أقلام حرة

العراق وأنشودة المطر ..

وفي الحي مقهى بغداديّ يحنُّ إلى شعرائه الذين تركوا في الأكواب الفارغة لغزاً لا تدركه قارئةُ الفنجان ِ ولو كانت في قصيدة نزار قباني ..فهل يا ترى عرفوا لمن كل هذا الاشتياق ..؟ وهل أدركوا حنين المطر إلى وطن يبحث عن غيمه الذي أودعته الريح سماء أخرى..كأنه فيروز عندما تغني (مرّ بي يا واعداً وعدا ..) أو عندما تغني (يا وطني الأخضر عم تكبر..عم تكبر وتخلص الدنيا ومافي غيرك يا وطني).. و آه يا وطناً من ميعاد الربيع ..كفاك غياباً..عُد من هذا الغياب..حتى نلتقي تحتَ أنشودة المطر ..

إنها الحرية التي بعثرتها الفوضى على صفاء الفرات وكأنها تشبه الحرية... وأبعد بكثير.. مثل أنشودة المطر أو أنشودة الحرية التي حلم بها السياب طويلاً وهو يبحث في معالم شعره عن وطن يكتب الحزن يومياته ويتنبأ بإحساس شاعر:

(ومنذُ أن كنا صغاراً

كانت السماءُ تغيمُ في الشتاء

ويهطل المطر

وفي كلّ عام ٍ حينَ يعشبُ الثرى نجوع

ما مرّ عام والعراق ليس فيه جوع)

كأنه كلام لكل زمان عراقي..زمان ذاهب أو آتٍ .. يناسب ثرى وطن متخم بالحضارات... لكن هل جنى السياب على عراقه ..؟ مع  أنه يؤمن  في نهاية رائعته أن أنشودة المطر التي هي أنشودة الحرية ستأتي أرض العراق... وستأتي ...(سيعشب العراق بالمطر)... (أكاد أسمع النخيل يشرب المطر...)

يا ترى لماذا كل هذا الجوع..ولماذا كل التنبؤات تصدق فيك أيها العراق وأي جوع كان ولازال يبحث عن حل للغز قديم عندما كان أطفال العراق يموتون قبل غزوه واحتلاله بسبب الحصار.. كان العالم يمارس ببغائية حل واحد ..مع أن الإنسانية أكبر من وطن واحد يجوع  وضاعت الكلمات عندما سقطت النقاط من فوق الكلمات المتشابهة في رسمها  .. والكلمات تصدق فيك عندما يعانق القمر النخيل وتبقى على العهد لكن ..على الوعد لكن .. على خط تركه عطر حدائق بابل.... الحرية تأتي بوجوه كثيرة ،لكن لها وجه واحد يشبه ألمك الممتد بين بابل وعشتار، وأساطير البحث عن الحقيقة ..كل ذلك لأن الحرية عندما تخون ذاتها في موسم الحب يبقى الفرات في أنين واشتياق ..وانتظار محمل بالرعود والوعود والنهايات العادلة والفاصلة بين الوجه والقناع..والشمس والشعاع..

عندما أحرق هولاكو بغداد كان يريد أن يحلم.. وأن يضحك في وهم ظنه جميلاً وهو يرى مدينة تحترق.. كأنه نيرون.. لا، بل نيرون كان عاشقاً.. كانت عاصمة تحكم الدنيا وإن لم يكن لها ذلك الامتداد في التاريخ السحيق .. إنها غابات النخيل التي تحدث عنها السياب في أنشودة مطره... مطرٌ يغسل آثام الفوضى والحزن والضياع والتشتت (تثاءب المساء والغيوم لا تزال تسح ما تسح من دموعها الثقال)..ولم يع ِ خراب أمريكا بعد.. لم يحيا ليرى مزيداً من الحزن يطوق العراق ويلف بغداد ويغلف دجلة والفرات .. وألف مسمى لقنابل ولدت من أجله.. وألف أمنية يربطها حزام ناسف ..وسيارات مفخخة ليست للنزهة.. والحقيقة تنفجر شراً في سماء تتسع لكل القصائد ..وطن من كلمات فيه تصبح العبودية شكلا آخر..والطائفية لونا آخر.. اخترعته الحروب الاستباقية ودستور النظام العالمي الجديد ..وأيديولوجيا (الكابوي) التي هزمها حذاء منتظر الزيدي وهزم نفاق المناطق الخضراء -عفواً- وهل ثمة مناطق خضراء ..؟ إنها مناطق حمراء .. لم تكن نتيجة انتقام عشتار من جلجامش لأن عهد الأساطير انقضى ونفط العراق لغز تعرفه أمريكا وهذا ما دعا أحد الكتاب الغربيين ليسخر يوماً من هذه الحرب الجائرة قائلا (إنها قد لا تكون من أجل النفط ربما من أجل البنزين ..؟؟)

وماذا عن آثار هذا الوطن الذي يختبره الصبر ..لنسأل متاحف أوروبا وأمريكا ..إنها عادتهم الأزلية.. سرقة الحضارة من الآخرين والتحايل على التاريخ..وحبل الكذب قصير وإن طال..

ولأن هولاكو قد مات ولم تبق أسئلة إلا لمن يرون أن ما تفعله أمريكا عين الحرية.. لكنها حرية بلا عين..بلا روح.. فالكذب على الذات قد يمر لكن الكذب على التاريخ يصبح عبئا عليه..فأين الحرية التي يتحدثون عنها ..؟ وغداً عندما يصحو حمورابي من سباته العميق سيطبق عليهم شريعته ..؟ ستخافون..أو سيخافون ..وستعرفون أكثر وجه العدالة ووجه المدنية.. هي ليست مدنيتكم فهي نبتت في العراق قبل آلاف السنين وأنتم متى ولدتم ..؟ اسألوا التاريخ عن أنفسكم هو أدرى..ونحن أيضاً نعرفكم..وغداً تمرون من هذا الطريق الذي جئتم منه وترجعون بالخيبة الكبرى.. وتنزع الفوضى أغلالها عن وطن مسروق ..ستعودون من حيث جئتم من الطريق ذاته وستحملون موتكم ونهايتكم إلى الآخرين كي يفقهوا حتمية انتصار الحق...

أخيراً أختم بكلام آخر رائع للسياب من قصيدته المذهلة (غريب على الخليج):

(إن خان معنى أن يكون، فكيف يمكنُ أن يكون؟

الشمسُ أجملُ في بلادي من سواها والظلام

حتى الظلام  هناك أجملُ فهو يحتضنُ العراق

واحسرتاه متى أنام؟

وأحسُّ أنّ على الوسادة

من ليلك الصيفي طلا ً فيه عطركَ يا عراقُ..).

سنلتقي إذن تحت أنشودة المطر.. خذني بيمينك أيها المطر.. هكذا قال العراق..لأنه يعشق المطر بكل لغات العشق.. بصفاء ..نقاء.. رافديه..

 

[email protected]

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1171 الخميس 17/09/2009)

 

 

في المثقف اليوم