قراءات نقدية

زهير ياسين: قراءة في "نافذة العنكبوت" للروائي العراقي شاكر نوري

القسم الأول: تجاوز التابوهات وجرأة الطرح

يهدي الكاتب شاكر نوري روايته إلى أشخاصٍ حقيقيين، عرفهم عن قرب مثل "الطفل عبد الرحمن الباعث الأول والأخير لهذه الرواية والراحلة أم جلال". ص 5

ومع ذلك، وعلى الرغم من أن الروائي يكرّس عملَه هذا لأحداث حقيقية كما أخبرني في لقاءاتنا الشخصية، فهي رواية مستمدّة من الواقع وقد تكون واقعية لكنها غير تقليدية، بل بالعكس تسعى إلى تحقيق أكبر قدر ممكن من الحداثة والفنية. تبدأ الروايةُ صفحاتِها الأولى بسرد سلس جميل يذكرنا بأسلوب الطيب صالح أحيانًا. ص 11 إلى 14

"عند استيقاظ عبد الرحمن بعد ليلة العرس يرى كل مآسي العائلة وبالذات اغتيال أبيه...". ص 14

وبشكل عام، يمكن القول إن هذه الرواية تتميز ببعض الثيمات والمواصفات مثل:

تجاوز التابوهات وجرأة الطرح:

نقرأ في الرواية: "رفع نظره الى السجادة المطرزة والمعلقة على الجدار ... ضوء... أتى من الصحن لينير وجه فارس يطعن حيوانًا وحشيًا، ... رأى صقوراً ... تنقر قضيبه الواهن ... حيامنه المنوية في ‏سبات عميق، بل وأفقدتها طاقتها في فض بكارة زوجته وانتاج ولد شبيه ... لن يولد في مملكة أقامت أمي صرحها، إلا بالمعجزة".  ص 14 "... فخفض رأسه إلى السرير خجلا من زوجته التي كانت غريبة عليه قبل قليل كاشفا لها عن عورته دون ان يفلح بفض بكارتها ... باحثا عن نقطة الدم ... تثبت رجولته وترفع رأسه عاليا بين أمه وزوجته ... وقبيلته".  ص17

قطرة الدم هذه كُرّست لها أعمال إبداعية عربية كثيرة قديمة، لكني قرأتُ روايةَ "نهاية سري الخطير" للكاتبة المغربية زكيه خيرهم، التي تناولت أيضاً هذه "القطرة" وليلة الدخلة ومنديل العذرية إنها حقّاً روايةٌ كبيرةُ بحجمها وموضوعها.2

لكن البطل هنا "بطل عسكري" حقيقي، وبلاده في حالة حرب، جندي في إجازة بعد ليلة العرس بدون أن يفضَّ بكارة عروسته ويعاني من أعراض النكسة والخذلان! وهل هناك أكبر من هذه المأساة؟ كارثة العرس هنا ليست مجرد حدثٍ بسيطٍ، بل أليغوريا، فهو ليس خاصًا به لوحده بل لقبيلته وقومه والعراق الذي كان يعيش حالة تجييش وتسييس يكرّس كل شيء بدون استثناء للحرب، السارد يتحدث عن أخيه "البطل العسكري" : "تذكّرَ ساعة ابتهاجه لرحلته بالقطار بصحبة أمي لتخطب له شيرين ... دخان ممزوج برائحة جثث حيوانات برية" ص 18

يصور الكاتب ليلةَ الدخلة، ويقدّم سردًا متميزًا عن عبد الرحمن وعروسته على لسان حاله، الراوي الأخ الكبير، "إنها المرة الأولى التي نام فيها بعيدا عن أحضان أمي ...". ص 21

ليلة الدخلة والعجز الجنسي، حدث الرواية الرئيس:

تتمحور نافذة العنكبوت على موضوعة ليلة الدخلة والعجز الجنسي، وتتطلب جرأة كبيرة في الطرح، فهي بحد ذاتها "أم" المآسي والمواجع في الثقافات الإنسانية القديمة بما فيها الشرقية إلى وقتنا الحاضر، فكيف يصف الروائي معاناة العريس من العجز الجنسي من عدة جوانب دون أن يصيب الممنوعات الشرقية في صميمها ويتخطّاها؟ إنها بالتأكيد نكبة النكبات بالنسبة للعائلة والقبيلة كلها!

نقرأ في الرواية وصفًا تدريجيا لهذه الحالة التي يعاني منها العريس العنين: "سأحاول في الليلة القادمة" ص 22، وتصويرًا واقعيًّا لحالة العريسين، "العبارة الخبيثة الفظّة التي نطقت بها زوجته في الليلة الفائتة" ص 26، و"محاولة انتحار العريس". ص 27

تكمن الجرأة هنا في إمعان الكاتب وشغفه بتناول موضوعة العجز الجنسي بالسخرية السوداء من صعوبة فض البكارة لدى أفراد القبيلة كما تشير دفاتر النفوس، تهكم فظيع، ص 81 "أحد الأسلاف عاجز"، ص80، كان أيضًا اسمه عبد الرحمن، تناولوا علاجات العجز: يقدم هنا تهكّماً رائعاً عن الجينات وتكرار الأسماء، ص 85 ، ويسرد حكاية "شراب الجن والدبس، مزجته وذوّبت فيه مخ ضبع، وأقسمت لأمي بأنه سيد الأدوية جميعًا للرجل العاجز." ص 85، "شيرين حبلى برياح الخريف" ص 90 وفي النهاية يتساءل متهكّماً بشيء من الازدراء للتقاليد البالية من وجهة نظر الراوي (الأخ المغترب الكبير): "هل فضَّ بكارتَها أم هناك فاعل آخر؟". ص 98

كذلك يتحدث الراوي بوضوح عن سبب العجز: "أي يوم كان يقصده أخي يوم اغتيال أبي يوم ختانه يوم إصابته بشظية الحرب". ص 110

ويقدم في مقطع آخر من الرواية شرحًا ووصفًا دقيقًا لسبب العجز ليؤكّد أليغوريا العجز، الحرب أصابت الذكورة العراقية في مكمنٍ: "شظية دخلت فتحة الإحليل". ص 160

الحديث عن المعتقدات:

 لا بدّ من الإشارة هنا أيضًا إلى جرأة الحديث عن الدين بشكل عام والخالق بالذات، الله في مركز السرد هنا من خلال أحاديث الناس في حواراتهم اليومية: "تصرفات الله الذي آمن به ". ص 125 و"كلما نظر إلى لذته الميتة، أبصر فيها صورة الله...". ص 126 " هل خانه الله ...". ص 127 "هذه حكمة إله نزيه، منصف بين البشر؟". ص 127 و"الوطن المقسم" ص 128 الله في مركز السرد هنا: "أضرحة الأولياء".  ص 129 وأخيرًا نلاحظُ جرأةَ حوار الأم مع الله على الطريقة الشعبية لدى الأمهات عندما يعبّرن عن معاناتهن من مصائبهنّ. أنظر: صفحات 129-130 -137

تتكرر مثل هذه الحالات الإنسانية بالذات في التغيرات المجتمعية الكبيرة مثل الحرب وتأثيراتها والفوضى كما هو الحال عند الروائي الكبير غائب ط. فرمان حيث تسمّيه إحدى بطلاته "ابو خيمة الزرقة"، وصراحة تناول هذه الموضوعة بجرأةٍ وسخريةٍ متميزةٍ في رواية "زينب" للدكتور عارف الساعدي. 3

موضوعة جنس المحارم:

تظهر في السرد تلميحات مثل: "بوادر علاقة بين شيرين وشقيق عريسها ونظرات مغرية... " ص 46 تشبه فكرة سفاح المحارم في رواية الروائيين "الصخب والعنف" لوليم فوكنر، وهروب شيرين، ص 48 لكنها "تعتكف" في غرفة العناكب لتمارسَ طقوسَها ونزواتها، ص 49 ويشبه إلى حد ما أسلوب فؤاد التكرلي في طرح الوقائع والأحداث.  "ما يفرق بيني وبينه نظراته الشرعية ونظراتي المحرمة، لكن شيرين لم تعد كما هي ... وصرخت في وجهنا فجأة: .... إنه ...". ص68

ويقول الراوي أيضًا عن المحارم: "يفصلني عن الخطيئة سوى خيط واه" 92 ونقرأ كذلك " أدركتُ بعد فوات الأوان، بأن جزءًا كبيرًا مني مات أثناء مضاجعتي لها، لا أدرى كيف وجدتُ في نفسي القوة لأقترف هذه الخطيئة، ...أفكر ... بزواجي من شيرين، لأُضفي الشرعية...". ص 92

سنرى فيما بعد أن عبد الرحمن، أخاه الصغير العريس قال في "سرديته" أثناء هذيانه وهو يعاني من الحمى على فراش الموت، إنه تزوجها أيضًا ليسترها. الذكورية وهوس الشرف والعفة والعذرية وقطرة الدم في ليلة الدخلة والقتل والموت هي اهم موضوعات هذه الرواية التي أراد شاكر نوري تعرية واقع المجتمع العراقي وحقيقته من خلال الإفصاح عنها. 

يتساءل الراوي” هل يمكن أن يكون أخي وراء دفع شيرين إلى أحضاني لِفظّي بكارتها؟ ... ربما أني فضضتُ بكارتَها في الحلم". ص 100 رغم أنه يقر صراحة بأنه فضَّ بكارتها! ص 92 هل هو تمويه مقصود؟ أم حالة شرود يعاني منها "الأخ الكبير"، أو أساء فهم رسالة والدته وتصورها تريده أن "ينقذ" الموقف عندما قالت له "افعل شيئًا لأخيك" كونه عاد من فرنسا إلى دياره مشبعًا بفهمٍ معيّن لمدنية الغرب ناسيًا تقاليده العراقية؟ 

أو، إن "صوت الكاتب" الداخلي تدارك الموقف أثناء الكتابة في مشغله؟ كذلك سنعرف فيما بعد من خلال سردية عبد الرحمن نفسه بأنها كانت تحب جنديًا حبلت منه قبل مقتله في الحرب!

إذن إنها ليست عذراء! وهل العذرية هنا رمز آخر اراد الكاتب أن يكرسه لحدث الرواية؟ سؤال قد يوجّهه القارئ إلى الكاتب، الذي أجابنا في لقائنا الشخصي: إنها لم تكن عذراء من "زواجها” غير الرسمي مع صديقها الأول".4 أنظر حوارنا مع الكاتب د. شاكر نوري المنشور في ملحق القبس الثقافي. بتاريخ 04 مايو/ أيّار 2024

وتنقم الوالدة على الأخ الكبير عندما ترى الشبه الكبير بينه وبين الجنين! أنظر تصوير ولادة الجنين. ص 142 وصف رائع للأم على لسان السارد (الاخ الكبير) حيث يقول: "حدجتني بنظرات متفجرة بالخبث والريبة من هذه الولادة العجيبة". ص 142 ويصف الجنين يشبه الاخ الكبير، ص 143

ونلاحظ أن الأم تعنّفه قائلةً: "صه أيها الكلب، يا خائن الأم والأخ، ..."، ما يذكرنا بالموضوعة نفسها في "نزوة الموت" ص 54 حيث تقول الأم لابنها: "أيها الشيطان ابتعد عني". ص 54

وهنا يبرز تساؤل: لكن الأم طلبت بنفسها من ابنها الكبير أن "يساعد" أخيه! والجواب، طبعًا: هي تعني مساعدته وتحفيزه وإرشاده لعمل ذلك، وليس أن يضاجعها بنفسه بدلًا من أخيه! لا بدّ أن الروائي أراد أن يكون الغموض في مثل هذا السرد سيد الموقف!

من المفترض أن يشبه الجنين والدَه الأصلي الجندي المقتول في الحرب وليس "الأخ الكبير"، ولا بدّ أن هذا الخلط يعكس حالة الفوضى والإرباك الذي تعاني منها الشخصيات، بالذات الأم. وإن ما تقوله الأم عن شبه المولود الجديد لعمّه (الأخ الكبير) مجرد انطباع ليس بالضرورة أن يكون صحيحًا!

وذكرَ لي كاتب الرواية شاكر نوري في مراسلاتنا عبر الواتساب وحديث شخصي معه:

"الأم تخيلتْ أن الأخ الكبير ضاجعَ عروسة أخيه، واحتمال ان يكون هو والد الجنين، لا ندري من هو الأب الحقيقي! هل هو حبيبها الأول الجندي المقتول في الجبهة؟ أم الأخ الكبير؟".

إذن فقد أراد الكاتب لهذه الحبكة أن تبقى لغزًا يريد من القارئ ان يتفاعل ويتشوق لمعرفة الحقيقة.

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

في المثقف اليوم