أقلام حرة

لا شيء يعجبني!!

الباص.. أو الوطن

بكل ما يحمله من معلم، باص درويش كان معبرا عن الوطن الذي يجمع بين ثناياه كافة أطياف المجتمع من قائد الباص إلى الشاب الجامعي والمرأة المتؤسفة على ولد أنجبته والجندي والشاعر الذي تعب من السفر.

يجمعهم جميعا إحساس مشترك بالقهر ومبدأ واحد يقول: لا شيء يعجبني.

كلهم كانوا يعانون ويبكون حال أوطانهم التي أنهكها الشتات والدمار.

حين نقرأ القصيدة ونحلل أبعادها ونفهم معناها وظروف كتابتها، نتفهم كثيرا درويش الذي عبر بقلمه عن معاناة شعوب كثيرة في فترة ما من الزمن لا تزال تجلياتها قائمة في عديد من الدول.

لكننا لا نفهم ذلك الفرد الذي يعيش في وطن سائر في طريق النمو في زمن يشهد صعود قوى وتهاوي أخرى ... مع ذلك لا شيء يعجبه؟!

فرد كثير التذمر يجلس خلف شاشة يوزع من خلالها طاقته السلبية على كل من يقرأ له في وقت يحتاج منا بعث روح الأمل للدفع بالقوة الفاعلة في المجتمع نحو العمل والتقدم، لكن هذا الفرد لا شيء يعجبه.

هو فرد نشأ في ظروف معينة في زمن تحطمت فيه قيم ومعنويات جعلت الأفراد في حالة انهيار نفسي؛ البعض فيهم خرج منها بمجرد عودة انبعاث الأمل والبعض يرفض التراجع عن مواقفه حتى مع ما يراه من تغيير واضح بدأ يتجلى منذ فترة ليست ببعيدة.

فرد كان في زمن ما معارضا لسياسات وممارسات قديمة هو نفسه الفرد الذي يعارض اليوم حتى ذلك التطور الذي لا يريد أن يراه لأنه يريد الذوبان في عقلية التذمر والاعتراض والانتقاد؛ فهو لا يعجبه الكلام إلا إذا امتزج بصيغ القدح والذم والنقد الهدام، ولا يعجبه الأفراد إلا إذا كانوا على نفس منهجه في التفكير، فالحرية مثلا بالنسبة له هي حرية أن تعتقد ما يعتقده هو وترى الأمور كما يراها، مع أن الحرية هي أن يعتقد المرء ما يشاء دون أن يفرض فكره على الآخرين وبهذا تسود قيم التسامح والعيش المشترك والتي وحدها تسمح ببناء أمة قوية لا شتات فيها.

هو نفس هذا الفرد الذي يثير نعرات لغوية وعرقية في حين غيره يعمل ويكد سواء بالمجهود الفكري أو العضلي للمساهمة في بناء أمته، فيكون بذلك عضوا فعالا فاعلا ومثل هؤلاء ممن يضعون النظريات وغيرهم ممن يساهمون في تطبيقها كل في مجاله، لا تجدهم أبدا يتذمرون وإذا وجدوا نقصا تصرفوا بعقلانية. هم أفراد يعملون في المجال العلمي والاقتصادي بمؤهلات عالية تجعلهم دوما في حالة نشاط. فنحن نقرأ يوميا تحليلات لأخصائيين في الاقتصاد وفي العالم الجيو سياسي تقول أن هناك ما يعجب عكس ذلك الذي لا شيء يعجبه والذي هو محلل يفهم في كل شيء حسبه، يجمع بين السياسة والاقتصاد والعلم لكن بأدبيات حساسيتها زائدة (ليست كل الأدبيات ففيها أصحاب المنطق الذين يصوغون فلسفاتهم العقلانية في قالب أدبي رائع، لكن المقصودين هنا أصحاب التفكير المتسرع المبني على عاطفة لا عقلانية)، وذلك عكس المختص في السياسة والاقتصاد بشهادة تؤهله للتحليل بمعطيات منطقية واقعية لا مجال فيها للخيال المتشاءم.

لكن ذلك الفرد الذي يعيش في عزلة وراء شاشة يبعث من خلالها موجاته السلبية التي تحطم نفسية جيل نحن بحاجة إليه في مرحلة البناء والنمو هذه والتي تتطلب منا الوعي بأهميتها وأهمية أن نكون قد المسؤولية الملقاة على عاتقنا، كل في مجاله.

هو فرد لا شيء يعجبه في بلاده التي تلعب دورا محوريا في قارة غنية بالموارد هي من زعمائها، ولا يريد أن يعترف بمواقف بلاده المشرفة في دعم القضايا العادلة في العالم، وهذا لأنه بينه وبين نفسه يرفض (تكبرا منه ربما) أن يعترف بنجاعة سياسة أشخاص كان في زمن ما يرفضهم؛ لنا الحق في الاعتراض على ما لا يعجبنا لكن حين تبدأ الأمور في التغير وحين نرى دعما خارجيا وإشادة من قوى عظمى علينا إعادة النظر في مواقفنا، فلا بأس أن نتراجع عن موقف لا يخدم صالح بلداننا خاصة إذا أدركنا أنه محبط للعزائم في وقت نحن فيه بحاجة للتشجيع ورفع الهمم.

إن نفسية هذا الفرد صارت مركبة تركيبا معقدا على مشاعر لا تنفعه هو بالدرجة الأولى، فهو لا يقدم شيئا بينما غيره يعمل ويتذمر بينما غيره يفكر وينتقد بينما غيره يبني.

هو فرد لا شيء يعجبه، لأنه يظن أنه يغمض عينيه ويفتحهما فيجد نفسه في بلد بحجم القوى العظمى، لكن الواقع يقول أن الصين التي كانت قبل عشرين سنة أو أكثر بقليل بلدا سائرا في طريق النمو مثل بلده، هي اليوم ثاني قوة اقتصادية فاعلة في العالم، لكنها لم تصل إليها بالانتقاد والتذمر بل العلم والعمل وحدهما من يسكنان ذهنية الفرد الصيني المشهور بجديته في العمل واحترامه للوقت في حين يقبع الفرد الذي لا شيء يعجبه ساعات طوال من يومه في الحفر والبحث والتنقيب عن العيوب، لا ليحاول ولو بجهد بسيط اصلاحها بل ليجد فيها ملاذا للنقد الهدام، لأنه لا يتحلى بالشجاعة التي تجعله يقول للمصيب أصبت لذلك يستكن للأخطاء لا ليصلحها أو على الأقل يعطي فيها نقدا بناء بل ليجد فيها عزاء لتشاءمه المزمن.

***

لامية خلف الله / كاتبة من شرق الجزائر

 

 

في المثقف اليوم