أقلام حرة

انتفاضة 1991.. حين تُسرَق الضحية ويتغنّى السارق! / إبراهيم الغالبي

أطلقها الحرس الجمهوري لنظام صدام، حين دكّ أحياء مدينة الناصرية بالقذائف والصواريخ. واستقرت تلك الشظية في إحدى الفقرات لأنضم إلى قافلة الضحايا الذين سقطوا بين شهيد وجريح في انتفاضة عام 1991.. وفي النهاية كانت حوبة دمائهم بالمرصاد لذلك النظام الاستبدادي، وبسببهم هم فقط..وفقط هم، انكشفت للعالم حقيقة نظام البعث وصدام حسين..

بمناسبة هذه الذكرى جاءتني هدية "مناسبة" تليق بمقامات الوجع وعويل الفاجعة.. هدية أحد الأصدقاء كانت مقطعا لجلسة من جلسات المحكمة الجنائية العليا حول الانتفاضة وضعها على صفحته في الفيسبوك محاولا التذكير بتلك المأساة، بذبحنا على مرأى ومسمع طائرات وأقمار التجسس الأمريكية دون تغطية إعلامية حتى ممن عرف حقيقة ما جرى اللهم إلا بعد أسابيع من المجازر في الجنوب ووسط البلاد وبعد أن أعاد النظام سيطرته على المدن التي ثارت عليه فقامت الصحف الأمريكية والبريطانية وكأنها استيقظت من النوم لتنقل شهادات من نجوا بعد فرارهم إلى أماكن تواجد القوات الأمريكية، أو عبر صحفي مغامر استطلع مشاهد الخراب بعد وقوعه أو ربما قبل ذلك.. كانت شهادة الشاهد في ذلك التسجيل مؤثرة، ذاكرة الضحية هي الأقوى على الدوام..ولا تنسى تفاصيل ما مر بها من تجربة مؤلمة. على أحد الجسور في ميسان عبّأ جلاوزة النظام المقبور الناس في أكياس بعد أن ربطوا أيديهم وأرجلهم وراحوا يلقونهم في النهر..الناس كما يقول الشاهد كانوا أكثر من الأكياس ولهذا فبعد أن نفدت اكتفوا بربط الأطراف وإلقاء الرجال والنساء والأطفال إلى مثواهم الأخير في المياه. حكايات كهذه كثيرة ولكن تبقى جزءا مما حصل.. من بينها ما ابتكره علي حسن المجيد على أحد جسور البصرة من طريقة بشعة للموت، تم جمع عشرات الشباب وطلب منهم شرب قنينة من البنزين وإلا تم قتلهم.. التخيير بين الموت واللا موت ليس تخييرا.. ولهذا شربوا الوقود ثم طُلب منهم أن يديروا وجوههم ليتم رميهم بالرصاص فتحوّل أغلبهم إلى ما يشبه قناني المولوتوف لتنفجر بطونهم وتتناثر أحشاؤهم.

في كل حرب لأجل البقاء في السلطة تتجلى وحشية الإنسان ويتسافل إلى همجية الضواري والوحوش.. وبمراجعة تاريخ الحروب أينما وقعت نجد أن هذه الأفعال البربرية والهمجية حاضرة، وفي كل حرب كانت تصمت القوانين قبل شيشرون وبعده.. مع هذا فما حصل عام 1991 كان شيئا أكثر ترويعا وأقسى في وحشيته لتعدد أصناف هذه الوحشية وأساليبها على يد كائنات لا تكاد تنتمي إلى جنس البشر.

إن القتل الجماعي والمقابر الجماعية بعد الانتفاضة كانت هي الأوسع نطاقا والأكثر بشاعة من كل سابقاتها التي ارتكبها نظام البعث بعد وقت من استيلائه على مقاليد السلطة، ولا تضاهيها سوى عمليات الأنفال لحجم وطبيعة الذين لقوا حتفهم في تلك المقابر. إذ زجّ بالآلاف من الرجال والنساء والأطفال بل وعوائل بكاملها في حفر وجرى طمرهم فيها.

إن جرائم الإبادة للجنس البشري التي مارسها البعث تم غض الطرف عنها من قبل المجتمع الدولي لوقت طويل إلى حد يمكن معه اعتبار القوى الدولية الفاعلة شريكا لصدام في تلك الجرائم، فقد كان بمقدورها وضع حدٍّ لبطشه بالشعب العراقي الأعزل ومحاسبته على جرائم لا تصل إليها جرائم النازية الهتلرية بحق اليهود التي لا زالت تعتبر واحدة من أفظع جرائم القرن العشرين وسَنّت لها بعض الحكومات الغربية قوانين تحاسب حتى من ينكرها بحجة أن في ذلك معاداة للسامية. في الوقت الذي جرى فيه تجاهل هولوكوست البعث لا سيما في الجنوب حيث ذهب عشرات الآلاف من ألأبرياء وغيِّبوا تحت التراب في تواطؤ مكشوف من قبل القوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة التي منحت النظام السابق الضوء الأخضر بعد التفاهم الذي جرى بين الطرفين لقمع انتفاضة الجنوبيين تحت خيمة صفوان. حيث سمحت القوات الأمريكية التي دخلت عمق الأراضي العراقية حتى قاعدة الإمام علي في الناصرية وكانت حتى ذلك الوقت مسيطرة على كل الأجواء العراقية لطائرات الحرس الجمهوري وتحديدا مروحياته الهجومية من قصف وحشي للمدن والبيوت الآمنة وإزهاق أرواح الأبرياء بشكل بربري لا سابق له، فكانت المذابح التي ارتكبتها قوات صدام تجري بالقرب من القوات الأمريكية وتحت رصدها الجوي بل وعلى مرأى ومسمع جنود تلك القوات المتواجدة في بعض المناطق التي شهدت مذابح يندى لها الجبين.

بعد انتهاء حرب الإطاحة بنظام صدام اُكتشِفت عشرات المقابر الجماعية في مدن العراق الجنوبية والوسطى. وكانت أول وأكبر تلك المقابر المكتشفة في مدينة الحلة بتاريخ 16 أيار 2003 الذي اعتبرته الحكومة العراقية فيما بعد يوما وطنيا للمقابر الجماعية، حيث كان قد دفن فيها حوالي ثلاثة آلاف شخص من نساء ورجال وأطفال بعضهم أطلق عليه الرصاص وآخرون بدوا أنهم دفنوا وهم أحياء. وقد تحدث العديد من المواطنين لوكالات الأنباء ومراسلي الصحف والقنوات الفضائية عن تلك المقبرة وغيرها، والقاسم المشترك كان واحدا هو معرفة وإطلاع الجميع على أماكن تلك المقابر وبشاعة عمليات القتل التي جرت  فيها ومعرفة أسماء البعثيين والمسؤولين في النظام الذين أشرفوا بشكل مباشر عليها لكن لم يكن لأحد أن يتحدث حول هذه المقابر ولو همسا فالحديث عن جرائم صدام كان جريمة لا تغتفر، وعلى سبيل المثال كانت المقبرة السابقة التي تم اكتشافها بُعيْد سقوط النظام قد أشرف على قتل ودفن الضحايا فيها عضو القيادة القطرية محمد حمزة الزبيدي وشاركه أحد كبار الضباط وهو ماهر عبد الرشيد التكريتي والد زوجة قصي ابن الدكتاتور صدام حسين. ما لقيه أهالي الحلة كان نسخة من معاناة أهالي المحافظات الأخرى وبخاصة الجنوبية التي تعرضت بعد انتفاضة 1991 إلى قمع لا مثيل له طال الأبرياء بصورة جنونية، ففي كربلاء وبعد سقوط النظام كشفت وثائق عائدة للمخابرات إعدام أكثر من أربعمائة شخص في يوم واحد. والحقيقة أن عمليات الإعدام تلك لم تكن شيئا بالمقارنة مع ما حدث للمدينة أثناء محاولة دخولها بعد أن سقطت بيد المعارضين للدكتاتور صدام، فكربلاء وبعد عجز قوات الحرس الجمهوري من اقتحامها قام النظام بإعطاء أوامره لضربها بالصواريخ من نوع سكود والتي تساقطت على منازل المدنيين ودمرت أجزاء كبيرة من الحرمين الحسيني والعباسي ومحيت أحياء سكنية بصورة شبه كاملة، فكان الضحايا بالآلاف والذين جرى فيما بعد دفنهم بصمت واعتبارهم مشاركين في الانتفاضة ضد النظام. إن ما جرى في كربلاء كان فاجعة إنسانية لا يحدها الوصف، ومن ملامح تلك الفاجعة أن الدبابات التي سارت باتجاه المراقد المقدسة سحقت في طريقها العشرات ممن حاولوا منعها بعد أن تناهى إليهم أنها قادمة لتهديم ما تبقى من حرم الإمامين الحسين وأخيه العباس وهي تحمل شعار (لا شيعة بعد اليوم). في نفس الوقت قامت الطائرات بإلقاء منشورات تطلب من السكان إخلاء المدينة قبل ضربها بالأسلحة السامة، وهو ما تم في بعض مناطقها التي استعصت على قوات النظام. كانت كربلاء الجبهة المنسية بحق كما عبّرت عن ذلك صحيفة هيرالد تريبيون حيث وصفت سعة الدمار الذي لحق بالمدينة بأنه رهيب وغير قابل للتصور. وقال مراسل الصحيفة إن حجم الدمار في كربلاء يشير إلى وقوع حرب ضارية من بيت إلى بيت. ولمراسل تلك الصحيفة اعترف ضابط في الجيش العراقي أن لا علاقة لأية دولة أجنبية بانتفاضة العراقيين وقال إن هؤلاء كانوا في الغالب جنودا عراقيين عائدين من الكويت، وشيعة سيطروا على مخازن السلاح العسكرية واستخدموا الأسلحة الموجودة فيها. بينما لم يكن حال النجف أقل من ذلك إذ تم قصفها بأكثر من 163 صاروخ أرض - أرض. وبعد دخول القوات الصدامية إلى المدينة قتل الكثيرون ومن بينهم رجال دين كالشيخ البرهاني وهو رجل طاعن في السن يبلغ من العمر ثمانين عاما وتم قتله بطريقة بشعة إذ ألقي به من فوق سطح الحرم العلوي، وقد أقدمت قوات صدام على قتل أكثر من ألفي شخص لجئوا إلى حرم الإمام علي للاحتماء به. فيما أوردت صحيفة سونسكادا السويدية أن ثلاثمائة وخمسين من علماء المدينة في عداد المفقودين. وعلقت الصحيفة بالقول إن النظام الصدامي استغل انشغال المجتمع الدولي ومنظمة الأمم المتحدة بمأساة الأكراد العراقيين فنظم حملات قمع وحشية ضد شيعة الوسط والجنوب قد تفوق في دمويتها ما جرى ضد إخوانهم الأكراد في الشمال.

لقد قتل النظام الصدامي في الانتفاضة الشعبية حوالي نصف مليون مواطن، ويبلغ عدد الذين تم إعدامهم بصورة مباشرة بالرصاص ودفنهم في مقابر جماعية وجرى توثيق ذلك لدى المنظمات الدولية أكثر من ستين ألفا وثمة آلاف أخرى دفنوا أحياء وبلغ مجموع تلك المقابر حوالي 270 مقبرة ولا زالت هناك عمليات اكتشاف بين الحين والآخر لمقابر جماعية أخرى.

***

 

نعم أسقطت القوات الأمريكية نظام صدام حسين في عام 2003.. لكن لم يكن ذلك السقوط ليتحقق بالكلفة الزهيدة التي حصلت لولا أن النظام كان في أضعف حالاته، ولم يكن ليسقط بسهولة لو لم يتخلَّ الشعب العراقي عن الدفاع عنه، ومعرفة الولايات المتحدة بذلك هو السبب الرئيس الذي أغراها باتخاذ قرار الحرب.. ولم يكن ليسقط لولا أن للحياة قوانين صارمة وللتاريخ سنّته وليس بوسع صدام ولا غيره من الجزّارين أن يكونوا استثناء.. فدماء المظلومين في تلك الانتفاضة وما سبقها ثم ما لحقها هي من أفقدت النظام كل مظاهر قوّته وأطاحت به ولم يكن ينقص عرشه المتهاوي سوى دفعة صغيرة ليصبح أثرا بعد عين. .. من يؤمن بوجود عدالة عليا لا يكابر على هذه الحقيقة ومن يؤمن كذلك بصرامة قوانين الكون والطبيعة والتاريخ فليس بمقدوره المكابرة أيضا.

والآن! وبعد سقوط النظام بظلمه وجبروته ورذائله التي وبكل أسف لا يزال حتى اللحظة بعض أشقائنا في مسمّى العروبة والإسلام وغيرهما ينزّهون عنها النظام ويبررون القتل الذريع الذي مارسه! بعد هذا السقوط جاءت قوى سياسية وظهرت شخصيات عديدة وصلت إلى السلطة واستحوذت على المناصب وهي الآن تقود دفة الأمور ولا يفوتها في كل عام المشاركة بحفلات استذكار الانتفاضة وإلقاء الخطب الرنانة والتغني ببطولات الشعب والتذكير بمآسي الدكتاتورية.. ولكنها تجعلنا في كل عام أيضا نعيد طرح التساؤلات نفسها.. تُرى ما الذي قدّمتموه إلى هذا الشعب الذي اصطلى بنار البطش والحرمان سنينا ليستقبل على أيدي من وصلوا بتضحياته إلى مناصب السلطة كل ما هو غير منتظر؟ وإلى متى يبقى ما لا يمكن تسميته إلا نفاقا وانتهازية حيث البكاء على مآسي الأمس وعلى ما دفعه الشعب من تضحيات كانت سببا بإسقاط الدكتاتورية ومن جانب يستمر جلد هذا الشعب بسياط السرقات والفساد والصراعات الحزبية والشخصية واختلاق المشكلات التي تنغص حياته ليل نهار؟؟ لقد أمسكتم بسلطة القرار بعد 2003 وتوالت الحكومات التي تترأسونها  وتديرونها وتنفذون فيها فهل أنصفتم من صنع تاريخ الحرية ومن صعدت دعواته وآهاته وصرخات ألمه وعذابه إلى الله فعادت سجّيلا على رأس الطاغية لتلقيه في مزابل التاريخ ولتحتلوا أنتم مكانه؟؟ عشرات الآلاف من الذين تضرروا جسديا وماديا ونفسيا طواهم نسيان الحكومة ولم تلتف حتى إلى القوانين التي أصدرتها وصادقت عليها وإن كانت غير منصفة لتبقى على الرف؟؟

بعد هذا هل يحق لسياسي من سياسيينا وحزب من أحزاب السلطة أن تتحدث عن الانتفاضة إلا من باب الإمعان في سرقة تاريخ الشعب وتوظيف مأساته خدمة لأغراض سياسية ضيقة؟!  

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2052 الاربعاء 07 / 03 / 2012)


في المثقف اليوم