أقلام ثقافية

سفر على أجنحة الليل ..!

hasan jamieكان الليل دائما ذلك الكائن الذي يستبيح عزلتي دون مقاومة، يفرض علي سلطانه وقوانينه ولا أملك سوى الإستسلام له والإعتكاف معه ..ينتابني إحساس غارق في الغموض أن الزمن ليل متواصل لا ينتهي وما النهار إلا ليل غطاه الطلاء الأبيض ! هكذا أطلق العنان لخيالي محاولا فهم لغز الليل أو على الأقل ترميم معناه العصي على الفهم والأدراك .

حينما يفرض الليل طقوسه المعتادة وتعجز الأضواء الخجولة عن اختراق جوفه، أكتفي بالإنزواء إلى مكتبي الخشبي المتواضع، أحاول الإختباء خلف فنجان قهوتي كي لا يرشفني سوادها ! ابدأ في ترتيب أوراقي وكأني أدغدغ ذاكرتي قبل أن يتبخر ما تبقى منها مع دخان سجائري، لذلك كان قلمي هو ملاذي الوحيد أبحث من خلاله عن عوالم أخرى تلغي حالة السقوط والتيه التي تحاصرني، أستجمع ما تبقى مني لأستثمر ذاكرتي بكل زخمها ومشاعري لتنصهر كليا مع الكتابة وتكون بذلك الزاد الذي يغذي قلمي ..أسافر معه دون أجنحة، دون رقابة لأتسامى عن كل ما يجرفني ..و لأجعل وجداني يغتسل بضوء القمر لأتطهر من جهة ولأجعل الضوء يتسرب إلى مناطق ذاتي المظلمة .

الكتابة في زمني الليلي هي نوع من المصالحة مع الذات هي نبش هندسي للذاكرة وهي أحيانا أخرى بركانا من الحمم ترفض الإستكانة أو التوقف عن الغليان وبهذا تستشعر المزيف لتهاجمه وتناصر الأصيل لتتباهى به .. الكتابة هي عنواني نحو اكتمال الصورة ووضوح الرؤيا، هي تجديد دائم لفهم ألغاز الحياة .

لا أتخيل حياتي بلا كتابة فبدونها اتخيل نفسي بلا ظل مثل مرآة مكسورة تضيع معها الملامح، فحاجتي إليها تكمن في رغبتي الدفينة بالتجلي والتشكل والبحث عن معاني لمصطلحات تتحجر كل يوم دون رحمة .

حينما أبدأ في قراءة ما كتبت أجدني حبيس ملفها الذي يكاد يملأ ذاكرتي أستلهم منه روائح الزمن الجميل فلهذا القلب مشيئة أخرى تتسلل إلى كلماتي دون إذن مني ويشكل مع النص المكتوب سمفونيته الفريدة برغم انتهاء الحكاية ..و تجرعته بعدها من مرارة كان قدر الكتابة معي أن تكون لغة الجراح الغائرة ونار تتقد كلما امتنع النسيان عن أداء دوره الرحيم معي، و إن كانت مادة النسيان معطلة عندي خصوصا مع ذلك الملف الذي لازال يختزل لغة القلب واستعصت كلماتي عن إقباره ونعيه نهائيا .

ليس من عادتي البكاء عن اللبن المسكوب، أو النحيب عن الأطلال لكن حماية العواطف تجعلني أسبح ضد التيار لأستحضر من شقوق الكلمات مشاعرنا الملتهبة آنذاك والتي حولت ليالينا الساهدة إلى زمن يعتصر الأحلام ويسكنها ويشكل الأمل ويتغنى به، إن الذكرى تجعلني أسترسل في اقتطاف متعة الليل حيث تنبعث الأرواح وتتعانق وتمتزج رغم المسافات والغياب، هكذا كان للقلب حكاية أوسع من الوطن تسافر به أجنحة الليل ليتمادى في دلاله ونشوته .

حينما أحاول إيجاد مفهوما للكتابة أجد صعوبة في فك لغز التناقضات التي تشكلها، فهي أحيانا نقط التقاطع بين الظلمة والضوء، بين الحلو والمر، بين نشوة القلب وجرحه الأليم ..إنها سر المعذبين في الأرض، و المنسيين بين أحضان الليل، إنها الوسيلة الوحيدة التي تفرض على الآخرين الإلتفات إلينا والإعتراف بنا .

مع اقتراب الفجر الذي يذكرني باقتراب الطلاء الأبيض أدرك أن الليل وعاء حريري يحجبني عن الفوضى ويجعل من الكتابة سريري الأبدي الذي يريح كياني من عناء الضوضاء وثقافة الإشاعة ويكفي أن الليل يحفزني على الكتابة فحضوره الزاهد في الصمت والغني بالخيال ينسجم مع تطلعاتي لأرسم بالكلمات فن التشكيل اللغوي عبر لوحات يتلخص بداخلها التشخيص والتجريد لتكون خير مرآة للحياة نفسها

في المثقف اليوم