أقلام حرة
مرتضى السلامي: لكي تفهم فكرة.. سافر إلى عقل صاحبها

عندما نقرأ كتابًا قديمًا أو نستمع إلى حكمة من الماضي، غالبًا ما نرتكب خطأ شائعًا: نحاكمها بمعايير حاضرنا. ننظر إلى أفكار الأقدمين من خلال عدساتنا الحديثة، فنراها غريبة، أو ساذجة، أو حتى خاطئة. نقيس عقولهم بمسطرة عقلنا، وننسى أن كل عقل هو ابن زمانه، ابن عالمه الخاص. هذا التعالي يمنعنا من فهم أعمق حقيقة: أن العقل نفسه ليس شيئًا ثابتًا، بل هو كائن تاريخي يتغير ويتطور.
الفهم الحقيقي لا يكمن في فرض أفكارنا على الماضي، بل في القيام برحلة متواضعة إلى هناك. أن تحاول خلع حذائك الفكري، وأن تمشي حافي القدمين في أرض عقل آخر. أن تسأل: كيف كان العالم يبدو من خلال عيني هذا الشخص؟ ما هي المسلّمات التي كان ينطلق منها دون أن يشعر؟ ما هي الأسئلة التي كانت ممكنة في عصره، وتلك التي لم تكن كذلك؟
هذا ليس مجرد تمرين تاريخي، بل هو أساس الحوار الإنساني الحقيقي. عندما تتحدث مع شخص يختلف معك اليوم، فإنه يعيش أيضًا في "عالم" مختلف قليلاً عن عالمك، له افتراضاته ومسلماته الخاصة. إذا حاولت فقط أن تثبت له "صحة" عالمك، فسينتهي الحوار إلى صراع. أما إذا حاولت أن تقوم برحلة قصيرة إلى عالمه، وأن ترى المشهد من منظوره، عندها فقط يمكن أن يبدأ التفاهم.
تخيل أنك وجدت خريطة قديمة لمدينتك. قد تبدو لك غير دقيقة، بأسماء شوارع مختلفة ورسوم غريبة للمباني. يمكنك أن ترميها وتصفها بأنها "خاطئة". أو، يمكنك أن تستخدمها كآلة زمن. أن تتخيل نفسك تمشي في تلك الشوارع كما كانت، أن تفهم لماذا رُسم هذا الطريق بهذا الشكل، وماذا كان يوجد مكان هذا المبنى الحديث. عندها، لن تكون الخريطة "خاطئة"، بل ستصبح نافذة تطل على تاريخ مدينتك، وستفهم حاضرها بشكل أعمق.
كل فكرة هي خريطة لعالم ما. ولكي تقرأها بشكل صحيح، لا يكفي أن تنظر إليها، بل يجب أن تتعلم كيف تسافر عبرها. هذه القدرة على إعادة بناء عقل الآخر، على السفر عبر الزمن والثقافات، هي جوهر التواضع الفكري. وهي ما يحول تراكم المعرفة إلى حكمة حقيقية.
"لكي تفهم فكرة، افهم عقل صاحبها. عندما تقرأ نصًا قديمًا، لا تسأل فقط 'ماذا يقول؟'، بل اسأل السؤال الأعمق: 'كيف كان يفكر؟'. حاول أن تتخيل عالمه وافتراضاته. لا تفرض عليه قوالب تفكيرك الحديثة، بل سافر أنت إلى عالمه. هذه القدرة على إعادة بناء عقل الآخر هي جوهر التأويل الصحيح، وهي ما يسمح بحوار حقيقي ومثمر عبر العصور."
***
مرتضى السلامي