أقلام ثقافية

فؤاد الجشي: سلمان رشدي يكتب من جسده

انتهيتُ من قراءة الرواية الجديدة للكاتب سلمان رشدي "السكين: تأملات بعد محاولة قتل"، فوجدت نفسي أمام عمل لا يشبه شيئًا مما قرأته له سابقًا. هذه ليست رواية بالمعنى التقليدي، ولا هي سيرة مكتملة، بل هي نصٌّ هجين، مرقّط بالوجع، مسكون بجسدٍ لم يعد كما كان، ومحمول على ذاكرةٍ حاولت أن تتماسك رغم الدم.

 الرواية تبدأ من تلك اللحظة التي كادت أن تكون الأخيرة: الطعنات الإحدى عشرة التي تلقاها رشدي في صباح 12 أغسطس 2022، على منصة مركز تشوتوكوا الثقافي في ولاية نيويورك. رجل يحمل سكينًا يندفع من العتمة إلى الضوء، يقفز فوق كراسي القاعة، ليغرس نصل الحقد في جسد كاتبٍ ظنّ أنّ سنوات التهديد والاختباء قد ولّت. لكنّ القدر، أو التاريخ، أو الفتوى القديمة، كان له رأي آخر.

 في "السكين"، لا يتحدّث رشدي كثيرًا عن "العدو". لا نكاد نعرف شيئًا عن هادي مطر، منفّذ الاعتداء، لأنّ رشدي اختار ألّا يمنحه سلطة السرد. هو يتحدث عن الجرح، لا عن الجارح. عن الألم، لا عن الانتقام. النص مشبع بتفاصيل موجعة عن أيامه الأولى بعد العملية، عن الأجهزة الطبية، عن فقده لإحدى عينيه، عن يده المشلولة، عن خواء الجسد الذي تحوّل إلى ساحة حرب.

 لكن وسط كلّ ذلك، ينهض الحب. إليزا. زوجته السمراء، الفنانة، التي صارت صوته حين خرس، وعينه حين عمِي، ويده حين شلّ. في كلّ صفحة من الرواية، هناك اعترافٌ نادر لرشدي: بالضعف، بالحاجة، وبالامتنان. لقد كان دومًا كاتبًا مثقفًا، ساخرًا، عقلانيًا. لكن في "السكين" نرى رجلًا ينهار ويُعاد تركيبه بالكلمات، لا بالمبادئ.

 الرواية لا تنفصل عن عالم رشدي الروائي الأوسع. هو يستعيد بعض ظلال "آيات شيطانية"، لكنه لا يعيد الدفاع عنها. لا حاجة لذلك. ما يفعله في "السكين" أبلغ من أيّ دفاع: يقدّم جسده كحجة. لقد حاولوا قتله من أجل كتاب، فكتب عن الموت كتابًا. هكذا يُخضِع الكاتب النصل للكلمة، ويجعل الألم حبرًا.

يكتب رشدي ما يشبه الصلاة: "الكتابة هي طريقتي في البقاء، وهي انتقامي الوحيد من السكين". هنا يتحول النص إلى فعل مقاومة، لا ضدّ فرد، بل ضدّ فكرة: أن يُكمّم الكاتب، أن يُطعن المفكر، أن يُخرَس العقل.

 "السكين" ليست رواية عادية، ولا سيرة شاملة، بل هي بيان وجودي، يكتبه رجل نجا من موت مؤجل، ليذكّرنا أنّ الكلمة، حين تُؤمن بها، قد تصبح أكثر فتكًا من أيّ سكين… أو أكثر حياة.

***

فؤاد الجشي

 

في المثقف اليوم