المستقلة؟ أم يريدونها عاصمة لدولتين؟ هل يريد الفلسطينيون عودة كل اللاجئين إلى قراهم ومدنهم الأصلية؟ أم عودتهم لمناطق السلطة؟ أم حل مشكلة اللاجئين حسب قراري الأمم المتحدة 242 و 338؟

هل الفلسطينيون مستعدون لحسم الأمر بهذه الأمور بدلا من البقاء في حالة تردد وتوظيف خطاب سياسي علني شعاراتي وعاطفي وانفعالي وساذج ومستفز حول القبول بهدف مرحلي دون التخلي عن الهدف الاستراتيجي كالقول بقبول دولة في الضفة وغزة مع عدم التخلي عن الهدف الاستراتيجي وهو تدمير إسرائيل وتحرير كامل التراب الفلسطيني؟ وقبول حماس بسلطة محاصرة تحت الاحتلال في غزة مع استمرار رفع شعارات تحرير كل فلسطين! وهل من مصلحة الفلسطينيين ترك الهدف مفتوحا حسب التطورات وموازين القوى بحيث يتم الانتقال من هدف لآخر اعتمادا على موازين قوى إقليمية ودولية ليسوا طرفا أصيلا فيها؟ وهل يمكن للعالم القبول بمشروع وطني يقول بهدف مرحلي قائم على الشرعية الدولية وهدف استراتيجي معلن يقول بإنهاء دولة إسرائيل؟ وكيف يتم صياغة العلاقة بين المرحلي والاستراتيجي؟ وهل يمكن تحديد أهداف وطنية واستراتيجيات لتحقيقها اعتمادا على ممكناتنا الوطنية؟ كيف نفصل ما بين ما نريده كفلسطينيين، وما تريده أطراف عربية وإقليمية توظف القضية الفلسطينية لخدمة أجندتها الخاصة لأن المشروع الوطني لن يكون وطنيا إلا تحت راية الوطنية الفلسطينية كثقافة وهوية وانتماء؟ الخ.

ب) - وسائل وآليات تحقيق الهدف:

الاختلاف حول الهدف أثر سلبا على وسائل تحقيقه، بحيث باتت الوسائل تتكيف وتتحدد في كل مرحلة حسب الهدف المُعلن أو المُضمر وحسب موازين القوى الداخلية وحسب المصلحة والارتباطات الخارجية لكل حزب وحركة. ففي بداية الثورة الفلسطينية كان الكفاح المسلح هو الطريق الوحيد لتحرير فلسطين ثم أصبح الكفاح المسلح والعمل السياسي يسيران جنبا لجنب كوسائل للتحرير وأخيرا آل الأمر للسلام والتسوية السياسية كخيار استراتيجي وفي كل مرحلة كان التغيير في الوسائل مرتبطا بالتغيير في الهدف وفي التغير في النخب وفي تغليب حسابات السلطة على حسابات الوطن، مع عدم إسقاط دور الضربات التي تعرضت لها الثورة من العدو الصهيوني ومن الأنظمة العربية.

ضمن نفس السياق سارت حركة حماس ففي البداية كان الجهاد بما في ذلك العمليات الاستشهادية داخل الخط الأخضر الطريق الوحيد للتعامل مع اليهودية والصهيونية وإسرائيل، وكانت المفاوضات والتسوية السلمية والسلام والاعتراف بإسرائيل كلها أمورا مرفوضة، وعندما بدأت التسوية الخفية منذ قرار شارون بالانسحاب من غزة عام 2004 – تسوية فصل الضفة عن غزة - لإدماج حركة حماس في النظام السياسي الفلسطيني ووعدها بسلطة في قطاع غزة، أوقفت حركة حماس العمليات الاستشهادية داخل الخط الأخضر ثم أوقفت المقاومة المسلحة داخل الضفة الغربية وأخيرا أوقفتها انطلاقا من قطاع غزة، هذا التحول في الوسائل عند حركة حماس مرتبط بتحولها لسلطة ومرتبط بالتغير في الهدف، حيث باتت اليوم وكأنها تقبل بسلطة في قطاع غزة.

المشكلة لا تكمن في المقاومة كما لا تكمن في التسوية السلمية من حيث المبدأ، بل من الخطأ وضع تعارض ما بين المقاومة والسلام والتسوية السلمية، لأن المقاومة ليست قتالا من أجل القتال بل نضال من أجل الحق والسلام، والمقاومة بدون رؤية سياسية وهدف سياسي قابل للتحقيق تصبح نوعا من العمل الانتحاري أو الارتزاق الثوري والجهادي. المشكلة تكمن في غياب التوافق الوطني حول الوسائل واستراتيجيات العمل، فلا يجوز لحزب أو حركة – حماس والجهاد الإسلامي- أن تنهج نهج المقاومة المسلحة بما في ذلك العمليات الاستشهادية داخل إسرائيل فيما منظمة التحرير تعتمد خيار التسوية السياسية وتجلس على طاولة المفاوضات مع الإسرائيليين لتنفيذ اتفاقات موقعة، كما لا يجوز لفصائل مقاومة أن تستمر في إطلاق صواريخ والقيام بعمليات عسكرية فيما تلتزم السلطة الرسمية بالتنسيق الأمني مع إسرائيل، ولا يجوز لحركة حماس أن ترفض التهدئة وتستمر بإطلاق الصواريخ وهي خارج السلطة وعندما تصبح سلطة في غزة تعلن وقف إطلاق الصواريخ بل وقف المقاومة، بل وصل الأمر أن حركة الجهاد في القطاع دخلت في مواجهة بالصواريخ مع إسرائيل بينما وقفت حماس موقف المتفرج كما جرى في مايو 2023. هذا لا يعني رفض الجمع بين المقاومة والسلام بل رفض وجود استراتيجيات متعارضة بشأنهما، لو كانت المقاومة والمفاوضات تمارسان في إطار إستراتيجية وطنية وتحت رعاية قيادة وحدة وطنية لعضدت المقاومة من موقف المفاوض وأضفت المفاوضات شرعية على المقاومة.

الانقسام وفصل غزة عن الضفة أثر كثيرا على قدرة تحقيق الفلسطينيين لأهدافهم بأي وسيلة كانت، فلم تعد المشكلة في المقاومة المسلحة والمفاوضات فقط بل تجاوزت ذلك للوسائل الأخرى كالانتفاضة السلمية والمقاومة الشعبية. الفلسطينيون اليوم عاجزون عن إطلاق انتفاضة ثالثة أو مقاومة شعبية واسعة، هذا ناهيك أن نصف الشعب الفلسطيني في الشتات مُحيد عن ميدان المواجهة. وبالتالي لا يمكن الحديث عن مشروع وطني في ظل عدم اتفاق الأغلبية على وسائل تحقيق الهدف أي على الموقف من المقاومة والموقف من التسوية السلمية والموقف من المفاوضات، ما ذكرناه حول الموقف من المقاومة المسلحة يقال عن الموقف من المقاومة الشعبية ومن الانتفاضة ومن المفاوضات والتسوية السياسية، فلا يجوز القول بأن المفاوضات محرمة ومرفوضة إن مارستها حركة فتح والرئيس أبو مازن ومحللة وشرعية إن مارستها أو سعت إليها حركة حماس. ومن الواضح أن عدم الاتفاق على آليات ووسائل العمل لا يعود فقط لحسابات تغيير الهدف والتغيير في موازين القوى بل أصبح اليوم لحسابات تتعلق بالسلطة ومغانمها وبالارتباطات الخارجية لكل طرف.

ج) المرجعية:

المرجعية هي موئل الحق والهوية والثقافة، ومنها تُحدد الأهداف ووسائل العمل وهي التي تمنح هوية للمشروع الوطني الفلسطيني، هذه المرجعية إشكال أيضا، بسبب التداخل ما بين التاريخي والديني والسياسي والقانوني، وما بين الوطني والقومي والإسلامي، وبسبب الشتات وخضوع أغلبية الشعب الفلسطينية لسلطات غير وطنية لكل منها أجندتها ورؤيتها الخاصة للصراع في المنطقة. عندما تغيب استقلالية القرار وتتداخل الهويات يصبح الحديث عن مرجعية وطنية ومشروع وطني وثوابت وطنية أمرا صعبا. هذا التداخل صاحب مسيرة المنظمة منذ تأسيسها كما أشرنا سابقا وهو تداخل ما زال مستمرا حتى اليوم مع تغير في ترتيب المرجعيات من حيث الأهمية وهو تغير ناتج عن تغير القوى إقليميا ودوليا فأصبحت واشنطن والغرب أكثر حضورا من المعسكر الاشتراكي سابقا وروسيا حاليا، وحلت المرجعية الإسلامية محل المرجعية القومية العربية وزادت المرجعية الوطنية وهنَّا وتراجعا.

المرجعية اليوم تحتاج لإبداع خلاق ما بين الوطنية والقومية والإسلام، وما بين المرجعية التاريخية ومرجعية الشرعية الدولية، وما بين المرجعية الوطنية ومرجعية الأجندة الإقليمية. ولكن هل أن الاتفاق على المرجعية يكون من خلال الإطار القائم وهو منظمة التحرير الفلسطينية؟ أو من خلال حوارات بين المنظمة والقوى خارجها؟ أم يتم الاتفاق عليها من خلال الانتخابات؟ نعتقد أن مجلسا تأسيسيا منتخبا من فلسطينيي الداخل والخارج هو الجهة المؤهلة لصياغة المرجعية والأهداف.

د) الإطار:

نقصد بالإطار الكيان أو النظام السياسي أو قيادة وحدة وطنية. الإطار هو ما يستوعب ويوجه كل العملية السياسية الفلسطينية في الداخل والخارج ويتصرف ويتحدث نيابة عن الكل الفلسطيني. لا يكفي أن يكون الإطار معنويا كما يقال عن منظمة التحرير بأنها الوطن المعنوي للفلسطينيين بل يجب أن يكون مؤسساتيا أيضا.

قبل ظهور حركة حماس وقبل تأسيس السلطة الوطنية كانت المنظمة تمثل هذا الإطار، أما اليوم فالحاجة تدعو إما لإعادة بناء وتفعيل منظمة التحرير لتستوعب كل القوى السياسية الجديدة ليس على مستوى الكم فقط بل أيضا على مستوى الكيف أي على مستوى البرامج والتوجهات، أو التفكير بإطار جديد ينبثق عن مؤتمر شعبي وطني لجميع الفلسطينيين في الداخل والخارج. وجود إطار يعني وجود قيادة واحدة وممثل واحد للشعب الفلسطيني يتحدث نيابة عنهم ويتصرف باسمهم في كافة المحافل الدولية، والأمر ليس سهلا، فمثلا هل الدول والمنظمات التي اعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا ووحيدا مستعدة لتحويل اعترافها لإطار جديد يختاره الفلسطينيون بحرية أو يتكرر ما جرى مع تجربة انتخابات يناير 2006؟ وهل سيرث الإطار الجديد كل الالتزامات والاتفاقات التي وقعتها والتزمت بها منظمة التحرير أم يبدأ عهدا جديدا برؤية جديدة؟

هـ) الثوابت:

الثوابت كل ما هو محل توافق وطني، في حالة الاتفاق على العناصر الأربعة المشار إليها أعلاه تصبح ثوابت للأمة. داخل الثوابت يمكن للقوى والأحزاب السياسية أن تختلف في برامجها السياسية ولكن لا يجوز لها أن تختلف حول الثوابت ما دام الشعب يعيش مرحلة التحرر الوطني. بعد إنجاز الهدف وقيام الدولة يمكن للقوى السياسية وللشعب بشكل عام أن يعيد صياغة بعض الثوابت من خلال التوافق أو من خلال الانتخابات والاستفتاء العام.

2- آليات تنفيذ البرنامج الوطني الجديد:

المراجعة الإستراتيجية المؤسِسة لمشروع وطني جديد يجب أن تشتغل على مستويين وهدفين أحدهم عاجل وقصير المدى والآخر استراتيجي بعيد المدى مع تزامن العمل على المستويين: -

الهدف/المستوى الأول: عاجل ومرحلي (تقاسم وظيفي وطني)

لأننا لا نستطيع أن نتجاهل وجود القوى السياسية القائمة وخصوصا حركتي فتح وحماس، ولا نستطيع تجاهل وجود سلطتين وحكومتين متعاديتين، لذا يجب العمل على مصالحة أو تهدئة فلسطينية داخلية، مصالحة مؤقتة تضع حدا لحالة الانحدار بين كياني غزة والضفة. إنجاز هذا الهدف المرحلي والعاجل سيتعامل مؤقتا مع واقع فصل غزة عن الضفة وواقع وجود حكومتين وسلطتين، ليست هذه دعوة لتكريس الفصل بل التعامل معه مؤقتا للانتقال لمرحلة جديدة، وخصوصا أن شروط إنهاء الانقسام الاستراتيجي لم تعد خاضعة لقرار فلسطيني وهي غير متوفرة الآن، فحتى لو قررت حركتا فتح وحماس التصالح فلن يعود التواصل بين الضفة وغزة في إطار حكومة وسلطة واحدة بدون موافقة إسرائيل أو بدون تسوية سياسية تشارك فيها إسرائيل[10].

إذن بدلا من استمرار الحالة العدائية بين غزة والضفة يجب عمل مصالحة ضمن واقع الانقسام لحين تغير الأحوال. هذه المرحلة من المصالحة تحتاج لاعتراف كل طرف بأن الطرف الآخر شريك في النظام السياسي وله حق تقرير مصير هذا النظام ورسم خارطة المشروع الوطني الجديد، وتحتاج لوقف حملات التحريض والتخوين والتكفير، وتحتاج لوضع حد للاعتقالات المتبادلة، ونعتقد أن الثقافة والإعلام من أهم آليات تجاوز هذه المرحلة من خلال العمل على رد الاعتبار للثقافة والهوية الوطنية وتفعيل كل رموزهما. ونلفت الانتباه هنا أن ورقة المصالحة المصرية تقوم على أساس مصالحة مؤقتة في ظل استمرار الانقسام لحين من الزمن.

حيث إن عقبات متعددة تحوُّل دون إلغاء السلطة سواء في الضفة الغربية أو في غزة وتعيق إنجاز المشروع الفلسطيني للسلام، وتهدد السلطة والحكومة في غزة من خلال استمرار الحصار، فيمكن للمصالحة في هذه المرحلة أن تأخذ شكل توافق وطني في الضفة بين كل القوى السياسية والشعبية بما فيها حركة حماس والجهاد الإسلامي في ظل الحكومة القائمة هناك، هدف هذا التوافق أو المصالحة الجزئية هو مواجهة سياسة الاستيطان والتهويد في الضفة والقدس. في المقابل يجري توافق في قطاع غزة تشارك فيه جميع القوى بما فيها حركة فتح وفصائل منظمة التحرير، لرفع الحصار عن القطاع في ظل حكومة حركة حماس.

هذه المصالحة الوطنية المؤقتة والتي ستأخذ طابع التقاسم الوطني الوظيفي تشكل المدخل للمرحلة الثانية للإستراتيجية الجديدة أو المصالحة الوطنية الإستراتيجية من خلال تهيئة الظروف للانتخابات وفتح حوار جاد حول ثوابت ومرتكزات المشروع الوطني المشار إليها.

لا شك أن هناك مزالق وتخوفات من التعامل مع هذا المفهوم للمصالحة أو التقاسم الوظيفي المؤقت، حيث الخشية بأن يستغل بعض المستفيدين من حالة الفصل أي نجاح في المصالحة الأولى لتبرير حالة الفصل أو أن تستغل كلا الحكومتين التوافق الداخلي لإضفاء شرعية دائمة على وجودها يدفعها للتقاعس عن إنجاز المصالحة الوطنية الإستراتيجية. لتحاشي وقوع ذلك يجب العمل في آن واحد على المرحلة الثانية للإستراتيجية الوطنية، وهناك علاقة تفاعلية أو تأثير متبادل بين المصالحتين، بمعنى أن أي تقدم في أي مصالحة سيؤثر إيجابا على إنجاز المصالحة الأخرى والعكس صحيح.

الهدف /المستوى الثاني: إستراتيجي (التوافق والتراضي على ثوابت ومرجعيات القضية الوطنية).

الاشتغال على المرحلة أو المهمة الأولى للإستراتيجية الوطنية يجب أن يكون مواكبا للاشتغال على المرحلة الثانية بل يجب أن يكون الالتزام بإنجاز الهدف الأول (التقاسم الوظيفي الوطني) مشروطا بالالتزام بالهدف الاستراتيجي الاتفاق على الثوابت والمرجعيات، حيث يستحيل التقدم نحو الهدف الاستراتيجي دون إنهاء الانقسام. وعندما نقول تساوق الاشتغال على المستويين فذلك لأننا نحشى من أن واقع فصل غزة عن الضفة قد يستغرق وقتا طويلا لأن إسرائيل والقوى المستفيدة من حالة الفصل ما زالت قوية وفاعلة.

هذا التساوق لمساري المصالحة هو ضمان عدم تحول التقاسم الوظيفي الوطني المشار إليه إلى كيانين سياسيين دائمي الوجود. لهذه المصالحة الإستراتيجية مدخل أيضا وهو تفعيل وتطوير منظمة التحرير كمرجعية ناظمة للجميع، وفي هذا السياق يمكن الاستعانة بما ورد بورقة المصالحة المصرية حول تشكيل لجنة مشتركة عليا لضمان أن يستمر كيانا غزة والضفة ضمن مشروع وطني واحد. إذا كانت المصالحة الأولى، أي المصالحة العاجلة في ظل الانقسام القائم تتعامل مع الانقسام الأخير الذي نتج عن أحداث يونيو 2007، فإن المصالحة الإستراتيجية يجب أن تتعامل مع الانقسام الإستراتيجي السابق على تلك الأحداث والسابق لسيطرة حركة حماس على القطاع، هذه السيطرة وما لحقها من توترات وصدامات مسلحة هي نتيجة وإفراز لأزمة سابقة.

الإستراتيجية الجديدة ستكون مضطرة لإعادة طرح تساؤلات تم طرحها منذ تأسيس المنظمة ولم يتم الحسم فيها، ولأنها لم تحسم فقد عادت مجددا وبشكل أكثر تعقيدا. منذ أن وجِدت قضية سياسية تُسمى القضية الفلسطينية، وهي محل تنازع بين الأبعاد الوطنية والقومية والإسلامية والدولية، وتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية لم ينه حضور هذه الأبعاد وإن كان غيَّر في الأولويات. فهل نحن نقاتل إسرائيل لأنها عدو ديني تاريخي وبالتالي يجب اجتثاثها من الوجود، وفي هذه الحالة فالصراع يتجاوزنا كفلسطينيين ليشمل كل الأمة الإسلامية؟ أم نقاتلها كفلسطينيين لأنها ترفض حقنا بدولة مستقلة سواء كانت هذه الدولة حسب قرار التقسيم 194 لعام 1947 أو دولة في الضفة الغربية وقطاع غزة؟ غياب الرؤية الواضحة للهدف عند أصحاب الحق ينتج حالة من الإرباك حول تحديد وسائل تحقيق الهدف وحول معسكر الحلفاء ومعسكر الأعداء وحول مفهوم استقلالية القرار الوطني وجدواه، وهي أمور تجر أصحاب الحق إلى صراعات وحروب داخلية. غموض وعدم الاتفاق على (الأنا) في أي صراع يؤدي تلقائيا لغموض وتعميم مفهوم (الآخر)، الأمر الذي يربك الحالة السياسية وهو ما تعاني منه القضية الفلسطينية. هذا الغموض حول الأنا والآخر هو الذي مكن إسرائيل من تحشيد الصهيونية العالمية واليمين المسيحي ودول أخرى في مواجهة النضال الفلسطيني، وهو ما مكن تل أبيب وواشنطن من إدراج نضال الشعب الفلسطيني ضمن الإرهاب الدولي.

من المفهوم في السياسة، التعامل مع أهداف مرحلية وأهداف إستراتيجية، ومن المفهوم أيضا تعدد أساليب العمل لتحقيق الهدف، إلا أنه في جميع الحالات يجب على المرحلي أن يكون في خدمة الإستراتيجي كما أن تعدد أساليب النضال يكون ضمن نفس الهدف وفي إطار إستراتيجية وطنية واحدة وموحدة وليس لكل حزب هدف استراتيجي ووسائل خاصة به لتحقيق هذا الهدف. في الحالة الفلسطينية الأنا مبهم – وطني أم قومي أم إسلامي – ولا يوجد اتفاق على الآخر –إسرائيل أو اليهودية العالمية أو الصهيونية أو المسيحية أو أهل الكفر- والوسائل متعددة ومتعارضة –كفاح مسلح وجهاد؟ أم انتفاضة شعبية؟ أم مفاوضات وحل سلمي[k1] ؟_هذا الأمر يخلق حالة إرباك في تحديد معسكر الأصدقاء ومعسكر الأعداء، أيضا فإن عدم التحديد يجعل العالم لا يعرف ما الذي يريده الفلسطينيون بالضبط وما هي مرجعيتهم السياسية.

إن لم نتدارك الأمر بالمصالحة الإستراتيجية، فسيسير النظام السياسي نحو مزيد من التفكك. حركة فتح لن تبقى موحدة وكان المؤتمر السادس بداية التصدع فبعد المؤتمر فقدت حركة فتح كينونتها كحركة تحرر وطني، وحركة حماس ستشهد مزيدا من الانحسار كلما توغلت في السلطة والحكم واستمرت ملتزمة بالهدنة، وقد تشهد انقسامات داخلية وخصوصا بين تيار وطني وتيار أممي مرتبط بجماعة الإخوان المسلمين وتيار سينحو نحو التطرف .بطبيعة الحال لن يكون مصير بقية القوى السياسية بالأفضل، وقد نشهد ظهور العديد من التيارات أو الأحزاب بمسميات المستقلين أو أية مسميات أخرى يقودها رجال أعمال ورجال دين، إلا أن هذه القوى لن تشكل استنهاضا للحالة الوطنية بل ستزيد من التيه ومن فرص تدخل أطراف خارجية.

التخوفات الأكثر مأساوية هي فقدان ما تبقى من الضفة، وقد نشهد قريبا حربا أهلية في قطاع غزة. إسرائيل لن تُمكِن الفلسطينيين من دولة ذات سيادة في الضفة الغربية، وحتى تبعد الأنظار عما يجري في الضفة وحتى تلهي الفلسطينيين وتُرضي أصدقاءها ممَن لهم تطلعات سلطوية غير قادرين –أو غير مسموح لهم-على تحقيقها في الضفة فستخلق المناخ المناسب لفتنة وحرب أهلية في القطاع، كما سبق وهيأت المناخ لـ (الانقلاب) الذي أقدمت عليه حركة حماس في يونيو 2007.حرب أهلية حول مَن يحكم قطاع غزة: حركة فتح أم حركة حماس؟ وقد تشارك جماعات أخرى في هذه الحرب، كما سيكون للعملاء دور مهم في هذه الفتنة. سكوت إسرائيل عن حكم حماس في الضفة ليس قبولا نهائيا أو موقفا استراتيجيا وليس عجزا، بل لهدف تكتيكي، وعندما تشعر إسرائيل بأنها حققت هدفها من الانقسام فستنقل المعركة لقطاع غزة.

خاتمة

بالرغم من أن الثورة الفلسطينية المعاصرة مرت بعديد الأزمات والمنعطفات الخطيرة منذ أيلول الأسود في الأردن 1970 إلى خروج قوات منظمة التحرير من لبنان 1982، والخلافات السياسية الناتجة عن توقيع اتفاقية أوسلو وقيام السلطة الوطنية، وأخيرا الانقسام وفصل غزة عن الضفة، إلا أنه في كل هذه المنعطفات كان يوجد أمل بتجاوز هذه الأزمات، ولكن مع التحولات والمتغيرات الأخيرة منذ تولي ترامب للإدارة الأمريكية والتزام خلفه بايدن بنفس السياسة المعادية للفلسطينيين والمنحازة بلا حدود للكيان الصهيوني، ومع وصول حكومة يمينية عنصرية برئاسة نتنياهو تضم متطرفين عنصريين أمثال بنغفير وسموترتش ينكرون حتى وجود الشعب الفلسطيني، ومع التطبيع العربي الزاحف، ومع وصول حوارات المصالحة لطريق مسدود... مع كل ذلك فإن حركة التحرير الفلسطينية والمشروع الوطني باتا محل تهديد وجودي بل يجوز التساؤل إن كان ما زال هناك مشروع وطني تحرري بالفعل؟

وهذا يتطلب سرعة التحرك والعمل لإنقاذ القضية والشعب، ومهمة الإنقاذ لا تعود للأحزاب والطبقة السياسية المأزومين ولا للسلطتين بل لحراك شعبي عام يستنهض منظمة التحرير الفلسطينية أو يُنتج مشروعا وطنيا جديدا وقيادة جديدة.

***

أ. د. إبراهيم أبراش

أستاذ العلوم السياسية - جامعة الأزهر بغزة

.............................

[1] -(كل الخيارات مفتوحة) شعار الأقوياء وليس شعار الضعفاء، وبالتالي فلا محل ولا قيمة لهذا الشعار في الساحة الفلسطينية وخصوصا في ظل حالة الانقسام، فعندما يفشل خيار التسوية ويفشل خيار المقاومة فأية خيارات أخرى. إن استمرت حالة الانقسام لن تنتج إلا مزيدا من الهزائم أو خيار(عليَّ وعلى أعدائي).

[2] -نشير هنا أن الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني عام 1974 وصدور عشرات القرارات الدولية لصالح الشعب الفلسطيني جاء في وقت كانت تمارس فيه المنظمة الكفاح المسلح وتصنف كحركة إرهابية في غالبية الدول الأوروبية. فرضت المنظمة نفسها بالرغم من كل ذلك لأنها بالإضافة إلى الظروف الدولية المواتية كانت تمثل الكل الفلسطيني، بمعنى أن وحدة الشعب ووحدة ووحدانية القيادة هو ما جعل العالم يحترمنا.

[3] - عملت إسرائيل على تدمير الاقتصاد الفلسطيني من خلال بروتوكولات باريس الاقتصادية المتممة لاتفاقات أوسلو ومن خلال إجراءات على الأرض كمصادرة الأراضي الزراعية أو تقطيع أوصالها ومن خلال تدمير المنشئات الصناعية وفرض قيوم على تصدير المنتجات الفلسطينية وإدخال المواد الخام أيضا من خلال شراكة مذلة مع نخب اقتصادية فلسطينية. كان الهدف من هذه الإجراءات تجويع الشعب لإجباره على القبول بأي حل سياسي. هذه السياسة لم تنجح ولكنها أدت لتبعية الاقتصاد والمجتمع الفلسطيني لجهات مانحة أجنبية وهي تبعية مضرة بالمشروع الوطني ومعيقة له.

[4] - انتهت انتفاضة 1987 بتوقيع اتفاقية أوسلو وانتهت انتفاضة الأقصى بالانقسام. فهل كانت الانتفاضتان عفويتين أم موجهتين ومخطط لهما؟ إن كانتا عفويتين فيمكن تفهم ما جرى لهما وبالتالي لا نحمل القيادات السياسية مسؤولية مآلهما ولكن القيادات والفصائل تقول بأن الانتفاضتين كانتا موجهتين من قبلهما، معنى هذا أن الفصائل وخصوصا حركتا فتح وحماس وجهتا أو وظفتا الجماهير المنتفضة لهذه النهاية، حركة فتح وجهت انتفاضة 1987 لتمرير نهج التسوية وتوقيع اتفاقية أوسلو، وحركة حماس وجهت انتفاضة الأقصى للانقلاب على النظام السياسي ولتسيطر على قطاع غزة.

[5] -غالبية مستشاري الرئيس أبو مازن، شخصيات غير شعبية وبسمعتها سيئة وفشلوا إما في الانتخابات التشريعية أو انتخابات مؤتمر حركة فتح أو فشلوا وأبعدوا عن أحزابهم، مما يثير التساؤل حول المعايير التي على أساسها يتم اختيار هؤلاء وهل هم متواجدين بإرادة الرئيس أم مفروضون عليه من قوى خارجية؟

[6] -يوجد ما يمكن اعتباره رشوة جماعية للشعب: الدول المانحة من خلال الرواتب والمشاريع، وكالة الغوث، المنظمات الأهلية، الدول الإقليمية والعربية من خلال الأموال التي تقدمها مباشرة للسلطة أو غير مباشرة للتنظيمات، جماعات الإسلام السياسي عبر العالم الخ، كل ذلك جعل أكثر من نصف الشعب الفلسطيني يتقاضى راتبا أو ما يوازيه من المساعدات وهو جالس في بيته، وهذا خلق مجتمعا غير منتج وبالتالي مرتبطا بهذه الجهات الخارجية، وبالتالي غير متحمس لتغيير الحال ما دامت نخبه وأحزابه غير معنية باستنهاض الحالة الوطنية.

[7] -جريمة المفاوضين الفلسطينيين لا تقل عن جريمة إسرائيل في موضوع الاستيطان لأنه لا يُعقل أن يستمر المفاوضون الفلسطينيون بالتفاوض حول موضوع الاستيطان لمدة ثمانية عشر عاما فيما الاستيطان يتواصل بتسارع وفيما يوجد مرجعية دولية تقول بعدم شرعية الاستيطان في الأراضي المحتلة؟ والأخطر من ذلك أن نفس الفريق المفاوض الفاشل ترقى تنظيميا ووظيفيا وقاد ماراتون إعلان تجسيد قيام الدولة! وقد رأينا نتيجة ذلك، فلا يعقل أن الذين يفشلون في إنجاز المهام الأصغر يمكنهم إنجاز المهام الأكبر؟

[8] - إذا كانت حركة حماس والجهاد الإسلامي تمثلان تيارا إسلاميا مرتبطا بالإسلام السياسي الخارجي، فلماذا لا تتوحد القوى الوطنية في إطار واحد لمواجهة هذا التيار الأصولي؟ لماذا لا يعيد التيار الوطني بكل فصائله بناء منظمة التحرير ثم يطلب من حماس والجهاد المشاركة وإن رفضا يتم مواجهتهما متحدين؟

[9] -ندرك الحالة المتردية لمنظمة التحرير مؤسسات وشخصيات وبالتالي لا ندافع عن واقع المنظمة بل عن صفتها المعنوية والسياسية حيث من خلالها يعترف العالم بالشعب الفلسطيني وبقضيته السياسية ومن خلالها يتواجد تمثيل الشعب الفلسطيني في كل المنظمات والمحافل الدولية لو انتهت المنظمة أو شكل الفلسطينيون هيئة جديدة سيحتاج الأمر لجهود مضنية حتى تكتسب اعترافا دوليا وقد لا يحدث ذلك في ظل واقع النظام الدولي الجديد وعليه سيكون من الأفضل الحفاظ على المنظمة مع تطويرها وتوسيعها لتستوعب كل القوى السياسية، وفي داخلها يمكن تجديد المشروع الوطني .

[10] -لم يعد حل السلطة قرارا فلسطينيا خالصا بالرغم من أنها تأسست شكليا بقرار من المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية فحيث إن السلطة باتت تخدم استمرار الوضع القائم وتحضا بقبول الرباعية فإن إسرائيل والرباعية مستعدون لضمان استمرارية السلطة ضدا عن إرادة منظمة التحرير، وبالتالي يصبح المطلوب إعادة النظر بوظائف السلطة لا حلها.

***

أختتم في موسكو المنتدى الاقتصادي الأوروبي الآسيوي الثاني (EEF-2023)، بمشاركة رؤساء روسيا، وبيلاروس وكازاخستان وقرغيزستان، وكذلك رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان، وكان توقيته متزامنًا مع اجتماع الاتحاد الاقتصادي الأوراسي الأعلى للاتحاد الاقتصادي الأوراسي، بمشاركة رؤساء الدول الأعضاء والمراقبين، وأقيم هذا الحدث كجزء من رئاسة الاتحاد الروسي في هيئات (EAEU) المجلس الاقتصادي الأوراسي الأعلى، والمجلس الحكومي الدولي الأوراسي ومجلس (EEC) في عام 2023.

ويعد المنتدى الاقتصادي الأوروبي الآسيوي، حدثًا تجاريًا سنويًا لـ EAEU في المجال الاقتصادي، ويركز على مشاركة كبار المسؤولين في الدول الأعضاء في EAEU، ورؤساء الشركات الكبيرة والمتوسطة والصغيرة من الدول الأعضاء والدول الثالثة، ورؤساء وممثلي سلطات دول الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، بالإضافة إلى رؤساء وأعضاء حكومات البلدان الثالثة، وممثلي المنظمات الدولية والعلمية والتعليمية المهتمة بتطوير التفاعل مع الاتحاد، والغرض من المنتدى هو زيادة تطوير التعاون الاقتصادي بين دول EAEU، وتحسين علاقات التعاون في الفضاء الأوراسي، وتشكيل روابط موثوقة بين الكيانات الاقتصادية، وتحقيق تأثير الجمع بين إمكانات الاستثمار والابتكار.

ان التغييرات العميقة التي تحدث الآن على المسرح العالمي، دعت المزيد والمزيد من الدول، ان يسلك مسارًا نحو تعزيز السيادة الوطنية، ولفت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الجلسة الكاملة للمنتدى الاقتصادي الأوراسي، الذي اختتمت اعماله في العاصمة الروسية موسكو، الانتباه إلى التغييرات العميقة التي تحدث في العالم، والتي تهدف المزيد والمزيد من الدول إلى تعزيز السيادة الوطنية، والسياسات الداخلية والخارجية المستقلة، والالتزام بنموذج التنمية الخاص بها، وتوسيع شبكة الشراكات، ومعاملة بعضها البعض باحترام، وكلهم يؤيدون بناء بنية جديدة أكثر إنصافًا للعلاقات الاقتصادية، وتسعى جاهدة للتأثير بشكل بناء على العمليات العالمية، ومع مثل هذا النهج، ووفقًا لبوتين، فإن غالبية المشاركين في الاتصالات الدولية متضامنون، وأشار إلى أن كلاً من روسيا وشركائها في الاتحاد الأوراسي مهتمون بالتعاون الصادق والمنتج والعملي.

ويحاول المعارضون الغربيون إعاقة هذه العملية، لذا وكما أكد بوتين، فأنهم يحاولون تقليص تعاون الدول الأخرى مع روسيا، عن طريق الإقناع والابتزاز، ومع ذلك، من المؤكد أن سيناريو "الانهيار" للاقتصاد الروسي لن يتحقق، وأن روسيا تنتهج سياسة تقليص حصة عملاتها في التسويات المتبادلة، وأشار نائب رئيس وزراء الاتحاد الروسي، أليكسي أوفرشوك، متحدثًا في المنتدى، بشكل عام، الى ان دول الاتحاد تحولت بالكامل تقريبًا إلى التسويات بالعملات الوطنية في التجارة المتبادلة في السلع: بلغت حصتها في الربع الأول من عام 2023 تقريبًا 90 ٪، وإن حجم التجارة بين دول الاتحاد هذا العام وصل إلى مستوى قياسي بلغ 83.3 مليار دولار، وبحلول نهاية العام، قد يتجاوز هذا الرقم 200 مليار دولار، ومع ذلك، انتقد نائب رئيس الوزراء البيلاروسي إيغور بترشينكو وتيرة التجارة.

واقترح الرئيس الروسي إنشاء وكالة تصنيف أوراسية تابعة للاتحاد الأوراسي، والتي من شأنها أن تضمن توافر أدوات التقييم المناسبة لخدمة النشاط الاقتصادي المتنامي في منطقة الاتحاد، ولكن المطلوب هنا، بالطبع، مبادئ رئيسية ومعايير صارمة وقدرة على الامتثال لهذه المعايير، "حتى نتأكد من موضوعية التقييم، وهنا تكمن الفائدة الحقيقية، فإذا لم يتوفر ذلك، فلا جدوى من الفكرة".

وعلى الرغم من الطبيعة الاقتصادية للمنتدى، فقد تم إيلاء الكثير من الاهتمام للسياسة، وهكذا، قال رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو، متحدثًا عن تاريخ الأوراسية والاتحاد الاقتصادي الأوراسي، وكيف إنها ولدت بشكل صحيح "في مطبخ" فلاديمير بوتين، وكانت خصوصية هذه اللحظة هي أن أوكرانيا، في شخص ليونيد كوتشما، شاركت في العملية في ذلك الوق، أشار لوكاشينكو إلى التغييرات العميقة والجوهرية التي تحدث على الساحة العالمية، والتي سيتعين على الجميع أن يحسب لها حساب. وقال إن روسيا خاطرت بتحدي العالم أحادي القطب وهي في طليعة التغيير الدولي.

ومع ذلك، فقد تغير الكثير منذ ذلك الحين، وأشار بوتين أيضا إلى أن كييف تصف الآن الاتحاد الروسي بالمعتدي، لكنها لا تتوقف عن الاستفادة من نقل الموارد الروسية، وأكد في الوقت نفسه أن روسيا تفي بجميع التزاماتها بالكامل، وفي سياق تقييمه للوضع في سوق الطاقة في أوروبا، وأن فشل العديد من المشاريع لم يكن بخطأ من موسكو، فقد تم تفجير نورد ستريم 1، ولم يتم فتح نورد ستريم 2، وتم إغلاق طريق الغاز يامال - أوروبا عبر بولندا من قبل بولندا، واكد أن كل أولئك الذين ما زالوا يدافعون عن أحادية القطب لا يضرون بالاقتصاد العالمي فحسب، بل إنهم "يطلقون النار على أنفسهم".

ومع ذلك، كان معظم النقاش لا يزال مكرسًا لجدول الأعمال الاقتصادي وتعزيز التعاون في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، وأشار رئيس كازاخستان قاسم جومارت توكاييف إلى أنه من الضروري الآن تطوير ليس فقط البنية التحتية المادية، ولكن أيضًا تطوير البنية التحتية "اللينة" - الرقمنة وتبسيط التنظيم الجمركي وتقليل العبء الإداري، في حين أقترح رئيس قيرغيزستان، صدير جاباروف، إنشاء مؤسسة أخرى، في رأيه، سيساعد ظهور أمين المظالم التجاري في الاتحاد في تطوير الجمعية.

و لم تتجاوز حصة التجارة البينية النقابية مقارنة بحجم التجارة مع البلدان الثالثة على مدى سنوات عديدة 15٪، وهذا رقم منخفض للغاية للاتحاد، واعرب نائب رئيس الوزراء البيلاروسي، عن اعتقاده أنه بحلول عام 2030 يجب زيادة حصة التجارة داخل النقابات إلى 20٪ على الأقل، وبحلول 2040-2045 إلى 30٪ وأكثر، واشار الى أن هناك أيضًا صعوبات في إنشاء سوق واحد للطاقة في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، ويشك إيغور بتريشينكو في أنه سيتم تشكيلها بحلول عام  2025 وبادئ ذي بدء، هذا بسبب الخلافات على الغاز، في حين دعا نائب رئيس وزراء أرمينيا مهر غريغوريان، متحدثًا في الجلسة العامة بدلاً من رئيس مجلس الوزراء، إلى توسيع إمكانات التصدير للاتحاد الاقتصادي الأوراسي، وفي رأيه، من الضروري تعزيز مكانة الاتحاد في سوق الخدمات التعليمية والطبية.

إن شروط تشغيل الأسواق، بما في ذلك المنتجات النفطية والغاز، برأي وزير الطاقة نيكولاي شولجينوف مختلفة، وأيضًا، هناك بالفعل مشكلات غير منسقة في هذا المجال، لكن البلدان تعمل على حلها، وانه في الآونة الأخيرة، ظهر بعض سوء التفاهم بين الشركاء في الاتحاد بسبب أسعار الغاز، واكد وزير الطاقة الكازاخستاني المصادم ساتكالييف بدوره بأن روسيا مستعدة لبيع الوقود الأزرق لتزويد شمال وشرق البلاد بسعر أرخص من بيلاروسيا، ومع ذلك، سرعان ما نفت غازبروم هذه المعلومات، وبالإضافة إلى ذلك، فإن العلاقات الاقتصادية بين الاتحاد الاقتصادي الأوراسي ودول أخرى، ولا سيما مع الصين، آخذة في التوسع، وقال الرئيس الصيني شي جين بينغ، في رسالة بالفيديو إلى المشاركين في الحدث، إنه يرى الإمكانات الهائلة للتعاون بين البلاد ودول أوراسيا.

وأشار الوزير المفوض للسفارة الصينية لدى الاتحاد الروسي ليو شيوسونغ، الى إن حجم التبادل التجاري بين الصين ودول EAEU وصل العام الماضي إلى 244 مليار دولار، كما أكد أن بكين "مؤيد لا يتزعزع لتعزيز التعددية القطبية في العالم"، وان دول EAEU تقدم مساهمة كبيرة، في غضون ذلك أشار الرئيس الكازاخي قاسم جومارت توكاييف إلى أنه من المهم لأعضاء الاتحاد بناء تفاعل فعال مع الصين.

وفدم خلال المنتدى الاقتصادي الأوروبي الآسيوي، اقتراح للتحول إلى العملات الرقمية الوطنية في التجارة داخل EAEU، و من المفترض أن العملات الرقمية المطورة في روسيا وكازاخستان ستخفض التكاليف في التسويات عبر الحدود، ومع ذلك، ومن أجل التشغيل الصحيح، ستكون هناك حاجة إلى أدوات عملات رقمية جديدة وقواعد سعر الصرف والإطار التنظيمي المقابل، ووفقًا للنائب الأول لرئيس البنك المركزي، كسينيا يودايفا، فقد تكثفت عملية الخصم، التي انفصلت فيها روسيا عن أنظمة الدفع العالمية، وقد أصبح النظام المالي العالمي مفككًا، ويمكن أن تصبح ممارسات مثل العملات الرقمية بديلاً لقنوات الدفع التقليدية باستخدام الحسابات المصرفية المراسلة، والآن ينخرط المنظمون الماليون في روسيا وكازاخستان في تطوير العملات الرقمية.

وتقول يوليا ماكارينكو، نائب مدير معهد التنمية المصرفية، إن للروبل الرقمي إمكانات كبيرة، يمكن للشكل الجديد تسريع المعاملات المالية وتحسين كفاءة الخدمات العامة وتوفير سيطرة أفضل على التدفقات المالية، وسيؤدي ذلك إلى تقليل تكلفة العمليات ومكافحة الفساد، فضلاً عن تعزيز الثقة في الاقتصاد الروسي، بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يصبح الروبل الرقمي حافزًا لتطوير صناعة التكنولوجيا المالية، وتحفيز الابتكار وخلق وظائف جديدة، وسيساعد هذا في خلق فرص جديدة وزيادة كفاءة العمليات المالية، حيث تمثل العملات الرقمية الوطنية (DNCs) حقًا آفاق تنمية التجارة والاقتصاد كضمان للممتلكات. الفوائد الرئيسية: معاملات أسرع وأرخص، وزيادة الأمن والشفافية.

ومع ذلك، في الوقت الحالي، ووفقا للخبراء، لا يُعرف بالضبط كيف سيعمل نظام العملات الرقمية، فالنظام المصرفي العالمي غير كامل ويتطلب التحديث، لكنه يستمر في العمل في جميع أنحاء العالم، ويعد إنشاء أنظمة جديدة في السوق المالية مهمة شاقة، حيث سيكون التكامل مطلوبًا، بما في ذلك مع الأنظمة القديمة، التي تم إنشاؤها في الثمانينيات على تقنيات غير متوافقة في كثير من الأحيان.

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

برنامج تلفزيوني قديم شاهدته اليوم وكان يدعو الفلاحين الى العودة الى الريف في زمن المرحوم عبد الكريم قاسم.

في الاربعينيات والخمسينيات ازدحمت المدن وخاصة بغداد باعداد كبيرة من الفلاحين الذين هجروا الريف وجاءوا طلباً لحياة افضل. عاشوا حياة مزرية في هوامش تلك المدن بعد ان ساءت اوضاعهم في الريف واشتد استغلال الاقطاعيين لهم. في ذلك البرنامج يصدح صوت المطربة الراحلة وحيدة خليل وهي تناشد الفلاحين " الاوفياء" العودة الى قراهم وزراعة اراضيهم، بشكل ساذج ومباشر وشعاراتي فارغ!!

في بداية السبعينيات قامت الحكومة بحملة مشابهة ولنفس الغرض واعلنت عن استصلاح اراضي وتقديم دعم للفلاحين الخ..... تلك الجهود الفاشلة تفضح طبيعة التفكير الحكومي السائد وجهله بقوانين الحياة وجهله بتجارب العالم في هذا الصدد.

عدد سكان الريف في العالم يتقلص مع زيادة الانتاج النباتي والحيواني (تبلغ نسبة السكان العاملين في الزراعة في الولايات المتحدة حوالي ٢% ، ولكنهم ينتجون مئات الملايين من الاطنان من المنتجات المختلفة)  وهذا دليل على:

- ازدياد استخدام المكننة والعلوم في الريف وتقليص العمل البشري.

- تطور القطاعات الاخرى كالصناعة والبناء والانشاءات والخدمات والتجارة والنقل، واستيعابها للنازحين الريف بعد تدريبهم.

- تطور المناطق الريفية السابقة وتوفر خدمات ورفاه المدينة فيها بحيث لاتدفع سكانها الى الهجرة للمدن بحثاً عن حياة افضل. بل اصبحت تجذب سكان المدن للعيش فيها (العيش في الضواحي).

- تغيير تصنيف بعض المناطق من ريف الى حضر بسبب التغييرات التي طرأت عليها وجعلها تشابه المدن التقليدية.

اما لدينا في العراق، فان الحكومات عجزت عن تحقيق ذلك ولذلك لجأت الى حملات دعائية تناشد وطنية الفلاحين وتصوّر لهم عظمة الحياة في الريف وكأنهم غرباء لم يختبروا ويعيشوا قسوة الظروف في الريف.

الحياة راكدة ولا يحركها سوى ريع النفط الذي تم توظيفه لاغراض لاتخدم التنمية. لذلك لاتوجد فرص عمل جيدة لهؤلاء النازحين.

***

د. صلاح حزام

في كل مرة نكتب فيها عن الدور الأمريكي "النشاز" في الازمة بين روسيا والغرب عامة، نستغرب كثيرا على استماتة الولايات المتحدة الامريكية ورئيسها جون بايدن و أصرارهم على " تسخير " كل قدرات العالم، التسليحية والمالية واللوجستية، والأقمار الصناعية، وغيرها من الإمكانات، من أجل تحقيق ما يسمى " النصر " لأوكرانيا، على الرغم من علمهم المسبق، ان مثل هذا لن يحدث،إلا وكما يقول المثل الشعبي العربي " بالمشمش "، وهو موجود فقط في مخيلة " العجوز " بايدن، وجلاوزته .

ولكن بعد البحث والتمحيص، في مواقع التواصل الاجتماعي، او في مواقع البحث الرئيسية، أو العديد من الصحف والمجلات، تمكنا من العثور عن سبب رئيس وراء " استماتة " بايدن، للدفاع عن أوكرانيا، وهنا لابد من التذكير، من ان بايدن وابنه متهمين، حتى قبل تسنمه منصب رئيس الولايات المتحدة، بتلقي رشاوى وصفقات مشبوهة من أوكرانيا، وقد تم التستر عليها حال تسنم " العجوز " مقاليد الحكم، لتبدأ مرحلة جديدة عن كيفية الاستيلاء على رأس المال الأجنبي في أوكرانيا، وبعد 24 فبراير 2022، بدأت الولايات المتحدة وحلفاؤها بالفعل حربًا ضد روسيا، باستخدام "أوكرانيا " كنقطة انطلاق.

فكما هو معروف، فانه يوجد على أراضي أوكرانيا أغنى احتياطيات المعادن (تم استكشاف واكتشاف أكثر من 90 في المائة من الاحتياطيات خلال الحقبة السوفيتية)، وتمتلك أوكرانيا سابع أكبر احتياطي في العالم وثاني أكبر احتياطي فحم في أوروبا - حوالي 34 مليار طن-، وهي واحدة من ثلاث دول (إلى جانب أستراليا وروسيا) بها أكبر رواسب خام الحديد في العالم، وحتى العام الماضي، كانت من بين أكبر عشرة منتجين لخام المنغنيز في العالم، ولديها أكبر احتياطي لخام المنغنيز في أوروبا، كما أن لديها أكبر احتياطي من التيتانيوم في أوروبا (حوالي 20 ٪ من احتياطيات خام التيتانيوم في العالم من حيث التيتانيوم النقي)، كما وتمتلك أوكرانيا أكبر مخزون من اليورانيوم في أوروبا (1.8٪ من احتياطي اليورانيوم في العالم)، و 70 ٪ من مخزون الجرانيت عالي الجودة في العالم يتركز في أوكرانيا، والموارد المعدنية الهامة الأخرى هي الزئبق وملح البوتاسيوم والنيكل والكبريت والغرافيت والذهب، بالإضافة إلى: 40٪ من احتياطيات التربة السوداء في العالم، ومياه معدنية وحرارية فريدة من نوعها.

وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي، وعلى مدى ثلاثة عقود، استحوذ رأس المال الأجنبي على الثروة الطبيعية لـ "الساحة"، والأراضي الزراعية ليست استثناء، ووفقًا للمجلة الوطنية الأسترالية، التي نُشرت في مايو من العام الماضي، كانت 17 مليون هكتار من الأراضي الزراعية الأوكرانية مملوكة لثلاث شركات أمريكية: Cargill و Dupont و Monsanto، وهي مساوية تقريبًا لمساحة جميع الأراضي الزراعية في إيطاليا، وحسب الخبراء فأن المساحة المخصصة هي حوالي نصف مساحة الأراضي الزراعية "المربعة"، والمساهمون الرئيسيون في جميع الشركات المذكورة، هم المقتنيات المالية الأمريكية وصناديق الاستثمار BlackRock و Vanguard و Blackstone، وحتى قبل بدء العملية العسكرية الخاصة، لم يكن لدى أحد أي شك في أن أوكرانيا كانت تحت السيطرة الخارجية للغرب.

ولكن في 24 فبراير 2022، سقطت كل الأقنعة، وأصبح صندوق الاستثمار في شركة بلاك روك (المُدرجة في الدليل الشركات، كشركة استثمار دولية مقرها في نيويورك ؛ واحدة من أكبر شركات الاستثمار في العالم والأكبر في العالم من حيث الأصول المدارة، ففي بداية العام الماضي، قدرت قيمة هذه الأصول بنحو 10 تريليونات دولار، وهو ما يتجاوز الناتج المحلي الإجمالي لألمانيا وفرنسا مجتمعين )، والتي كانت موجودة بشكل غير مرئي في الاقتصاد الأوكراني حتى 24 فبراير من العام الماضي، والموضوع الرئيسي لمثل هذه الإدارة، وعلى وجه التحديد، في شركات الطاقة مثل Metinvest و DTEK و الزراعة MHP و Naftogaz  والسكك الحديدية الأوكرانية و Ukravtodor و Ukrenergo.

وبلاك روك، هي أكبر صندوق لإدارة الأصول في العالم، وبلغت قيمتها الإجمالية اعتبارًا من 1 يناير 2023، ( 8.594 تريليون دولار )، أي ما يعادل تقريبًا الناتج المحلي الإجمالي (PPP) لألمانيا وفرنسا مجتمعين، ومع ذلك، فهذه ليست الميزة الوحيدة للشركة، حيث تمتلك شركة بلاك روك، تأثيرًا سياسيًا هائلًا بما لا يقاس حول العالم، وإنها ليست فقط مساهمًا في جميع الشركات المالية والصيدلانية الكبرى والشركات الصناعية العسكرية العملاقة والشركات الإعلامية، ولكنها أيضًا راعية للبنك الدولي، وتدير أيضًا جميع برامج نظام الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لشراء سندات الشركات، والتي هو أنها تدير مباشرة واحدة من أهم الأدوات النقدية سياسة بنك الاحتياطي الفيدرالي.

كما هي أخطبوط مالي أربك معظم الاقتصاد الأمريكي و جزءًا مهمًا من الاقتصاد العالمي بشبكاته، جنبًا إلى جنب مع صناديق الاستثمار العملاقة مثل Vanguard و State Street و Fidelity، وتشارك في رأس مال جميع بنوك وول ستريت وشركات Big Pharma و Silicon Valley IT، وإذا حكمنا من خلال بعض العلامات، في "الأربعة الكبار" من الصناديق المذكورة، أصبحت شركة بلاك روك هي الشركة الرئيسية، وحصلت على صفة الوسيط الرسمي (الوكيل) لنظام الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، لجلب أموال البنك المركزي الأمريكي إلى الشركات الأمريكية، وأصبحت BlackRock يطلق عليها كأداة مهمة للسياسة النقدية للاحتياطي الفيدرالي، وهناك دلائل على أن هذه الأداة تتحول إلى موضوع مستقل نابض بالحياة للسياسة النقدية لمجلس الاحتياطي الفيدرالي.

وغالبًا ما يذهب موظفو بلاك روك السابقون رفيعو المستوى إلى العمل في البيت الأبيض، ويوجد الآن ثلاثة منهم في إدارة جو بايدن، وهم نائب وزير الخزانة والي أدييمو، ومستشار الخزانة الأول للشؤون الاقتصادية لروسيا وأوكرانيا، وإريك فان نوستراند، ومايك بايل، كبير المستشارين الاقتصاديين لنائب الرئيس كامالا هاريس، وحتى فبراير 2023، كان برايان ديزي مديرًا للمجلس الاقتصادي الوطني، وكان رئيس مركز أبحاث بلاك روك، توماس دونيلون، مستشارًا للأمن القومي منذ فترة طويلة لباراك أوباما، وكان شقيقه مايك كبير الاستراتيجيين لحملة جو بايدن الرئاسية، وبعد ذلك تم تعيينه مستشارًا كبيرًا في إدارته، ومن بين كبار مديري BlackRock العديد من ضباط وكالة المخابرات المركزية المتقاعدين، وتمول الشركة نفسها صندوق رأس المال الاستثماري In-Q-Tel الذي أسسته وكالة الاستخبارات المركزية.

وفي العودة إلى أوكرانيا، فقد انتعشت بالفعل في ربيع العام الماضي، العديد من الشركات والبنوك والصناديق الغربية، وشعرت أن بإمكانها جني الأموال في أوكرانيا، وعلى سبيل المثال، من خلال تنظيم "المساعدة" المالية إلى "اوكرانيا" وتلقي على هذه الخدمة "عمولة" خاصة بهم من هذه المساعدة، ويمكن أن تكون مصادر التمويل الأموال المتلقاة من مصادرة أصول روسية المنشأ، بالإضافة إلى ذلك، هذه أموال عامة تخصصها حكومات الدول "الصديقة" لأوكرانيا، بالإضافة إلى "التبرعات الطوعية" من الشركات الخاصة كنوع من الدفع مقابل الحق في تنمية الموارد الطبيعية لأوكرانيا في المستقبل، وكان أحد مظاهر هذا الاهتمام غير المتوقع في أوكرانيا ظهور عدد كبير من صناديق "المساعدة" المختلفة لأوكرانيا، وبحلول نهاية الصيف الماضي، بدأت هذه الإثارة تتلاشى، بسبب دخول شركة بلاك روك إلى الساحة التي قررت وضع الاقتصاد الأوكراني تحت سيطرتها الاحتكارية.

وفي 19 سبتمبر 2022، عقد فلاديمير زيلينسكي والرئيس التنفيذي لشركة بلاك روك لاري فينك اجتماعًا عبر الفيديو، واقترح الأخير إنشاء صندوق إنعاش لدعم الاقتصاد الأوكراني، وإن القسم الاستشاري للأسواق المالية في BlackRock جاهز لتقديم المشورة المجانية للحكومة الأوكرانية، وكان فلاديمير زيلينسكي سعيدًا بهذه المقترحات: "بالنسبة لي، فإن جاذبية الاستثمار في دولتنا لها أهمية خاصة، من المهم بالنسبة لي أن يكون مثل هذا الهيكل ناجحًا، ولكل الأطراف المعنية، نحن قادرون وراغبون في استعادة مناخ الاستثمار الطبيعي".

ووفقا للخطوة التالية التي اعلنها مكتب الخدمة الصحفية لوزارة الاقتصاد الأوكرانية في 11 نوفمبر، فقد وقعت هذه الوزارة وشركة بلاك روك للاستثمار مذكرة تفاهم، والتي اتفقت على تطوير منصة خاصة لجذب رأس المال الخاص لاستعادة أوكرانيا، وقالت وزارة الاقتصاد "تُضفي المذكرة الطابع الرسمي على المناقشة الأولية لفرص جذب الاستثمار العام والخاص في أوكرانيا، والتي عقدت في سبتمبر بين رئيس أوكرانيا فلاديمير زيلينسكي والرئيس والمدير التنفيذي لشركة بلاك روك لاري فينك"، ثم جاءت فترة توقف وقفة قرابة ستة أشه، حيث كانت الاستعدادات جارية ولم يتم الإعلان عنها، وفي الخامس من مايو من هذا العام، أعلن فلاديمير زيلينسكي على قناته على Telegram، أنه ناقش مع إدارة شركة إدارة الأصول الأمريكية BlackRock تفاصيل إنشاء صندوق استثماري لاستعادة الدولة: "الهدف الرئيسي من إنشاء الصندوق هو لجذب رؤوس الأموال الخاصة والعامة لتنفيذ مشاريع تجارية واسعة النطاق في أوكرانيا ".

وفي 8 مايو، ذكرت وسائل الإعلام الأوكرانية أن الحكومة الأوكرانية والمؤسسة الأمريكية BlackRock Financial Market Advisory (BlackRock FMA)، وقعتا اتفاقية بشأن إنشاء صندوق التنمية الأوكراني، وفي الواقع، والهدف الرسمي للمؤسسة هو جذب الاستثمارات في مجالات الطاقة والبنية التحتية والزراعة، وفي الواقع، هذا يعني الانتهاء من بيع إجمالي الأصول الرئيسية للدولة الأوكرانية - من التربة السوداء إلى شبكات الكهرباء، وعلى ما يبدو، تعتزم كييف بالتالي سداد ديونها، ومع ذلك، فإن مثل هذا لن يحدث، فقد أصبحت أغنى الجمهوريات السوفيتية ذات يوم ملكًا لرأس المال عبر الوطني.

ويشدد المحلل الاقتصادي فالانتين كاتاسنوف، على ان هذا يعني الانتهاء من الخصخصة الكاملة، واستيعاب أوكرانيا من قبل رأس المال الأجنبي، الذي يتوقع أن يصبح المستفيد الرئيسي (حتى الوحيد) من المذبحة الحالية في أوكرانيا، والسؤال المهم هو من يختبئ خلف لافتة بلاك روك؟ لا يوجد سوى رقمين في الأفق، هما Laurence Fink، الذي تم اختياره كمؤسس ورئيس مجلس إدارة BlackRock و روبرت كابيتو، المؤسس والرئيس، ومن هم المساهمون؟، ووفقًا لبورصة نيويورك، حيث يتم إدراج أسهم Black Rock، امتلك المستثمرون المؤسسون 80 ٪ من الأسهم في بداية عام 2023، منها 7 ٪ كانت أموالًا خاصة، وكان المساهمون الكبار الآخرون: The Vanguard Group( 9.1 ٪)، وستيت ستريت غلوبال أدفايزورز (4.2٪)، وبنك أوف أمريكا (3.5٪)، تيماسيك هولدينجز (3.4٪)، ومجموعة شركات كابيتال (3.3٪)، وتشارلز شواب كوربوريشن (2.2٪)، ومورغان ستانلي (2.1٪)، وجي بي مورغان تشيس(2.0٪)، وWells Fargo (1.8٪)، Geode Capital Management (1.7٪)، وFMR Co.، Inc. (1.6٪)، و Wellington Management Group (1.3٪)، ونورثرن ترست (1.3٪)، هنا مثل هذه المالية الدولية تغزو أوكرانيا.

ويوضح الخبير الاقتصادي أندريه كوزماك، أنه بموجب شروط الصفقة مع أوكرانيا، فإن شركة بلاك روك ستدير الأصول الأوكرانية، بما في ذلك الأموال من حجم "المساعدات الدولية"، وهكذا، فإن المؤسسات الاستراتيجية الأوكرانية، بما في ذلك تلك التي تم "تأميمها"، تخضع للمراقبة عبر الوطنية، وفي إطار هذا المخطط، سيتم أيضًا إدارة الديون الخارجية الأوكرانية، والتي بلغت وفقًا لوزارة المالية في البلاد، بحلول نهاية مارس ما يقرب من 132 مليار دولار، أو 89 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي، وبصفته زعيم حزب الوطن الأم المجري، لازلو توركاي، تحدث بإيجاز شديد عن دور شركة بلاك روك في الأزمة الأوكرانية وقال "لقد تم بيع أوكرانيا بالفعل، وسوف تدمر الحرب كل شيء".

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

مقدمة: في 4 آذار/مارس 2023، شارك الدكتور أليكسي فيديف، رئيس مختبر البحوث المالية في معهد غيدارللسياسات الاقتصادية في موسكو، في اجتماع للمجلس الاستشاري العلمي لقسم العلوم الاجتماعية بالأكاديمية الروسية للعلوم حول المشاكل القانونية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية للمجتمع، المكرس لتوقعات تطور الاقتصاد الروسي في العام 2023. حدد في تقريره "توقعات التنمية الاجتماعية والاقتصادية لروسيا في 2023-2025"، العوامل الرئيسة التي سيعتمد عليها وضع الاقتصاد الكلي في البلاد، بما في ذلك العقوبات والطلب على موارد الطاقة الروسية وتطوير القطاع B 2B [1]، وكذلك تحفيز السياسات الحكومية. وفقا لأليكسي فيديف، في العام 2023، يمكننا أن نتوقع ركود الطلب باعتباره العامل الرئيسي لخفض التضخم مع انخفاض الدخل المتاح للسكان، وسيكون النجاح في استبدال الواردات متواضا للغاية، لكن الانخفاض في الاقتصاد سيكون صغيرا نسبيا [2] .

الأعمال الروسية تركز على "البقاء"

تتفاقم مشاكل مناخ الأعمال في روسيا بسبب سعر صرف الروبل والواردات الرخيصة كما تعكسه بيانات المسح من معهد غيدار ومعهد Stolypin، فقد توصل الخبراء إلى إجماع على أن هذه التدابير الادارية تركز على البقاء.

وفقا ل 43٪ من المستجيبين، كان للوضع الاقتصادي تأثير سلبي بشكل عام على الأعمال. وفقا ل 48٪ من المستجيبين، فإنهم يهدفون في العام أو العامين المقبلين إلى الحفاظ على مؤشرات الإنتاج الحالية أو ببساطة الحفاظ على الأنشطة على هذا النحو. المتفائلون الذين يخططون لزيادة الإنتاج بأكثر من 30 ٪ يشكلون حوالي 12 ٪. كما أن ارتفاع التكاليف، ونقص أو عدم استقرار الطلب في السوق يمنع تطوير وإطلاق منتجات جديدة في السوق [3].

وفقا لمعهد غيدار، الذي قام بإجراء مسوحات شهرية لسوق الصناعيين الروس، في الفترة من أيلول/سبتمبر إلى كانون الأول/ديسمبر 2022، أظهر الإنتاج ديناميكيات قريبة من الصفر، مما أعطى أسبابا للمسؤولين والمحللين للحديث عن استقرار الصناعة الروسية. وتشير الدراسة إلى أن خطط الإنتاج بعد الفشل في آذار/مارس 2022 "تخلصت لاحقا من التشاؤم" وحتى نهاية العام كانت متفائلة للغاية، لكنها لم تستطع إظهار النمو إلى مستويات ما قبل الأزمة [4].

تشير غالبية رواد الأعمال الذين شملهم الاستطلاع الى وجود قيود خطيرة على الأعمال التجارية وإلى عدم كفاية حماية حقوق رواد الأعمال وهيمنة الدولة على الاقتصاد. وكذلك يتفق كبار المديرين والمالكين على صعوبة الوصول إلى الأموال المقترضة للأعمال. بالإضافة إلى ذلك، اشتكى رواد الأعمال من عدم كفاية مستوى تطوير البنية التحتية، ومشاكل الخدمات اللوجستية، والعبء المالي المرتفع، وضعف حماية حقوقهم - على وجه الخصوص .

وفقا لمعهد غيدار، في كانون الأول/ديسمبر 2022، توقف متوسط الحد الأدنى لسعر الفائدة على القروض المقدمة للمؤسسات الصناعية عن الانخفاض وارتفع إلى 11.2٪ سنويا بعد أن كان 10.9٪ في تشرين الثاني/نوفمبرمن نفس العام، إذ بلغت حصة الشركات التي أعلنت عن التوفر الطبيعي للقروض بنسبة 51٪ [5]. ونتيجة لذلك تفاقم الوضع بسبب قيمة الروبل المبالغ فيها والعبء المالي المرتفع، مما وضع الشركات الروسية في وضع غير مؤات مقارنة بموردي الواردات الرخيصة، والتي نتيجة لذلك يمكن أن تحول المستهلكين الروس إلى واردات رخيصة من الصين وغيرها من الدول الصديقة المحايدة.

تكيف الاقتصاد الروسي مع العقوبات

وفي معرض أجابة أليكسي فيديف، رئيس مختبر البحوث المالية في معهد غيدار، في برنامج "اليوم" على قناة RBC (Russ.Bussiness Consult) على أسئلة حول كيفية تأثير العقوبات المفروضة على الاقتصاد وحياة الروس والبلد ككل، فقد تم تخصيص موضوع البرنامج لذكرى فرض العقوبات بعد أن اعترفت روسيا باستقلال جمهورية دونيتسك وجمهورية لوغانسك. أجاب أليكسي فيديف إلى : " أن السلطات تستعد لخسائر اقتصادية أكثر خطورة، لكن التدابير المتخذة في الوقت المناسب والاستراتيجية المختارة بشكل صحيح ساعدت الاقتصاد على إعادة البناء بسرعة. وفقا لتصريح فيديف من المتوقع أن يتراوح الانخفاض المتوقع في الناتج المحلي الإجمالي للعام 2023 من 2٪ إلى 10٪. كان معدل الانخفاض في العام 2022 بمقدار 2.1٪، ولكن مع الأخذ في الاعتبار مؤشر الاستهلاك للسكان - 5٪، يمكن تصحيح الانخفاض في الناتج المحلي الإجمالي إلى 4٪. وللمرة الأولى، اختارت الحكومة التكتيكات الصحيحة لسياسة محفزة تهدف إلى تثبيت استقرار العمليات الاقتصادية. ولا يرى الخبير تهديدا تضخميا إذا ظل سعر صرف الروبل مستقرا، فبحلول منتصف العام 2023 سيكون معدل التضخم 3٪ - 5٪. أن توقعات تخفيض قيمة العملة مهمة، ووفقا للخبير، فإن الاستهداف الحديث هو أفضل آلية للحفاظ على استقرار الاقتصاد الكلي [6].

تشير نتائج دراسة أجراها رئيس مختبر أبحاث السوق في معهد غيدار سيرجي تسوخلو إلى أن القناة الأكثر شعبية لاستبدال المعدات الغربية من الشركات المصنعة الروسية كانت قناة الموردين الصينيين.

في كانون الثاني/يناير 2023، أجرى خبراء معهد غيدار دراسة استقصائية بين رؤساء المؤسسات الصناعية الروسية واكتشفوا كيف حلوا محل الواردات الخاضعة للعقوبات. تم إجراء مسح للمشاركين في 3 فئات من السلع - المعدات وقطع الغيار والتجهيزات المكملة. شارك حوالي 1000 شركة صناعية في مسح المختبر.

أظهر الاستطلاع أن أكثر من نصف الشركات الروسية في العام 2022 اشترت معدات وقطع غيار بديلة من الصين. لكن المصنعين الروس تمكنوا من تجاوز الصينيين في مبيعات التجهيزات المكملة، حيث أن استبدال الواردات المحلية أكثر كفاءة. بالإضافة إلى المشتريات من الشركات المصنعة الصينية والمحلية (هاتان القناتان الرئيسيتان لاستبدال الواردات)، دعت الشركات طرقا أخرى لاستبدال البضائع الساقطة. تمكن شخص ما من تأمين الإمدادات من الدول الصديقة الأخرى - من تركيا إلى كوريا الشمالية، رفض شخص ما تماما استخدام البضائع المختفية في إنتاجها، واعترف شخص ما بأنه استمر في تلقي الواردات الخاضعة للعقوبات.

أعلنت 67٪ من الشركات الانتقال إلى المعدات من الصين، في حين احتل المنتجون المحليون المرتبة 2 بين قنوات استبدال الواردات، ولكن بهامش كبير: بدأ 39٪ من المستجيبين في استخدام منتجاتهم والمركز الثالث بنتيجة 23 ٪ خيار "نظائرها من بلدان أخرى". لا يشمل ذلك البلدان التي يتم توفير خيارات إجابة منفصلة لها: على وجه الخصوص، وجد 21٪ من المستجيبين نظائر منتجاتهم من شركاء في الاتحاد الاقتصادي الآسيوي EAEU (أرمينيا وبيلاروسيا وكازاخستان وقيرغيزستان)، و 17٪ من تركيا. وأفادت 15٪ من الشركات الروسية أنها لا تزال تتلقى الآلات والآلات الخاضعة للعقوبات. ومن بين سلاسل التوريد أيضا خيار الشراء من الهند وإيران وفيتنام ومصر وكوريا الشمالية (12٪) [7] .

كما يحتل المصنعون الصينيون في سوق قطع الغيار، أيضا مكانة رائدة (63٪ من الشركات الروسية تحولت إليهم)، في حين أن فجوة الصين من الشركات المحلية هنا أصغر - قرر 46٪ من المستجيبين استخدام المنتجات الروسية. بالإضافة إلى ذلك، تحولت 24٪ من

الشركات الروسية إلى "نظائرها من دول أخرى"، وقالت 22٪ إنها استمرت في تلقي الواردات الخاضعة للعقوبات. إن استبدال الواردات بمعنى استبدال نظائرها المستوردة بأخرى محلية في فئة المكونات (المواد الخام والمواد المكملة والمنتجات شبه المصنعة).

وفي حقيقة أن الشركات الروسية لا تزال تتلقى معدات ومكونات "خاضعة للعقوبات" وهذا لا يعني التحايل على أنظمة العقوبات في الغرب. وبالتالي، تنص عقوبات الاتحاد الأوروبي على فترات انتقالية يمكن خلالها التسليم بموجب العقود الحالية. وبالإضافة إلى ذلك، أدخل الاتحاد الأوروبي إعفاءات للإمدادات المستمرة، على سبيل المثال للأغراض الطبية أو الإنسانية. أيضا، إذ يجوز لأي دولة في الاتحاد الأوروبي، كاستثناء، إصدار تصريح لتوريد السلع الخاضعة للعقوبات إلى روسيا. قد تستمر الشركات التابعة الروسية للشركات الأجنبية في تلقي هذه السلع. وتسمى هذه الحالة بآلية "الاستيراد الموازي" .

كما يلاحظ رئيس مختبر استطلاعات السوق سيرجي تسوخلو، فإن الشركات الروسية تظهر أعلى استقلالية عن المنتجات "الخاضعة للعقوبات" مقارنة بالمعدات وقطع الغيار بالنسبة للمكونات (المواد الخام والمواد المكملة والمنتجات شبه المصنعة) التي تظهرها. إذ لم يتم استخدام المكونات الأجنبية من قبل 20 ٪ من الشركات الروسية من قبل، وفي حالة المعدات وقطع الغيار، قامت 11 ٪ من الشركات باستيراد تلك المكونات [8].

الصناعة تبدأ بالإيجابية

سجلت مسوحات حالة الأسوق لمعهد غيدار، التي أجريت في كانون الثاني/يناير 2023، زيادة في الطلب الفعلي في القطاع الصناعي وانخفاضا طفيفا في نقص الموظفين المؤهلين، والذي زاد بسبب التعبئة العسكرية. إذ كشفت نتائج الأداء الفعلي في الصناعة (اعتبارا من 19 يناير) والتوقعات (اعتبارا من 26 يناير)، وفقا لمعطيات معهد غيدار، عن بداية إيجابية نسبيا لهذا العام في هذا القطاع. فقد وصل مؤشر التفاؤل الصناعي بحلول يناير 2023 إلى مستوى أقل من نقطة واحدة فقط إلى أفضل قيمة (أيلول/سبتمبر) في العام السابق 2022. والسبب الرئيسي لذلك هو الديناميات الإيجابية للطلب. حيث ارتفع رصيد المبيعات الفعلية بعد الانخفاض في تشرين الأول/أكتوبر بمقدار 15 نقطة وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2022 – كانون الثاني/يناير 2023 بمقدار 20 نقطة وتبين أنه أفضل قيمة في الأشهر ال 11 الماضية. ويشير الانخفاض في حصة التقديرات "العادية" لأحجام الطلب في يناير إلى 56٪ والزيادة في حصة التقديرات "الأقل من المعتاد" إلى 36٪ إلى أن الشركات كانت تأمل في مبيعات أفضل في بداية العام. في الوقت نفسه، لم تتغير توقعات الطلب فعليا منذ سبتمبر، حيث كانت عند مستوى "غير كاف للدخول في مسار النمو الصناعي المميز إحصائيا"، كما يلاحظ خبراء معهد غيدار (IEP) [9].

ساعد النمو في الطلب على المنتجات الصناعية، والذي يرتبط في المقام الأول بزيادة الطلبات العسكرية الشركات على زيادة خطط الإنتاج والانتقال من سياسة تقليل مخزونات المنتجات النهائية إلى تكوين فائض فيها. وانطلاقا من ما ىسبق، أظهرت توقعات التضخم في الصناعة في كانون الثاني/يناير، وفقا ل IEP، أكبر زيادة منذ آذار/مارس 2022 - بمقدار 13 نقطة. ولذلك من غير المرجح أن يتم تفسير هذه الزيادة بالتحسن المتوقع في المبيعات وتعكس الانخفاض الحالي في قيمة الروبل، والذي بدأ في أواخر العام 2022.

رسم بياني رقم 13224 رسم بياني

توقعات تغيرات في الأيدي العاملة في الصناعة. (التوازن = نسبة الزيادة – نسبة الانخفاض)

المنحني الأحمر يمثل روسيا

المنحني الأزرق يمثل المنطقة الاوروبية

المصدر: معهد غايدار، موسكو، روسيا الاتحادية

أظهر تقييم الشركات لتزويدها بموظفين مؤهلين في يناير انخفاضا في توتر الوضع. في الوقت نفسه، لا تزال حصة 28 % من الشركات التي تعاني من نقص في الموظفين (في ذروتها في تشرين الأول/أكتوبر 2022، كان هناك 33٪) أعلى من مستوى كانون الأول/يناير 2022. «الانخفاض الطفيف في يناير في التفاؤل بخطط التوظيف لم يغير بشكل جذري صورة مشاكل الموظفين في القطاع: نقص العمال المهرة، الذي وصل إلى أعلى مستوى تاريخي في تشرين الأول/ٍ أكتوبر، يجبر الشركات على الحفاظ على ارتفاع الطلب على العمالة»، (انظر الرسم البياني). الرصيد الحالي لهذه الخطط أعلى بكثير من قيم الفترة 2010-2019.

ركود الصناعة

أظهرت ديناميكيات الصناعة الروسية في يناير 2023 المزيد من علامات الركود، كما كتبت صحيفة كوميرسانت باللغة الروسية، معتمدة على تحليل الدراسات الاستقصائية التي أجراها الجهاز المركزي للإحصاء في روسيا الاتحادية Rosstat ومعهد Gaidar للسياسات الاقتصادية [10].

وفقا لإحصائيات الجهاز المركزي للإحصاء في روسيا الاتحادية في كانون الثاني/يناير 2023، انخفض الإنتاج الصناعي في الاتحاد الروسي بنسبة 2.4٪ من حيث القيمة السنوية وبنسبة 0.6٪ مقارنة بشهر كانون الأول/ ديسمبر 2022، مع مراعاة الموسمية في الانتاج وعلى الرغم من الدعم الهائل للميزانية والمستويات العالية من التفاؤل من الشركات. مستثنيا من ذلك الصناعات التي ترتبط بطريقة أو بأخرى بالانتاج الصناعي العسكري وتركز على طلب المستهلكين.

كان الانخفاض في الإنتاج الصناعي بنسبة 2.4٪ على أساس سنوي في يناير 2023 في سياق القطاعات الصناعية الموسعة في كل مكان: انخفض التعدين بنسبة 3.1٪، والمعالجة - بنسبة 2.3٪، والصناعات المتعلقة بإمدادات المياه والصرف الصحي، والتخلص من النفايات والقضاء على التلوث - بنسبة 7.5٪. ظهرت زيادة طفيفة (0.7 ٪) في الشهر الأول من العام فقط من خلال الطاقة.

ومن بين الصناعات التحويلية، تجلى النمو في الإنتاج من خلال إنتاج المركبات الأخرى (27.4٪)، والمواد الغذائية (4.4٪)، والمشروبات (7.1٪)، والملابس (5.5٪)، وأجهزة الكمبيوتر والأجهزة الطرفية (الأطراف الصناعية)، والمنتجات البصرية والإلكترونية (5.5٪) والمعدات الكهربائية (0.7٪). وسجل أكبر انخفاض في إنتاج السيارات (54.6٪) والآلات والمعدات (22٪) والخشب (22.1٪).

الصناعة لم تنفصل عن الاستيرادات الخاضعة للعقوبات

أظهر مسح أجراه معهد غيدار (IEP) لممثلي المؤسسات الصناعية حول كيفية استبدالهم للاستيراد الخاضع للعقوبات للمعدات وقطع الغيار والمكونات في العام 2022 أن المصنعين الصينيين أصبحوا "بدائل استيراد" غير مشروطة. 67٪ من المستجيبين تحولوا إلى منتجاتهم، كما كتبت صحيفة كوميرسانت. ومع ذلك، في وقت سابق، في العام 2022، ادعى الصناعيون أن الانتقال إلى هذه الإمدادات من الصين كان قسريا وأن الشركات تفضل نظائرها الأوروبية. حتى ولوكان عالي الثمن .

تشير الدراسة إلى أن 15٪ من المستجيبين أفادوا بأنهم يستمرون بطريقة ما في تلقي الآلات والمعدات "الخاضعة للعقوبات". أصبح المصنعون الروس، الذين واجهوا في العام 2022 نقصا في كل من المكونات والموظفين، موردين ل 39٪ من المستجيبين لمتطلبات معهد السياسات الاقتصادية (معهد غايدار)، وشركات من الإتحاد الأسيوي الاقتصادي EAEU - بنسبة 21٪ ومن تركيا - 17٪.

أصبحت الصين أيضا رائدة في استبدال قطع الغيار التي وقعت تحت العقوبات - 63 ٪ من الشركات الصناعية تحولت إلى منتجاتها. تم استلام نظائرها الروسية من قبل 46 ٪ من الشركات، وأفاد 22 ٪ أنه تم الحفاظ على توريد قطع الغيار "الخاضعة للعقوبات". تمكن الموردون من دول الاتحاد الاسيوي الاقتصادي EAEU وتركيا من تلبية الطلب على قطع الغيار بنفس الحصص تقريبا كما في حالة المعدات. ومع ذلك، تمكن المصنعون الروس من استعادة المكانة الرائدة في إنتاج المكونات من المنافسين الصينيين بنسبة تصل إلى 2 نقطة مئوية، كما قال 54٪ من المستجيبين. ولا يتم استخدام المواد الخام والمواد "الخاضعة للعقوبات" من قبل 20 ٪ من الشركات والآلات والمعدات إلا ب 11 ٪ فقط. وفي نفس يستمر 23٪ في الحصول على المكونات المستوردة "المحظورة" [11].

دخول الصناعة الروسية دورة نمو جديدة

تشير بيانات المراقبة التشغيلية للصناعة الروسية إلى تحسن في المؤشرات الرئيسة واستعادة تفاؤل الشركات. ويأتي الانتعاش من بعد إعلان أيلول /سبتمبر 2022 عن "التعبئة الجزئية"، عندما خسر تفاؤل المستجيبين لاستطلاعات السوق في معهد غيدار أربع نقاط. وبحلول 16 فبراير 2023، ارتفع المؤشر بمقدار سبع نقاط ووصل إلى أعلى مستوى له في 12 شهرا. وعلى النحو التالي من الدراسة، فإن نمو تفاؤل الصناعة هو نتيجة لزيادة الطلب، والتي، وفقا للمؤسسات الصناعية، وصلت في الفترة من يناير إلى فبراير 2023 إلى أفضل القيم لهذا العام وحتى تجاوزت مستويات 2018-2019. ومع ذلك، تم تسجيل نفس المستوى من الرضا عن الطلب بالفعل في سبتمبر 2022 . وعلى الأرجح، ترتبط القفزة في الطلب بنمو الانتاج للمعدات العسكرية من قبل الدولة [12].

على الرغم من انتعاش الطلب، انخفضت خطط الإنتاج، وفقا ل IEP، بمقدار 4 نقاط في فبراير بعد قفزة قياسية في يناير (انظر الرسم البياني). "على ما يبدو، قررت الصناعة تعديل خططها قليلا، دون الانحناء، إلى التشاؤم من الأزمة. قال مؤلف الدراسة سيرجي تسوخلو إن التوازن الإيجابي للمؤشر، الذي تم تسجيله بشكل مطرد من خلال الدراسات الاستقصائية منذ أغسطس 2022، يشير إلى أن الشركات لا تزال مستعدة للانتقال من "نمو" قريب من الصفر إلى زيادة واضحة في الإنتاج. وفي الواقع، لم تتمكن الصناعة بعد من تحقيق التفاؤل العالي لخطط الإنتاج. تعمل بيانات فبراير مرة أخرى على إصلاح ميزان التغييرات الفعلية في الإنتاج داخل الصفر، حيث كان منذ سبتمبر 2022.

الانتاج الصناعي المتوقع والحقيقي للشركات الروسية في شهر كانون الثاني (مقدار النمو والانخفاض % حسب المواسم الانتاجية).

منحني اللون الأحمر- الانتاج المتوقع

منحني اللون السماوي – الانتاج الواقعي

المصدر: معهد غايدار، موسكو، روسيا الاتحادية

نما مستوى التفاؤل في الصناعة الروسية إلى الحد الأقصى خلال 12 شهرا، كما قال سيرجي تسوخلو، رئيس مختبر استطلاعات السوق في معهد غيدار، في دراسة أخرى للقطاع الصناعي. وفي 2 مارس 2023، قدم سيرجي تسوخلو في ندوة في كلية موسكو للاقتصاد بجامعة موسكو الحكومية تقريرا عن نتائج مرور سنة على "حرب العقوبات" للصناعة، والتي استعرضتها قناة RBC التلفزيونية . كما هو موضح في استطلاعات المديرين، بعد مرور سنة على بدء العملية الخاصة في أوكرانيا والعقوبات الغربية الصارمة، فإن الصناعة الروسية إيجابية بشكل عام: مؤشر التفاؤل الصناعي وتوقعات الطلب عند الحد الأقصى خلال 12 شهرا.

وقال سيرغي تسوخلو إن نتائج 12 شهرا من "حرب العقوبات" لا تبدو مأساوية على الإطلاق كما توقع جميع المشاركين فيها في البداية. كما هو موضح في الدراسات الاستقصائية للمؤسسات، أنهت الصناعة الروسية العام التالي لبدء العقوبات بأفضل ديناميكيات الطلب لهذه الفترة، واستقرار توقعاتها، وتظهر أيضا مستوى جيدا من رضا المبيعات. ومن خلال ديناميكيات الطلب يوجد توازنا للتغيرات الفعلية في الطلب، مع إزالة الموسمية، والتي يتم حسابها على أنها الفرق بين حصة الشركات التي أشارت إلى زيادة في الطلب والحصة التي أشارت إلى انخفاضها. ان مستوى هذا المؤشر في الوقت الحاضرعند الصفر تقريبا (في المستوى الإيجابي، كان في العام 2021 وحتى فبراير 2022، خلال فترة الانتعاش الاقتصادي بعد كوفيد). وقال تسوخلو إنه في فبراير 2023، أصبح المؤشر هو الأعلى منذ بداية العملية الخاصة، بل تجاوزت قيمته مستوى عدم وجود الأزمة في السنوات 2018-2019.3225 رسم بياني 

يتم الاحتفاظ بهذا المؤشر، الذي يعكس مستوى الرضا عن المبيعات المحققة، عند مستوى عال إلى حد ما. ففي فبراير 2023، كانت حصة التقديرات العادية (أي المرضية) لأحجام الطلب الحالية تساوي 61٪، وهو ما يتوافق مع أو حتى يتجاوز مستوى السنوات "الهادئة".

مجموعة أخرى من المؤشرات التي تميز الإنتاج تعكس أيضا المزاج المتفائل للصناعيين. أظهر مؤشر التغييرات الفعلية أنه في فبراير 2023 تم إنتاج المنتجات أقل بقليل مما كانت عليه في يناير نفس السنة، لكن هذا المؤشر كان مستقرا منذ سبتمبر 2023: فهو لا ينخفض كثيرا، ولكنه أيضا لا ينمو بشكل ملحوظ. في الوقت نفسه، يتم الاحتفاظ بمؤشر الخطط بثقة في اللون الأسود بعد سبتمبر، "مما يشير إلى جميع الأطراف المعنية حول الرغبة العالية وغير المتأزمة تماما للشركات في إظهار "النمو الصناعي"، وفقا لمراجعة أجراها معهد غيدار بموسكو.

كما أوضح سيرجي تسوخلو في عرض التقرير، لم يكن لدى تقديرات الشركات في فبراير لتعكس العجز القياسي في الميزانية لشهر يناير بمقدار 1.8 تريليون روبل. والضعف اللاحق للروبل (في فبراير فقد حوالي 6 ٪ للدولار لهذا الشهر، أو حوالي 4.5 روبل). ووفقا له، يمكن أن تظهر هذه العوامل في استطلاعات الربيع.

لا تزال الشركات تفشل في توفير نمو إنتاج ملحوظ إحصائيا حتى مع التفاؤل الكبير بخططها، كما اعترف تسوخلو. لكن تنفيذ الخطط يعوقه "عدم اليقين في الوضع الحالي وآفاقه" - على مدى الأرباع الأربعة الماضية، وصفت معظم الشركات هذا الخطر.

وخلص الخبير إلى أن «العواقب الأكثر ضخامة للعقوبات على الصناعة الروسية كانت نمو التكاليف، واكتشاف عدم وجود موردين ومصنعين بديلين في روسيا وتغيير كبير في السلاسل التكنولوجية بسبب استحالة استبدال المكونات المستوردة».

في 2 فبراير 2023، تحدث سيرغي تسوخلو، رئيس مختبر أبحاث السوق في معهد غيدار، على الهواء مباشرة في برنامج "الأخبار الرئيسية" على قناة RBC التلفزيونية، بأن المصنعين الصينيين حلوا محل المصنعين الغربيين الذين غادروا السوق الروسية. وكيف يؤثر تغيير موردي المعدات الصناعية على جودة الإنتاج وما إذا كانت هناك فرصة للمصنعين المحليين لاتخاذ مكانة رائدة في هذا القطاع.

آثار رحيل الشركات الغربية من روسيا الاتحادية: ارتفاع في تكاليف الانتاج

كان الأكثر ضخامة هو ارتفاع تكاليف الانتاج في ظروف التضخم العالمي. وكان هذا متوقعا فيما أكدته 64٪ من الشركات، حيث أفاد المستجيبون أنه في فبراير (لأول مرة منذ مايو 2022) تم رفع أسعار بيع المنتجات، وتغير ميزان توقعات تغيرات الأسعار لصالح نموها في سبتمبر 2022، وفي الفترة من يناير إلى فبراير 2023 استقر عند مستوى زائد 20 نقطة. بقي غياب الموردين والمصنعين البديلين في الاتحاد الروسي في المرتبة الثانية في قائمة المشاكل، لكن حجمه بين الدراسات الاستقصائية انخفض بنسبة 9 نقاط مئوية إلى 53٪. في المرتبة الثالثة في قائمة عواقب مشاكل الواردات، أعطت الصناعة "تغييرا قويا في السلاسل التكنولوجية بسبب نقص المكونات الغربية". وبذلك انخفضت أهمية هذه المشكلة بشكل طفيف، بنسبة 3 نقاط مئوية، إلى 38 ٪. " ولم يتم استبدال جميع الإمدادات الغربية دون الالمام بنظائرها الروسية أو الصينية"، كما أكد ذلك معهد غيدار بموسكو.

وانخفض ذكر مشكلة "إيقاف أو استبدال المعدات المستوردة بسبب عدم القدرة على الصيانة" للسنة 2022 من 40٪ إلى 22٪، وهو ما قد يشير إلى زيادة الواردات الموازية. كان نمو الطلب على استبدال الواردات أقل قليلا من التوقعات: 33٪ مقابل 36٪ في أبريل 2022 [13].

الخاتمة

يشعر العلماء بالقلق إزاء الوضع الديموغرافي الحالي في العالم. وصل عدد سكان العالم إلى رقم قياسي بلغ 8 مليارات شخص، وهو، وفقا للتوقعات العلمية، عتبة حرجة لكوكب الأرض. ومع ذلك، يذكر علماء الديموغرافيا أن هناك ما يكفي من الغذاء للجميع، ولكن معدل النمو السكاني يتناقص بسرعة، وفي عدد من البلدان، بما في ذلك روسيا، يتم تسجيل ديناميات سلبية. لذلك، على عكس النبوءات حول الاكتظاظ السكاني للأرض، يولد تهديد جديد: هناك خطر حدوث نقص خطير في الناس، وهذا سوف يسبب فوضى اقتصادية عالمية.

وفقا للأمم المتحدة، لوحظ الآن اتجاه ديموغرافي سلبي في 61 دولة. يتركز الاهتمام الرئيسي في هذا الصدد على الصين: في نهاية العام الماضي، ولأول مرة منذ 60 سنة، أظهرت انخفاضا في عدد السكان (ناقص 850 ألف)، متنازلا عن المرتبة الاولى للهند.

من المؤكد أن سياسة "أسرة واحدة وطفل واحد" التي انتهجتها السلطات ساعدت الصين على انتشال نفسها من الفقر، ولكنها أصبحت أيضا قنبلة موقوتة. ظهر اتجاه جديد في البلاد: لم يعد الصينيون يسعون إلى الإنجاب، موضحا ذلك بحقيقة أن الأطفال يأخذون الكثير من الموارد. وبالتالي، فإن حصة الشباب الأصحاء آخذة في الانخفاض، وحصة كبار السن آخذة في الازدياد، والتي، وفقا للعلماء، ستؤدي بحلول العام 2050 إلى ضغط خطيرعلى نظام المعاشات التقاعدية في جمهورية الصين الشعبية.

في البلدان الأوروبية، بلغ الانخفاض الطبيعي في عدد السكان، وفقا لعلماء الديموغرافيا في الأمم المتحدة، في العام 2022 بحدود 168,085 شخصا، مع مراعاة الزيادة في متوسط العمرالمتوقع. ويتم إنقاذ الوضع الديموغرافي والاقتصاد في الاتحاد الأوروبي من قبل المهاجرين - وإلا فإنه سيكون في انخفاض كبير بسبب النقص المتزايد في الأيدي العاملة.

الوضع الديموغرافي في اليابان أسوأ لأن الانخفاض الطبيعي في عدد السكان هو 0.5-0.6٪ سنويا، ونسبة الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 65 سنة تقترب من 30 ٪ (أعلى معدل في العالم)، في حين أن البلاد غير مضيافة تقليديا للمهاجرين.

أما من حيث نسبة المواليد والوفيات، يتم تضمين روسيا في مجموعة البلدان ذات النوع التنازلي المتناقص من الهرم الديموغرافي. وفقا لإحصائيات الجهاز المركزي للإحصاء، استؤنف الانخفاض الطبيعي في عدد سكان الاتحاد الروسي في العام 2016 بعد فترة من النمو لمدة ثلاث سنوات، وغطاه تدفق المهاجرين لمدة سنتين فقط . ومنذ العام 2018 انخفضت الزيادة في السكان. أما خلال فترة وباء كوفيد-19، أصبح حجم الخسائر كبير (في العام 2020 انخفض عدد السكان بمقدار 689 ألف شخص، وفي العام 2021 انخفص بمقدار 1 مليون و 43 ألف شخص). وفقا للبيانات الأولية للعام 2022، بلغ إجمالي الانخفاض في عدد سكان الاتحاد الروسي 555 ألف شخص، بينما تم تسجيل تدفق هجرة للسكان يبلغ 20.6 ألف شخص. ولكن على عكس أوروبا واليابان، فإن السكان في سن العمل في الاتحاد الروسي أعلى بأكثر من مرتين من عدد المواطنين غير العاملين. ومع ذلك، فإن هذه النسبة تفسر بانخفاض متوسط العمر المتوقع مقارنة بالعديد من البلدان المتقدمة.

تتساءل حكومات العديد من البلدان المتقدمة الآن من أين تحصل على الأشخاص الذين سيوفرون نوعية حياة لائقة للسكان المسنين، الذين تتزايد حصتهم باستمرار. الآن يتم سد هذا العجز من قبل الدول - الجهات المانحة لموارد العمل، ولكن في العديد منها، لا سيما في تلك التي ترتبط ارتباطا وثيقا بروسيا، من المتوقع حدوث انخفاض في إمكانات الهجرة، حيث يتطور الاقتصاد بسرعة كبيرة هناك ويتم إنشاء فرص العمل. وهناك المزيد والمزيد من البلدان التي تعاني من نقص في موارد العمالة والتي تتطلب مهاجرين. "بالنظر إلى الديناميات الديموغرافية، من الآن ممكن أن نقول إنه في العقود القادمة ستبدأ البلدان في التنافس على المهاجرين المحتملين، وليس تسييج نفسها بالحظر، كما هو الحال الآن"، يعتقد إيغور إفريموف. "بمرور الوقت، سيصبح من الصعب بشكل متزايد على روسيا التنافس على هذا المورد مع أسواق العمل في تركيا وكوريا الجنوبية ودول الخليج والصين وبولندا ودول أوروبية أخرى" .[14]

***

أ.د. سناء عبد القادر مصطفى

الأكاديمية العربية في الدنمارك

.........................

مصادر البحث:

1. الأعمال التجارية (B2B)، وتسمى أيضا B-to-B، هي شكل من أشكال المعاملات بين الشركات، مثل تلك التي تنطوي على الشركة المصنعة وتاجر الجملة، أو تاجر الجملة وتاجر التجزئة. تشير الأعمال التجارية إلى الأعمال التجارية التي تتم بين الشركات، وليس بين شركة ومستهلك فردي. يتناقض التعاون بين الشركات والمعاملات بين الشركات والمستهلكين (B2C) والمعاملات بين الشركات والحكومة (B2G).

2. أليكسي فيديف في اجتماع المجلس الاستشاري العلمي للأمم المتحدة، 04.03.2023.

3. بيانات المسح من معهد غيدار ومعهد Stolypin، 8/1/2023 .

4. معهد غيدار، مسوحات شهرية لسوق الصناعيين الروس، في الفترة من أيلول/سبتمبر إلى كانون الأول/ديسمبر 2022. 8/1/2023.

5. نفس المصدر السابق، 8/1/2023.

6. أليكسي فيديف حول كيفية تكيف الاقتصاد الروسي مع العقوبات وما ينتظرها، معهد غايدار للسياسات الاقتصادية. 18/1/2023 المصدر السابق. 3/2/2023.

7. مسوحات حالة الأسوق لمعهد غيدار، موسكو، 28/1/2023.

8. سيرجي تسوخلو: "استبدلت الشركات الروسية قطع الغيار والمعدات المستوردة من الدول غير الصديقة بأخرى صينية" . معهد غيدار للسياسات الاقتصادية، موسكو، روسيا الاتحادية 3/2/2023

9. صحيفة كوميرسانت باللغة الروسية، االجهاز المركزي للإحصاء في روسيا الاتحادية Rosstat ومعهد Gaidar للسياسات الاقتصادية. 25/2/2023.

10. صحيفة كوميرسانت باللغة الروسية، م مسح أجراه معهد غيدار (IEP) لممثلي المؤسسات الصناعية.7/2/2023.

11. سيرغي تسوخلو، رئيس مختبر معهد غيدار لاستطلاعات السوق، صحيفة كوميرسانت . نتائج حالة مناخ الأعمال في الصناعة في شباط /فبراير 2023. 20/2/2023.

12. صحيفة كوميرسانت، نتائج الموجة الثانية من استطلاعات فبراير2023 للشركات الصناعية حول عواقب وقف توريد الواردات ورحيل الشركات المصنعة الغربية من الاتحاد الروسي، التي أجراها معهد غيدار، موسكو، 4/3/2023.

13. إيغور إفريموف: "في العقود المقبلة، ستبدأ البلدان في التنافس على المهاجرين المحتملين. مجلة الخبير باللغة الروسية. 13/2/2023.

[1] الأعمال التجارية (B2B)، وتسمى أيضا B-to-B، هي شكل من أشكال المعاملات بين الشركات، مثل تلك التي تنطوي على الشركة المصنعة وتاجر الجملة، أو تاجر الجملة وتاجر التجزئة. تشير الأعمال التجارية إلى الأعمال التجارية التي تتم بين الشركات، وليس بين شركة ومستهلك فردي. يتناقض التعاون بين الشركات والمعاملات بين الشركات والمستهلكين (B2C) والمعاملات بين الشركات والحكومة (B2G).

[2] أليكسي فيديف في اجتماع المجلس الاستشاري العلمي للأمم المتحدة، 04.03.2023

[3] بيانات المسح من معهد غيدار ومعهد Stolypin، 8/1/2023 .

[4] معهد غيدار، مسوحات شهرية لسوق الصناعيين الروس، في الفترة من أيلول/سبتمبر إلى كانون الأول/ديسمبر 2022. 8/1/2023.

[5] نفس المصدر السابق، 8/1/2023.

[6] أليكسي فيديف حول كيفية تكيف الاقتصاد الروسي مع العقوبات وما ينتظرها، معهد غايدار للسياسات الاقتصادية. 18/1/2023

[7] سيرجي تسوخلو: "استبدلت الشركات الروسية قطع الغيار والمعدات المستوردة من الدول غير الصديقة بأخرى صينية" . معهد غيدار للسياسات الاقتصادية، موسكو، روسيا الاتحادية 3/2/2023.

[8] المصدر السابق. 3/2/2023.

[9] مسوحات حالة الأسوق لمعهد غيدار، موسكو، 28/1/2023.

[10] صحيفة كوميرسانت باللغة الروسية، االجهاز المركزي للإحصاء في روسيا الاتحادية Rosstat ومعهد Gaidar للسياسات الاقتصادية. 25/2/2023.

[11] صحيفة كوميرسانت باللغة الروسية، م مسح أجراه معهد غيدار (IEP) لممثلي المؤسسات الصناعية.7/2/2023.

[12] سيرغي تسوخلو، رئيس مختبر معهد غيدار لاستطلاعات السوق، صحيفة كوميرسانت . نتائج حالة مناخ الأعمال في الصناعة في شباط /فبراير 2023. 20/2/2023.

[13] صحيفة كوميرسانت، نتائج الموجة الثانية من استطلاعات فبراير2023 للشركات الصناعية حول عواقب وقف توريد الواردات ورحيل الشركات المصنعة الغربية من الاتحاد الروسي، التي أجراها معهد غيدار، موسكو، 4/3/2023.

[14] إيغور إفريموف: "في العقود المقبلة، ستبدأ البلدان في التنافس على المهاجرين المحتملين. مجلة الخبير باللغة الروسية. 13/2/2023.

البشرية اليوم في نضال دؤوب من أجل تغير العالم إلى تعددية الاقطاب بدل القطب الواحد.

سيأتي وقت يكون فيه هذا الحاضر ذكرى، وسيتحدث الناس عن عصر عظيم وعن أبطال مجهولين صنعوا التاريخ، وليكن معلوما أنهم ما كانوا أبطالا، انهم بشر لهم أسماء وقسمات وتطلعات وامال، وأن عذبات أصغر هؤلاء شأنا ما كانت اقل من عذابات من خلدن أسماهم.

(يوليوس فوتشك)

لقد عانت البشرية معانات كلفتها الكثير من الخسائر البشرية بالدرجة الأولى وكذلك المالية والاقتصادية والاحتلالات لبلدنا، من خلال الحروب التي اندلعت في القرن العشرين الأولى ادت بسقوط الدولة العثمانية التي سيطرت على الكثير من البلدان، وكان الدين الاسلامي، الذي سارت رافعة رايته حتى فاتحة في استمرار البلدان الأوربية ذات التوجيهات الدينية، اليهودية والمسحية، وانتهت الحرب العالمية الأولى، إلى سقوط الدولة العثمانية في المشرق والمغرب، وهيمنت دول استعمارية جديدة على الكثير من البلدان سيطرة فرنسا وانكلترا على بلدان الشرق الأوسط، وفي أفريقيا غزا الاستعمار البلجيكي دولة الكونغو وغزت البرتغال دولة انغولا وغينيا بيساو وموزنبيق، كما هو معروف ان الاستعمار لهذا البلدان جاء من أجل نهب ثروتها الطبيعية مثل النفط والغاز والكبريت والذهب واليورانيوم والقهوة والكاكو وغيرها من المعادن وكذلك المحاصيل الزراعية.

وجاء المستوطنون البريطانيون البيض الى جنوب افريقيا واحتلوها واقوموا دولة المستوطنين البيض وضطدهدوا سكانها الاصليين من ذو البشرة السوداء وتعاملوا معهم بمبدأ العبودية، ولم يدم بقائهم بنهب ثروات الشعوب وتعاملهم تعامل (السيد للعبد) وحتى طال الزمن ام قصر.

و بدء أدلوف هتلر وحزبه النازي في نهايةالثلاثينات من القرن الماضي بشن الحرب على دول اوربا وسيطر على دول في اوربا واحتلالها الواحدة تلو الاخرى، حتى نقض اتفاقية عدم الاعتداء مع الدولة الاشتراكية السوفيتية، وبدء الحرب على بلد السوفيت واحتل أجزاء كبيرة وفرض الحصار على المدن الرئيسية ومنهامدينة لينينغراد والذي دام الحصار لفترة طويلة عانى من هذا الحصار سكان المدينة البطلة، وعندما أنتهت الحرب في التاسع من أيار عام 1945 ، برفع راية الجيش الأحمر السوفيتي على الرايخستاغ الألماني وانتحر هتلر، وعقد مؤتمر يالطا للدول المشاركة في الانتصار، حيث شارك فيه جوزيف ستالين والحلفاء، ونستن تشرشل رئيس وزراء المملكة المتحدة وكذلك رئيس الولايات المتحدة الامريكية روزفلت، وفي هذا المؤتمر تشكلت سياسة الاقطاب التي شاركت بهزيمة النازية الهتلرية والفاشية الإيطالية بقيادة موسليني، وتشكلت الأمم المتحدة ومجلس امنها بعد عصبة الأمم، ولقد لعب الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية المشكلة بعد الانتصار، دورا كبيرا في مساندة حركات التحرر الوطني في اسيا وأفريقيا للتخلص من الاستعمار بكل أشكاله، وذلك بتقديم المعونات المالية والاقتصادية ودعم القوى والاحزاب الوطنية فيها، وكان للدول الامبريالية بقيادة الولايات المتحدة، أن تشكل حلفا عسكريا سمي بحلف الناتو (حلف شمال الأطلسي) وضم دول اوربا الغربية وأقيمت في بلدانها قواعد عسكرية موجهة ضد الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية بحجة الخوف من التمدد ما سمي انذاك بالخطر الشيوعي، مما جعل الاتحاد السوفيتي أن يقوم بخطوة مماثلة، بتشكيل حلف عسكري سمي بحلف وارشوا باسم عاصمة جمهورية بولونيا الاشتراكية، وأصبح هذا الحلف الند لحلف الناتو.

و في قيادة ميخائيل غربوتشوف للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي وطرح برنامجه في (العلانية وإعادة البناء)، استغل الغرب ومجموعة من داخل الحزب وفي مقدمتهم بوريس يلسن تدهور الوضع الاقتصادي وبدء التامر على الحزب والسلطة السوفيتية مما أدى إلى تفكك الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية، وبذلك انتهى عصر الدولة الاشتراكية الأولى التي قادها لينين ورفيقه ستالين وقادة الحزب الشيوعي السوفيتي، وأصبحت روسيا الاتحادية تسير وفق النظام الاقتصادي الراسمالي وسمي (بسياسة اقتصاد السوق)، وانتهى حلف وارشوا ولكن الغرب تمسك بحلف الناتو، بقوته وتسليحه، وأصح العالم يسير بسياسة القطب الواحد وبقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.

واليوم وبعد اوغلت امريكا بسياستها المعادية للشعوب، للهيمنة على اقتصادياتها وثرواتها المعدنية والنفطية والزراعية، وفي التامر على الأنظمة التي تمردت عليها وانتهجت سياسات مستقلة، وذلك بالانقلابات العسكرية وكانت المهمة الأساسية تقع على تنفيذها بيد المخابرات المركزية (CIA)، وهناك أمثلة عديدة مثل تشيلي ونيكارجوا وفنزويلا والبرازيل والعراق وايران واندنوسيا وغيرها من البلدان في اسيا وأفريقيا.

و بعد أن وصل السيل الزبى في أوكرانيا عند استلام النازية الجديدة السلطة وأصبحت بقيادة زلينسكي، اقدمت الولايات المتحدة الامريكية على انشاء قواعد عسكرية ومختبرات للحروب الجرثومية، متأخمة لحدود روسيا الاتحادية، وأصبحت جمهورية روسيا الاتحادية بين فكي كماشة أوكرانيا من جهة وحلف شمال الأطلسي(حلف الناتو) من جهة أخرى والمخابرات الأمريكية هي المخطط لكل ما يعمله ويقدمه لهم الرئيس الاوكرايني زلينسكي وحكومته والاعتداءات بالقصف المستمر على جمهوريتي دانيسك ولوغانسك ذات الحكم الذاتي والتي تقطنها أغلبية روسية، مما حدى بالقيادة الروسية تدارس الوضع الذي يشتد خطورة يوم بعد آخر، وخرجوا بقرار سمي (بالعملية العسكرية الروسية الخاصة)، من أجل دفع الخطر المحدق بالاتحاد الروسي، ودخلت الحرب عامها الثاني مع تصاعد الضربات العسكرية لكلا الطرفين روسيا واسلحتها المتطورة وكذلك امريكا ودول الاتحاد الأوربي والناتو تومول أوكرانيا بالسلاح والمال ولهما مصلحة في استمرار المعارك بين الطرفين من أجل انهاك روسيا عسكريا وماليا علما بأن الولايات المتحدة الامريكية اتخذت قرارات في الحصار على روسيا وكذلك شاركتها دول الناتو في الغرب الأوربي، وامريكا لها مصلحة في بيع السلاح إلى أوكرانيا التي هي اليوم بات مثقلة بالديون وهذا سيكلف الشعب الاوكرايني الدفع لسنوات بعد انتهاء الحرب، وانقطاع الغاز الروسي عن اوربا في ظل شتاء قارص وتخريب انبوب الغاز لسيل الشمالي.

وفي هذا الوقت الذي تعلن جمهو ية الصين الشعبية أن تيوان هي جزء من الجغرافية الصينية ويجب أن تعاد كما عادت هونك كونك إلى أحضان الصين الام، ولكن الولايات المتحدة تمد تايوان بالسلاح، وتقوم بفعاليات حربية على حدود الصين ومنها المناورات العسكرية المشتركة بصنوف من التشكيلات الجوية والأرضية وكذلك البحرية، والصين كانت تراقب هذه الاستفزازات العسكرية من قبل تايون والولايات المتحدة الامريكية. ومن هنا تعالت الأصوات من جمهورية روسيا الاتحادية وجمهورية الصين الشعبية، لوضع حد لسياسة وهيمنة القطب الواحد في العالم امريكا، وأصبحت تعددية الاقطاب مسألة مهمة يجري العمل بجد عليها، وهناك دول أخرى تقف إلى جانب التعددية ومنها الهند والبرازيل وجمهورية جنوب افريقيا، وأصبحت المجموعة المسماة مجموعة البريكست وهي تحالف أقتصادي ضم كل من جمهورية روسيا الاتحادية وجمهو ية الصين الشعبية ودولة الهند والبرازيل وجمهورية جنوب أفريقيا.

أمريكا اليوم تعاني من انقسامات حادة بين الرئيس بايدن الديمقراطي ومكارثي رئيس مجلس النواب من الحزب الجمهوري حيث بلغ سقف الدين الأمريكي 31،4 ترليون دولار أمريكي، وحذر خبراء اقتصاديون: (من أن فترة طويلة من التخلف عن السداد من الممكن أن تؤدي بالاقتصاد الأمريكي إلى حالة من الركود العميق مع ارتفاع معدلات البطالة ومن ثم زعزعة استقرار نظام مالي عالمي يعتمد على السندات الأمريكية، ويساعد المستثمرون لمواجهةأثر ذلك). وبذلك تسير الأمور بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية نحو الانهيار الاقتصادي، وازدياد البطالة، وكذلك عمليت القتل للسود اي زيادة التميز العنصري وضرب حقوق الإنسان، أضافة لما جرى في منطقة الشرق الأوسط من مصالحات بين السعودية وايران بوساطة جمهورية الصين الشعبية والموافقة على أقامة علاقات دبلوماسية، وعودة الجمهورية العربية السورية إلى عضويتها في مجلس الجامعة العربية، بعد إحدى عشر عاما، لتأخذ مكانها الفاعال، وكل هذه الأمور تسير بعيدة عن التدخل الامبريالية الأمريكية في المنطقة، والأمل اليوم سيكون هو القرار للشعوب والدول في أقامة عالم متعدد الاقطاب.

***

د. محمد جواد فارس - طبيب وكاتب

لم يعد العالم ينظر لإسرائيل ويتعامل معها كما كان الأمر في العقود الماضية وخصوصا في العقدين المواليين لقيام هذا الكيان، وبدأ التحول بعد عدوان 1967 واحتلال إسرائيل لبقية فلسطين بالإضافة الى الجولان السورية وسيناء المصرية. قبل ذاك الزمان كانت تسود الرواية اليهودية الإسرائيلية الصهيوني التي تزعم أن إسرائيل دولة وواحة للديمقراطية وتسعى للسلام ولكنها محاطة بملايين العرب المتوحشين وغير الديمقراطيين الذين يريدون رمي اليهود بالبحر وأن الفلسطينيين إرهابيون يريدون تدمير دولة إسرائيل، ومع قبول الفلسطينيين والعرب بعملية السلام واحتكامهم للشرعية الدولية ثم تنكر إسرائيل لهذه الشرعية وللاتفاقات الموقعة ومواصلة عدوانها على الفلسطينيين وخصوصا في عهد حكومات نتنياهو العنصرية خدت انزياح كبير عن الرواية الصهيونية لصالح الرواية الفلسطينية التي تقول بأن إسرائيل ككيان كولونيالي عنصري ومعاد للسلام، وأنه كان مخدوعا بالرواية الإسرائيلية. 

نلمس هذا التحول في تبني الأمم المتحدة لذكرى النكبة وإحيائها في مقر الجمعية العامة و هذا تأكيد من الأمم المتحدة بأن المشكلة الفلسطينية بدأت عام 1948 وهو عام النكبة وتشريد الفلسطينيين من أرضهم وهذا التصرف من الجمعية العامة للأمم المتحدة يساعد الفلسطينيين على العودة للمطالبة بقرار التقسيم بعد فشل التسوية على أساس قراري مجلس الأمن 242 و 338، أيضا نلمسه من خلال حملات المقاطعة الأكاديمية والرياضية والتجارية الخ للكيان الصهيوني التي تعلن عنها جامعات ومؤسسات وحتى برلمانات غربية، أيضا المظاهرات والمسيرات المؤيدة للفلسطينيين والمعادية للممارسات الصهيونية في كثير من مدن الغرب.

وفي نفس الوقت نشهد تحركات للملمة الخالة العربية تبشر بصحوة تُخرج العالم العربي من حالة الفوضى التي خططت لها واشنطن ونجحت فيها جزئيا من خلال ما يسمى الربيع العربي، والمصالحات العربية العربية، والعربية مع دول الجوار، وعودة سوريا للجامعة العربية أبرز هذه التغيرات، وحتى إن لم تكن القضية الفلسطينية على رأس أولويات قمة جدة إلا أن مجرد التئام شمل العرب وتجاوز خلافاتهم السابقة قد يفتح مجالا للاهتمام بالقضية الفلسطينية لاحقا.

هذه الصحوة والمتغيرات على المستوى العالمي يمكن إرجاعها إلى ما يلي:

1- وجود جيل جديد في الغرب تحرر من سطوة الخطاب والرواية اليهودية والصهيونية التوراتية والسياسية، كما أنه متحرر نسبيا من مواقف وسياسات دولهم، هذا الجيل أكثر انفتاحا على العالم ومتواصل مع شعوب العالم من خلال الثورة المعلوماتية وما أنجزته من تعدد لشبكات التواصل الاجتماعي.

2- سلوك وممارسات إسرائيل الإرهابية والعنصرية مع الشعب الفلسطيني، وحملات العدوان على قطاع غزة وما تنشره الفضائيات من مناظر قتل المدنيين والأطفال وهدم البيوت الخ صدمت الشعوب الغربية وحركت لدى بعضها الكامن في ضميرها وثقافتها من احترام لحقوق الإنسان ورفض العنصرية وتجربتهم السابقة مع النازية.

3- التحركات الدبلوماسية للقيادة الفلسطينية في الأمم المتحدة وخارجها وحملات المقاطعة مثل P.D.S بالإضافة الى فعاليات وأنشطة أبناء الجاليات الفلسطينية والعربية في الخارج.

4- وصول حكومات يمينية عنصرية ومتطرفة للسلطة في إسرائيل استفزت ممارساتها وتصريحاتها العنصرية ليس فقط الرأي العام في الغرب بل استفزت أيضا بعض الحكومات، مثل تصريحات وزير الأمن بنغفير وتصريحات الوزير سموترتش الذي نفى حتى وجود شعب فلسطيني.

5- تراجع الوضع الاقتصادي في غالبية دول الغرب وخصوصا في الولايات المتحدة الامريكية، والشعب في تلك البلدان يحمل المسؤولية للسياسات الخاطئة لحكوماتهم في التعامل في مجال السياسات الدولية وأنها تنفق على الحرب في أوكرانيا وعلى إسرائيل كثيرا من المال على حساب الاحتياجات الأساسية للشعوب.

أما بالنسبة للمتغيرات على الساحة العربية فتعود إلى ما يلي:

1- انكشاف مؤامرة ما يسمى الربيع العربي والدور الأمريكي والإسرائيلي في انطلاقها وتوجيه مسارها لتدمير الدول العربية.

2- ما مارسته الإدارة لأمريكية وخصوصا في عهد ترامب من سياسة الابتزاز للعرب بل وإهانة قادتهم كما تجلي في زيارة ترامب للسعودية ودول الخليج في مايو 2017.

3-وقوف واشنطن وتل أبيب موقف المتفرج على اعتداءات دول الحوار- خصوصا تركيا وإيران- على دول عربية وانتهاك سيادتها حتى تلك الصديقة للغرب مثل استهداف قوات الحوثي للسعودية وقصفها بالصواريخ.

4- زيادة الممارسات الإرهابية والعنصرية بعد الموجة الثانية من التطبيع بين دول عربية وإسرائيل، وهو ما أدى لحالة غضب عند قطاع شعبي يتزايد كل يوم، وتبلور رأي عام عربي يتلمس الخطر الصهيوني وأهدافه الخطيرة في العالم العربي وليس في فلسطين وحدها وخصوصا بعد تصريحات وزراء في حكومة نتنياهو كما تم ذكره، وهذا يقلق الأنظمة ويجعلها تخشى من ردة فعل شعبية.

5- استمرار صمود الشعب الفلسطيني وإصراره على المقاومة والتصدي لقطعان المستوطنين في محاولاتهم اقتحام المسجد الأقصى.

6- تلمس دول عربية بأن دول الجوار وبعض جماعات الإسلام السياسي وظفت القضية الفلسطينية لخدمة اجندتها ومشاريعها القومية مستغلة تراجع الاهتمام والدعم العربي للفلسطينيين.

هذا التحول في الرأي العام العالمي والعربي حتى وإن كان متواضعا ومعرض لانتكاسات يحتاج لتغييرات في السياسة الفلسطينية الرسمية والحزبية لتوظيف ما يجري لصالح القضية الوطنية، وللأسف فإن منظمة التحرير وبقية الفصائل الفلسطينية ما زالت تدور في حلقة مفرغة بل وتكرر نفس الشعارات والمواقف والممارسات وأحيانا بشكل أكثر رداءة، وهذ1 ما نلمسه من خلال:

1- غياب أي بوادر لتفعيل حوارات المصالحة أو إعادة بناء واستنهاض منظمة التحرير، حتى مبادرة الجزائر للمصالحة تم نسيانها إن لم يكن وئدت في ايامها الأولى.

2- تكريس الانقسام بشكل نهائي خصوصا بعد الحربين الأخيرين على غزة وعدم مشاركة حماس، ويبدو أن هذه الأخيرة حققت ما كانت تصبو له منذ قيامها بالانقلاب على السلطة وهو فيام كيانية إسلامية إخوانية تحكمها حماس.

3- حل الدولتين بالمنظور الفلسطيني وصل لطريق مسدود ولا يوجد في الأفق القريب إمكانية قيام دولة وحتى سلطة واحدة تجمع غزة والضفة.

4- كما أن رفع بعض الفلسطينيين لشعار الدولة الواحدة لم يعد عمليا وواقعيا لعدم التوافق عليه فلسطينيا ولا توجد معطيات تساعد على نجاحه، وفي المقابل تسعى إسرائيل وتعمل على حل الدولة الواحدة اليهودية والعنصرية.

5- بالرغم من صمود الشعب والعمليات البطولية الفردية أو التي تقوم بها كتائب جنين وعرين الأسود إلا أنه من غير المتوقع الانتصار على العدو أو حتى إجباره على الجلوس لطاولة المفاوضات، لأن هذا الشكل من المقاومة يحتاج لعنوان سياسي يوظف المقاومة في إطار مشروع سياسي وطني. ويحتاج لحاضنة شعبية وإسناد بأشكال متعددة من المقاومة في كل أماكن الشعب الفلسطيني

6- ما زالت حركة حماس تعمل خارج منظمة التحرير ولا تعترف بها كممثل شرعي ووحيد للشعب ولا تخفي تطلعها للسيطرة على المنظمة أو الحلول محلها في تمثيل الشعب، كما أنها تعمل على إضعاف وإنهاء السلطة في الضفة.

7- خروج غزة من ساحة المواجهة مع العدو خصوصا بعد الجولتين الأخيرتين من المواجهة والانقسام الحاصل في جبهة المقاومة.

وأخيرا، إن لم تتحرك قيادة منظمة التحرير بسرعة وتستوعب جيدا ما يجري في العالم فسيتم تجاوز القضية الفلسطينية كقضية سياسية لحركة تحرر وطني وسيتم التعامل معها كقضية إنسانية كما كان الأمر قبل ظهور الثورة الفلسطينية منتصف الستينيات، أو تسعى دول وجماعات وتحت شعار مناصرة ودعم الحق الفلسطيني إلى صناعة قيادة ونظام سياسي فلسطيني جديد يتجاوز المنظمة وفصائلها.

***

إبراهيم ابراش

لقد دأبت أن أسمع من شيوعيين حاليين وسابقين وغيرهم ممن يتاثرون بالثقافة الغربية (وأكثرهم عن بعد وليس عن معايشة) آراء تروج لمفاهيم "العلمانية" و"المدنية" و"الليبرالية" فاعتبرت ذلك -بالنسبة للشيوعيين المنتمين- نوعا من التصورات الشخصية التي لا تمثل رأيا رسميا للحزب الشيوعي كأبرز ممثل لليسار وقد عللت ذلك بأن الحزب قد تخلى عن الصرامة التنظيمية أو ما يسمى بالمركزية الحزبية التي كانت سائدة طيلة حياة الحزب وأخلت مكانها للتنوع في الآراء. غير أن تقديري ذاك قد سقط عندما سمعت مقابلة مع السكرتير العام السابق للحزب السيد حميد مجيد موسى وهو يقول، في معرض رده على سؤال حول تحالفات الحزب، ما يفيد أن تحالفهم مع أياد علاوي حصل لأن السيد علاوي كان "مدنيا" و"ليبراليا". ومما يلفت الانتباه أن المقابلة كانت على قناة تابعة لما يسميه اليساريون وآخرون غيرهم "الفصائل المسلحة" التي طالما دعوا إلى حلها ورفضوا أن تشارك في العملية السياسية فيكون لها ممثلون في مجلس النواب أو الحكومة.

ويمكن أن نلاحظ أنه بعد 2003 عندما عاد الجزء الأكبر من الكادر الشيوعي من المنفى وراح يفصح عن مواقفه، أن المنهجية الماركسية في التفكير والتحليل المتبناة قديما – رغم حقيقية ضعفها السائد في الجزء الساحق من الكادر الحزبي بما في ذلك القيادي قديما وحديثا–  قد استبدلت بمنهجية أو ببساطة موقف يتسم  بالتعالي على واقع ووعي جماهيري جديد لم يعد يخضع كما كان لثنائية بعثي (قومي)-شيوعي والتنافس تارة والصراع تارة أخرى (حتى في ظل التحالف بينهما فيما ما سمي ب"الجبهة الوطنية التقدمية") الذي وسم تاريخ العلاقة بين ذينك الحزبين أو الاتجاهين.  وبدلا من العمل على فهم التحولات التي طرأت على هذا الواقع قبل 2003 ( ولو أن معظمها يمكن أن يوسم بأنه ذا طابع رجعي) والديناميات الجديدة التي أطلقها الانتقال السياسي والاقتصادي بعد 2003 وناتجهما الاجتماعي ومآلاتها المحتملة، من أجل بناء تصور خاص حول التغير المطلوب أو اتجاهه وما هي القوى الفاعلة التي برزت بعد ذلك التاريخ، جديدها وقديمها، والتي يمكن إيجاد أرض مشتركة معها لا تقوم بالضرورة على قاعدة التقارب الفكري بل على قاعدة رؤية مشتركة لعملية البناء السياسي بالدرجة الأولى كونها تحتل أهمية مركزية في ضوء التجربة السياسية المؤلمة التي مر بها الجميع قبل 2003، أقول بدلا من ذلك اختاروا الهروب أو الإنعزال عن هذا الواقع و الارتماء على فراش مقولات قديمة استوردت من التجربة الغربية ومنها "العلمانية" "والمدنية" كمفاهيم اجتماعية والليبرالية كمفهوم اقتصادي.

وعدا حقيقة أن ذلك يمثل نكوصا بل انزياحا  كاملا عن  الماركسية كنظرية اقتصادية واجتماعية بما لا يترك أي مبرر للحديث عن حزب شيوعي بحكم التناقص بين أن تكون شيوعيا وليبراليا في نفس الوقت، نلاحظ أن هذه المقولات باتت تستخدم بشكل حصري كأداة نقد موجهة نحو الأحزاب الدينية وكأن هذه الأحزاب قد كرست برامجها وسياستها لمحاربة هذه المفاهيم وهو ما يخالف الواقع تماما ليس لأن منهج هذه الأحزاب لا يتوافق مع هذه المفاهيم بل لأنها لم تجعل مهمة التصدي لهذه المفاهيم تحتل أولوية لديها بحكم غرابة هذه المفاهيم عن الواقع العراقي. فبالنسبة لمفهوم العلمانية فالعراقيون لا يواجهون مشكلة اسمها الصراع أو التناقض بين الدولة والإسلام كمؤسسة غير مدنية بحكم أن الإسلام ليس فيه مؤسسة تعلو على سلطة الدولة وتعيق عملها وتقف معرقلا أمام التطور كما كانت الكنيسة المسيحية عشية صعود البورجوازية كقوة اقتصادية واجتماعية مهيمنة في أوربا وجدت في الكنيسة عامل معرقل لاستكمال هيمنتها ولعملية التطور بشكل عام لما كانت عليه تلك المؤسسة المسيحية من قوة مالية وتأثيرا على الجمهور المسيحي الأمر سمح لها بالتدخل في الشؤون السياسية. وطوال تاريخ الإسلام، ولنقل خلال العصر الأموي والعباسي على وجه التحديد، كان كبار رجال الدين يخضعون لسلطة الدولة بل يتعرضون أحيانا إلى اضطهادها كما حصل مثلا مع الإمام أبي حنيفة عندما رفض أن يستجيب لطلب الخليفة العباسي ابي جعفر المنصور بأن يتولى القضاء فرفض بإصرار فكان مصيره السجن حتى توفي فيه.

وإذا أردنا أن نتحدث عن المرجعية الشيعية  كمؤسسة قد يعتبرها البعض مرادفا للكنيسة المسيحية فنقول ليست المرجعية الشيعية مرجعية سياسية ولا تلعب دورا سلطويا أو سياسيا و لا تتدخل في التعيينات للمناصب كما كانت الكنيسة المسيحية ولم تحاول المرجعية أصلا أن تطرح مشروعا سياسيا وأبقت نفسها على مبعدة من السلطة الحاكمة الجديدة بل مارست النقد الشديد ضد سلوكيات هذه السلطة . ويمكننا من باب المقارنة أن نذكر بشكل عابر أن المرجعية الدينية في إيران قد اقحمت نفسها بالسياسة منذ وقت مبكر عندما اتخذت موقفا ناقدا بل مناهضا لنظام الشاه وهذا أمر يتعلق بتاريخها وإرثها، ثم وبعد الثورة الإيرانية في 1979، لعبت دور المشرف والرقيب على السلطة السياسية الجديدة بطريقة لم تؤد إلى تهميش السلطة السياسية وتحويلها إلى مجرد واجهة لها لأنها أدركت في وقت مبكر أن وجود سلطة سياسية تمثيلية تستمد شرعيتها من الشعب عن طريق الانتخابات تهتم بحياة الناس وتعمل على تحسين شروط معيشتها وتدير علاقات إيران بالإقليم وتهتم بالقضايا الدولية  بطريقة مهنية (علمانية) شرط ضروري لاستمرارية الدولة...أما في العراق فقد مارست المرجعية دور الناقد للسلطة ولم تطرح مشروعا للدولة تتبناه هي ، ولم تمنح الأحزاب الدينية موافقة غير مشروطة أو حرية مطلقة لما تفعله في الحكم واحتفظت لنفسها فقط بدور الرقيب الأخلاقي للنظام السياسي وسلوك السياسيين وهذا ما ظهر في نقدها المستمر لمظاهر الفساد المالي والإداري في أجهزة الدولة ودائما ما حثت الأحزاب السياسية على الإصغاء لمطالب الجماهير الحياتية وعدم جعل الناس ضحية لخلافاتها وصراعاتها السياسية. كما أنها لم تمارس الفيتو على أي طرف حتى عندما بلغت مظاهر الفساد، كما في حكومة الكاظمي، حدودا مشطة وتركت للأحزاب مهمة التصدي لمعالجة الوضع الناشئ...

من الناحية الأخرى فإن الأحزاب الدينية التي يعارض وجودها اليساريون ومعهم الليبراليون- وإن وجدت فلا يجوز عليها أن تلعب أكثر من دور ثانوي أو ملحق في السياسة- لم تطرح يوما مسألة اعتماد  الشريعة الإسلامية كمصدر وحيد أو حتى رئيسي من مصادر التشريع. بل أنها ساهمت في كتابة دستور وصفه  (ربما بشكل مبالغ فيه نوعا ما) علي بن الحسين الذي كان قد أسس حزب الملكية الدستورية في 2003 بأنه من أكثر الدساتير ليبرالية في المنطقة العربية...

أما بالنسبة للاقتصاد فالأحزاب الدينية تؤمن بحق التملك كمبدأ يقره الإسلام وبالاقتصاد الحر واتبعت الحكومة العراقية دوما سياسة قائمة على تشجيع القطاع الخاص بل أن العراق يمكن أن يعد أكثر دول العالم ليبرالية على الصعيد الاقتصادي من حيث عدم وجود أي قوانين تعرقل أو تحد من نشاط القطاع الخاص، وأقلها فرضا للضرائب عليه ولم نرها تفرض ضرائب على مداخيل حتى أولئك الذين يمارسون أكثر من نشاط اقتصادي بل أن عدد كبيرا ممن يمارسون نشاطا اقتصاديا، تجاريا بشكل خاص، هم موظفون لدى الدولة وهم أمر غير مسموح به في أي من الأنظمة. وكمثال توضيحي مقارن على ما قلت أورد ما قال لي أحد الفنانين التشكيليين العراقيين الذين كانوا يعيشون في هولندا ويتقاضون معونة من الدولة أن الشرطة الهولندية عندما رأته يقوم بممارسة نشاط فني في الشارع بأن يقوم برسم بورتريهات شخصية لمن يرغب مقابل مبلغ مالي متواضع أبلغته أنه يجب أن يبلغ مصلحة الضرائب بما يحصل عليه من مدخول إضافي، مما يترتب عليه بالطبع أما خفض مبلغ معونة الدولة أو فرض ضرائب عليه. فأين ليبراليتهم الاقتصادية أمام ليبراليتنا؟

ولا أستطيع أن أرى هدفا ساميا من وراء  الترويج لتلك المفاهيم  سوى اختلاق موضوعة للصراع تحت العناوين التي ذكرت في وقت لم نر في تجارب البلدان النامية التي حصلت على استقلالها من الاستعمار الغربي منذ الخمسينات (أتحدث عن الدول العربية بشكل خاص)  أن أي منها اتبعت فيها أحزاب السلطة أو الزعامات المتنفذة في فترة ما بعد التحرر مفاهيم العلمانية والمدنية كمقدمة أو كشرط للسير في طريق التطور والاقتراب من المنجز الغربي قد حققت نتيجة يمكن التفاخر بها كأن بلغت تطورها مستوى ماليزيا أو سنغافورة أو أندونيسيا ولن نقول الصين أو الهند بل أنها لاتزال حتى يومنا هذا وبعد عقود من الاستقلال تعاني من أزمات اقتصادية واجتماعية متكررة ناتجة عن ارتباط اقتصاداتها الوثيق باقتصاديات الغرب. كما يمكن أن نلاحظ أن بلدانا عربية عديدة انعكست فيها هذه المفاهيم سلبا على الواقع نتج عنه حالة من الاغتراب فتحت الطريق لصعود التيار الديني كبديل يطل براسه كلما تعمقت أزمة هذه الأنظمة والذي ترافق مع نكوص اليسار وضياعه خاصة بعد انهيار المنظومة الاشتراكية. أما الليبرالية، الاقتصادية منها بشكل خاص، فإنها تشهد نهايتها المدوية في بلدان أمريكا اللاتينية لما أنتجته من معاناة لشعوبها أفضت طريقها لصعود قوى اليسار من جديد مع إدراك واضح أن تخلي الدولة عن مسؤولياتها الاجتماعية وكمنظم وموجه للنشاط الاقتصادي كما أملته السياسة الليبرالية المفروضة من الغرب- الولايات المتحدة بشكل خاص- كانت سببا رئيسيا في الأزمات التي شهدتها تلك البلدان نتيجة تطبيقها للسياسات الليبرالية..

وكما رأينا فإنه فلا الصين في تطورها الذي اختصر الزمن و لا الهند التي تسير بخطى الصين ولا ماليزيا و لا فيتنام على سبيل المثال التي هي مقصد الاستثمارات الغربية ومنها في قطاع التكنولوجية المتقدمة قد اعتمدت شعارات العلمانية والمدنية لتعبأ شعبها وتقوده نحو البناء الاقتصادي والاجتماعي كما ولم تتبع سياسة لبيبرالية قائمة على تخلي الدولة عن مسؤولياتها لذلك نراها أقل البلدان معاناة من الأزمات الدورية للنظام الرأسمالي...

ويتكأ اليساريون في نقدهم  على الأخطاء التي رافقت عملية إعادة بناء النظام السياسي بعد 2003 ليلقوا باللائمة على الأحزاب الدينية متجاهلين عن عمد كل التحديات الخطيرة التي واجهت تلك العملية من أجل إفشالها. لا تنكر حتى الأحزاب التي لعبت دورا مؤثرا في عملية البناء السياسي وجود أخطاء في عملية فريدة تختلف تماما عما شهده العراق في تاريخه الحديث العراق من حيث التعقيد ومن حيث القوى العديدة الداخلية والخارجية التي تدخلت في العملية السياسية  كعامل معرقل في وقت كان فيه التجريب سيد الموقف. وهذا التجريب لم  ينبع برمته من حقيقة غياب كامل للرؤية أو التصور حول ما يجب أن يكون عليه النظام السياسي الجديد من أجل تجنب تكرار مآسي الماضي بل ناشئ بدرجة كبيرة عن غياب المعرفة بالآخر ونواياه. والآخر هنا يضم طائفة واسعة من القوى القديمة التي عارضت النظام السابق مقابل أخرى ظهرت مع الوضع الجديد الناشئ عن الإحتلال وتدمير جهاز الدولة القديم ومعظمها لم يمكن يملك رؤية سياسية بسبب سياسة التجهيل والانقطاع عن العالم الخارجي الذي كانت تعيشه قبل 2003...

وهناك عامل آخر مكمل لما أسميته عدم المعرفة بالآخر وهو يتعلق بموقف دول الجوار الإقليمي من السلطة الناشئة فقد ناصبت معظم هذه الدول العداء للسلطة الجديدة وهذا العداء كان ناتجا عن خليط معقد من الطائفية والخوف إذ بينما كان الموقف السوري ناتج عن الخوف من الامتداد الأمريكي كان خوف الدول الأخرى ناتج  عن الموقع القوي الذي احتلته الأحزاب ذات الاتجاه الديني (خاص الشيعية منها) في النظام الجديد رغم أن هذه الدول ناصبت النظام السابق العداء وساندت السياسة الأمريكية ضده وساهمت مساهمة كبيرة في تشديد الحصار عليه. ويبدو أن حلمها كان نظاما يهيمن عليه المعروفون لديها والمسندين من قوى الغرب ليس بصفتهم كعلمانيين أو مدنيين لأن هذه الدول ليست بالأصل علمانية أو مدنية حيث تحكمها عائلات أو مشايخ. وفعلت هذه الدول ما فعلت من تشجيع وتمويل المنظمات الإرهابية مما ألحق دمارا ماديا كبيرا بما تبقى من البنى التحتية التي كانت بالأصل مهترئة نتيجة  الدمار السابق الذي ولده الحصار...

لقد ابتلى العراق ردحا طويلا من الزمن بالصراع بين القومية واليسار وسفكت في ذلك دماء كثيرة دون أن ينتج عن هذا الصراع سوى دمار البنى الاجتماعية بسبب الاستقطاب الحاد الذي نشأ عن هذا الصراع وانقسام المجتمع وراء شعارات جميعها ذرتها الرياح سواء القومية منها أم اليسارية. واليوم أرى أن هناك محاولات لتأجيج صراع من نوع آخر بعد أن خلت الساحة من القوميين ولم يبق من اليسار سوى بقايا مشتتة تتخذ من الخصومة منهجا لا تستند فيه إلى نظرية أو فلسفة تفوق الماركسية (التي هجروها) اتساقا فأي فلسفة أو حتى فكرة جاذبة تحويها الليبرالية وأين نجحت تطبيقات ما لم نعتبر أن زيادة الفقراء فقرا في الدول التي اتبعت سياسة اقتصادية واجتماعية ليبرالية نتج عنها تعمق تبعيتها للمركز الرأسمالي ومعاناة من أزمات اقتصادية متكررة، نجاحا؟ وإذا كان باستطاعتنا أن نجد ألوفا مؤلفة من مواطني الدول الاشتراكية سابقا ممن همشتهم الليبرالية وجعلتهم يعيشون على الكفاف وحرمتهم من جميع المنافع الاجتماعية (التعليم والنقل والسكن والصحة المجانية أو بمقابل تافه) يحنون لذلك العصر فأين يمكن أن نرى من يمكن أن يتأسى على عصر الليبرالية غير حفنة من الرأسماليين أو الأغنياء الجدد الذين يمارسون نشاطا اقتصاديا طفيليا؟

وإذا ما تحدثنا عن الليبرالية بنسختها الاجتماعية أو الثقافية التي يحاول الغرب والولايات المتحدة بشكل خاص  فرضها حتى على حلفائه الممتنعين من الدول التي دخلت حديثا نادي أوربا  وأكثرها من دول أوربا الشرقية، ومنها بولندا وهنغاريا بشكل خاص، اللتان تمتلكان تقاليد مسيحية قوية فهذه يتم السكوت عنها من طرف اليسار. لقد تعرض الشيوعيون في تاريخهم إلى الكثير من الدعاية التي تتهمهم، عدا الإلحاد، باحتقار الأعراف والتقاليد ووصل التشويه بهم إلى حد اتهامهم بالإباحية. عندما شنت حكومة البعث حملة اعتقالات ضد الشيوعيين في أواخر السبعينات نقل أحد المعتقلين الشيوعيين بعد خروجه بعضا من الحديث الذي دار بينه وبين ضابط الأمن الذي كان يحقق معه، قال أن الضابط قال له:

"أنتم الشيوعيون تعتبرون المرأة ملكية مشتركة".  فكان ردي عليه:

"ليس صحيحا، فنحن نعتبر وسائل الانتاج المادي (السلعي) ملكية مشتركة والمرأة ليست وسيلة إنتاج مادي"...

على خلفية هذا الحديث  أستطيع القول من باب السخرية أن ذلك الضابط لو إطلع على ما تروج له الليبرالية الثقافية المعاصرة القادمة من العالم الراسمالي، وليس الشيوعي، من احتقار لكل أشكال التقاليد والروابط الأسرية والاجتماعية وتعتبرها قيدا على الحرية الشخصية وإباحتها لكل سلوك فردي "طالما كان لا يلحق أذا بأحد" لشعر بالخجل من اتهامه ذاك. الترويج للمثلية والزواج بين نفس الجنس وقائمة طويلة من الممارسات غير المألوفة التي تدخلها  الليبرالية الثقافية ضمن نطاق الحريات الفردية  والتي باتت تدرس للأطفال كجزء من المناهج هي في حقيقتها هي واحدة من الخيارات الإلزامية المرافقة لليبرالية الاقتصادية. لقد وصف الرئيس الأمريكي جو بايدن الذي تصفه وسائل الإعلام الغربية بأنه "بيدوفايل"  (كلمة  انكليزية من أصل إغريقي وتعني "ميال جنسيا للأطفال") وصف رئيس وزراء هنغاريا وبولندا (قبل الحرب الروسية الأوكرانية) بأنهم أوغاد لأنهم رفضوا الامتثال لمطالب الغرب بالسماح للترويج لهذه المفاهيم و تدريسها في مدارس الأطفال. هذه الليبرالية الثقافية التي يروج لها البعض هي الوليد الشرعي لليبرالية الاقتصادية....

كل ذلك يجري في وقت يعاد فيه الاعتبار للتحليل الماركسي الاجتماعي على نطاق واسع في كل مكان في العالم الأمر الذي يجعل الشيوعيين بحاجة إلى مراجعة فكرية مبنية على التحليل الماركسي يمكن من خلالها مناقشة دور الإسلام كظاهرة اجتماعية تاريخية وليست كعقيدة ميتافيزيقية فالحواضر الإسلامية وعلى رأسها حاضرة الدولة الأموية في الأندلس التي ربما تكون الإرث الحضاري الوحيد لإسبانيا شاهدة على مدنية الدولة تلك لإنها ببساطة لم تنشغل ببناء الجوامع وملاحقة من لا يتبع الشريعة الإسلامية بل أنشأت اقتصادا زراعيا وصناعيا وصرحا علميا وأدبيا ترك أثرا عميقا في الغرب. فالعرب والمسلمون قادرون على انتاج مدنيتهم الخاصة بهم فليست المدنية والعلمانية الغربية مصدر إلهام لأحد خاصة وأنها مرتبطة بالغرب الرأسمالي الذي لم يتخل عن فكرة المركزية الأوروبية التي يجب أن تهيمن حتى على شعوب ودول عظمى ذات تاريخ عريق مثل روسيا والصين

فما بالك على بلداننا الضعيفة التكوين...

إن الماركسية التي هجرها أصحابها القدامى العراقيون رسما وابقوها إسما يشهد منهجها في البحث والنظر وكذلك منظورها الطبقي عملية إحياء غير مسبوقة على يد مفكرين كبار في الغرب نفسه. وبهذا الصدد نود بحدود معرفتنا المحدودة أن نورد بضعة اقتباسات أحدها قديم: فهذا لين هاملتون غرانت في فصل "ما بعد الحداثة والسياسة" من كتاب "دليل ما بعد الحداثة" لستيوارت سيم يقول متحدثا عن المفكر الوجودي الفرنسي سارتر:

"عندما تحرك صوب التصالح مع الماركسية معلنا في خاتمة المطاف أنها" الأفق الذي لا مهرب منه لجميع ضروب التفكير في القرن العشرين"...

:  وفي موضع آخر من الفصل يصف غرانت الماركسية بأنها

.."أعظم ذخيرة مكتملة من الذخائر النقدية"

ثم حنا بطاطو ( الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية في العراق) وهو يدافع عن اعتماده المنهج الماركسي الطبقي في تحليله للواقع الطبقي في العراق:

"إن رفض التحليل الطبقي لاحتمال توافقه مع أيديولوجيات معينة فحسب أمر غير مقبول تماما من وجهة نظر البحث العلمي"...

وفي موضع آخر من نفس الكتاب:

"إني وجدت من الصعب علي  ألا أوافق جيمس ماديسون وكارل ماركس وماكس فيبر على أن "الملكية" و "الافتقار إلى الملكية" يشكلان العنصرين الأساسيين لوضع الطبقة وأن هذا التضاد يحمل بذور العلاقة التنافرية".

وأنا متأكد من أن أولئك الأوفر إطلاعا مني قادرين على أن يضيفوا الكثير من هذه الشهادات...

***

ثامر حميد

سَّكَ اليابانيون مصطلح "كاروشي"، للإشارة إلى أولئك؛ الذين يسقطون ميَّتين، من كُثرة التعب، نتيجة قيامهم بعملٍ يومي مُجهد. التجارب السياسيَّة العراقيَّة، لمُغادرة النظام الطائفي والعرقي في البِلاد، بعد 2003م، أُصيبت جميعُها بـ "كاروشي"، الأمم المتحدة.

يونامي، أو بعثة الأُمم المتحدة لمساعدة العراق، كانت التمارين السويدية؛ التي اتفق عليها المجتمع الدولي، لمساعدة النظام الذي أوجده الاحتلال الأمريكي؛ على تكييف سُمنته الطائفيَّة والعرقيَّة، الناتِجة من التِهام، بطاطس الديموقراطية، المقليَّة على سُرفات اليانكي.

يونامي، تعملُ منذُ عشرون عاماً، كقاعة للكمال الديموقراطي. تحديداً، منذُ إصدار مجلس الأمن، في 14 أغسطس 2003م، القرار رقم (1500)، ليُعيد بعدها تجديد القاعة، في مايو 2022، بالقرار 2631.

نسأل: ما الذي حققته يونامي لتمنع "كاروشي" السياسة في العراق وتقليل تأثيرات بطاطس السُرفات؟

استطاعت توسيع حصَّة الأمم المتحِدة، في البلاد، إلى أربعة وعشرين جهازاً، يُديرها أكثر من ستمائة موظف. طبعاً، لا أحد يعرِفُ بالضبط، مقدار الأموال، التي تستهلِكُها تلك الأجهزة ومُشغليها، من الميزانيَّة العراقيَّة، ومخصصات الدعم الدولي للبلاد. لكن يونامي، تمتَّعت دائماً ببرامجِ عملٍ، من النوع البرَّاق والرنان. مثلاً، "الحوار السياسي الشامل"، "المصالحة الوطنية والمجتمعية"، "المساعدة في العملية الانتخابية"، "تيسير الحوار الإقليمي بين العراق وجيرانه"، "تعزيز حماية حقوق الإنسان"، و"الإصلاح القضائي والقانوني".

الواقع في بغداد، بعيداً عن نيويورك، إنَّ العراق، عُملة كازينو دولي، يُديروه مُشغِّلون إقليميون. لهذا فإنَّ ما تحقق من برامجٍ، لم تكُن ورائه نعمة أُممية، ولا حراثة يوناميَّة. ما علينا إلَّا أن نُذكِّر، بأنَّ علاقة العراق مع جيرانه، تحسَّنت، لأنه لَعِبَ دوراً إعلانيَّاً، لمرهم إزالة التشنج الجيواستراتيجي، بين طهران والعرب، لطقطقة جسد الصفقة النووية، في فيينا.

المِثال الآخر، هو الحوار الجاري الآن، بين الكُتل السياسيَّة. حقيقتُه، إنَّهُ مفروض من واشنطن، لاستمرارية دعم النظام. خُلاصتُه تنحيف حجم الميليشيات، وتسمير جِلد النظام، "الشيعي - الكردي"، بمزيدٍ من الصبغة "السُّنية"، والعَلمانيَّة، ذات اللثغة النيولبراليَّة.

يونامي، وباعترافٍ غير مباشر، من إحدى شقيقاتِها الأُمميات، لجنة الاختفاء القسري في العراق، لم تنجح؛ لا في تحقيق المصالحة المجتمعيَّة، ولا في حماية حقوق الإنسان، إذ كشف تقريرُ الشقيقة، في أبريل 2023م، إنَّ النظام، ساهم بإشغال الأراضي العراقيَّة، بمزيدٍ من ضحايا السجون، المعتقلات، وانتقائيَّة قانون "أربعة إرهاب"، المُخصَّص لاصطياد "السُّنة"، من قبل "شيعة السُلطة". والجُملة السابِقة، ليس تخفيفاً لثُقل الحقائق، وإنّما حقيقة لا نفع فيها، لكثيرٍ من الوطنيين! لأنها حطبٌ رطِب، لا يحترق، في المدخنة الديموقراطية، للعم سام.

المساعدة في العملية الانتخابيَّة، لم تحصل هي الأُخرى. انتخابات مجالس المحافظات، في أكتوبر 2023م؛ ستدخل الصيدليَّة الحزبيَّة، لتناول فياغرا نظام سانت ليغو الرياضي، وبالتالي تسهيل هضم صوت الناخب. ما يعنيه ذلك، وباختصار، جُملة، اقترِحُ على شخوص النظام الحالي، استخدامها، في مجالسِهم الخاصَّة: صوَّت أو لا تصوَّت فالصندوق لنا.

يونامي، اشتغلت على الشكل الخارجي للنظام. عمِلت كغسَّالة اُممية فول استراتيجية أمريكية، لتنظيف النظام، وتسويقه أبيضاً، على حبل المجتمع الدولي. حتّى الاعترافات بالأداء البشع لهذا الهجين "المؤطلس" - الأطلسي- كانت وبالاختزال والتصرُّف في كلمات، نورينا هيرتس، عن دليل جمعية "روكوس" للاحتجاج، ومقرُّها كاليفورنيا، مسرحيَّة لـ: " استغفال ضمير العالم، باستخدام دموع مُزيَّفة، تملأ علبة شامبو سفرية، لأن منظر الدموع، لديه تأثيرٌ جيد وثمين على جمهور الأمم المتحدة".

أقرأ، أسمع، وحلِّل، كُل إحاطة، قدَّمتها ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة في العراق، جينين بلاسخارت، منذُ 2018 وحتّى يومِنا هذا؛ ستجِدُ تلَّة من حِبال الغسيل وعُلب الشامبو. عند سؤالِ يونامي، عموماً، إن كان وضع العراق، يحتمِلُ التدوير الحاصل لهذا النظام، تُجيبُك: "نحن بعثة مساعدة لا مُراقبة"!

يبرز هُنا سؤال، يدفعُنا لتجديد السؤال عن ماهيَّة يونامي، مفادُه: ما سبب إخفاق البعثة الأُممية لمساعدة العراق؟

نبدأ بجون بولتون، والذي شغِلَ منصِب، السفير الأمريكي إلى الأمم المتحدة، في عهد الرئيس بوش الأب. قيمة الأمم المتحدة لديه، بحسب ما نقل عنه البروفيسور إيان شابيرو: " لا يوجد شيء أسمهُ الأمم المتحدة وإذا فقدت الأمانة العامّة في نيويورك عشراً من طبقاتها فلن يُحدث ذلك فرقاً كبيراً".

الخط البياني، لتعامل واشنطن مع الأمم المتحدة، يُرينا شيئاً آخر. إنَّها لا تستطيع الاستغناء عنها، والاتيان بواحِدة جديدة. روبرت كيوهان، يشير إلى ما يُشبِه قانوناً، يتبعهُ الجميع: " إنّ كُلفة إنشاء المنظمات الدولية أكبر من كُلفة المحافظة عليها". المقصود هنا، وعلى الأرجح، الكُلف المعنويَّة، الثقة في الأداء، وقابليَّة التحوَّل من سيفٍ لبعض الدول (قرارات مجلس الأمن وحقِّ الفيتو)، إلى درعٍ لمعظمها (قرارات الجمعية العامَّة للأمم المتحدة).

إدارة يونامي، للأعمال الأُممية في العراق، ترتدي نظَّارة بولتون، وتُشبِه دليل جمعية "روكوس" لدعم المحتجين، من شخوص النظام، على المجتمع الدولي. السياسي العراقي، محمد إقبال، يُقدِّمُ لنا دليلاً، نختصِرهُ، وبدون تأثيرٍ يُذكر، على نسبة عنصر بولتون، في إداء يونامي:" تنتقي الملفات الداخلية، يفضلون اللقاءات الخاصة مع كبار المسؤولين وإحاطتها بسرية كبيرة، لتتمخض عنها بيانات تتناول الخطوط العامة، دون ذكر التفاصيل".

دليل عملُها كـ "روكوس" لصالح النظام، ودوافع ذلك، بحسب إقبال، وباختصارٍ أيضاً: " إنَّ بعض الشخصيات التي تولت مسؤولية البعثة، كانت تشوبها العديد من شبهات الفساد، مما انعكس على حياديتها، تجاه العديد من قضايا حقوق الإنسان ونتائج الانتخابات التي جرت منذ عام 2003، والحكومات كانت حريصة على بقاءها، لدرء الشبهات عنها؛ فيما يتعلق بتقارير المنظمات الدولية، عن انتهاكات حقوق الإنسان. بقاء يونامي، نوع من الحماية الدبلوماسية للحكومات في العراق".

إنَّ يونامي، والعديد من الجهات الأٌممية، العاملة في العراق، لا تحترم حتّى حرية التعبير في العراق، رغم تأكيد ممثلته على أهميَّة هذا الحق، في تفاصيل إحاطتها الأخيرة. جرَّب مثلاً كما فعلنا، أن توجِّه أسئلةٍ صحافية، إليها. مباشرةً، تصبح هذه المنظمات نحلاً، يُلقِّحُ المسؤولين العراقيين، باللقاءات. الهدف أن لا تضطر يوني لإجابتك!

الإحاطة الأخيرة للممثلة الأُممية، ورغم اتهامها بتصعيد النبرة تجاه النظام، لا يعدو سوى رقصة تانغو، مع إعلان الرئيس بايدن، تمديد حالة الطوارئ في العراق، القرار (13303)، وبالتزامن مع تصريحات السفيرة رومانوسكي؛ التي ربطت الملف الاقتصادي بوضع الميليشيات.

نتيجة رقصة نيويورك وواشنطن، كانت تمديد مجلس الأمن، لأعمال يونامي، في العراق، يوم 18 مايو 2023، لسنة إضافيَّة. تحديداً، إلى نهاية مايو 2024م. أمّا في بغداد؛ فقد أدَّت إلى ارتفاع، مبيعات البنك المركزي العراقي، خلال خمسة من الأيام الماضية، إلى ما فوق المليار دولار! كردٍّ إيراني على التطنيش الأمريكي، لدفعِ ثمن ضبطِها، للإيقاع الميليشاوي، في الفترة الماضية.

بعد كُلِّ ما تقدَّم، نُبارِك لـ يونامي، دخولها، السنة الحادية والعشرين، من الزواج مع النظام السياسي العراقي، مُحذِّرين الراغبين في تغييره، من "النضال الأُممي". متسائلين إن كانت ستقوم في سنتِها الجديدة، بدورٍ مختلف، يُساعد في إعراب المستقبل العراقي، بقواعدٍ وطنيَّة.

***

مسار عبد المحسن راضي وناجي حرج

كاتب وباحث عراقي/ المدير التنفيذي لمركز جنيف الدولي للعدالة

البرازيل ذات الأمجاد الكروية والعمارات الشاهقة والتمثال الضخم للسيد المسيح الشامخ فوق أعلى ربوة تطل على العاصمة ريو دي جانيرو. البرازيل الجمال الخلاب في التنوع الجغرافي والمظاهر السياحية، واحتفالات البهرجة الجسدية واللونية بمختلف تجلياتها وألوانها. البرازيل تتفوق على الكثير من دول العالم في وفرة السماسرة لكل شيء ولأجل أي شيء، مثلما هي الأكثر في تنوع الحريات والصخب والشجار الضاج في الحارات والشوارع، وكذلك في وسائل الإعلام من صحف ومحطات تلفزيون، ومن أكثر شوارع العالم تنوعا في نماذج الدعارة والبغاء والمخدرات وجرائم القتل.هذا هو الوجه المليء بالمساحيق والألوان الفاقعة والهادئة، الذي يمثل صراع الأضداد في أكبر وأغنى بلد في أمريكا اللاتينية.

ولكن الأهم من كل ذلك، البلد يملك كومة كبيرة من الأغنياء ذوي الثراء المفرط، وفي ذات الوقت متخوم بوفرة عالية من الفقراء والمعوزين، أو الذين يعيشون على هامش الحياة، ويسكنون في مدن الصفيح الراقدة على مرمى حجر من أرقى الأحياء وأغناها.هذا المشهد لا يختلف بتفاصيله عن وقائع الحياة اليومية التي تعيشها شعوب عديدة أخرى في أمريكا الجنوبية. ومثلما البرازيل فأن تلك البلدان قد مرت بذات الدورة التي أرادتها لها الإدارة الأمريكية، حين قررت تنفيذ موديل خاص  لتلك الشعوب.

جهد عساكر انقلاب عام 1964 في البرازيل وحلفائهم من إداريي الشركات الأمريكية ومرتزقتها الوطنيين، على صناعة الموديل الذي يستطيع أن يقود السلطة ببراعة وقناعة ثابتة، توحي بالاستقرار الظاهر وفي ذات الوقت تقدم ما يطمئن مصالح الشركات وعصابات المافيا والمرتزقة الملتحقين بركبها. لقد كانت عملية البناء مكلفة وصعبة جدا وقدمت لأجلها الكثير من التضحيات المادية والبشرية. ولكن مردوداتها المعنوية والمادية لصالح القوى الرأسمالية أظهرت جدوى ما بذل من أجل بناء مثل هذا الموديل.

ربما ذات العنوان المدون فوق وجه ملف مشروع موديل أمريكا اللاتينية، هو ذات الاسم الذي أطلقته الإدارة الأمريكية على المشروع المخصص لمنطقة الشرق الأوسط، وبذات المواصفات ولكن مع اسم محدد (مشروع دمقرطة المنطقة) وبتحويرات تتناسب وخصوصيات الشرق. تشابه عجيب يأتي من جعبة واحدة ربما ترقد فيها مشاريع مستنسخة لمناطق أخرى مختارة من العالم.

مع مرور الوقت والاكتشافات المشجعة للمصالح والتي صاحبت تطبيقاته، جعل الخيار يستقر على تسمية (موديل أمريكا اللاتينية) كونه نفذ ونجح نجاحا باهرا في الكثير من بلدان قارة أمريكا الجنوبية، بدأً من البرازيل وشيلي وليس انتهاءً ببيرو وبوليفيا وكولومبيا والأكوادور وغيرها. وكانت دوافع تسريع إجراءات تنفيذ الموديل على أرض الواقع

حينذاك، هي الخوف من انتشار ما سمي بجرثومة الشيوعية .حيث انتابت الولايات المتحدة والشركات الكبرى الساندة لسياساتها، جراءها هستريا تحولت مع الوقت إلى عصاب وهوس مجنون،باعتبار أمريكا اللاتينية ذات أهمية حاسمة ومنطقة ذات بعد استراتيجي حيوي لا يمكن التفريط بها، لذا فقد وضعت وفق ذلك خطط وبرامج لمحاصرة المد الشيوعي من خلال الهجوم لتدمير ليس فقط مناطق وبؤر الحركات اليسارية وإنما محاصرة شعوب أمريكا اللاتينية والضغط عليها بالقدر الذي يجعلها أكثر طواعية لمصالح الولايات المتحدة ومن ضمنها مصالح الشركات.

استغلت الروابط الاقتصادية كأفضل نهج يتخذ لخنق أي انحراف عن الطريق، واستخدمت لذلك الهدف جميع وسائل وأسلحة الخسة لدحر التفكير بالاستقلال أو الشروع بالتحرر أو بناء الدولة الوطنية.وبفضل العملاء والمرتزقة من العسكر عمت بلدان أمريكا اللاتينية موجة متعاقبة من انقلابات عسكرية دموية.ولكي تكتمل المهمة فأن طرق الإعداد كانت توجب الاعتماد على إجراءات حاسمة ودقيقة تبدأ أولا بوضع العربة على سكة طريق التنمية الرأسمالية وفق توجيهات صندوق النقد الدولي، الذي يضع في مقدمة شروطه غير القابلة للنقاش، وجوب نهج سياسة إصلاح هياكل الاقتصاد لتتوافق وخطط الصندوق الدولية وحرية التجارة. وهذا لوحده لا يكفي، وإنما البرامج التي ظهرت بعد كل تلك الانقلابات كانت تؤكد على رغبة جامحة لدى الإدارة الأمريكية وحلفائها الوطنيين لوضع الدولة ومؤسساتها بين فكي كماشة القوة المتمثلة بالعسكر والنفوذ المالي المتمثل بالشركات المسيطرة على الاقتصاد الوطني، لذا فقد كان برنامج الإدارة الأمريكية متشابهاً في جميع بلدان أمريكا الجنوبية وبذات الخطوات ، وأتي مباشرة بعد كل انقلاب قام به العسكر في تلك البلدان، ولم يراعِ في التطبيق أي اختلاف في الخصوصيات الوطنية لشعوب المنطقة بالقدر الذي روعي نمط الإجراءات ونسق الأفعال وتدقيق النتائج المرتقبة ومن ثم تطويرها أو تشديدها لتكون أكثر فاعلية وايجابية لمصالح الولايات المتحدة.

نص المشروع أو الموديل على عدة محاور تتفرع عنها العديد من النقاط الحاسمة التي تنتهي إلى ذات الغاية وهي السيطرة الكاملة على البلد وجعله ضمن خارطة البلدان المنخرطة في خدمة الرأسمالية.  وتمثل الجزء الأعظم للموديل بما يلي

ـ دمج الاقتصاد الوطني بالرأسمال العالمي عبر تصحيح هياكله من خلال إرشادات وشروط تقنية ومعونات مشروطة تأتي من صندوق النقد الدولي، ومن ثم يتم وضع الاقتصاد تحت رحمة الشركات الكبيرة العابرة للقارات.وهذا التوجه سوف يفرز وبشكل ناجز زيادة هائلة بأسعار المواد ـ بطالة واسعة  ـ تقليص حجم صادرات البلد ـ تفشي الرشوة والمحسوبية وسرقة المال العام والفساد الإداري واستغلال الموقع الوظيفي كوسيلة للنهب والإثراء.وتكون نتائج كل تلك المساوئ خراب هياكل مؤسسات الدولة وصراعات اجتماعية اقتصادية كبيرة.

ـ إعادة هيكلة الجيوش وربط مؤسساتها بالجيش الأمريكي حيث يشمل ذلك التحكم بإمدادات السلاح ومهام التدريب والخطط العسكرية ومن ثم وضع الجيش كمعادل مهم وأداة في السياسة والاقتصاد واليد الساندة لسياسة الشركات الاحتكارية.

ـ السماح بتشكيل مليشيات تنشأ من رحمها عصابات (مافيات ) سياسية اقتصادية عسكرية تكون مهامها قيادة مؤسسات الدولة وتسيير الشؤون العامة للمجتمع وحركاته السياسية والاجتماعية. ومن خلال تلك العصابات تتحول حتى عمليات التسول والسرقات والتصفيات الجسدية وبيع المخدرات والأدوية وتجارة الرقيق والدعارة، وجميع الأعمال غير القانونية وغيرها إلى مهن ينخرط للعمل فيها الآلاف من البشر ومن ثم تصبح مصدر الرزق الوحيد لهم. ليصبح الفساد والعصابات بمختلف أنواعها جزء من بنية المجتمع.

تتخذ السلطات إجراءات ظاهرها يطمئن المواطن ويخفف من حدة وغلواء معارضته.وأولى تلك الخطوات تتمثل في فوضى الحرية أو حرية الفوضى (الفوضى الخلاقة حسب التعبير الرامسفيلدي) حيث يسمح للناس بممارسة مختلف الأفعال التي كانت السلطات السابقة تمنعهم من ممارستها، من مثل الحرية المطلقة للصحافة وإصدار النشرات وتشكيل الجمعيات والفعاليات بمختلف اتجاهاتها وتنوعها، الخروج بالتظاهرات والاعتراض على أي شيء. فتح محطات إذاعة و تلفزيون دون شروط أو رقابة، حرية السوق والمنافسة الاقتصادية، تخفيف إجراءات القضاء والأحكام ضد الجرائم بمختلف أنواعها وطبيعتها، تشجيع الحوارات والنقاشات بشتى المواضيع.

تعد الإدارة الأمريكية تلك الإجراءات والحريات وغيرها، الباب المفضي لخلق قاعدة اجتماعية سياسية اقتصادية تدين في الأخير بالولاء المطلق لمشروعها، حيث تفرز وتنتقى خلال تلك الإجراءات، مجاميع من المرتهنين والمتورطين الذين يشكلون في النهاية عصب الإدارة التي تأخذ على عاتقها حماية المنجزات والمكتسبات التي نفذت لصالح المشروع الأمريكي.وبالرغم مما يرافق تلك الإجراءات من فوضى وخروقات فجة لحقوق الإنسان وقسوة وجرائم، فإن الإدارة الأمريكية تصر على رفض التدخل الحكومي للحد من تلك الحريات وضبط المنفلت منها ولجم المساوئ التي ترافقها. لا بل تكون تلك الخروقات والتعديات في أخر السلم من اهتمامات الإدارة الأمريكية.

وبالرغم من جميع مظاهر الديمقراطية المتمثلة بحرية الصحافة والتظاهر وغيرها من الحريات، فان حصاد الفساد الذي خلفته وولدته طبيعة الموديل الذي أرادته الإدارة الأمريكية لشعوب أمريكا الجنوبية،ووضعت له ميكانيزم خاص، يبدو مفزعا وغير قابل للتصحيح ،لا بل يحتاج إلى قفزات واسعة وكبيرة وفاعلة في النشاط الوطني، ويحتاج تضحيات هائلة لتجاوز الواقع المتردي والمرير.

في المحصلة النهائية وضعت الإدارة الأمريكية ما يكفي من الألغام في الطريق ولذا فإنها أطمئنت لمستقبل الإحداث القادمة حتى وإن أسفرت الانتخابات عن مجيء شخصيات وطنية معادية لنهج الشركات والإدارة الأمريكية. فكومة المشاكل الداخلية سياسية كانت أم اقتصادية سوف تجعل تلك الشخصيات المنتخبة تتخبط في طرق إدارتها ومعالجاتها للمشاكل وتجد نفسها في نهاية المطاف محاصرة من قبل عتاة الشيطنة السياسية من المرتزقة، ووسط هياكل مؤسسات حكومية فاسدة ومافيات تدير شؤون البلاد والعباد، وفي النهاية ففترة رئاسة تلك الشخصيات الوطنية سوف تكون صراعا لا ينجز فيه غير الشحيح الذي لا يلبي أبسط الطموحات للشعب.

***

فرات المحسن

لا بأس أن نتصرف في المثل المصري القائل: (امشي عٍدل يحتار عدوك فيك)، فنقول بدلا من ذلك: (أعْدل وأنتج وكن واعيا يفتري عليك عدُّوك). بناء على ذلك فإن الغرب غبي حين يمنحك فرصة قياس عظيمة لتستدل من عدم رضاه عنك ثم تتأكد بأن موقفك سليم، لأنه لا يبتغي مسارك السياسي والاقتصادي والاجتماعي إلّا عِوجا، هكذا يشتهيك حتى يبدو هو قويّا في الجهة الأخرى، بالضبط كما يشتهي الغني الجائر أن يصبح كل الناس من حوله فقراء، أو كما يحب السياسي الأناني أن يكون السياسيون من حوله جهلاء لا يتقنون الجدل والمغالبة والحوار ليملأ الساحة وحده.

من الصعب جدّا أن ترضى عنك دولة احتلتك سابقا بناء على حكم مسبّق على أنك دون قيمة البشر الأحق بالحضارة، ومن الصعب أيضا أن ترضى عنك دولة في اعتبارها أنها دولة عُظمى وأنك دولة نامية، خصوصا إذا نصّبها مجلس أمن مزدوج المعايير، وأحيانا بعدد مهول من المعايير لا تطيقه دول متحررة حديثا تريد النهوض حتى لا تكون طعمه سائغة في فم مستعمر آخر، فيعطي شعبُها للتاريخ فرصة التكرار القبيح، أو يظل أبلها إلى يوم القيامة غير مبال بنفسه وهو يُلدغ من الجحر آلاف المرات.

كانت أوروبا في وقت غير بعيد مسرورة جدّا بما يحدث في الجزائر، البيرة المُنتجة في الجزائر، الخمرة التي صنفتها كأحسن منتج على مستوى عالمي، تصديريه للمنتجات بطريقة جزافية دون مراقبة نحو الاستهلاك الجزائري، وغياب قرار الجزائر كسيادة حول انفتاح أراضيها أمام نفاياتها المختلفة، حرية الخطاب لأعوانها وعملائها، صمت الشعب الجزائري حيال الفساد بجميع أنواعه ومناحيه، الحدود المفتوحة لمرور أجنداتها وأغراضها الممنوعة وغير الممنوعة، صمت القرار الجزائري حول كثير من الحقوق المنتهكة في عهد الاحتلال، تجنّب إلْحاحها على المطالبة بأرشيف الثورة المجيدة، وصمتها على وجوب اعتذار فرنسا من الشعب الجزائري، غياب الجزائر كدولة ذات تأثير على كثير من قضايا الشعوب المقهورة المظلومة، خصوصا القضيتين المحوريتين القضية الفلسطينية والقضية الصحراوية، وجود الإرهاب بمختلف مشاربه، الصراعات السياسية، الجوع البطالة، تفشي الممنوعات، طواعية الشعب لتوظيفه سلبا داخليا وخارجيا، ورضوخ الشباب لتوريطه في صراعات لا تعنيه خارج بلاده، سكوتها على استثمار مختلف الصحوات الدينية والاقتصادية والثقافية والسياسة لإثراء سياساتها وأجنداتها.. هذه حقبة كانت من منظور الاتحاد الأوروبي ومن منظور الغرب عموما حقبة ذهبية، وكانت حقوق الإنسان بهذا الوضع في أوج ازدهارها.

السؤال/ كيف يريد عدوك أن تكون ليكون سيدا أبديا عليك؟

كما الشيطان يبدّل مداخل غواية للناس، كذلك يفعل الغرب لإعادة النظر في أساليب احتلال الآخر أمام صحوته وفطنته وثراء ثقافته، وعموما أمام وعيه المتقدّم بما يحدث في العالم، فالعزف على وتر حقوق الإنسان بات موضة جديدة لحماية عملائه والدفاع عن ثقافته التي يعتقد أنه نصّبها، والذود عمّا يعتبرها مكاسب حقّقا سابقا بفضل احتلاله الغاشم.

{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} سورة البقرة:"120".

هذه الآية تختصر المسألة إلى حد الاكتفاء بها لنعرف خلفية الغرب اتفاقا حول أنهم كفّار باعترافهم هم وليس بحكمنا عليهم، ونحن كمسلمين علينا أن ننطلق من المنظومة الأخلاقية التي سطرها لنا الإسلام، حتى نكون واعيين بما هو مطلوب منّا، ولا أظن أن آباءنا وأجدانا الشهداء والمجاهدين أكثر تأخرا عن هذا الفهم ونحن في هذا القرن ننعم بما أتانا الله من علوم وثقافة، ونؤكد على أن المسالة مسالة فهم حتى لا تغيب عن إدراكنا المقاربة الحساسة بين أكاديمية الشهادة وأبجدية الفهم الذي لا يعتد على أي تحصيل معرفي بدء من محمّد الأمّي - صلى الله عليه وسلم - ولو أراده الله متعلّما لجاب به أقطاب الأرض، ومكنه من التعلم على يد أمهر الحكماء والكهنة والسحرة، ولكن الله أراده هكذا لئلّا يكون لأحد آخر فضل عليه سوى الله، حتى لا يكثر المتقولون حوله والمشككون في مرجعية الوحي والأحاديث، لا يجب أن نهمل هذه الثقافة لأنها المطية الأساسية لنعرف كيف يريدنا الاتحاد الأوروبي أن نكون ليعود بنا التاريخ إلى زمن بعيد، إلى كيف كان أبو جهل يريد من محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يكون، وكيف كان يريد منه كل من هرقل وكسرى أن يكون، وبماذا كان يريد كل منهما أن يعلم أتباعه كيف يكونون تحت سيطرتهما وجبروتهما.. ولكم أن تأخذوا من التاريخ ما طاب لكم من الأمثلة حول الطغيان وأطماعه في الهيمنة والسيطرة. إنها حروب سيادة وعلى الشعوب أن تكون في مستوى هذا التناطح الحضاري.

اعتمدت الدين الإسلامي إجابة على هذه المسألة حتى تكون الغلبة للأصلح، صدّا عن القوانين الوضعية لأنهم صُناعها وروّادها، وكم يغتاظون كلما قاربنا الدين بالقانون ولفظنا ما يخدمهم ويوسع مطامعهم، ويقلل من نفوذهم وسيطرتهم وطغيانهم ويكبح تبعيتنا لهم، ويرفض ما يستدرجنا للتطبيع معهم ومع أعوانهم وعملائهم.

إذن الصورة واضحة الآن، والجزائر لا بأس عليها وهي ماضية لتحقيق ما يزعجهم ويرضي الشعب من تحرر كلّي، ليمتطى صهوة المنافسة السياسية والاقتصادية والدينية، وستتقدم الجزائر حثيثا لتكون مؤثرة على مستوى المنصات السياسية العالمية على غرار ما تفعله الآن، ولن تتخلّى عن الشعوب المقهورة والمظلومة والمُهين عليها دفاعا ودعما بشتى الأنواع، فإذا كان يُغضبهم أن تكون الجزائر قوية فلتكن كذلك.

***

عبد الباقي قربوعه

اذا تمعنا جيدا في الاوضاع الدولية سواء في المنطقة العربية او في جوارها الاسلامي او في المحيط الهاديء والهندي، أوفي بحر الصين الجنوبي والشرقي،أ وفي شبه الجزيرة الكورية، أوعلى حافة اوروبا حيث تدور هناك الحرب في اوكرانيا. اضافة الى الاختناقات الاقتصادية في اقتصادات الدول العظمى والكبرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة؛ نلاحظ بصورة واضحة ان العالم يشهد خضات وهزات قوية؛ سوف تقود الى تغييرات عميقة واستراتيجية، تغير شكل العالم.. الولايات المتحدة تحاول بمختلف الطرق والوسائل ايقاف هذا التغير والتحول، او على اقل تقدير او احتمال ابطاء حركته، حتى يتسنى لها؛ ايجاد فسحة من الزمن للالتفاف عليه ومن ثم احتواءه لصالحها، في محاولة منها لإيقاف حركة تطور التاريخ هذه، ليس بالمعنى الميكانيكي، او بالطريقة التي تلغيه، بأفعال مضادة كابحة؛ لإيقاف حركته؛ لأن خبراء سياستها يدركون تماما ان هذا ضربا من ضروب المحال، بل، بأفعال ديناميكية؛ تفتح  بها، لها، طرق واتجاهات حركية في الاقتصاد والسياسية والتجارة والمال والاعمال، والشراكات في  هذه الصعد جميعها؛ بإيجاد بوصلة وخارطة طريق تفضي الى السيطرة على اتجاهات حركته في الحقول كلها وعلى مساحة العالم؛ لصالح بقاء، في هذه الحالة؛ هيمنتها الجزئية، بإعطاء هامش من المساحة للشركاء والحلفاء في صياغة وصناعة القرار الدولي على ان تكون هي في جوهر وصلب صناعة وصياغة هذه القرارات. بما يعني؛ تلبية حاجة التاريخ للتطور والتغير، طبقا لتفسيراتها ورؤيتها لهذا التطور والتغير. الولايات المتحدة الامريكية لم تغادر حتى اللحظة غرورها ونرجسيتها القاتلة لها مستقبلا، قبل غيرها، والتي لا ترى لأي تطور وتغير في العالم الا من زاوية نظرها هي لكل هذا الذي يحدث الآن في العالم، بالقفز على مشاكلها الداخلية، وعلى التقليص الجزئي لهيمنة الدولار حتى من اغلب شركائها في المنطقة العربية، وفي غيرها من مناطق المعمورة، ناهيك عن الصين وروسيا، وناهيك عن منظمة البريكس، وخطط هذه المنظمة باستخدام العملات الوطنية لدولها في التبادل التجاري والمالي والاقتصادي، ولو بدرجة قليلة في الوقت الحاضر، لكنه سوف يتوسع كما يعلن زعماء هذه المنظمة؛ الصين وروسيا والهند وجنوب افريقيا والبرازيل.. اضافة الى منظمة شنغهاي  واوراسيا. من ابرز واهم هذه الوسائل الامريكية، للسيطرة على التحولات التاريخية التي يشهدها العالم؛ هو محاصرة، او العمل على تطويق الدولتين اللتان تعملان، الصين وروسيا؛ على ايجاد الظروف والبيئة لتسريع عملية انضاج التحولات التاريخية والدفع بها الى السطح بزيادة عوامل انضاجها وسرعة هذا الانضاج على قطار التحول التاريخي و تدفع به ليتدافع؛ لأخلاء سكك السير لصالحيهما، مع قطار الكوابح الامريكية المركب على القاطرة الامريكية المتحركة بسرعة هستيرية على السكة المصممة امريكيا على اعتراض وتغير سير واتجاه قطار التحول التاريخي بالسيطرة على سكك هذا التحول التاريخي؛ لخدمة مخططها هذا. على هذا الطريق، تقوم امريكا بافتعال الازمات والمشاكل، مع الصين بالدرجة الاهم ومع روسيا بالدرجة الاقل مستقبلا والساخنة حاليا، والبالغة الخطورة عليها وعلى روسيا وعلى العالم ايضا، واقامة الشراكات والتحالفات مع الدول الاخرى والتي لها مشاكل ونزاعات ما، مع الصين؛ لتطويق الصين ومحاصرتها، واستفزازها. من ابرزها؛ هي قضية تايوان، بالإضافة الى النزاع في بحر الصين الجنوبي والشرقي. تعتبر الصين ان تايوان جزء من الاراضي الصينية طبقا للقانون الدولي وبالاتفاق مع الولايات المتحدة الامريكية في وقت سابق من القرن العشرين؛ عندما كانت الولايات المتحدة تتعاون مع الصين بالضد من الاتحاد السوفيتي، وحين كان هناك بين الصين والاتحاد السوفيتي، خلاف حدودي، والذي جرى حله، في وقت سابق من القرن الحادي والعشرين. لكن الولايات المتحدة تغيرت سياستها مع الصين منذ عام 2007فقد رأت ان التطور الصيني يشكل تهديدا جديا على مراكز قوتها وهيمنتها على العالم، ولو بعد عقود من ذلك التاريخ، وهذا هو الذي صار الآن؛ هاجسا امريكا يقض مضجعها، ويسبب لها القلق والخوف من هذا التطور في ظل عالم يتغير بتزاحم وتدافع عوامل وعناصر التغير لهذا العالم والتي هي اصلا، من طبيعة هيكلية هذا العالم، التي ما عادت هذه الهيكلية تستجيب او تلبي متطلبات هذه المتغيرات البنيوية والتاريخية والحاسمة في آن واحد لعالم اليوم. لذا نلاحظ هنا ان الصين منذ زمن ليس بالقليل؛ لها نشاط كبير في بحر الصين الجنوبي، ولم يثر هذا الاهتمام الامريكي، أو الخشية والقلق الامريكي من هذا النشاط، قبل سنوات كما هو الوضع الحالي، أو الاهتمام والقلق الامريكيين الحاليين؛ بما يجري في بحر الصين الجنوبي في الوقت الحاضر، كما انها (الصين) تعتبر تايوان جزء من الصين، وكما قلنا بدعم امريكي في الامم المتحدة في وقت سابق من القرن العشرين، وحتى لسنوات قليلة، لم تقم امريكا بما تقوم به في الوقت الحاضر من دعم لتايوان في مسار واتجاه يقود او ينتهي باستقلالها او على الاقل؛ لجم السعي الصيني بالعمل على ضمها الى البر الصيني؛ بأمدادها بالسلاح والدعم الاقتصادي والسياسي والثقافي، وتشجيع حكومتها بالتمرد على الصين؛ بإعلانها (امريكا) بانها لن تسمح للصين بضم تايوان بالقوة العسكرية وانها لن تقف على الحياد في هذا الصراع اذا ما اندلع في اي وقت. ان الصين من غير المحتمل جدا، ان لم اقل امرا اخر؛ لم تقدم على ضم تايوان بالقوة العسكرية في الوقت الحاضر، وفي الامد القصير، وما بعد القصير ربما بكثير، في ظل هذا التزاحم في الاحداث والحروب.. على الرغم من تصريح الخارجية الصينية مؤخرا؛ من ان الصين لن تقوم بضم تايوان بالقوة العسكرية، بل انها اي الصين تعمل سياسيا على عودة تايوان الى البر الصيني الام، الا اذا ما حدث تطور يتقاطع كليا مع هذه السياسة عندها سوف يكون للصين اسلوب اخر؛ والمقصود هنا بالتطور الذي قصدته الخارجية الصينية؛ هو اعلان تايوان الاستقلال او اي شكل اخر قريب من هذا التوجه حسب قراءتي المتواضعة لقصد الخارجية الصينية. القيادة الصينية تدرك ان هذا الضم وبهذه الطريقة لن يكون في صالحها، ويقوض من اندفاعاتها الاقتصادية الكبيرة جدا والواسعة جدا، هذا من جانب اما من الجانب الثاني فهي اي الصين لا تحتاج لهذا الضم العسكري وهي تعرف على وجه اليقين ان هناك في الداخل التايواني من يؤيد الانضمام الى البر الصيني الام، قوى واحزاب لا يستهان بها، ولها قوة وتأثير منتج في الشارع التايواني، لناحية نتائج الانتخابات في المقبل من الوقت، في تايوان. وحتى لو فازت الحكومة الحالية في هذه الانتخابات فمن المستبعد جدا ان لم اقل اكثر من هذا؛ ان تقم الصين بضم تايوان في الوقت الحاضر؛ لأسباب اقتصادية في اتجاهين، اولا خطط الصين في التوسع التجاري والاقتصادي في العالم، وما هو ذا صلة عضوية بهذا الجانب؛ الذي يتمحور حول التسويق الصيني لنفسها من انها تسعى الى حل النزاعات بالتفاوض وبالطرق السلمية، سواء ما هو يتعلق بها او بالنزاعات في العالم، وثانيا ما سوف تقوم به الولايات المتحدة الامريكية من تجيش للعالم اقتصاديا وسياسيا ضد مصالح الصين في العالم وعلى وجه التحديد في اوروبا وفي امريكا ذاتها؛ وتحطيم طروحات الصين؛ ببناء عالم خال من الحروب، يسوده الامن والسلام، والمنفعة المتبادلة؛ باستثمار تداعيات الضم الصيني بالقوة العسكرية لتايوان؛ اذا ما حدث وهو من الصعوبة جدا؛ ان يحدث، ان لم اقل اكثر من هذا. ان الدولتين العظميين، الصين وروسيا عقدتا شراكة استراتيجية، وعملا على تنميتها وتطوريها بجميع الاتجاهات؛ بنتيجة حاجتيهما لهذه الشراكة والتعاون، وليس الحلف العسكري على الرغم من ان روسيا تريده وتسعى إليها، إنما هي تدرك من ان الصين لا تريد هذا الحلف ان يكون واقعا على الارض؛ عليه فليس هناك في الافق اي حركة صينية في هذا الاتجاه او هذا المسار؛ ببساطة أنه لا يخدم استراتيجيتها، بل يتقاطع معها كليا. أما الحديث عن الحلف العسكري، بين روسيا والصين، او الحرب المقبلة مع الصين من قبل البعض من المسؤولين الامريكان؛ فهو من باب التخويف وشد الهمم وشحن العزائم لنخب الظل الامريكية، الصاحبة الحقيقية؛ في صناعة القرارات الاستراتيجية للولايات المتحدة الامريكية والتي تتركز؛ في زيادة الانفاق العسكري، وزيادة الانفاق في الاعمال المخابراتية لزيادة عدد الدول الشريكة او السائرة في الفلك الامريكي، بعد احداث التغيرات لأنظمة الحكم في الدول المستهدفة امريكيا، كما حدث مؤخرا في باكستان مثلا، وترسيخ وتثبيت الانظمة في الدول الأخرى التي هي اصلا ضمن النطاق الامريكي، مع وضع الموانع في تركيبتها السياسية والاقتصادية والعسكرية؛ للجم التفكير بالانفلات من القافلة الامريكية الدولية، او التقليل من التفكير بوضع احد اقدامها على الدرب الاخر المناوىء لها او المتنافس معها بالسيطرة على كل الدروب الكونية، والتوسع في الاحلاف والشراكات بين امريكا والدول الكبرى وغيرها من الدول التي تشكل طوقا حول مساحة التنافس، او الصراع، أو الصدام الانابي، بين امريكا من جهة وروسيا والصين من الجهة الثانية، الواقعة فعلا كما هو حال الحرب في اوكرانيا، او المفترضة والمتوقع الصراع فيها مستقبلا. في محاولة امريكية لأبعاد الصين عن روسيا او على الاقل التأثير على حجم وسعة وعمق الشراكة الصينية الروسية؛ تتوالى تصريحات للمسؤولين الامريكيين بأهمية التعايش السلمي والتنافس الشرعي والمشروع مع الصين؛ لتجنب الدخول في حرب باردة جديدة وكأن هذه الحرب ليست قائمة فعلا، وهي تغطية لحقيقة السياسة الامريكية اتجاه الصين بثوب ممتلىء بالثقوب الذي لا يحجب الواقع الموضوعي للصراع التنافسي بين القوتين العظميين الصين وامريكا وليس التعايش التنافسي السلمي. مؤخرا وفي تناقض صارخ مع واقع السياسة الامريكية هذه؛ تكلم المسؤولون الامريكيون عن اهمية التعايش التنافسي السلمي مع الصين؛ وزير الخارجية الامريكية، ووزيرة الخزانة الامريكية التي قالت قبل اسابيع من انه لا يمكن فصل الاقتصاد الامريكي عن الاقتصاد الصيني، وايضا وزير الدفاع الامريكي الذي طلب لقاء نظيره الصيني، لكن وزارة الدفاع الصينية لم ترد بالإيجاب، وطلبت من امريكا قبل السماح بلقاء الوزيرين؛ هو رفع العقوبات عن وزير دفاعها، حتى الآن لم تستجب امريكا لهذا الطلب الصيني. ان هذا لا يعني باي حال من الاحوال؛ تزكية للصين وروسيا، بل العكس هو الصحيح. إنما تغير النظام العالمي الحالي بنظام عالمي اكثر عدلا؛ يخدم دول العالم الثالث وحتى الدول متوسطة القوة..

***

مزهر جبر الساعدي

في زمن الفتن والاصطفافات الطائفية والهوياتية، تتضاءل فرص الاعتدال السياسي، وتزداد أشكال التشدد الديني والسياسي..

ولعل نظرة واحدة للعالم العربي اليوم، نكتشف أن من ضحايا الظروف الراهنة في المنطقة، هو تراجع الاعتدال السياسي، وبروز كل أشكال التطرّف والتشدد.. بحيث أصبح المعتدل في موقع الضعف والاهتراء.. وأصبح التشدد هو عنوان اللحظة الراهنة على كل المستويات..

وهذا بطبيعة الحال، يزيد من الاحتقانات والتوترات، ويعلي من شأن كل العصبيات..

وكل هذا ينعكس مزيداً من غياب الاعتدال وبروز كل أشكال التشدد والتطرف..

بحيث يصبح الخطاب المعتدل غير مقنع لأحد، وكل طرف بصرف النظر عن طبيعته وجوهره، يبرز جوانب التشدد لديه.. ونظرة واحدة وعميقة في المشهد السياسي العراقي، نشعر أن الجميع يزداد اشتعالاً وتشدداً.. ولعل من مآزق المشهد السياسي العراقي اليوم، هو بروز كل نزعات التشدد واضمحلال كل أشكال وعقليات الاعتدال السياسي لدى الجميع.. ومن يبحث عن الشعبية والتأييد الاجتماعي لأفكاره ومشروعاته، يجد أن لا طريق أمامه للحصول على كل هذا، إلا التشدد والبعد عن الاعتدال السياسي..

فالجميع بدأ يشعر أن الاعتدال يضيع مشروعه، ويفقده الحضور الاجتماعي المؤيد له..

وهذا الكلام ينطبق على كل المساحات العربية بدون فرق جوهري كبير بين كل الساحات العربية..

ولا ريب أن ضعف الاعتدال وبروز التشدد الديني والسياسي، ليس هو الطريق الذي يحافظ على المكاسب العربية.. بل إننا نعتقد وبعمق أن التخلي عن نهج الاعتدال السياسي والتمسك بمعالمه وضروراته، يساهم في انسداد الأفق السياسي على المستوى البعيد..

صحيح أن التشدد يزيد من فرص الالتفاف الاجتماعي، ولكنه لا يغير معادلات الواقع، ولا يوفر فرص ومناخ التحول التاريخي الذي تنشده ظروف الواقع السياسي في أكثر من موقع ومساحة سياسية واجتماعية..

وتعلمنا تجارب العديد من الشعوب والحياة السياسية لهذه الشعوب، أن الاعتدال السياسي الذي لا يحظى بشعبية وازنة اليوم، إلا أنه أفضل الخيارات على كل الصعد والمستويات..

فالتشدد الديني والسياسي، يضيع الكثير من الفرص والمكاسب، ويزيد من الاختناقات والتي تبقى بلا محاولة واقعية لمعالجة الأمور..

ومن يعتقد أن التشدد هو الخيار المناسب للعرب لعودة هيبتهم وعنفوانهم، هو يرتكب خطيئة سياسية وتاريخية بحق العرب ومصالحهم الحيوية..

فالتشدد لا يبني واقعاً للقوة النوعية، وإنما يضيع القوة القائمة، دون أن يتمكن من خلق قوة بديلة..

ومن يعتقد بأن التشدد سيحافظ على مصالحه ومكاسبه، هو يرتكب بحق نفسه وأمته خطيئة تاريخية كبرى..

فالتشدد يضيع المصالح ولا يحافظ عليها، ويفاقم من المشكلات ولا يعالجها، ويزيد من فرص التوترات على كل صعيد ومستوى..

وسيبقى الخيار التاريخي لكل الدول العربية والإسلامية، هو الاعتدال السياسي، الذي يراكم القوة على المستويين الاجتماعي والسياسي، ويعالج كل المشكلات بوسائل سلمية وقادرة على اجتثاثها من الجذور..

ويبدو على هذا الصعيد أن الممارسة السياسية والاجتماعية حينما تستند على الرغبة دون المعطيات والحقائق، هو الذي يؤسس لخيارات التشدد على كل المستويات..

بينما الاعتدال يستند إلى الممارسة التي تستند على المعطيات والحقائق.. فالإنسان يتحرك وفق معطياته وحقائق واقعه، لذلك هو يتحرك وفق إمكاناته وقراءته الدقيقة لواقعه وواقع مجتمعه..

أما الذي يتحرك برغباته، فهو يتحرك دون النظر إلى إمكاناته ومدى الاستعداد لدى هذه الامكانات لهذا الخيار أو ذاك..

ومن يتحرك برغباته سيصدم بحقائق واقعه.. هذا الاصطدام الذي يزيد من ضعفه النوعي..

وعليه فإن ركيزة الاعتدال السياسي الواقعي، هو أن الانسان يتحرك بإمكاناته وليس برغباته.. وتعلمنا الحياة أن الحركة بالرغبة تزيد من فرص الأزمات بدل علاجها، وتؤدي إلى الارباكات على كل الصعد والمستويات..

لذلك يبقى المطلوب لدى الدول أو الجماعات أو الأفراد هو الاعتدال السياسي، الذي ينطلق من امكاناته، ويعمل حينما ينطلق أن يراكم عناصر القوة لديه دون تبديدها..

وفِي تقديرنا أن العودة إلى الاعتدال السياسي، هو الخطوة الضرورية لمعالجة الكثير من المشاكل في العالم العربي المعاصر..

وكل هذا يدفعنا إلى القول: أن الالتزام بالاعتدال السياسي، هو الخيار الأنسب، لمعالجة مشاكل الراهن، وبناء القوة النوعية للذات.. ومن يبحث عن خيار دون ذلك، فإنه سيفاقم من أزمات الذات دون وجود القدرة الفعلية لمعالجة المشاكل والأزمات..

وجماع القول: إننا في العالم العربي دولاً وشعوباً، بحاجة إلى التمسك بالاعتدال السياسي دون التهور وتبني خيار التشدد الذي يفاقم من أزمات العالم العربي.. وإنه مهما كانت الصعوبات، سيبقى الخيار الذي لا بديل عنه، هو خيار الاعتدال السياسي والديني..

***

محمد محفوظ

ربما كانت إيران وبعدها العراق الدولتان اللتان شملهما التغيير الفوقي أو  الربيع السياسي المصنع الذي استبدل نظامين شموليين في دولتين مركزيتين صارمتين بأنظمة اشبه ما تكون بماكنة تفريخ دويلات تحكمها عقليات شمولية تنافس ما سبقها في الصرامة والعنف وما حصل في إيران والعراق من تعدد مراكز القرار وتشتت مؤسسات الدولة خير دليل على أن البديل لم يكن الا وليداً مشوها صنعته عقود طويلة من الحكم الشمولي المستبد، حيث عانت ولا تزال معظم دول الشرق الأوسط ومن دكتاتور أوحد أو حزب قائد، يفرض ثقافة أحادية لا تقبل الآخر إلا قطيعاً مطيعاً مستكيناً، رغم أن كل عمليات التجميل التي صاحبت هذه الأنظمة بإضافة مؤسسات كارتونية كالبرلمان والمنظمات الجماهيرية وغير الحكومية والأحزاب المستنسخة تحت شعارات سطحية كالديمقراطية والاشتراكية المفرغة تماماً من محتواها كما حصل في العراق وسوريا وإيران وغيرهم منذ عقود.

وإزاء هذا النمط من محاربة واحتواء قوى المعارضة الحقيقية وإفراغها من مضمونها سواء باستنساخها أو تصفية عناصرها في ظل نظام بوليسي مخابراتي محكم، أدركت أنها غير قادرة تماماً على إحداث تغيير نوعي في طبيعة تلك الأنظمة من خلال العمل المتاح لها في مساحات ضيقة جداً وربما مهيمن عليها، فاختارت واحداً من خيارين إما حمل السلاح وبدء حرب عصابات أو الهروب الى الخارج والعمل من خلال الصحافة والإعلام، وللأسف ومع بعض التأييد لتلك المحاولات إلا أنها هي الأخرى لم تنجح في تغيير تلك الأنظمة حتى تدخل الطرف الثالث (الدولي) كما حصل في كل من إيران وأفغانستان وبعدهما العراق وما تلا ذلك في ليبيا وتونس واليمن وأفغانستان ثانية وغيرها.

إن ما حصل بعد التغيير الذي أزاح هيكل إدارة تلك الأنظمة لم يتجاوز الفوضى لأنه فشل في تغيير ثقافة المجتمعات التي أدمنت الشمولية في نظاميها الاجتماعي والسياسي، وتم غسل أدمغتها بشعارات وأفكار وسلوكيات طيلة عقود من الزمن، حيث ترسبت فيها أفكار وسلوكيات تلك الأنظمة، وبدأت بعد سنوات قليلة من التغيير استخدام آليات الديمقراطية المفترضة لإيصال مجموعات وكتل طارئة الى مواقع السلطة دونما اختيار حقيقي حر من قبل الشعب، وبتأثير بالغ وهيمنة قبلية ومذهبية بل ومناطقية، ناهيك عن الدور الكبير للمال السياسي وثقافة المحسوبية والمنسوبية التي حولت معظم مؤسسات الدولة ووزاراتها الى إمارات قبلية او مذهبية واجتماعيه من ذات انتماء مسؤوليها، حتى غدا كثير من السلوكيات في تلك المؤسسات أقرب الى صبينة سياسية وإدارية أطاحت بهيبة الدولة ومؤسساتها ورموزها.

إزاء هذا النمط من الحكم فقد المواطن الكثير من آماله وتطلعاته في نظام بديل مختلف عن الأنظمة السابقة، خاصة وانه واجه بعد التغيير الفوقي صراعا على السلطة بين مجموعات متناحرة تمتلك أذرعا مسلحة مهيمنة وتمتلك أسلحة وتمويلاً خارجياً وداخلياً مما أهلها لتسلق سلالم المؤسسة التشريعية والتنفيذية من خلال هيمنتها على صناديق الاقتراع وإرهاب الأهالي او تخديرهم بشعارات دينية ومذهبية وقبلية أدى إلى إرباك عملية تأسيس نظام جديد حتى وصل الأمر الى أن تحولت تلك المجموعات الى دولة داخل الدولة، تمتلك سجوناً ومحاكم واستثمارات مالية وفرض ضرائب وأتاوات جعلت المواطن المجروح من دكتاتوريات الأنظمة السابقة، يحن اليها بل يتمنى للأسف عودتها الى الحكم الشمولي وقوة الدولة والقانون على حكم مهجن تتقاسمه الأديان والمذاهب والعشائر ومجموعات مسلحة لا هوية لها ولا انتماء الا إرهاب الأهالي والهيمنة على مقدراتهم تحت شعارات مخدِرة، مستغلة العمليات الإرهابية لمنظمة داعش التي أصبحت تمنح هذه المجموعات شرعيتها بغياب الدولة وضعف مؤسساتها العسكرية والأمنية.

إن المشكلة الحقيقية تكمن في التراكم الهائل لثقافة أحادية وتربية تلقينية ومنظومة اجتماعية تكلست فيها عادات وتقاليد وأعراف تتقاطع كليا مع أي توجه مدني ديمقراطي حقيقي، ولذلك فنحن إزاء تحدٍّ لا علاقة له بطبيعة النظام السياسي بل في النظامين الاجتماعي والتربوي اللذين ينتجان هذه الأنظمة، ويدعمانها بأدوات قبلية ومذهبية وعنصرية.

***

كفاح محمود

بعد 75 عام على مهزلة حرب 1948 التي انهزمت فيها 7 جيوش عربية أمام عصابات صهيونية وأدت إلى نكبة الشعب الفلسطيني بتهجير غالبيته من أرضه ما زالت كثير من التساؤلات تفرض نفسها حول: حقيقة وطبيعة العلاقة بين ظهور القضية الفلسطينية بعد وعد بلفور والحركة القومية العربية الناشئة آنذاك بقيادة الشريف حسين وابنه فيصل والمتحالفة مع بريطانيا، وكيف لسبع جيوش عربية أن تنهزم أمام ميليشيات أو عصابات صهيونية؟ وهل بالفعل كانت الأنظمة العربية جادة في الحرب؟ ولو لم تتدخل الجيوش العربية وتم ترك الفلسطينيين في حالة صراع مع اليهود فهل كانت النكبة ستحدث ويتم تشريد غالبية الشعب الفلسطيني وتقوم دولة إسرائيل؟ وكيف أن هذه النكبة لم تنهي القضية الفلسطينية ولم تضع حدا ًللصراع وما زال الفلسطينيون صامدين يدافعون عن أرضهم؟

قبل التطرق لمجريات النكبة سنعرج على العلاقة الملتبسة تاريخياً في علاقة الزعامات العربية حتى قبل الاستقلال مع القضية الفلسطينية. ففي رسالة وجهها الشريف حسين بن علي (شريف مكة) عام 1918 بعد محادثاته مع هنري مكماهون ممثل بريطانيا العظمى وافق على الرأي البريطاني بأن فلسطين ليست مشمولة بوعد بريطانيا له بإقامة دولة عربية، وهذا ما تأكد لاحقاً في الوثيقة أو الاتفاق بين الأمير فيصل ابن الشريف حسين مع الزعيم الصهيوني وايزمان على هامش مؤتمر باريس للسلام 1919، حيث وافق الأول على أن بعض المناطق العربية ومنها فلسطين لا تدخل ضمن الدولة العربية الموعودة للعرب، وقد وظف البريطانيون والحركة الصهيونية هاتين الوثيقتين في دعم جهودهم لتثبيت وعد بلفور في عصبة الأمم.

لم يقف تخاذل وتواطؤ الزعامات العربية عند هذا الحد، حيث واصلوا تواطؤهم حتى بعد أن خذلت بريطانيا العرب بتوقيعها اتفاق سايكس- بيكو 1916 الذي تفاهم فيه البريطانيون والفرنسيون على  تقاسم المنطقة العربية بينهم وهي الاتفاقية التي تم كشفها لاحقاً من طرف روسيا القيصرية، فأثناء الإضراب الكبير الذي امتد لستة أشهر والثورة الشاملة التي تبعته 1936-1939 رفضا لهجرة اليهود واستمرار مشاريعهم الاستيطانية بدعم من جيش الانتداب البريطاني، وما أدت له من شلل في المرافق البريطانية العسكرية والمدنية وسقوط خسائر عند اليهود وفي الجيش البريطاني، وخوفاً من تداعيات هذه الثورة على الجماهير العربية وأن تنتفض دفاعاً عن فلسطين وخصوصاً أن كثيراً من المتطوعين العرب بدأوا بالتوافد على فلسطين تحت قيادة العراقي فوزي القاوقجي، تجنباً لذلك طلبت بريطانيا من الزعماء العرب الحاكمين في السعودية والعراق وشرق الأردن واليمن بالتدخل لدى القيادات الفلسطينية لوقف الثورة والإضراب، وللأسف بدلاً من الوقوف إلى جانب الثورة أرسلوا رسالة تطمين للفلسطينيين تطلب منهم: «الإخلاد إلى السكينة حقناً للدماء، معتمدين على حسن نوايا صديقتنا الحكومة البريطانية، ورغبتها المعلنة لتحقيق العدل، وثقوا بأننا سنواصل السعي في سبيل مساعدتكم". وكان نتيجة هذا التدخل الذي تعاملت معه القيادات اليمينية التقليدية الفلسطينية أن تم إجهاض الثورة مما مكن اليهود من توسيع مجال هجرتهم ومشاريع استيطانهم ثم كانت الحرب العالمية الثانية التي وظفها الصهاينة باقتدار لصالحهم.

مع استمرار المواجهات بين الفلسطينيين والعصابات الصهيونية المدعومة عسكرياً وسياسياً من بريطانيا صدر القرار 181 عن الجمعية العامة في يوم 15 نوفمبر 1947 الذي يقضي بتقسيم فلسطين بين اليهود والعرب 55% لليهود و 44% للعرب ويتم وضع القدس تحت وصاية دولية، وفي 15 مايو 1948 أعلنت بريطانيا عن إنهاء انتدابها على فلسطين، وما بين قرار التقسيم وإعلان نهاية الانتداب البريطاني وإعلان اليهود عن استقلال دولتهم وبداية الحرب العربية الإسرائيلية تم نسج خيوط المؤامرة على فلسطين التي شاركت فيها الزعامات العربية كما فعلوا سابقاً.

كان قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة غير ملزم لأنه صادر عن الجمعية العامة، فكيف ستقوم دولة إسرائيل وآنذاك كان عدد سكان فلسطين 2.065.000 نسمة، منهم 1.415.000 نسمة من العرب و 650.000 نسمة من اليهود أي ما نسبته 31.5% من إجمالي السكان وما يحوزنهم من أراضي لا يتعدى 19% من أراضي فلسطين الانتدابية والفلسطينيون يواصلون قتالهم دفاعاً عن أرضهم كما أن المتطوعين العرب في جيش الإنقاذ وغيره يشكلون تهديداً وخطراً على اليهود والبريطانيين والزعامات العربية نفسها؟

كان لا بد من حرب كبيرة تؤدي لتغييرات جغرافية وسكانية يمكن من خلالها تهجير العدد الأكبر من الفلسطينيين وتمكين اليهود من مساحات شاسعة ليقيموا عليها دولتهم الموعودة، وهذا ما أكده عضو الكنيست السابق يشعياهو بن فورت عندما تطرق لأحداث تلك المرحلة بقوله: "لا دولة يهودية بدون إخلاء العرب من فلسطين ومصادرة أراضيهم و تسييجها".

وبدأت خيوط المؤامرة بتحريض بريطانيا الزعماء العرب على رفض قرار التقسيم وأشرفت على تشكيل الكتائب العربية التي ستخوض الحرب تحت عنوان رفض التقسيم ومنع قيام دولة اليهود، وتم وضع هذه الجيوش تحت قيادة الجنرال البريطاني غلوب باشا الذي كان قائداً للجيش الأردني كما كان أغلب قادة الفرق العسكرية من الضباط الإنجليز!!

ولم تتوقف المهزلة عند هذا الحد بل تجاوزت ذلك بالتحكم بعدد الجنود ونوعية سلاحهم و بمجريات المعركة. حسب الوثائق الرسمية التي تم الإعلان عنها آنذاك، كان مجموع جنود الجيوش العربية الخمسة التي خاضت الحرب في حدود 26 ألف جندي وزاد قليلاً بعد بدء المعارك، بدون خبرة قتالية وأسلحة متواضعة وبدون تنسيق مسبق بينها أو إرادة حقيقية للقتال عند أغلبهم، دفعت الحركة الصهيونية لساحة القتال حوالي 100 ألف مقاتل مجهزين بأحدث الأسلحة وبتجربة قتالية اكتسبوها من خلال مشاركتهم في الحرب العالمية الثانية الى جانب الحلفاء .

كل ما سبق حقائق أكدها شهود عيان وممن شاركوا في الحرب كالقائد عبد الله التل وعارف العارف وفوزي القاوقجي وعزة دروزة، كما تطرق جمال عبد الناصر في مذكراته عن حرب فلسطين وما صاحبها من خيانات حيث يقول: ( لم يكن معقولاً أن تكون هذه حرباً .. لا قوات تحتشد، لا استعدادات في الأسلحة والذخائر، لا خطط، لا استكشافات، ولا معلومات! ومع ذلك فهم هنا في ميدان قتال.. إذن فهي حرب سياسية.. هي إذن حرب ولا حرب؛ تقدم بلا نصر، ورجوع بلا هزيمة.. هي حرب سياسية فقط ....)

يجب ألا يستغرب البعض من هذه الوقائع لأنه بالعقل والمنطق لا يُعقل أن بريطانيا التي صنعت وعد بلفور ومدت الحركة الصهيونية بكل أشكال الدعم السياسي والعسكري حتى أنها تركت للصهاينة مطاراتها وموانئها في فلسطين، وهي التي في نفس الوقت تشرف على الجيوش العربية وتتحكم بتسليحها وتمويلها ... لا يُعقل أن تسمح لضباطها بأن يقودوا حرباً على كيان صنعته و تعهدته حتى آخر لحظة إلا إذا كانت حرباً تكون نتيجتها مضمونة لصالح ربيبتها وصنيعتها دولة اليهود.

مباشرة عند دخول الجيوش العربية لفلسطين سقطت مدينتي اللد والرملة بيد الصهاينة وكان الجيش الأردني مسؤولاً عن الدفاع عن هاتين المدينتين المهمتين، ففي مذكرات عبد الله التل قائد جبهة القدس في حرب 48 يقول: " إن أحد القادة العرب قدّم اقتراحًا للملك الأردني عبد الله ابن الحسين بتبديل قيادة الجيش البريطانية والاستغناء تمامًا عن الفريق غلوب (المعروف باسم غلوب باشا)، والضباط الإنجليز الذين كانوا معه، لأنّهم ودون شكّ يعملون على تمكين القوات الصهيونية من تجاوز حدود التقسيم" لكنّ الملك، وبرأي التلّ، لم يكن يستطيع أن يوافق على مقترح كهذا، لأنّه يعلم أنّ بريطانيا لن تقبل فكرة الاستغناء عن غلوب.

ووسط الحرب وبعد أن حقق اليهود انتصارات كبيرة وتجاوزوا حدود التقسيم وباتوا يستولون على 78% من مساحة فلسطين وشردوا غالبية الفلسطينيين حوالي ثمانون ألف فلسطيني وتدمير 500 قرية  تحرك حلفاء الحركة الصهيونية ولجأوا لمجلس الأمن ليصدر قرارا بوقف المعارك وفرض هدنة على الطرفين، وجاء قرار مجلس الأمن بفرض الهدنة الثانية تكريساً للنصر اليهودي على الجيوش العربية ونجحت القوات الصهيونية، من طرد كل القوات العسكرية العربية من فلسطين، باستثناء الجيش الأردني الذي احتفظ بالضفة الغربية ومصر التي استمر تواجدها العسكري في قطاع غزة، وبذلك تم  القضاء على مشروع الأمم المتحدة  للتقسيم وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.

ويتحدث عبدالله التل عن تداعيات الحرب وحالة الغضب الشعبي العربي مما جرى فيقول: " ما جرى دفع جامعة الدول العربية المشاركة في الحرب المصطنعة وحتى تخفي تواطؤها أن تطلب من الملك عبدالله، بعد الهزيمة، الاستغناء عن الضباط الإنكليز وعلى رأسهم كلوب باشا، أو إبعادهم عن قيادة الجيش العربي الأردني على الأقل، باعتبارهم المسؤولين العسكريين عن الهزيمة، طبعاً لخلق مشجب يعلقون عليه أمام شعوبهم جريمتهم المفضوحة، ويخرجوا ببعض ماء الوجه، ويبرّئون أنفسهم أمام شعوبهم من الاشتراك بالجريمة / الهزيمة، رفض الملك عبدالله ذلك، مع أن طلبهم يمكن أن يكون صك براءة له ولهم، لو تم استخدامه، وهندسته كما تم هندسة حرب الهزيمة، و بنفس الخبث والمكر والخديعة، وكان جواب الملك عبدالله، في جلسة عامة بقصر (رغدان: "أنا لا أستطيع تغيير سرجي في المعركة باعتبار أن معركته لم تنته، فقد بقي منها الفصل الأخير، وهو فصل وضم وإلحاق (الضفة الغربية) بعرشه الهاشمي، وهذا الفصل الأخير هو عاجز لوحده عن تنفيذه، فلا بد والحالة هذه من الحفاظ على سرجه وخيوله، حتى لو كانت تشرب من دماء الشعب الأردني والفلسطيني على حد سواء".

ويستطرد عبد الله التل قائلا: " الحقيقة التي لا تقبل الشك، أن جنود وضباط الجيش الأردني، دخلوا فلسطين صادقين لتحريرها، وتسليمها لأهلها ولأصحابها، وخاضوا المعارك الدفاعية بشرف، وقدموا استناداً إلى بيانات قيادة الجيش، (363) شهيداً منهم (11) ضابطاً، والباقي من رتب عسكرية مختلفة".

لم تجدي حالة الغضب الشعبي العربي على ما جرى حتى الانقلابات والثورات التي جرت في أكثر من بيلد عربي ضد الأنظمة التي كانت سبباً في الهزيمة لم تغير كثيرا ًفي مأساة الشعب الفلسطيني، وكانت الطامة الكبرى عندما قامت دولة الكيان الصهيوني بعد 19 عام فقط من تأسيسها بحرب عدوانية احتلت فيها البقية الباقية من فلسطين- الضفة الغربية وقطاع غزة- التي كانت في عهدة الأردن ومصر بالإضافة إلى أراضي عربية أخرى، حتى حرب أكتوبر 1973 وبالرغم من بطولات وتضحيات الجيش المصري والسوري ومن شاركهم من وحدات عسكرية عربية لم تغيراً كثيراً في مجريات الصراع بل أدت للتطبيع بين مصر وإسرائيل وخروج مصر من معادلة الصراع مع إسرائيل مقابل استعادتها لسيناء.

نستخلص من كل ما جرى عدم صحة ما يزعمه البعض من الموتورين من غير الفلسطينيين بأن الفلسطينيين باعوا أرضهم وأن العرب خاضوا عدة حروب وسقط لهم الآلاف دفاعاً عن فلسطين والفلسطينيين، والحقيقة أن تدخل الأنظمة العربية كان وبالاً على الشعب الفلسطيني ولو لم يتدخلوا ما كانت النكبة أولا ثم النكسة ثانياً ثم التطبيع أخيراً، ولكان كل الشعب الفلسطيني حتى الآن يقاتل الصهاينة على أرض فلسطين وما كانت الهجرة والشتات.

بالبرعم من مرور أكثر من قرن على وعد بلفور و 75 عاما على النكبة و65 عام على النكسة ما زال الشعب الفلسطيني، وفي مقدمته اللاجئون الذين اعتقد العدو أنهم اندثروا ونسوا قضيتهم الوطنية، يواصل نضاله لوحده بما يملك من إمكانيات ولم يَعد يراهن على تدخل عسكري عربي أو إسلامي وإن كان ما زال يراهن على الشعوب العربية والرأي العام العالمي الذي تتزايد قناعته بعدالة القضية الفلسطينية وحقه بدولة مستقلة.

***

ا. د. إبراهيم ابراش

فاجأني عمرو موسي عندما خطب لنا خطبة عصماء في جلسة الحوار الوطني والتي انعقدت في الرابع من مايو 2023، وكأنه ألقى كرة من اللهب، وذلك حين تكلم فيما لم يتوقعه كثيرون، وكان مسكوتا عنه طوال السنوات الماضية، فيما يتعلق بفقه الأولويات والحريات والحقوق، وتحميل الحكومة المسؤولية عن الأزمة الراهنة.

في كلمته، قال موسى إن الناس يتساءلون "ماذا جرى وماذا يجري؟ وأين فقه الأولويات في اختيار المشروعات؟ وأين مبادئ الشفافية؟ وما حالة الديون المتراكمة ومجالات إنفاقها وكيفية سدادها؟ خاصة أن الاقتصاد متعب ومرهق".

وقبل أن يفيق الحاضرون من وقع التساؤلات، أضاف موسى -الذي ترأس لجنة الخمسين التي أعدت دستور البلاد عام 2014- أن "الناس يتساءلون عن الحريات وضماناتها، والبرلمان وأدائه، والأحزاب وآلياتها، وعن الاستثمار وتراجعه وهروب الاستثمارات المصرية لتؤدي وتربَح في أسواق أخرى، كما أن الناس يتساءلون عن التضخم والأسعار إلى أين وإلى متى".

وانتقد موسى -الأمين العام لجامعة الدول العربية الأسبق- أيضا السياسات الأمنية في مصر، متسائلا "هل سيطرت السياسات الأمنية على حركة مصر الاقتصادية فأبطأتها وقيدتها؟ هل شلت البيروقراطية المصرية حركة الاستثمار فأوقفتها".. وطرح علامة الاستفهام الكبرى بشأن المحبوسين، بقوله "الناس يتساءلون عن مصير المحبوسين احتياطيا… آن الأوان للتعامل المباشر والفوري والشامل مع هذا الملف لنغلقه نهائيا.. ونتوجه إلى ما هو أهم وأبقى".

هذا الخطاب الذي ألقاه عمرو موسي أشعل مواقع التواصل الاجتماعي بشكل يفوق الخيال، حيث وصفه البعض بأنه "رسالة نارية" من "فارس الدبلوماسية المصرية .. ضرب فأوجع".. وقال آخر أن موسى قدم توصيفا دقيقا للحالة المصرية، مطالبا الحكومة بالإنصات لصوت العقل والحكمة، مضيفا "إنا لمنتظرون".. بينما قال آخرون إنه كلام تأخر كثيرا، خاصة ما يتعلق بـ"فقه الأولويات للمشروعات الحكومية".

أما من وجهة نظري، فالأمر يختلف، لا سيما وأنني هنا أمام عمرو موسي الناشط السياسي وليس عمرو موسي رجل الدولة، وشتان ما بينهما، فعلي حد علمي أن رجل الدولة هو الرجل الذي يرتفع فوق مصالحه الشخصية، ويمتلك رؤية واسعة الأفق بعيدة الأمد لمصالح بلاده لتنهض بأحوالها وترقى بأوضاعها على الصعيد العالمي، فتمنحها مؤسسات مستقرة، وتصلح من شئونها وترفع مكانتها بين دول العالم، هؤلاء بالطبع سياسيون، ولكن البصمات التي تركوها في تاريخ مجتمعاتهم تؤهلهم لأن يطلق عليهم رجال دولة من أمثالهم: بانديت جواهر لال نهرو في الهند الذى ساهم في تشكيل نظامها السياسي الديمقراطي وسياساتها الخارجية، وشارل ديجول في فرنسا والذى أرسى دعامات الجمهورية الخامسة واختط لبلده سياسة أوروبية قائدة ومستقلة عن الولايات المتحدة الأمريكية.

وعندما نتأمل تاريخنا المصري منذ بدايات الحركة الوطنية والديمقراطية فى أواخر سبعينيات القرن التاسع عشر نلحظ على الفور أن مصر كانت تزخر بالعديد من رجل الدولة والشاغل لمناصب السياسية، والذي يتمتع أيضا بصفات السياسي من حيث قوة الحجة وبراعة التعبير والقدرة على التواصل مع المواطنين، سواء من تولوا مقاليد الحكم أو من نشطوا في المجال العام.

وقد كان عمرو موسي الأمين العام الأسبق لجامعة الدول العربية واحدا من هؤلاء، ثم ارتد بعد أن فقد كل مناصبه السياسية، فتحول إلى ناشط أقرب إلى الراهب التي يهب حياته وجهده ووقته وكيانه للقضية التي يؤمن بها .

وعندما جيئ به في جلسات الحوار الوطني ليقول كلمته رأيناه يريد أن يلبس عباءة مارتن لوثر ونيلسون مانديلا اللذان أفنيا أعمارهم في مجال مكافحة التمييز العنصري ونشر افكارهم ومعتقداتهم ونشرها بين مؤيديهم وان ينافسونهم على هذا اللقب بمجرد كتابة خاطره في مدونه او كلمه على مكبر صوت ويسجلوا لقب مناضل سياسي وبكل كفاءه، وذلك من خلال فكرته عن «الناشط السياسي» الذي تكوّن في أفق الحياة المصرية بشكل واضح بعد أن احتلت الجماهير الغاضبة ميدان التحرير لإجبار مبارك على الخروج من السلطة. وقتها وجد عشرات الشبان والفتيات أنفسهم أمام الكاميرات المسلطة عليهم.. تطلب منهم أن يتحدثوا وأن يفسروا ما يحدث وعن أهدافهم. ومن خلال هذا الحراك الشعبي والغياب الحزبي، فبرز عمرو موسي الناشط السياسي .

أتساءل ماذا لو كان عمرو موسي أثناء إلقاءه الخطاب شاغلا لمنصب رئيس الوزراء، هل سيقول ما قاله، أم لا ؟ .. والإجابة في بطن الشاعر، والشاعر هنا عمرو موسي، والذي أقول له: " لقد عودتنا أنك رجل دولة وليس ناشط سياسي، ولكنك تصر أن تكون ناشط سياسي .. التاريخ لا يصنعه النشطاء، ولكن يصنعه العظماء، وقد عرفناك عظيما، فلا تختم حياتك بنفاق ولا تبرز عنتريتك بإجتراء، وكن مثل القادة الصامتين الذين عاشوا كي يؤدوا الأمانات إلى أهلها، فلم تلههم تجارة ولا بيع للغالي بالرخيص ولا بخلط اللبن بالماء، ولا التصنع بقيام أدوار ورسم أبطال كرتونيين (من ورق)  في الفضاء الإلكتروني.

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

أستاذ ورئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

ولد فاضل البراك في مدينة بيجي عام 1942م، وأكمل دراسته في تكريت عام 1960م ودخل الكلية العسكرية، بعد انقلاب 17 تموز 1968م، منح البراك رتبة نقيب وألحق في حماية الرئيس أحمد حسن البكر، ثم بعد خلافه مع زوجة البكر نسبه صدام حسين في حماية مقر الإذاعة والتلفزيون في منطقة الصالحية.

عُين نهاية عام 1971م معاوناُ للملحق العسكري في السفارة العراقية بموسكو، وبقي في هذه الوظيفة حتى عام 1976، وليكون أيضاً مسؤولاً حزبياً عن تنظيمات حزب البعث في الاتحاد السوفيتي، وللحقيقة يذكر الدكتور خليل عبد العزيز في مذكراته (هارب من الإعدام) ص163/175 إن فاضل البراك (كان ممثلا لدوائر الأمن والمخابرات العراقية لدى المخابرات السوفيتية، أي كان عضو الارتباط بين التنظيمين. وانطلاقاً من وظيفته هذه فقد كان يتردد على المركز الرئيسي للمخابرات السوفيتية وسط موسكو لتنسيق العمل المخابراتي وتبادل المعلومة، وقد أخبرني بوظيفة البراك هذه مدير معهد الاستشراق السيد بابا جان غفوروف).

وطيلة مدة بقائه في وظيفته بالسفارة العراقية، كان البراك مسؤولاً عن تنظيمات حزب البعث في عموم الاتحاد السوفيتي، حيث كان هناك العديد من الطلبة العراقيين من المبتعثين الحكوميين، يدرسون في الجامعات السوفيتية ومثلهم الكثير من العسكريين الذين كانوا يتلقون علومهم في العديد من المعاهد والكليات العسكرية وفي مختلف الجمهوريات السوفيتية .

وفيما يتعلق بحصوله على شهادة الدكتوراه من معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم السوفيتية، فالحقيقة أن فاضل البراك لم يكن مؤهلاً علمياً لكتابة رسالة الدكتوراه، وإن قبوله لأعداد الرسالة من خلال معهد الاستشراق، جاء بناءً على طلب من لجنة العلاقات الخارجية بالحزب الشيوعي السوفيتي، وذلك تنفيذاً للاتفاقية الموقعة بين حزب البعث العربي الاشتراكي والحزب الشيوعي السوفيتي والتي نصت على قيام المعاهد العلمية السوفيتية بإعداد مجموعة طلبة، وبالذات في مجال الدكتوراه وبمختلف العلوم دون الحاجة لحصولهم على المستوى العلمي الذي يؤهلهم لإعداد رسائل دكتوراه.

ويؤكد الدكتور خليل عبد العزيز في مذكراته قائلاً: (خلال لقاءاتي في معهد الاستشراق مع فاضل البراك وكان من مهامي متابعة إعداده لرسالة الدكتوراه، حسب تكليف مدير المعهد الأكاديمي السيد بابا جان غفوروف. وفي مجريات المتابعة كان فاضل البراك يعرض عليَّ ما يعده من فصول لمتن رسالته، لأطالعها ثم أعرضها على رئاسة المعهد. وفي أحد المرات سلمني الفصل الثاني من رسالته، وحين أخذته وجدت بين طيات أوراقه رسالة صغيرة موجهة للبراك من مفكر حزب البعث الياس فرح، وقد جاء في تلك الورقة ما يلي: أبعث لك الفصل الثاني من رسالة الدكتوراه... وبدوري قمت بعرض وتقديم الرسالة وترجمتها لمدير المعهد السيد غفوروف فأجابني بضرورة أن يحتفظ بالرسالة وأمتنع عن أعادتها ليَّ). من خلال رسالة الياس فرح يتبين لنا أن أطرحة رسالة البراك كان الياس فرح وآخرين يكتبوها لهُ وفق نهج حزب البعث.3206 هارب من الاعدام

وبعد مناقشة رسالته عن حركة رشيد علي الكيلاني عام 1941 وحصوله على شهادة الدكتوراه وعودته إلى بغداد، واستلامه منصب مدير الأمن العام قام بطبع الرسالة على شكل كتاب حُذف منه كافة الإضافات والتعليقات النظرية التي وجهت له خلال مناقشة الرسالة وعدل عنوان الرسالة حين طبعت ككتاب، ليكون الكتاب في النهاية وثيقة قومية بعثية خالصة، سارع بعدها الانتهازيون والمتملقون لكتابة وتدبيج المقالات التي تشيد بالبراك ورسالة الدكتوراه، وتجاوزت تلك الكتابات الأربعين مقالا.

ويعقب الدكتور خليل عبد العزيز في مذكراته قائلاً: (كان فاضل البراك وخلال وجوده في موسكو وعبر علاقته بمعهد الاستشراق وتكليفي بمتابعة إعداده رسالته للدكتوراه، شديد الوضوح والصراحة في بيان معاداته للشيوعية والشيوعيين وبالذات الحزب الشيوعي العراقي رغم معرفته بموقعي القريب من الحزب الشيوعي. وإن البراك وفي أحد المرات حضر احتفال منظمة الحزب الشيوعي العراقي في موسكو والتي أقيمت بمناسبة تأسيس الحزب، وخلال الحفل تم عرض صورة مؤسس الحزب الرفيق فهد لأجراء مزاد عليها، فقال ليَّ البراك بأنه يرغب بالحصول على الصورة بأي ثمن كان، وفعلاً بدأ بالمزايدة عليها ورفع المبلغ بما يؤهله الحصول عليها، وقد نال واستحوذ على الصورة، عندها طلب من سائقه وضع الصورة في الصندوق الخلفي للسيارة، وقد استرعى ذلك انتباهي، فسألته عن سبب رغبته باقتناء صورة الرفيق فهد وما عساه فاعل بها، أجابني بشيء من الهزء بأنه سيمزقها كونه لا يريد أن تكون من حصة أي عراقي).

وفي فترة عمل البراك في السفارة العراقية في موسكو كان مسؤول تنظيمات الحزب الشيوعي العراقي لعموم الاتحاد السوفييتي خليل الجزائري، ويذكر د. خليل عبد العزيز في ص173 من مذكراته قائلاً: (من خلال معرفتي بفاضل وجدت أن الكثير من أفعاله تبعث على الريبة، فقد استطاع بناء علاقات ليست بالبسيطة أو العابرة مع بعض الرفاق في الحزب الشيوعي العراقي، ولوحظ تقربه ولقاءاته الكثيرة بالبعض من هؤلاء، وبالذات خليل الجزائري(1). كان فاضل البراك ومنذ بداية قدومه إلى موسكو قد وضع نصب عينيه شخصية خليل الجزائري، وكان له حسب ما يدعي كرهاً شديداً، وقد ألمح لذلك أمامي، وكانت هناك فعلاً مماحكات كثيرة بين الشخصين، رغم أن تلك الفترة كانت فترة الجبهة الوطنية بين البعث وحزبنا الشيوعي، بعد فترة ليست بالقصيرة أخبرني بعض الرفاق في المنظمة الحزبية برؤيتهم لفاضل البراك جالساً في أحد مطاعم العاصمة مع خليل الجزائري، عندها سألت خليل الجزائري عن تلك الجلسة، فأخبرني بأن فاضل البراك قد دعاه على وجبة طعام فلبى دعوته، ودار الحديث بينهما عن طبيعة العلاقة بين الحزبين، والتطورات السياسية في العراق، وسألت فاضل البراك عن تلك الدعوة، فأخبرني بأنه أراد منها أن يكسر جناح خليل الجزائري ونعته بالسافل، بعد تلك الجلسة راح خليل الجزائري يتقرب من البراك ويدخل ويخرج من السفارة العراقية، ثم خرج من تنظيمات الحزب الشيوعي وسافر إلى براغ، وهناك عمل مع مجموعة النهج، ثم سافر إلى بغداد وشكّل هناك مع خالد السلام وماجد عبد الرضا مجموعة أراد حزب البعث تسويقها بديلاً عن الحزب الشيوعي، ولكن بعد مقتل فاضل البراك وصف صدام حسين هذه المجموعة من نتائج العلاقة مع فاضل البراك ومن عوائده الخاصة).

كانت الزمالات الدراسية والحصول على المقاعد للدراسة في الاتحاد السوفييتي كتجارة رائجة، مما خلقت ظهور شخصيات من العراقيين، استطاعت توظيف علاقتها مع الجانب السوفيتي وكذلك مع أوساط منظمة التضامن الأفرو أسيوي ومجلس السلم السوفييتي، للحصول على المقاعد الدراسية بصورة غير سليمة، من خلال الرشى وشراء الذمم. فكانت تلك الشخصيات تقدم المغريات المالية للحصول على الزمالات الدراسية من الجانب السوفيتي، ومن ثم تقوم ببيعها لمن يدفع أكثر، وكانت بعض تلك الشخصيات تدير تلك الأعمال بشكل علني، ولكن تحت أنظار ومراقبة ورصد المخابرات السوفيتية وليس بعيداً عن دوائرها. يذكر الدكتور خليل عبد الكريم في مذكراته ص239 قائلاً: (كان هناك شخص اشتهر بعلاقته الوطيدة بالأوساط السوفيتية اسمه جبار حاجم، هذا الشخص بنيّ له شبكة من العلاقات المشبوهة مع الكثير من المسؤولين السوفييت، ودائماً ما كانت تثار حوله الشكوك ويتهم بالعلاقة بجهاز أمن الدولة السوفيتي (كي جي بي)، ويعزو ذلك لقدراته الفذة على الوصول إلى ما يرغب فيه والحصول على مبتغاه عبر شراء الذمم، وكان أيضاً يمتهن تصريف العملة بشكل غير مشروع... والمدهش في حياة جبار حاجم قدرته الغريبة للوصول إلى أي جهاز حكومي سوفيتي، فكانت أية قضية مستعصية للعراقيين عند الجانب السوفيتي، فإن تدخل جبار حاجم يضمن نجاح حلها. وكمثال على طبيعة تلك السمسرة، أذكر حادثة لها دلالة كبيرة عما كان يحصل. فقد كلفني أحد شخصيات الحزب الشيوعي العراقي بالاتصال بجبار حاجم لمعرفة كيفية حصوله على الزمالات وبيعها، بعد أن انتشرت أخبار قيامه بهذا الأمر. وحين اتصلت به أخبرني مباشرة بأنه كان يشتري بعضها من بعض الحزبيين في موسكو وكذلك من بعض الموظفين المتنفذين في المؤسسات السوفيتية. وحدثني أحد الأصدقاء عن عملية شراء كان يقوم بها شخص عراقي آخر محسوب على التقدميين، هو شاكر القيسي. حيث استدان منه مسؤول منظمة الحزب الشيوعي العراقي في الاتحاد السوفيتي وقتذاك خليل الجزائري مبلغاً قدره 3000 روبل وكان هذا المبلغ بالنسبة للموظفين السوفييت ومثلهم الطلبة العراقيين، يعد ثروة كبيرة في ذلك الوقت. وحين استفسر الصديق من السيد شاكر القيسي عن كيفية استرداده للدين من خليل الجزائري، الذي لا يملك ما يوفي فيه هذا المبلغ الكبير، فأجاب القيسي ضاحكاً بأنه لا يفكر إطلاقاً باسترداد المبلغ وإن هذا الدين يعد من الديون الميتة، ولكنها وعلى المدى القريب سوف تحيي أموات. ولتفسير ذلك يستعرض القيسي الحال بالقول، دائماً ما تكون هناك زمالات فائضة، وفي تلك الحالة يقوم بالطلب من خليل الجزائري الحصول على عدد من المقاعد الدراسية من خلال معرفته وعلاقة الحزب بالمؤسسات السوفيتية، وكان ذلك يتم مقابل قسم من الدين، ويقوم الجزائري بإبلاغ الجهة المانحة موافقة الحزب على ذلك التخصيص، فيأخذ القيسي من خليل الجزائري المقاعد الممنوحة ومن ثم بيعها).

مع كل هذا الفساد والإساءات لم يكن ذلك ليمنع من بروز اعداد ليست بالقليلة من الطلبة العراقيين بشكل جيد، وكان هناك الكثير ممن استطاع بجهود جدية أن ينال درجات علمية رصينة، وأن ينجحوا نجاحاً بيناً وباهراً في دراستهم. إلا أن البعض من الطلبة على مدى فترات قد نشأت علاقات غير سليمة بين الكثير منهم والأساتذة في الاتحاد السوفيتي، حيث بدأ الطالب يحوز على شهادته في مستوى البكالوريوس أو الماجستير وحتى الدكتوراه من خلال الهدايا العينية والمادية السخية التي يقدمها إلى الأساتذة، والتي كانت الرشاوى فيها تفقأ العين.

كان للبراك الدور الكبير في انقلاب وردة حزب البعث عن الجبهة الوطنية، وقيامه بقيادة الهجمة الشرسة على الحزب الشيوعي العراقي، وقتله وتشريده للعديد من اعضاء الحزب. وبعد فترة طويلة من عمله الوظيفي ألقى القبض عليه واقتيد إلى مبنى الحاكمية في شارع 52 ببغداد، ووجهت إليه تهمتان، الأولى بوصفه جاسوساً لألمانيا الشرقية والاتحاد السوفييتي، والتهمة الثانية إثراؤه غير المشروع، والحصول على عمولات من تجار ورجال اعمال، أمضى البراك عامين في السجن وأصيب بالشلل ومن ثم أعدم نهاية عام 1993م.

وللتعقيب عن استقطاب بعض رموز الحزب الشيوعي العراقي مثل خليل الجزائري وماجد عبد الرضا وحسين سلطان وعبد الوهاب طاهر وناصر عبود وآخرون، حيث تعاون البعض مع الحكم في العراق بقناعة سياسية منهم حول ضرورة عودة "التحالف" مع حزب البعث والتبشير بدعوات النظام حول الأخذ بالديمقراطية في إدارة البلاد. ولكن ما حدث هو أنه تم إعدام خليل الجزائري بدعوى تورطه في العلاقة مع فاضل البراك. إن خيار هؤلاء هو خيار ذاتي وموقف سياسي مسبق منذ أن بدأ الحزب التفكير في تعديل سياسته عام 1978، والانتقال إلى معارضة حكم البعث بسبب التحول الجذري في سياسة الحكم.

بعد سقوط نظام البعث على يد الاحتلال الأمريكي عام 2003م وقد ظهرت الحقائق بالوثيقة كما يذكر ذلك الدكتور نزار آل إبراهيم المقيم في امستردام بمقالته الموسومة (إيضاح وتنوير حول مقالة ذكريات استاذ عراقي في جامعة عدن) على موقع (صوت العراق) ليوم 2021-11-28 قائلاً: (بعد ان أظهرت وكشفت وثائق وأرشيف المخابرات العراقية بعد السقوط المدوّي لحكم البعث عام 2003 والذي أضحى لحسن العاقبة بيد قيادة الحزب الشيوعي العراقي من أن ”خليل الجزائري” بالذات كان عميلاً لديها باسم توريه وهو ”توما”، وفي حوزتي وثائق مستنسخه من الاصل كان أن بعثها الراحل عزيز وطبان من المانيا، وبخط خليل ذاته، الذي لا يمكنني أن لا أعرفه إلاّ جيداً. هكذا، وفي الفم مرارّه، اقول من أن “خليل الجزائري ً استطاع وعن حنكّه ليس فقط أن يخذل رفاقه من الذين وثقوا به، وأنا منهم، اعترف بذلك بل وخذل تاريخه النضالي قبل ذلك، هكذا وبدفعة واحده. والشيء بالشيء يُذكر أيضاً كان ولا يزال لدي ملف بعنوان ”ملف خليل الجزائري” طال واستطال توثيقه لأمد ينوف عن 25 عاماً وما زلت متماطلاً في إظهاره إلى العلن لدواعي شتى. هذا الملف الذي تضخم بذكريات ووثائق ووقائع شتى ومقابلات حصرية مسجلة).

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

...........................

(1) د. خليل ألجزائري، سكرتير منظمة الحزب الشيوعي العراقي في الاتحاد السوفييتي في سبعينيات القرن الماضي، خريج معهد بليخانوف في موسكو، عمل آنذاك استاذاً في جامعة قسنطينة بالجزائر.

دوافع القراءة العلمية للمشكلة العراقية

 ومراحلها ومستويات استفحالها وتجذرها في جسد المريض. وقد يكتفي الطبيب بالمسكنات أو العلاج بالعقاقير أحياناً، ولكنه قد يقرر إجراء العمليات الجراحية الخطيرة أحياناً أخرى، وصولاً إلى عمليات الاستئصال المؤلمة أحياناً ثالثة، من أجل إنقاذ حياة المريض.

ابتداءً؛ ينبغي أن نؤمن بأن من الخطأ حصر أسباب الفساد والفشل والأزمات في العراق بطبيعة نظام ما بعد العام 2003، والحكومات التي أفرزته، بدءاً بإدارة الاحتلال بقيادة غارنر، وانتهاءً بحكومة السيد محمد شياع السوداني. ومن الخطأ أيضاً الاعتقاد بأن العلمانيين إذا حكموا العراق وتنحى الإسلاميون عن الحكم، أو أمسك التكنوقراط بالوزارات وابتعد السياسيون والحزبيون، أو تخلى الشيعة عن المشاركة في الحكم وعاد السنة للامساك به دون شريك، أو إذا ظهر قائد قوي؛ فإن أزمات العراق ستنتهي، كلا بالتأكيد، لأن أزمات العراق ليست طارئة أو مفتعلة، أو ناتجة عن احتلال وحروب وسوء إدارة؛ إنما هي أزمات متوارثة متراكمة مزمنة، لها علاقة بتاريخ بعيد وماض قريب وحاضر قائم، ويستحيل التخلص منها بالقوة القاهرة أو المعالجات الترقيعية أو المصالحات السطحية وصفقات الترضية بين الفرقاء، أو بالشعارات الرنانة والمهرجانات الخطابية التي تصرخ بالوطن والوطنية.

المعضلة الأساس التي يعاني منها العراق، هي معضلة الوعي العلمي الدقيق بما كان وما هو كائن وماينبغي أن يكون، وبالتالي؛ وجود خلل عميق في فهم نوعية العراق الجديد الذي يجب أن يقوم، على قاعدة الاتفاق الواقعي الموضوعي بين المكونات القومية والطائفية، وأحزابها وتياراتها ومؤسساتها السياسية والاجتماعية والدينية. وكان ينبغي الاتفاق على هذا الأساس منذ مداولات الجمعية الوطنية وبواكير تداول إنشاء الدستور، وجزء منه الاتفاق على القيم الحاكمة على الدستور وقبلياته، أي القواعد الأساسية التي تقف عليها الدولة ومنظومتها السياسية والاجتماعية، لأن الخلل في تثبيت القبليات، ثم تقنينها في الدستور وفي منظومة الدولة؛ جعل كل قومية وطائفة وتيار وجماعة، بل وكل وحدة إدارية، تحس بالغبن، وبعدم حصولها على استحقاقاتها في السلطة والثروة؛ الأمر الذي جعل حالة تفجير الأوضاع في أية منطقة في العراق من أسهل الأمور. وهكذا ظلت الموروثات التاريخية الخلافية تتفجر بكل أشكالها واتجاهاتها، وأصبح بعض الفرقاء يعيش هاجس العودة الثقيلة الى الماضي، والآخر يعيش هاجس العبور السريع الى المستقبل.

وفضلاً عن المعالجات السطحية والترقيعية لكثير من الأزمات الكبيرة التي تفجرت أو تكونت بعد العام 2003؛ فإن أزمات وإشكاليات أُخر تم تجاوزها اعتباطاً، خوفاً من إثارتها أحياناً، أو عدم الالتفات الى خطورتها أحياناً أخرى، ولهذا بقي وسيبقى كل شيء على ما هو عليه، طالما بقيت الإشكاليات غير مفككة موضوعياً وعلمياً، وبقيت الأزمات غير مدروسة دراسة اركولوجية معمقة، تهدف الى معرفة بنيتها، من أجل اقتلاع جذورها.

ولعل من البساطة أن يحصر بعضهم - كما ذكرنا - أسباب الأزمات وعدم الاستقرار في العراق، منذ العام 2003 وحتى الآن، الى آثار الاحتلال وسقوط سلطة البعث، أو الأداء الحكومي ومناسيب الفساد ونقص الخدمات، أو الإرهاب؛ فهذه العوامل بعضها مظاهر، وليست كلها أسباب.

جذور المشكلة العراقية ومظاهرها

الأسباب الحقيقية المتعاضدة لأزمات العراق ومشاكله المستعصية؛ تعود الى ثلاثة مجموعات من الأسباب:

1-الأسباب البنيوية:

وتتمثل بأربعة أسباب رئيسة، وأخرى من الأسباب الثانوية:

أ‌- التركيبة الجغرافية الاعتباطية الخاطئة للعراق، على أساس معاهدة سايكس ـــ بيكو بين بريطانيا وفرنسا، وفي مقدمة أخطاء التركيبة أنها قامت على أساس توحيد ثلاث ولايات عثمانية، بكل تفاصيلها ومكوناتها ومشاكلها، هي بغداد والموصل والبصرة.

ب‌-  إرث المشروع البريطاني، المتمثل بتأسيس الدولة العراقية الجديدة بعد العام 1921، بوصفها دولةً ملكية، تحكمها أسرة سنية غير عراقية، مرتبطة بالمشروع البريطاني في المنطقة، وكذلك حكومات مرتهنة للمشروع البريطاني، ومنظومة ايديولوجية طائفية عنصرية، تقوم على أساس إمساك النخبة التي تنتمي الى 16% من سكان العراق (السنة العرب) بسلطات الدولة وعقيدتها وثقافتها ورمزياتها.

ت‌-  الايديولوجية الطائفية العنصرية للدولة العراقية، وهي ايديولوجيا مترسخة موروثة في مفاصلها، وفي نظامها الطائفي الحاكم منذ مئات السنين، والذي أورثه العثمانيون الى دولة العهد الملكي، ومنها الى الدولة الجمهورية، وصولاً الى دولة البعث، وقد بقيت راسخة في أغلب مفاصل الدولة العراقية، حتى بعد سقوط دولة البعث.

ث‌-  فقدان الدولة العراقية للناظم الجامع (المذهبي القومي) الذي يوحد هوية العراق الوطنية المتمثلة بالهوية المذهبية القومية للأغلبية السكانية (شيعة/ عرب)؛ فشعارات الوطن الواحد والدين الواحد لايكفيان ناظماً، لأن ناظم (الوطنية) لوحده، هو ناظم فضفاض ينظر اليه كل مكون بطريقته وتعريفه في داخله وليس في تصريحاته، وهذا الناظم هو عبارة عن الهوية المذهبية القومية للعراق، أسوة بكل دول العالم المتحضرة.

وبكلمة أخرى؛ فإنّ أزمات العراق المعاصرة لصيقة بتكوينه بعد معاهدة سايكس ـــ بيكو، التي أورثت العراق كل موبقات السلطنة العثمانية، ثم قيام الدولة العراقية في العام 1921 وما ترشح عنها من مركب سلطة طائفية عنصرية، تحمل الإرث العثماني في مضمونها، ولون الاحتلال والاستعمار في شكلها، ويحكمها ملوك مستوردون من الخارج، وبإفرازات ما عرف بأفكار الثورة العربية، ثم ظهور أفكار الجماعات العنصرية؛ وأبرزها حزب البعث.

2- موروث نظام البعث:

وهو موروث تدميري للعراق، على كل المستويات: السياسية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمعيشية والنفسية، وصولاً الى البنى التحتية المدمّرة التي ورثها العراق الجديد بعد العام 2003. وقد كانت أزمات العراق قد تبلورت بأبشع صورها؛ بتأسيس نظام حزب البعث العراقي في العام 1968، واستدعائه لكل مفاسد الموروث الطائفي العنصري؛ فنتج عن كل ذلك ثقافة مجتمعية مأزومة، وثقافة سلطوية قمعية، ونظم سياسية وقانونية مولِّدة للأزمات، ومراكمة لها، ومفككة لبنية المجتمع، ومدمرة لوحدة الدولة، ومثيرة للحروب والصراعات الداخلية بين مكونات الشعب العراقي.

وكان نظام البعث بارعاً في قمع أعراض هذه الثقافات المأزومة والمناخات النفسية المعقدة التي أنتجها الموروث التاريخي العراقي وأنتجها فكره وممارساته، ويغطي على بؤر النيران والأزمات، بكل أنواع القسوة والطغيان والجبروت؛ فكان يقضي على أعراضها بعلاجات تفاقم الأمراض وتجذّرها، لأنه كان يعتاش على هذه الأمراض ويتغذى بها، بل هي سبب استمراره في السلطة. وبذلك بقيت تلك الثقافات والأمراض المزمنة والصراعات المتجذرة ناراً تحت الرماد؛ حتى سقطت سلطة القمع في العام 2003؛ لتنطلق هذه الثقافات والصراعات بقوة إلى العلن.

3- إفرازات نظام العراق الجديد:

وهي إفرازات خطيرة لنظام مابعد العام 2003، لكن أغلبها يمثل امتداداً لأزمات بنيوية أو مظهراً جديداً لمشكلة قديمة، وأهمها ما يلي:

أ‌- تفاعل الأزمات الموروثة؛ فبعد انهيار دولة البعث في العام 2003؛ بفعل مشروع الاحتلال الذي كان معنياً بمصالحه فقط، وليس معنياً بحل أزمات العراق؛ فإن تلك الثقافات والأزمات النفسية وتبعات الموروثات التاريخية والبيئة النفسية الحاضنة لكل أنواع الأزمات؛ تحررت فجاة، وانطلقت بقوة تدميرية هائلة؛ لتملأ الواقع العراقي بالتناقضات والتعارضات والصراعات، حتى أصبح الشغل الشاغل للحكومات المتوالية؛ حل التناقضات بين الفرقاء السياسيين، وتفكيك العقد بين مكونات الشعب العراقي، ومقاربة إشكاليات النظام السياسي، وتنظيم صلاحيات الحكومة المركزية وحكومات الإقليم والمحافظات، فضلاً عن المهمة اليومية الروتينية المتمثلة بمكافحة الإرهاب وأسبابه المتراكمة. وجميعها مشاغل متشعبة جدلية؛ تجد جذورها بالكامل في ممارسات الأنظمة العراقية السابقة وأعرافها وأفكارها وسلوكياتها، وترافقها أزمات متفجرة أخرى تتعلق بالخدمات والبنية التحتية، وهي أزمات موروثة أيضاً؛ لأن نظام البعث ظل طيلة 35 عاماً يقوم بحلول ترقيعية لهذه الأزمات؛ للحيلولة دون ظهورها إلى العلن.

ب‌- مشروع الاحتلال الأمريكي، واستمراره في الفاعلية، على مستوى النفوذ السياسي الكبير، والتواجد العسكري، والعمل الأمني، والنشاط الثقافي والإعلامي والاجتماعي التخريبي.

ت‌- التدخل السافر للدول الاخرى في الشأن الداخلي العراقي، عبر الإعلام والنفوذ السياسي والأموال ودعم الجماعات الإرهابية، و بما يمس أمن العراق واستقراره.

ث‌- النظام السياسي الديمقراطي الليبرالي التوازني المنفلت، بعد عقود من الدكتاتورية والانغلاق التام والمركزية الشديدة وحكم الحزب الواحد والطائفة الواحدة والرجل الواحد والثقافة الشمولية الواحدة، وانعكاسات هذه المفارقة سياسياً وقانونياً واجتماعياً ونفسياً على الدولة والمجتمع والفرد.

ج‌- كثرة الأحزاب الشيعية المتساوية في القوة والشعبية، وضعف الخبرة التراكمية للشيعة في الحكم، وعدم امتلاك أحزابهم السياسية والمؤسسة الدينية والمؤسسات الاجتماعية (عشائر وغيرها) مشروعاً متكاملاً متفق عليه لإعادة بناء العراق، وتأسيس الدولة العراقية الجديدة.

ح‌- السلوك السياسي لأحزاب المكونين السني والكردي، والذي يعيق غالباً عملية الاستقرار والنماء.

خ‌- ظواهر الفساد الإداري والمالي والفشل التنموي، في أغلب مؤسسات الدولة، بسبب مساربها التي تنتجها التركيبة المحاصصاتية للمسؤوليات في الدولة، وسياقات الترضية والصفقات السياسية، وضعف المركزية والرقابة.

د‌- الضرب المستدام للاستقرار الأمني والسياسي والاجتماعي، عبر التفجيرات والاغتيالات والتخريب والعمل المسلح للجماعات الإرهابية التكفيرية والطائفية وبقايا النظام البعثي.

مفارقات نظرة المكونات الى العراق الجديد

لقد ورث عراق ما بعد العام 2003؛ بلداً ليس فيه مساحة صالحة للعيش الحقيقي.. بلداً مدمراً منكوباً، وشعباً شديد الإرهاق؛ بفعل الحروب المتوالية، وانهيار الاقتصاد والوضع المعيشي والبنى التحتية، والقمع الطائفي للأكثرية الشيعية، والصراعات العنصرية، ومصادرة الحريات والحقوق الفكرية والثقافية والسياسية والإعلامية، ومنع أي تعبير عن الرأي الآخر، والحرب النفسية، والقتل والاعتقال والتهجير والاضطهاد.

وهذا لا يعني أن نوع النظام الذي حكم العراق بعد العام 2003 غير مسؤول عما وصل إليه الواقع العراقي، بل أنه يتحمل وزر رفض حل عقد العراق وأزماته، حلاً علمياً واقعياً. ولا أقصد بالنظام هنا؛ الحكومات أو رئاساتها، بل أساس النظام التوافقي التوازني المحاصصاتي، وكذلك الفرقاء السياسيين الذين شاركوا في إدارته، لأن حكومات ما بعد 2003 تضم مجاميع من الأحزاب والجماعات والكتل والائتلافات، المختلفة دينياً ومذهبياً، والمتعارضة سياسياً وثقافياً، وكل منها يفرض شروطه وقوانينه على الدولة العراقية، كما يفرض مرشحيه ونسبته من المسؤوليات والمناصب، بدءاً برئيس الجمهورية وانتهاء بمدراء الدوائر. ثم تتحول الوزرات إلى مراكز يديرها - غالباً - الحزب الذي ينتمي إليه الوزير. وبالتالي؛ يتحول نظام الحكم إلى مهرجان من الثقافات والايديولوجيات والموروثات النفسية المتعارضة والانتماءات السياسية غير المنسجمة.

وقبال هذا الوضع؛ يكون من الطبيعي تسلل كل ألوان الفساد الإداري والمالي والأخلاقي والقانوني والثقافي والإعلامي إلى الجسد الحكومي والوطني الذي يتصارع أعضاؤه، ويُفشل بعضها الآخر، ومن الطبيعي أيضاً أن ينخفض منسوب الإنجاز لدى الحكومة إلى حدها الأدنى.

والأسوء من ذلك؛ أن كثيراً من الفرقاء السياسيين الذين يشاركون في نظام الحكم؛ يضع قدماً في الحكومة، وقدماً آخر في المعارضة السياسية، بل يستعير بعضهم قدمين ثالثة ورابعة، ليضع إحداهما في الجماعات المسلحة التي تقاتل الدولة علناً، ويضع الأخرى في واشنطن. هذا التعارض الغريب بين الفرقاء السياسيين؛ له مسوغاته الضاربة بعمقها في أزمات العراق التكوينية والبنيوية، أي أن كل فريق يعطي لنفسه الحق في رؤية العراق من زاويته، ويتغنى بالوطن الذي يعتقد بشكله ومضمونه، وهو شكل ومضمون يختلفان من فريق لآخر. وهو ما ينطبق أيضاً على المفاهيم ودلالاتها وتطبيقها؛ فكل الفرقاء ينادون بحب الوطن والتضحية من أجله، وبكرامة المواطن وبالعدالة والمساواة والحقوق والحريات والمشاركة، لكنهم يختلفون في ماهية الوطن الذي يضحون من أجله ونوعية هذه التضحية، ويختلفون في دلالات المواطنة والكرامة والعدالة والحقوق والمشاركة والمساواة وتطبيقاتها. وفي النتيجة؛ تكون ممارساتهم متعارضة بالكامل، وهم يحملون المفاهيم والشعارات ذاتها ويشتركون في إدارة الدولة والسلطة ذاتها.

ومثال ذلك؛ أن كثيراً من الفرقاء السنة يعتقدون أن عراقهم هو عراق ما قبل العام 2003، وأنهم يطمحون من أجل العودة إليه، أما عراق ما بعد العام 2003 فهو ليس العراق التقليدي الذي يعتقدون به وينتمون إليه، لأنهم أصبحوا مجرد حكام شركاء فيه وليسوا حكاماً مطلقين، بعد أن تحوّل إلى عراق كل المكونات العراقية. وفي المقابل يقاتل أغلب الفرقاء الشيعة من أجل التخلص من رواسب عراق ما قبل العام 2003، لأنهم وجدوا الوطن الذي ينصفهم نسبياً بعد العام 2003. وحيال ذلك ينظر كل مكون للوطن من زاويته فقط. وبذلك يكون الوطن غير الوطن، والتضحية غير التضحية، والعدالة غير العدالة. وهكذا فرقاء متضادون في دلالات المفاهيم وتطبيقاتها ومصاديقها، لا يستطيعون الاشتراك في بناء دولة وحكومة وسلطة منسجمة متوازنة؛ إلّا إذا أذعنوا للواقع الجديد واعترفوا بحقائقه واستحقاقاته.

إنّ المشكلة العراقية تنطوي على مجموعة أزمات مركبة كبرى، وإنّ ما حدث في العام 2003 هو صدمة تاريخية، ربما لا تعرف جوهرها حتى الدول الكبرى التي أسقطت نظام صدام حسين، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية؛ فتتصور أنها أسقطت دكتاتوراً اسمه صدام، كما أسقطت غيره في أمريكا اللاتينية وشرق آسيا. ولكن دول الاحتلال لا تعلم أنها أسقطت في العراق تاريخاً عمره قرون ممتدة.

ولذلك؛ فإن أزمة معقدة عمرها مئات السنين؛ لا يمكن حلّها بعشرين سنة أو أربعين سنة، بل لعل العراق بحاجة إلى أربعين عاماً أخرى، ليصل إلى أهدافه في الاستقرار والتكامل البنيوي؛ شرط أن يكون الطريق الذي يسلكه العراقيون هذه المرة طريقاً علمياً وواقعياً وسليماً في المنهج والفرضيات. ولا نطرح هذه الفترة الزمنية من باب التخمين العابر، بل من منطلق علمي ورؤية استشرافية. ولاشك أن مشروعاً بحثياً استشرافياً ستراتيجياً كهذا؛ هو عمل حكومي بحثي كبير، ينفذه عشرات المتخصصين العراقيين والعرب والأجانب، ممن يعون عمق الأزمات العراقية وأعراضها.

الرفض الداخلي والخارجي للحل

لقد زاد من صعوبة حلحلة مشاكل العراق المتجذرة، وعدم قدرة أية حكومة على تفكيك عقده؛ ثلاثة عوامل داخلية وخارجية أساسية، مترابطة ويكمل أحدها الآخر:

1- التدخل الخارجي الضاغط الرافض للتغيير الحاصل في القوام الموروث للدولة العراقية، والتركيبة التشاركية الجديدة في الحكم؛ لأن التغيير مثّل صدمة للتاريخ العراقي بشكل خاص، والعربي بشكل عام. ولذلك؛ بذلت بعض الأنظمة العربية والأجنبية الطائفية، خاصة السعودية بالدرجة الأُولى، ثم تركيا وبعض البلدان الخليجية بالدرجة الثانية، كل ما لديها من جهد وقوة ونفوذ لمنع التغيير في موروث الدولة العراقية؛ فأبقت الحكومات العراقية المتعاقبة منشغلة في مكافحة الإرهاب والعنف، وعدم التوجه إلى التغيير الحقيقي في الواقع العراقي، وفي عملية البناء الثقافي والمجتمعي والسياسي والاقتصادي، والإعمار وتقديم الخدمات.

2- رفض أغلب المكون السني للعراق الجديد ولأي تغيير في تركيبة الدولة الطائفية العنصرية الموروثة، وهو رفض لا يزال يتسبب في حرب تخريبية داخلية ضد الدولة والنظام السياسي والعملية السياسية، بل ضد إعمار العراق، للحيلولة دون ظهور الدولة الجديدة بمظهر الدولة الناجحة النامية المستقرة، وهي حرب تدميرية مفتوحة في جوانبها السياسية والعسكرية والجاسوسية والإدارية والاقتصادية والإعلامية والدعائية والاجتماعية والنفسية، وذلك بنوعين من أدوات الحرب والتنفيذ:

أ‌- أدوات سياسية وجاسوسية واجتماعية واقتصادية وإدارية وإعلامية ودعائية ونفسية واقتصادية، فاعلة بقوة داخل العملية السياسية، وتتحرك من مفاصل سلطات الدولة، تقودها بعض الأحزاب المشاركة في الحكم.

ب‌- أدوات إرهابية مسلحة، تقودها بقايا النظام السابق وحلفاؤه، من منظمات إرهابية طائفية محلية، ومنظمات وهابية إرهابية تكفيرية دولية، كالقاعدة وداعش.

3- المشروع الأمريكي ــ الإسرائيلي ــ السعودي في المنطقة، وهو المشروع الذي وهو المشروع الذي يعمل بكل وسائل الضغط والترغيب والترهيب، العسكرية والمخابراتية والسياسية والثقافية والإعلامية والدعائية والاقتصادية، ويستثمر كل عوامل الخلاف والصراع المذهبي والقومي والفكري والثقافي في المنطقة الإسلامية، من أجل تثبيت دعائم مشروع الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط، ومشروع استقرار الكيان الإسرائيلي والتطبيع الشامل معه، ودمجه في واقع المنطقة، من خلال فتح قنوات امتداد سياسي واقتصادي وثقافي وإعلامي له في المنطقة، بل وإنشاء تحالفات سياسية عسكرية أمنية بينه وبين بعض الأنظمة العربية ضد المحور الإسلامي الشيعي الناهض؛ فكانت عين هذا المشروع على عراق ما بعد سقوط نظام البعث، من أجل جعله قاعدة تنفيذية رئيسة في المشروع، لكن أمريكا وإسرائيل والسعودية تفاجأوا بموقف القوى العراقية الشيعية المشاركة في الحكم، الرافض للمشروع الأمريكي في الشرق الأوسط، ولأي وجود عسكري وثقافي ونفوذ سياسي لأمريكا في العراق، وكذلك رفض أي نوع من أنواع التطبيع والعلاقة مع الكيان الإسرائيلي، بل وانخراط أغلب هذه القوى في المحور الإسلامي الشيعي الناهض والمقاوم.

ولذلك؛ بعد أن أيقنت أمريكا في العام 2012، بفشل مشروعها في العراق الجديد ورهانها عليه، وفشل ضغوطاتها الكبيرة على القوى الإسلامية الشيعية والحكومة العراقية؛ أخذت تعمل بكل الوسائل على الحيلولة دون استقرار العراق ودولته وحكومته، ودون تحوّله إلى قوة إقليمية مناهضة للمشروع الأمريكي في الشرق الأوسط وللكيان الإسرائيلي، والإبقاء على الدولة العراقية ضعيفة هشة، وحكومتها متناحرة شبه مشلولة، حتى ترضخ للشروط الأمريكية، وهي:

أ‌- الانخرط في المشروع الأمريكي الشرق أوسطي

ب‌-  التطبيع مع الكيان الإسرائيلي

ت‌-  محاربة المحور الإسلامي الشيعي

أما بقاء العراق وقواه السياسية، ولاسيما الشيعية، على الحياد؛ فلا معنى له في قاموس نظام الولايات المتحدة الأمريكية؛ فأمريكا تخيِّر الدولة العراقية بين أن تكون معها نظرياً وميدانياً، وإلّا فإنها معادية لأمريكا ومشروعها ولإسرائيل.

التعايش الوطني والقبول بالواقع

لقد كان التعويل بعد العام 2003 على الزمن والمخططات العلمية لحل أزمات العراق المستعصية، وكان طرحنا حينها يتمحور حول خطة ستراتيحية استشرافية، أمدها المناسب خمسون عاماً، تتوزع على عشر خطط خمسية وخمس خطط عشرية، أي أنها تنتهي في العام 2053. ولكن منذ اللحظة الأولى؛ برزت الأزمات وأخذت تتراكم بشكل مرعب، بسبب انشغال الحكومة بنفض ركام الخراب الرهيب والأنقاض الموروثة الهائلة التي خلّفها النظام البعثي، والذي زاده الإرهاب من جهة، وتناحر أحزاب المكونات المشاركة في السلطة؛ أزمات ومشاكل.

وفي الجهود البحثية التي طرحناها بعد العام 2003؛ تم التأكيد على ضرورة الالتصاق بالواقع، والانطلاق منه في إيجاد المعالجات؛ وإن كان هذا الواقع خطيراً ومرعباً، والحديث فيه يثير الحساسيات والأوجاع؛ لأن هذا هو مقتضى معالجات الأمراض المستعصية. وبالتالي؛ كان ولايزال من أولويات الحل هو تجاوز الشعارات الفضفاضة والمقولات السطحية في النظر إلى مشاكل العراق وأزماته؛ فرغم مرور 20 عاماً على تغيير نظام الحكم في العراق؛ إلّا أن شعارات الوحدة الوطنية واللحمة الوطنية وعشق العراق وحب الوطن؛ لم تنفع حتى الآن، ولن تنفع، في معالجة مشاكل العراق وحل أزماته؛ رغم أهمية هذه الشعارات وضرورتها، وإخلاص أغلب المنادين بها، لأن كل فريق ينظر إلى العراق من زاويته، وكل مكون يريد وطناً مفصلاً على مقاسه، كما ذكرنا سابقاً.

قد يرى بعض المعنيين أن الدراسات الحفرية لا ضرورة لها؛ لأنها مخيفة، وتكشف عن عمق المشاكل والعقد والأزمات، وتُشنج الأوضاع وتثير الحساسيات، فضلاً عن أنها ــ كما يتصورون حرصاً أو جهلاً ــ لون من التنظير والترف الفكري. ومثل هؤلاء الناس يفضلون حقن الواقع العراقي بالمسكنات والمهدئات، وعدم معالجته علاجاً حقيقياً، وعدم الإفصاح عن حقائق الأمراض المزمنة الصعبة التي يعاني منها؛ أما بدافع الإبقاء على بنية الدولة العراقية كما كانت عليه قبل العام 2003، أو بدافع الحرص على الوضع النفسي للشعب كي لا تثار مخاوفه. وكلا الدافعين غير واقعيين، ولا يحلان مشكلة ولا يعالجان أي مرض بنيوي.

وأرى من المفيد في مقاربات الحل؛ اعتماد قاعدتين أساسيتين:

القاعدة الأولى: قبول الجميع بالحقائق الثابتة التي كشف عنها سقوط السلطة التاريخية التقليدية العراقية في العام 2003، واستحقاقاتها وتبعاتها، لأن العبور عليها يعني الإصرار على إبقاء العراق مشتعلاً وسط نيران الأزمات، وهو مايجب أن يلتفت إليه الزعماء السياسيين والدينيين والاجتماعيين للمكونات الدينية والمذهبية والقومية في العراق، وأهم هذه الحقائق:

1- إن العودة إلى عراق ما قبل العام 2003، بأيديولوجيته وثقافته وسلوكياته الطائفية العنصرية بات مستحيلاً، وإن حزب البعث وأمثاله من الجماعات الشوفينية الطائفية، أصبح جزءاً من هذا الماضي المؤلم الذي لاعودة إليه إطلاقاً، وإن اجتثاث هذا الفكر العنصري الطائفي ورموزه هو العلاج الطبيعي الفاعل، حاله حال النازية والشوفينية والفاشية والفرانكوية.

2- إن العراق يتألف من ثلاثة مكونات رئيسة: الشيعة (65% من عدد سكان العراق)، السنة العرب (16% من عدد السكان) والسنة الكرد (15% من عدد السكان)، وهي النسب المحسوبة بأدوات علمية، وما يترشح عن عنها من استحقاقات طبيعية، يفرضها الواقع والقانون، على قاعدة العدالة، وليس قاعدة المساواة.

3- إن النخبة السنية العربية لم يعد باستطاعتها أبداً، احتكار السلطة وقرار الدولة، ولم يعد السنة العرب هو المكون المميز الأثير النبيل، وأبناؤه هم عراقيوا الدرجة الأولى من حاملي الجنسية العثمانية، وأن من حقهم حصراً أن يكونوا خلفاء وسلاطين وولاة وملوك ورؤساء جمهورية وقادة، كما لم يعد الشيعة هم المعارضة التقليدية للسلطة العراقية الطائفية منذ منتصف القرن الهجري الأول، ولم يعودوا عجماً وفرساً ومجوساً وهنوداً وغجراً وعملاء وجواسيس، كما كانت تصفهم أدبيات الدولة العراقية، منذ 1921 وحتى 2003، كما لم يعد الكرد متمردين وجيوب ومحطات للسخرية، كما كانت تصفهم الدولة العنصرية السابقة، ولم يعد الشيعة الفيليين والكرد والتركمان والشبك، مواطنين من الدرجة الثالثة، بل بات جميع أبناء الشعب العراقي مواطنون أصلاء، متساوون في الحقوق والواجبات، ولاوجود لمواطن درجة أولى أو ثانية أو ثالثة، وباتت مكونات الشعب العراقي، بأكملها، مشاركِة مشاركةً واقعية في إدارة الدولة والحكومة والسلطة؛ مع الأخذ بالاعتبار استحقاق كل مكون بصورة عادلة في قرار الدولة والحكومة، وفي حجم تشكيله لهوية العراق، وفق نسبته العددية.

4- إن عقيدة الجيش العراقي، لم تعد عقيدة طائفية عنصرية، هدفها حماية السلطة، وضرب مكونات الشعب العراقي، وتنفيذ رغبات السلطة في الاعتداء على دول الجوار، بل باتت عقيدة وطنية، وأن مهمة الجيش باتت حماية الوطن وحدوده، والدولة وسيادتها، وليست سيادة الدكتاتور وأسرته وحزبه.

5- إن المناهج التعليمية، ولاسيما مناهج التاريخ والجغرافيا والتربية الدينية والوطنية، لم تعد تكتب وفق البنية الطائفية العنصرية للسلطة العراقية السابقة، بل وفق آلية التوازن بين التنوعات المذهبية والقومية للسكان، وهو ما ينطبق أيضاً على وسائل إعلام الدولة والحكومة، وعلى المؤسسات الدينية والإفتائية والوقفية التابعة للدولة والحكومة.

القاعدة الثانية: استبدال الشعارات والمفاهيم والسلوكيات التقليدية المتوارثة الفضفاضة، بالمفاهيم الواقعية التي تنسجم مع حقائق العراق، وفي مقدمتها تنوعه القومي والمذهبي والثقافي، وأول هذه الشعارات؛ شعار الوحدة الوطنية، وضرورة تقريبه من مفهوم التعايش المشترك، لأن شعار الوحدة الوطنية شعار ضبابي وعائم وملغوم، ويحمل تفسيرات متعارضة؛ فالنظام السابق كان يفسِّر الوحدة الوطنية بأنها الوحدة الجغرافية والسياسية القسرية القهرية للمواطنين العراقيين تحت هيمنة السلطة الأحادية الايديولوجيا الشديدة المركزية، وليس الوحدة النفسية والمجتمعية والسياسية في ظل الوطن، وهو شبيه بشعار وحدة الخلافة الذي قتلت الدولة العثمانية تحت لوائه ملايين البشر المنتمين إلى أعراق ومذاهب شتى، والخاضعين لسلطتها العنصرية الطائفية قسراً. وهو ما ظل يحصل في العراق دائماً، حيث قتلت دولة البعث أكثر من مليون ونصف المليون شيعي وكردي عراقي تحت شعار الوحدة الوطنية.

أما مفهوم التعايش الوطني؛ فهو شعار واقعي وينسجم مع حقائق العراق، حتى وإن ترشّح عنه التخفيف من مركزية الحكومة الاتحادية، وتشكيل أقاليم جديدة، أو انفصال إقليم كردستان، أو استحداث ضوابط إدارية في العلاقة بين المحافظات. والهدف من كل ذلك فسح المجال أمام أبناء الجغرافيا الواحدة أو الدين والمذهب والقومية الواحدة أن يقرروا مصيرهم في الوحدة من عدمها، وليس إجبارهم على العيش قهراً في ظل واقع سياسي وثقافي ونفسي لا يريدونه. وهذا هو سلوك الدول الديمقراطية التعددية؛ فهي دول تطبق مفهوم التعايش المشترك بين أبناء المذاهب والأديان والقوميات المتنافرة المتصارعة، والذين يعيشون حالة المواطنة الحقيقية في ظل دولة واحدة، لكنها تترك لهم حق تقرير المصير؛ فيما لو فشلت الدولة في جعلهم يتعايشون بسلام وانسجام.

حزمة الحلول

ابتداءً؛ من منطلق الحفر في الواقع؛ يمكن الجزم بأن أزمات العراق ليست مميتة وقاتلة وميؤوس منها، بل هي أزمات مزمنة صعبة، ويمكن إيجاد العلاجات والحلول لها، وإن كانت هذه العلاجات موجعة ومرّة وخطيرة وطويلة الأمد. ويمكن تسمية حزمة الحلول الجذرية التي نطرحها هنا، بالتحوّل العراقي الأساس، واستئصال أزماته، وتتمثل بما يلي:

1- منح إقليم كردستان (اربيل سليمانية دهوك) استقلاله كدولة جديدة كاملة السيادة، وهو أهم مدخل لحزمة الحلول، لأن فيه مصلحة العراق وكردستان معاً، وحينها سينخفض منسوب الصراع على هوية العراق المذهبية القومية الى أدنى مستوياتها، فضلاً عن الصراعات الأخرى على الثروات والمناصب والتشريعات وسياسات الدولة، والكلام في هذا المجال طويل.

2- تعديل الدستور تعديلاً شاملاً، يشمل الجانبين الفني والمادي، ويضع خاتمة لكل الثغرات القانونية والشكلية فيه، والتي تسببت طيلة الفترة الماضية بتعميق الخلافات السياسية بين المكونات العراقية والفرقاء السياسيين، ومنها تثبيت القيم العليا الاجتماعية الدينية التي تعتقد بها الأغلبية الساحقة من الشعب العراقي، وإلغاء مادة تعطيل ثلاثة محافظات لتعديل الدستور، وتغيير النظام السياسي من البرلماني الى الرئاسي، وإلغاء مجالس المحافظات، وغيرها. وسبق أن قدمت مقترحات وافيه بهذا الشان.

3- تغيير النظام السياسي البرلماني الحالي إلى النظام الرئاسي أو الرئاسي - البرلماني؛ على غرار النظامين السياسيين الفرنسي والروسي والتركي؛ فيكون هناك رئيس جمهورية منتخب انتخاباً مباشراً من قبل الشعب، يتمتع بصلاحيات تنفيذية يحددها الدستور، ويكون القائد العام للقوات المسلحة في الوقت نفسه، كما يكون هناك برلمان منتخباً شعبياً. ويقوم رئيس الجمهورية المنتخب باختيار مرشح الكتلة النيابية الأكبر التي يحدد الدستور مواصفاتها بدقة؛ ليكون رئيساً للوزراء، بعد التصويت على كابينته في مجلس النواب، وتكون السلطة التنفيذية مقسّمة بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء في إطار صلاحيات محددة دستورياً بشكل حاسم، تحول دون أي تضارب أو خلاف.

4- إعتماد النظام الفيدرالي المتماسك، الذي يتألف من دولة مركزية قوية وستة أقاليم صغيرة، على غرار النظام الروسي، ويتم في إطاره تقييد مفهوم الفيدرالية بتعاريف ومواد واضحة جداً، تحدد قيام الأقاليم على أسس مشتركة، كما تحدد للمركز والأقاليم نوعية الصلاحيات والحقوق والواجبات والعقوبات الجزائية، وأن لايمرر هذا النظام في الدستور على قاعدة الترضيات والازدواجية في الطرح، أو على حساب قوة الدولة وهيبتها، وقوة الحكومة المركزية وصلاحيتها. وتعطى هنا للحكومة المركزية صلاحيات معينة في إقامة الأقاليم ورسم حدودها الإدارية، وأن تتمتع جميع الأقاليم بحقوق وواجبات وصلاحيات وحكومات متشابهة شكلاً ومضموناً. ويتم اعتماد النظام البرلماني في الأقاليم وليس النظام الرئاسي. والأقاليم على النحو التالي:

أ‌- إقليم العاصمة بغداد، وتلحق به أقضية سامراء والدجيل وبلد

ب‌- إقليم كركوك الخاص، ويلحق به قضاء طوزخرماتو

ت‌- اقليم الغرب: الموصل، الأنبار وصلاح الدين

ث‌- إقليم الفرات الأوسط:  كربلاء، بابل والنجف، وتلحق به النخيب الى الحدود الدولية

ج‌- إقليم الشرق: ديالى، واسط، العمارة والقادسية

ح‌- إقليم الجنوب: البصرة، الناصرية والمثنى

ويتم انتخاب مجلس نواب أو مجلس إقليمي لكل إقليم، وتلغى مجالس المحافظات، كما يتم انتخاب رئيس أو رئيس وزراء لكل إقليم من قبل برلمان الإقليم، بوصفه مرشح الكتلة الأكبر، ويتم أيضاً ترشيح المحافظين من رئيس الإقليم، والتصويت عليه داخل برلمان الإقليم.

5- تثبيت الناظم المذهبي القومي للدولة، والمتمثلة بمذهب الأكثرية السكانية وقوميتها، ليأخذ موقعه في أدبيات الدولة ورمزياتها وتشريعاتها ومؤسساتها وأعرافها، بوصفها دولة شيعية عربية. فبعد منح إقليم كردستان استقلاله؛ ستكون نسبة العرب في العراق 85% والشيعة 84% من عدد سكان العراق، أي أن نسبة الشيعة العرب ستبلغ 75% من عدد سكان العراق، الأمر الذي سيجعل تثبيت هوية العراق أمراً تلقائياً، حتى على مستوى القوانين والتشريعات والمناهج الدراسية، بما لايتعارض مع هوية الدولة وناظمها المذهبي القومي، الى جانب تقنين واقع دولة التعددية القومية والمذهبية والجغرافية، واحترام الاتجاهات الثقافية والمذهبية والفكرية الأخرى، على قاعدة قناعة جميع فئات الشعب بمبادئ العيش المشترك، ما يعني إعطاء جميع أبناء المكونات القومية والمذهبية والدينية والتيارات الفكرية، حقوقها وحرياتها، بشكل متكافيء، ينسجم مع حجمها السكاني واستحقاقاتها السياسية.

6- العمل بمقتضى ما تفرضه الأنظمة الديمقراطية من وجود حكومة منسجمة سياسياً، ووجود معارضة داخل البرلمان وخارجه. ويتم تشكيل الحكومة المنسجمة سياسياً، والتي تحظى بأغلبية برلمانية، من جماعات وأعضاء يمثلون التنوع العراقي؛ أي حكومة أغلبية، فيها تمثيل واقعي متوازن للعرب والفيليين والتركمان والشبك؛ بشيعتهم وسنتهم، وحتى الكرد الذين سيكون لهم وجود سكاني في محافظات العراق، خارج كردستان، فضلاً عن الأقليات الدينية القومية. وتذعن هذه المنظومة الحكومية إلى حقائق الديمغرافيا العراقية في نوع المشاركة وحجمها. وينطلق تشكيل هذه الحكومة من نقطة تشكيل تيارات منسجمة سياسياً، تتصدرها أحزاب تنتمي إلى الأكثرية السكانية، وينضوي تحتها جماعات وأفراد من كل الطوائف والقوميات، وتدخل الانتخابات كقوائم وطنية وليس قوائم مذهبية أو قومية. أما الائتلافات والأحزاب التي لا تحقق الأغلبية؛ فإنها تبقى في المعارضة؛ وإن زعم بعضها أنه يمثل مكوناً معيناً.

وعلى هذه القاعدة؛ سيتم إلغاء منهجية تشكيل الحكومة على أساس المحاصصة السياسية؛ بذريعة الشراكة الوطنية، وإعتماد منهجية حكومة الأغلبية السياسية؛ التي تعطي للمكونات الدينية والمذهبية حقها في التمثيل أيضا، في إطار حكومة الكتلة الواحدة أو الائتلاف الواحد المنسجم سياسياً، والمتنوع دينياً ومذهبياً وقومياً وفكرياً. كما ستحول هذه القاعدة دون حدوث الظواهر التي تشل الحكومة وحركة الدولة، ومنها ازدواجية ولاء الوزير أو المسؤول بين الحكومة والأحزاب، وظاهرة ازدواجية الانتماء بين الموالاة والمعارضة.

7- تطهير الدولة وجميع مفاصلها وثقافتها وأدبياتها ورمزياتها ومناهجها الدراسية من أية رواسب طائفية وعنصرية، وغلق جميع الأبواب، عبر الدستور والقوانين والنظام السياسي وجميع نظم الدولة، أمام العودة الى أي ثقافة أو نظم أو منهجيات فيها لون من ألوان الطائفية والعنصرية والتمييز النظري أو العملي بين فئات الشعب العراقي.

ويكون هذا التطهير متزامناً مع إعتذار الدولة العراقية رسمياً، بصفتها المعنوية؛ وبالطرق القانونية والثقافية والسياسية والإعلامية المتعارفة دولياً، عما تسببته من مآسي وويلات وإضطهاد وتهميش، على مدى قرون؛ للطوائف والقوميات التي كانت تختلف معها في الماضي طائفياً وقومياً، ولاسيما الشيعة والكرد، وتعويضهم مادياً ومعنوياً وقانونياً، بالطرق المتعارفة دولياً.

8- وضع خطة عملية حازمة، لسد أية ثغرات ومسارب للفساد الإداري والمالي والشلل، في جميع مفاصل الدولة، سواء على مستوى القوانين والتشريعات أو النظم الإدارية وسياقات العمل أو التأثيرات السياسية، ويتم تنفيذ الخطة بحزم وهدوء، بعيداً عن الإعلام والاستثمار السياسي.

9- إعادة مركزة القوات المسلحة والأجهزة الأمنية، وبناء عقيدتها الوطنية، وفق ما تقتضيه التغييرات في الثقافة الطائفية والعنصرية وهوية الدولة، ومنع قيام أية قوات مسلحة في الأقاليم، عدا الشرطة المحلية، وحصر السلاح وأي عمل مسلح بأجهزة الدولة فقط، المتمثلة بالجيش والحشد الشعبي والشرطة والأجهزة الأمنية.

10- بناء خطة وطنية عملية للأمن الستراتيجي، لردم جميع بؤر إنتاج الإرهاب والتكفير، واستباق أية أزمات في الأمن السياسي والثقافي والإعلامي والإقتصادي. وتتعاون في رسم الخطة وتنفيذها جميع أجهزة الدولة العسكرية والمدنية، الى جانب المؤسستين الدينيتين الشيعية والسنية ومنظمات المجتمع المدني.

11- التأسيس لسياسة خارجية وطنية قوية فاعلة موحدة، تعطي للدولة العراقية هيبتها إقليمياً وعالمياً، وتمنحها علاقات متينة متوازنة بدول الجوار والمحيط الاقليمي والعربي والاسلامي، كما تعطي للعراق إمكانية خلق محور سياسي واقتصادي وأمني إقليمي، ولعب دور حيادي إيجابي في النزاعات الإقليمية والدولية، بالترافق مع التعامل بالمثل مع الدول الأخرى، سلباً وإيجاباً، ومن ذلك تقنين عمل السفارات الأجنبية والسفراء والدبلوماسيين الأجانب، وحصر تواصل العراقيين معهم عبر القنوات الرسمية المعنية، وعدم السماح لأي مسؤول عراقي بالتواصل مع الدول الأجنبية، إلّا عبر القنوات الرسمية ذات الصلة.

12- التخلص نهائياً من أي تواجد عسكري وأمني أجنبي، تحت أي ذريعة وعنوان، وإلغاء أية اتفاقيات تسمح لتواجد عسكري وأمني.

13- وضع خطة عشرينية تنموية ثورية من قبل مراكز بحوث وجامعات وخبراء عراقيين وأجانب، تتكون من أربع خطط خمسية، تشتمل جميع مجالات عمل الدولة، مع التركيز على المجالات ذات العلاقة بالاقتصاد والبنى التحتية ومعيشة الشعب، كالنفط ومصادر الطاقة الأخرى، والطاقة النووية، والبتروكيمياويات، والكهرباء والماء، والسكن، والعمل، والضمان الاجتماعي والصحي، والزراعة، والصناعة ونقل التكنولوجيا، ودعم صناعات القطاع الخاص الصغيرة والمتوسطة والثقيلة، والاستثمار المحلي والأجنبي، والتعليم والبحث العلمي، والثقافة المجتمعية، والإعلام والسينما، والسياحة والسياحة الدينية،. كما تتضمن الخطة العشرينية وضع آليات مجدولة عملية وحازمة، بعيدة عن الروتين والبيروقراطية، وأية مسارب للفساد الإداري والمالي.

***

د. علي المؤمن

أكبر عملية تطهير عرقي في تاريخ البشرية

قبل خمسة وسبعين عاماً، تمكنت العصابات الصهيونية عام 1948ـ بدعم مباشر من الاحتلال البريطاني، وتخاذل عربي ـ من السيطرة ـ بقوة السلاح، وارتكاب المجازر ـ على القسم الأكبر من فلسطين، ومن ثم إعلان قيام إسرائيل، وبدء النكبة الكبرى للشعب الفلسطيني، بعد قتل 29 ألف فلسطيني على يد عصابات الحركة الصهيونية، والتهجير القسري الجماعي لحوالي 850 ألف فلسطيني، واقتلاعهم من بيوتهم وأراضيهم في 23 مدينة وما يقرب من 450 قرية التي تحولت أراضيها وأملاكها ومزارعها إلى أملاك لدولة الاحتلال.

النكبة الصغرى بدأت عام 1799 حين نشر نابليون بونابرت ـ خلال الحملة الفرنسية على العالم العربي ـ بياناً يدعو فيه إلى إنشاء وطن لليهود على أرض فلسطين بحماية فرنسية.

لم يُكتب لخطة نابليون الحياة، لكن البريطانيون الخبثاء أحيوها في عام 1917 بإعلان وعد بلفور الذي نص صراحة على إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، بعد أن دعا المؤتمر الصهيوني الأول المنعقد في عام 1897 إلى إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين أيضاً.

تُشكل نكبة الشعب الفلسطيني أكبر عملية تطهير عرقي، وأكبر كارثة عرفتها البشرية بعد الحرب العالمية الثانية. شردت النكبة قسراً وبالقوة نحو 850 ألف فلسطيني، من أصل نحو مليون و400 ألف، إلى الضفة الغربية وقطاع غزة والدول العربية المجاورة.

وأعلنت الحركة الصهيونية إقامة إسرائيل على أكثر من 85% من مساحة فلسطين التاريخية البالغة قرابة 27 ألف كيلومتر مربع، وجرى تدمير 534 مدينة وقرية وبلدة فلسطينية. سجل التاريخ الإجرامي للعصابات الصهيونية قيامها بأكثر من 76 مجزرة بحق الفلسطينيين، بلغ عدد ضحاياها حوالي 29 ألفاً، وتشريد قرابة 200 ألف فلسطيني، واعتقال 6700. وظل ـ رغم القتل التشريد ـ حوالي 150 ألف فلسطيني فقط في المدن والقرى العربية داخل إسرائيل، ارتفع عددهم ليصل نحو مليون و700 ألف حتى نهاية 2021.

فقدَ ما يزيد عن مئتي ألف فلسطيني حياتهم خلال الصراع المتواصل مع إسرائيل بعد النكبة عام 1948. وتم اعتقال ما يزيد عن مليون ونصف حالة اعتقال بحق فلسطينيين. ما زال حوالي 6000 أسير من بينهم في السجون والمعتقلات الصهيونية. لكن عدد الفلسطينيين قد تضاعف نحو عشر مرات منذ النكبة للآن ليصل إلى 14 مليوناً نهاية عام 2021.

دأب الشعب الفلسطيني ومناصريه داخل فلسطين وخارجها على إحياء ذكرى النكبة في كل عام، لتظل في ذاكرة الأجيال المتعاقبة، حتى استعادة الحقوق كاملة، وتحرير الأرض من الاحتلال البغيض.

تواصل النكبات

حال الشعب الفلسطيني اليوم وقضيته الوطنية، يؤكدان على استمرارية النكبة كفعل وجرائم متواصلة ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين. والواقع اليوم يدلل على أن تمدّد دولة الاحتلال الصهيوني شرقاً وغرباً منذ حرب يونيو/حزيران 1967 وفرض سيطرتها العسكرية وسيادتها الفعلية على الأراضي الفلسطينية، لم يكن ليتحقق لولا التخاذل العربي والوهم الفلسطيني الذي بدأ عام 1974 بإقرار البرنامج المرحلي.

ثم بدا وكأن شعار حل الدولتين قد حلَّ مكان شعار التحرير الكامل. استغلت إسرائيل حالة الشلل العربي الرسمي، والعجز الفلسطيني الرسمي لتصعيد مواقفها وتشترط الاعتراف بها كدولة يهودية دون أي التزام من جانبها للاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني. ثم المطالبة بالتخلي عن شعار دولة فلسطينية مستقلة.

وجدت العنجهية الصهيونية قبولاً عربياً رسمياً بدأ باتفاقيات "كامب ديفيد"، ثم تم تقزيم القضية الفلسطينية حين وقّعت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية اتفاقية "أوسلو" التي انتهت دون أن تتمكن السلطة الفلسطينية من تحقيق أدنى إنجاز حقيقي وفعلي لصالح الشعب الفلسطيني.

اللامبالاة العربية الشعبية

من نتائج الاستعصاءات في الحالة العربية، غياب الرد العربي الشعبي على تواتر الانهيارات والاخفاقات في الوضع العربي والفلسطيني الذي سلّم بالرواية الإسرائيلية الصهيونية، غير مدركين لتداعيات الاتفاقيات على واقع الصراع ومآلاته. حيث يعتبره الشعب الفلسطيني صراعاً وجودياً، فيما بات العرب يعتبرونه صراعاً على الحدود، بينما إسرائيل ابتلعت كل فلسطين، حتى تلك المناطق التي يجب أن تكون خاضعة كلياً ـ بحسب اتفاقية أوسلو ـ للسيطرة الفلسطينية.

بات معظم العرب يتبنى الرواية الصهيونية على حساب المصالح والحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وبعضهم أصبح يعتبر فلسطين وشعبها وقضيتها عبئاً يجب التخلص منه. حيث باتت معظم الدول العربية تتعمد تهميش القضية الفلسطينية، وتتجاهل حقيقة أن حالة الصراع الفلسطيني الصهيوني لا يمكن بترها وعزلها عن المحيط العربي والعمق الإقليمي، فكل العواصم العربية هي في قائمة المصالح والاستهداف الصهيوني.

هذا الوضع الذي نشأ في منظومة الصراع العربي الإسرائيلي أضعف منظمة التحرير الفلسطينية، وجرى إخضاعها للسلطة الفلسطينية بقيادتها الراهنة. ثم قامت أنظمة التطبيع العربية باستغلال هذا الضعف لزيادة التقرب من الدولة الصهيونية، وتأسيس علاقات ثنائية تطبيعية معها دون النظر في كل ما يعانيه الشعب الفلسطيني. وشجع إسرائيل على الاستمرار في سياسة القتل والاغتيالات والقمع والاعتقالات، وهدم منازل الفلسطينيين، والتمادي في إقامة المزيد من المستوطنات على حساب الأراضي الفلسطينية. وضاعف الانقسام الفلسطيني من إمعان إسرائيل في التنكر للحقوق الفلسطينية التاريخية.

غير مؤهلون للدعم

الموت السريري العربي أفضى إلى عدم وجود أية استراتيجية عربية حول إسرائيل، لا استراتيجية مواجهة ولا استراتيجية سلام. يشهد الوضع العربي تراجعاً في الدعم لفلسطين التي أخذت تتحول إلى أندلس جديدة سنفقدها للأبد أمام أعين الجميع.

يدرك الفلسطينيين أن الواقع العربي مثقل بالأعباء والأمراض والإشكاليات والتعقيدات السياسية والاقتصادية والأمنية، ويواجه الصراعات الداخلية والتحديات الاستثنائية بفعل سياسات الاستبداد لمعظم هذه الأنظمة، التي جعلت الشعوب العربية تلهث خلف لقمة العيش، وجعلتها عاجزة عن دعم القضية الفلسطينية، التي طالما جعلتها مطية لتحقيق المآرب على حساب مصالح الشعب الفلسطيني الذي يواجه مرحلة شديدة الخطورة، حيث يتعرض لأقذر المؤامرات وأفتكها وأكثرها سمية منذ قرن من الزمن، بهدف اغتيال القضية الوطنية الفلسطينية، وإماتة الحقوق الوطنية العادلة والمشروعة للشعب الفلسطيني، ووأد حلمه في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.

أخفقت معظم الأنظمة العربية الاستبدادية في تحقيق شعاراتها المرتبطة بالوحدة والاشتراكية والاستقلال الوطني والحريات، وعجزت عن إحداث أية تنمية وتطوير في البنى الرئيسية، ولم تتمكن من إحراز مهام التقدم الاجتماعي. لكن هذه الأنظمة حققت نجاحاً لافتاً في بناء المؤسسات والأجهزة الأمنية التي تخصصت وأبدعت في قمع وقهر المواطنين وسحقهم، وحل كافة مؤسسات المجتمع المدني، وأغلاق أية إمكانية لتطور الوعي السياسي للناس، وتقويض مفهوم المواطنة، والقضاء على الحوار المجتمعي، وتشجيع الولاءات العرقية والإثنية والعشائرية والمناطقية، ونشر الفساد في مفاصل الدولة والمجتمع، والسماح للمفسدين أن يسمنوا ويتغولوا، وإعلاء المصلحة الخاصة على حساب قيم المنفعة العامة.

حضور إسرائيلي طبيعي

بعد مرور خمسة وسبعين عاماً على النكبة تغيب معظم الشعوب والأحزاب والقوى العربية غياباً فعلياً كاملاً عن المشهد السياسي والفعل المرتبط بفلسطين والقضية الفلسطينية. وتحضر الأنظمة العربية الاستبدادية المنهزمة أمام إسرائيل، والمنتصرة على شعوبها.

ويحضر الحكام العرب الذين يبدون ممانعة للاستجابة لأية مطالب من شعوبهم في تحقيق نوع من العدالة الاجتماعية والمساواة، وإحداث بعض التحولات التي تخترق جدار التسلط والقمع والتحكم وتفضي إلى مناخات ديمقراطية، لكنهم يُظهرون الليونة والقابلية والتأييد لإقامة علاقات طبيعية للغاية مع الكيان الصهيوني، وعلى حساب المصالح والحقوق الفلسطينية.

غاب الجميع وحضرت إسرائيل في أكثر من عاصمة عربية، وحضر النشيد الوطني الإسرائيلي في داخل القصور الرئاسية والمدرجات الرياضية العربية.

تواصل إسرائيل نجاحها في اختراق العواصم العربية، في وقت تمعن فيه بقتل الفلسطينيين وتهوّد القدس. وأصبحت  تتأقلم وهي سعيدة مع وضعها الجديد كعضو مقبول ومرحب به من معظم الدول العربية، لذلك هي تعمل على تجاهل القيادة الفلسطينية، وشطب العمل الفلسطيني من حساباتها، وتتغافل عن أية حلول لصراعها مع الفلسطينيين، طالما أن علاقاتها مع معظم الأنظمة العربية والإسلامية في أحسن حال. كما أسقط معظم العرب من حساباتهم شرط إنهاء معاناة الشعب الفلسطيني، والتوصل إلى حل عادل وشامل يفضي إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس، كشرط مسبق لقيام تطبيع عربي وعلاقات مع الكيان الصهيوني.

كانت وستبقى

في ذكرى النكبة الكبرى الخامسة والسبعين، التي تصادف الخامس عشر من أيار/مايو الجاري نؤكد أن فلسطين كانت قبل 7500 عام قبل الميلاد في جبل القفرة جنوبي الناصرة وسفح الرمل قرب طبريا. فلسطين الكنعانية كانت في العام 3000 قبل الميلاد. وكانت تحت الاحتلال اليوناني عام 332 قبل الميلاد. فلسطين كانت تحت الاحتلال الروماني في منتصف القرن السابع الميلادي. فلسطين وصل إليها عمر بن العاص حاملاً معه رسالة الإسلام العام 643 ميلادي، وتحررت فلسطين من الروم على يد خالد بن الوليد في معركة اليرموك الشهيرة. كانت فلسطين أموية في العام 661. وعباسية في العام 750. ثم دخلها الطولونيون والقرامطة. ثم احتلها الصليبيون العام 1095. وخاض صلاح الدين الأيوبي معركة حطين الشهيرة، واسترد بيت المقدس العام 1187ميلادي. وصدّ سيف الدين قطز والظاهر بيبرس الغزو المغولي على فلسطين العام 1259 ميلادي في معركة عين جالوت بعهد الدولة المملوكية. فلسطين دخلها العثمانيون العام 1516 ميلادي، مكثوا فيها أربعة قرون وخرجوا وظلت فلسطين. وهزمت مدينة عكا الفلسطينية بأسوارها حملة نابليون بونابرت العام 1799 ميلادي. فلسطين دخلها الجيش البريطاني العام 1917 ميلادي وخرج منها العام 1948، حين احتلها الصهاينة وأعلنوا فوق أراضيها دولة لهم. كان قد سبق هذا الإعلان حوالي نصف قرن من التخطيط والتنظيم والتدبير، وسوف يخرجون كما خرج غيرهم.

فلسطين التي كانت محور التقاطعات والتجاذبات والصراعات تاريخيا، سوف تظل في قلب الأحداث التي تجري مستقبلاً. فلسطين كان اسمها وسوف يظل، ولا يمكن للمنطقة أن تستقر دون حل عادل وشامل وكامل للقضية الفلسطينية، يعيد للشعب الفلسطيني حقوقه الوطنية المسروقة، وتمكينه من إقامة دولته المستقلة فوق أرضه وعاصمتها القدس الشريف.

***

د. حسن العاصي

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

الميزانية بيان اقتصادي سنوي لزيادة الضرائب أو خفضها والتحكم بالسياسة المالية والانفاق الحكومي، ومعظم الأحيان يتضمن خطط لسنوات عدة مقبلة، ويحمل توقعات اقتصادية مالية ونقدية لها أبعاد سياسية وأجتماعية وتنموية.

لكن هذا البيان السنوي قد يكون خبر قديم في خضم المعارك السياسية اليومية والتغيرات المتسارعة في الحياة العصرية وبغض النظر عن الحزب الحاكم تستخدم الحكومة والمعارضة كل ما لديها من الأمكانيات الدعائية والإعلامية للترويج وتسريب المعلومات التي تريد إيصالها دون غيرها للمواطنين لكسب معركة الرأي العام.

الرابحون والخاسرون المقاربة التقليدية لأي ميزانية في السنوات الخوالي، حيث كانت الحكومات تستطيع التحكم بمسار السياسة المالية لفترات قد تطول او تقصر وكانت السوق تتجاوب مع التوقعات وتبني سياساتها على هذه التوقعات.

لكن مع التطورات المتسارعة والسرعة الهائلة للزمن والدورة الإخبارية على مدار الساعة وترابط اقتصاديات العالم وفقدان القرار الوطني بنسب معينة ومتفاوتة جعلت من الميزانية تصبح بسرعة خبر قديم (كما تقدم) وقد تجاوزته الأحداث وتبدأ الحكومة باللهاث وراء الحدث أما للحد من التداعيات السياسية او لتعزيز رأسمالها السياسي اذا ما سارت الرياح كم تشتهي سفنها.

وفي عرض مبسط للميزانية التي قدمتها الحكومة الفيدرالية ألأسبوع الماضي ومن دون الدخول في تفاصيل أرقام النفقات ومن ربح ومن خسر نرى أن الازمات الدولية خصوصاً الحرب الأوكرانية كان لها تأثيرات سلبية واخرى إيجابية، ومن التأثيرات السلبية إرتفاع نسبة التضخم والتي أتت على القدرة الشرائية للمواطنين واضطرت البنك المركزي لرفع نسبة الفائدة إحدى عشر مرة خلال الأثنا عشر شهراً الماضية لتصل الى 3.85%.

أم التأثيرات ألإيجابية لتلك الحرب (وكما يقال مصائب قوم عند قوم فوائدُ) فكان ارتفاع أسعار الصادرات الأسترالية من المواد الأولية من الغاز والفحم والحديد و المنتجات الزراعية فارتفع الدخل الوطني الاسترالي مما جعل الميزانية تحمل فائض قيمته 4.2 مليار دولار لأول مرة منذ 15 عاماً، وقد ساهمت الضرائب على الدخل الفردي في تحقيق هذا الفائض حيث نسبة البطالة دون 4 بالمئة، هذا وسوف تنفق الحكومة حوالي 14.6 مليار دولار في السنوات الأربع القادمة على قطاعات الصحة والإسكان والعائلات والطاقة والعاطلين من العمل والباحثين عن عمل وغيرها.

لكن الميزانية لم تأتِ على ذكر اي شيء حول كيفية تأمين الواردات لتمويل الإنفاق العسكري الضخم، وبرنامج نظام إعانة ذوي الاحتياجات الخاصة، وقطاع رعاية المسنين التي تسحوذ على النسبة الأكبر من النفقات الحكومية الى جانب الفوائد التي تدفعها الحكومة على الدين العام الاسترالي الذي يقارب 900مليار دولار، وهذا ما سيكون له تأثير على مالية الدولة والميزانية العامة وهذا الأمر ليس صدفة، رغم ان الحكومة قالت في الميزانية سوف توفر عشرات المليارات من ميزانية وبرنامج نظام إعانة ذوي الاحتياجات الخاصة من خلال ترشيد الإنفاق والحد من الهدر والفساد في هذا القطاع.

رئيس الوزراء وصف الميزانية بأنها ميزانية حزب العمال بامتياز وطبعاً لا يمكن أن يقول غير ذلك، وبشكل عام فلسان حال حزب العمال يقول نحن نقوم بالكثير من الأشياء ، لكن لا يمكننا ان نقدم كل شيء دفعة واحدة.

لكن الخبراء الاقتصاديين يتخوفون من ارتفاع التضخم مما قد يدفع البنك المركزي لرفع نسبة الفائدة مجدداً، واذا ما حصل هذا الامر يؤكد ان الحكومة رغم نشوتها بالتقديمات الاجتماعية والصحية وغيرها التي ترضي البعض وتغضب البعض الآخر الذي لم يحصل على جزء من تلك التقديمات او تعرض لضرائب جديدة غير قادرة أي الحكومة على التحكم بمسار الأمور، عندها ستكون الحكومة في وضع لا تحسد عليه رغم تأكيدها في السراء والضراء على أستقلالية البنك المركزي لكن تلك الأستقلالية قد تسبب للحكومة وجع رأس سياسي كبير لان المواطن العادي يحمل السياسيين مسؤولية تراجع قدرته الشرائية، وعدم قدرته للوفاء بدفعات الديون العقارية وغيرها لأن البنك المركزي لا يواجه الناخبين والرأي العام والمعلوم أن حاكم البنك المركزي كان قد توقع أن أسعار الفائدة لن ترتفع قبل العام 2024 لكنه عاد ورفع سعر الفائدة الى 3.85% كما تقدم بسبب سياسة البنك المركزي للجم ارتفاع التضخم.

المعارضة الفيدرالية والتي ما زالت في غيبوبة سياسية نتيجة خسارتها انتخابات السنة الماضية ومع استمرار تراجع شعبيتها في استطلاعات الرأي وخسارتها انتخابات أستون الفرعية لأول مرة منذ 100 عام تخسر المعارضة انتخابات فرعية لصالح الحكومة، ترى المعارضة ان ميزانية حكومة العمال اضاعت فرصة لتعزيز الوضع الاقتصادي في البلاد.

زعيم المعارضة بيتر داتون في رده الرسمي على الميزانية أيد بعض بنود الميزانية وتحفظ على البعض الآخر منها الزيادة المتواضعة للباحثين عن عمل (40 دولار كل أسبوعين) وتحفظ داتون بشدة على زيادة عدد المهاجرين في ظل غياب البنى التحتية ورأى أن الميزانية سوف تساهم في زيادة التضخم معترفا ان عوامل خارجية لعبة دوراً في ذلك لكن العوامل الداخلية كان لها تأثيراً أكبر وهاجم سياسية الحكومة المتعلقة بتأمين الطاقة المستدامة وراى ان الميزانية تؤذي العائلات الاسترالية.

ينوي زعيم المعارضة جعل المهاجرين الورقة السياسية الرابحة مجدداً ليكونوا كرة في ملعبه السياسي هذه الورقة التي يجيد داتون استخدامها بامتياز، وفي حملة غير بريئة حذر داتون من زيادة أعداد الماهجرين مما قد يثير عاصفة شعبوية تحول المهاجرين إلى كبش فداء.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه، هل يعتقد داتون ان هذا التخويف سوف يقدم له حبل النجاة السياسي في ظل إستمرار تراجع شعبيته في إستطلاعات الرأي؟

هنا لا بد من الإشارة وحسب صحيفة سدني مورننغ هيرلد الى أن حكومة الأحرار برئاسة سكوت موريسن التي شغل فيها داتون وزارة الهجرة وحماية الحدود ووزارة والدفاع كانت تنوي إحضار نفس العدد من المهاجرين قبل وباء الكورنا منذ عام 2019 واستيعابهم في العام 2022.

إذاً، تبقى الميزانية عملية توقعات عما سيحدث في الاقتصاد خلال تلك الفترة الزمنية ، وسيناريوهات حول ما يفترض حدوثه ولها تأثيرها من الناحية الإقتصادية على الناتج المحلي الإجمالي والتضخم والبطالة.

لكن محرر الشؤون الاقتصادية في سيدني مورنينغ هيرالد روس غيتنز يرى أن الاعلام يلعب دوراً محورياً في الترويج للميزانية في اليومين الأولين ويعطي انطباعاً ملائماً للحكومة، مما يجعل الميزانية تبدأ بداية جيدة مع الناخبين قبل الأطلاع على شياطين التفاصيل القذرة المخبأة بعناية ولكنها حقيقية.

أخيراً، مهما كانت التوقعات لكن قد تقع أحداث تطيح بكل التوقعات وتقلب الأمور رأساً على عقب خصوصاً أن هناك من يقرع طبول الحرب في جنوب شرق آسيا، وخير مثال على ذلك ما حصل قبل ثلاثة أعوام عندما تفشى وباء الكورنا، ومنذ عام عندما اندلعت الحرب الأوكرانية، وقبل فترة أنهيار بعض البنوك الأميركية والأوروبية وقبلها الأزمة المالية العالمية عام 2008.

***

عباس علي مراد - سدني

نعم، ان دين المساواة الذي جاء به محمد بن عبدالله، دُفن معه وفي قبره،. فليس لاحدٍ حق الادعاء به بعد، مالم يقل المؤرخ الحقيقة، سنبقى تحت نظرية الخطأ في حكم الدولة دون تغيير.

لم يتهيأ للعرب والمسلمين تكوين دولة منذ البداية، بعد ان أخفيت وثيقة المدينة السياسية التي كتبها الرسول(ص) قبل وفاته بقصد، والتي استبدلوها بشورى السلطة المحدودة دون عامة الناس ومن عارض قتل، بينما استعادت الدولة الرومانية سلطة القانون بعد سقوط القسطنطينية عام 1453 م على يد محمد الفاتح العثماني، حتى ظلت القوانين الرومانية ثابتة التطبيق، فاستعادة الدولة دولة المواطن من جديد، بينما أخفيت مبادىء التغييرالتي نادوا بها اليوم في حكومات الزمن الرديء اصحاب "مؤتمر لندن الخياني عام 2002" حين استبدلوها بدكتاتورية سلطة مذاهب التفريق"المحاصصة" دون حقوق المواطنين، اذن من هم الافضل الرومان ام اصحاب سلطة المسلمين،؟

ان أخطر اسرار التخلف الحضاري في الوطن العراقي اليوم يكمن في التمسك بدين فقهي مجهول غير دين محمد الامين،اصحابه غير مؤتمنين عليه،حتى اصبح المنكر معروفاً والمعروف منكرا عندهم،وخاصة عند اصحاب سلطة الحاكمين، بعد ان استبدلوا فلسفة القانون، بالعقيدة ولا ندري اية عقيدة يقصدون؟ حين صنعوا منها مذهبية باطلة لا أساس لها في النص من يقين،وعلى مقاساتهم ليحكموا شعبا خططوا على تدميره بعناية مع المحتلين والمجاورين، حتى تراهم كُثر كغُثاء السيل منتزعة المهابة من قلوبهم ووجوههم حتى اصابهم الوهن لسلطتهم الباطلة وكراهيتهم للحق المبين. فعاشوا ولا زالوا في الوهم يعيشون، تساندهم مرجعيات دينية ميتة لا تنطق ولا تُرى ولا تتكلم لا بل صامتة صمت القبور تحكم من تحت الظلام،والشاهد على الحاضر وجوب.

كان عليهم وجوب أنكار المنكر لان به قوام الامروامتلاكه كي لا يعم العقاب الطالح الوطن ليبقى طالب الاصلاح ساعيا في تحصيل رضا الله والناس الذين ادعوا ان من اجلهم جاء التغييرالقابل باليد لتحقيق اعلى درجات الكمال وانفع متطلبات المقال الذي به يتحقق اصلاح القلوب والاعمال والاخلاق بين البشر فهو أمانة،والامانة وضعت على الجبال فأبينَ حملها فحملها الانسان، وحتى لا تبقى نظريات الوهم السائدة بين الناس حقيقة، فالحياة تجارب لمن يريد حكم الناس بالعدل ليفوز من التزم بها، عدلا واستقامة حتى يصبح التغيير الذي ينادون به اليوم حقيقة "بالقلب" لعلهم يجدون في تطبيقه واقعا يخرج الوطن مما هو فيه اليوم من محنة الزمن من منظور منهجي يتوخى الفهم الموضوعي لتاريخية هذا الاختلاف املاً في منظور مستقبلي لتحقيق الهدف والغاية من الدين، يقول الحق:"نحن نقص عليك نبأهم بالحق أنهم فتية آمنوا برهم وزدناهم هدىً،الكهف 9 وما بعدها"، فهل هم منهم،؟

نحن اليوم لسنا بحاجة الى، تفسير قرآني وتأليف فكري كتبوه وفق مقتضى التصور الديني السائد القديم "نظريات الاحكام السلطانية والسياسة الشرعية عند البويهيين والسلاجقة بين الكليني والماوردي "أوهام حولوها الى حقيقة، حتى بدت رفوف المكتبات العامة والخاصة اليوم ملأى بكتب الفقه الميت والتفسير الأجرد السقيم، والذي يُصرف على طباعته الملايين، فظل التفسير القرآني يعكس مرحلة تاريخية قديمة دون تطوير.

، ومناهج دراسية رثة يلفها الغموض كتبها ساطع الحصري وخبراء الاحتلال البريطاني الغاشم على العراق،حتى عارضونا الحكام الجدد حين أقترحنا تطويرها لصالح المنهج الحديث،، فأورثونا هذا الاختلاف الكبيرفي مذاهب الدين المتعارضة فقهياً والتي لا وجود لها في النص المقدس المكين، ولا زال انصاف المتعلمين تستشهد بهم على انهم حقيقة العلم والتاريخ والدين، وألغاءعلم الفلسفة في التدريس لأستبداله بعقيدة الدين ولاندري اي دين يقصدون دين الرواديد لاحياء سنن القديم أم نظريات الترادف اللغوي التي ضيعت مفاهيم حقيقة النص في الدين،

يالمهزلة القدر في التاريخ، فهل هؤلاءحقا يستحقون حكم الوطنيين، وهم القائمون على نظرية فرق تسُد حتى في العيد، بعد ان وصل علم الفلك الى اكتشاف المريخ، أنهم الجهلاء اعداء الانسان والوطن والدين. همهم السلطة والمال والجنس وما ملكت ايمانهم وفساد اليقين ولا غير، "سلطة الدولة ومرجعياتها بأجمعها دون تفريق"، انهم لا يؤمنون بأخلاق ودين، فهل من هؤلاء ستخرج نخبة الحاكمين،؟

قصة الكهف في القرآن التي جاءت على سبيل العضة والاعتبارحققت في النابهين عملية تغيير "المنكر بالقلب"، وهو أعلى درجات التغيير، الدين استقامة وعدل مطلق بين الناس والحاكمين، لكنه بنظرهم أدعية وزيارات لمراقد الصالحين واستخارات وسلطة تجهيل واموال هائلة تجبى لصالح وكلاء المراقد وتفريق واستحواذ على اموال المواطنين بالباطل،أنظر صفقات القرن،وصفقات أوقاف المتلاعبين، واموال الطاقة المنهوبة والميزانيات الانفجارية بلا حسابات ختامية دون رقيب او حسيب، وجعل الوطن باسم المذهب والدين تابع لأعدائه الأخرين. ودك ولطم على السالفين منتظرين الحياة من موتى السالفين، لاستمراية نظرية التفريق بين العراقيين، مستمدين اراؤهم من القرون الهجرية الاولى على هذا الطرح الجامد القديم حتى استطاعت البويهية والسلجوقية والقاجارية تحويلة الى مذهبية دين،

ولكن اي دين ياليتنا لم نراه لندخل في مرحلة الموت البطيء، من هنا فالدين لم يصنع لنا دولة المواطنين، بل صنع تصور وهمي خلق لنا عقل قياسي لا وجودي في التطبيق، وتخبط في التفكير ادى بنا الى محنة "المسموح به وغير المسموح "،ليبقى مرجع الدين القابع في صومعته يعيش ويسيطرعلى العقول بغباء البشر، ولتبقى كل ادوات الحضارة المتقدمة بدعة في نظر المتخلفين، لا لن نتقدم الا بالتغييرالتأويلي للنص الصحيح ليبقى استخراج المكنون من النص هو الاصيل،ولانهاء دور العمامة الملونة وشعرها المتدلي على الجبين،

نحن نستنكر هذه السياسة الدينية الغريبة التي حلت عند العراقيين وغيرهم بعد التغيير الاكشر على العراقيين الذي نفذته فئة خرجت على مفاهيم الاصلاح الديني واليقين،نعم نستكر المنهج الذي تسلكه السلطة الضائعة بين المتشددين في تكوين العقيدة،لذا ثار ثوار تشرين الابطال عام 19 لتحقيق الصحيح ليكن لهم في بلدهم مرفقاً، لذا بقي موقف الفتية الصالحة واضحا وصريحا لا تردد فيه اقوياء في ايمانهم بالوطن مستكرين ما عليه قومهم اليوم من فساد العقيدة وفساد المجتمع والسياسة معا ليبقى الوطن لهم دون عامة الناس.هنا اختلف المنهجان،فلا سبيل للالتقاء ولا المشاركة في حياة قيادة الوطن بين المؤتمن والفاسد، لذا لابد من الاصرار حتى النجاح على سقوط المقصرين، فهل يؤمل ممن قتل العلماء والمفكرين ان يعترف بقسم ويمين لا ابدا، فعَدو العدالة ليس له قيم انسانية ودين،؟

المطالبون اليوم بالحقوق الضائعة ليسوا رسلا بل اصحاب عقيدة ودين كل ما عندهم الا دفاع عن وطن مكلوم ليحمونه من بطش حكامه الظالمين ليبقى احساسهم في هدم نظريات التخريب وهدم سجون الحاكمين بشيء واحد لا غير هو الايمان بالعدل، هنا يجب كشف الحقائق المزيفة التي يقبع في جوفها الارتداد عن الدين، ليبقى الذين خانوا الامانة وسرقوا السلطة وقتلوا العلماء والمفكرين ونهبوا المال العام في حفرة الاطيان لا يتحركون وهم بلا دين.

نحن ندعو الشباب المخلص للوطن والدين الى ضرورة الالتزام بنظرية "تغيير المنكر بالقلب" ليتبعها كره المنكرات والاعراض عنها قبل ان تستفحل كمنهج فاسد في الرأس عند المفكرين والناس معا، ورفض الباطل وكل ما يمكن ان يعول عليهم بنفع دنيوي رخيص وتحصين انفسهم من الخطأواحتقارهم العلني للعاملين فيه ومقاطعتهم وعدم منحهم الثقة مهما قالوا وقدموا فهم والمنكر متحدين، وحتى لو دعا الامر الى عصيان مدني ضد قوى الظلام من الحاكمين، مرضى السلطة والمال والمنكر الرخيص، نعم نحن مسلمون وموحدون، لكننا لا نسير وراء القطيع،

أما المناهج المدرسية أصبحت تخضع لسياسة ولي الفقيه الجامدة والفاسدة في الوطن تحت اسم المؤسسة الدينية التي لاتقبل النقاش او حوار التغيير، دكتاتورية مقدسة صرفة لا تقبل رأي الاخرين ماتت من زمن بين الشعوب المتحضرة والقرآن يعترف بالرأي الاخر "لكم دينكم ولي دين"،. حتى اصبحت المعلمة التي يلفها الغموض تعلم طلابها اللطم والزنجيل في صف دراسي رسمي باعتباره مادة دراسية ملزمة التطبيق. وهذا لم يحصل حتى في عصور الظلام عند احتلال المغول لوطن العراقيين، يقول الامام علي(ع) :"لو كشف الغطاء ما أزددت يقيناً، " لذا ان اتباعه اليوم لا يؤمنون به الا كغطاء وسياج حماية لهم وليس ايمانا بعقيدته، وما يدعون به بالولاء لأهل البيت والصحابة مجرد خُرافة في رؤوسهم، ليس سوى مظهرية وتدليس،

ألم يقل "محمود المشهداني رئيس مجلس النواب السابق المتهاون في حقوق الوطن: نحن ما جئنا لبناء دولة،بل جئنا للتفليش"والا لماذا لا يطبقون دينهم وهم اليوم يحكمون، فاين هم، واين مهديهم المنتظر الوهَم، ولماذا السارق والفاسد المعترف على نفسه لا يحاكم أمام القانون كما قال المالكي كلنا فشلنا وانا واحد منهم ولا زال يحكم ويحكمون؟ ألم يأمر الامام علي(ع) شريح القاضي بمحاكمته مع اليهودي الذي اتهمه بسرقة السيف حين سمع الاتهام من الاخرين حتى تمت براءته امام الله والقانون، فأين اصحابه اليوم من القانون، في دولة اللاقانون،؟، هؤلاء يدنسون اهل البيت بأدعائهم الانتماء اليهم، والقانون.

"اذا أردت ان تقتل وطناً، أقتل فيه الصحة والتعليم" وهذا مافعلوه مع شعب العراق المغفل الكظيم، الصدريون قتلوا وزارة الصحة في عهد عديلة حمود، والدعوويين قتلوا التعليم حتى اصبح وزير التعليم العالي اليوم يلغي علم الفلسفة ليستبدله بفقه العقيدة ولا ندري اية عقيدة دينية يقصد،؟ وهل ان هذا الوزير درس في مدرسته الدينية فلسفة العلم الاصيل، وهو خريج مدرسة دينية يلفها الغموض، ووزراء للصحة باعوا حتى أدوية المرضى بلا ضمير.؟

، وهل يحق لامريكا الحرية في عهد الرئيس بوش الابن ان تسقط نظاما قائما على الدكتاتورية لتستبدلة بنظام الفساد والتجهيل والتهديد وتدمير مستقبل المواطنين وتسلمه لاعدائه الاخرين، أمر غير معقول، وغير مقبول.يتنافى مع دستور الامريكيين. ، فنحن لسنا بحاجة لدين المذهبية الباطلة والتجهيل ولا نظام المحاصصة البغيض وكأن العراقيين كتل متنافرة لا شعب واحد. واشكاليات خلقوها من العدم كمشكلة المرأة في الاسلام،ومشكلة التفسير للنص،والعصبية القبلية دون معايير. وحين تقرأ احكامهم وكأنك تفهم ان الاسلام جاء ضد المرأة وحقوقها الطبيعية وضد عدالة التقسيم متجاهلين الأية 180 من سورة البقرة التي تدعو للوصية ومساواة التقسيم. أما الفلسفات الانسانية القديمة لاعتقادهم فتجاهلوها وقالوا عن قصد : "ان كل ما انتجه الفكر الانساني يقع في هامش الباطل والخطأ "، وان كل ما انتجه هذا الفكر الانساني هو عدو للدين حتى لم يعد بامكاننا تعريف ما هو الاسلام والى اليوم سوى اراؤهم المتضاربة في التحديد، فعن أي أسلام يتحدثون اسلام شيعة السلطة ام اسلام سُنة السلطة اعداء الشعوب، وما فائدة دين لاينفع المتدينيين،اما كان الافضل لنا لو كنا بلا دين مثل اليابان والصين؟.

من هنا فقد خلت الدراسات الاسلامية وحتى اليوم من نظرية اسلامية المعرفة الانسانية لتعطينا منهجا في التفكير العلمي، فأدى ذلك الى التفكك الفكري والتعصب المذهبي المخترع منهم، الذي انتج الاتهام بالكفر والالحاد والزندقة والهرطقة للأخرين، لعدم تمكنهم من الخروج من مآزقهم الفكرية الميتة فكانت مواقف التشنج والسذاجة وضيق الافق تحميهم سلطة الباطل بقوة اللاقانون ، وفقدانهم الارضية العلمية للفلسفة التي هي ام العلوم.لذا سنبقى نعيش في ازمة فقهية حادة لا تعالج الا بفقه جديد معاصر يستند على نظرية جدلية الانسان في التكوين ورمي كل كتب التفسير والمرجعيات الدين للاحاديث النبوية المزورة في البحر اوحرقها كي لاتعود الينا بثوب جديد، من هنا نحن ندعو الى التوقف عن نشر كتب التراث وزجها بالاطاريح الجامعية التي اصبحت القابا علمية للفخفخة لا غير، لكونها انتجت لنا اسلام الفقهاء المشوه لا اسلام القران الكريم.

نحن نقول ان الحضارة ظاهرة انسانية عامة لها عقل يمكنها من التفكيردون ربطها بالنص المقدس الذي يريدونه جامدا دون تحريك ناسين او متناسين ان الانفتاح الفكري والاستقرارالعقلي هو يعني ميلاد حضارة، لا التعلق في فوضى الاحاديث الموضوعة من المنتحلين مسلم والبخاري وبحار الانوار الوهم اللامعقول.

، طبقة حاكمة خائنة سارقة فاسدة لا تؤمن بوطن ولا بدين وان تظاهرت بهما حتى اوصلوا الشعب الى قبول سلة غذاء التسول منهم - وهم الفاسدون السارقون المتسولون-، ووجعلونا طبقة مُعدمة بلا حقوق، يبيعون نفطنا باسم الاخرين وشعبنا يقتله الاسى والحرمان والجوع، ومن حارب الوطن من الاعداء لهم الرواتب التقاعدية منا والمواطن العراقي هو المحروم ينتظر سلالهم والعياذ بالله منها ومنهم، ولكن فلتعلم هذه الطبقة الفاسدة المنفصلة عن جماهير الامة اصبح فسادها منفصلا عن كتلة الشعب السليمة البنيان رغم فقرها الشديد وظلمها من قبل عصابات الحاكمين، لكن العتب كل العتب على مقتدى الصدر الذي انتخبه الشعب، فتنازل للخائنين بأوامر الأخرين ولا عتب عليه فهو من الاساس كان من اللا مخلصين، فالمتقلب الاهواء لا يؤمن بوطن ودين،. أنه لا يستحق الولاء ولا حتى قدسية الدين.بعد ان خان امانة التبليغ.

لقد ظلت وستبقى طبقة الشعب محاطة باطار اخلاقي معنوي قومي سليم لتبقى الروابط الاسرية والعلاقات بين الناس قوية لتسلم من التدهور والتفكك ومعاداتها للفساد والفاسدين الظلمة. من هنا نحن نأمل ان يبقى الشعب سليما، ليبقى التدهور والفساد يلف الطبقة الحاكمة الظالمة ولا غير، وتبقى طبقة الشعب في مجموعها سليمة لتعود مرة اخرى لتبني دولة القانون، ولتقدم كل الخونة والمجرمين من سراق المال العام الى مقاصل القانون كماحصل لملك فرنسا لويس السادس عشر وماري انطوانيت بعد الثورة الفرنسية عام 1789،والنذر اليوم تظهر بدايتها بانتحار الفاسدين واعترافات الفشل في ادارة العملية السياسية الخائنة، ليعود شعار الحرية والاخاء والمساواة يحتل فكر المواطنين، نعم، عادت دولة الفرنسيين.وذهب لويس السادس عشر وماري انظوانيت لمقصلة التاريخ،

وغداً سيذهبون،؟

نحن متفائلون من صنع رؤية جديدة لمستقبل الانسان العراقي قائمة على العقل والعلم والحرية رغم كل ادوات القمع التي تمارسها عصابات التخلف المدعية بالدين كذبا وزورا من الحاكمين وعصاباتهم القاتلة للعلماء والمفكرين وكل ما هو نافع للوطن والشعب لتنفصل "سلطات الدولة عن حقوق الناس" وننهي الى الابد سلطة الاحزاب الفاسدة ومن يرأسها ممن حملت السلاح مع الاعداء لمقاتلة العراقيين، وهي المدعية بالدين والوطن اليوم كذبا وزورا في وطننا الاسير، وخاصة من يدعون الوطنية تضليل،

وسيبقى علم الفلسفة الذي هو ام العلوم، الحقيقة المطلقة في الوجود، ليعود بنا الى رسالة الاسلام الحقيقية لا المزيفة التي التي بها يتم التأويل دون التفسير الناقص الذي يرفعه اعداء الوطن والدين، فالدين عدالة وحقوق،وليس دولة وسياسة ودكتاتورية وجود فلا امل بالخلاص الا بفصل دينهم المزيف عن السياسة وحكم المواطنين، وهاهم المتدينون انظروا اليهم كيف يديرون دولة الباطل في الوجود.

وأخيرا نقول : أختاروا الدواء الصحيح فالموت قادم عليكم ""نحن لسنا بالكافرين كما تتهموننا، فالكافر هو الظالم، هو الخائن، هو السارق، هو الفاسد، هو القاتل، اذن هو أنتم الكافرون ومن يصدقكم، فلا تشيعوا باعلامكم الرخيص شيوع الاعجاب بالالقاب والطواغيت من اهل الفسق والفاحشة، فهم الذين لا يؤمنون بعقيدة دين،؟

لكل داءٍ دواء، يستطب به  الا الحماقة أعيت من يداويها.

***

د.عبد الجبار العبيدي

الجولة الحالية من العدوان على جبهة غزة قد تكون السابعة منذ عام 2008 ما بين الحرب والتصعيد، وفي كل جولة يتم الحديث عن هدنة أو تهدئة وتقول إسرائيل إنها حققت أهدافها بالرغم من تعرضها لإطلاق عشرات وأحياناً مئات الصواريخ على بلدات غلاف غزة ومدن رئيسة فيها ، ونفس الأمر بالنسبة لفصائل المقاومة التي تتحدث دائماً عن انتصارها مع أنه سقط خلال هذه المواجهات أكثر من أربعة آلاف شهيد وآلاف الجرحى وخراب ودمار للبنية التحتية دون تحرير ولو شبراً واحداً من فلسطين أو يتم رفع الحصار عن غزة كما تواصل تطوير قدراتها الصاروخية وتعلن رسمياً معاداتها لإسرائيل ورفضها لعملية السلام.

بالرغم من مرور سنوات على هذا الوضع فإن إسرائيل تتعامل بسياسة النفس الطويل مع الفصائل في غزة وتصبر على ما تتعرض له من صواريخ تسيء لقوة الردع عندها، وتبرر ذلك بأن استمرار حكم حماس في غزة يخدم إسرائيل استراتيجياً من خلال تكريس الانقسام والفصل بين غزة والضفة وجعل مشروع الدولة الفلسطينية في الضفة وغزة وعاصمتها القدس مستحيلة التحقق،وهذا ما كرره نتنياهو أكثر من مره في رده على معارضيه في الحكومة أمثال بن غفير كما أن هذا الوضع في غزة يبعد الأنظار عن معركتها الحقيقية على الضفة والقدس لاستكمال مشاريعها الاستيطانية.

والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن:إلى متى ستستمر المعادلة القادمة في غزة بعد توقف عملية السلام وصيرورة غالبية الضفة والقدس تحت السيطرة الإسرائيلية؟ وإذا كانت إسرائيل تراهن على تحييد حماس من ساحة المواجهة بما مكنته لها من تسهيلات اقتصادية ومالية، فهل من ضمان باستمرار الوضع على حاله وخصوصاً بعد خروج/ إخراج غالبية قيادات حماس من جماعة الإخوان المسلمين الذين شاركوا في صناعة الانقسام من قطاع غزة ؟ وإلى متى سيصبر الكيان الصهيوني العنصري الذي تقوده حكومة يمينية عنصرية إرهابية متطرفة على تطوير فصائل المقاومة في غزة وخصوصاً حركة الجهاد لقدراتها الصاروخية وغياب الأمن والأمان،في الوقت الذي يهدد هذا الكيان بضرب إيران ويسعى بدولة يهودية تمتد من النيل إلى الفرات ويتبجح بأنه الدولة الأعظم في الشرق الأوسط؟ والى متى سيستمر حكم حماس مستقراً وألا تتغير معادلة السلطة في غزة؟

نستحضر هذه التساؤلات ونحن نشهد جولة التصعيد الحالية،فمع أن إسرائيل كانت تعلم بأن  الجهاد الإسلامي سيرد على اغتيال قادته الثلاثة فجر الثلاثاء التاسع من مايو الجاري  بإطلاق الصواريخ ومع ذلك أقدمت على فعلتها وما زالت تواصل عمليات الاغتيال وترفض أي هدنة، وهذا يطرح تساؤلات حول أهداف إسرائيل من هذه العملية؟

وفي اعتقادنا أن أهداف إسرائيل ليس فقط اغتيال قادة الجهاد وليس فقط لحسابات داخلية سواء ترضية بن غفير وسموترتش اللذان يريدان التعامل بقسوة مع حماس وغزة، أو محاولة نتنياهو صرف الأنظار عن أزمته الداخلية والاتهامات الموجهة له بالفساد، بل لها أهداف إستراتيجية بعيد المدى منها: محاولة خلق فتنة وحرب أهلية داخل القطاع بين حركة الجهاد وحماس وقد يصل الأمر بتهديد حركة حماس باستهداف قياداتها إن لم توقف الجهاد الإسلامي عن إطلاق الصواريخ وإنهاء وجوده المسلح في القطاع أو استيعابه في سلطتها، وربما تأمل إسرائيل بفتنة  بين الجهاد والشعب في مراهنة أن يثور الشعب على حركة الجهاد ويُحملها مسؤولية معاناته إن استمر إغلاق المعابر وتعطيل سير الحياة العادية.

ولكن،لأن نجاح مخطط نتنياهو بخلق فتنة داخلية غير مؤكد فقد يسعى العدو لتغيير المعادلة القائمة في قطاع غزة بإنهاء الدور الوظيفي لحماس وخلق واقع جديد في القطاع وخصوصاً إن شاركت حماس في المواجهة، وفي هذا السياق فإن حركة حماس في وضع صعب فإن لم تشارك في الحرب تفقد مصداقيتها داخلياً كما ستفقد الدعم والتمويل  الإيراني، وإن دخلت الحرب ستتعرض سلطتها وقياداتها لردة فعل قوية من إسرائيل.

بعيداً عن تهويل وتضخيم بعض الفضائيات ومن تستضيفهم من محللين سياسيين وأمنيين واستراتيجيين  لقدرات المقاومة وتحقيقها لتوازن الردع والرعب مع إسرائيل وما يمكن أن تحققه صواريخ المقاومة من إجبار العدو على الخضوع لشروط المقاومة وشروط الجهاد الإسلامي  أيضا مع احترامنا للمحللين السياسيين الذين يهدفون لرفع الروح المعنوية عند الشعب والمقاتلين ومع تقديرنا لبطولات المقاتلين في حركة الجهاد وكل فصائل المقاومة في كل ربوع فلسطين .... علينا استحضار تجربة الحروب السابقة حيث تم إطلاق آلاف الصواريخ على إسرائيل والكل يعرف النتيجة، ولذا نتمنى على حركة الجهاد الإسلامي أن تتوقف عن إطلاق الصواريخ حتى بدون شروط لأن المعركة ليست معركتها لوحدها مع إسرائيل وليست معركة غزة مع إسرائيل بل معركة الكل الفلسطيني حتى وان كان المستهدفون بالاغتيال من حركة الجهاد.

نتمنى أن تتوقف المواجهة في أقرب وقت لأن العدو الصهيوني قد يلجأ لإطالة أمد الحرب  لاستدعاء تدخلاً دولياً ومرابطة قوات دولية على حدود غزة وبالتالي يتم ترسيم حدود غزة مع اسرائيل تمهيداً لإعلان دولة الفلسطينيين في إطار حل الدولتين الذي يطالب به المجتمع الدولي وبهذا يصل مخطط الانقسام وصناعة دولة غزة إلى مرحلته النهائية، ولا نريد أن تبدو حركة الجهاد الإسلامي وكأنها جزء من هذا المخطط..

***

إبراهيم أبراش

المواجهات بين المقاومة الموحدة و"إسرائيل" أماطت اللثام عن تطور استراتيجي حصل في معادلة التوافق بين فصائل الفلسطينية في غزة للرد على العدوان الإسرائيلي المستمر وهذا يسجل للمقاومة الموحدة.

إنه اشتباك غير معهود منذ تأسيس غرفة العمليات المشتركة من خلال إعادة توزيع الأدوار وخاصة بين الفصيلين الكبيرين حماس والجهاد الإسلامي وفيه تداخل ذكي ما بين السياسي المعلن والميداني الفعّال في غرفة القيادة المغلقة فلا يتسرب منها سوى ما يندرج في خانة الإعلام العسكري في سياق بيانات رسمية.

وهذا من شأنه أن يفسر ذلك القصف الصاروخي الكثيف للعمق الإسرائيلي من قبل غرفة العمليات المشتركة، بتطوير التكتيكات العسكرية لاستنزاف القبة الحديدة، من خلال إطلاق قذائف الهاون غير المكلفة بغزارة، وبذلك يتم إهدار طاقات القبة الحديدية التي ارتبك أداؤها فلم تعد قادرة على مشاغلة صليات الصواريخ الكثيفة متفاوتة المدى بكفاءة.. مع العلم بأن تكلفة كل صاروخ فيها يتجاوز ال 100 ألف دولار مقابل قذائف هاون لا تتجاوز كلفتها الخمسين دولار وصواريخ لا تكلف سوى بضعة آلاف.

والنتيجة أن الصواريخ المحسنة تجاوزت غلاف غزة حتى عمق 80 كم نحو جنوب تل أبيب والقدس وبيت لحم على اعتبار أن كل هدف منها يشكل رسالة ذات دلالات أمنية وسياسية.

ورغم أن عمليات الرد على العدوان الإسرائيلي كانت مشتركة من قبل جميع فصائل المقاومة بما فيها حماس التي تسيطر على قطاع غزة وذلك تحت قيادة الجهاد الإسلامي التي تصدرت المشهد، إلا أنه بدا وكأن حماس توارت في الظل ولو إعلامياً ما ترك موقفَها عرضةً للتكهنات- سنقف على سر ذلك لاحقاً في سياق هذا المقال-.

وهو ما يسعى الإعلام الإسرائيلي إلى إظهاره وفق استراتيجية حكومة اليمين الإسرائيلية المتطرفة في خطابها الإعلامي الجديد بغية شرذمة المقاومة الفلسطينية الموحدة وتفكيك غرفة العمليات المشتركة والتأثير سلبياً على قاعدتي الحركتين الجماهيرية وستكون بمثابة "ضربة معلم" بالنسبة لنتنياهو لو أصاب هدفه، وذلك من خلال التركيز على فصيل دون الآخر.. في عملية أطلقوا عليها اسم"القوس" مستهدفة قادة الجهاد الإسلامي الأمنيين الخمسة بغية إرباك عملية قصف الصواريخ، وهذا لم يحصل إذْ أن الضبط والربط كان السمة البارزة في أداء الجهاد الإسلامي الذي توسع في قصف العمق الإسرائيلي باقتدار. وعلى رأي المثل: "كأنك يا أبو زيد ما غزيت".

وتمسكاً منها بمطالبها الثابتة فقد أطلقت المقاومة على العملية اسم"ثأر الأحرار" لأنها تسعى من خلالها إلى تحقيق عدة أهداف أولية طياً لهذه المرحل العصيبة التي فرضت عليها:

-ردع الاحتلال ومنعه من استهداف قادة حركات المقاومة.

-تسليم جثمان الشهيد خضر عدنان القائد في الجهاد الإسلامي الذي قتله الإهمال الطبي الإسرائيلي الممنهج.

-وقف مسيرة الأعلام الإسرائيلية التي ستنطلق بعد تسعة أيام انطلاقاً من باب العامود مروراً بالحي الإسلامي حتى باب المغاربة" وفق ما قالته القناة 12- العبرية.

وهي شروط أبلغتْ بها المقاومةُ الوسطاءَ (مصر وقطر ومبعوث الأمم المتحدة).

إن محاولة إثارة الفتنة بين فصائل المقاومة من أهم أهداف عملية"ثار الأحرار" وهذا ما يؤكده تركيز بيانات الحكومة الإسرائيلية على الجهاد الإسلامي فيما أخذت تتعامل مع حماس كطرف محايد لا يجب أن يتدخل في قصف العمق الإسرائيلي.. موحية إليه بما يشبه الاتفاق الضمني فيما لو اقترفت حماس ذلك؛ فإن القصفَ سيستهدف المواطنين في غزة دون حساب. وعلى رأي المثل القائل" أكلت يوم أكل الثور الأبيض".

كل ذلك يثبت بأن صمت حماس النسبي ليس تنسيقاً سرياً مع الاحتلال كما يوحي إليه الخطاب الإعلامي الحربي الإسرائيلي؛ بل هو استراتيجية مدروسة بالتوافق مع حركات المقاومة أل(12) المنضوية تحت غطاء "غرفة العمليات المشتركة".. في إطار إعادة توزيع الأدوار التي حافظت على زخمها، وذلك للتهرب من ضغوطات ثاني اكبر حلفاء حماس بعد إيران.. والمقصود هنا (تركيا) كون حماس تدير قطاع غزة، ولديها حسابات دبلوماسية مع داعمي القطاع تنموياً، مع مراعاة بقاء رد المقاومة إزاء كل عدوان متنامياً في إطار وحدة الساحات؛ لذلك حافظ القصف الصاروخي على زخمه رغم استشهاد أهم قادة الجهاد الإسلامي الميدانيين.

وتعلم القيادة الإسرائيلية بأنه دون حماس سيكون إرباك قيادة الجهاد في مثل هذه الظروف هو الموقف المتوقع وهو ما لم يحصل.

ولا ريب أن هذه اللعبة كانت مكشوفة لقادة الاحتلال الإسرائيلي وعلى رأسهم نتنياهو؛ الذي آثر غض الطرف عنها لحفظ ماء الوجه أمام الإسرائيليين الذين هم على استعداد لقلب الطاولة على حكومته وخلط أوراقه السياسية، وبالتالي العودة إلى خيار الانتخابات المبكرة والنتيجة أن نتنياهو سيزج به في السجن على خلفية قضايا سابقة.

فزخم حماس العسكري موجود في غرفة العميلات المشتركة ضمن قواعد اشتباك تقليدية ولكن هذه المرة دون المساس العشوائي بالمواطنين من قبل الطيران الإسرائيلي كما كان دارجاً في السابق والمرهون بمشاركة حماس المعلنة- وفق ما سنرى-.

وتمهيداً لتفسير التَغَيُّرِ الحمساويِّ الشكليِّ وثباته جوهرياً؛ لا بد من معرفة أن حركة الجهاد الإسلامي لا تتلقى الدعم إلا من قبل محور المقاومة الذي يناصب "إسرائيل" العداء المعلن، خلافاً لما تعانيه حماس التي تتلقى الدعم المفتوح من محور المقاومة كعضو فاعل فيه، إلى جانب داعمي التنمية في غزة وهم: قطر وتركيا والجزائر.

وكانت تركيا التي استعادت زخم علاقاتها مع "إسرائيل" قد خَلُصَتْ -من منطلق مصالحها الاقتصادية- إلى تفاهمات ضمنية مع حماس بضمان عدم مشاركتها في أية عمليات ضد الاحتلال مقابل عدم استهداف المواطنين في غزة عشوائيا من قبل الطيران الإسرائيلي كما كان معهوداً في السابق حرصاً من أنقرة على سلامة المواطنين في القطاع وحماية تنميته المتعثرة، وإرضاءً للشريك الإقليمي الجديد في اتفاقية مرور خط الغاز الإسرائيلي عبر تركيا إلى أوروبا.. وعليه فقد اكتفت تركيا بالحدِّ من تحركات قادة حماس السياسيين فيما دفعت بالقادة العسكريين إلى الخروج من أراضيها تباعاً.

هذا ما يستشف مما قالته صحيفة هآرست في مايو 2022 على إثر التقارب مع "إسرائيل" وتبادل السفراء بين البلدين في أن الطرف الإسرائيلي آنذاك طلب من تركيا إخراج قادة حماس من أراضيها.

وظلت تركيا تلعب دور الوسيط ولكن من خلال الدور القطري الفاعل بحكم التحالف بينهما.

لذلك قامت حماس بترتيب الأدوار في غرفة العمليات المشتركة كما ذكرنا آنفاً.

وعليه.. فبعد ثلاثة أشهر من التفاهمات أعلاه، تم تطبيق استراتيجية حماس الجديدة بالمشاركة في غرفة عمليات مشتركة تقودها الجهاد الإسلامي مع توفير الغطاء السياسي لها في عملية "وحدة الساحات" أوغسطس 2022 حيث استفردت "إسرائيل" بالجهاد الإسلامي موحية بإكذوبةِ حياديةِ حماس التي قامت بدورها الكامل في الظل، بغية تأمين عدم التعرض للمواطنين وفق التفاهمات مع تركيا، فيما أدت دورها العملياتي باقتدار باعتراف الجهاد الإسلامي.

وهذا مجرد افتراض يجيب على سؤال ملحٍ ما لبث قائماً منذ ذلك الوقت.

صحيح أن القيادة الإسرائيلية ليست غافلة عن الأمر وقد فشلت في استغلال ذلك لزرع الفتن بين فصائل المقاومة المتلاحمة؛ لكن الجماهير الإسرائيلية المتضررة معنوياً تلقت الرسالة عكسياً والأسئلة تعصف برؤوسهم المصدوحة:

أإلى هذا الحد يتمكن فصيل واحد وهو الجهاد الإسلامي من إلحاق كل هذا الضرر ب"إسرائيل"! فماذا لو شاركت حماس! لا شك أنها ستكون وخيمة وقاضية.

وإمعاناً في التضليل الإعلامي، طلب نتنياهو عدم تهديد حماس إعلامياً.

جاء ذلك رداً على ما قاله الوزير وعضو المجلس الأمني الوزاري المصغر، يسرائيل كاتس، (ليكود) الثلاثاء الماضي: “إنّه في حال شاركت حركة حماس في الرد سنشرع باغتيال السنوار والضيف.

وتدخل نتنياهو لمنع مثل هذه التصريحات وكأنه معني بحيادية حماس في صورة إعلامية كاذبة سعى لترسيخها، وقد فشل في ذلك على صعيدين فلسطيني وإسرائيلي.

وفي ذات السياق، رأى عاموس هارئيل، مُحلِّل الشؤون العسكريّة في صحيفة (هآرتس) العبريّة، الثلاثاء الماضي، أنّ قيام "إسرائيل" باغتيال ثلاثة من قادة الجهاد الإسلاميّ في غزّة سيؤدي إلى جولة تصعيدٍ ستستمِّر بحسب التقديرات عدّة أيّامٍ، بيد أنّ دخول حماس في المعركة سيؤدّي إلى تحسين القدرات الفلسطينيّة، وقد تتسبب بإشتعال الجبهات الأخرى.

وقد فشل الوسطاء بإرغام الطرفين على هدنة طويلة بسبب رفض "إسرائيل" لشروط المقاومة (حماس والجهاد).

لكن احتدام الاشتباكات وخاصة استهداف العمق الإسرائيلي المستمر بالصواريخ الدقيقة، إلى جانب الخسائر التي يتكبدها الاحتلال بسبب فشل القبة الحديدة في رصد ربع الصواريخ التي أصابت أهدافها في العمق الإسرائيلي، بسبب التكتيك الجديد الذي تبنته المقاومة من خلال استنزافها، بتصديها لقذائف الهاون التي كانت تطلق لهذا الهدف قبل كل صلية صواريخ، فإن هذا كله سوف يرغم "إسرائيل" على القبول بهدنة ظل يكابر على قبولها.

إن ردّ المقاومة المؤثر والذي حيد نسبياً القبة الحديدية أظهر فشل نتنياهو في لجم صواريخها حتى بهتت صورته أمام مؤيديه.

فكلما كان يدّعي بقرب انتهاء عملية (القوس) بعد تحقيق الأهداف الإسرائيلية كان يواجه بقصف صاروخي يطول حتى مدن جنوب العاصمة تل ابيب!

فعلى صعيد سياسي فإن خسارة نتنياهو ستكون فادحة لأن قراره أضر ب"إسرائيل" وأثبت هشاشتها؛ وذلك وفق ما قاله خبراء ومراقبون من خلال البرامج التحليلية واللقاءات التي سجلت في الشارع عبر القناة 13 الإسرائيلية، فقد عجز نتنياهو عن إقناع الإسرائيليين بأن العملية حققت أهدافها لمعرفتهم بأنه فعل ذلك لتصدير الأزمات الداخلية إلى غزة فكانت النتيجة معاكسة.

حيث تعطلت الحياة في "إسرائيل" ما زاد من فاتورة العملية الباهظة المفتوحة.

لا بل أنها أثبتت وجود ترهل في الجيش الإسرائيلي إلى جانب عزوف الشباب عن الالتحاق بالخدمة العسكرية، فيما تزايدت الرغبات المتصاعدة في مغادرة الحلم الإسرائيلي الذي حولته المقاومة إلى مصيدة للموت.

كل ذلك أدّى إلى انخفاض شعبية بن غفير الذي ورّط الجيش الإسرائيلي في مواجهات فضحت فشله الذريع في التصدي لصواريخ المقاومة.

خلافاً لذلك، نجحت المقاومة في اللعب بأعصاب الإسرائيليين المختبئين في الملاجئ، من خلال صمت ما قبل العاصفة الذي انتهجته قيادة غرفة العمليات المشتركة في سياق رهاب المستقبل.

***

بقلم بكر السباتين

13 مايو 2023

تثبت الأحوال والتطورات التي تجري في الدول التي أسقطت أنظمتها السياسية، ودخلت مرحلة بناء نظام سياسي جديد، وتوافقات مجتمعية جديدة، أن الهدم مهما كانت صعوباته وعقباته، أسهل بكثير من مشروع البناء لما يحقق التطلعات والطموحات العامة.. لأنه دائما لحظات الانتقال السياسي والاجتماعي من نظام سياسي إلى آخر ومن شبكة مصالح مستقرة وقائمة، إلى بناء شبكة أخرى وفق شروط ومواصفات مختلفة أقول أنه دائما لحظات الانتقال، يرافقها بروز لكل الطموحات والتطلعات بحيث يسعى كل مكون اجتماعي أو سياسي للتفكير في مصالحه ورفع الصوت من أجل عدم التعدي أو تجاوز ما يعتبره هذا المكون أو ذاك أنه مصالحه الحيوية..

أسوق هذا الكلام ليس من أجل تحبيذ سياسة إبقاء  ما كان على ما كان، وإنما للقول: إن مرحلة البناء في أي فضاء اجتماعي أو سياسي أو وطني، يتطلب لياقات وإمكانات بشرية قادرة على تجاوز كل العقبات وعدم تضييع البوصلة في زحمة الأزمات والاستحقاقات المتفاوتة.. ولكي تتضح هذه الرؤية بشكل دقيق ومفصل وانطلاقا من تجربة دول الربيع العربي خلال عام وأشهر في بناء واقعها السياسي الجديد أذكر النقاط التالية:

1 - ثمة أطراف محلية وإقليمية ودولية عديدة، تعمل بوسائل مختلفة على وأد الربيع العربي وعدم وصوله إلى نهاياته السياسية في بناء دول ديمقراطية – تعددية.. ولا شك أن حضور القوى الحية في الشعوب العربية وإصرارها على النزول إلى الميدان والمعترك السياسي، سيساهم في إفشال الإرادات المحلية والإقليمية والدولية المضادة..

2- تؤكد تطورات الأحداث في دول الربيع العربي، أن قوى الإسلام السياسي أمام فرصة تاريخية للمساهمة في مشروع التحول الديمقراطي في المنطقة.. وهذا يتطلب من قوى الإسلام السياسي الالتزام بمسألتين أساسيتين وهما:

1- الالتزام بالديمقراطية بكل آلياتها وميكانيزمات عملها، بوصفها الخيار الوحيد لإدارة المجال العام على أسس جديدة في المنطقة العربية.. فالديمقراطية ليست تكتيكا للتمكن السياسي، وإنما هي خيار نهائي..

إذا تمكنت قوى الإسلام السياسي من الالتزام بالديمقراطية ومقتضياتها، فإن هذه القوى وبزخمها الشعبي، ستساهم بإيجابية في عملية التحول الديمقراطي في المنطقة..

2-عدم اسقاط المنطقة في الفتن الطائفية والمذهبية وهذا يتطلب من قوى الإسلام السياسي، خلق مقاربة فكرية وسياسية جديدة لحقيقة التعدد الديني والمذهبي في المنطقة..

ولا ريب أن انزلاق قوى الإسلام السياسي نحو الفتن الطائفية والمذهبية، سيضيع فرصة مشاركتها الفعالة في مشروع التحول الديمقراطي..

3- يبدو من مجموع المعطيات السياسية والإستراتيجية والأمنية المتوفرة، عن بلدان الربيع العربي، أنها تتجه إلى توزيع مصادر القوة في الاجتماع الوطني بين العسكر والحركات الإسلامية بكل تشكيلاتها وأطيافها وألوانها.. بحيث تكون الدولة والخيارات الاستراتيجية بيد المؤسسة العسكرية، أما السلطة كفضاء للتنافس والتداول، فسيكون في أغلب هذه الدول بيد الحركات الإسلامية..

وطبيعة المستقبل السياسي المنظور لدول الربيع العربي، ستكون مرهونة إلى حد بعيد إلى طبيعة العلاقة التي ستتشكل بين العسكر والإسلاميين.. فإذا كانت العلاقة قائمة على أساس التناغم التام، فإن الأمور تتجه إلى أن تكون دول الربيع العربي أشبه ما يكون إلى النموذج الباكستاني.. أما إذا كان الإسلاميون ينشدون بناء دولة مدنية – ديمقراطية، ويبادرون باتجاه بناء كتلة سياسية – ديمقراطية واسعة تتجه صوب هذا الهدف، وتحول دون هيمنة العسكر، فإن النتيجة حتى ولو كانت هناك صعوبات حقيقية آنية من جراء التنافس والتدافع والصراع، هي اقتراب دول الربيع العربي من النموذج التركي..

4- في سياق التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، يتم الخلط الدائم بين الفكرة الديمقراطية التي قد لا تختلف عليها القوى السياسية والاجتماعية.. وبين النظام الديمقراطي، الذي يتطلب في المرحلة الأولى تفكيك النظام السابق وشبكة المصالح القائمة وبعد ذلك تأتي مرحلة إرساء معالم النظام الديمقراطي الجديد..

فالفكرة الديمقراطية هي فكرة حالمة، لأنها تتحدث عن ما ينبغي أن يكون، دون الوقوف أمام مشاكل الانتقال وطبيعة الانقسامات والصراعات الاجتماعية والسياسية الناتجة من تناقض المصالح أو الخوف من ضياعها وخسارتها.. وبين النظام الديمقراطي الذي يتطلب وقائع اجتماعية جديدة وممارسة سياسية واجتماعية تعتني بإدارة اللحظة بكل زخمها وتبايناتها وتناقضات القوى المختلفة التي تشكلها.. فبناء الديمقراطيات يتطلب مغالبة دائمة لكل نزعات الاستبداد، وتأسيس مستمر لوقائع وحقائق الحرية والديمقراطية في الفضاء السياسي والاجتماعي.. ووجود أزمات ومشاكل وانقسامات اجتماعية ونزاعات سياسية، كلها ظواهر طبيعية في مجتمع يريد الانعتاق والتحرر.. كما أن الديمقراطية لا تنهي هذه النزاعات والانقسامات، وإنما تنظمها في إطار تنافس سياسي – سلمي، محكوم بقواعد دستورية وقانونية..

وإن شروط نجاح جهود المصالحة والانصاف في مجتمعات الربيع العربي هي الآتي:

1- الالتزام بمقتضيات التغيير الديمقراطي – السلمي في الدولة والمجتمع..

2- بناء التحالفات السياسية والاجتماعية الواسعة..

فالتحالفات السياسية العابرة للمشارب الأيدلوجية والفكرية والسياسية، هي القادرة على إنجاز المصالحة والإنصاف، وضبط نزعات الثأر والانتقام..

3- الديمقراطية حق الجميع: لعل من الأخطاء الكبرى في مرحلة العدالة الانتقالية، والتي تساهم في شحن النفوس والبحث عن آليات للدفاع عن الجماعة الخاصة، هو العمل بعقلية (ديمقراطية الاستثناء) التي تتجه لاعتبارات معينة في استبعاد شريحة أو فئة من الواقع السياسي الجديد..

4- فالاستثناء والإقصاء يخرب العملية السياسية، ويفتح المجال للنافذين إلى التلاعب في هذا الحق.. وهذا بطبيعة الحال يقتضي إعطاء أولوية إلى بناء مرجعية قانونية ودستورية حتى يتم التنافس بين مختلف القوى في سياق مرجعية دستورية، تكون هي الحكم والفيصل حين النزاع، أو في تحديد الأولويات وجدول الأعمال الوطني للإصلاح والتغيير..

***

محمد محفوظ – كاتب وباحث سعودي

شهدت موسكو جولة جديدة من مشاورات التسوية التركية السورية بوساطة روسيا وإيران - وهذه المرة على مستوى وزراء الخارجية، (الروسي سيرغي لافروف، والإيراني حسين أمير عبد اللهيان، والسوري فيصل المقداد، والتركي مولود تشاووش أوغلو، ليكون هذا اللقاء، البوابة للمرحلة المقبلة، التي تؤدي الى لقاء قمة بين قادة سوريا وتركيا.

اللقاء الرباعي حول سوريا وكما أشار الوزير لافروف، إلى أن الاجتماع الحالي هو أحد مراحل تسوية سورية طويلة الأمد، سبقتها عدة جولات من المفاوضات على المستوى العسكري، وممثلي الخدمات الخاصة، وعلى وجه الخصوص، في 25 أبريل، عقد الاجتماع الثاني في روسيا الاتحادية بمشاركة وزراء دفاع روسيا وسوريا وتركيا وكذلك إيران، التي انضمت إلى هذا الشكل، ويفترض أن تكون نتيجة المسيرة الدبلوماسية مفاوضات على مستوى رئيسي سوريا وتركيا.

ويبدو إن موسكو حققت نجاحا، بمحاولة جديدة للتقريب بين دمشق وأنقرة، في الاجتماع الذي طال انتظاره لوزراء خارجية الدول الأربعة، وكانت احدى نتائجه المهمة، هو قرار وضع "خارطة طريق" لتطبيع العلاقات التركية السورية، ومن الواضح أن الأطراف مستعدة للتعاون في القضايا الأمنية، لكن المصالحة الكاملة بين تركيا وسوريا لا تزال بعيدة، وقالت وزارة الخارجية الروسية في بيانها، إن وزراء خارجية روسيا وتركيا وسوريا وإيران، ناقشوا إعادة العلاقات بين الدولتين السورية التركية، واتفق المشاركون في الاجتماع، على توجيه نوابهم لإعداد "خارطة طريق" لتعزيز العلاقات بين أنقرة ودمشق بالتنسيق مع عمل وزارات الدفاع والخدمات الخاصة في الدول الأربع.

واقترح وزير الخارجية الروسي، بصفته مضيف الاجتماع، وضع خارطة طريق لعدد من المشاكل التي تعيق المصالحة بين أنقرة ودمشق، وتحدث الدبلوماسي عن اعتراضه على "التدخل الخارجي الفاضح في شؤون المنطقة خاصة مع استخدام القوة العسكرية"، في الوقت نفسه، على حد قوله، بدأت الولايات المتحدة الآن تشكيل ما يسمى بالجيش السوري الحر بمشاركة مسلحين من أجل زعزعة استقرار الوضع في البلاد، وقال " - حسب معلوماتنا "، بدأ الأمريكيون في تشكيل ما يسمى بالجيش السوري الحر، في محيط الرقة السورية، بمشاركة ممثلين عن العشائر العربية المحلية ومسلحي داعش (منظمة محظورة في الاتحاد الروسي) و المنظمات الإرهابية الأخرى، والهدف واضح – هو استخدام هؤلاء المسلحين ضد السلطات المسلحة الشرعية في سوريا العربية، لزعزعة استقرار الوضع في البلاد.

وأشار الوزير الروسي بشكل عام، إلى أهمية تطبيع العلاقات بين الجمهورية العربية السورية ودول أخرى في المنطقة، بما في ذلك مصر والمملكة العربية السعودية، وكذلك استئناف الاتصالات الدبلوماسية بين الرياض وطهران من خلال وساطة بكين، وكذلك تم في 7 مايو، الإعلان عن عودة سوريا لعضوية جامعة الدول العربية، وفي 19 مايو، تمت دعوة الرئيس السوري بشار الأسد لحضور قمة لهذه المنظمة، والتي ستعقد في المملكة العربية السعودية، وأقترح لافروف بعد نتائج الاجتماع الرباعي، وضع خارطة طريق للتطبيع السوري التركي، والتي سيتم تقديمها إلى رؤساء الدول، يوجب أن تتيح الخريطة هذه، تحديد مواقف الأطراف المتعاقدة - سوريا وتركيا - بوضوح بشأن الموضوعات ذات الأولوية بالنسبة لهم، مما يعني حل مهمة استعادة السيطرة على الحكومة السورية في جميع أنحاء البلاد، وضمان أمن موثوق وبحسب الوزير لافروف، فإن الحدود المشتركة التي يبلغ طولها 950 كيلومترا مع تركيا تقضي على احتمال وقوع هجمات عبر الحدود وتسلل إرهابيين، بالإضافة إلى استعادة روابط النقل واللوجستيات والتعاون التجاري والاقتصادي بين تركيا وسوريا، والتي كانت مقطوعة في السابق بسبب الأعمال العدائية، وتسهيل العودة الآمنة والطوعية للاجئين السوريين إلى الأراضي التي تسيطر عليها دمشق.

وبدوره فقد قال وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو عقب المحادثات "أكدنا على أهمية التعاون في مكافحة الإرهاب وتوفير البنية التحتية للعودة إلى الوطن ودفع العملية السياسية ووحدة أراضي سوريا"، في حين سبق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الاجتماع الرباعي، بالقول، بإن عمليات القوات المسلحة التركية على الحدود مع سوريا والعراق لم تكتمل، وأن أنقرة تنتظر اللحظة المناسبة، وقبل ذلك، قال الممثل الرسمي للرئيس التركي، إبراهيم كالين، إن أنقرة مستعدة لعملية عسكرية جديدة في شمال سوريا ويمكن أن تبدأ في أي لحظة، في غضون ذلك صرح الرئيس السوري بشار الأسد، خلال زيارته لموسكو في مارس / آذار أنه وافق على لقاء نظيره التركي فقط إذا سحبت تركيا قواتها من سوريا.

وكما هو معلوم الان فان حوالي 65٪ من أراضي سوريا هي تحت سيطرة الحكومة السورية، ومعظم المحافظات الشمالية الشرقية في الرقة والحسكة، وكذلك الأجزاء الشمالية من محافظة دير الزور، تخضع لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية، وتتكون بشكل رئيسي من الميليشيات الكردية، وجزء من إدلب احتلته حركة تحرير الشام المتطرفة (منظمة محظورة في روسيا الاتحادية)، وتقع عدة مناطق في حلب والرقة والحسكة وإدلب تحت حماية الأمر الواقع لأنقرة، والتي تأسست نتيجة العمليات العسكرية التركية درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام، لذلك تركيا مهتمة بهذا الاجتماع، ولا يمكن لها إلا أن تشارك، لأنها في إطار عملية أستانا التي حققت بعض النتائج، وبالنسبة لتركيا هذا أحد الأطر الرسمية التي تضفي الشرعية على وجودها في سوريا، وأن هناك شيئًا آخر، تركيا عضو في الناتو، وهذه الكتلة ليست غير مبالية على الإطلاق عندما تتاح الفرصة لأحد أعضائها للمشاركة في مثل هذا الشكل .

ومع ذلك، في الوقت الحالي، من المستحيل القول على وجه اليقين، من في القمة السورية التركية، في حالة انعقادها، يمكن أن يمثل أنقرة، حيث ستجرى الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية في البلاد في 14 مايو، في الوقت نفسه، ووفقًا لاستطلاعات الرأي الأخيرة، فإن فوز أردوغان ليس مضمونًا بأي حال من الأحوال، ومع ذلك، حتى لو نجح مرشح المعارضة، كمال كيليجدار أوغلو في الانتخابات، فإن أنقرة لن تسحب قواتها، كما يعتقد المحللون الروس، ويشيرون إلى أن "هناك مصالح موضوعية، ولا يمكن لأي من القادة المنتخبين في البلاد، بغض النظر عن توجهه السياسي، أن يتجاهلها"، ومع ذلك، فإن مشاركة تركيا في هذا الاجتماع الرباعي في موسكو يجب أن يُنظر إليها على أنها حضور غير مباشر لعضو في الناتو في التسوية السورية .

و كانت المناقشات بين دمشق وأنقرة أكثر حدة، وقال وزير الخارجية السوري فيصل المقداد، رغم أن هناك فرصة للعمل المشترك مع تركيا، ولهما أهداف ومصالح مشتركة، فإن وقف الوجود العسكري الأجنبي غير الشرعي في سوريا، بما في ذلك التواجد التركي، يمثل أولوية لبلاده، وشدد على أنه "بدون إحراز تقدم في هذه القضية سنبقى في مكاننا ولن نتوصل إلى أي نتائج حقيقية"، لذلك  ما زال من الصعب جدا على سوريا وتركيا، إيجاد تقارب في المواقف من هذه القضية، وإن التسوية السياسية للوضع في سوريا لا تعتمد فقط على موقف تركيا، بل المشكلة الأساسية هي إعادة دمج مناطق شمال شرق سوريا، التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية، وهي مليشيات ذات أغلبية كردية، وإن التسوية السياسية للأزمة السورية من غير المرجح أن تكون ممكنة دون مراعاة مصالحهم.

وركز الوفد التركي على التعاون في مكافحة الإرهاب، وهو ما يعني في المقام الأول بالنسبة لأنقرة، احتواء القوات المسلحة الكردية على حدودها، فضلاً عن الجهود المشتركة لتهيئة الظروف لعودة اللاجئين السوريين، وهاتين المسألتين لهما أهمية خاصة بالنسبة لتركيا، بما في ذلك في سياق الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقبلة في نهاية الأسبوع، حيث وعد الخصم الرئيسي للرئيس التركي كمال كيليجدار أوغلو، بضمان عودة اللاجئين السوريين إلى وطنهم في حال فوزه، والسلطات التركية الحالية لا تريد التنازل عن هذا الموضوع للمعارضة، في الوقت نفسه، أشار المتحدث باسم الرئاسة التركية، إبراهيم كالين، عشية لقاء موسكو، إلى أن مفاوضات تطبيع العلاقات مع سوريا تتطلب صبراً ووقتاً طويلاً.

وبغض النظر عن مدى تقدم العملية السياسية للتقارب بين أنقرة ودمشق، فإن الصراع الأمني بينهما قد بدأ بالفعل، فعشية الاجتماع الرباعي، أعلن وزير الدفاع التركي خلوصي أكار أيضًا عن موافقة الدول الأربع على إنشاء مركز تنسيق عسكري، ومن نقاط الاتصال المشتركة بين جميع الأطراف الموقف السلبي من الوجود الأمريكي في سوريا، وكذلك النزعة الانفصالية الكردية.

وبشكل عام، كان موقف إيران قريبًا من موقف روسيا، وهو يؤكد على انسحاب جميع القوات الأجنبية من الأراضي السورية، إذا لم توافق دمشق على وجودها ( الحديث هنا عن التشكيلات التركية والأمريكية)، بالإضافة إلى ذلك، كان من المهم للوزير الإيراني حسين أمير عبد اللهيان بشكل عام التأكيد على دور الوساطة لطهران، وأعرب عن أمله في أن الاجتماع سيكون "إشارة قوية على أن تركيا وسوريا تركزان على حل سياسي"، وبحسبه، في المناطق الحدودية في سوريا، ازدادت احتمالية اندلاع صراع عسكري سابقًا، وبُذلت جهود دبلوماسية كثيرة لمنع التصعيد

إن الاجتماع الرباعي حول سوريا في موسكو، يعكس الصراع السياسي الدولي على النفوذ في هذا البلد، وبما أن سوريا عنصر أساسي في سياسة موسكو في الشرق الأوسط، ترغب الأخيرة المحافظة على وجودها العسكري هناك، وايران التي تحافظ على نفوذها أيضا، لن تغادر سوريا بسهولة، وإن التسوية السياسية للوضع في سوريا لا تعتمد فقط على موقف تركيا، بل المشكلة الأساسية هي إعادة دمج مناطق شمال شرق سوريا، التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية، وهي مليشيات ذات أغلبية كردية، وإن التسوية السياسية للأزمة السورية من غير المرجح أن تكون ممكنة دون مراعاة مصالحهم، ولكن الاجتماع الذي عُقد هو انتصار دبلوماسي أكيد للاتحاد الروسي، فالوضع في الشرق الأوسط لازال غامضا .

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

مرت العلاقة بين الحزب الشيوعي وحزب البعث في العراق بكثير من حالات التقارب والتنافر، وبخاصة بعد عودة حزب البعث الى الحكم ثانية في السابع عشر من تموز 1968، إذ دعا البعثيون في البيان رقم (1) الصادر صباح يوم السابع عشر من تموز 1968 الى تناسي خلافات الماضي. كما وعد البيان بتشكيل مجلس يمثل القطاعات الوطنية والشعبية كافة على أساس تكافؤ الفرص وسيادة القانون، ويبدو أن الدعوة الى تناسي خلافات الماضي كانت موجهة للشيوعيين أكثر من غيرهم.

عقدت حكومة البعث في التاسع من نيسان 1972 معاهدة بالغة الأهمية مع الاتحاد السوفيتي، وكانت هناك ضغوطات من قبل السوفييت على قيادة الحزب الشيوعي العراقي بالتفاوض والموافقة على التحالف الجبهوي مع حزب البعث، وافق الحزب الشيوعي العراقي وقبل أن تخرج مباحثات تشكيل الجبهة بنتيجة، عرض البعثيون على الشيوعيين الاشتراك في الحكومة القائمة بوزيرين، فوافق الشيوعيون على العرض وتناسوا مقتل قياداتهم واعضائهم بشكل وحشي في الثامن من شباط 1963، وبناءً عليه عُين في الخامس عشر من ايار 1972 مُـرشحا الحزب الشيوعي كل من المحامي عامر عبد الله وزيراً للدولة، وعضو اللجنة المركزية للحزب مكرم طالباني وزيراً للري، وقد جاءت معظم أو كل هذه الإجراءات في سياق تقوية موقف الحكومة استعداداً لتأميم النفط، الذي حصل لشركة نفط العراق في الأول من حزيران 1972، ودعم الحزب الشيوعي خطوة التأميم بحماس، لكن تداعيات عملية التأميم قد تسببت بتوقف المفاوضات الخاصة بتشكيل الجبهة من دون التوصل الى اتفاق.

وبناءً على ما تقدم يمكن القول ان العلاقة بين الحزب الشيوعي وحزب البعث قد شهدت الكثير من حالات الشد والجذب، أو بمعنى أدق انها قد شهدت الكثير من حالات العنف والقليل من حالات العمل المشترك، الذي مهد الطريق لتشكيل ما سُميَّ بـ(الجبهة الوطنية والقومية التقدمية) عام 1973.

أصبحت الأجواء في خريف عام 1972 مهيأة لعودة الحوار بخصوص تشكيل الجبهة بعد نجاح عملية التأميم، لذا نشطت من جديد المفاوضات بين الحزب الشيوعي وحزب البعث من أجل الخروج بصيغة توافقية لتشكيل التحالف المنشود.

برزت في أثناء المفاوضات التي نشطت من جديد العديد من نقاط الخلاف، لعل أهمها إصرار حزب البعث على قيادة الجبهة ورفض الحزب الشيوعي لهذه المسألة. لكن هذه الخلافات لم تجد طريقها للحل إلا بعد مرور عدة أشهر تعرض خلالها الحزب الشيوعي إلى العديد من الضغوط ومن عدة جهات في سبيل الموافقة على تشكيل الجبهة بشروط حزب البعث.

حثت الدول الاشتراكية وفي مقدمتها الاتحاد السوفيتي الحزب الشيوعي العراقي على الدخول في تحالف جبهوي مع حزب البعث من دون تحفظات، إذ بات لهذه الدول في العراق كثير من المصالح السياسية والاقتصادية، لذا سعت بقوة لتعزيز نظام حكم حزب البعث فيه، فيما ساندت الأحزاب الشيوعية العربية عموماً النظام البعثي في العراق، لانتهاجه بحسب ما ترى سياسة معادية للمصالح الغربية، وكان للحزب الشيوعي السوري دور مميز في الضغط على نضيره العراقي، ولا يبدو هذا الأمر غريباً إذا ما علمنا أن الأول قد دخل مع حزب البعث السوري في تحالف جبهوي بشروط مشابهة لما طرحه حزب البعث الحاكم في العراق مثل قيادة الجبهة واحتكار العمل السياسي في الجيش.

تأثر الحزب الشيوعي العراقي كسائر الأحزاب الشيوعية في بلدان العالم الثالث بنظريات التحول اللارأسمالي نحو الاشتراكية التي كانت رائجة في الاتحاد السوفيتي أبان عقد السبعينيات من القرن الماضي، وكان ينظر الى نظام حزب البعث بأنه متجه نحو الاشتراكية من هذا الطريق، غير أن بعض الباحثين يرى بأن تبني حزب البعث للاشتراكية لم يكن نابع من إيمانه بها، بل كان مقدمة لفرض سيطرته على الاقتصاد العراقي بشكل كامل، لأجل توطيد سيطرته السياسية في البلاد.

ومهما يكن من أمر، فعلى الرغم من كل ما تعرض له الشيوعيين من ضغوط إلا أن قيادتهم ظلت مترددة، وغالبية قواعد الحزب كانت رافضة لفكرة التحالف مع حزب البعث، بسبب ما لها معه من ذكريات مؤلمة، بيد إن هذا الوضع حسم بضغط كبير مارسته موسكو على الشيوعيين العراقيين للقبول بالشروط التي طرحها حزب البعث للتحالف، وبعبارة أخرى إن الحزب الشيوعي العراقي ما كان لينضم إلى تحالف جبهوي يقوده حزب البعث لولا الضغط الكبير الذي تعرض له من جانب الاتحاد السوفيتي، الذي كان يفضل التعامل مع الحكومات أكثر من التعامل مع أحزاب المعارضة.

اضطر قادة الحزب الشيوعي إزاء هذا الضغط الكبير إلى إبداء المرونة تجاه القضايا الخلافية وفي الجانب المقابل وافق حزب البعث على إعادة صياغة القضايا المختلف عليها في الميثاق، لكن الصياغات الجديدة لم تختلف من حيث الجوهر عن الصياغات القديمة باستثناء وضعها في أطر فضفاضة، وخصوصاً النقطة المتعلقة بقيادة الجبهة التي تم إعادة صياغتها بالشكل الآتي: (إن إقرار ميثاق العمل الوطني بصيغته اليوم، يعتبر الإعلان الرسمي لقيام جبهة الأحزاب.. ويحتل حزب البعث.. موقعاً متميزاً في قيادتها وهيئاتها، ويقود السلطة السياسية في الدولة كما يقود مؤسساتها الدستورية). وإن كانت هذه الفقرة لا تنص صراحة على قيادة حزب البعث للجبهة غير إنها تعني ذلك من حيث الجوهر، وإن موافقة الشيوعيين على هذا الأمر يعد خروجاً على مقررات المؤتمر الوطني الثاني للحزب الشيوعي، أي أنه خروجاً على الشرعية الحزبية، لأن المؤتمر الوطني يعد أعلى سلطة قرار في الحزب الشيوعي، مما يعني إن أي إجراء أو قرار مهم يراد اتخاذه خلافاً لمقررات المؤتمر السابق يستدعي عقد مؤتمر جديد وهو ما لم يحصل.

أما بخصوص عبارة (تصفية الكيان الصهيوني) الواردة في ميثاق العمل الوطني لعام 1971 فقد عدلت على النحو الآتي: (النضال ضد الصهيونية كحركة عنصرية عدوانية وكنظام عنصري عدواني....)، وإلى جانب ما تقدم هنالك عبارة أخرى تخص الأكراد جاءت في ميثاق 1971 بالصيغة الآتية: (إن ممارسة الجماهير الكردية لحقوقها القومية المشروعة بما فيها الحكم الذاتي تتم ضمن إطارها الطبيعي الذي تجسده وحدة السيادة الوطنية ووحدة الأرض ووحدة النظام السياسي في الجمهورية العراقية.. كما تتم أيضاً على أساس الإقرار والإيمان بان العراق جزء لا يتجزأ من الوطن العربي). وتم تعديل هذه العبارة بحذف الجملة التي تشير إلى أن العراق جزء لا يتجزأ من الوطن العربي، ولم أجد كباحث فيما توافر لديَّ من وثائق ومصادر شيوعية أي ما يشير إلى الاعتراض على ما جاء في هذه الفقرة من ميثاق عام 1971، وعلى ما يبدو إنها عُدلت لكسب ود الأكراد على أمل الموافقة على الدخول في التحالف الجبهوي المزمع تشكيله، وهكذا تم تجاوز أهم العقبات التي كانت تقف عائقاً أمام تشكيل الجبهة من وجهة نظر البعثيين والشيوعيين دون الأكراد الذين رفضوا التفاوض بشأن الجبهة أصلاً.

عقدت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي اجتماعاً في السادس من نيسان عام 1973، لمناقشة آخر مستجدات المشهد السياسي وفي مقدمتها العلاقة مع حزب البعث، وأشار التقرير الصادر عن الاجتماع إلى أن الحزب الشيوعي قد قدم بعض التنازلات من دون توضيح طبيعة تلك التنازلات، فيما أكد الفقيد زكي خيري بوصفه عضواً في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي ومن الذين حضروا الاجتماع على إنه قد تم التصويت في الاجتماع المذكور على نتيجة المفاوضات مع حزب البعث التي تم قبولها من أعضاء اللجنة المركزية للحزب بأغلبية صوت واحد من مجموع الأعضاء الحاضرين في الاجتماع، أما الحزب الشيوعي العراقي فقد ابلغ حزب البعث بموافقته على الدخول معه في تحالف جبهوي على وفق الشروط التي تم التوافق عليها بين الجانبين، غير إن حزب البعث أهمل الموضوع ولم يرد عليه إلا في تموز 1973، على أثر المحاولة الانقلابية الفاشلة التي قادها مدير الأمن العام ناظم كزار في الثلاثين من حزيران 1973.

كشفت محاولة ناظم كزار عن أن صراعاً مريراً كان يجري داخل حزب البعث الحاكم حُسم بالنهاية لصالح صدام حسين نائب رئيس مجلس قيادة الثورة، الذي تبنى بنفسه بعد هذا الحدث حواراً سريعاً عجل بالإعلان عن تشكيل ائتلاف جبهوي مع الحزب الشيوعي، ليظهر صدام بمظهر الرجل الحريص على التعامل السلمي مع الأطراف السياسية الأخرى، ملقياً اللوم على ناظم كزار في ممارسة جرائم الاغتيال والتعذيب لكوادر الحزب الشيوعي أمثال كاظم الجاسم وستار خضير وشاكر محمود وأحمد الخضري، غير إن تحميل ناظم كزار لوحده مسؤولية الأعمال اللا أخلاقية التي كان يقوم بها جهاز الأمن مسألة من الصعب قبولها. كما ليس من السهولة بمكان التسليم بأن تلك الأعمال كانت تجري من دون علم القيادات الأعلى في الحزب والدولة.

اُعدم ناظم كزار في السابع من تموز 1973، وبعد عشرة أيام صدر عن حزب البعث والحزب الشيوعي بياناً مشتركاً أعلن فيه عن الاتفاق على ميثاق العمل الوطني، ولم يختلف هذا الأخير عن الميثاق الذي أعلن عام 1971 باستثناء النقاط التي اشرنا إليها قبل قليل. وقع البيان المشترك في السابع عشر من تموز 1973 كلٌ من احمد حسن البكر بوصفه أمين سر القيادة القطرية لحزب البعث في العراق وعزيز محمد السكرتير الأول للجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، وبهذا ولدت ما اسماها البيان بـ(الجبهة الوطنية والقومية التقدمية)، وعقب إذاعة البيان ألقى احمد حسن البكر كلمة بالمناسبة. وبقيام الجبهة انتقل الحزب الشيوعي من خنـدق المعـارضـة إلى قصر السـلطـة، الــذي حــل فيــه مجبراً أو مختــاراً ضيفــاً محدود الحركة والتصرف.

ويبدو مما ذكره حسن العلوي بوصفه أحد الكتاب الذين كانوا على مقربة من مصادر القرار البعثية آنذاك، إن تحالف حزب البعث مع الحزب الشيوعي لم يكن نابعاً من الإيمان بسياسة إشراك الآخرين في الحكم، إذ أكد العلوي على إن القيادة القطرية لحزب البعث قد وزعت في اليوم التالي لإعلان التحالف مع الحزب الشيوعي تعليمات على الجهاز الحزبي تطلب فيها تقديم أفكار ومقترحات لتفتيت الحزب الشيوعي، وكان اخطر المقترحات التي قدمت وأخذ طريقه للتنفيذ هو دس عناصر من حزب البعث في صفوف الحزب الشيوعي، وأكد الشيء نفسه رحيم عجينة ممثل الحزب الشيوعي في اللجنة العليا للجبهة، مشيراً الى اكتشاف العديد من حالات الاندساس من عناصر بعثية بين صفوف المنظمات الشيوعية.

يتضح مما تم استعراضه آنفاً إن الجبهة بالنسبة لحزب البعث كانت ضرورة آنية أملتها الظروف الداخلية والخارجية التي كانت تمر بها حكومة حزب البعث، ولم تكن سياسة التحالف يوماً منهجاً استراتيجياً نابعاً من إيمان حزب البعث بتلك السياسة، كما أكد احمد حسن البكر في كلمته التي ألقاها عقب الإعلان عن تشكيل الجبهة، بل إن المسالة معكوسة تماماً، إذ كانت الجبهة بالنسبة للبعثيين تمثل خطوة تكتيكية لعبور مرحلة معينة، ولم يختلف الأمر كثيراً بالنسبة للشيوعيين، إذ كان التحالف الجبهوي يمثل لهم مرحلة انتقالية نحو الاشتراكية لكنه تنازل تحت وطأة الظروف عما أفترضه من دور قيادي في المرحلة الانتقالية.

وبصرف النظر عن هذه الرؤية أو ذلك التحليل، فقد توجه الحزبان بعد التوقيع على ميثاق العمل الوطني إلى استكمال الجوانب التنظيمية للجبهة، وبهذا الشأن برزت مسألة مهمة وهي طريقة اتخاذ القرارات داخل الجبهة هل تتم بالأكثرية أم بالإجماع، إذ كان الحزب الشيوعي يؤيد طريقة الإجماع وحزب البعث يرفضها ساعياً بكل حرص إلى تأكيد حيازته أغلبية المقاعد في الجبهة، على الرغم من أن السلطتين التشريعية والتنفيذية كانتا تحت سيطرته، ومع ذلك تم الاتفاق على مبدأ الإجماع من دون أن ينص الميثاق أو قواعد العمل في الجبهة على هذا الأمر، وإنما تم الاكتفاء بتعهد من صدام حسين باسم حزب البعث بالالتزام بهذا المبدأ. وفي السادس والعشرين من آب 1973 نشرت صحيفة (الثورة) البعثية النظام الداخلي وقواعد العمل في الجبهة من دون أية إشارة الى طريقة اتخاذ القرارات.

إن سياسة التراجع التي انتهجها حزب البعث أكدت أن هذا الحزب كان يرمي من الجبهة أن تكون واجهة لنظامه، وأن يؤيد الشيوعيون جميع قراراتهم ولا يعارضونه. وفي ظل هذا التراجع، عقدت اللجنة المركزية اجتماعاً لها في آذار (مارس) عام 1978، وأصدرت تقريراً طالبت فيه وبإصرار من البعث بضرورة وقف حملات الاعتقالات والشروع بإرساء دعائم النظام الديمقراطي. وقد كانت الاعتقالات بصفوف الشيوعيين الذين أقاموا تنظيمات لهم داخل المؤسسة العسكرية العراقية وهو أمر محظور، وتم فعلاً إعدام 31 من العسكريين والمدنيين الشيوعيين لقيامهم بالإعداد لمحاولة انقلابية وفق مفهوم حزب البعث، ومن ذلك التاريخ بدأت الجبهة الوطنية تتآكل شيئاً فشيئاً حتى انهارت بعد بدء الحرب العراقية. الإيرانية ورفع الحزب الشيوعي شعار "انتهاء الحرب بإسقاط النظام"؛ فخرج الشيوعيون من العراق وعقدوا مؤتمرهم الرابع بعد تقليص عدد أعضاء اللجنة المركزية إلى 15 عضوا وترشيح 10 أعضاء ليكونوا قيادة الظل وهو ما أعتبره البعض إنهاءً للجيل القديم من القيادات الشيوعية ومن ذلك التاريخ أصبح الحزب الشيوعي العراقي ضعيف التأثير في محيطه وتعيش أغلب كوادره خارج العراق والقليل منها في منطقة كردستان العراق التي كانت تشكل حليفا استراتيجيا لهم، حتى جاء وقت احتلال العراق من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا 2003م ليظهر الحزب الشيوعي مشاركا في النظام الجديد ومتحالفاً مع تيارات إسلامية كالتيار الصدري وسواه وهو ما أفقد الحزب الكثير من تاريخه النضالي الذي كان يرتكز على معاداة الإمبريالية ومناكفة الاستعمار.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

أستوقفني بوست طويل كتبه صديقي الدكتور أحمد سالم ونشره على الفيس بوك بعنوان "جامعات السراب وكليات الوهم"، حيث قال: "ذهبت إلى الجامعة في الصباح لإجراء الامتحانات الشفوية للطلاب.. وقد حددت لهم إجراء الامتحان الشفوي في جزء من المقرر وليس كل المقرر بما لا يتجاوز 80 صفحة.. دخلت في الصباح لإجراء الامتحان مع زملائي.. وللأسف قابلت اليوم كل طلاب الدفعة والذى يصل إلى حوالى 300 طالب.. لم يكن يحضر منهم المحاضرات سوي خمسين طالب.. رأيت كل الوجوه التي لم تكن تحضر أي محاضرات على الإطلاق.. لم يذاكر مقرر الشفوي كاملا سوى طالبين فقط.. أما الباقي فكل واحد ذاكر موضوع واحد فقط ولم يذاكره جيدا.. يريد الطالب أن اساله فيما ذاكر هو وهو جزء لا يعادل سبع المقرر تقريبا.. اليوم راجع حزين ونفسى مكسورة لأنى بذلت جهدا كبيرا معهم.. لأن جهدي مجرد سراب.. وتعبي وسعي فى تعليمهم لا يثمن ولا يغنى من جوع.. دع عنك التعرض لحرق الدم من الطلاب.. طالب بسأله لم يجب.. فسألته مذاكر إيه.. قال لي لم أذاكر أنا فقط عرفت إن فيه امتحانات شفوي فجئت.. ونماذج أخرى تحزن وتحرق الدم.. دع عنك دخولهم بحالة من اللامبالاة.. وعدم الإكتراث.. وحين أنهيت الامتحانات لم أستطع الجلوس فى الكلية.. وأخذت نفسى وعدت للمنزل.. وأنا راجع نفسى حزينة وبقول لنفسي ملعونة أم التمثيلية الفاشلة دى.. قال أنا استاذ جامعة.. وبعمل فى جامعة.. كلام فارغ أصبح ليس له أي معنى.. حاجتى فقط هي ما تدفعني للذهاب لمكان فارغ من أى مضمون.. وتمثيلية فاشلة ليس لها أي جدوي.. وتضحك حين تسمع الكلام عن جودة في التعليم.. وتسمع المسئولين لا يجيدوا سوى عرض أخبارهم علي صفحات المؤسسات.. وكل يوم يقالوا كل حاجة بخير.. المؤسسات إلى الأمام.وبعضهم يبالغ ويكلمك عن العالمية.. ودوره اللي محصلش في الارتقاء بالعملية التعليمية. حقيقي هذه التمثيلية الفاشلة ليس لها أى جدوى أو عائد على المجتمع.

وعقب قراءتي للمقال قمت بالرد فورا: صدقت والله يا صديقي.. التدهور وصل لمستوى غير مسبوق وغير متصور.. فلم يعد الطالب طالبا ولا الأستاذ أستاذا !!.. ماذا تتوقع من طالب لم يكتب سطرا واحدا طوال حياته الجامعية وقبلها ؛ فهو منذ ما يزيد عن أربع سنوات لا يعرف سوى التظليل على ورقة الإجابة عند اختياره من متعدد!! وأسئلة الامتحانات التي يطلقون عليها الامتحانات الموضوعية تافهة متكررة ولا تقيس أي مخرجات تعليمية مستهدفة.. أسئلة من قبيل: الجائع يأكل أم يشرب أم يجري أم ينام!!

أسئلة الامتحانات متكررة محفوظة لا تقيس أي شيء سوى ضمان النجاح للجميع!! منذ كورونا وقبلها والتحول نحو التقويم بنظام الاختيار من متعدد أصبح يتخرج في الجامعة أميون لا يجيدون القراءة والكتابة ويصاب الجميع بالرعب إن هددتهم بالعودة إلى نظام الامتحانات التي تتطلب الكتابة.. ومعظم الأساتذة يفضلون بقاء هذا النظام في التقويم؛ فهم لا يريدون العودة إلى وضع امتحانات تحتوي على مقالات وتعدد في أسئلة تقيس القدرات بما يتطلب من الاستاذ بذل الجهد في وضع الامتحان وقراءة أوراق الإجابة ووضع درجات لكل طالب.

لماذا يتعب عضو هيئة التدريس ونظام التقويم السائد مريح جدا ويضمن له نفس المكسب المادي؟!!.. أصبح المعيد وهو الأول على دفعته لا يجيد القراءة والكتابة ولا يدرك أنه ضعيف المستوى؛ وهذه هي الكارثة على التعليم التي ستأخذنا جميعا إلى حافة الهاوية إن لم نكن قد وقعنا في الهاوية ولا ندرك ذلك!!

كانت الدفعة الواحدة، أيام زمان، بها شعراء وكتاب قصة وموهوبون في مجالات عديدة فضلا عن حب الجميع للقراءة الحرة والتوجه نحو الثقافة العامة.. أصبح الآن مظهر الطالب الجامعي لا يوحي لا بعلم ولا ثقافة ولغته المتداولة ركيكة مبتذلة سطحية تخدش الحياء.. إلى أين تأخذنا ما يطلقون عليها منظومة التعليم؟!!

والأخطر من كل هذا كما قال علي حسن عمار أن هناك جيلًا ممن يحملون لقب «أستاذ» ويشرفون على الأطروحات الجامعية، هم أنفسهم أبناء هذا المسار المعوج، ومن ثَمَّ فإنه لا طائل من انتظار أن يخرج من تحت أيدى هؤلاء باحثون، يرتقون بوظائف البحث العلمي. إن الحالة المزرية التي عليها أغلب الأطروحات العلمية في مجال الإنسانيات، والتي تغص بها أرفف المكتبات الجامعية، لن تتبدل وينقضي سوؤها إلا إذا أُعيد النظر في العملية التعليمية برمتها، فانتقلت من حرص مريض على تخريج حفظة متعالمين بأي شكل وأي صيغة، إلى إصرار قوى وعفِىّ على صناعة جيل جديد من العلماء الحقيقيين، الذين تبدأ بهم رحلة مضادة للقضاء على الأمية المنهجية في كلياتنا الجامعية ومدارسنا، ودون ذلك سيستمر ما نحن فيه من خسران مبين... الله المستعان.

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

أستاذ ورئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل- جامعة أسيوط

من خلال الحلقة الثالثة من مقالنا (الأحزاب الشيوعية العربية وذيليتها للاتحاد السوفيتي) نستطيع أن نعود لواحدة من تلك المهازل لتاريخ العلاقة بين العراق والاتحاد السوفيتي وبالذات على عهد الزعيم عبد الكريم قاسم، حيث طُلب من الحزب الشيوعي العراقي أن يأخذ موقف المساندة الدائم للزعيم قاسم والامتناع عن إثارة الخلافات معهُ، لا بل ضرورة الاصطفاف معه وتأييده في مجمل سياسته، وقد وقفت القيادة السوفيتية موقفاً قامعاً لجميع الأصوات داخل الحزب الشيوعي العراق والتي كانت تندد بسياسة الزعيم عبد الكريم أو تشير لبعض أخطائه. ويعود السبب الرئيسي لهذا الموقف لضمان وقوف الزعيم عبد الكريم والدولة العراقية مع الاتحاد السوفيتي في المحافل الدولية. فلم يكن الاتحاد السوفيتي بحاجة لنفط العراق ولا خيراته الأخرى، ولكن صوت العراق وموقفه الايجابي من سياسات الاتحاد السوفيتي، كان السبب الرئيس في المساعدات التي قدمت للعراق. ونفس السياسة كانت تستخدم مع باقي البلدان وبالذات السائرة في طريق التحرر والاستقلال الوطني، ولم يكن هذا الموقف ببعيد عن بلدان المنظومة الاشتراكية التي كان الاتحاد السوفيتي يبذل قصارى جهده لكي تقف على قدميها فيقدم لها العون المادي والمعنوي.

فكان السوفييت يقدمون للعديد من البلدان أسلحة بالمجان وبأبخس الأثمان، ويرسل خبرائه ومعداته ويساعد في بناء ورش ومصانع وأبنية. فضلاً عن انتشار الفقر بين اوساط الشعب السوفيتي واشاعة طرق الرشوة وسرقة المال العام، فكان بعض اساتذة الجامعات يتقبلون الرشوة بابتذال ومثلهم أفراد الشرطة والأمن لا بل الكثير من موظفي الدولة. فالطالب الموفد للدراسة في الاتحاد السوفيتي يحصل على راتب كمنحة من الدولة قدره 90 روبلاً والمهندس السوفيتي وصاحب التحصيل العلمي العالي يستلم راتباً قدره 90 روبلاً، والطبيب يستلم بين 90 إلى 100 روبل، وهذا ينطبق على العديد من موظفي الدولة وذوي الاختصاصات العلمية العالية. في الوقت الذي كانت تعمل القيادة السوفيتية على تخصيص جل ميزانية الدولة للأنفاق العسكري، لذا ترك الناس يعيشون في تلك الأماكن الضيقة وظروف سكن قاسية ووضيعة. كان سباق التسلح وتخصيص جل ميزانية الدولة للمؤسسة العسكرية وصناعة الاسلحة اخلالاً فاضحاً في مستوى انجاز باقي قطاعات الاقتصاد.

لكن بعد الاطاحة بحكم الزعيم عبد الكريم قاسم عام 1963، ومن ثم اطيح بحكم حزب البعث في العراق من قبل حليفهم عبد السلام عارف، قام الأخير بزيارة القاهرة ورغب بنقل التجربة المصرية إلى العراق، وقد طرح عارف فكرة تشكيل الاتحاد الاشتراكي العربي في العراق تقليداً لخطوة جمال عبد الناصر، شعرت القيادة السوفيتية بالكثير من الارتياح وكأنها وجدت في ذلك ما يشفع لها للذهاب بعيداً نحو خيار الطريق اللارأسمالي في بناء الاشتراكية. وعدت القيادة السوفيتية خطوة عبد السلام توجه سليم ومكسب كبير، ورموا بعيداً ما كان يمثله عبد السلام عارف من طبيعة دموية فاشية بعد مشاركته في قتل الزعيم عبد الكريم قاسم ورفاقه، وكذلك إيغاله ومشاركته في اغتيال قادة وأعضاء ومؤازري الحزب الشيوعي العراقي في انقلاب شباط 1963م. وكان رأي مسؤول العلاقات الخارجية في اللجنة المركزية بوناماريوف قد لعب الدور الفاعل في رمي ذلك الانطباع بعيداً عن عبد السلام عارف.

ومع تشكيل الاتحاد الاشتراكي العربي في العراق تصاعدت آمال السوفييت بالقدرة على إعادة تجربة ما حدث في مصر وتكرارها مع الحزب الشيوعي العراقي، لذا اتخذوا بالضغط على قيادة الحزب الشيوعي العراقي للتهيؤ بما يتناسب والاستعداد للدخول في الاتحاد الاشتراكي العربي الذي كان قد أسس حديثاً. وكانت حجج الجانب السوفيتي تركز على طبيعة الحزب الشيوعي العراقي واعداده الغفيرة التي لو قيض لها الدخول في الاتحاد الاشتراكي العربي فأنها سوف تصبح القوة الرئيسية فيه، وعندها يمكن لها أخذ زمام المبادة وتحويل مسيرة الاتحاد نحو الوجهة الصحيحة في السير قدماً نحو بناء الاشتراكية.

عملت قيادة الحزب الشيوعي السوفيتي على توجيه ضغط هائل بدأته بين أوساط قيادة الحزب الشيوعي العراقي وكوادره وأعضاءه الموجودين في عموم الاتحاد السوفيتي، ومنهم عزيز محمد سكرتير اللجنة المركزية وسلام الناصري وغيرهم. وتوجهت حملة ممنهجة وواسعة عبر وسائل عديدة حزبية واعلامية في الداخل لدغدغة مشاعر الشيوعيين العراقيين ودفعهم للقبول بالدخول إلى الاتحاد الاشتراكي العربي بقيادة عبد السلام عارف.

في هذا الأمر وتلك المرحلة فإن التاريخ يسجل للحزب الشيوعي العراقي كقيادة وقواعد موقفاً قوياً وذكياً في القدرة على المراوغة وعدم الأخذ بالرأي غير الحكيم لقيادة الحزب الشيوعي السوفيتي. ولذا لم يصدر عن اللجنة المركزية أي قرار لا بالموافقة على الدخول ولا بحل الحزب وفي ذات الوقت امتنع الحزب عن اصدار ما يفند الرغبة بذلك. لكن بعض التوجهات الشخصية صدرت من بعض الكوادر دعت للدخول إلى الاتحاد الاشتراكي ومن ضمن هؤلاء السيد باقر إبراهيم عضو المكتب السياسي واللجنة المركزية حينذاك، ولكن تلك الدعوات واجهت انتقادات حادة وهجمة شرسة من داخل الحزب الشيوعي العراقي، افشلتها وقضت على رغبة القيادة السوفيتية.

كان موقف الحزب الشيوعي العراقي موقفاً ثابتاً ومبدئياً، فرغم قوة الضغط الهائلة التي مورست على الحزب الشيوعي العراقي من قبل القيادة السوفيتية، إلا أنهم لم يستطيعوا تغيير موقف الشيوعيين العراقيين في أحد أهم المفاصل التاريخية في حياته كحزب شيوعي. وتلك كانت نقطة هامة وفعالة أثبتت صحة موقف قيادة الحزب وخياره في طريقة إدارة شؤونه التنظيمية والعقائدية، وبقائه ككيان مؤسساتي له ثقله الفعلي داخل العراق.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

منذ الصِغر ونحن نقرأ عن السياسة الاستعمارية البريطانية التي تشتغل تحت شعار (فرِّق تسد) ونفذتها في كل البلدان التي استعمرتها من الهند إلى مصر وفلسطين الخ، ويبدو أن الكيان الصهيوني صنيعة بريطانيا يعمل على هدي هذه القاعدة في تعامله مع الشعب الفلسطيني وحتى في تعامله مع الأنظمة العربية.

فعندما عجز هذا الكيان المصطنع مدعوما بتحالفاته مع غالبية قوى الغرب الاستعماري طوال مائة عام من الصراع عن كسر إرادة الشعب الفلسطيني ودفعه للاستسلام من خلال القوة العسكرية فإنه يسعى لتدمير المجتمع الفلسطيني داخلياً من خلال إثارة الفتنة والشقاق ونشر الفساد والمخدرات واستقطاب بعض الأفراد والمكونات الاجتماعية إلى جانبه، وقد نجح العدو بالفعل في تحقيق اختراقات بهذا الشأن عند فلسطينيي الداخل ويواصل محاولاته عند فلسطينيي الضفة والقدس وغزة، وحتى عند فلسطينيي الشتات فبصماته واضحة في كثير من الخلافات بين أبناء الجالية .

يسعى العدو لتحقيق هذا المخطط عند سكان القدس وفي الضفة من خلال الفصل بين المدن والقرى وخلق أوضاع مغايرة سياسياً واجتماعياً واقتصاديا في كل منطقة مع محاولة صناعة قيادات عشائرية وسياسية واقتصادية محلية، أيضاً نشر الفساد وتسهيل دخول السلاح لأطراف محددة، وحتى داخل السلطة وحزبها يعمل على خلق فتنة من خلال تقريب بعض القيادات له على حساب أخرى أو الإيحاء بذلك وترويج شائعات وأكاذيب عن بعض القيادات. 

وفي هذا السياق نحذر مما يخطط له العدو في قطاع غزة من محاولة خلق فتنة وحرب أهلية بين حركتي حماس والجهاد الإسلامي، من خلال مساعدة حركة حماس على إدارة القطاع وتسهيل الحياة في القطاع من خلال السماح لآلاف العمال من غزة بالعمل في الداخل وتسهيل دخول الأموال القطرية واستمرار المشاريع المصرية مع تجنب استهداف قيادات حماس ومقراتها الرسمية وغير الرسمية، وفي نفس الوقت استهداف قيادات حركة الجهاد الإسلامي في القطاع وفي الضفة.

نُدرك أن حالة الانقسام والخلافات الداخلية لا تعود لإسرائيل وحدها بل هناك أطرافا أخرى  تتحمل المسؤولية، وتاريخيا كانت الأنظمة العربية تتدخل في الشأن الفلسطيني تحت عناوين كالبعد القومي للقضية والأمن القومي العربي أو مساعدة الشعب الفلسطيني وفي بعض الحالات كانت هذه التدخلات تُضعف الوحدة الوطنية وأحيانا تؤدي إلى صدامات وخلافات شديدة، كما كانت تدخلات باسم البعد الديني للصراع حيث لعبت جماعات الإسلام السياسي دورا سلبيا في الحالة الفلسطينية وما زال دورها سلبيا، إلا أن سيطرة الكيان الصهيوني على كل فلسطين وتحكمه بكل مناحي الحياة فيها جعل قدرته أكبر وأخطر على التدخل في الشأن الداخلي الفلسطيني بشكل مباشر أو من خلال التنسيق بشكل مباشر أو غير مباشر مع أطراف عربية وإقليمية.

لقد نجحت القيادة الفلسطينية وخصوصا الرئيس أبو مازن في تجنيب الشعب الفلسطيني حرباً أهلية عندما قامت حماس بانقلابها على منظمة التحرير الفلسطينية وسلطتها في يونيو 2007 حيث كان العدو يراهن على حرب أهلية في قطاع غزة وفي الضفة إلا أن القيادة كانت حذرة لهذا الأمر ولم تسمح به حتى وإن اتهمها البعض بالعجز والتواطؤ في تنفيذ مخطط الانقسام، وحتى بعد اندلاع فوضى ما يسمى (الربيع العربي) تعاملت قيادة منظمة التحرير بحكمة وهدوء وتجنبت الانجرار لهذه الفوضى أو دعم طرف على آخر، بالرغم من أن حركة حماس انزلقت نحو ذلك وسعت لتعزيز حالة الانقسام وهناك اتهامات لها من السلطة الفلسطينية بمحاولة نقل الفتنة والحرب الأهلية إلى الضفة.

نأمل من حركتي الجهاد الإسلامي وحماس الاحتكام إلى العقل والتوصل لتفاهمات مع بقية الفصائل في القطاع لكيفية الرد على العدوان الصهيوني وعدم تمكينه من تحقيق أهدافه بخلق فتنة وحرب أهلية تقضى على ما تبقى من مقومات صمود عند فلسطينيي القطاع، وأن تكون هذه التفاهمات مقدمة لوضع استراتيجية وطنية شاملة لمواجهة استراتيجية الحرب والإرهاب عند العدو في الضفة والقطاع وفي الداخل وفي الشتات.

***

ا. د. إبراهيم ابراش 

إن استقراء وتحليل جذور اسم «العراق»، ومناقشة النظريات العلمية حوله وربطه علمياً بجذره الجزيري «السامي»، كلّ ذلك يرتبط أوّلاً وقبل كل شيء بحقيقة وجود هذا الاسم في القرن الثامن قبل الميلاد بصيغة «أراكيا/ أراقيا» في الوثائق الآشورية التي نشرها وحلّلها العالم والمؤرّخ الأميركي ألبرت أولمستيد صاحب كتاب «HISTORY OF ASSYRIA». وهذا التوثيق الآثاري/ الأركيولوجي الذي يقدّمه أولمستيد يمكن أن يلخص لنا، وبشكل غير قابل للدحض، الهوية العربية الجزيرية لهذا البلد، بدءاً وحاضراً، رغم أنه يختلف في التفاصيل عن التخريجة الإتيمولوجية/ التأثيلية والفيلولوجية بالمعنيين اللذين يستبطنهما فقه اللغة ودراسة النصوص القديمة، التي تربط بين اسم العراق واسم «أوروك»، كما سيأتي بيانه بعد قليل. ويكشف لنا كيف تطورت المفردة عبر التاريخ مثلما تطور نسيج البلاد الإناسي/ الأنثروبولوجي والسكاني/ الديموغرافي واستقر عند التجلي الجزيري الأخير، «العربي»، قبل أربعة عشر قرناً مستمرة، مروراً بسلسلة التمظهرات الإناسية (الأنثروبولوجية) الجزيرية السابقة انطلاقاً من هويته الأكدية ثم الأمورية فالآشورية والآرامية فالكلدانية التي انتهت بالاحتلال الفارسي الأخميني ثم اختُتمت بهوية جزيرية جديدة هي العربية التي سادت وأمست عماد الحضور الديموغرافي العراقي بعد أكثر من أربعة عشر قرناً أعقبت الفتح العربي الإسلامي في القرن السابع الميلادي.

إن قراءة السردية والحيثيات التاريخية في تسلسلها الزمني (الكرونولوجي) الخاصة باسم «العراق» تعكس بدقة ووضوح هذا الواقع الهوياتي العربي، وإنْ بشكل غير مباشر أو غير مقصود، ولكن بشكل لا يمكن نكرانه أو التلاعب به كما يحاول المناهضون المعاصرون لعروبة العراق الحضارية والإناسية أن يفعلوا بعد الاحتلال الأميركي سنة 2003. ونقول «العروبة الحضارية والإناسية» لا العروبة العرقية السلالية. فهذه الأخيرة أمست في عموم المشرق خرافة فارغة من أي محتوى منذ قرون عديدة، بفعل الهجرات الواسعة النطاق والكوارث الطبيعية وعوامل المناخ والحروب والغزوات التي قامت بها شعوب المنطقة جمعاء وطاولت كل زاوية من زوايا الشرق تقريباً، بل وشارك فيها الغرب الأوروبي بقسط وافر في صنع وكتابة تاريخ المنطقة قديماً وحتى حروب الفرنجة، التي سمّاها الغربيون لا العرب «الحروب الصليبية» ومزجت في مرجل التاريخ والديالكتيك شعوب المنطقة مزجاً عميقاً على صعيد الإنثوغرافي مع احتفاظه بهويته الثقافية - اللغوية - الجزيرية السامية العربية في العراق والشام وشبه الجزيرة ثم امتداداً إلى مصر وبلدان شمال أفريقيا لاحقاً.

عوداً إلى موضوع اسم العراق القديم، نجد أن بعض الباحثين والمترجمين والإعلاميين العرب - وحتى بعض العراقيين- يستعملون الترجمة الإغريقية «ميزوبوتاميا» للمصطلح الآرامي العريق «بيث نهرين/ بين نهرين» دون الإشارة إلى أنها ترجمة لهذا الأخير. ويصرّون أحياناً على استعماله بما يوحي وكأنه الاسم الأصلي للعراق القديم. والنهران المقصودان هما دجلة والفرات. وهناك مَن لا يستعمل عبارة «ما بين النهرين» أو «بلاد الرافدين» التي تعنيها تماماً، بل يكرر الترجمة الإغريقية «ميزوبوتاميا» بالحرف العربي؛ أمّا عبارة «العراق القديم» فهي من المهملات أو ربما المحرمات عند بعضهم، ولهذا التصرف تفسيراته التي لا علاقة لها بالموضوعية البحثية غالباً بل الجانب النفساني والسلوكي للباحث الفرد وبعدم معرفته بهذه المعلومة.

إن اعتبار مصطلح «بلاد ما بين النهرين/ بلاد الرافدين» ترجمة عربية مأخوذة عن المصطلح الإغريقي «ميزوبوتاميا/ ميتسوبوتاميا»، هو كلام خاطئ جملة وتفصيلاً، يتكرر في الموسوعات المعلوماتية على النت وفي الدراسات الإناسية الاستشراقية والعربية، وهو غير دقيق تماماً؛ فعبارة «بيث نهرين» الآرامية هي الأصل، وكانت متداولة في عهد الدولة الآشورية التي تأسّست في بلاد الرافدين خلال القرن الرابع عشر ق.م، وزالت من الوجود كدولة في القرن السابع ق.م. هذه العبارة «بيث نهرين» هي الأقدم تاريخياً من ترجمتها الإغريقية «ميزوبوتاميا»، ثم الروماني لفترة قصيرة كاسم لمقاطعة محتلة من قبل الرومان في شمال بلاد الرافدين في عهد الإمبراطور تروجان سنة 116 م، حتى انسحاب الرومان منها في عهد هادريان بعد سنوات قليلة، والتي ولدت في القرن الثاني ق.م. وكما أن اللفظة الأصلية الآرامية «بيث نهرين» هي الأطول عهداً والأوسع استعمالاً والأقدم من ميزوبوتاميا الإغريقية بعدة قرون، ومرادفها العربي الصحيح والحرفي هو بلاد «ما بين النهرين»، واختُصرت في الاستعمال اليومي إلى «بلاد الرافدين» لخفّتها وسلاستها النطقية. وتكون النسبة إليها «الرافداني» على منوال «البحراني» وصنعاني وبهراني كما ورد في موسوعة «لسان العرب» لابن منظور ومراجع أخرى، في موضوع النسبة العَلَمية.

أمّا ترجمة «بيث نهرين» إلى عبارة «بيت النهرين» ترجمة خاطئة، فمنشؤها - كما يكتب أحد المهتمين بالموضوع - الخلط بين كلمة «بيث» و«بيت» التي تعني البيت والمنزل، ولكن التدقيق في هيئة الكلمتين بالخط الآرامي لا يظهر لنا أي فرق بينهما كتابة، فهل هناك فرق لفظي لا نعرفه؟ يبقى هذا السؤال مفتوحاً في الوقت الحاضر على الأقل. أمّا ترجمتها إلى «وطن النهرين» فالراجح أنها ليست ترجمة بعيدة عن المضمون، إذْ إنَّ البيت يعني في ما يعني الوطن، ليس في اللغات الجزيرية السامية فحسب، بل حتى في اللغات الهندوآرية كالإنكليزية المعاصرة.

إذاً، «بيث نهرين» هو اسم العراق القديم في اللغة الآرامية - وهي أقرب اللغات الجزيرية «السامية» إلى العربية، وقد تطورت الآرامية لاحقاً إلى السريانية؛ وتعني عبارة «بيث نهرين» باللغة العربية «بين نهرين»، وهي المناطق الواقعة بين نهري دجلة والفرات ومحيطهما وكذلك روافدهما. والاسم يشير أيضاً إلى المنطقة باعتبارها حول الأنهار، وليس فقط حرفياً بين الأنهار. ومنه اشتقاق «نهرايا»، وهو المعادل الآرامي لـ«بلاد ما بين النهرين».

وعن العلاقة بين الآرامية والسريانية، يمكن التذكير هنا بأن بعض الباحثين يرى أنها هي اللغة نفسها تقريباً، أو ربما تكون لهجة منها، ولكنّ المسيحيين العرب والشرقيين نأوا بأنفسهم عن اسم «آرامية» لأنه عندهم ذو محمولات وثنية فاستقروا على اسم «السريانية»، فيما نسب الشيخ الباحث جعفر المهاجر أخيراً، في مقالة له في «الأخبار» 16 حزيران 2022، السريان إلى مدينة سمّاها «سورى» قرب الحلة العراقية. وهي بلدة «سورا أو سوراء» على نهر بهذا الاسم واختلفوا في صيغة النسبة السائدة إليها بين (السّوراني، والسّوراوي، والسّيوري). ووجهة نظر المهاجر تستحق التمحيص والتحليل المنهجي باستعمال طرائق البحث العلمي الإيتيمولوجي والفيلولوجي والأدلة الآثارية «الأركيولوجية» إنْ توفّرت ولا يعول فقط على الإنشاء الانطباعي والمقاربات التخمينية. أمّا نسبة السريان والسريانية إلى سوريا، فهي وجهة نظر أخرى يتبناها باحثون عديدون لهم حججهم وفيها نقاط ضعفها مثلما فيها نقاط قوتها، ونأمل أن نخصص لهذا المفصل من البحث وقفة أخرى مستقبلاً.

إنَّ اسم العراق الآرامي موثّق منذ اعتماد الآرامية القديمة كلغة مشتركة للإمبراطورية الآشورية الحديثة في القرن الثامن ق.م. أمّا الاسم اليوناني، ميزوبوتاميا، فالأرجح أنه صيغ لأول مرة كترجمة لبيث نهرين الآرامية في القرن الثاني ق.م، من قبل المؤرّخ بوليبيوس خلال الفترة السلوقية. وهناك صِيَغ أخرى قريبة في السريانية الكلاسيكية «الآرامية» الأقل شيوعاً الأخرى للاسم منها بيت ناهراواتا (بين الأنهار)، و (Meṣʿaṯ Nahrawwāṯā) أي (وسط الأنهار).

وقد استخدم مصطلح بلاد ما «بين نهرين» في جميع صفحات الترجمة السبعينية اليونانية للتوراة (حوالي 250 قبل الميلاد) كترجمة معادلة للمفردة الآرامية والعربية نهرايم (Naharaim). وهناك استخدام يوناني سابق لاسم بلاد ما بين النهرين بصيغته الآرامية ورد في «أناباسيس الإسكندر= تاريخ رحلات الإسكندر الحربية» بلفظة بوتاموس نهرايم. ورد هذا الاستخدام في الأناباسيس في عهد الإسكندر، الذي كُتب في أواخر القرن الثاني الميلادي، ولكنه يشير على وجه التحديد إلى مصادر أقدم من زمن الإسكندر الأكبر. ويشمل المصطلح آنذاك مقاطعة تشكل جزءاً من بلاد الرافدين القديمة ويشمل هذا الجزء الأرض الواقعة شرق نهر الفرات في شمال سوريا الحالية.

-كما استخدم مصطلح «بيريتم ناريم / بيريتم biritum / birit narim» ذو الأصل الآرامي في التوراة مرات عديدة أيضاً.

-يشمل إقليم «بيث نهرين» الرافدين، الأراضي الواقعة بين نهري الفرات ودجلة، ويغطي حوالي 35،600 كيلومتر مربع، ويضم قديماً جميع مناطق جمهورية العراق المعاصرة إضافة إلى أجزاء من جنوب شرق تركيا وشمال غرب إيران، شمال شرق سوريا انفصلت عنه في العصور اللاحقة مع ولادة الدول المعاصرة بعد فترة الغزو (الاستعمار) الأوروبي.

- بعد زوال الحضارات الرافدانية القديمة ومع الاحتلال الفارسي الأخميني ثم الساساني حتى الفتح العربي الإسلامي، ظل مصطلح بلاد الرافدين «ما بين نهرين» مستعملاً بصيغة «آرام نهريم» في الآرامية القديمة (السريانية)، وظل مستعملاً من قبل رجال الدين والمتدينين اليهود المتعاملين مع كتابهم المقدّس «التوراة» ولم تستعمل صيغة «ميزوبوتاميا» الإغريقية.

هذا بخصوص بلاد الرافدين «ميزوبوتاميا»، فماذا بخصوص اسم العراق العربي وبهذا اللفظ تحديداً، ومتى ظهر هذا الاسم وما هي أقوى التفسيرات والتأويلات له؟

يعتقد كثيرون أن اسم العراق هو اسم حديث جاء به العرب المسلمون الفاتحون في القرن السابع الميلادي وهذا خطأ شائع آخر. فقد ورد اسم العراق بلفظه العربي الحالي في الشعر الجاهلي في عصر ما قبل الإسلام كثيراً. وعلى سبيل المثال يذكر سالم الآلوسي الذي خصَّ اسم العراق بكتاب عنوانه «اسم العراق: أصله ومعناه عبر العصور التاريخية» ما قاله الشاعر المتلمّس الضبعي (تـ 580 م) في هذا البيت الجميل:

إنَّ العِراقَ وَأَهلَهُ كانُوا الهَوى **** فَإِذا نَأى بيَ وُدُّهُم فَليَبعُدِ

والمتلمّس الضبعي هو خال الشاعر طرفة بن العبد والذي يرجّح المؤرخون أنه ولد حوالي سنة 543، وكانا شاهديْ عيان على ما كان فيه ملك الحيرة العربي في جنوب العراق، عَمرو بن المنذر، المشهور بعمرو بن هند، وأخوه قابوس، من ترف واستبداد وظلم؛ فنظما أشعاراً في هجائهما فقرر الملك الانتقام منهما بحيلة الرسالة المختومة فقُتِلَ طرفة ونجا المتلمس.

وخلال بحث سريع في المصادر والمراجع عن أمثلة أخرى وجدت هذه الأمثلة:

لعنترة بن شداد العبسي -المولود وفق بعض الروايات سنة 525م قياساً على مشاركته في حرب داحس والغبراء سنة 568م- قصيدة يذكر العراق فيها مرتين ويقول مطلعها:

تَرى عَلِمَت عُبَيلَةُ ما أُلاقي **** مِنَ الأَهوالِ في أَرضِ العِراقِ

أمّا مليح الهذلي - وربما كان المقصود أبا مليح الهذلي من عصر صدر الإسلام - فذكر العراق المُساحِل للبحر في بيت له قال:

مساحلة العراق البحر حتــى رفعنَ **** كأنمّا هن القصـــور

وهذا التاريخ - القرنان السادس والسابع بعد الميلاد - لا يعني تاريخ ولادة اسم العراق بل هو مجرد إشارة إلى أن الاسم كان متداولاً بشكل طبيعي بين العرب قبل هذا التاريخ بفترة لا يمكننا الجزم بها بدقة وقد تصل إلى عدة قرون سبقت.

تترسّخ هذه الحيثية المؤكّدة لأصالة اسم العراق باللفظ العربي الحي بالكشف المهم الذي أعلن عنه المؤرخ الأميركي ألبرت أولمستيد في مؤلّفه الضخم «HISTORY OF ASSYRIA»، وهو كتاب مهم ولكنه لم يُترجم إلى العربية حتى الآن رغم أن طبعته الأولى صدرت في عام 1923 وصدرت منه طبعات لاحقة لكونه مرجعاً في موضوعه، وقد ذكره العلامة العراقي الراحل طه باقر في كتابه «مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة» الصادرة طبعته الأولى سنة 1951م، بشكل محايد وعرضي، ولكنه قال إن أولمستيد يعتقد أن اسم العراق جاء من إقليم أيرقا كاسم لبلاد بابل والذي انتشر في العهد الكيشي منتصف الألف الثاني ق.م في وثيقة تأريخية ترقى إلى القرن الثاني عشر («مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة» - مج 1 - ص 21؛. ولم يوضح باقر معنى كلمة أيرقا للأسف.

يذهب أولمستيد، كما يلخّص لنا سلام طه في ورقة أعدّها حول الموضوع، إلى «أن أول استعمال لكلمة العراق وردت في العهد البابلي الكاشي/ الكيشي» في وثيقة ترقى إلى حدود القرن الثاني عشر قبل الميلاد عن العاهل الآشوري أورتا توكلتي، وجاء فيها اسم إقليم على هيئة لفظة «أراكيا - أراقيا» والذي صار في ما بعد الأصل العربي لبلاد بابل. وعلى هذا يمكن الترجيح وبقوة أنها الكلمة نفسها بالعين والقاف «عراق» وذلك لأن الحرفين العين والقاف لا وجود لهما في اللغة الأكدية - والآشورية التي تُعتبر لهجة من لهجاتها - فقد جاء الاسم بهذا اللفظ «أراكيا» ثم أخذ الحرفين، العين والقاف، في اللفظ العربي فصار «عراقيا، عراق».

إن أوضح استعمال شاع لمصطلح العراق بدأ ما بين القرنين الخامس والسادس الميلاديين، وهذا يعني أن اسم العراق الذي شاع في الشعر الجاهلي وفي لغة العرب في هذين القرنين يجد امتداده وتعبيره الصوتي/الفونولوجي القديم في هذا الكشف الممتدّة جذوره حتى عهد الملك الآشوري أورتا توكلتي في القرن الثاني عشر ق.م.

يبقى، إذاً، أقرب التفاسير الإتيمولوجية إلى الصحة لاسم العراق، إضافة إلى تفسير أولمستيد باسم إقليم «أراكيا - أرقيا»، هو الذي قال به العلامة العراقي الراحل طه باقر وبعض زملائه ومنهم الراحل هادي العلوي من أنه لفظ عربي حديث قبل الإسلام بعدة قرون لاسم أوروك السومري بقلب الهمزة عيناً والكاف قافاً ومدّ الراء بالألف وليس بالواو.

معنى ذلك أن «لفظ العراق يرجع في أصله إلى تراث لغوي قديم، وهو مأخوذ إمّا من السومريين - الذين يخضع وجودهم كشعب لجدل وتشكيك كبيرين - أو من قوم آخرين من غير السومريين كالجزيريين/ الساميين الذين استوطنوا السهل الرسوبي منذ أقدم عصور ما قبل التاريخ. وإن لفظ العراق مشتقّ من كلمة تعني المواطن/ المستوطن ولفظها «أوروك» أو «أونوك»، وهي الكلمة التي سميت بها المدينة السومرية الوركاء.

أمّا أضعف تفسير، فهو ذلك الذي يقول إن العراق هو ترجمة عربية لعبارة فارسية تعني البلاد المنخفضة أو البعيدة، وهذا تفسير متهافت تماماً، فالعراق بلد مجاور لإيران وليس بلداً بعيداً عنها. ثم إن هذا التفسير أو الاسم لم يرد في أية وثيقة أو دليل آثاري فارسي قديم، بل على العكس نجد في اللغة الفارسية مصطلح «میانرودان ميان رودان» أي بلاد ما بين نهرين، وهذه ترجمة حرفية لاسم العراق الآرامي «بيث نهرين» مثلما تُرجمت العبارة إلى الإغريقية حرفياً بلاد «ما بين النهرين»!

وأخيراً، فإن من المؤسف حقاً، أن هذا الكشف والنظرية التفسيرية التي بنيت عليه، والتي قدّمها المؤرخ أولمستيد قبل حوالي القرن في كتابه السالف الذكر لم ينالا الاهتمام البحثي والعلمي اللازم من قبل المتخصّصين العراقيين ومن المؤسسة الأركيولوجية العراقية، فكتاب أولمستيد لم يُترجم إلى العربية حتى اليوم رغم أهميته الفائقة فيما يخصّ الحضارة الآشورية الرافدانية، رغم أن الباحث العراقي الآثاري الأشهر طه باقر قد نوَّهَ به في منتصف القرن الماضي تقريباً، والذين قرأوه بلغته الأصلية وكتبوا عنه لم يهتموا بأمر وثيقة أورتا توكلتي ويحاولوا الحصول عليها ودراستها بحثياً، وتقديمها لطلاب العلم في فروع الآثاريات بالجامعات العراقية!

***

علاء اللامي - كاتب عراقي

بعد مضي عقدين على غزوه، والبلاد لم تجد حتى الآن استقرارا دائما. يعود ذلك في نفس الوقت إلى حقيقة أن على العراق أن يتعامل اليوم مع العديد من الأزمات والصراعات السياسية والعقائدية والفئوية التي تحيط به كمنظومة جيوديموغرافية من كل الجهات. وكان على الشعب العراقي أن يتحمل خلال العقدين الأخيرين الكثير: التدخل الأجنبي في شؤونه الداخلية، فقدان الأمن والفساد والابتزاز والانقسامات الاجتماعية، مظالم معيشية وإنسانية وحقوقية وآثار نقص المياه والكهرباء ومراكز الصحة والتطبيب وتغير المناخ. في حين أن أيا من الأزمات لن يكون من الممكن التغلب عليها والبلاد تسير في طريق سياسي وإداري مسدود، لدرجة أن أي حكومة فاعلة تاتي، ستجد صعوبة في مواجهة كل تلك التحديات...

في وقت مبكر من عام 2019، نزل الشباب العراقي على وجه الخصوص إلى الشوارع بأعداد كبيرة، طالب المشاركون في ما عرف بحراك تشرين: وضع حد للتدخل الخارجي وإلغاء ما يسمى بنظام المحاصصة وعودة الدولة للسيطرة على مركز القرار لإنقاذ البلد ووضع حد لتقاسم المغانم بين الأحزاب على أساس عرقي- طائفي. كانت هذه الأهداف للمنتفضين تهدف إلى وقف التمييز العرقي الطائفي في أعقاب تمدد "الدولة الإسلامية" داعش... في تشرين الأول أكتوبر 2022 شكلت حكومة أخرى ووعد رئيس الحكومة الجديد، محمد السوداني، باتخاذ إجراءات ضد الفساد والتحضير لانتخابات جديدة في المستقبل القريب. ولكن بعد ستة أشهر، لم يحدث أي شيء وبات من الواضح بشكل متزايد أنه لا يمكن توقع بداية سياسية جديدة ووضع نهاية لسياسة الأحزاب الطائفية المستأثرة بالسلطة ومؤسسات الدولة ومواردها.

وعلى ما يبدو، أن الفصل الطائفي في المجتمع العراقي لا زال لم يتجاوز السياسة. فمثلا حتى عام 2003، عاش الشيعة والسنة والكرد والمسيحيون وغيرهم من القوميات جنبا إلى جنب في العديد من الأماكن في العاصمة العراقية بغداد وغيرها من المحافظات. لكن الصراعات العنيفة على السلطة بين الجماعات المختلفة، سيما بين الطائفتين الشيعية والسنية، أدت في أعقاب سقوط صدام حسين، وانتشار الإرهاب في أجزاء كثيرة من البلاد إلى تعميق الانقسامات في المجتمع العراقي. اليوم، بغداد مقسمة إلى حد كبير حسب الدين والعرق، ولا يوجد سوى عدد قليل من الأحياء المختلطة.

بعد عام 2003، تم ملء فراغ السلطة في العديد من الأماكن في البلاد من قبل الميليشيات المسلحة. وكان لها دور في القتال ضد تنظيم الدولة الإسلامية في عام 2014، وكان العديد من هذه الجماعات تنتمي إلى قوات الحشد الشعبي، وأصبحت فيما بعد جزء من القوات المسلحة العراقية. لكن ولاءها للدولة في الواقع، ضعيف، وجزء كبير منها له علاقات وثيقة مع إيران. وبعد الانتصار على داعش في عام 2017، قامت قوات الحشد الشعبي في ظل انهيار مؤسسات الدولة ببسط نفوذها في الأعمال السياسة والإدارية والاقتصادية.

إن توزيع عشرات الآلاف من الأسلحة النارية على الميليشيات: "عندما تكون الدولة في وضع غير مستقر للغاية، فإن عقيدة فكرة بسيطة لديك، تعتقد أنه عليك فقط تسليم المسدس إلى الأخيار، عندئذ، سينتهي الأمر حتما إلى فوضى مطلقة" ويصيح في بلد كالعراق، يعاني منذ أكثر من ستة عقود أوضاع سياسية معقدة، نادرا ما تناقش العواقب النفسية للحروب والأزمات التربوية والبيئية والمعيشية والمجتمعية. في دراسة أجرتها عام 2016 مجلة نيويورك تايمز عن الاضطرابات النفسية بين الشباب العراقي "إناث وذكور"، أن 56 في المائة من المشاركين لديهم علامات اضطراب ما بعد الصدمة وأكثر من 60 في المائة لديهم أعراض الاكتئاب. ومع ذلك، بالكاد توجد نقاط تواصل معهم: في عام 2019، قدرت وزارة الصحة العراقية عدد الأطباء النفسيين في البلاد ب 138 طبيبا- حوالي واحد لكل 300000 شخص تقريبا.

أما الاقتصاد لا يزال متعثرا، يعتمد بشكل أساسي على صادرات النفط دون بذل الجهود لتطوير الصناعة والزراعة، مما يجعله عرضة للأزمات. فيما يمنع الفساد والمحسوبية القيام بإصلاحات ضرورية، لأن السلطة السياسية مقسمة بحكم الأمر الواقع في المناطق ذات الغالبية العربية بين السنة والشيعة، وفي المناطق ذات الغالبية الكردية في شمال العراق، بين عائلتين كبيرتين، هما بارزاني وطالباني. أدت في السنوات الأخيرة للاحتجاج ضد الظلم والفساد وزيادة القيود على حرية التعبير وحقوق الإنسان، سيما في المحافظات الجنوبية التي يسيطر عليها أحزاب الإسلام السياسي والميليشيات، ولكن أيضا في المحافظات الشمالية التي يسيطر عليها الحزب البارتي والاتحاد.

ولا يزال ما يقرب 1.2 مليون عراقي يعيشون كنازحين داخليا. بالإضافة إلى ذلك، غالبا ما يجد العائدون مصدر رزقهم مدمرا بالكامل مع نقص في العمل والسكن والحصول على الخدمات الأساسية. فيما وصل حد الفقر بين طبقات المجتمع العراقي المختلفة حسب أحدث تقارير المنظمات الدولية الرصينة إلى أكثر من 38 % مقابل 31 % في عام 2020، والبطالة ارتفعت إلى 21 %، غير أن المسؤولين يغضون النظر عن هذه الأوضاع المعيشية الخطيرة. أما ندرة المياه وآثار أزمة المناخ، فقد أصبحت واضحة بشكل متزايد في السنوات الأخيرة. فأقل من عشر كميات المياه التي تتدفق تصل إلى العراق من إيران، وثلثها فقط من تركيا. الأمر الذي يؤدي إلى الجفاف وتغير المناخ في العراق بالإضافة إلى اجتياح العشرات من العواصف الرملية البلاد وازدياد حدتها وتواترها بسبب التصحر وتضاؤل الغطاء النباتي. دون عمل المسؤولين ما يكفي لمعالجة هذه الظواهر واتخاذ موقف حازم إزاء تركيا وإيران، إن لم تلتزم بتنفيذ استحقاقات العراق المائية وفقا لما تنص عليه القوانين والاتفاقيات الدولية.

أوضاع العراق صادمة. وليس هناك متسع من التفكير الطويل للبحث عن الحلول أو الإجابة على كيفية إجراء ذلك، عندما الشك يكون: بأننا نعتقد أو نفكر بان الأمر انتهى. دون التأكد من أننا موجودون، والاهم، وفقا لنظرية الفيلسوف "رينيه ديكارت": لا يمكننا أن نحلم إذا لم نكن موجودين. لذلك نستنتج بان دورة الاستيقاظ من النوم قادمة لا محال، ولا يمكن لأي إنسان أن يفكر في شيء مثالي بمفرده!

يحاول الرئيس السوداني، تنعيم بَشَرَة أداءه الحكومي، قبل مجيء يونيو، بـإعادة تفصيل الحقائب الوزارية في كابينته، وفق مقاساتِ أشخاصٍ جُدُد، بمقصِّ الإقالة. أيضاً، أعلن رغبته، بتغيير قِماشة الطبقة البيروقراطيَّة؛ التي تقود مؤسسات الدولة العراقيَّة. الأدبيات القانونيَّة السائِدة، تُسمي المنتمين لهذه الطبقة بـ "أصحاب الدرجات الخاصَّة".

المُفارقة، إنَّ أدبيات الميديا العراقيَّة، بدورها، والتي نستطيعُ وصف معظمها، بأنها فمٌ للنظام، ولِسانٌ للأحزاب، اعتبرت التغيير الوزاري، طحيناً شبع طحناً؛ فاللوائح الحزبيَّة؛ التي قُدِّمت لرئيس الحكومة، محمد شياع السوداني، لتشكيل الكابينة الوزارية، كانت ومنذُ البداية، مليئة بأسماء عدَّة مُرشَّحين ولكُلِّ وزارة. بالتالي، سوف يأخذ رئيس الحكومة، الحقائب الوزارية، من زيد ليعطيها إلى عمرو.

اللِّسان الحزبي للميديا المحليَّة، وَجَدَ، أن يافطة أصحاب الدرجات الخاصَّة، تحديداً منصب: وكيل وزير، مدير عام، ومحافظ، هو الرغيفُ الساخن؛ الذي يجبُ تقطيعه، رغم أن الفئات البيروقراطية المنتمية إلى هذا التصنيف، واسعة.

و نسألُ هنا: ما وراء يونيو وما سبب إشعال أفران التغيير للوزراء وأصحاب الدرجات الخاصة!؟

الرئيس السوداني، يحاولُ إزالة طبقة، من الجِلْد الإيراني، عن حقائبِ كابينته الوزارية، وهدم نسبة من "المكاتب الاقتصادية الخاصَّة" للأحزاب؛ التي هي مستمرة، ومنذُ عقدين من الزمن، بلعبِ دور المبازل، للخدمات والمشاريع العامَّة، وقناة لإيصال أموال الدولة، بشكلٍ صافٍ، إلى جيوب المسؤولين الفاسدين. طبعاً، ليس من المهم بالمرَّة، القيامُ بذلك. الأهم، هو قُدرة تصريحات رئيس الحكومة، على أخذِ "سيلفي" دولي له، قبل وصول قاطرة الزيارة الأمريكيَّة، في يونيو القادم.

المائة والثمانون يوماً، تقريباً، والتي مرَّت على رئاسة السوداني للحكومة، تقييمُها مهمٌ حصراً، للهوس الحزبي. على وجه الدَّقة، للعُصب الميليشياوية الإيرانيَّة، الصغيرة، وتلك التي خلقها الصراع السياسي، مثل ميليشيا عصائب أهل الحق، من قبل رئيس الحكومة الأسبق، نوري المالكي، لتقليم أظافر ميليشيا جيش المهدي، التابع للتيار الصدري.

الصغيرة ومخلوقات الصراع السياسي، على وجه العموم، امتلكت ريشاً برلمانيَّاً جيَّداً، بعد انسحاب التيار الصدري، من الدورة البرلمانيَّة الأخيرة، لكنها مازالت ذات زغبٍ حزبي، على اعتبار إنَّها واجهات لأحزابٍ أكبر، أو تنتمي مباشرةً لبلدها العقائدي؛ بلد ولاية الفقيه.

كائنات الريش والزغب هذه، تُريد أن تعرِف مصيرها، قبل أن تدق ساعة الانتخابات القادمة. هكذا فإنَّ مهمة الرئيس السوداني، هي تحفيزُها على اختيار، إحدى البيوت السياسيّة العتيقة. ولهذا ربّما، لم يكن تصريح عمار الحكيم، أمين عام تيار الحكمة "الشيعي"، جُزافاً، عندما ذهب إلى قُرب انتهاء "المرحلة الانتقالية" للنظام السياسي؛ الذي ولِد بعد 2003م. علماً إنَّ لغة الحكيم الشاب، في تصريحاته السياسيَّة، دائماً ما كانت نظيفة وبخيلة، لكي نحصُل منها على تأويلٍ واضح. عادةً ما تحاول أن تترك آثار معركة، وغنائم مؤرِّخين. الباقي، الغير قابل للتلميع السياسي؛ سيكون جُلُّه ضحايا ورحَّالة.

رئيس الحكومة، مهتم حقيقةً، بمعرفة مديات نجاح عملية الجِراحة التجميلية للنظام، والتي قام بها سريعاً، بعد ترأُسِه للحكومة، حيثُ استطاع ضمان الحضور الكامل، لجميع مكوِّنات " الإطار التنسيقي "، في صالةِ عمليات، إزالة شِعار جدولة "انسحاب أو الانسحاب الكامل" للقوات الأمريكيَّة من العراق. كذلك هو يُلقي بالاً، لعرضِ نتائج التبييض السياسي لوجه حكومته، والتي بدأها فؤاد حسين، نائِبُه ووزير الخارجيَّة أيضاً، خلال زيارته إلى واشنطن، في فبراير 2023م.

الوزير حسين، قدَّم الرئيس السوداني، أمام مراكز البحوث الأمريكيَّة (معهد اتلانتيك) في 15 فبراير 2023، كخلفٍ لرئيس الوزراء السابق، مصطفى الكاظمي. لم يكتفِ حسين بذلك؛ بل زاد بالإشارة، إلى أن موسى "ورقة الإصلاح البيضاء" للكاظمي، يُدامُ شحذُ شفراتِها بعنايةٍ من قبل السوداني. إذاً نحنُ أمام حكومة الكاظمي الثانية، أو حكومة الكاظمي السودانية/ أو "الإطاريَّة".

واشنطن، لم تدَّخِر وسعاً، وعلى لِسان باربارا أ. ليف، مسؤولة الشرق الأدنى، في وزارة الخارجيَّة الأمريكيَّة، بإرسال إشارات إيجابية لبغداد، عندما دعَّمت موقفها من حكومة السوداني، بخُرسانة مُسلَّحة من الكلِمات، طابقت ما ورد في البيان العراقي الأمريكي المشترك، بخصوص اتفاقية الإطار الاستراتيجي بين البلدين، والذي بحسب الطرفين، أشار إلى ضرورة وضع أزرار حقيقية لبدلة الاتفاقية: اقتصادية، اجتماعية، وغيرها، بدلاً من الزر الأمني اليتيم. ليف، اختارت مفردات خبَّاطة: "نحنُ مع العراق 360 درجة".

السؤال المفيد والأخير: ما الذي يمكننا توقعه حقيقةً من حكومة الكاظمي الإطاريَّة؟

القيمةُ الأمريكيَّة لحكومة العراق الآن – ما قدَّمته من عروض – إنَّها تلعبُ دوراً مفهوماً. الشقُّ الأول من هذا الدور، إيراني. هي تعرِضُ على واشنطن، صفقة سويسريَّة مُعدَّلة. الأصليَّة، وبحسب تريتا بارزي، مؤسس المجلس الوطني الإيراني الأمريكي، في كتابه (حلف المصالح المشتركة / التعاملات السرية بين إسرائيل وإيران والولايات المتحدة)، نقلها القائم بالأعمال الأمريكيَّة، السفير السويسري في إيران، بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، سنة 2003م. خُلاصتُها: مساعدة الولايات المتحدة، على تأسيس دولة مدنية وديموقراطية في العراق، خالية من تجاعيد الإسلام السياسي.

التعديل الذي جرى على الأصليَّة، في 2022-2023، إنَّ طهران، تريدُ عودة واشنطن، إلى ليالي فيينا النووية، بدون مرور الصفقة، في الأنابيب المشتركة، بين "إسرائيل" والمؤسسات الحزبيَّة الأمريكيَّة. تودُّها أن تكون، من الأصول الجيوستراتيجية الصافيَّة للعاصمتين.

الشقُّ الثاني، سيناريو النظام السياسي في بغداد. هو مختلف ومتواضع، جدّاً، قياساً بما يريدهُ الآريون الافتراضيون واليانكي. لا يريد سوى توثيق القياسات الأمريكيَّة والإيرانيَّة، المطلوبة منه، قبل أن يترك مرحلة النظام الانتقالي، ويُعيد تأسيس الدولة العراقيَّة، على صورة الأحزاب العتيقة، والتي نجحت في ترك مساحة هامشيَّة، لطبعة أحزاب "مستقلة"، صغيرة وعصبويَّة، تكون بديلاً عن المكوِّن الميليشياوي.

إعادة توزيع "الدرجات الخاصَّة"، بالطبع، له علاقة وثيقة، بقيمة الأحزاب المُعتَّقة، مثل حزب الدعوة الإسلاميَّة، في التأسيس الجديد، بعد الانتهاء من حفلة الشرعيَّة الديموقراطية، في الانتخابات المقبلة، وتشظية البيت "السُّني"، إذ إنَّ الصراع مع الرئيس النيابي، محمد الحلبوسي، ليس لإضعاف هذا البيت فقط، وإنَّما لتوفير النفوذ، لأحزاب الإسلام السياسي "الشيعي"، في مناطق العراق الغربيَّة. تلك التي لن تمتلِك نفوذاً هناك؛ ستكون عُرضة لانخفاض درجة ائتمانِها السياسيَّة. يكادُ ينطبق ذلك على البيت العراقي الكردي، والذي يحاول "الإطار التنسيقي"، زيادة حصَّة حزب الاتحاد الوطني الكردستاني فيه، على حِساب الديموقراطي الكردستاني.

نستطيع القول أن واشنطن وطهران، تمتلِكان فُرصة ربحٍ صافي، لمشاريعهِما مع بغداد، ونِظامها السياسي؛ الذي يُعاني من خيالاتٍ استشراقيَّة، لا تتفق مُطلقاً مع حقائقه التاريخيَّة، حيثُ لن يعدو دوره، سوى القول: رحِمَكُم الله على ما سبق وأن عطست به عواصِمُ القرار.

***

مسار عبد المحسن راضي

كاتب، صحافي، و باحث عراقي

ظهرت بين أوساط الحزب الشيوعي السوفيتي وبالذات داخل لجنة العلاقات الخارجية في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي لعموم الاتحاد السوفيتي التي كان يرأسها وقتذاك بوناماريوف آراء جديدة حول العلاقات بالأحزاب الشيوعية في البلدان النامية وهوية العمل من أجل تحقيق الاشتراكية في تلك البلدان، وتبني التطور اللارأسمالي في بناء الاشتراكية.

كان رأي بونوماريوف والأعضاء المحيطين به حول طبيعة الثورة الاشتراكية وطرق انضاجها أو القيام بها في البلدان النامية، يحمل الكثير من التشاؤم والتطيّر، لا بل كان مفرطاً باليأس ويستكثر على الأحزاب الشيوعية في تلك البلدان النامية القدرة على تحريك الجماهير أو قياداتها للقيام بمهام الثورة، وإن التفكير بمثل هذا الأمر يبدو ضرباً من الخيال يستحيل تحقيقه.

بعد فترة من الزمن وضمن حملة ممنهجة ظهر رأي بونوماريوف إلى العلن، وبدأ الترويج له داخل أوساط الحزب الشيوعي السوفيتي، وأخذت حملة التنظير تتسع بعرض الفكرة القائلة عن إمكانية تحقيق الاشتراكية عبر النضال السلمي وطريق التطور اللارأسمالي، والتخلي عن التفكير بركوب موجة الثورات وضرورة قيادة الأحزاب الشيوعية لعملية تغيير أنظمة الحكم.

وأخذت تطفو على السطح وبشكل واسع فكرة الضغط على الأحزاب الشيوعية في البلدان النامية للأخذ بهذا التوجه دون سواه، رغم وجود آراء مخالفة لذلك عند العديد من السياسيين والباحثين السوفييت. كان حقل التجارب الأول في مصر بقيادة جمال عبد الناصر، فقد كانت هناك داخل القيادة السوفيتية رؤية خاصة ايجابية عن شخصية الرئيس عبد الناصر، ولقيت خطواته التي اتخذها في طريق بناء مصر واستقلالها تقييماً إيجابياً، وبالذات حين رفع شعار الطريق نحو الاشتراكية العربية والتزامه بالنهج الثوري لتحقيق ذلك. وهذا ما أغرى البعض في القيادة السوفيتية بالرغم من كون خطوات عبد الناصر في تطبيقه للاشتراكية كانت غامضة، لا بل متقلبة بين العروبة والإسلام والطوباوية، وكانت لا تعدو سوى خطوات لا ترقى حتى للمربع الأول في طريق بناء الاشتراكية. فراحت بعض القيادات السوفيتية ومثلهم في بعض معاهد الدراسات والصحف وبجهود استثنائية تكيل المديح وتشيد بسلطة عبد الناصر، واعتبرت اتخاذه قرار السير نحو الاشتراكية بداية جيدة ممكن أن تفضي في النهاية ليناء الاشتراكية العلمية، وكان من أكثر المتحمسين لهذا الرأي بوناماريوف ويشاطره في هذا الرأي يفغيني بريماكوف وأيكربيلاييف، وهؤلاء كانوا مقتنعين بشكل ناجز بأن مصر تحت قيادة عبد الناصر تسير في الاتجاه الصحيح، وليس المهم التسميات إن كانت اشتراكية إسلامية أم عربية وإنما المهم هو الابتعاد عن سياسة السوق الرأسمالية وبناء الاشتراكية.

وحين طرح مشروع الاتحاد الاشتراكي من قبل عبد الناصر أراد من الشيوعيين المصريين أن يتوافقوا كلياً مع رأي وتوجهات السوفييت في البناء السلمي للاشتراكية، ولذا عليهم أن يدخلوا طوعاً ومن ثم الذوبان في الاتحاد الاشتراكي العربي. وبدورهم كان الشيوعيون المصريون لا يميلون لرأي القيادة السوفيتية ويترددون في تأييد جمال عبد الناصر، لا بل إن أغلب قواعد الحزب الشيوعي المصري والكثير من قيادته يعتقدون بأن حكم عبد الناصر كان حكماً عسكرياً دكتاتورياً، ودليلهم على ذلك تفرده بالقرار وتضييقه المستمر على حزبهم وحملات الاعتقال المستمرة لأعضائهم من قبل أجهزة السلطة. لكن الضغوط السوفيتية التي وجهت للحزب الشيوعي المصري لقبول الذوبان في الاتحاد الاشتراكي العربي مما سرع بالدخول الطوعي كفصيل داخل الاتحاد الاشتراكي العربي، ومن ثم اقناع الشيوعيين المصريين بحل حزبهم.

تبني هذا النهج في بناء الاشتراكية مما بذل القادة السوفيت بعيداً لتنفيذها في العديد من البلدان النامية، منها: غانا بقيادة كوامي نكروما وغينيا بقيادة أحمد سيكوتوري وأثيوبيا بقيادة منغستو هيلي مريام والصومال على عهد محمد سياد بري. ففي تلك البلدان أنشأت حكوماتها بمساعدة الحزب الشيوعي السوفيتي مدارس حزبية لإعداد كوادر وطنية وفق النظرية الماركسية اللينينية، وكانت تقدم لهذه المدارس مساعدات كبيرة لغرض تطوير الدارسين فيها وبناء قاعدة واسعة منهم تقود بلدانها مستقبلاً نحو الشيوعية.

في المحصلة العامة، قاد «طريق التطور اللارأسمالي» إلى رأسمالية واضحة المعالم، وليست تحت أسماء أخرى، كانت فيها «السلطة» طريقاً إلى «الثروة» أو الأولى مظلة للثانية. هذا شمل القاهرة ودمشق والجزائر. في مصر، التي هي بوصلة العرب منذ عام 1919، قاد التحول من «رأسمالية الدولة» إلى «اقتصاد السوق»، إلى تحولات مرافقة في السياسة الخارجية وفي «الأيديولوجية الرسمية»، وفي اسم الحزب الحاكم. لم يحدث هذا بعد، ولأسباب عدة متشعبة، في دمشق والجزائر. وفي النتيجة ذهبت نظرية التطور اللارأسمالي لبناء الاشتراكية ادراج الرياح.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

منذ تشكيل حكومته في أكتوبر 2022، ورئيس مجلس الوزراء محمد السوداني يتحدث: بانه جاد في تحقيق الاستقرار الاقتصادي للبلاد والحد من نفوذ الجهات الأجنبية والميليشيات. لكن الوضع السياسي والاقتصادي والامني على ما يبدو- لا يزال غير مستقر، والاحتجاجات تخطت أسباب الصراع وخلفيته مع عدم وجود نهج للمعالجة ووضع حلول لاعادة الإعمار في المناطق التي لم يحصل فيها أي اصلاح للبنى التحتية منذ عقدين، نتيجة الفساد المالي والاداري ونقص التمويل وسوء الإدارة والمضاربات التي تمارسها احزاب السلطة ولجانها الاقتصادية. فيما تستغل الميليشيات والاحزاب "الشيعية" التي تعمل بتعليمات إيرانية، واتت بالحكومة الجديدة على اثر تحالفها مع الكتلتين "السنية والكردية" بعد انسحاب الكتلة الصدرية من البرلمان والمشهد السياسي، لتعزيز موقعها في السلطة وفي جهاز الدولة العراقية وبسط مناطق نفوذها في العديد من المحافظات، وممارسة أساليب بطريقة رجعية غريبة على المجتمع العراقي بحق من ينتمون إلى أديان مختلفة. بالاضافة الى تقييد حرية الرأي والتعبير والحد من عمل الصحفيين ومعاقبة أفراد مجتمع الفكر والفن والعلوم الناقمين على مثل هذه الممارسات. ويقدم البرلمان العراقي الذي جاء نتيجة انتخابات 2021، مشهدا اسوأ بشكل كبير عما كان عليه قبل عقد من الزمن، ولا أحد يستطيع أن يدعي مشروعية قيادة واضحة.

فيما تعاني البلاد من تقاعس الحكومة في مواجهة الأزمة الاقتصادية، والبنية التحتية المتدهورة، والفقر المتفشي، وتحويل العراق إلى نوع من دولة المافيا. فالمسؤولون عن رفع التظلمات في مؤسسات الدولة، هم نخبة فاسدة تملأ جيوبها. بيد أن الميليشيات ترهب السكان والقوى الأجنبية تؤثر على ثروات البلاد من وراء الكواليس. فيما يشير نمو الاحتجاجات وسوء الاوضاع المعيشية وإنتشار التمييز العرقي وتعدد أنواع البلاء والكوارث في جميع المحافظات، إلى طبقة سياسية، أجندتها، دفع المشاكل الواقعية إلى عودة المجتمع المدني العراقي إلى ما وراء السرديات الطائفية. 

ومن جانب آخر، فإن مؤسسات الدولة التي أقيمت بعد عام 2003 معطلة إلى حد كبير، ونظام التعليم العراقي الذي كان نموذجيا في يوم من الأيام في حالة كارثية. وينطبق هذا أيضا على نظام الرعاية الصحية، الذي طغت عليه الزيادة الحادة في حالات الإصابة بفيروس النهب والفساد. الأزمة الاقتصادية وتفاقم تداعياتها بسبب التلاعب بأسعار الدينار مقابل سعر الدولار. والأخطر ارتفاع معدل البطالة، يفرض نقص الإيرادات الحكومية وإجراء تدابير تقشفية واسعة النطاق، مما يزيد من تفاقم إفقار السكان. إلى ذلك فإن الأزمة أدت إلى تفاقم صراعات التوزيع بين الحكومة المركزية وحكومة إقليم كردستان العراق، مع آثار سلبية على التعاون في ضبط الحدود وتأمين موارد الدولة الكمركية والضريبية والتجارية. فيما يؤدي تغير المناخ إلى تسريع التدمير البيئي وتهديد الإنتاجية الزراعية التي هي منخفضة أصلا، حيث تخنق السدود التركية مستويات المياه في نهري دجلة والفرات، كما أن الوصول إلى مياه الشرب أصبح أكثر ندرة ونوعية المياه تتدهور. في الوقت نفسه، يتزايد عدد السكان.

باستثناء فترة استراحة قصيرة بين عامي 1988 و 1990، لم يشهد الشعب العراقي فترات سلام لعقود: الحرب الإيرانية العراقية التي دامت ثماني سنوات (1980-1988) أعقبتها حرب الكويت عام 1991 و"حروب أخرى" في زمن الحظر الذي فرضته الأمم المتحدة (1990-2003). في عام 2003، أطاحت الولايات المتحدة بالدكتاتور صدام حسين ونفذت قرارات كارثية بحق العراق ومستقبله، سيما حل الجيش العراقي وجهاز الشرطة والأمن والترويج الفعال للهياكل العرقية والدينية في بناء النظام السياسي الجديد. وهي المسؤولة إلى حد كبير عن حقيقة أن البلاد انغمست في وقت لاحق في العديد من الصراعات الفاعلة الشيعية والسنية، فضلا عن التعصب الطائفي والأيديولوجي والعنف المتطرف.

***

عصام الياسري

لأجل استجلاء بعض مما يحدث من تغيير أو اجتهاد في النظرية والتطبيق وما شاب ذلك من أحداث داخل الاتحاد السوفيتي والعلاقات التبادلية مع الأحزاب الشيوعية العربية على المتتبع الاطلاع على وثائق الحزب الشيوعي السوفيتي التي تم كشفها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.

كانت تتواجد داخل قيادات اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي خصومات وصراعات كبيرة، وأيضاً أفكار وآراء مختلفة ومتضاربة داخل مؤسسات الأبحاث العلمية، ولكنها لا تظهر للعلن، وتلك طبيعة راسخة عند جميع الأحزاب الشمولية. ومن ضمن تلك القيادات يفغيني بريماكوف، وهو سياسي وصحفي سوفياتي، أوكراني المولد روسي الوظيفة، اشتغل بالصحافة خدمة للحزب الشيوعي فاكتشف الشرق الأوسط وألف عنه عدداً من الكتب، وعمل في جهاز الاستخبارات أيام الاتحاد السوفياتي وبعد تفككه، ثم أصبح رئيسا لوزراء روسيا. فكان يقدم للقيادة السوفيتية صورة سيئة جداً عن طبيعة الأحزاب الشيوعية العربية وعملها، في حين رئيس معهد الاستشراق السوفيتي السيد بابا جار غفوروف يحمل تصور آخر ويتحدث بالضد مما يقدمه بريماكوف. ولكن الغريب أن جميع هؤلاء فضلاً عن اعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي حين يحضرون اجتماعاً مشتركاً تختفي النزاعات ونبرة الخلاف لصالح توحيد الخطاب الآيديولوجي لعموم الاتحاد السوفيتي.

علماً كانت هناك رغبة عارمة تجتاح بعض معاهد الدراسات السوفيتية وأيضاً داخل أوساط اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي. تلك الرغبات والسياسات تعمل لأجل حل وإنهاء وجود الأحزاب الشيوعية في البلدان العربية والنامية، وتعزيز الروابط الاقتصادية والسياسية بالذات مع البلدان التي تسلك الطريق اللارأسمالي. فلم يكن هناك بين أوساط القيادة السوفيتية ايجابياً لجميع الأحزاب الشيوعية العربية، وكان يؤشر لحضور أعضاء قياداتها إلى موسكو فقط لغرض تلقي التعليمات والاستجمام.

ودائم ما كانت القيادة السوفيتية تجد ما يصعقها ويثير استغرابها من تصرفات وأفكار غير واقعية يعرضها بعض قادة الأحزاب الشيوعية العربية. وبدورها فإن تلك الأحزاب كانت تؤله الحزب الشيوعي السوفيتي وتجد فيه المرشد والمعلم والأب الروحي الذي لا غنى عنهُ، ودائماً ما تجد فيه العصا السحرية لحل مشاكلها حتى الداخلية منها. وبدورهم كان السوفييت يدركون جيداً هذا الأمر ويتعاملون مع تلك الأحزاب بشيء من عدم المبالات، فتراهم لا يعيرون اهتماماً جدياً للآراء التي تقدمها الأحزاب الشيوعية العربية، وفي الغالب يهملون طلباتها التي لا تتوافق والسياسة العامة للدولة السوفيتية. وفي العديد من المرات تراهم يجدون في طلبات الأحزاب الشيوعية العربية ما هو غير واقعي لا بل لا يمكن تناوله والنقاش فيه أو حوله.

وفي الكثير من الأوقات أهمل السوفييت علاقتهم هذه، ولهذا وضعوا موظفين صغار أغلبهم يعملون في أجهزة المخابرات وليس لهم مناصباً حزبية مؤثرة ليكونوا وسطاء بين الأحزاب الشيوعية العربية والحزب في الاتحاد السوفيتي. ولم يكن ليمر طلب لمقابلة أو اتصال أو التماس وحتى حاجة بعينها إلا من خلال هؤلاء. وعلى سبيل المثال يذكر السيد خليل عبد العزيز في كتابه (هارب من الإعدام ذاكرة شيوعي بين الموصل وموسكو) ص228 "فإن أحد هؤلاء كان يدعى (نيجكين) عمل في فترة ما بعد ثورة 14 تموز 1958 ملحقاً ثقافياً في السفارة السوفيتية في العراق. ثم عين وسيطاً مخابراتياً. نيجكين هذا كان يبتز مسؤولي الحزب الشيوعي العراقي ولا يوافق على إيصال طلباتهم إلى القيادة السوفيتية دون أن يقدم له رشا معينة، ودائماً ما كان يحددها هو وليس هم... وعند قدومي إلى موسكو قابلت الرفيق سلام عادل فنصحني بأن لا أقبل الذهاب إلى مصح أو منتجع لو عرض علي ذلك، فسألته عن السبب، فأجابني بأن ذلك يمثل شيء من الاستخفاف وعدم الجدية للمناضل العراقي".

كانت القيادة السوفيتية تحمل الحساب للحزب الشيوعي الوحيد وهو الحزب الشيوعي السوداني بقيادة عبد الخالق محجوب. فقد كان لهذا الحزب رأي حر ومستقل ودقيق وثابت وناضج في علاقاته مع السوفييت، ولم يكن ذيليلاً في يوماً ما خلال قيادة محجوب، ودائماً ما كان الشيوعيون السودانيون يوجهون نقداً حاداً للسياسة الدولية للسوفييت، وهذا الموقف كان يسبب صداعاً وحرجاً للقيادة السوفيتية، لذا كانت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي وفي بعض الأحيان كانت تمتنع عن دعوة الحزب الشيوعي السوداني لحضور لقاءات الأحزاب الشيوعية العربية.

وفي الجانب الآخر فقد كان أكثر الأحزاب الشيوعية خنوعاً وذيلية، هي بعض الأحزاب الشيوعية العربية مثل: الحزب الشيوعي السوري بقيادة خالد بكداش واللبناني بقيادة نيقولا الشاوي والحزب الشيوعي الأردني بقيادة فؤاد نصار وحزب التقدم والاشتراكي المغربي بقيادة علي يعته. فلم تكن لهؤلاء كلمة أو رأي يعتد به عند السوفييت، وإنما عرف عنهم الخضوع وقبول أي رأي يعرض عليهم، فقد كانوا في حالة موافقة دائمة ورضوخ لجميع ما يمليه عليهم الجانب السوفيتي.

بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وجدت وثيقة هامة تم الكشف عنها، ويذكر خليل عبد العزيز في مذكراته ص230 قائلاً: "تشير لرسالة موجهة من قبل السيد خالد بكداش سكرتير الحزب الشيوعي السوري إلى زعيم الأممية الاشتراكية ديمتروف يطلب فيها اعتماده مسؤولاً مباشراً ووحيداً عن جميع الأحزاب الشيوعية العربية، وتحصر العلاقة به ومن خلاله في جميع ما يخص تلك الأحزاب، وبدوره فقد قام ديمتروف بإحالة رسالة خالد بكداش إلى المكتب السياسي للحزب الشيوعي (السوفيتي) الذي رفض طلب بكداش رفضاً تاماً".

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

الانفجارات التي أصابت بعض منشآت الطاقة في قلب أمريكا

استعار معركة الظل الاستخباراتية بالتوازي مع الحرب الأوكرانية المكشوفة بكل تفاصيلها للقاصي والداني أكدت على وجود ذراع أمريكية خفية تمتد من البنتاغون وتطول القارات الخمس فتراها تعوث فساداً وكأنها معلقة في السماء دون أن تشير إلى من يتحكم بها.

فهل تعجز روسيا التي تمتلك نظام كي جي بي قوي عن فعل ذلك!؟ فالعين بالعين والبادئ أظلم.

وهذا يفسر كيف أن أمريكا تقف وراء الكثير من العمليات النوعية السرية التي نفذت ضد المصالح الروسية لتخلط الأوراق دون أن تترك اثراً وراءها.. معتمدة على تعويم التهم وتفريق الدم على القبائل سوى أن التسريبات كانت تؤكد على الدوام الدور الأمريكي الضالع فيها.

وذلك على نحو تفجير خطوط الغاز الروسية.. حيث أفادت صحيفة "تايمز" البريطانية بأن تحقيقاً أجراه الصحفي الاستقصائي الأميركي سيمور هيرش توصل إلى أن الولايات المتحدة مسؤولة عن تفجير خطي أنابيب الغاز الروسي "نورد ستريم 1 و2" ببحر البلطيق في سبتمبر 2022.

ناهيك عن المسؤولية الأمريكية غير المباشرة في محاولة تفجير أحد أجزاء خط أنابيب السيل التركي لنقل الغاز في اكتوبر 2022.

وغيرها من التفجيرات التي ظلت مبهمة دون تفسير فيما بقي الدور الأمريكي متوارياً خلف ما أثير من غبار حولها.

ثم يأتي الهجوم بمسيَّرَتَيْن على الكرملين بغية اغتيال بوتين فاتهم البعض أمريكا بالوقوف وراء الحادث مباشرة من خلال إناطة المهمة بالقيادة الأوكرانية رغم رفض أنتوني بلينكن لهذه التهم الغير رسمية.

ولكن في معركة الظل الاستخبارية؛ فإن روسيا أثبتت من جهتها قدرة استثنائية في إدارتها من وراء حجب خلال عدة عملية نوعية، وبالتالي خلط الأوراق من حولها دون ترك دلائل على مقترفيها.

أنا اتحدث هنا عن موسكو التي كان لها الدور السيبراني المعقد في الانتخابات الأمريكية التي تسببت بفوز دوناند ترامب الصديق المقرب لبوتين في انتخابات الرئاسة الأمريكية أكتوبر 2020 والذي يدّعي اليوم بأنه الوحيد القادر على وقف الحرب الأوكرانية لو فاز في الانتخابات الأمريكية المقبلة.

وهذا قد يأخذنا إلى إمكانية ضلوع روسيا في تدمير أهداف حيوية في العمق الأمريكي؛ ما يفسر الصمت الروسي المطبق إزاء ما يتعرض له الدب الروسي من كوارث ناجمة عن الموقف الغربي المتحالف مع أوكرانيا بدءاً من الحصار الغربي الفاشل، مروراً بتزويد أوكرانيا بالسلاح النوعي، وصولاً إلى قيام الناتو ومخابراته العسكرية بعمليات سرية ضد روسيا بإيعاز أمريكي.

فسجّل في سياق ذلك الانفجار الضخم المجهول الذي وقع في إحدى محطات نقل الطاقة جنوبي ماريلاند، في 20‏/08‏/2022 حيث أشارت مصادر لـCNN إلى أن وزارة الأمن القومي أكدت أنه لم تتوافر أي مؤشرات على أن انقطاع الكهرباء نجم عن "عمل تخريبي." لكن بعض الصحف الأمريكية كان لها رأي آخر حيث اتهمت الروس في الوقوف وراء الحادث الذي عانت من جرائه مناطق واسعة في العاصمة الأمريكية واشنطن من انقطاع مفاجئ في الكهرباء أصاب العديد من المباني الحكومية، من بينها البيت الأبيض، ووزارة الخارجية، كما امتد تأثير انقطاع الكهرباء جزئياً إلى خطوط شبكة المترو.

كذلك هناك التسريبات (وهي أخبار غير مؤكدة رسمياً) الجديدة للبنتاغون عن هجوم روسي!! على خط النفط الرئيسي الرابط بين كندا و الولايات المتحدة ، والمُزَوِّدِ الرئيسي للنفط الكندي لـ أمريكا ، منوهة إلى أن روسيا قادرة على تفجير الخط بالكامل من خلال التلاعب بضغط انابيب النفط في الشركة الكندية المنتجة.

ونُذَكِّرْ أيضاً بما أشارت إليه الصحف الأمريكية باحتمالية ضلوع روسيا من خلال عملائها في استهداف قطار الشحن الأمريكي في 3 فبراير 2023، الذي كان يحمل أشد المواد خطورة (كلوريد الفينيل، بوتيل أكريليت، إيثيل هكسيل أكريلات، وإيثيلين 2-بوتوكسي إيثانول)، وإخراجه بالتالي عن مساره على طول خط نورفولك الجنوبي للسكك الحديدية في شرق بلدة "فلسطين" بأوهايو في العمق الأمريكي.. فيما أدت تسريبات المواد السامة الناجمة عن الحادث في الهواء إلى إجلاء السكان داخل دائرة نصف قطرها 1 ميل (1.6 كم) وهنا تكمن الخطورة.

ثم يأتي في السياق نفسه انفجار كبير يوم الأحد الماضي في محطة كهرباء تعمل بالغاز -قيد الإنشاء- في ميدلتاون بولاية كونيتيكت الامريكية.

ووفق قناة دبليو.اف.اس.بي التابعة لمحطة سي.بي.اس المحلية بموقعها على الانترنت، فقد نجم عن الحادث إصابة نحو 250 شخصاً بجروح.

وخلافاً لتحليلات بعض الصحف الأمريكية التي توجهت بالاتهام الضمني إلى روسيا، فقد عزا المحققون الأمريكيون أسباب الانفجار إلى خلل في بعض التجارب التشغيلية للمحطة التي تعمل بالغاز وتبلغ طاقتها 620 ميجاوات وكان من المقرر البدء في تشغيلها في الصيف.. فيما يظل الشبح الروسي يحوم فوق رؤوسهم.

وفي 25 أبريل 2023، الأحد الماضي أفادت قناة "إن بي سي شيكاغو" الأمريكية بأن انفجار ضخم أعقبه حريق وقع في مصفاة للنفط بولاية إلينوي- بلدة ليمونت- في مؤسسة مملوكة لشركة سينيكا بتروليوم.

ويبدو أن العمليات السرية لن تتوقف.

إنه غموض مرتبط بحرب الظل الخفية بين روسيا من جهة وأمريكا إلى جانب أوكرانيا التي تحارب بالوكالة عن النيتو من جهة أخرى .

فالحرب مستمرة في كافة الصعد ويبقى الرد الروسي على استهداف الكرملين بمسيَّرتيْن -في ظل الصراع الخفي - وارد دون تحديد المكان والزمان وربما يصيب الرد قبة البيت البيض!

حيث أكد سيرغي لافروف في شنغهاي: بأن روسيا سترد بإجراءات ملموسة على الهجوم الأوكراني ضد الكرملين. وهذا ما يقلق الأمريكيين.

***

بقلم: بكر السباتين

8 أبريل 2023

من حق روسيا ان تحتفل، وتفتخر، بنتائج نصرها على النازية العالمية في عام 1945، بعد حرب ضروس قدمت فيها العوائل السوفيتية أروع صور من التضحية والفداء، وتقديم مواكب الشهداء، والذين وصل عددهم الى عشرات الملايين من الأشخاص، كل هذا، حتى ينعموا اهاليهم اليوم بالحرية والاستقلال، ورفض سياسة العبودية، التي حاول الغرب فرضها على الاتحاد السوفيتي في ذلك الزمان.

وكما يقول المثل " ما أشبه اليوم بالبارحة "، فروسيا اليوم، أيضا تسطر أروع صور الفخر والاعتزاز ببطولات أبنائها، وهم يدافعون عن وحدة بلدهم، بالالتفاف خلف قيادتهم، والتصدي الى ما يحاول الغرب رسمه لبلادهم، من تقسيم وتدمير، ومحاولة أخضاع الشعب الروسي لأرادتهم " كسابايا "، لا سامح الله، فا هو الغرب يتكالب كله ضد روسيا، سواء في العقوبات الشرسة التي يفرضها على الشعب الروسي بالدرجة الأساس، وحرمانه من ابسط حقوقه في العيش الحر الكريم، وتجريده من كافة مقومات الحياة الاجتماعية والثقافية والرياضية، وحتى لغته الام، التي يحاربه الغرب في أي مكان تطال يديه له، وخير مثال ما قامت به السلطات البولندية من عملية اقتحام المدرسة الروسية في وارسو، وطالبت بأغلاقه، أو تحريم استخدام المصادر التاريخية والثقافية والفنية الروسية، لمحو كل ما له علاقة بروسيا من العقل الغربي، او بالحملة " المسعورة " لتسليح الجيش الاوكراني المغلوب على أمره للقتال ضد روسيا .

واليوم تحتفل روسيا والعالم الحر، بذكرى الانتصار الثامنة والسبعين على النازية، فقد كان لهزيمة الفاشية في عام 1945 أهمية أساسية لسير التاريخ العالمي لاحقا، فقد تم خلق الظروف المواتية لتشكيل النظام العالمي بعد الحرب، الذي أصبح ميثاق الأمم المتحدة عماده الرئيس، والذي لا يزال حتى يومنا هذا المصدر الرئيسي لمعايير القانون الدولي، ولا يزال نظام الأمم المتحدة المركزي يحتفظ باستقراره، بل ويتمتع باحتياطي كبير للمتانة. وهو بمثابة "شبكة للأمان" تضمن التطور السلمي للبشرية في ظروف تضارب المصالح، الطبيعي إلى حد كبير، والتنافس بين القوى الرئيسية، ولا تزال الحاجة قائمة للاستفادة من الخبرة المكتسبة في سنوات الحرب من التعاون الخالي من الأيديولوجية بين الدول ذات الأنظمة الاجتماعية الاقتصادية والسياسية المختلفة.

ومن المؤسف وكما يؤكد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، في أحدى مقالاته لمجلة السياسة الدولية، أن بعض القوى المتنفذة في الغرب، تلتزم الصمت بشأن هذه الحقائق الواضحة، بل وتتجاهلها، وعلاوة على ذلك، ازداد نشاط أولئك الذين يودون "الاستئثار" بالنصر، ومحو دور الاتحاد السوفيتي في هزيمة الفاشية من الذاكرة، ونسيان مأثر التضحية المتفانية للجيش الأحمر في سبيل التحرير، وعدم تذكر الملايين العديدة من المواطنين السوفييت المسالمين الذين قضوا في سنوات الحرب، ومحو ذكر عواقب السياسة المهلكة لاسترضاء المعتدي من صفحات التاريخ، ويظهر بوضوح، من وجهة النظر هذه، جوهر مبدأ "المساواة بين الأنظمة الشمولية"، وهو ما يهدف ليس فقط لمجرد التقليل من نصيب الاتحاد السوفيتي في النصر، بل وحرمان روسيا بأثر رجعي من الدور الذي حدده التاريخ له كمهندس وضامن للنظام العالمي ما بعد الحرب، ثم وصمه بصفة "الدولة التحريفية" التي تهدد رفاهية ما يسمى "بالعالم الحر".

إن انهيار الاتحاد السوفيتي وسقوط جدار برلين الذي كان يفصل بين المعسكرين، وزوال المواجهة الأيديولوجية الشديدة، التي كانت تحدد معالم السياسة العالمية في جميع المجالات والمناطق تقريبا – إن هذه التغييرات الجذرية لم تؤد للأسف الى انتصار الأجندة الجامعة، ولكن بدلا من ذلك أخذت تتعالى إعلانات ظافرة عن حلول "نهاية التاريخ"، وأن مركز اتخاذ القرارات العالمية بات من الآن فصاعدا واحدا فقط، ومن الواضح تماما اليوم أن محاولات إقرار النظام أحادي القطبية فشلت، وارتدت عملية تغير النظام العالمي طابعا لا رجعة له، ويسعى اللاعبون الكبار الجدد الذين يملكون قاعدة اقتصادية متينة إلى زيادة التأثير على العمليات الإقليمية والعالمية، وكذلك يطمحون لمشاركة أوسع في اتخاذ القرارات المحورية، وتتزايد الحاجة إلى نظام أكثر عدالة وشمولا، وترفض الأغلبية المطلقة من أطراف المجتمع الدولي الآراء الاستعمارية الجديدة المتعجرفة التي تمنح بعض الدول الحق في أملاء إرادتها على الأخرى، وهو ما يثير إنزعاجا واضحا لدى من تعوّد على صياغة قوالب التطور العالمي وفقا لامتيازاته الاحتكارية، وتسعى أغلبية الدول إلى إنشاء منظومة أكثر عدالة للعلاقات الدولية وإلى تأمين احترام واقعي وغير شكلي لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة، وتواجه هذه المساعي إلى الحفاظ على النظام الذي لا تستفيد في ظله من ثمار العولمة إلا مجموعة محدودة من الدول والشركات العابرة للقارات .

أما أوروبا، فيتعايش فيها المدافعون عن الفكرة اللبرالية برضى تام عن الانتهاكات الجمة لحقوق السكان الناطقين باللغة الروسية في عدد من دول الاتحاد الأوروبي وجيرانها، حيث تصدر القوانين التي تنتهك بصورة وقحة الحقوق اللغوية والتعليمية للأقليات القومية المنصوص عليها في الاتفاقيات المتعددة الأطراف، ولا يقبل الغرب اليوم بواقع أنه بعد مئات السنوات من الهيمنة الاقتصادية والسياسية والعسكرية بدأ يفقد صلاحياته الأحادية في صياغة الأجندة العالمية، ومن هنا نما نهج "النظام القائم على القواعد " وإن نوايا مبادري نهج "النظام القائم على القواعد" كما يشرحها الوزير لافروف في مقاله، تمس حصرا صلاحيات مجلس الأمن الدولي، ومن الأمثلة الأهم على ذلك، عندما لم تتمكن الولايات المتحدة وحلفاؤها من إقناع مجلس الأمن بالموافقة على القرارات المسيّسة التي تتهم دون أية أدلة قيادة سوريا في استخدام المواد السامة المحظورة، فقد بدأوا بطرح "القواعد" الضرورية لهم عبر منظمة حظر الأسلحة الكيمائية، وبالتلاعب في الإجراءات الموجودة وبانتهاك فاضح لمعاهدة حظر الأسلحة الكيمائية، تمكنوا (بأقلية أصوات الدول الأعضاء في هذه المعاهدة) من منح الأمانة الفنية لمنظمة الحظر صلاحية تحديد المذنبين في استخدام الأسلحة الكيمائية، فأصبح ذلك اقتحاما مباشرا في صلاحيات مجلس الأمن الدولي.

وفي السياق ذاته نجد مبادرات تنظيم عمل الصحافة الرامية إلى التضييق الطوعي على حرية وسائل الإعلام، وكذلك أيدولوجية التدخل تحت مسمى "مسؤولية الحماية"، والتي تبرر "التدخل الإنساني" العسكري الخارجي دون أي عقوبات من قبل مجلس الأمن تحت ذريعة ظهور تهديدات على أمن المواطنين المدنيين، كما ان هناك حاجة لإعارة اهتمام خاص لمفهوم "مكافحة التطرف العنيف" المثير للجدل، والذي يحمّل مسؤولية نشر الإيديولوجيات المتطرفة وتوسيع قاعدة الإرهاب الاجتماعية على الأنظمة السياسية، التي يدّعي الغرب أنها غير ديمقراطية وغير ليبرالية واستبدادية، وإن تركيز هذا المفهوم على العمل المباشر مع منظمات المجتمع المدني "التفافا" على الأنظمة الشرعية لا يترك أية شكوك بشأن الهدف الحقيقي له، وهو سحب الجهود في مسار مكافحة الإرهاب من تحت "مظلة" الأمم المتحدة والحصول على آلية للتدخل في الشؤون الداخلية للدول.

إن نسف واشنطن بداية لمعاهدة الدفاع الصاروخي، ومعاهدة التخلص من الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى بتأييد بالإجماع من قبل أعضاء حلف الناتو، تشكل مخاطر تهديم بناء الاتفاقيات والمعاهدات الدولية في مجال السيطرة على الأسلحة الصاروخية النووية، وما برحت أفق معاهدة ستارت الجديدة غير واضحة تماماً بسبب عدم الرد الظاهر لدى الطرف الأمريكي على المقترحات الروسية، مما يبعث على الشك في مستقبل الوثيقة بالغة الأهمية بالنسبة للسلام والأمن العالميين، وقد بدأت واشطن تنفيذ خططها لنشر الأسلحة في الفضاء الكوني، رافضةً أية مقترحات للتوصل إلى اتفاق الحظر العالمي على ممارسة نشاط كهذا.

وفي المجال الاقتصادي باتت "القاعدة"، هي فرض الحواجز الحمائية وسياسة العقوبات واستغلال وضع الدولار، كوسيلة أساسية في المعاملات، وتوفير الامتيازات التنافسية التفافاً على الأسواق وتطبيق القانون الوطني الأمريكي خارج الحدود، بما في ذلك فيما يتعلق بأقرب الحلفاء، في الوقت نفسه، يسعى الأمريكيون كما يبدو لحشد كل ما استطاعوا من شركائهم الخارجيين من أجل ردع روسيا والصين، وهم في الوقت نفسه لا يخفون الرغبة في إيقاع الخلاف بين موسكو وبكين، وإعطاب وتقويض التحالفات متعددة الأطراف المتنامية خارج إطار السيطرة الأمريكية التجمعات الاندماجية الإقليمية في أوراسيا ومنطقة آسيا والمحيط الهادي، كما يمارسون الضغوط على الأطراف التي لا تلعب وفقا "للقواعد" التي تفرضها عليها واشنطن، وتتجرأ على تبني خيار "خاطئ" لصالح التعاون مع "خصوم" امريكا.

ان ما تعرضه روسيا لا يخالف واقع اليوم، فهي تدعوا قبل كل شيء، الى ضرورة مواكبة الزمن، والاعتراف بأمر بديهي، ألا وهو حتمية عملية تشكيل هيكلية عالمية متعددة الأقطاب، وذلك مهما حاولوا كبح هذه العملية بشكل مصطنع، خصوصا وان غالبية الدول ترفض أن تكون رهينة لحسابات جيوسياسية أجنبية، بل تحرص على ممارسة السياسة الداخلية والخارجية السيادية، وأن تتسم التعددية القطبية بطابع عادل ديمقراطي موحد، وتأخذ بعين الاعتبار نهج ومخاوف جميع أطراف المجتمع الدولي من دون استثناء، وتسهم في تأمين مستقبل مستقر وآمن.

وغالباً ما يصرّون في الغرب على أن تعددية الأقطاب ستؤدي حتماً إلى زيادة الفوضى والمواجهة، لأن "مراكز القوة" لن تكون قادرة على الاتفاق فيما بينها واتخاذ قرارات مسؤولة، لكن لماذا لا نجربها أولا؟ فربما ننجح؟ وكل ما نحتاجه من أجل هذا هو البدء بالمفاوضات، بعد الاتفاق المسبق على السعي لإيجاد توازن في المصالح، ويجب من الآن فصاعدا، التقيد الصارم بالمبادئ المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة، بدءًا من احترام المساواة في السيادة بين الدول - بغض النظر عن حجمها أو شكل سلطة الدولة أو نموذجها التنموي.

كما يجب استخدام إمكانات "مجموعة العشرين" إلى أقصى حد ممكن - وهي منظومة واعدة وواسعة النطاق للإدارة العالمية، حيث يتم تمثيل مصالح جميع اللاعبين الرئيسيين، ويتم اتخاذ القرارات باتفاق جماعي، وتلعب الرابطات الأخرى التي تعكس روح التعددية الديمقراطية الحقيقية دورًا متزايدًا، ويستند عملها على التطوع ومبدأ الإجماع وقيم المساواة والبراغماتية السليمة ورفض المواجهة والنهج التكتلي، من بينها مجموعة "بريكس" ومنظمة شانغهاي للتعاون.

لقد حان الوقت للاتفاق على تفسير موحد لمبادئ وقواعد القانون الدولي وعدم الاعتماد على الحكمة المعروفة التي تسمح بتفسير فضفاض للقانون، وإن التوصل الى الاتفاق أصعب من توجيه الإنذارات الأخيرة، لكن الحلول الوسط المتفق عليها بصبر ستكون آلية أكثر موثوقية لإدارة الشؤون الدولية التي يمكن التنبؤ بها، واليوم هناك حاجة ماسة لهذا النهج للبدء بمفاوضات موضوعية حول معايير منظومة موثوق بها وعادلة للأمن المتساوي وغير القابل للتجزئة في أوروبا الغربية وأوراسيا.

إن تحقيق النجاح في عملية تشكيل العالم المتعدد الأقطاب، عبر التعاون والتوافق بين المصالح، بعيدا عن المواجهة والنزاعات يتوقف على جهودنا المشتركة، أما روسيا وكما شدد الوزير لافروف، فسوف تستمر في ترويج الأجندة الإيجابية التوحيدية التي ترمي الى إزالة خطوط الفصل القديمة، والحيلولة دون ظهور خطوط الفصل الجديدة، وقد تقدمت روسيا بمبادرات في مجالات عدة، بما فيها منع سباق التسلح في الفضاء الكوني، وإنشاء أدوات فعالة لمكافحة الإرهاب، لا سيما الإرهاب الكيميائي والجرثومي، إضافة الى تنسيق التدابير العملية الخاصة بالحيلولة دون استخدام الفضاء السيبراني لتقويض أمن أي دولة ناهيك عن تطبيق مخططات إجرامية أخرى.

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

هناك موقف حدث فى بدايات رمضان الماضي تداولته وسائل التواصل عن مواطن مسيحى قام بإعداد مائدة رمضانية طويلة يشارك به المسلمين احتفاءهم بشهر رمضان الكريم.. لم يكن موقفاً إعلامياً.. ولم يكن الوحيد.. حدث ويحدث فى مصر فى كل محافظة ومدينة بشكل أو بآخر..

موائد الرحمن فى كل عام منذ نشأتها تجمع المسيحى والمسلم. بالعكس هناك مسيحيون يحبون موائد الرحمن ويحرصون على التواجد بها فقط لأنها تعبر عن روح المشاركة والترابط على المستوى الإنسانى قبل الدينى.. الأعياد والمناسبات السعيدة كانت دائماً هى الموائد التى تجمعنا جميعاً نسيجاً واحداً مكونا من عنصرين مسلم ومسيحى..

لو أردنا أن نتحدث عن مفهوم الوحدة الوطنية كمصطلح عام فإن المقصود به هو اجتماع كل المواطنين فى الدولة تحت راية واحدة من أجل تحقيق هدف مشترك يسمو فوق أى خلاف حزبي أو عرقى أو طائفى.. مثل هذا التعريف ينسحب على أى شعب ودولة.. هناك دول يمثل المسلمون فيها أقليات فهل تتمتع تلك الدول بوحدة وطنية؟ الأمر يختلف باختلاف القوانين والدساتير التى تحكم تلك الدول.. أما فى مصر فالأمر يتجاوز القوانين المجردة إلى ما هو أعمق وأرقى..

الوحدة الوطنية فى مصر لم تكن أبداً وطوال تاريخها الطويل مجرد شعارات أو قوانين تصاغ فتحكم العلاقة بين المسلم والمسيحى، أبداً.. فحتى فى غياب هذه القوانين أو غياب تطبيقها، كان المسلمون والمسيحيون يتعايشون بصورة رائعة لدرجة أنك فى كثير من الأحيان تجد جيراناً بينهم علاقات ود وتعاملات اجتماعية وتجارية من كل نوع ثم تكتشف من خلال الأسماء فقط أنهم مسلمون أو مسيحيون..لطالما سارت الحياة فى مصر بين مكونى النسيج الوطنى على هذا النحو...

نعرة التفرقة لم تظهر فى مصر سوى مع الاحتلال.. وربما لهذا كان أول ما فعله المصريون فى ثورة 19 أنهم أشهروا فى وجه عدوهم المحتل راية الوحدة الوطنية.

المنيا نموذجاً

لعل من أكثر محافظات مصر الشاهدة على مظاهر وحدتنا الوطنية كانت محافظة المنيا.. تاريخياً وجغرافياً..

أولاً هى عروس الصعيد الواقعة فى منتصف الوادى الخصيب، كأنها رمانة الميزان بين طرفيه.. وهى زاخرة بعشرات المساجد والكنائس والأديرة فى كل ركن ومدينة ، بعضها أثرى عتيق ضارب فى عمق التاريخ والبعض الآخر معاصر. مساجد الصحابة والأولياء كثيرة فى المنيا يقصدها المسلمون من كل مكان.. وفى المقابل يمثل دير السيدة العذراء بمدينة سمالوط مقصداً للمسيحيين من كل الأنحاء.. أنت أمام مشهد يعبر بكل جلاء ووضوح عن وحدة وطنية حقيقية عميقة وغير مصطنعة تبدو فى كل مظاهر الحياة والمعيشة اليومية بين سكان عروس الصعيد خاصة إذا توغلت فى شوارعها وقراها ورأيت كيف يعيش المسلم بجوار المسيحى فيتشاطران الحياة اليومية بكل مظاهرها حلوها ومرها وبكل أحداثها السعيدة والتعيسة..

نحن لا نشعر بكلمة الوحدة الوطنية لأننا نعيشها حقيقة واضحة.. لكن الذى قد يتعجب من مظاهرها الواضحة الجلية فى مصر هم الزائرون من خارجها..فالأجانب بعضهم لديه تصور مسبق مغلوط عن طبيعة العلاقة بين المسلمين والمسيحيين بسبب ما تمارسه بعض قوى الشر المغرضة من محاولات لتأجيج صراعات فردية أو معارك مفتعلة من حين لآخر حقداً وبغضاً لتلك الحالة الفريدة الطبيعية والتاريخية من الوحدة الوطنية فى مصر..

شعار أم ضرورة

حتى فى أمريكا بلد الحريات لطالما كانت هناك تفرقة فظيعة بشعة فى أقسي وأعنف صورها بين الأمريكيين البيض من ناحية وبين فئات مجتمعية مختلفة على رأسهم الزنوج.. ثم المواطنين الأصليين من أحفاد الهنود الحمر، ثم الأقليات الأخرى من المهاجرين من دول أمريكا اللاتينية وغيرهم..هذه التفرقة كانت لها مظاهر اجتماعية وسياسية واقتصادية ودينية كثيرة شملت تضييقاً فى السكن والعمل والترقى الوظيفى والحقوق المدنية ومظاهر ممارسة العبادة وغيرها.. تلك المظاهر تفاوتت قسوتها وشدتها من حقبة زمنية لأخرى.. غير أنها كانت وما زالت موجودة بصورة أو بأخرى.. نحن فى مصر مختلفون عن كل هذا.. طبيعة البلد نفسها تستوعب وتهضم الاختلاف فى العقائد والعرقيات والطوائف  على مدار التاريخ.. وخير شاهد على هذا ما حدث من نزوح لأشقائنا العرب إلى مصر بالآلاف وانسجموا واندمجوا داخل النسيج المصرى دون أن يشعروا بأدنى تفرقة أو اختلاف.

الحق أن الوحدة الوطنية الطبيعية بين عناصر المجتمع المصري كانت دائماً ركيزة لحالة الأمن والأمان السائدة بين أرجائه.. لا يعكر صفوها إلا ما كان يحدث أحياناً من قلاقل نادرة إذا قيست بما يحدث حولنا فى أى مكان بالعالم.. طبيعى أن تكون فى كل مجتمع بعض العناصر الإجرامية أو المتطرفة لكنها تبقى مجرد استثناء يؤكد القاعدة..

فى التاريخ المصري نماذج كثيرة مشرفة من الأخوة الأقباط برزوا ولمع نجمهم فى كل مجال وموقع سياسي أو قضائى أو فنى أو طبى أو عسكرى.. ولو توقفت عند بعض الأسماء البارزة المعاصرة أو السابقة فلن يسعنى الوقت وسأظلم أسماء كثيرة قد أنساها.. الدور الوطنى نحو مصر لا يفرق بين مسلم ومسيحى ، فنحن جميعاً نتحرك مع وطننا ونحركه فى اتجاه النجاة.. ولو أن إحدى دفتى المسيرة توقفت فلاشك أن الوطن كله يتضرر..

سمات وحدتنا الفريدة

فى مصر ظهرت وحدة وطنية ذات شكل وفورم فريد قلما ترى مثله فى أى مكان بالعالم.. وهى وحدة لها سمات ومظاهر تشكلت عبر التاريخ وتجلت بوضوح فى أوقات الأزمات المشتركة.. بداية من المحاولات الاستعمارية الأولى خلال الحروب الصليبية..تلك التى أظهرت مدى قوة روح المواطنة لدى أقباط مصر الذين شاركوا المسلمين فى مقاومة المستعمر الغاشم حتى طردوه.. هذا أحد المظاهر المتكررة فى تاريخ الوحدة الوطنية المصرية الأصيلة ومشاركة المسلمين والمسيحيين معا فى طرد الغزاة منذ الحروب الصليبية وحتى حرب أكتوبر المجيدة..

الشخصية المصرية لها طابع متوارث شديد العمق والرسوخ لعل إحدى أهم سماته أصالة الطابع الوطنى فيه بغض النظر عن أية اعتبارات طائفية أو عرقية..

الوحدة الوطنية انتصرت دائماً وعبرت جميع مراحلها الصعبة  ونجحت فى تخطى سائر الاختبارات الصعبة بدايةً من ثورة يوليو 52 ومروراً بالعدوان الثلاثى ونكسة 67 وحتى حرب العاشر من رمضان.. وحتى عندما حدثت بعض حوادث التفجيرات التى اتضح أنها كانت مفتعلة وبتحريض من أطراف لا تحب لتلك الحالة من الانسجام أن تستمر فإن الوحدة الوطنية التى تجرى فى ثنايا الشعب المصري مجرى الدم فى العروق نجحت فى سرعة نبذ تلك الحوادث وتجاهلها باعتبارها أمر عارض عابر لا يؤثر على متانة العلاقة بين عنصري المجتمع المصري.

معارك التحدى والوجود

منذ أحداث 25 يناير ثم 30 يونيو ومصر تعيش حالة من التقلب أحيانا والتغير أحياناً والتطور أحياناً أخرى.. تحديات كثيرة واجهت المجتمع المصرى.. لكن العجيب أن الوحدة الوطنية بقيت كما هى لم تمس أو تتأثر.. بل وربما لا أبالغ

إذا قلت إن الارتباط بين المسلمين والمسيحيين ازدادت مظاهره وقويت أواصره..

وأعود لأؤكد أن تلك الحالة من الوحدة الوطنية الأصيلة بين عنصري النسيج المصرى هى الضمانة الكبري لدوام حالة الاستقرار وشيوع الأمن والأمان فى ربوع الوطن. وأن هذا المضمون والهدف يدركه كل مصرى ويعمل على ترسيخه والدليل أن وحدتنا لم تتأثر يوماً رغم كل ما واجه مصر من تحديات.

الشعب المصري أثبت دائماً أنه على وعى تام بأن بقاء الوطن وازدهاره يعتمد فى الأساس على بقاء تلك الحالة من الانسجام والوئام بين عنصري الوطن تحت الشعار الذى رسخته ثورة 19: "عاش الهلال مع الصليب"..

***

عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم