أقلام ثقافية

المنثوروالشعر!!

صادق السامرائيالعرب تعرف المنثور الرائع الجميل منذ ما قبل الإسلام بزمن طويل، وهناك العديد من الخطب والمقطوعات النثرية التي تجسدَ فيها ذلك، لكن أكثرها تم القضاء عليه والتأكيد على الأسلوب القرآني.

ووجدتنا في منتصف القرن العشرين أمام دعوات التجديد في الشعر، والتي إستهدفت الشكل وتناست المحتوى والغرض الشعري، فالبحور الشعرية قوالب متقنة معبّرة عن إيقاعات الأعماق البشرية منذ الأزل، ولم تُخترع وإنما هي متأصلة في دنيا البشر، وتبوح صورها ومعانيها بقوالبها الطبيعية الفطرية.

فعلم العروض لم يُبتكر أو يُصنّع وإنما تحقق إكتشافه!!

وكل بحر قالب له خصائصه ومميزاته وجوازاته، وما يُصَبُّ فيه هو الذي علينا أن نجدده، فالقالب ثابت وخالد والمحتوى هو الذي يتغير، مثل البشر فكيانه واحد لكن محتواه يختلف من شخص لآخر.

فإذا وضعنا في البحر الشعري طينا فسيكون الشعر طينيا، وإذا وضعنا ذهبا سيكون ذهبا، فهو سيعكس ما يوضع فيه.

ولهذا سمي علم العروض " ميزان الذهب"، أو أن من الكتب التي إشتهرت في شرح علم العروض كتاب صغير عنوانه " ميزان الذهب" . ولم يكن ميزان الرمل أو الحصى والحجر.

فعلة الإبداع العربي أنه معتقل في رؤية أن الإبداع يعبّر عن واقع الحال، وهذه خطيئة حضارية فادحة الخسران، ففي عصرنا الذي يعبّر عن واقع الحال هو الصورة الفوتوغرافية بأنواعها.

أما الإبداع فهو التعبير عن تغيير واقع الحال، وكل إبداع لا يكتنز هذه القدرة والطاقة التغييرية لا يمكنه أن يُسمى إبداعا.

حتى أن البعض يرى أن دعوات التجديد في الشعر التي هدّمت المنظومة الشعرية العربية، ما هي إلا مؤامرة على العقل العربي وتدمير للموروث المعرفي الفياض الذي يمتلكه العرب، فراحوا يتحدثون عن أنماط كتابية نثرية يسمونها شعرا!!

ويتجاهلون أو يغفلون أن المجتمعات المتقدمة تمكنت من تصنيع الأفكار، ومجتمعاتنا لا تزال غير قادرة على إنتاج الأفكار المعاصرة المقتدرة، وقادة مجتمعاتنا لا يستطيعون الوصول إلى صيغ لتطبيق أبسط الأفكار التي ينادون بها.

فمجتمعات الأفكار المترجَمة إلى موجودات مادية فاعلة في الحياة، يتوافق معها النثر الشعري الذي يهتم بالأفكار وتخليقها وتواشجها، وتوليدها ما هو جديد وصالح لتحقيق رمزها المتفق معها في الواقع الحياتي المعاش.

بينما في مجتمعاتنا صار الشعر النثري محشوا بما يعكس واقع الحال المهين، فأي شعر هذا وأي إبداع؟!!

ويأتيك مَنْ يحْسَب نفسه إمام الشعر والإبداع، وما يأتي به صورة لواقع حال لا يساهم في تغييره ورفضه، بإبداعية تؤهل القارئ لإستنباط ما يعينه على صناعة الأفضل!!

فهل من عودة إلى الشعر الأصيل؟!!

 

د. صادق السامرائي

 

 

في المثقف اليوم