أقلام فكرية

علم الجمال.. الدور والإمكانيات اليوم

علي رسول الربيعيمقدمة: كانت الفترة المبكرة من العصر الحديث التي ظهر فيها علم الجمال نقطة تحول تاريخية عظيمة بالنسبة للحضارة وليومنا هذا كذلك. يُظهر النظر لعلم الجمال على هذا النحو وجهًا مختلفًا له عن الوجه الذي اعتدنا عليه. يعتبر علم الجمال عمومًا فلسفة للفن، ونظرًا لأن الفن يُعتبر مجالًا ثقافيًا مستقلًا، فإن علم الجمال يعطي عادة انطباع بأنه حقل منفصل عن الفلسفة. تستكشف هذه المقالة موضوع عن علم الجمال مختلفة تماما عن هذا الذي مرً ذكره. عندما ظهر حقل علم الجمال إلى الوجود، اتهم بأنه كان مشحوناً بالمشكلة الفلسفية السائدة والملحة في عصرها وهي: كيفية بناء عالم جديد.

مفهوم الفن وولادة علم الجمال

نشر بومغارتن ( Baumgarten) المجلد الأول من كتابه علم الجمال في عام 1750. وقد كان اقتراحه تأسيس علم أدراك الأحساس، الذي يأخذ الفن والجمال كموضوع رئيس له، وكحقل جديد في الفلسفة. اذن علم الجمال، بهذا المعنى، هو تخصص حديث. ويمكن القول إن ما أصبح يُدعى بعلم جمال العصور القديمة أو القرون الوسطى جاء بعد بومغارتن: فقد أصبح التفكير السابق في الجمال والفن جديراً بالاهتمام فقط مع تأسيس علم الجمال كحقل فلسفي في العصر الحديث. أشدد على الأصل الحديث لعلم الجمال لأن ولادته حدثت على خلفية تاريخية محددة. يتمثل العنصر الأول لهذه الخلفية في تكوين مفهوم الفن؛ ففكرة الفن التي اعتدنا عليها تشكلت مع بومغارتن. دعونا نلقي نظرة سريعة على تاريخ الفن.

كان الفن موجودًا بعد عصر النهضة، في ثلاثة أشكال. كان أحدها فنًا رسميًا أو عاماً يتوجه إلى جمهور كبير. وكانت الحضارة في حالة تغيـًر أنذاك، وكانت القوى والسلطات السياسية تحتاج إلى علامات ورموز ملموسة الى وجودها؛ ومن الأمثلة على ذلك كنيسة سان بيترو في مدينة الفاتيكان، أو السياسة الثقافية للويس الرابع عشر. كانت فرنسا بلدًا سياسيًا وثقافيًا متخلفًا في منتصف القرن السابع عشر. عالج الملك الشاب الطموح هذا الضعف على كل من الجبهتين العسكرية والثقافية: فقد كان يتمنى أن يكون مُهاباً ومحترماً. شيدت فرساي، وتلقى راسين وموليير الرعاية الملكية. وتم تقديم معاشات سخية للشعراء الأوروبيين الذين يكتبون قصائد في مدح الملك. لقد كان الفن والفنانين في مكانة داعمة للسلطة السياسية. وقد ساهم هذا الفن العام بشكل كبير في تشكيل المفهوم الحديث للفن. لكن علينا أن ندرك أن هذا الفن العام والواسع النطاق يختلف إلى حد ما عما نتصوره فنًا الآن.

كان الشكل الثاني لفن ما بعد عصر النهضة هو الفن الاجتماعي المخصص لأستمتاع عدد صغير، مثل فن الروكوكو Rococo. لقد خضع شكل الفضاء لتغيير جذري: ففي مقابل قصر فرساي، الذي شكل الفضاء العام كانت هناك الـ الروكوكو والتي هي ثقافة الغرف الخاصة، لا سيما لتلك السيدات الأرستقراطيات. أصبحت المحادثة فنًا وديكورًا داخليًا يتم البحث فيه عن المكانه. لكن الشكل الأكثر أهمية للفن هو الشكل الثالث، أي الفن التأملي. والمثال الأبرز لذلك التطور من الثاني إلى الثالث يقدمه موزارت في باريس. قام موزارت بتأليف الكونسرتو Concerto for Flute and Harp، وعزف القيثارة عام (1778)، التي أعتبرت تحفة موسيقى الروكوكو، للمجتمع الباريسي المخملي. كذلك تم تأليف سوناتا للبيانوA minor في العام نفسه، بشكل موسيقي مختلف وقد كان يُصف بأنه ذاك الذي: لا يمكن للمرء أن يستمع إليه ويتحدث بشكل مبهج أوبلطف في الوقت نفسه؛ يلزم المرء التركيز على مستوى أعمق من العقل. إن الشكل الرئيسي للفن وفقا لمفهومنا الحديث هو هذا الشكل الثالث. هذا هو الفن الذي يتطلب علم جمال مثل فلسفة الفن، وهذه هي الفلسفة التي تتأملة.

الحساسية والجمال

كانت علم الجمال عن بومغارتن ليس موضوعًا للفن فقط ولكن للأحساس أو للحساسية والجمال أيضًا، والتي يمكن اعتبارها أكثر في غاية الأهمية من الناحية الفلسفية. لنبدأ بالحساسية. كانت فكرة بومغارتن حول علم الجمال كفلسفة للحساسية مستوحاة من نظرية المعرفة عند لايبنتز. فمن بين أساليب الإدراك المختلفة المصنفة من قبل لايبنتز، إنها مقولة الإدراك الواضح والمشوش وذلك لأن يمكن تحديدها من الناحية التجريبية ولكن لا يمكن تحديدها من الناحية اللغوية - والتي يمكن أن تتوافق مع علم الجمال عند بومغارتن. يدرج لايبنيز في هذه المقولة كلا من مفهوم الصفات الحسية مثل الأحمر والحلو والأحكام المتعلقة بالشعر والرسم، حيث يطبق عليهم ما لايمكن وصفه وتسميته بسهولة . "هذا هو موضوع ومجال علم الجمال.

أكد باسكال على أهمية الإدراك المعقول قبل قرن من عصر بومغارتن؛ "نحن نعرف الحقيقة، ليس بواسطة العقل فقط، ولكن من خلال القلب أيضاً، وبهذه الطريقة الأخيرة نعرف المبادئ الأولى؛ ليس العقل جزء منها وليس له أيً دور في ذلك، أنه يحاول عبثًا فهمها". أعتبر باسكال المبدأ الأول هو الله. ولا يمكن استعادة وجود الله، بعد أن وقع تحت طائلة شكوك المرتابين، من خلال تفكيرهم العقلي- المنطقي، وقد حاول ديكارت ذلك ولم يفلح ، ولكن يمكن إدراكه بالشعور: واذا كان العقل المنطقي عديم الجدوى فما هو مطلوب هو الموافقة الوجودية، وهذا عمل الحساسية. بأعتبار الحساسية هي مسألة قيم كخيار ومشاركة وجودية، وليست صفات معقولة.

كانت نقطة التحول الكبيرة في العصور الحديثة المبكرة تعبيراً عن أزمة. فكان الجمال رداً على القلق الجذري الناجم عن تلك الأزمة. وقد أدرك توماس هوبز ذلك القلق فكان الأساس لفلسفته السياسية عن المساواة بين البشر في حالة الطبيعية، والتي أستخلص منها الأطروحة الشهيرة: "حرب الجميع ضد الجميع" وهي الفكرة التي ضربت على الوتر الحساس لمعاصريه.

أصر شافتسبري على دور الجمال في هذا السياق. فقد هاجم هوبز، وأعتبر جمال العالم دليلاً على عقلانيته، ومن ثم قياساً على هذا الجمال، جادل بأن الإنسان فاضل بطبيعته، وقد تضمنت حجته نقطتين. برر في الأولى من وجهة نظر التدبير الكلي للعالم، رغبة الحفاظ على النفس، والتي اعتبرها هوبز الفكرة الأساسية للصراع. والثانية مؤكداً على عقلانية العالم متبنياً حجة ليبنتز المعروفة بـ " Leibniz’s theodicy، أيً : تبرير الخير الإلهي والعناية في ظل وجود الشر.

ثم يشير شافتسبري إلى أن تدبير العالم بوصفه تعبير عن الجمال، هو أدراك مهم للجمال لأن لايتأثر حكمه بأي تحامل شخصي أو موقف تعسفي، أي أنه أدراك نزيه. وينطبق هذا في رأيه يرى على السلوك البشري ويرتبط مع "الحس الأخلاقي"، الذي يشهد على وجود غريزة الفضيلة فينا. لا يتصارع الناس بالضرورة مع بعضهم البعض لتعزيز رغباتهم الأنانية. وحتى لو انهار النظام القديم القائم فأن المجتمع البشري سوف يستمر.

أود أن أتأمل نظرية الخلق عند مالبرانش قبل أنهاء هذا المسح لتاريخ علم الجمال. واجهت فلسفته المسيحية مشكلة أكثر إثارة للحيرة من وجود الشر وهي: لماذا يخلق الكائن الكامل الذي لايفتقر الى أيً الشئ العالم على الإطلاق. أشار مالبرانش في مواجهة هذه الصعوبة، لاكتشاف الدافع إلى عمل المهندس المعماري. يجد المهندس سعادة باحساسه الجديد في وجود ما قام به وهو حافزا لأعتزازه بجماله. إنه عمل غير مبرر. والخلق الإلهي هو مثال المهندس هذا نفسه. فمن الضروري أن يحب الله نفسه. وبسبب هذا الجوهر، يخلق الله العالم جميلاً، ويعبر هذا الجمال عن مجده. ويثبت جمال أو قيمة العالم من خلال جماله، والعمل الفني هو نموذجه.

مركزية الإنسان الحديث واستقلال علم الجمال

لقد رسمنا مخطط عام لأسس علم الجمال حتى الآن. يختلف علم الجمال في بواكير العصر الحديث اختلافًا كبيرًا عن علم الجمال الحديث الذي نشأ لاحقاً في أوائل القرن التاسع عشر. علم الجمال الحديث هو فلسفة الفن المأخوذ في نموجه المنفرد والتأملي. لقد تغير وضع الجمال بشكل أساسي مع علم الجمال هذا. فلم يعد الجمال في علم الجمال هذا بوصفه فلسفة الفن هو الموضوع وذلك تماشيا مع تحيزات مركزية الانسان الحديث، أيً المركزية التي تفسير الواقع من ناحية القيم والتجربة البشرية حصرياً. لقد تحول الأهتمام والأنتباه في علم الجمال من العمل إلى المؤلف أو من يقوم بالعمل الفني.

أنتقلت علامة القيمة من جمال العمل الفني إلى مدى عمقه وأصالته. وأصبح الفن كثقافة عالية نشاطًا مستقلًا، فنجد تاريخه الحديث مدفوعًا بالسعي وراء التجديد كتعبير عن فردانية الفنان. يبلغ هذا الفن الذي يصر على الأصالة ذروته في نافورة دوشامب، التي تكشف عن مفارقة الفن كمؤسسة مستقلة. تعتبر النافورة الآن من أهم الأعمال الفنية في القرن العشرين. رغم الأنتقادات الموجهة الى المؤسسة المستقلة للفن، الأ أنه تم الاعتراف بها كفن بسبب تلك المؤسسة. إنه يوضح حتى الآن المسار الضيق الذي تم فيه قيادة الفن وفلسفة الفن.

يرتبط صعود هذا الفن المستقل مع تراجع الطبيعة في علم الجمال. لقد استند فن الماضي الجميل إلى مبدأ تقليد الطبيعة وأشاراته إلى الطبيعة والتاريخ الإنساني. لكن أصبح الفن أكثر اهتمامًا بالإشارة إلى نفسه: انتقل تركيزه من المادة إلى الصورة. وقد استعيد النقاش حول فكرة التخيل التي غابت طوال القرن التاسع عشر. وانبثق مفهوم الطليعة (وهي استعارة عسكرية) من دائرة القديس سيمون، الذي آمن بقيادة الفنانين لخلق عالم جديد.

لقد تجسد تركيز علم الجمال في القرن التاسع عشر على الصورة والخيال ومركزية الذات. ويمكننا التحقق من ذلك في علم جمال السامي والجليل و والرائع. يتجلى هذا السامي الجليل في عبارة كانط الشهيرة: شيئان مذهلان يملأن العقل عجباً ورهبة: السماء المرصعة بالنجوم في السماء والقانون الأخلاقي داخلنا. يؤكد كانط في نظريته في " نقد ملكة الحكم"، أنْ ليس الطبيعة بل قوة العقل التي تدرك عظمة اللانهائية والقوة تلك هي حقًا سامية. يعبر هذا عن رؤية للعالم مختلفة تمامًا عن رؤية شافتسبري. لقد ختم كانط فكرة مركزية الأنسان بختم أنطبع حتى على علم جمال السامي والجليل.

لقد فاجأنا إحياء فكرة السامي ( الجليل، المتعالي) في نهاية القرن العشرين بعد أن تصورنا أن الحضارة الغربية الحديثة قد فقدت أي شعور بأللامتناهي، وبالتالي ، فقد فقدت السامي كمقولة في علم الجمال. فمن الواضح أن أدورنو – في أحيائها- يتبع كانط في مفهومه للسامي، ويعتقد أنه مع انهيار الجمال االشكلي، المقولة الجمالية التقليدية الوحيدة المتبقية هي السامي، رغم أن السامي المعقول أمر مثير للسخرية. الاً أنً مقولة "السامي" الحديثة تعبر عن حركة النفي الذاتي التي تطبع الفن بعمق، وتميزه عن الحرفة أو الصنعة؛ يمكننا أن نسميها سامية لأن السامي يشكل على نحو محدد من قبل كانط، مقاومة العقل للقوة الساحقة. إنها ظاهرة تمثل التنوير الذي نادى به أدرنو. لكنني أتساءل عما إذا كان يمكننا أن نسمي الـ "سامي" سامياً وهو لا يُرى ولا يُشعر به. في الواقع، قد يشعر "أدورنو" وأتباعه بالسامية في الطليعة (أيً، في الأفكار الجديدة وغير العادية أوغير التجريبية، خاصة في الفنون، أوعند الأشخاص الذين يقدمونها)، ولكن فقط على أساس ثقافة عالية محددة بـأفكارخاصة؛ أيً، على أساس مجموعة من الأفكار الثقافية الخاصة للغاية. وتتشكل استقلالية الفن و "الجمال" الفني عن طريق مجموعة أو شبكة الأفكار هذه.

لدي تحفظ على رأي أدرنو، فاذا كان أدرنو يرى أن السامي (الجليل) قد أصبح أمرأ مثيراً للسخرية الآن.هذا يعني لأننا نتصور فيه لفتة خيال إنسان أو نفهمه هكذا. لكن كيف، إذن، وفقاً لأدرنو، من الممكن للسامي أن يتخلص من السخرية ؟ تستحق روح النقد الذاتي الاحترام، ولكن أليس بمجرد أن يسميها "سامية" يكون قد خان روحها؟ يبقى أدورنو فيلسوف استثنائي في تاريخ علم الجمال لإصراره على الجمال الطبيعي. والمفارقة هنا - التي ذكرنا أعلاه -عميقة الجذور؛ إنها مفارقة الحضارة الحديثة.

الفن كما هو اكتشاف

لقد مُثل السامي بنافورة دوشامب، بينما كان يعتبر منذ وقت طويل، أن ماهو صناعة حرفية أثرية الشرط المسبق لأن يعتبرالعمل عملاً فنياً، بينما تفتقر نافورة دوشامب الى هذا الشرط، لذلك ركز دوشامب، الدادائي، انتقاداته على أفتراض دمج الفن في نظام الثقافة العالية. يمكن تحويل هذا النقد الاستفزازي - في جانبيه الاتهام والاحتجاج - إلى سؤال فلسفي: ما هو الفن؟ إنه في الواقع سؤال صعب، حيث لا يمكننا العثور على نقطة مشتركة بين Medici Venus و Fountain. قد نلجأ الى "التشابه العائلي"، لكن ماهو التشابه بين الأعمال الفنية وهذه النافورة؟ لا شيئ. إن الحل الذي اقترحه البروفيسور دانتو( Prof. Danto) لهذا الموضوع هو أن الفن ما يعترف به عالم الفن على أساس تاريخه المحدد كفن. لكن يبدو لي أن هذا التعريف فارغ فمن الواضح أنه توتيولوجي: إنه يعكس بنية عالم توتيولوجي.

 إن العالم المستقل تيتولوجي ( tautological) أساساً. ليس هذا في بنية الفن فقط ، ولكن في المجتمعات المعاصرة أيضاً التي هي شديدة التوجّه نحو المعلوماتية.وهذا ماعبر عنه الفيلسوف الفرنسي بودريلارد ( Baudrillard) بمفهوم "المحاكاة"؛ حيث يتشكل المجتمع الحديث في هذا العصر من خلال نظام العلامات، دون الإشارة إلى الجوهر أو المادي، أو بناءً عليه. لم يعد للنقود الورقية غطاء وتستند قيمتها على الائتمان والتوقع فقط. لا تمثل أسعار السلع الأساسية قيمتها في الاستعمال، ولم تعد الرواتب تعكس قيمة إنتاجية العمل. يذكر بودريلارد فن البوب فيما يتعلق بالمحاكاة، وإن وارهول Brillo Boxes وكارتون Lichtenstein هي أشارات على وجود العلامات. يعبر جوهر هذا الفن عن وضع واسلوب المجتمع المعاصر. إنه يحرض على تكهنات فلسفية، لكن يصبح هذا الفن، بوصفه جزءًا من آليًة المجتمع، نوعًا من الموضة، وبالتالي من الطبيعي أن يفقد أي قوة نقدية.

يأتي من هنا النقاش المعروف حول نهاية الفن. فمن المهم أن ندرك أن الوضع الحالي للفن هو نتيجة لتطوره التاريخي. علاوة على ذلك، أصبح الفن متورطًا بعمق في ظواهر السياسة والاقتصاد والأخلاق وما إلى ذلك، بحيث لا يمكن مناقشة مشاكله إلا في الأفق الكلي للحضارة.

فيلسوف الجمال كعالم جمال معاصر

يحتاج الإنسان إلى الفلسفة الآن. لا شك أن العولمة أحدثت وضعا اقتصاديا قائما على قانون الغاب. وهو ما كان قد دعاه فلاسفة التنوير بالبربرية. فبينما تحقق هذه العولمة موجة من التغيير ومن نتائج ممتازة مثل التحرر السياسي، وتبادل المعلومات، انتشر أيضًا مرضًا عالميًا ،هو: التبني غير النقدي لمركزية الاقتصاد. يتم ترويضنا لقبول فكرة أن القيمة المالية هي القيمة الوحيدة؛ أون حرية المغامرة الاقتصادية، التي تتطلب استنساخ النظام (system) المستقل هي الحرية الوحيدة. فلا يمكننا نتيجة لذلك، - مثلاً- أن نتصدى بشكل فعال لمشكلة الاحتباس الحراري العالمي الذي يهدد وجودنا أو مشكلة الانحلال الأخلاقي. إن هذا النظام الحديث هو Leviathan (الوحش) اليوم. على الرغم من أن عصرنا يشبه بداية العصر الحديث في كونه يعبر عن أزمة نشوء حضارة، إلا أن طبيعة الأزمة مختلفة تمامًا. كانت المشكلة، في وقت هوبز، تتمثل في المعرفة الفلسفية العقلانية الى العالم والى أسس الأخلاق، وقد لعب الجمال دورا هاما في هذا المعرفة. إنً الوحش هو نظامنا الاجتماعي المعاصر، ومع ذلك هو محصن بحسن نية الأفراد مع الاسف. نحتاج إلى فلسفة لتحليل الوحش، واكتشاف شكل الحضارة المرغوب فيه حقًا.

هل يمكن لعلم الجمال أن يساهم بأي شيء في هذه المهمة الفلسفية؟ أعتقد أن الجمال وفلسفة الجمال لها مكان حقيقي للمساهمة. ما نتعلمه من علم جمال العصر الحديث المبكر هو أنه عندما تصبح القيًم الأساسية مشكوك فيها أو حتى غير صالحة، فإن الحكم الجمالي هو السبيل الوحيد لإنشاء قيم جديدة. بحث مالبرانش عن كمال العالم في جماله، ونجد في القرآن: أفَلَم ينظُروا إلى السَّماء فَوقَهم كَيفَ بَنينَاهَا وزَيّناهَا وما لها من فروج* والأرضَ مددناها وألقينا فيها رَواسِى وأنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوجٍ بَهِيج* (ق:6ـ11. و في سفر التكوين فكرة شبيه ايضاً. بعد أن خلق العالم، يقدر الله خلقه: "ورأى الله كل ما فعله، وهوذا كان جيدًا جدًا" (1-31). الخير الذي يُنظر إليه ليس سوى الجمال.

تعني هذه الأية وعبارة سفر التكون، من وجهة نظر علم الجمال، شيئين؛ وههما: أن تحقق الله من جودة الخلق يعبر عن الطبيعة الجمالية للجمال في المقام الأول. فلا يمكن تحديد الجمال بداهة بالمفاهيم فقط؛ اذ نحتاج دائما إلى التحقق منه بعدياً . بمعنى آخر، أن الجمال لا يصنع بل يعطى. يمكن للتفكير في ذلك بعمق أن يعالجنا من الغطرسة، أيً العلاج من من خلال الجمال. نظرًا لأن الجمال هو نعمة أو هبة، وهو القيمة الوحيدة التي تتجاوز القوة البشرية، لذلك يمكننا أن نتوقع أن تلعب دوراً في التغلب على مركزية الذات في وضعها الحديث.

يمكن أيضًا أن يكون قياس مدى روعة عالم جديد من خلال جماله الذي يكون دليلاً مهماً على نقطة تحول في الحضارة في المقام الثاني. لكن فكر في أن: هناك جمال في مسارات الصواريخ التي تطير في سماء مظلمة، وجمال في انهيار نهر جليدي. بينما أن الجمال هو العلامة الوحيدة المباشرة للقيمة، الاً إنه يشارك في غموض لا يمكن إنكاره في حضارتنا المعاصرة أيضًا. إنني مقتنع بأن المهمة الأكثر واقعية وأهمية لعلم الجمال هي التكهن بهذا الغموض في أفق حضارتنا العالمية.

 

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

 

في المثقف اليوم