أقلام ثقافية

صادق السامرائي: لوركا يعانق الحياة!!

صادق السامرائيشاعرٌ نادى حشود الزمنِ، كيفَ أحْيا في حَميمِ الفِتنِ، فاسْتغاثَ الجرحً فيها، من وحوش الحَجَرِ، يصنعُ الأمواتَ جندٌ، من فصيلِ الخَطر، والظلام صار نورا، والحياة دون ضوءٍ، فاسْكبِ الأحلامَ فيضا، كيف تنسى، ثم تدري، مثل موتٍ، جاء يسعى، نحو قومٍ بلباس القدر...!

ألف أنتَ في بقاعٍ تتهاوى، غادرت مجد العصور، يدفعوه، يضربوه، يأمروه، ثم يعدو، قلبه قلبٌ الطريد، روحه روح الوعيد، أطلقوا النار عليه، إصرخوا أنتَ القتيل، إستحموا بالدماء، إستعينوا بالغباء ...

أغفلوا كل نداء، أغضبوا ربَّ السماء، ثم طوفوا بين أبناء العناء، مثل شيخٍ يتمادى بالرياء، مثل جمع يتبارى بالشقاء، هذه الأموات من طقس النقاء، مأزقا صار الصباح، في مسارات التماحي والهلاك، أطفئوا الأنوار وامشوا بالعماء، هكذا يعني القضاء...!

لا رجاء، لا رجاء، إنه الوعد يحين، فتعال يا نديم الويل، قد جاء النداء...، قلتها أنت بصوت الإنتهاء، أخذوك ذات ليلٍ، لا يريدوا مَن ينادي، بكلام الحب شيئا أو يزيد، دينهم دين الدماء، نهجهم نهج البلاء، يستلذون قتيلا يجعل النورَ وباءً، يتباهون كوحشٍ بقتال الأنبياء، مثل شيطان المآسي، إشربوا الشر بكأس، من جلود وجماجم، إستبيحوا الحي ليلا، إحملوا السوء كدين، ثم صولوا في جموع الخائفين، أيها الذئب الأمين، تأكل الحمل الحزين، وتغني بعواءٍ فوق أشلاء الجنين...!

تبحث الأيام عن بعض الحنين، تسأل الأقمار عن معنى الأنين، مثل حفار القبور في بطون الجائعين، والحياة دمعة تشكو الحزين، والنساء كسبايا الغائبين، وزِّعوا حلوى التداعي، واحصدوا زرع الهوان، واقلقوا عش المساء، يستعين الليل بالصبح الضنين...!

بشر فيها يساوي بعض شيءٍ، بين أنياب السنين، لا حياة، بل تعازي وانطلاق نحو جزارٍ مَكين، كل عشقٍ يستحم بدماء العاشقين، يتعاطى الحب خمرا بأكف الضائعين، تلك أحلام الحياة محض طين، إن أصوات الجموع لا تدين، فجَّرَ المسعور أفعال الضغين، أطلقَ السجان أوجاع السجين، وبنى المحذور بيتا، فوق أشلاء البنات والبنين، طير شر دام خفاقا ويعلو، طير حب يستغيث، يأكل الصبح لحوم البائسين، للغراب كل يوم بين أجفان الرصيف، جثثا كم يشتهيها طائر الجرم المبين...!

يصنع الجور عجيبا، صار للموت جنودا، وجموعا تتبارى كالرهين، تتربى فوق آهات الضحايا، تحتسي خمر المنايا، لذةٌ تنمو وتغدو قوةً، يدمن القتّال في أفعالها، أخرجوا نحو القبور، أنثروا الخوف بكونٍ، أدفنوا كل مفيد، إزرعوا سمّ الأفاعي، في صدور الحائرين، أطعموا الناس جراحا، إسكبوا زيت التلاحي فوق أهوال الصراع، إفعلوا كل المعاصي، ألبسوها ثوب خيرٍ، إرفعوها لسماء مالها فيها رجاء، كيف عاشت أمنيات مثل ريح في هياج العاصفات، قالت الأحزان تبكي، ظالم هذا البشر، جاهل هذا البشر، قد طغى فيها فساد المبتكر، فتعالى يا نداء الجائرين...!

أين أنت، تحت أقدام الشجر، قرب ساق، ترتدي بعض الثرى، قرب نجم، بين أكوام الورى، تشرب الماء رمالا، تحتسي الآلام نارا، كيف للقلب يجوع لضياء، وشراب من رحيق المنتهى، كيف للروح يكون مثل طير في براثين الأذى، يأكل الطير طيورا، يقتل الإنسان أحلام أخيه، يشتهي الإنسان أسماك الظنون، والترائي والنفاق في بحيرات الجنون، ويسير كملاكٍ بين جمع الغافلين، نحو حتف في مدارات الكدر، برر البهتان شأوا، شائنا دوما ويبغي ما نظر، يسكب الخير بكهفٍ، من عظام الذاهبين، كأسه قحف الرؤوس، عندما صاد البشر، يتنادى نحو همٍّ من ترابٍ، فيه بغضاء المعاصي، وعناء المحتضر.

هكذا يبدو بباء، غير ما يدعو السفر، فنداء الأرض قتال البشر، ووحوش الكون تستعدي البشر، إنه الخوف الرهيب، يفعل الفعل الغريب، كوكب تاه بكون رعبه رعب عجيب، في متاهات الخدر وصراخات الخليق بين أشلاء الرنين...!

أنت صوت هز أعماق الوتر، أنت قطر ذاب في جسم الشجر، أنت أحلام تنامت بين حبات المطر، أنت سيل من عروش الفيض يجري مثل شلال القدر، أنت محمول بقلب، من ضياء الكون، من نسل الظفر، أنت بحر فيه أحياء تنادي يا إلهي لسجين الماء لا يحلو المفر، أنت معجون بلحمٍ، أنت منثور بريح، أنت في خمر الوجود، فوق أكوان السهر، أنتَ سلاف الرحيق، أنت جذر يمنح الأشجار روحا، يطعم الأوراق أنقى ما تريد من غذاء، ثم تربو لسموق تشتهي ضوء القمر، أنت فنجان الأماني، أنت أوهام الرجاء، أنت صرْخات الأمل، سوف تبقى كضياء، ظلمة فاقت سوادا إستعر، قرب قلب الواعدين...!

قاتلٌ دون التراب عاش مهموما يعاني، من عذابٍ هزّ أهوال الجحيم، حينما أردى وجودا لا يموت، قاتلٌ مقتولُ قتلٍ، غادر محكوم غدر، جائر في بؤس جور، جاهل يزهو بسوءٍ، ومضى يرثي زمانا، ووجودا بين أقدام الضمير، يحسب الموت حياة، والحياة مثل جرم أو تزيد، يشتهي نار السعير، يرتضي قتلا عنيفا، كيف ينجو من عذاب فاق أوجاع العذاب، قد تخطاه بجرح ينزف الروح صديدا، ويئن مثل مطعون الحنايا، والهواء كل ما يدري يريد، ذلك الكف يلوم، إصبعا يبكي لجرمٍ، كيف صار الكف حفار الوعيد، كيف صار الجسم قبرا لنفوس القاتلين، صرت مسجونا بجسم وتنادي من يعين، إنها حمراء تأتي، أنت مسجور بذات، والسجير أنت فيها، واللهيب والدخان، والرماد لن يكون، بل سعيرا سوف يبقى يتولاه السعير، مثل أحطاب الضياع في نواعير الوطين...!

إنها حمى الضلال ومسيئات النفوس، تأمر الذات بقبحٍ، تشتهي طعم الحقير، تركب الأشجان تمضي بين قطعان الغدير، فترى فيها عديدا من جنون البطش، يحدوها النذير، صرت عبئا، صرت مأكولا، بين أسنان الضحايا، فالوحوش لا تجاري، بل تراها في صراع السابغين، يا حبيب الإنتهاء، وملاذ الإبتداء، وصراط الإعتلاء، ومدير الفيض في كون الضياء، أنت لا تسعى إليها، إنها جاءت كطيف إرتأت فيك مناها، ثم غابت، ذلك الوحش يراها، قد سعت نحو عُلاها، ما لها ميناء حبٍ، ما لها في البحر شأن، قد تدانت من عيون الوجد أو فوق ثراها، فاستفاقت من ثقيلات السنين...!

أين أنت، حالمٌ قبل الصباح، بليالٍ من نجوم باكياتٍ في مدارات الخراب، نورها دمع هطيل، لونها لون الأماني، في مكان من مياه وطوابير احتضارٍ، يشتهيها النفط في غار الوقيد، يشرب الأجسام عنفٌ، ينفث الأوجاع بترولا ونارا، إن جوف الأرض بئر يبلع الناس ويلقي، من عصير الحشد أنواع الوقود، نحن نفط وتراب، وبنا الأرض تدور، دون نفط لا تدور، وبقتل ستدور في مدارات الثبور، نستعين في خطانا بالمعاني والنذور، وإذا سفك الدماء مثل قربان السرور، كلنا وهمٌ يطوف في حجيرات الجهول، علمنا علم قليل، جهلنا جهل وفير، رأينا رأي صغير، مالنا بد ولكن سوف نمضي، والجراح مثل أبواب الجحيم، والدماء لونها لون المياه، والسماء ما بدت فيها نجوم، أشقت الأحقاد أطياف الوفاء، فامطري أجساد خلقٍ، ماء روح، فوق صخر اللاهبات بسخاء، غابت الأشياء في جحر التناهي، ومضى صوت البقاء، يتغنى بعطاء الأنبياء، أزلي، أبدي، رغم أوجاع البرايا، سوف يبقى، شعلة فيها رجاء، من دموع الراحلين...!

هكذا أنت وأنت راحلٌ، فامسك النار بكف الزمن...!

أطردوا أهل الأماني، واصنعوا مجد الفساد، أنقذوا كل بعيد من عسيرات الولاء، قطرة تبقى ونهر ينضب، بعضها يطغى وكل يقهر، يا صخور الإمتثال، وحديد الإبتذال، ومتاريس الجحود، في دروب الإعتزال، والنجوم دون ضوءٍ، تشتكي ليلا أليما، في مسيرات اختزال، وإذا الأوطان في الأرض افتعال، والشعوب تتردى من حميمات القتال، لا حياة بل نزال وأعاصير انفعال، هكذا الأجيال تشقى بشعارات النضال، وتهاويل المقال، وإذا الأجداث نادت، ستلبي كل هامات الفناء، وتساق لانجدال ...!

 

د-صادق السامرائي

............................

*هذه الكلمات مكتوبة بتأريخ 18\10\2006 في المكان الذي يُذكر أن الشاعر الإسباني لوركا قد قتلوه فيه، وما بين الأشجار التي يُقال ربما قد دفن قربها، وعند شجرةٍ شهدت ما فعله الجناة بصوت الحب والحرية والحياة، وقد ذكرني بها أخ عزيز وأوتار عوده تسامرنا، وطلب مني إعادة نشرها، ونشرت في حينها كقصيدة نثرية.

 

 

في المثقف اليوم