أقلام حرة

التخصص وفوضى التسيير

علجية عيشالفساد ظاهرة تنعكس على المجتمع بشكل سلبي

يتجدد الحديث عن مسألة "التخصّص" في مجالات التسيير خاصة على مستوى المؤسسات الإقتصادية وإدارة المشاريع والإستثمارات ومن ثمّ القضاء على كل الفوضى، إن النخبة المثقفة اساءت لنفسها عندما تختار عن طواعية تسيير قطاع ما لا تفقه فيه شيئا، فمن غير المنطقي أن توكل إلى طبيب منتخب في مجلس من المجالس المحلية مهمة تسيير ملف النفايات المنزلية ورفع القمامة، لأن مكانه في قطاع الصحة أو على الأقل في لجنة الصحة، إن إشكالية التخصص تطرح كثير من المشكلات في الجزائر، ليس في المجال الإقتصادي فحسب وإنما في المجالات الأخرى كالإعلام، كنتُ أستمع إلى كلامهم وهم يناقشون فكرة التسيير كواحدة من المسائل العالقة وتلقى اختلافا في الرؤى والتصور، لأجد نفسي أندمج معهم لأطرح فكرة "التخصص" في مجال من المجالات، ليس سهلا طبعا ان يدير الإنسان مؤسسة أو مشروعا بمفرده، حتى لو كان من حاملي الشهادات، أو حتى لو كانت له ثقافة في مجال تقنيات التسيير، لكنه غالبا ما نجده يفتقر لكثير من الأبجديات، كالتخطيط مثلا، ووضع الإستراتيجيات، أو أن تكون له رؤية مستقبلية لتطور القطاع وترقيته .

 ولذا يعتمد الخبراء على عامل "التخصص" في المجال، فالتنمية تفشل عندما توكل المهام لغير المختصين، فعلى سبيل المثال لا يعقل أن يدير طبيب قطاعا خارج قطاعه المختص فيه مثلما يحدث عندما وهو منح حقيبة وزارية لطبيب (ليس بيطري) لإدارة قطاع الفلاحة، حتى لو كان يحمل درجة عليا (بروفيسور)، أو أن تمنح المسؤولية لرجل لا يفقه في شؤون المالية وتوزيع الميزانية، فما نشهده في الواقع (الميدان) لا يخرج عن حدود التسيير العشوائي للمشاريع والمؤسسات، لأن المسؤولية أوكلت لغير أهلها، فهل يمكن أن نضع مثلا رجل في منصب قاضٍ وهو لم يدرس القانون؟ هل يمكن أن نمنح مشروعا سكنيا لغير مختص في الهندسة المعمارية مثلا؟ هل يمكن أن نطلب من أديب أن يزرع حبوبا في الأرض أي أن يقوم مقام الفلاح أو المهندس الزراعي وهو لا يعرف مكوّنات التربة، ومراحل تطور النبتة (من الإنتاش إلى أن تصبح نبتة كاملة)؟ لا يختلف إثنان أن كلٌّ والمجال الذي يختص فيه، ويعمل فيه، ولذا نجد معظم القطاعات تغرق في فخ الفوضى وما تلبث أن تعلن إفلاسها، وكثيرة هي المؤسسات والشركات التي أغلقت لهذه الأسباب، لا نتكلم هنا عن الذين يستغلون منصبهم لنهب المال العام وبطريقة مقننة، لأنهم محترفون في السرقة والتزوير ونهب المال العام، وبالتالي هم لا يؤمنون بعامل التخصص.

 الحديث هنا عن مسؤولين تورطوا وبجرة قلم بالتوقيع مثلا على صفقات عمومية مشبوهة، أو منح صفقة لأشخاص غير مؤهلين، انتهى بهم الأمر إلى المحاكمات القضائية بسبب خطأ ارتكبوه في أمور لا يفقهون فيها شيئا، مثلما نراه اليوم في المجالس المحلية المنتخبة، أو حتى على مستوى أفقي، وكعيّنة تخبرنا الأرقام التي تم الكشف عنها أن مدينة قسنطينة عاصمة الشرق الجزائري في تظاهرتها كعاصمة للثقافة العربية لسنة 2015 استنزفت من الخزينة العمومية ما لا يقل عن 7000 مليار سنتيم في تهيئة المدينة من إعادة الإعتبار للبنايات القديمة، تهيئة الطرقات وما إلى ذلك دون حساب ميزانية النشاطات الثقافية والميزانية المخصصة لإستقبال الوفود العربية والأجنبية المُشَارِكَة من حيث إيوائهم وإطعامهم، ثم المبلغ الذي كشفه مؤخرا وزير السكن والعمران والمدينة وهو 7000 ملاير سنتيم في تهيئة الوحدات الجوارية للمقاطعة الإدارية بالمدينة الجديدة علي منجلي، دون إتمام الأشغال وبنوعية جيدة وتسليمها في آجالها المحددة،هي مبالغ ضخمة لا يستهان بها، قد ينجز بها مشاريع لتشغيل الشباب وفتح لهم مصانع، كذلك ما يتعلق بالعمليات المغلقة على مستوى المجالس المحلية المنتخبة،و طريقة صرف ميزانية الولاية والبلدية .

 ففوضى التسيير وعدم القدرة دفعت الحكومة إلى الإعتماد على التجارب الأجنبية في إدارة المشاريع وتسييرها، لغياب المختصين واليد العاملة المؤهلة، مما أدى إلى الإنهيار والإنحراف، ونتج عن هذا الأخير تدمير النزاهة في أداء الوظائف العامة من خلال الرشوة والمحاباة والمحسوبية في التوظيف، وهو ما يسمى بـ: "الفساد"، الذي عشّش داخل المؤسسات، ولو أنه ظاهرة عالمية تنعكس على المجتمع بشكل سلبي، إلا أنه السبب الرئيسي في تراجع الأداء الاقتصادي وزيادة مستوى البطالة ومعدل الفقر، خاصة بالنسبة للرشوة التي تعد من ابرز مظاهر الفساد المالي، دون الحديث عن الفساد السياسي، من خلال هيمنة سلطة ما على السلطات الأخرى مما يسمح لها بان تقوم بأعمالها دون أي رقابة من السلطة التشريعية، السؤال الذي ينبغي ان يطرح هنا هو : لماذا تطرح الجامعات على الطلبة اختيار تخصص معيّن، ضف إلى ذلك أنها ترسلهم وعلى عاتقها في بعثات علمية للتزود أكثر من الخبرات العلمية الأجنبية، وبناء قدرات الطلبة في مجال التسيير والإدارة واكتساب المعارف والمھارات اللازمة للمعالجة المیدانیة، بالإضافة إلى تلبية حاجات القطاع الاقتصادي من الكفاءات البشرية المؤهلة علميا في مختلف المجالات، لأن الأمور تتعلق بمشاريع دولة وبأموال تصرفها الدولة من خزينتها العمومية، ولا تتعلق المسألة بالثقافة العامة، كما يحاول البعض ترويجه، وهم بالتالي إمّا أنهم ضيقو الفكر والتوجّه، أم أن لهم غاية في نفس يعقوب (والفاهم يفهم).

 

علجية عيش

 

في المثقف اليوم