أقلام حرة

"أضحى" العراق وشبح التاريخ / إبراهيم الغالبي

 فإن اختلاف العراقيين له أسباب مشابهة إلى حد ما، جزء من مشكلتنا العراقية المزمنة أن الولاء لصدام بقدر ما لا يعني على أرض الواقع شيئا ذا قيمة مؤثرة بعد إعدامه وانهيار نظامه وحظر البعث دستوريا من ممارسة نشاطاته على الساحة السياسية – إن استمر هذا الحظر كمطلب شعبي لا يتلاعب به الساسة- إلا أن هذه الموالاة كافية لإثارة الهواجس والتشكيك وانعدام الثقة. لا يُسأَل من يخشى هذا التعلق بالدكتاتور بقدر ما يجب أن يُسأَل أولئك النفر المتشبثون به والمتعلقون بشبحه الأسود على قلّتهم بيننا ولكن بضجيج أعلى؟ لماذا يبقى البعض سجينا في كهف الدكتاتورية بمحض إرادته! هل حقا لا يدرك أن صداما كان دكتاتورا؟ السؤال سخيف للغاية ولكن ثمة واقع أكثر سخفا هو الذي يجعل لأكثر الأشياء ضحالةً أهمية ما. عشاق الدكتاتورية هم على الأغلب صانعوها والذين انعدمت لديهم مشاعر الإحساس بوجودهم الإنساني فتماهوا في وجود آخر حتى وإن أصبح نسيا منسيا ليكون مبررا معقولا لمغزى الوجود المنعدم أو الهامشي أو الفائض أو الممسوخ. وهؤلاء يشعرون في دفاعهم وتعلقهم بشبح الدكتاتور بلذّة ونشوة غامرتين لا تضاهيههما لذة ونشوة على الإطلاق. فطوال أكثر من ثلاثين عاما تشبّع هؤلاء بكل ما أنتجه صدام من الخطابات والشعارات الرنانة إلى حركة اليد وطريقة القهقهة التي كان يقلدها الرفاق البعثيون في المقاهي والمقار الحزبية ونهايات الأزقة بهز مبالغ فيه لأكتافهم وطريقة الجلوس على الكرسي، مرورا بالقصائد "الخالدة" والأناشيد "الوطنية" و" دبكات المعارك العبثية" وما إلى ذلك.  إنها جزء من مكونات الذات فكرا وثقافة ونظرة إلى الأشياء، إنها الأحلام والذكريات والصور الذهنية الراسخة بقوة فكرة من أكون؟ وما أكون؟

يعبر الروائي البيروفي ماريو بارغاس يوسا الحائز على نوبل الأخيرة عن انطباعاته بعد زيارة العراق عام 2004 بالقول إنه لم يجد من يحب صداما، بالطبع أن السيد يوسا صادف من يحب صداما لكنه لم يره، لأنه كرافضي الدكتاتوريات لا يرون صورة الدكتاتور في الناس، أو بكلمة أدق أنهم لا يريدون ذلك. وربما خفي على يوسا أن يستمع ويعي شيئا وسط الضجيج، الضجيج الذي يعقب سقوط الدكتاتوريات، كل دكتاتورية يعقبها الضجيج، أو كما يقول يوسا نفسه في روايته الممتعة حفلة التيس: (الشهية إلى الضجيج .. كل الأشياء تعلن عن نفسها بأقصى ما لديها .. الكلاب تنبح بقوة أكبر والطيور تزقزق برغبة أشد ..) أي تنافر حاد بين النباح بأعلى صوت والزقزقة بأشد رغبة! صدام جزء من الضجيج العراقي الذي لن يهدأ قريبا، سيستمر لفترة أطول وسط اختلاط نباح الكلاب بزقزقة الطيور، تداخل الأزمنة في لعبة الحياة الديمقراطية الطويلة النابضة بالتناقضات التي لا سبيل إلى حصرها كما لا سبيل إلى تجاوزها لأنها قدر أي تغيير، كالأشياء التي تسقط وتتحطم مثيرة لحظات ضجيج مزعجة في وقت قد تحمل سعادة التخلص منها، ثم هذا الشعور المنكسر بنقص ما وبفعل فاعل مجنون، الطريق الشائك والمتعرّج كطريق الجنة المحفوف بالمكاره والصعاب. فيما الدكتاتورية صمت مطبق ووحشة نهار صامت وليل مقلق ملغوم بالخوف والتوجس. لهذا قد يبدو حضور صدام جزءا مشعرا لنا يعزز ولو بقدر ما ثقتنا بأن تغييرا ما قد حصل. لكن يبقى الضيق بورثته قائما، لأننا نملك مسردا هائلا بالتفاصيل العالقة في ذاكرة لا تريد أن تموت سيما لدى من تجرّع الغصص الدامية لتلك الحقبة الصدامية السوداء التي لا يخفيها سواد لحظاتنا التي أعقبتها. يزيدها قوة أننا عشاق التفاصيل والأكثر انفعالا وتأثرا بها. ولأن ذلك الحضور يمثل الجانب الأكثر خيبة في حياتنا والمعبّر بعنف عن أكذوبة كبرى تستهين بعقولنا كما بمشاعرنا وآلامنا وجراحاتنا.

كان في زمن ما يجري في الريف العراقي أن يجتمع بعض الشباب ليقوموا بحملة لصوصية لمكان بعيد مستعارة  بحذافيرها من الغزو البدوي، إذ يذهب هؤلاء الشباب إلى مدينة أخرى ليسرقوا بعض بيوتها. كان من المعيب جدا أن يعود أحدهم بدون سرقة شيء، مهما كان تافها. بعض منهم كما تروي الحكايات سرق مسحاة بعد أن أخفق في سرقة شيء مهم وأحدهم سرق حبلا لربط الدواب، وقد لقي ذلك صدى مرحبا به عند عودته لأهله الذين لم يروا أن حملته باءت بالفشل الذريع. الشجاعة بالمفهوم العراقي عبارة عن القيام بفعل لا يتخلف عن فعل الآخرين. لهذا يصعب علينا فهم لغة الحوار الهادئ والتنازلات المتبادلة والقبول بفائز وخاسر، إن الجميع يجب أن يكونوا ظافرين إن لم يكن بنفس القدر والمقدار ففيما تفاوت منهما. موالو صدام تناسوا ذل الحفرة التي آوته هاربا لأشهر وما كان يجدر به أن يفعله كرئيس للبلاد وكقائد عام للقوات المسلحة، وبقيت صورة شنقه واقفا الشيء الراسخ في عقولهم، إنه أضحية العيد الفريدة من نوعها. هناك إذن مقدار من الظفر لتبرير وجود شجاعة متخيلة ومتوهمة لتعويض تاريخ كامل من الهزائم والضعة والمرارة. إنها كمسحاة ذلك اللص القروي أو كحبل الدواب الذي عاد به إلى زوجته والتي ربما استخدمته لنشر الغسيل لتعيد معها يوميا نشر شجاعة لا وجود لها لذلك الزوج الخائب.

إن المهارة التي نتحلى بها خلافا لأمم الأرض هي حسن اقتناص الهوامش وهوام الأشياء، التفاصيل القابلة للمعايرة والمقايسة، تلك التي تفتح المجال لاختلاق فضيلة مدعاة أو تعزيز قناعة سخيفة أو رأي غريب، ويشمل ذلك كل المجالات السياسية والاجتماعية والدينية وغيرها. لهذا نجد أن الكثير من القضايا التي تعتبر محط ما يقرب من الإجماع أو مرتكز لعقيدة سياسية أو دينية هي قضايا بلا أسس أو ركائز قوية ومقنعة للجميع، غالبا ما تكون تلك الأسس هي هوامش من نص التاريخ أو نصوص الحياة المختلفة والمختَلف عليها ضرورة. وهذا ما ينتج مباشرة الجدل الحاد حولها بين منافح لا يكل وداحض لا يملّ. فانسياقا واتساقا مع ذلك المبدأ الجارف وضمن قضية أضحية العيد الفاضحة لشجاعة الرمز يندرج معيار المقارنة بين ما بعد الإطاحة بصدام ونظامه السلطوي وما تلاه من نظام مغاير، هذه المقارنة تافهة وغير منطقية إذا أريد منها انتقاد الوضع الراهن الذي يمكن انتقاده بأية طريقة أخرى مهما كانت سوى إعطاء أي وزن أو قيمة تذكر لما قبل 2003.

إذاً ليس غريبا بعد مرور ثمانية أعوام على سقوط صدام ومن ثم إعدامه قصاصا لأنهار من دماء الأبرياء أن نرى الجدل والخلاف في المنتديات والمواقع الاجتماعية مثيرا للشفقة على أنفسنا من أضحية عيد تتكرر كل عام بعد أن كنا شبه مجمعين على أننا ضحاياه لثلاث حقب مظلمة من تاريخ العراق الحديث. شبه مجمعين لاستحالة أن يتحقق إجماع حول طغيان شخص أو عدالته .. ديمقراطيته أو دكتاتوريته .. نبله أو دناءته .. هذا ما يخبرنا به التاريخ وتنبئنا به الطبيعة البشرية. احتاج الألمان لأكثر من ستين عاما كي تقبل ديمقراطيتهم أخيرا أن يكون لهتلر ذكر رسمي كجزء من التاريخ الألماني عبر إقامة متحف في برلين بلغ زواره في اليوم الأول أربعة آلاف شخص أغلبهم من الألمان وممن يعرفون بالنازيين الجدد الذين يحتفلون بعيد ميلاد هتلر سنويا برغم حظر النازية في ألمانيا كما هو معروف. خطوة لم تكن سهلة على ديمقراطية راسخة وقوية فقد سُبِقت بعشرات الخطوات التمهيدية من السماح بنشر صوره في الصحف وبعض الأفلام الوثائقية وأفلام السينما والشهادات الشخصية وغيرها. في العراق لا يختلف الأمر كثيرا، ولكن التاريخ لدينا يقع نهب رغبتين متناقضتين، رغبة في استعادته كليا وأخرى في محوه تماما، وكلاهما رغبتان غير واقعيتين، فلا يمكن استعادة أو إعادة تاريخ صدام حسين ودكتاتوريته مرة أخرى إلا على حساب وحدة البلاد وتشظيها إلى ثلاث كيانات متناحرة، ولا يمكن محو التاريخ لأن التاريخ ببساطة لا يمكن محوه والمعيار الصائب هو كيفية التعامل معه كما فعل الألمان بعد أن تبددت تماما المخاوف من أن تزاحم النازية نظاما ديمقراطيا صلبا ومتماسكا. فالديمقراطية لا تهاب أشباح الدكتاتورية ولا تكترث بحضور صورها ولا بلغو مولاتها، هذه الموالاة التي ينظر إليها أغلب الألمان اليوم كونها جنونا هادئا وآمنا ولا ضير من ترك أصحابه ينزوون في أروقتهم كما يترك السكارى غارقين في لذتهم ووهم سعادتهم.

فهل نطبّع أنفسنا على تقبل جنون كهذا أم أننا، وهذا الأرجح لنداوة جراحاتنا، سنراه جنونا شرسا ومفزعا وغير آمن على الإطلاق؟

من يتحمل من ضحايا نظام صدام قسوة القبول بحل وسط كهذا؟ كيف لنا أن نتعامل في لحظة تذكّر آلامنا وفواجع أهلنا وأخوتنا بطريقة مسرحية نتكلف فيها تحضرا ونحن في عراء بادية لا زالت مكتظة بالأطلال والخرائب تسمّى العراق؟!

ترسيخ الديمقراطية وجعلها حقيقة غير قابلة للشك هي الطريق الوحيد لإجبار المتعلقين بأوهامهم وأشباحهم على الإفاقة من جنونهم وهذيانهم .. عندها فقط يمكن أن نقبل إقامة متحف صغير يعترف بجزء ميت من التاريخ، سواء في عيد الأضحى أو عيد النيروز .. لا فرق!

 

[email protected]

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1584 الأثنين 22 /11 /2010)

 

 

في المثقف اليوم