قضايا

قضايا

في البدء كان الصوت. لم تكن الحروف قد استوت على العظام بعد، ولم يكن للمعنى جسد يُحمَل إليه أو يُنقَل عنه. لم تكن اللغة سوى وشوشة على حواف الفراغ، رعشة أولى في شفة البدء، صدى هشٌّ يتكئ على الريح قبل أن يتثاقل في الحنجرة. ثم كان الإنسان، فاحتاج إلى أن يُشار إليه، أن يُعرَّف، أن يُحدَّد في السرديات الأولى التي ستكتب قدره، لا بصفته كائنًا بيولوجيًا، بل بوصفه الكائن الذي تكبّله اللغة حتى حين يظن أنه يستخدمها. فمنذ أن رفع آدم يده متسائلًا عن الأسماء، كان قد دخل في قبضة الطاغية الأعظم: اللغة.
لكن، هل اللغة محض أداة، أم أنها الأفق الذي تتشكّل داخله الهيمنة، حيث تُعاد صياغة الوجود من خلال بنى دلالية تحكمنا بقبضتها الناعمة؟ هنا، عند هذه النقطة المفصلية، يظهر الاختزال بوصفه الخطيئة الكبرى التي يرتكبها كل من يحاول أن يفهم اللغة من دون أن يدرك وطأة حضورها الشامل. فالقول بأن اللغة محض وسيلة للتخاطب، أو أنها مجرد قناة لنقل الأفكار، هو سقوط في فخ الحداثة الكلاسيكية التي حلمت بوجود شفافية بين العلامة والمرجعية، بين الاسم والمسمّى، بينما الواقع يكشف وجيف الخطى التي تتعثّر عند كل محاولة للفصل بين الدال والمدلول.
لم تكن اللغة يومًا شفافة، بل كانت تاريخيًا ساحة صراع، معركة بين الذين يكتبون السرديات والذين يُكتَبون بواسطتها، بين الذين يفرضون معناها والذين يُسحقون تحت وطأة هذا المعنى. لم يكن أفلاطون مخطئًا حين طرد الشعراء من جمهوريته، فقد أدرك أن اللغة ليست مجرد وسيط محايد، بل هي الفضاء الذي يُعاد فيه إنتاج السلطة، حيث الكلمات ليست بريئة، بل محمّلة دائمًا بعبء التاريخ وصراعاته.
هكذا، حين يُقال إن العربية “لغة القرآن”، يصبح السؤال ملغومًا، إذ أن في هذا القول شبهة التغوّل على اللغة، قسرها داخل سردية واحدة من سرديات الهيمنة. فالقرآن لم يخلق العربية، بل وجدها، تفاعل معها، زحزح بنيتها، ثم أعاد تدويرها داخل سياق جديد. لكنه لم يكن النص الوحيد الذي صنع العربية، كما أنه لم يكن القيد الأخير الذي حاصرها.
قبل القرآن، كانت العربية لهجات تتنازعها القبائل، وكانت بعض تلك اللهجات أقرب إلى الاندثار لولا أن النظام الاجتماعي فرض لها أسباب البقاء. كانت قريش تحتكر التجارة واللغة معًا، تفرض لهجتها بوصفها النموذج القياسي، لا لأنها الأفضل بالضرورة، بل لأنها كانت لسان المركز، بينما بقيت الأطراف مهددة بالنسيان.
وبعد القرآن، ظلت العربية تتنازعها القوى التي أرادت أن تجعلها لسان السيادة، سواء كانت سيادة الفقهاء أو سيادة السلاطين. فمنذ أن قرر عبد الملك بن مروان أن يُعرب الدواوين، كانت اللغة قد تحولت من فضاء تعبيري إلى أداة للحكم، إلى سلاح يُقنّن الهيمنة باسم البلاغة. لم يكن ذلك قرارًا بريئًا، بل كان فعلًا سياسيًا بامتياز، إذ لم يكن الهدف مجرد تبسيط الإدارة، بل تكريس سلطة الدولة عبر فرض لغة موحدة، لغة تُقصي التعدد وتؤسس لهيمنة المركز على الأطراف.
لكن الطاغية لا يملك وجهًا واحدًا، ولا تتجسد السرديات في صورة واحدة. ففي العصر العباسي، حين بلغت العربية ذروتها، كان الفقيه والمنطقي والمعتزلي كلٌّ منهم يحاول أن يخلق نسخة مختلفة من اللغة، وكان كل تيار يحاول أن يفرض تعريفًا لماهية “العربية الصحيحة”، بينما كانت الهشاشة تتسرّب من بين أصابع الجميع.
في بغداد، حيث التقى سيبويه بالكندي، كان الصراع حول اللغة أكثر من مجرد صراع نحوي، كان معركة حول طبيعة الحقيقة ذاتها: هل المعنى يوجد في الكلمات، أم أن الكلمات مجرد قشرة، بينما المعنى ينكشف خارج اللغة، في تجربة صوفية أو في معادلة رياضية؟ هل “الكلمة” مقدسة بذاتها، أم أنها مجرد علامة عابرة تكتسب قدسيتها من الاستخدام؟
لكن العربية لم تتوقف عند حدود الصراع القديم، بل وجدت نفسها تُساق إلى معارك جديدة حين جاءت الحداثة بسردياتها الطاغية. فقد كانت الكولونيالية الأوروبية ترى العربية كلغة ميتة، جامدة، غير قادرة على احتواء مفاهيم الدولة الحديثة. كان هذا الطرح امتدادًا لرؤية ديكارتية ترى أن التفكير لا يكون إلا في لغة عقلانية مرتبة، بينما العربية، ببلاغتها وانزياحاتها، كانت عصية على هذه الرؤية.
لم يكن الأمر مجرد خطاب أكاديمي، بل كان له تجليات سياسية، حيث سعت سلطات الاستعمار إلى استبدال العربية بالفرنسية أو الإنجليزية في أنظمة التعليم والإدارة، محاولةً قطع الصلة بين اللغة والهوية. لكن الردّ لم يأتِ من الفلاسفة وحدهم، بل من الشوارع، من الذين صنعوا الثورات وهم يهتفون بالعربية، لا لأنها لغة مقدسة، بل لأنها اللغة التي استطاعت أن تحتضن غضبهم.
غير أن الطاغية لا يُهزَم بسهولة. فكما حاول الاستعمار أن يقتل العربية، حاولت المؤسسات الدينية أن تُحنّطها، أن تجعلها جسدًا لا يتنفس إلا داخل النصوص القديمة، أن تفرغها من هشاشتها الحية وتعيد إنتاجها كأداة طيّعة لخدمة السلطان، أكان سلطان الفقه أو سلطان النفط أو سلطان الأيديولوجيا.
في هذه اللعبة، كل طرف يحاول أن يُعيد تعريف العربية وفقًا لغاياته، بينما اللغة تستمر في التملّص، في التسرّب من بين الأصابع، في التشظي إلى لهجات وأصوات وهويات تتجاوز أي محاولة لاختزالها في كتاب واحد، مهما بلغت قدسيته. لم يكن ذلك قاصرًا على السياق العربي وحده، فقد رأينا كيف حاولت الكنيسة الكاثوليكية احتكار اللاتينية قبل أن تتشظى تلك اللغة إلى الفرنسية والإيطالية والإسبانية، وكيف سعى الحكام العثمانيون إلى فرض التركية العثمانية قبل أن يتم تفكيكها إلى نسخ قومية متعددة.
إذن، هل يمكن أن نقول إن اللغة أداة تواصل فحسب؟ أم أنها القيد والسلاح، الجرح والشفاء، الحكاية التي نكتبها والهاوية التي نُلقى فيها؟ هل يمكن للغة أن تُختزل في كتاب، مهما كان مقدسًا، أم أنها تتجاوز كل النصوص وتتشكل باستمرار وفقًا لرهانات السلطة والمقاومة؟
إن العربية، كما غيرها من اللغات، ليست مجرد وعاء للمعاني، بل هي نفسها معركة، فضاء للصراع، حيث تتقاطع الهيمنة مع المقاومة، وحيث تُعاد صياغة الإنسان نفسه عبر الكلمات التي يختارها، أو التي تُفرض عليه دون أن يدري. في النهاية، ليست اللغة مجرد صوت يُنطق، بل تاريخٌ يُكتب، وقيدٌ يُكسر، وهاويةٌ تتربص بكل من يظن أنه يستطيع أن يمتلكها إلى الأبد.
***
إبراهيم برسي – باحث سوداني

ـ برنامج الانقلابيه الكونيه العظمى:
يوجد العراق ويعيش على مدى تاريخه الاطول مجتمعيا بين التواريخ البشرية، بلا ذاتيه، خارج القدرة المتاحة للعقل على الاحاطة او المقاربة، لانه كينونه ونوع مجتمعي اخر، غير الغالب المعاش المطابق بنية وامكانات تفاعل، بغض النظر عن مستوى الادراكية للاشتراطات اليدوية الانتاجية الغالبة على الظاهرة المجتمعية، والفاعله فيها كينونه وبنية بما هي نوع مجتمعات ارضوجسدية حاجاتيه.
ومن اكثر الجوانب القصورية الادراكية فعالية، كونها تحصر التفاعلية المجتمعية التاريخيه في نوع ونمط واحد من المجتمعية، ببنيته وكينونته الارضوية الجسدية الغالبة، لتوافقها الاني مع اشتراطات اليدوية الانتاجية، فلا يظهر او تلوح له من احتمالية حضورمشخص، نوع المجتمعية الاخر غير المدرك اصلا، مع مترتباته وكيفيات تفاعيتلة وتاريخه، ومترتبات صيرورته، فلا وجود في المدونه المجتمعية التاريخانيه للازدواج المجتعي الرافديني، وحكم الاصطراعية المجتمعية ميزته الاساس، وهو الامر الذي نعرف له مقابلا متاخرا، هو الاصطراع "الطبقي" الاوربي، وماينتج عنه من الاليات بالقياس الى صنفها المجتمعي الارضي، علما بانها تظل خافية غير مماط عنها اللثام حتى القرن التاسع عشر، مع ماقد ترتب على التعرف المتاخر عليها من اعتماد رؤية شامله للعالم، وقانون مكرس ضمن حتميات وديالكتك طبيعي مفترض، ومراحل محسوبه، ذهابا الى منتهى وخلاصة من العودة على بدء مشاعي.
وقد تكون الرؤية الافتراضية الطبقية من ابرز واكثر الروى الغربية الحداثية حضورا وشمولا عالميا، على الاقل خلال القرن الذي اعقب تاسيسها على يد ماركس، برغم توهميتها وتعسفيتها الساذجه التي تلحق المجتمعات كلها بالاصطراع الطبقي اجمالا، وهو ماقرره ماركس بقوله الفاصل "ان تاريخ المجتمعات ماهو الا تاريخ صراع طبقي"، وهو قول دال على توهميه، الاساس والفصل فيها استمرار الجهل بالاصطراعية الازدواجية المجتمعية الاخرى الاصل والاساس، الرافدينيه المجتمعية وقوانين اصطراعها التاريخي، وخضوعها لقانون الدورات والانقطاعات التاريخيه، دورة اولى سومرية بابلية ابراهيمه، ودورة ثانيه بعد انقطاع اعقب سقوط بابل، هو العباسي القرمطي الانتظاري، انتهى بسقوط بغداد عام 1258 وصولا الى القرن السادس عشر، حين انبعثت الاليات الصعودية في دورة ثالثة راهنه، هي دورة الادراكية التحققية الالية الكونيه، بدءا من ارض سومر الاولى نفسها، بظهور اتحاد قبائل المنتفك عام 1530 كمرحله اولى، اعقبتها اخرى انتظارية نجفية، بدات بعد ثورة 1787 الثلاثيه التي حررت العراق الجنوبي من بغداد الى الفاو، وصولا الى الطور الايديلوجي الاستعاري المتماهي مع التوهمية الغربيه، والمنتهي منذ ثمانينات القرن العشرين.
والاهم والخاصية الرئيسية المميزه للتاريخ الاصطراعي الازدواجي المجتمعي وسيرورته، كونه ظاهرة متعدية للقدرة العقلية المتاحه للكائن البشري، فالموضع المعروف اليوم بالعراق هو تاريخ بلا ذاتيه، متعذر على الاحاطة، بلوغه ادراكيته وتعرفه على ذاته، يعني تحققه، لانه اصلا وشرطا انقلابيه عقلية شامله، وانتقال عقلي من موجبات الطور اليدوي، الى الالي التكنولوجي الاعلى، وهو مجال التحولية الاليه الكبرى خارج التوهمية الارضوية الغربيه الحداثية، ومنها المبنيه على الاصطراعيه الطبقية، والتي تبقي الاله ضمن حدود واشتراطات الاعقالية الدنيا "الانسايوانيه" الارضوجسديه، اخذه المجتمعية وحقيقتها الوجودية الى ماتوحي به وتفرضه نمطية المجتمعات الدنيا الارضوية.
يعني هذا اولا وابتداء ان الاله حين تنبثق في اوربا، تظل وعيا ومن حيث الادراكية محكومة لاشتراطات الارضوية ومتبقيات ووطاة موروثات اليدوية المستمرة طاغية، بانتظار المتغيرات العالمية المترتبه على الحدث المستجد، ومايورثه من اصطراعية مجتمعية غير اليدوية، بحكم حضور الاله كعنصر تفاعل ثالث الى جانب /الكائن البشري والبيئه/ عنصري التفاعلية ابان الطور اليدوي، ومع الانتقال من الاله المصنعية الى التكنولوجية الانتاجية ومايترتب عليها مجتمعيا وعقليا، وصولا الى مشارف الانتقال الاعلى التكنولوجي العقلي، والذي يصير محركا ايقاظيا تطويريا ل"العقل المجمد"، وهو اكثر من 85 بالمئة مما يستعمله الانسان حتى اللحظة مما متوفر له من طاقة عقلية، بعد بداية الوثبه الاعقالية الضرورية، وفك النقاب عن الذاتيه الازدواجية اللاارضوية، حين يصير العقل كموضوع وبرنامج وجودي انتقالي، من عالم الجسدية، متخلص منها ومن وطاتها، كحركة نفي للكيانويات، والدول، والملكية، نحو الكينونه الكونيه المشتركة للكائن البشري، الذاهب الى الفعاليه المتجهه الى خارج الارض، حيث انتهاء القصورية الاعقالية، والانتقال الى الطور البشري النهائي المنتظر والمقرر منذ اليوم الاول لتبلور المجتمعية في ارض سومر، وقيام مجتمعية اللاارضوية، ومن ثم الاصطراعية الازدواجية المتعدية للكيانيه.
يصبح العالم وقتها " آليا" فيتعدى متبقيات الارضوية اليدوية الاوربية، واشكال الاله الاولية الانتقالية، والعقل الارضوي "الانسايواني" الحالي الانتقالي بين الحيوان و "الانسان"، بينما الجهد منصبا مع التحرر من وطاة الموروث العقلي، على الذهاب الى العقل بهدف السيطرة على الجسدية بكل وجوهها ومفاعيلها، مع ضرورة الاعتقاد الراسخ بقدرات ماقد اصبح محور الجهد والاعقال من هنا فصاعدا، ومن مقدرته غير القابله للتخيل ارضويا، او مقارنتها بها، بما في ذلك نوع الاستعداد المتوقع والمنتظر من قبل ابناء اللاارضوية التاريخيه المازومة منذ اكثر من نصف قرن ازمه التحول التاريخي العظمى، في وقت يكون فيه العالم قد صار " ماديا" وواقعا، في غمرة انتهاء صلاحية المجتمعية الجسدو ارضوية، ومع هذا لن ننسى بالطبع ان نذكر ونتذ كر، كم هو القادم منذ اليوم، طريق طويل واستثنائي الصعوبة بحيث قد لا نجد للمقايسه مايدلنا، او يضع يدنا بداهة وبلا جهد غامر فوق معتاد ولا متخيل على مانحن مقدمون عليه، خارج ارادتنا، ولزوما لا مهرب لنا منه لكي نكون، اونزول ونفنى.
***
عبد الأمير الركابي

تعتبر ثقافة التهجين والتجهيل، من أهم الوسائل التي تستخدمها القوى المستغلة والمستبدة لشعوبها أولا، ولشعوب غيرها ثانياً، وبأي شكل من الأشكال الاستغلال والاستبداد، سياسيّة كانت، أو اقتصاديّة، أو اجتماعيّة أو دينيّة أو غيرها. وذلك بغية السيطرة على الجماهير ونمذجتها وتذريرها وتحريكها وتفجير غرائزها وإقصاء عقولها وفقاً لمصالح هذه القوى المستغلة. هذا وتعتبر من أبرز سمات وخائص هذه السياسة برأيي التالي:
أولاً: زرع روح الامتثال والرضا لكل ما هو قائم، والتسليم والرضوخ لكل ما هو غيبي وغير عقلاني، وغريزي على أنه أمر مقدر بهذا الشكل أو ذاك ولا مناص أو الهروب منه.
ثانياً: تغييب مسألة الانتماء الحقيقي للوطن والمواطنة، وتبديله بانتماءات ثانويّة، دينيّة أو عرقيّة أو حزبيّة وغير ذلك من الانتماءات الضيقة أو الفضفاضة. أي تشجيع الانتماء للعقيدة (الأيديولوجيا) الدينيّة أو الوضعيّة أو للحزب أو للطائفة أو للقبيلة أو للبطل الديني أو السياسي أو الاجتماعي، (السلبي أو الايجابي) كقائد الحزب، أو رئيس الدولة أو شيخ العشيرة أو القبيلة أو الطائفة أو المذهب أو الطريقة الصوفية. وهذا في الحقيقة ما يجعل حياة الفرد والمجتمع في كل مفرداتهما، عبر سيرورتهما وصيرورتهما مرتبطة بفقه هذا القائد السياسي أو الديني أو الاجتماعي من جهة، أو تكون هذه الحية في سيرورتها منمذجة بشكل مسبق، ومحددة بقوالب جامدة وكأنها قدر لا مناص للخلاص منه كما قلنا.
وعلى هذا الأساس لا تعود الثقافة هنا، نشاطاً عقلانيّاً تنويريّاً يتفاعل مع السياسة والمجتمع على اعتبارها فعلاً جماهيريّاً، تلعب فيه دور الموجه لسياسة الدولة والمجتمع معاً بما يخدم مصالح الدولة والمجتمع والفرد ككل. بل تصبح الثقافة فعلاً نخبويّاً انتهازيّاً، تغرد فيه النخب المثقفة من تجار الكلمة والوجاهة والمال بكل اتجاهاتها دينيّة أو وضعيّة، عبر وسائل الإعلام وًدُوْرِ الثقافة والعبادة، لمصلحتها ومصلحة السلطة الحاكمة فقط.
أو بتعبير آخر: يلتقي في مثل هذه الحالة ما هو سياسي مستبد ومتفرد بالسلطة، مع ما هو ثقافي نخبوي انتهازي على مساحة ضيقة، لا يُمارس النشاط السياسي والثقافي فيها إلا فئة صغيرة من المجتمع، هي وحدها من يقرر طبيعة النشاط الثقافي ودوره وأهدافه وبالتالي استهلاكه، انطلاقاً من الموقف السياسي أو الأيديولوجي الذي تتمتع به هذه الفئة الضيقة ومصالحها ومصالح أسيادها كما أشرنا أعلاه.
عقلنة الثقافة:
من هذا المنطلق تأتي الدعوة إلى عقلنة الثقافة وشعبنتها.
أي تحويل الثقافة إلى:
أولاً: إلى جعل الثقافة فعلاً أو نشاطاً جماهيريّاً إيجابيّاً عقلانيّاً تنويريّاً، بعد تجريدها من لبوس عالم السياسية والأيديولوجيا وسلطاتهما المقدسة وانتهازيّة نخبها المثقفة.
وثانياً: الدعوة إلى جعل الثقافة فعلاً ثوريّاً، يجعل من التاريخ والتراث نفسيهما ثقافة عقلانيّة نقديّة، تنطلق من (استلهام) المواقف الإنسانيّة في هذا التراث دون الخضوع لسلطته وتقديسه. أي استلهام ثقافة (المواطنة) بدلاً من ثقافة العشيرة والقبيلة والدين والمذهب والطائفة والحزب والملك والأمير والبطل الملهم. وبذلك لا يعود التاريخ ومكوناته التراثيّة أو الثقافيّة منطلقاً لصراعات ماديّة أو فكريّة بين مكونات الشعب، أو بين الشعب والسلطة الحاكمة. بل جعلهما (التاريخ والتراث) قوة حيويّة يبرز فيهما كل ما هو عقلاني يدعوا إلى التقدم وتحقيق إنسانيّة الإنسان.
إن الثقافة في هذا السياق العقلاني النقدي والتنويري تتحول إلى:
أولاُ: ثورة حقيقيّة تعمل على تحويل إنتاج المعرفة من المنطق الصوري التجريدي والمثالي الذاتي والبراغماتي السلبي والفقهي السلفي الجمودي التكفيري ممثلاً بفرقته الناجية، أو الصوفي الإيهامي وطبله ومزماره الرافض للواقع وتأثيره على حياة الفرد والمجتمع، والعيش في عالم الروح والاشراق والتوهم والخيال، أو من منطلق عقليّة النخب الثقافيّة الوضعيّة الانتهازيّة التبريريّة، إضافة إلى كل ما تبشر به السلطات الاستبداديّة من ثقافة الامتثال والتجهيل وتسطيح العقول وتعميم ثقافة الوعظ والذاتيّة والارتجال والثرثرة الثوريّة. إلى فعل ثوري عقلاي نقدي تنويري تظل مصالح المجتمع بكل مكوناتها هي هدف هذه الثقافة. أي ثقافة ضد الجهل والتجهيل، والاستبداد، والتفرد بالسلطة، واحترام الرأي والرأي الاخر، والمرأة، أو ما نستطيع تسميتها بثقافة المواطنة ودولة القانون والمؤسسات والتشاركيّة.
ثانياً: ومن حيث المنهج تصبح ثقافة المنطق والبرهان الاستكشافي، القائم على الاستقراء والاستنتاج والاستدلال والتجربة والتحليل والاختبار والشك والجدل، وصولاً إلى البرهان، وكل ما يعطي الفرد والجماهير دورهما في ممارسة حقهما الطبيعي في صناعة الحياة.
وبذلك تكون الثقافة قادرة على:
آ: تحطيم سلطة الحاكم المستبد ودولته الشموليّة ونخبه الثقافيّة المؤدلجة الدينيّة منها والوضعيّة.
ب: وتكون قادرة عبر حواملها الثوريين العقلانيين التنويريين الملتزمين بالإنسان وقضاياه المصيريّة، وبمنطق الدولة والمجتمع القائم على دولة المواطنة والقانون، على نزع قدسية الأشخاص والتراث وأفكار وسلطة السلف الجموديّة الجبريّة، وفقه القادة، وكل من لازال يعيش على إعادة إنتاجها خدمة لمصالحه الأنانيّة الضيقة مهما كانت طبيعتها.
***
د. عدنان عويّد
كاتب وباحث من سورية

 

كان عميد الأدب العربي طه حسين يعلم علم اليقين أن النقد الجاد صَنيعةٌ يُسديها الناقد إلى معشر الكتّاب والشعراء وأهل الفن؛ لأنهم يستفيدون من النقد أكثر مما يخسرون. إن هؤلاء من خلال النقد: "يعرفون رأي الناس فيما يكتبون ويقولون؛ وليست هذه المعرفة قليلة الفائدة. يعرفون رأي الناس ويعرفون رأي الإخصائيين. فيقفون على مواضع القوة والضعف في فصولهم وقصائدهم فينفعهم هذا ويزيدهم قوة إلى قوة، ويعصمهم من السقوط والاسفاف" (طه حسين، حافظ وشوقي، ص: 102). ثم يستمر طه حسين في رصده للنقد الجاد فيقول: "في النقد إقرار للحق في نصابه، ودفاع عن الفن، وتَبْصرةٌ لِمَا في الآثار الفنية من جمال أو عيب". ص: 102.
أما بالنسبة لتوفيق الحكيم، فإنه كان مقتنعا كل الاقتناع أن الناقد هو صاحب رأي بامتياز. ذلك أن "المطّلع على النقد أحد فريقين: فريق يُسلم ويُصدق دون بحث أو تمحيص.. وهذا فريق من لا رأي له، أو من لم يهتم بعد بتربية الرأي فيه.. وفريق لا يقبل التصديق والتسليم قبل الرجوع إلى الأثر الفني يطالعه حرا من كل قيد ليستخص رأيا فيه بنفسه لنفسه". (توفيق الحكيم، يقظة الفكر، ص: 15-16). لذلك، فالنقد الجاد لا يتحقق إلا في مجتمع حر، وفي هذا المجتمع تكتمل رسالة الفنان والناقد معا، وتكتمل أيضا مهمة إيقاظ الفكر من سباته ليمارس عمله ويرتمى في نعيم التأويل الموسَّع الحر الذي ينقلنا إلى فهم يقظ للفن الذي يعاصرنا ويحيط بنا، حاملا معه أفكاره ومعانيه بكل دقة وقوة. فأينك أيها الناقد الذي ينقد الفن المعاصر؟ وهل تتحقّق معك يا تُرى الجمالية المنشودة للتأويل الموسَّع الحر؟
غني عن البيان القول إنه من الضروري اليوم على الناقد الفني الاحتكام إلى التأويل المُوسَّع الحر، لفهم القصدية المضمرة للفن المعاصر. فالقراءة النقدية ذات المسعى الأبجدي، والمتعارف عليها تقنيا إنْ على المستوى الوصفي التقني-التحليلي أو على المستوى الرسمي-الصباغي، ظلت جوفاء المعنى وأثرية المذهب، تحذو حذو النعل بالنعل، لا تُسعف المُتلقي على فك شفيرة الفن المعاصر. فهي تتكئ على أرضية هشة للوصف الشكلي في بعده التحليلي الفارغ من المضمون الجمالي، والمُبتعد عن ناصية التفكير النقدي المُؤسِّس لروح الفن وجوهره، ألا وهو التأويل الموسَّع الحر. وبتعبير آخر، إن تلك القراءة النقدية المستهلكة تتأطر ضمن نسق دائري مغلق يرفض الانفتاح على العلوم والمعارف ذات الارتباط بالفلسفة والعلوم الإنسانية والاجتماعية والمعرفية والعصبية...، لاسيما إذا ما تأملنا مختلف التحولات الراهنة التي شهدتها هذه العلوم من جهة، وأيضا علاقتها بالفن المعاصر من جهة ثانية.
وفي التأويل المُوسَّع الحر، لا بد أن يتوفر الناقد الفني على عُدة معرفية يساهم بها من أجل الخروج من المعنى المضمر في الأعمال الفنية إلى المعنى المُؤوَّل أو الشبيه بالحقيقة أو الممكن الذي يُصنفُ ضمن دائرة الخطاب الاحتمالي، وهو الذي يتم استنباطه بالانفتاح على مجالات وحقول علمية متخصصة داخل المختبر النقدي الذي يشتغل فيه الناقد الجاد. فمن أهداف التأويل الموسَّع الحر في حقل الجماليات البصرية أنه يساهم في رفع صعوبات الفهم الجمالي للأعمال الفنية بطرحه لأبعادٍ جديدة في المنظور والمقاربة، فينقلنا معه إلى مستويات رحبة تخدم غرض التلقي. ثم الدفع بالأثر الفني نحو مكانه الحر للمساءلة والتفكير من أجل تحقيق غايته التواصلية ألا وهي تأسيس نقاش فلسفي بين العمل الفني والمتلقي.
في ضوء ما تقدم، يمكننا بسط التأملات الآتية: كيف نُؤَوِّلُ عملاً فنيًا؟ وإلى أي حد يمكن للتأويل الموسَّع الحر للفن المعاصر أن يساعدنا على فك شفيرة هذا الفن بطرحه إمكانات المساءلة والتفكير من أجل بناء الرأي؟
تتطلب عملية تأويل الأعمال الفنية حسب مقاربة التي دأبنا عليها في هذا المقال، تحقيق عناصر متكاملة، تهدف إلى طرح أفق جمالي حر للفهم والتفسير والتواصل. وفي هذه العناصر تتفاعل الذات الجمالية للعمل الفني (ذات الفنان) مع المتلقي (فردا كان أو جماعة)، والموضوع الفني باعتباره وسيطا لهذه العلاقة الثلاثية (الذات-المتلقي- الموضوع الفني). وإن دور الناقد المؤوِّل يتحدّد في فهم وتحليل هذه العلاقة ورصد أبعادها ومُختلف تجلياتها المحايثة للعمل الفني.
1- كيف يتحقّق الفهم الجمالي للعمل الفني؟
إن الفهم الجمالي هو أول مؤشر دال على استيعاب كُنه العمل الفني وجوهره. ويتم ذلك عن طريق وضعه في السياق الجمالي الذي ينتمي إليه، وباستحضار المادة المُشتغل عليها، من حيث الشكل والمضمون والأبعاد الثاوية خلف فكرة العمل. والمراد بالسياق الجمالي، تقريب المُتلقي من فكرة العمل الفني المنجز، وذلك من خلال: تعريفه، وتجنيسه، ورصد خصائصه، ومكوناته... فقد تبدو لَكَ مكونات العمل الفني مبعثرة، أو غير مفهومة، أو معقدة، أو حتى تافهة في نظر البعض..!! لكن الناقد يجمعها داخل خيط ناظم ينطوي عليه التصور الفني الذي حمله الفنان على عاتقه واستطاع إخراجه في العمل الذي أنجزه في صيغته المعاصرة، فاختار منها التعبير الذي يتناسب مع هذا التصور، وفي تقاطع مع اتجاهات وتيارات لها نفس المسعى والغاية.
2- أي تفسيرٍ جمالي يساعدنا من أجل بلوغ عتبة العمل الفني؟
يحضرنا هنا التفسير الجمالي الأسلوبي باعتباره عتبة أساس لبلوغ العمل الفني، وذلك عندما يكشف الناقد عن مستويات القضايا والموضوعات التي يستند إليها العمل الفني بمرجعية أسلوب الفنان. ويقوم الناقد في هذا السياق بتأطير أسلوب الفنان ضمن تيار من تيارات الفن المعاصر -مع إمكانية الجمع أو المزاوجة بين أكثر من تيار- وفضلا عن استحضار تداخل التيارات داخل نفس العمل/ المنجز. فالأعمال التجهيزية على سبيل المثال، تتطلب أنماطا متعددة للبناء الجمالي البصري للموضوع، فيحضر: الفضاء المكاني ودلالاته، الأحجام وهندستها، الظل والضوء، المفاهيم، القضية المضمرة التي تقتضي من المتلقي البحث عنها، طريقة العرض وأبعادها ذات الارتباط بهندسية المنظور، المجال الإدراكي، الكل والجزء، الزمان الفني، رقمية الصورة وأبعادها الافتراضية، المؤتمرات الصوتية، المستويات الدلالية لمراحل العمل: البداية، الوسط، النهاية... والأمر نفسه بالنسبة لفن الأداء الذي ارتبط بالفعل الحي للعمل الفني. ذلك أن حضور المتلقي أثناء العرض يجعله يكتشف بنفسه الموضوع الجمالي ويبحث عنه أثناء تقديم الفنان لعمله المباشر والحي. فتكون مهمة الناقد ها هنا هي توثيق الأداء الفني بتقديم تفسير متكامل في نهاية العرض. وهو تفسير يستند فيه إلى عُدة متنوعة من التخصصات والمعارف التي من شأنها أن تساعده على رصد الحالات النفسية والعلائقية والوجدانية والمعرفية داخل الإطار الاجتماعي والحياة اليومية بمختلف تفاعلاتها وتأثيراتها على الذات والمتلقي في الآن نفسه. وعلى سبيل المثال: قد نجد في بعض معارض فن الأداء توظيف الفنان/العارض لوثبة تصالُبيَّة، وهي خشبة طويلة مسندة على الحائط، تُستخدم في تعليم رقص الباليه. وعليها يُصالِب الفنان رجلَيْه تكرارا داخل قاعة العرض بطريقة تخلق فعل الدهشة والغرابة لدَى المتلقي، وقد يقرع إحدى رجليه بالأخرى ليلعب دور راقص الباليه. وفي نفس العرض يستخدم الفنان الموسيقى التصويرية أو التعربية، وكذلك هندسة المكان، والألوان المعبّرة عن حالته النفسية... كما تجده يُمسك بيديه الفرشاة ويخلط الألوان ويرسم موضوعا اختاره ليؤثث به أداءه البصري الحي أمام الجمهور. إن هذا العرض يجعل المتلقي يشعر وكأنه يشاهد عرضا مسرحيا من طراز خاص، وهو طراز الفن المعاصر الحر الذي لا تحده قيود أو تلجمه ألجام، فكان فن الأداء آية من آيات الفن المعاصر.
3- أي تواصلٍ الجمالي يسلكه الناقد الفني؟
والمراد بالتواصل الجمالي لحظة مناقشة العمل الفني عن طريق تأويل المعاني والدلالات التي حَصُلَ فَهْمُها واستيعابها. وهنا يتقوى فعل التأويل الموسَّع الحر لكي يضطلع الناقد بالفهم الممكن لحقيقة الفكرة التي يطرحها العمل الفني. فيبدأ الناقد بالبحث عن إمكانيات محتملة لخلق فعل التواصل مع العمل الفني. فيقوم بمساءلته واستنطاقه لتقريب المتلقي من معاني الجمال الذي يوجد بداخله. وهو بذلك يساهم في تربية الرأي والذوق. ولعل جمالية التواصل التي تتولَّدُ عن العمل الفني، أنه يترك في نفسية المتلقي أثرا خفيا يدفعه إلى ممارسة التفكير الحر. كما يساهم هذا التفكير في تكوين الرأي، وبالتالي يتأسس عند المتلقي الحكم الجمالي الذي نُصدره على الأعمال الفنية. إنه حكم حر وذاتي مستقل، يوجد بداخل كل واحد منا، والناقد الفني يساعدنا على التعرف إليه واستخراجه بعدما كان مضمرا. إن التواصل الجمالي ينقلنا بالضرورة من المعنى المجازي إلى المعنى الحقيقي، ويدفع الناقد أيضا إلى توسل الاستقراء والاستنباط والمقارنة والتركيب. فيستعير الناقد مقاربات من علوم ومعارف مُتخصصة: الفلسفة، وتاريخ الفن، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، والهندسة، والرياضيات، والفيزياء، وعلم الجمال، وميتولوجيا، والأنثروبولوجيا، والعلوم المعرفية، والعلوم العصبية، واللسانيات، والتداوليات... والهدف من هذه المقاربات هو وضع أسس علمية وإبداعية للمعرفة التشكيلية والبصرية في الكتابة النقدية العالِمة.
تأسيسا على ما سبق ذكره، نخلص إلى أن الفن المعاصر بالنظر إلى أشكاله التعبيرية الراهنة، والتي رغم تنوعها وتعددها، فإنها تفتقر إلى المضمون التأويلي الموسَّع الحر الذي يرتبط بمهام الناقد الفني. وإذا ما تأملنا هذه الأشكال التعبيرية في الفن المعاصر: اللوحة بمفهومها الجديد، والتركيبات النحتية، والأحجام، والتجهيزات، والفيديو آر، وفن الأداء، والصباغة الديجيتالية...، فإننا نجد أنها غير مكتملة المضمون الجمالي، والتأويل الموسَّع الحر وحده الكفيل بملء وتدارك مسألة عدم الاكتمال، وكذلك الصعوبات التي من الممكن أن ترتبط بعملية التلقي. وعلى هذا الأساس، فقد كان هدف هذا المقال هو الوقوف عند مستويات النقد الجمالي للفن المعاصر من حيث الفهم والتفسير والتواصل. تلكم التي تستند إليها وظيفة ومهام الناقد الفني الذي لا شك أنه سيساهم بها في تذليل عوائق التلقي ورفع كل تعقيد من أجل تسهيل الفهم وتقريب الرؤية الجمالية الحرة للعمل الفني في صيغته المعاصرة والإبداعية الراهنة. لذلك فإن عمل الناقد هو عمل إبداعي بامتياز، والعمل الإبداعي أيًّا كان نمطه، لا بد وأن يتجدّد مع مرور الزمن بكل ما يحمل من أبعاد ودلالات متغيرة وليست بالثابتة. فالنقد الذي كان في الماضي ـفي فترة الثمانينيات- كان مثيرًا، ولِمَ لا؟ مدهشًا في عصره. لكن للأسف لم يعد يحظى بنفس القدر اليوم، مع زمن الرقميات والعصرنة، وخدمات الذكاء الاصطناعي على مستوى الكتابة والتأليف والإبداع الفني. أمَا كانت مشكلة: كيف ننقد عملا فنيا؟ وما هي مكونات هذا النقد؟ وحدوده...؟ مدار جدل في الماضي لم يعد يجد من يتأمله اليوم، أو حتى التفكير فيه، مع ظهور مقاربات جديدة تختلف باختلاف الحقل العلمي الذي تنتمي إليه. لعلها إذن ضريبة المجاوزة التي تُعطي في كل عام ولربما في كل شهر نموذجا جديدا من المقاربات اللاحقة التي تتجاوز السابقة!
ولكنْ، إلامَ صارت أحوال النقد على أيدي المتجاوزين من وجهاء نقاد هذا الزمان؟
وبعد، فليبارك قارئ هذا المقال عقل كل ناقدٍ جاد يتصدى لفساد الذوق الذي ساهم فيه دعاة النقد من الذين يفسدون فكرة الأثر الفني بجهلٍ وتجاهلٍ وتحاملٍ على إفساد الذوق العام!
وممّا لا مِراء فيه أن العزةَ كل العزة لأصاحب الذوق الرفيع والحس الجمالي البديع! فلهم خالص التقدير.
***
بقلم: أ. د. محمد الشاوي

النزاع الذي اندلعت نيرانه فجأة في أطراف سوريا، بعد أسابيع قليلة من انتصار الثورة الشعبية، يعيد تذكيرنا بأن خطوط الانكسار في البنية الاجتماعية العربية ما زالت فعّالة، وأن ترسيخ السِّلْم الأهليّ مشروط بتصحيح عيوب تلك البنية، لا سيما جعل «مبدأ المواطنة» مضموناً وحيداً للعلاقة بين أعضاء المجتمع السياسي، على المستوى القاعدي، وبين المجتمع والدولة، على مستوى السياسة والقانون.
التعدد الديني والعِرقي هو الوضع الطبيعي للحياة في عالم اليوم. ويجب أن نكيِّف فهمنا للسياسة على نحو يستوعب هذه الحقيقة، كي نتفادى الصراعات الداخلية. القبول المتزايد لهذه الحقيقة دليل على نضج البشرية واتساع وعيها بحقائق الكون وضروراته. التنوع قَدَرٌ لا خيار لنا فيه، هكذا خُلقنا وهكذا نصير إليه.
من المؤلم القول إن المجتمعات الغربية تجاوزتنا بمسافة طويلة في الإقرار بالتنوع قانونياً وسياسياً وعملياً، فيما لا نزال نتحرك بسرعة السلحفاة. وهو أمر أسبابه معروفة لمن تأمل في البنية الثقافية - الاجتماعية، ولم يكتفِ بالوقوف عند التبريرات اللفظية.
السؤال المثير للدهشة حقاً هو: لماذا نجح الغربيون -ولو نسبياً- في تجاوز حدود الطوائف والأعراق والثقافات؛ فما عاد أحدهم يخشى أن ينقضَّ عليه الآخر أو أن يتآمر؟ نقول هذا مع علمنا بأن تلك المجتمعات قامت على أرضية تعاقد مادِّيٍّ ومصلحيّ. في المقابل فإن مجتمعاتنا التي تتحدث كثيراً جداً عن التعاون والتكافل والتراحم ومحبة الآخر والإيثار، تبدو كأنها تعيش على الدوام في مجتمع ما قبل الدولة، حيث الجميع في حالة حرب مع الجميع، على النحو الذي صوَّره توماس هوبز.
غالبية الدول الإسلامية تعاني مما يمكن وصفها بأزمة هوية، ليس عند الأقليات فقط، بل بالقدر ذاته عند الأكثريات أيضاً. الأقليات تظن أن الأكثرية تظلمها حقها، والأكثرية تظن أن الأقلية تخونها. وثمة لدى هذا الطرف عشرات من الأدلة التي تدعم دعواه، ولدى الطرف الآخر أدلة مثلها. لكن السؤال الذي يبقى حائراً: لماذا تعاملت الأكثرية مع «أفراد» الأقلية بوصفهم جمعاً واحداً؟ ولماذا فعلت الأقلية الشيء ذاته بالنسبة إلى «أفراد» الأكثرية؟ أي بدل أن تؤاخذ المذنب، وضعت كل من يشاركه الانتماء في قالب واحد، وعاملتْهم جميعاً على أنهم مذنبون.
ثم دعنا نفكر في السؤال التالي: لماذا يناصر «أفراد» كل طرف دعاوى فريقه من دون نقد أو مساءلة؟ ولماذا لا يسمح هذا الجمع بمساءلة مواقفه ونقدها من داخل الجماعة ومن خارجها؟
إن أردتم معرفة الطريقة التي يتشكل من خلالها الفارق البنيوي بين المسلمين وغيرهم، انظروا إلى سلوك الإسرائيليين خلال الحرب المشتعلة منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2023 في مقابل سلوك العرب: يخرج السياسيون والمواطنون والمحللون الإسرائيليون في الشوارع وعلى شاشات التلفزيون والصحف، يوجهون أشد النقد إلى الحكومة ورئيسها وإلى الجيش وقادته، وفي المساء يذهبون إلى بيوتهم آمنين. أما على الجانب الفلسطيني والعربي، فإن الذي يوجه نقداً ولو بسيطاً، يُتهَم بالخيانة والعمالة والتصهيُن... إلخ. بعد حرب 1973 شكَّلت إسرائيل لجنة عالية المستوى لتحديد أخطاء القيادة، وقد نُشر التحقيق وتُرجم إلى العربية باسم «التقصير». وهو يحوي نقداً شديداً للحكومة والجيش وأجهزة الأمن. فهل علمتم عن أي دولة عربية أجرت تحقيقاً مماثلاً ونشرته على الملأ؟
سوف أتفاءل إذا سمعت أن اللجنة التي شكَّلتها الحكومة السورية للتحقيق في حوادث القتل التي جرت في الشمال الغربي، تضم فعلاً فريقاً مستقلاً غير منحاز، أو على الأقل ممثلين لمختلف الأطراف، واعتمدتْ المعايير الدولية في التحقيق، ثم نشرت في وقت قريب شهادات الذين استمعت إليهم، وحددت المسؤولية عن الأفعال الشنيعة التي جرت منذ سقوط النظام السابق.
إصلاح البنية الاجتماعية المتأزمة يستدعي معالجة التأزم المزمن في الهوية عند الأكثرية والأقلية معاً. وهذا لن يحدث إذا اكتفينا بإعلانات سياسية أو حتى دستورية، بل يحتاج أيضاً إلى مبادرات سريعة عملية، تعزز الاطمئنان وترسل رسائل إلى جميع من يهمه الأمر، بأن لدى الحكومة عزماً أكيداً على احتضان الجميع والتعامل معهم على أنهم مواطنون، يحاسَبون على فعلهم وليس على انتمائهم.
***
د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

التلاميذ عندنا في التعليم الثانوي لا يعرفون من الفلسفة سور رسمها يتداولون بعض المقالات الجاهزة التي هي اشبه بالمحفوظات، حيث كل شيء جاهز لإرضاء سحر النظرة الأولى وشهوة الامتلاك؛ وكل شيء معد سلفا للانغماس في الملذات السهلة والركون الى رذيلة الكسل، هؤلاء التلاميذ فقدوا ولا شك متعة أكبر مما كانوا سيكتسبونه بقليل من الإرادة والشجاعة والاهتمام والاقبال على دراسة الفلسفة. فعندما نفتقد روح النظام، وعندما نهمش فضيلة احترام العمل، ولا نعرف قيمة الساعات الضائعة وعندما ننشغل بالمديح الزائف والإسراف في تقدير الذات رغم خيباتنا المتكررة فإننا ولا شك نحكم على الفلسفة بالموت. إنه من المؤلم حقا الحجر على تفكير التلميذ وربط الذاكرة بالتكرار وتقليص الذكاء، وتهميش الخيال الذي دائمًا ما يكون بارعًا وطموحًا. على الرغم من ان كل انسان غني جدا بما يملكه من إمكانات وقدرات وما يصنع التلميذ بليد الذهن هو ضعف الإرادة لا الفكر.
ان الصورة التي يتمظهر بها الدرس الفلسفي في مؤسساتنا التعليمية وتلك المقالات المعلبة المتداولة تعكس تجربة ساذجة وايضا قاتلة للعقل وتلك الامتحانات والاسئلة المبتذلة هي من دون شك قاتلة للتفكير الحر مادامت تشتغل على تنمية عادة الميل الى الفعل السهل انها تشل الإرادة وتقتل ملكة النقد. وكل ما هو معتاد في التعليم وسهل يبدو غير إنساني. ولكن لماذا يتم تحميل التلميذ كل إخفاقاتنا؟
المأساة عندنا تبدأ من الاستاذ الذي هو في الغالب لا يقرأ ولا يكتب ولا يفكر ولنتساءل هنا بصدق هل استاذ الفلسفة مثلا في التعليم الثانوي عندنا قرأ لأفلاطون وأدرك ما ترمي اليه محاوراته؟ هل سافر بخياله وتذوق سحر المتن الافلاطوني؟ هل عاد بذاكرته الى سقراط وأبصر تلك العلاقة الحميمية التي تربط الأستاذ بتلميذه؟ هل هو ملم بموقف ارسطو في السياسة والاخلاق؟ هل مرجعيته في ذلك كتاب السياسة لأرسطوطاليس والأخلاق الى نيقوماخوس ام تلك الملصقات والبطاقات والقوالب الجاهزة؟ هل الأستاذ عندنا يقرأ لجون لوك ودافيد هيوم وعلى دراية بكتاب مبادئ الفلسفة لديكارت او تأملات ميتافيزيقية؟ كيف لأستاذ الفلسفة عندنا ان يشرح لتلامذته مواقف الغزالي وابن رشد وكانط وهيجل...وهو لم يقرأ بعضا من نصوص هؤلاء الفلاسفة العظماء؟ إن أولئك الذين لديهم الفضول الكافي لقراءة أفلاطون، أي متابعة سقراط في منعطفاته وتعرجاته، سوف يندهشون في البداية من هذه الطرق العظيمة التي تؤدي إلى الحكمة وسيحصلون ولا شك على غذاء العقل.
نعم من المؤلم حقا ان ترى وتسمع لصنف من الاساتذة يعيشون في عالم افتراضي سجناء مقيدون يتعايشون داخل كهف لا يرون الا الضلال وافقهم المعرفي محدود واذا ما أردت ان تحرر احدهم من قيوده تجد بضاعته المعرفية مغشوشة وفاسدة وان شئت انظر الى صفحات التواصل الاجتماعي وما يدون هؤلاء من خربشات سيرتد اليك بصرك خاسئا وهو حسير من قبح وهول ما رأى لغة ركيكة ومواضيع مبتذلة سطحية ومنهج عقيم في الطرح والرد فترى الواحد من هؤلاء يهرف بما لا يعرف ينقل بدون سند ويدعي بدون دليل اقلب الصفحات واستمر في التصفح لن تجد في نهاية بحثك الا أستاذا بالاسم يرتدي قميص إمام فقي ومتفيقه يفتي لغيره بدون علم لا يقرأ ..لا يسأل ...لا يسافر بخياله ..ارادته معطلة مشحونة برغبات دونكيشوتية يصارع طواحين الهواء وفي احسن الأحوال تراه يجلس هناك بدون حركة في منزلة بين المنزليتين منزلة التلميذ الكسول الذي اسدل اذنيه واغمض عينيه فهو لا يسمع ولايرى ومنزلة نافخ الكير يحرق ثيابك ويسمم بدنك ويؤذيك في بصرك وسمعك وعقلك.
المأساة عندنا تبدأ من المفتش حيث تحول بعضهم الى ما يشبه الدركي “يأتي للتأكد من أن المعلم قد أعد درسه وعليه ان يقدم الوثائق التي تثبت ذلك. مهنة ولا شك تجعل المرء غبيا وجاهلا. هذا دون استثناء. أعلم أن العديد من المفتشين يظهرون حماسة رائعة. لكن هذا لا يمنحهم أي ذكاء. نأسف لقول ذلك، لكن يجب أن يقال أن أي درس لا يقرأ فيه التلميذ أو يكتب هو درس ضائع. يجب أن نقول لهؤلاء الثرثارين سينتهي بهم الأمر إلى جعل مهنة التعليم صعبة بالفعل ومستحيلة، علاوة على ذلك هم لا يعرفونها"
وأسوأ ما في الأمر ان يتحول المفتش عندنا الى ظاهرة من ظواهر عالم الاشياء محكوم بحتمية التكرار عاجز على ان يحرك نفسه بنفسه او يوقف حركته عاطل عن الحركة وبعض المفتشين الذي يشكلون حالة الاستثناء يجدون انفسهم في وضعية سيزيف يحملون صخرة التدرجات على اكتافهم ويسيرون بها في شعاب ومسالك الفقر ومدن الملح ويصعدون بها جبالا صخورها حادة لا قمم لها ثم تهوي بهم فيسقط الواحد منهم في مهاوي الابتذال والاجترار فمثله هؤلاء كمثل من أتاه الله علما لكن فضل الجلوس الى موائد السلطان والسمع والطاعة لولي النعمة المتفرد بالرأي المتعالي على المكان و الزمان.
ان " المفتش الذي يجلس في الفصل الدراسي كما هو الحال في المسرح يريد أن يسمع درسا جيدا، أو أحد تلك الحوارات المنظمة التي يلقي فيها تليمذان أو ثلاثة إجابات إلزامية يتم تحديد مضمونها وتوقيتها مسبقا. فعل من شأنه ان يفسد الفطرة السليمة لا ينبغي للمفتش أن يستمع أبدا إلى المعلم، ولكن يجب أن يستفسر فقط عما يعرفه التلاميذ. فإذا اضطررت إلى الحكم على فصل يتعلم فيه التلاميذ البيانو، فإنني ولا شك أود أن أسمع الى التلاميذ وليس المعلم"
المأساة عندنا تتجلى في التلميذ الذي سرقت طفولته وافسدته الأسرة وكبله المجتمع بأكذوبة التعليم السهل والنجاح المضمون واقع مضحك مبكي يتحول فيه التلميذ الى رهينة لشهوات ونزوات صناع الإخفاق ومعلمي الفشل. المعرفة الفلسفية عنده تبنى على اعتقادات ساذجة واراء ويقينيات لا مجال للتفكير فيها تبدأ وتنتهي مع بعض المقالات التي تقوم على مسلمة السرد فهي أقرب الى الحكايات الشعبية وعلى حتمية التكرار وتقديس الذاكرة تحارب كل جديد حيث يشتغل حراس المعبد على منع التجديد وغرس قصص وروايات خرافية حول الأستاذ الأسطورة وعلى التلميذ ان يؤمن بها ويصدقها دون تحليل او نقد.
تجاوز العوائق
يمكننا ان نستلهم من فلسفة اميل شارتيه ما يعيننا على إعادة بناء الدرس الفلسفي في التعليم الثانوي بوجه عام والتفكير في غرس الروح العلمية والفلسفية لدى تلميذ المرحلة الابتدائية بوجه خاص فالممارسة الفلسفية عنده تقوم على مسلمة ان الروح مثل اللوغوس تتجلى من خلال نشاطها وانه يجب دعمها من قبل الإرادة فهناك دائما علاقة وثيقة بين الإرادة الحرة وفعل التفلسف وبين إدراك الذات والعالم الخارجي والممارسة الأخلاقية فلسفة تربوية عقلانية من حيث المنهج ونقدية من حيث المضمون ورواقية من حيث الغاية .
في كتابه (اقوال في التربية) يعلمنا (الان) ان الدرس الفلسفي في جوهره تربية على التفكير النقدي الحر والأخطاء التي نقف عليها عندما نستمع الى التلميذ او نصحح له لا تعود الى نقص العقل وانما نقص في إرادة التعلم وغلبة الاهواء فجميع التلاميذ اذكياء متى أرادوا والأستاذ لا يجب النظر اليه على انه خبير في تلقين المعارف بل خبير في الانفعالات يشحذ الهمم من خلال تقدير الجهود وغرس إرادة التعلم والكتاب هو الوسيط الأساسي للحصول عليها من خلال قراءة النصوص الفلسفية المكتوبة ومن خلال الرجوع الى مؤلفين كبار ومن خلال جمل فلسفية مختصرة اكثر ثراء وعمقا فلا يمكن ان يحدث تقدم في الدرس الفلسفي بدون اعجاب واجلال دع التلاميذ يستمعون إلى الأشياء الجميلة، مثل الموسيقى وسماع بيتهوفن ، ذلك هو التأمل الأول. ... دعهم يرون رسومات دافينشي، مايكل أنجلو، رافائيل؛ دعهم يتعلمون اللغة من قبل المؤلفين العظماء، وليس غير ذلك. من خلال أضيق وأغنى وأعمق الجمل، وليس من خلال هراء دليل المقالات الجاهزة. لا يوجد تقدم لأي تلميذ في العالم، لا فيما يسمعه ولا فيما يراه، ولكن فقط فيما يفعله.
- نريد من خلال الدرس الفلسفي أن يشعر التلميذ بجهله الشديد، وبعده الشديد، ونقصه الشديد، وصغره الشديد، نريده أن يساعد نفسه على النظام الإنساني؛ أن يتعلم الاحترام، لأن الاحترام يجعلنا عظماء لا صغاراً. دعه يتصور الطموح العظيم، والعزم العظيم، من خلال التواضع العظيم. دعه يضبط نفسه ويصنع نفسه؛ فليجتهد دائماً، وليتسلق دائماً. ليتعلم الأمور السهلة بالطريقة الصعبة.
- التعلم يقتضي الشدة فهو عمل جدي يجب فصله عن التسلية واللعب والعظمة تبدأ من بناء دروس فلسفية ونظام امتحانات تغرس في التلميذ الانضباط والصرامة اما التيسير بدعوى ترغيب التلميذ وارضاء الاسرة فهي دعوة للكسل ولا أحد ينقذ نفسه من خلال كمال الاخرين بل باكتشاف اخطائه الخاصة وتصحيحها.
- الدرس الفلسفي يبنى في كل الأحوال من خلال الرجوع إلى المصدر والشرب من جوف اليد، وليس من كأس مستعار. خذ دائمًا الفكرة كما صاغها المبدع؛ ودائما ما تكون الأفضلية لما هو جميل على ما هو حقيقي؛ لأن الذوق هو الذي ينير الحكم دائمًا. الأفضل من ذلك، اختر الأقدم ...إن الجمال هو علامة الحقيقة، والوجود الأول للحقيقة في كل إنسان، فنحن نعرف الانسان في نصوص الفلاسفة وفي قصص موليير وشكسبير وبلزاك وفي اشعار المتنبي، وليس في أي ملخص لعلم النفس.
- أفضل ما في العلم هو ما هو أقدم، وأكثر رسوخًا، وأكثر دراية للجميع من خلال الممارسة. إن الخطأ ذو العواقب الجسيمة هو أن نرغب في تعليم التلاميذ من خلال تلخيص أحدث الخلافات بين علماء الفيزياء مثلا.
- إن الواجب الأول للديمقراطية هو العودة إلى المتخلفين، وهم كثيرون؛ لأن النخبة التي لا تقوم بتعليم الشعب هي أكثر ظلماً بحسب المثل الديمقراطي من الشخص الغني الذي يجمع إيجاراته وقسائمه.
- إن جميع وسائل العقل موجودة في اللغة؛ ومن لم يفكر في اللغة فإنه لم يفكر إطلاقا. وبناء على هذه الفكرة، فإننا نفهم بسهولة أن الروح لن تظهر لشخص يعرف لغة واحدة فقط.
- مستقبلنا كله يعتمد على التعليم؛ والتعليم يعتمد على الرسم. فلا شيء يجعلنا نعرف طبيعة الطفل وشخصيته أفضل من الرسم.. الطفل في اللحظة التي يرسم فيها، يصبح سيد يده... لقد لوحظ أن أفضل التلاميذ في المدرسة الابتدائية يرسمون ويحسبون جيدا.
- لقد لاحظت أنه في الثكنات انهم لا يشرح فقط بأسلوب واضح ماهية البندقية؛ ولكن كل شخص مدعو إلى تفكيك البندقية وإعادة تجميعها... هذه الفعل لاوجود له في فصولنا، ربما لأن الاستاذ معجب بنفسه اثناء التحدث؛ ربما لأن حياته المهنية كلها تعتمد على هذه الموهبة التي يبديها للتحدث بمفرده لفترة طويلة.
- يحدث أن المعلمين، وخاصة الشباب منهم، يستمتعون بالخطاب؛ والطلاب ليسوا أقل سعادة بالاستماع؛ إنها خدعة الكسل. ولكن لا أحد يتعلم من خلال الاستماع؛ إننا نتعلم من خلال القراءة...... ومن هنا أعود إلى فكرتي، وهي أننا يجب أن نساعد الطفل، ونرشده ونعيده، وأنه من خلال هذا سوف نتمكن في النهاية من إخراج فكره الخاص، وهو شيء نادر.... أن تكتب، ليس بسرعة، بل على العكس، بحذر النقاش؛ أرسم هوامش جميلة على دفتر جميل؛ نسخ الصيغ الكاملة والمتوازنة والجميلة، هذا هو العمل السعيد والمرن، الذي يصنع العش للفكرة. هناك جمباز الكتابة، الذي يظهر في الشكل والمخطط، والذي يعد علامة على الثقافة
- يجب أن تتغلغل الروح العلمية في كل مكان؛ لا أقول العلم، بل الروح العلمية؛ لأن العلم يشكل كتلة ساحقة؛ وأعماله الأخيرة، عن الضوء، والكهرباء، وحركة الجسيمات، تفترض حسابات معقدة وتجارب خارجة عن المألوف تمامًا؛ ومن الواضح تمامًا أن الأبحاث المتعلقة بالراديوم غير قادرة حتى الآن على تسليط الضوء على العقول الشابة التي ليس لديها الوقت الكافي للدراسة.
- كنت أمارس هذا الأمر مع الشباب، فأسأل على سبيل المثال: "الرواية هي مرآة نحملها على طول الطريق؛ من قال ذلك وأين؟ أو: "أبحث لي عن قول أفلاطون، أبحث لي عما يقوله أرسطو عن المرأة والحاجة إلى الطاع سيكون الأمر مجرد القفز وفتح الكتاب دون تردد ووضع إصبعك على الشيء. لا أريد أية ملاحظات أو بطاقات فهرس أو أدلة؛ لأنه من الضروري القراءة وإعادة القراءة، وأخيراً التعرف على الصفحات الشهيرة .....
- عندما أقرأ هوميروس، أكون في صحبة الشاعر، وفي صحبة يوليسيس وأخيل، وفي صحبة حشد من الذين قرأوا هذه القصائد، وفي صحبة حشد من الذين سمعوا فقط اسم الشاعر. فيهم جميعاً وفي داخلي أصنع الرنين البشري، وأسمع خطوات الإنسان.
***
علي عمرون

 

تعرف الأحلام في علم النفس، بأنها أي أفكار أو صور أو عواطف يختبرها الشخص أثناء النوم. لم يتفق علماء النفس بعد على سبب أحلامنا وماذا تعني هذه الأحلام، ولكن هناك العديد من النظريات المهمة.
نظرية فرويد للتحليل النفسي للأحلام يعتقد سيغموند فرويد أن محتويات أحلامنا مرتبطة بأرضاء الرغبات، وأن أحلامنا تمثل أفكار ودوافع ورغبات اللاوعي لدينا. علاوة على ذلك اعتقد فرويد أن الغرائز الجنسية التي يقمعها الوعي تظهر في أحلامنا. في كتاب فرويد، تفسير الأحلام، قسم فرويد الأحلام إلى مكونين:
المحتوى الواضح او الظاهر- الأفكار والمحتوى والصور الفعلية التي نشاهدها في الحلم.
المحتوى الكامن او المخفي- المعنى النفسي المخفي وراء الأحلام، قسمه فرويد وصولا الى ما وراء الحلم إلى خمسة أجزاء متميزة: الإزاحة: عندما يتم تمثيل الرغبة في شيء ما من قبل شيء ما أو شخص آخر. الإسقاط: عندما يتم دفع رغبات الحالم إلى شخص آخر في الحلم. الترميز: عندم يتم تمثيل التصرف المجازي في الحلم. التكثيف: عندما يتم ضغط الكثير من المعلومات في صورة أو فكرة واحدة، مما يجعل من الصعب فك تشفير المعنى. المراجعة الثانوية: المرحلة الأخيرة من الحلم، حيث يتم إعادة تنظيم العناصر غير المتماسكة في حلم قابل للتعبير.
بينما دحضت الأبحاث نظرية فرويد عن المحتوى الكامن الذي يتنكر خلف المحتوى الواضح او الظاهر، فإن عمل سيغموند فرويد ساهم بشكل كبير في الاهتمام بمجال تفسير الأحلام. يعتبر ما قام به فرويد في تفسير الاحلام محطة هامة في تاريخ علم النفس حيث فتح الباب امام وضع تفسير علمي للأحلام من منظور علم النفس وبذلك تجاوزت البشرية التفسيرات الغيبية والأدبية للأحلام .
نظرية كارل يونغ في الأحلام بينما كان يونغ يؤمن بالكثير مما اقترحه فرويد بما يتعلق بالأحلام، اعتقد يونغ أن الأحلام لم تكن مجرد تعبير عن الرغبات المكبوتة، ولكنها عوضت أيضا عن تلك الأجزاء من النفس التي كانت متخلفة أثناء حياة اليقظة. يعتقد يونغ أيضا أن الأحلام تكشف عن اللاوعي الجماعي واللاوعي الشخصي، وتظهر لنا النماذج الأصلية التي كانت تمثل أفكار غير واعية.
نموذج التنشيط والتوليف للحلم في عام 1977، أنشأ روبرت مكارلي وج آلان هوبسون نموذج التنشيط والتوليف، حيث اقترحوا أن الأحلام ناتجة عن العمليات الفسيولوجية للدماغ.
وفقا لنموذج التنشيط والتوليف،فأنه خلال المرحلة الأخيرة من دورة النوم المعروفة باسم نوم حركة العين السريعة (REM)، تنشط الدوائر داخل جذع الدماغ، والتي بدورها تنشط أجزاء من الجهاز الحافي تلعب دورا رئيسيا في الذاكرة والإحساس والعاطفة. ثم يحاول الدماغ إنتاج معنى من هذا النشاط الداخلي، مما يؤدي إلى الأحلام. عندما ظهر نموذج التنشيط والتوليف، قوبل بمعارضة في داخل علم النفس، وخاصة من قبل أولئك الذين درسوا تعاليم فرويد.
نظرية هول في الاحلام اقترح عالم النفس كالفن اس هول أن الهدف من تفسير الحلم هو فهم الفرد الذي يحلم، وليس مجرد فهم الحلم نفسه. ادعى هول أن تفسير الأحلام بشكل صحيح يتطلب فهم عدة عناصر وهي: الإجراءات التي يشارك فيها الحالم داخل الحلم، أي أشكال أو أشياء تظهر في الحلم، جميع التفاعلات التي تحدث بين الحالم والشخصيات داخل الحلم، إعدادات الحلم، أي انتقالات تحدث داخل الحلم، نتيجة الحلم.
نظرية دومهوف في الأحلام درس ويليام دومهوف تحت إشراف كالفن هول، وتوصل إلى استنتاج مفاده أن الأحلام هي في الواقع انعكاسات لأي أفكار أو مخاوف تحدث أثناء حياة اليقظة للفرد الذي يحلم. وفقا لنظرية دومهوف، فإن الأحلام هي نتيجة العمليات العصبية.
الموضوعات الشائعة الموجودة في الاحلام فيما يلي عشرة من أكثر الموضوعات شيوعا التي يختبرها الناس أثناء الحلم، بالإضافة إلى المعاني المحتملة لهذه الموضوعات وفقا لنظرية فرويد.
1. إجراء اختبار وكنت تشعر أنك لم تكن مستعدا له: هذا النوع من الأحلام لا يتعلق فقط بالاختبار الأكاديمي، وعادة ما يكون خاصا بالحالم. يتعلق هذا النوع من الأحلام مع الشعور بالتعرض لموقف، وقد يرمز الاختبار إلى الحكم على الشخص الحالم أو تقييمه من قبل شخص آخر.
2. أن تكون عاريا أو ترتدي ملابس غير لائقة: يتعلق هذا النوع من الأحلام بمشاعر الخجل أو الضعف.
3. المطاردة أو الهجوم: هذا النوع من الأحلام أكثر شيوعا عند الأطفال، الذين تميل أحلامهم إلى التركيز على المخاوف الجسدية بدلا من المخاوف الاجتماعية. يمكن أن يجعلهم حجمهم يشعرون في كثير من الأحيان بأنهم ضعفاء جسديا. في البالغين، يمكن أن يكون هذا النوع من الأحلام علامة على التعرض للضغط.
4. السقوط: يمكن أن يمثل السقوط شعورا بالإرهاق الشديد من وضعك الحالي وفقدان السيطرة.
5. الضياع في المرور: غالبا ما يمثل هذا الشعور بالضياع، أومحاولة الحصول على شيء ما أو العثور على طريقك وعدم التأكد من كيفية القيام بذلك.
6. فقدان سن: يمكن أن يمثل هذا شعورا بأنك (غير مسموع أو غير مرئي) في علاقة شخصية أي كما نقول في العراقي ملبوس، أو مشاعر عدوانية.
7. الكوارث الطبيعية: يمكن أن يشير هذا إلى الشعور بالإرهاق الشديد من المشاكل السابقة لدرجة أنه يبدو أنها تخرج عن نطاق السيطرة.
8. الطيران: يمكن أن يمثل هذا الرغبة في الهروب أو التحرر من الموقف.
9. الموت أو الإصابة: يمكن أن يمثل هذا شيئا في الحياة اليومية للحالم لم يعد يزدهر أو بدأ يذبل، مثل علاقة شخصية أو سمة شخصية، ولا يعني بالضرورة أفكارا حقيقية عن الموت.
10. فقدان السيطرة على السيارة: يمكن أن ينتج هذا النوع من الأحلام عن مشاعر التوتر والخوف، وعدم الشعور بالسيطرة على الحياة اليومية.
في حين أن علماء النفس لا يزالون لا يفهمون الأحلام تماما، فإن تفسيرهم يضع مفتاح في علم النفس الحديث. من تفسير فرويد لتحليل الأحلام والذي يشير إلى أن الأحلام مرتبطة باللاوعي وتمثل رغباتنا المكبوتة، إلى عمل ويليام دومهوف الذي اعتقد أن الأحلام كانت مجرد نتيجة للعمليات العصبية، أن فهم سبب حدوث الأحلام والمعاني المحتملة وراء ذلك لا تزال جزءا مهما جدا من علم النفس.
***
د احمد مغير

 

من خلال كل لغة، تفرض الثقافة منظومتها الخاصة من المعاني والمفاهيم. ولكن وراء كل لغة، توجد أيديولوجيا معينة، كما أشار جيرمي بيثام حين قال: “اللغة هي أداة الهيمنة”. وهذا لا يعني أن اللغة مجرد أداة لنقل الأفكار، بل هي التي تشكّل هذه الأفكار في الأساس.
هذا المفهوم يتجاوز مسألة الترجمة التي نتصورها ببساطة عملية نقل كلمات من لغة إلى أخرى؛ إنها في واقع الأمر عملية إعادة تشكيل للمعاني ضمن سياق ثقافي واجتماعي مختلف. وتُظهر هذه العملية كيف أن ما نعتقد أنه مجرد ترجمة، هو في الحقيقة عملية إعادة تشكيل دائمة للمعاني عبر لغات وثقافات مختلفة. وعلى الرغم من محاولات الترجمة، تبقى هذه الفجوات بين اللغات والثقافات عصية على أن تُملأ بالكامل، لأن كل لغة تشكّل رؤية خاصة للعالم، وهذه الرؤى لا تلتقي بسهولة، بل تحمل في طياتها اختلافات تجعل الفهم المتبادل أمرًا صعبًا، إن لم يكن مستحيلًا.
اللغة ليست مجرد وسيلة لتبادل الأفكار والمعلومات، بل هي الأداة التي تشكّل طريقة تفكيرنا وتوجيه رؤانا للواقع. وبذلك، فإن اللغة تشكّل نظرتنا للعالم من خلال الأطر الثقافية التي تحملها، مما يجعل كل لغة بمثابة مرآة تعكس القيم والمفاهيم التي تتبنّاها الثقافة التي تنتمي إليها. ولكن هذه الرؤى لا تقتصر على كونها نسخًا ثابتة من الحقائق، بل هي ديناميكية ومتغيرة، تتأثر بالظروف الاجتماعية والسياسية التي تعيشها المجتمعات، فتتشكّل عبرها معاني جديدة وتختفي أخرى.
ومن هنا، تصبح اللغة أحد أبرز الأدوات التي تستخدمها القوى الاجتماعية لتشكيل الوعي الجماعي، وبالتالي، لتشكيل الواقع نفسه. وعندما ننظر إلى اللغة بهذه الطريقة، يمكننا أن ندرك كيف أن الفجوات بين اللغات والثقافات ليست مجرد مشكلات تتعلق بالترجمة أو الفهم، بل هي ظاهرة ثقافية تتعمق في الأسس التي تقوم عليها المجتمعات.
وإذا كانت اللغة تشكل الواقع وتحدد حدود الفكر، فإن فكرة فيتجنشتاين الشهيرة: “حدود لغتي هي حدود عالمي” تبقى محورية في فهم هذه الديناميكيات. فهذه الحدود لا تمثل فقط قيودًا لغوية، بل هي دعوة للتفكير في مدى تأثير هذه القيود على قدرتنا على الفهم والتفاهم عبر الثقافات. فاللغة لا تقتصر على نقل الأفكار كما هي، بل هي في الواقع قيدٌ مفروضٌ على الفكر ذاته، وهي تعكس في الأساس طريقة تفكير الثقافة التي تنتج هذه اللغة.
ومن هنا، فإن تأثير اللغة على فكرنا لا يمكن تجاهله. إذا كانت اللغة هي التي تشكّل وعي الفرد، فإنها تخلق أيضًا واقعًا مفروضًا عليه.
هذه الفجوة في المعاني التي تتجاوز مجرد الاختلافات اللغوية هي جوهر الصعوبة في التواصل بين الثقافات. فالفجوات بين اللغات تعكس أيضًا الفجوات بين الأيديولوجيات والقيم التي تؤثر في مجتمعات معينة. فعندما يتم التعبير عن الأفكار بلغة معينة، تصبح تلك الأفكار محكومة بإطار مرجعي خاص، وهذا يجعل ترجمة هذه الأفكار إلى لغة أخرى عملية معقدة. إنها ليست مجرد نقل للكلمات، بل هي إعادة بناء للمعاني والتصورات التي قد تكون مشوهة أو مغلوطة عندما تُترجم، مما يؤدي إلى أن الفهم المتبادل بين ثقافات مختلفة يصبح أمرًا صعبًا للغاية.
تتفاقم هذه الديناميكيات في عصر العولمة، حيث تساهم السوق الرأسمالية في إعادة تشكيل المفاهيم والمصطلحات لتتماشى مع منطق الاستهلاك. في هذا السياق، تصبح اللغة أداة لتوحيد المفاهيم والواقع، لكنها في ذات الوقت تُستخدم لقمع التنوع الثقافي الذي يعارض الهيمنة اللغوية السائدة. كما يقول جان بودريار: “الواقع لم يعد يمثل شيئًا إلا ما يُنتج من خلال اللغة”، مما يعني أن الواقع نفسه يتم تشكيله وفقًا للغة السائدة في المجتمع الرأسمالي، التي تجعله سلعة تستهلك وتُعاد إنتاجها بما يتناسب مع منطق السوق. وفي هذه العملية، يتم تهميش الثقافات التي لا تستطيع مواكبة هذا التوحيد اللغوي، مما يعزز الهيمنة اللغوية ويضعف التنوع الثقافي.
في هذا السياق، يُظهر تأثير السوق الرأسمالية على اللغة كيف أن الأنظمة الاقتصادية الكبرى لا تقتصر فقط على السيطرة على الموارد الاقتصادية، بل تمتد إلى السيطرة على الأفكار والمفاهيم من خلال لغة السوق. حيث تُستخدم اللغة هنا كأداة لفرض هياكل قوى معينة على المجتمعات، سواء عبر الإعلام أو الإعلانات أو أدوات أخرى تُستخدم لترسيخ فهم موحد للواقع.
في هذا السياق، تصبح اللغة أداة لخلق نوع من الانصهار الثقافي، مما يؤدي إلى التقليل من قيمة التنوع الثقافي واللغوي الذي يشكل جوهر غنى الإنسان.
إذن، هل يمكن تجاوز الحدود التي تضعها اللغة؟ من المؤكد أن الإنسان لا يمكنه الهروب من “شباك اللغة”، ولكن يمكنه بالتأكيد أن يعيد تشكيل هذه اللغة، أن يلتف حول قيودها ليفتح أبوابًا جديدة للمعنى. في هذا السياق، يبدو أن الفن هو المسار الذي يمكن من خلاله تجاوز هيمنة اللغة. الفن لا يتقيد بقواعد ثابتة، بل يتلاعب بالمعنى ذاته، ويعيد تشكيله بما يتجاوز الأطر التقليدية للغة. فكما يظهر في أعمال جاك دريدا، لا يُعتبر الفن خروجًا عن اللغة، بل هو إعادة إنتاج لها بطريقة تفكك البنى الثابتة، وتفتح الفضاءات لتأويلات جديدة، لا تتقيد بقوالب مفاهيمية محددة.
الفن في هذا السياق يصبح أداة لتفكيك الهيمنة الرمزية التي تفرضها اللغة، ويمنحنا فرصة لإعادة التفكير في معاني العالم وفقًا لآفاق أوسع وأكثر تحررًا.
عندما نستخدم الفن للتعامل مع اللغة، ننتقل من مجرد كوننا مستهلكين للمعاني الثقافية إلى أن نصبح مبدعين ومبتكرين في إعادة تشكيل هذه المعاني. الفن يخلق مساحة للحرية والإبداع حيث لا تكون اللغة أداة للتسلط أو الهيمنة، بل وسيلة لفهم العالم بشكل غير تقليدي.
في هذا الإطار، يصبح الفن ليس فقط وسيلة لتجاوز القيود التي تفرضها اللغة، بل أيضًا وسيلة لرؤية العالم بشكل جديد، يفكك التفسيرات السائدة ويخلق إمكانيات جديدة للفهم.
اللغة، إذا، ليست محايدة أو شفافة كما قد يعتقد البعض، بل هي تحمل في جوهرها هيمنة ثقافية تتخلل كل مفردة، وتفرض حدودًا على الفكر. ورغم ذلك، تبقى هناك ثغرات يمكن من خلالها فتح مساحات جديدة من المعنى، وهذا ما يجب أن نبحث عنه: الفجوات الصغيرة التي يمكن أن ينفلت منها المعنى، والتي قد تمنحنا القدرة على تجاوز الهيمنة الرمزية التي تفرضها اللغة على أفكارنا. ومع هذه الثغرات، قد نتمكن من إعادة بناء الواقع بشكل يتجاوز التفسيرات المحدودة التي تفرضها اللغة على فهمنا للعالم.
***
إبراهيم برسي – باحث سوداني

كل مفكّر وفيلسوف على مرّ التاريخ، خصوصاً أكثرهم تأثيراً على الثقافة العامة من جهة، وعلى تطور الفكر والعلم من الجهة الأخرى، كانوا جميعاً يحملون الكثير من التناقضات في فلسفاتهم، ويبدو للقارئ للوهلة الأولى، وكأن على الإنسان أن لا يتناقض مع نفسه، وخاصةً إذا كان فيلسوفاً!
في هذه المقالة، نأمل أن نصل إلى شيءٍ من المنطق والمعقولية وراء تناقضات المفكرين والفلاسفة في كل العصور، ونسعى إلى تسليط الضوء على الأسباب التي تجعل الكثير من القراء يتسرعون في الحكم على ما يتعرضون له من طرح الفلاسفة، وكيف علينا أن نفتح المجال لتأويلات سياقية وأكثر موضوعية.
أولاً، يُلاحظ أن الإنسان يرى ما يركّز عليه، أي أننا إذا أردنا أن نبحث عن التناقضات، ليس فقط بين صفحات المفكرين، بل أيضاً في كل السرديات القديمة وأمهات الكتب، قد نجد الكثير من التناقضات، والأقوال التي تبدو ظاهريًا وكأنها تناقض العقل، ولكن مع التأمل الصافي، ودراسة السياق الذي بعثت الفلسفة للحياة، يعي الإنسان الشروط الطبيعية التي من خلالها سُردت هذا الكتب بهذه الطريقة أو تلك، سواءً كنا نتفق معها أم لا نتفق.
ثانياً، أيّ كاتبٍ هو إنسانٌ في نهاية المطاف، ومن الطبيعي مع النضوج ومرور السنين والعقود، أن يتجاوز آراء قد تبنّاها في شبابه، ثم في آخر حياته يوصّل إلى أنها كانت خاطئة، أو على الأقل لا تستريح نفسه لها كنتائج لتفسير ظاهرةٍ ما. وهذا لا يعني أن الحكم "الموضوعي" يقرّ بوجود تناقض، بل الأصح من حيث الفهم هو إدراك أن الإنسانية من حيث هي تعيش تراكمًا وتكاملًا معرفيًا؛ والفلاسفة من حيث هم يعرضون أعمالهم عبر كتب ومقالات، يكونون أكثر عرضةً للتناقض من غيرهم، أو لإعادة الكتابة حول بعض ما سبق أن طرحوه؛ وهنا قد يظهر بعض الخلاف، لا التناقض بالضرورة، بين ما توصّلوا إليه لاحقاً وما كتبوه في بداية مسيرتهم.
أيضاً، إضافة على هذه النقطة، فإن كثيرًا مما يبدو تناقضًا، قد يكون توسعةً لما اختزله المفكر من قبل. على سبيل المثال، قد يكتب كاتبٌ كتابًا حول: أسباب سقوط الحضارة الرومانية، ويعرض فيه ثلاثة أسباب رئيسية. مع مرور الوقت، يُدرك الكاتب، أن كلامه كان صحيحاً جزئيًا فقط، أي أنه أختزل الحقيقة من حيث هي أوسع من هذه الثلاث الأسباب التي لا تمثل تفسيراً متكاملاً لهذه القضية الكبرى. وقد يعتقد البعض أن الكتاب الآخر (إذا كُتب) يناقض الكتاب الأول، لكنه في الواقع يمثل تطورًا وتوسيعًا للبحث، وعبر هذا التوسيع قد يحصل التناقض بين فكرة قديمة وأخرى حديثة.
وهكذا نفهم أن الاستنتاج بوجود تناقض من عدمه، قد يكون صحيحاً، وغالباً لا يكون كذلك. فمهمة القارىء أن يتأكد من فهم النص أولاً، ثم يُصدر حكمًا موضوعيًا ثانياً. وهذا ليس بالأمر الصعب على من تعوّد على فنّ القراءة النقدية.
ثالثاً، كما ذكرنا آنفًا، فإن الإنسان من حيث هو كائنٌ متناقض، قد يتناقض مع نفسه في اليوم والليلة! وهذا يحصل كثيراً عندما نُركّز على تقلبات الأحداث والتجارب وعلى أثرها في تراكم معارفنا ومعتقداتنا ونظرتنا للأمور.
وهنا علينا أن ندرك أمراً مهماً يغفل عنه الكثير من القراء، وحتى الباحثين أحيانًا، وهو أن التناقض لا يعني أن يتناقض الكاتب مرة أو مرتين أو ثلاثًا في كتابٍ ما. فإذا كانت نسبة التناغم والانسجام في نسق تفكير الكاتب تصل إلى ٧٥٪؜ فما فوق، فلا يصح اعتباره كاتبًا متناقضًا، حتى وإن وجُدت بعض التناقضات في نفس الكتاب (إن افترضنا وجودها أصلًا).
أيضاً، من المهم أن نتذكّر أن التناقض يُقاس بمن خلال الأفكار الرئيسية التي تُمثل جوهر فلسفة الكاتب ونسقه الفكري، لا من خلال الأفكار الثانوية التي قد لا تكون ذات أهمية من حيث الدقة، أو التي لم يمنحها الكاتب ما يكفي من التأمل. فمثل هذا يعدّ أقرب إلى التعجّل العلمي منه إلى التناقض الحقيقي.
تمامًا لما سلف، أعتقد أنه لا مناص من التناقض من حيث إن المعرفة تراكم وتقييم وحذف. ولا يمكن بأيّ شكلٍ من الأشكال أن نجد فيلسوفاً، أو مفكراً، أو عالماً، أو أديباً وشاعراً، لم يتناقض مع طرحه، ولو على مستوى بسيط.
وهذا لا يُعدّ عيبًا في الكاتب، بل على العكس، يدل ذلك على أنه كثير القراءة والتفكير، ولذلك تظهر عنده التناقضات. كما أن في ذلك إشارة على تقدّمه على المستوى المفاهيمي والفلسفي. وأنه لم يتوقف عند فهمه الأول للقضايا التي يعالجها.
ويمكننا القول إن من لا يتناقض مع نفسه أبداً، لم يُفكّر أبداً. والمعرفة في جوهرها، سلسلة لا تنتهي من التصحيح والتكامل؛ وهذا ما يجعل من البنيان المعرفي جسداً واحداً، أشبه بلوحة عريضة يمكن لكلًّ منا أن يُساهم فيها أو يُعدّل عليها، بعلمٍ وموضوعية ومحبة!
***
خالد اليماني

مقدمة: ان عدم المساواة الاقتصادية ظاهرة عالمية لها عواقب كبيرة على التنمية الاجتماعية. ويمكن أن تؤدي الاختلافات في الدخل والثروة إلى اضطرابات اجتماعية وانخفاض النمو الاقتصادي وإضعاف الثقة في المؤسسات. ستستكشف هذه المقالة كيف يؤثر عدم المساواة الاقتصادية على جوانب مختلفة من المجتمع ، من الحراك الاجتماعي إلى الاستقرار السياسي ومن حيث:
1. النمو الاقتصادي والإنتاجية:
يمكن أن تكون درجة معينة من عدم المساواة قوة دافعة للابتكار والعمل الجاد. ولكن حينما يصبح عدم المساواة كبيرا للغاية، يمكن أن يعيق النمو الاقتصادي من خلال الحد من الوصول إلى التعليم والخدمات الصحية للفئات ذات الدخل المنخفض. هذا يقلل من إمكانات القوى العاملة ويمكن أن يخلق نظاما اقتصاديا غير فعال حيث لا يتم تخصيص الموارد على النحو الأمثل.
2. الحراك الاجتماعي والتعليم:
غالبا ما يقلل التفاوت الاقتصادي المرتفع من الحراك الاجتماعي، أي فرصة الأفراد لتحسين وضعهم المالي. التعليم هو وسيلة مهمة للخروج من الفقر، ولكن إذا كانت الموارد مثل التعليم الجيد والشبكات متاحة بشكل أساسي للأثرياء، فإن عدم المساواة يترسخ على مر الأجيال ويمكن أن يخلق دائما انقساما طبقيا اقتصاديا.
3. الصحة والظروف المعيشية:
هناك علاقة قوية بين عدم المساواة الاقتصادية وعدم المساواة الصحية. غالبا ما يكون لدى الفئات ذات الدخل المنخفض فرص أقل للحصول على الرعاية الصحية والغذاء الصحي، مما يؤدي إلى تقليص متوسط العمر المتوقع وزيادة عبء الأمراض. ويمكن أن يؤدي ذلك إلى زيادة العبء على الخدمات الصحة العامة وزيادة التكاليف التي يتحملها المجتمع.
4. الاستقرار السياسي والثقة:
يمكن لعدم المساواة الشديدة أن يقوض الديمقراطية من خلال منح الأغنياء قدرا غير متناسب من النفوذ السياسي. ويمكن أن يؤدي هذا إلى قرارات تصب في صالح الأثرياء بالفعل، مما يزيد من تفاقم عدم المساواة. كما يمكن أن يؤدي انخفاض الثقة في السلطات والمؤسسات إلى اضطرابات اجتماعية ومظاهرات وفي الحالات القصوى إلى التطرف السياسي.
5. الجريمة والاضطرابات الاجتماعية:
تشير الدراسات الاجتماعية - الاقتصادية إلى أن المجتمعات ذات التفاوت الاقتصادي المرتفع لديها معدلات جريمة أعلى. وبالأخص عندما تعاني أجزاء كبيرة من السكان من نقص في الفرص الاقتصادية، إذ يمكن أن يخلق ذلك أرضا خصبة للجريمة كمصدر بديل للدخل. وهذا يؤدي إلى ارتفاع التكاليف المتعلقة بالشرطة والقضاء والسجون.
6. الحلول والتدابير:
وللحد من الآثار السلبية لعدم المساواة الاقتصادية، يمكن للحكومات أن تضع تدابير مثل الضرائب التصاعدية، وتحسين فرص الحصول على التعليم والرعاية الصحية، فضلا عن السياسات التي تعزز النمو الاقتصادي الشامل. كما يمكن أن يساعد تعزيز سوق العمل ونمو الأجور للفئات ذات الدخل المنخفض في الحد من التفاوتات الطبقية.
استنتاج
ونستنتج مما ورد أعلاه من أن عدم المساواة الاقتصادية هي تحد معقد يؤثر على جميع جوانب التنمية الاجتماعية. في حين أن بعض عدم المساواة يمكن أن يكون إيجابيا للنمو الاقتصادي، إلا أن الاختلافات الكبيرة جدا يمكن أن تضعف الحراك الاجتماعي والصحة والاستقرار السياسي والثقة المتبادلة بين الطبقات الاجتماعية. ولإيجاد مجتمع أكثر عدلا واستدامة، يجب اتخاذ تدابير للحد من الآثار الضارة لعدم المساواة مع الحفاظ على حوافز التنمية الاقتصادية.
***
د. سناء عبد القادر مصطفى

"الجمال يولد بأشكال عديدة، فقط غيّر زاويتك وستراه في كل مكان" (س. فرويد)
الجمال مفتتح كل بداية، ومفتتح الوجود جمال.

1 ـ بعيداً عن التعقيد..
بعيدا عن الفلسفة وشطحاتها، وأسئلتها المقلقة حول الوجود والموجودات، وهي تزيد الجمال تعقيدا حين تحاول تفسيره تفاسير تُرضي الآلهة، وتُسكنه كتب وحكايات الملاحم والبطولات، بعيدا عن الشعر وهذيانه حين يتغنى بالجمال كلمات وصورا تُخندقه ولعا وشوقا وحرقات ودموعا ولهفة، تموت خنقا داخل الدواوين وعلى الأوراق.
بعيدا عن تلاوين الرسامين وشخبطات ريشاتهم المسافرة في اللون، وهي تُحيل الجمال خطوطا وخربشات تزيده تعقيدا حين تصبغه بأسماء المدارس، تكعيبا وتجريدا وواقعا، تعتمد اللون وضرب اللوحة، ثوبا أو حريرا، قاموسا وفنّاً.
بعيدا عن سرحان المريدين والعابدين والحالمين الباحثين عن الجمال في حلقات الذكر والتمسُّح بالأعتاب والتبرك باللحود والكرامات، بعيدا عن كراسي المدارس والمعاهد التي تُقزّم الجمال في جُمل وكلمات جوفاء تزرعها في قلوب المتعلمين كلاما وتمارين وأنشطة، بعيدا عن مراتع القُبح الذي غطى أبسط تفاصيل حياتنا، حتى أنمحى الجمال منا وفينا ومن بيننا، وأصبح غريبا، عملة نادرة، بل مفقودة، فلا نجده إلا مخبوءاً تحت مُسمّيات العيْب والحياء.
بعيدا عن النظرة القاصرة للجمال التي تراه في حوَر عينٍ أو زُرقتها، أو أهداب ناعسة، أو قدّ ميّاس أو نهدٍ كاعبٍ نافرٍ يثير الشَّهوة، بعيدا عن التعقيد والتّصنّع، والرياء والتظاهر والتفاخر الكاذب، فتلك نظرة كسيحة للجمال، بائسة وجيعة تبخس سر الجمال، وقيمة الجمال، لأن الجمال في حقيقته المثلى، قيمة تسمو بالإنسان والوجود.
2 ـ قريبا من الجمال..
نظرة إلينا، إلى محيطنا، إلى واقعنا، إلى ما نحن فيه من دُنُوٍّ من القُبح، تحكي بما لا يدع مجالا للريبة والشك، أن الجمال عندنا ـ للأسف ـ تقليدٌ أعمى، تظاهرٌ كاذب، امرأة بمواصفات دنيئة، وما سوى ذلك، عادي، لا جمال فيه، تلك نظرة فيها حوَل، عوَر، فيها عمش، نظرة بائسة لا تسبر غور الأشياء، ولا تنفذ عمقها لتستخرج لبها.
الجمال في حقيقته أكبر من ذلك وأسمى، ليس تعاريف تُعطى مزخرفة بالمُحسّن من الكلام، ولا مصطلحات أدبية أو شعرية تُقال مُنمّقة بأجمل الصور الشعرية، فالجمال أنبل من أن يُخنق أو يُخنْدق في خانة ضيقة تُحاصر سره وحقيقته وجوهره، إذ ليس من الجمال في شيء، أن ترى القبح يتقمّص كل الصور ويلبس كل الأقنعة وتمر عليه هازئا صامتا، كأن الأمر لا يعْنيك؛ ليس من الجمال في شيء، أن تبتسم لي وقلبك عامر بالحقد والحسد والغدر والمكر، وتقول : الزمان للأقوى؛ ليس من الجمال في شيء، أن تحفر الحفر وتتفنن في توسيعها ليسقط فيها آخرون؛ ليس من الجمال في شيء، أن ترفض الاختلاف، فَمَنْ معك معك، ومن ليس معك فهو ضدك، عدوّك، تحاربه ولا تناقشه.
الجمال منّا على مرمى كلمة صادقة، أو فعل إيجابي يدفع ويبني، أو إشارة لطيفة تحيي موات القلوب وتحيي الحب من جديد، أو ابتسامة ترمّمُ الجراح، أوحين نُفرغ حياتنا من تعقيداتها القاتلة، وروتينها الممجوج والمَكْرور والمتآكل والصدئ، ونفسح للجمال أن يمتد فينا، وأن يطمس القبح الذي تحكّم فينا وتجذّر، وأصبح قاعدة، والجمال استثناء، شُبهة تجر القيل والقال وكثرة السؤال، ونظرات الريبة، حينها فقط، يمكن للجمال ان يشع نورا يضيئ ما أُعتم من حياتنا.
الجمال فينا متأصل وأصل، وهو بداية الخلق: "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم"(سورة التين الآية 4) التقويم هنا الحسن والجمال، "ولقد كرمنا بني آدم.." (سورة الإسراء الآية 70) من التكريم الحسن والجمال أيضا، وغير هذه الآيات كثير.
الجمال فينا متأصل وأصل، ينتظر أن نجلو عنه وعن ذواتنا ثقل القبح القابع فينا، أسود يتربص منا جميل الفعل والكلام والإشارة.
الجمال روح تسري فينا في انتظار أن نُقيم صرحها، أن نُحيي نبضها، أن نُنفّس كربها، وأن نُجلي بريقها لتلون الوجود بالنور والحياة، الجمال صمتٌ حين يموت الكلام، وكلامٌ حين يصبح الصمت أثقل من سؤال بليد، الجمال إرهاف السمع للوجود حين يتنفس صُبحا، الجمال هدأة ليل العاشقين والحالمين والباحثين عن رشفة عطر مُنفلتة من عقال زهرة نادرة، الجمال ابتسامة رضيع لا يعرف من دنياه غير ثديٍ معطاء، حبا وحنانا ودفئا، الجمال أن نُحلّق في الرحاب درجات نحو السمو بالنفس والعقل والروح، الجمال كتاب تسبح في فضاءاته، وأنت تتماهى مع شخوص لا تربطك بهم صلة ولا قرابة،
الجمال وقفةٌ عاشقة أمام آية من آيات الخلق الإلهي، تسري فينا فاتحةً مغاليق الإيمان، توقظ السؤال الثاوي في الكمال العلوي.
يسير الجمال بيننا ونحن في غفلة عنه، ننآى عنه وهو منا قريب، على مرمى نظر، ثاوي فينا، شُعلة تُغالب الانطفاء ونحن نجهد لإطفاء جذوتها، أو محاصرتها في خنادق ضيقة حين انتخبنا القبح حارسا يُصبغ داخلنا بالسواد ليحجب عنا النور، فلا ترى الجمال إلا والقبح له رفيق، كظله، ونحن أولاء من نضع الفواصل والنقط، ونغير زوايا رؤانا، ونحن أولاء من يضع للجمال ميزانا وللقبح موازين، رغم أن الجمال فينا أصل، والقبح نحن من يصنعه.
***
ذ. عبد الهادي عبد المطلب - المغرب

 

يهدف المشروع الحداثوي عند أبي حامد الغزالي إلى إعادة صياغة الشخصية الإنسانية الإسلامية كونها العامل الأساسي في البناء الحضاري، ولذلك أعطى اهتمامًا كبيرًا لتربية الإنسان وتزكية أخلاقه، والاعتناء ببناء المؤسسة الاجتماعية بوصفها الفضاء العقائدي والأخلاقي والمعرفي الذي يحيا به الإنسان والذي يحقق فيه رقيَّه الروحي والأخلاقي الذي يرفعه إلى مقام (الإحسان) والذي ينقسم على قسمين:
1- الإحسان الإنساني
2- الإحسان الحضاري
إن الأساس الذي يقوم عليه الإحسان بجانبيه الإنساني والحضاري، هو الوعي بطبيعة العلاقة بين الشريعة والعقل لما في ذلك من أهمية تكمن في استيعاب الشريعة استيعابًا عميقًا، وضبط العقل بروح الشريعة ونصها أدبًا وعلمًا.
تشير الورقة إلى المسارات الأساسية في مشروع الغزالي الفكري عبر ثلاثة محاور كالآتي:
1- مسار العبادة ومنظومة مفاهيمه الإيمانية، يركّز هذا المسار على وحدة العلم والإيمان من خلال التركيز على إدراك أسرار العبادات، وأنموذج رسالته (الحكمة في مخلوقات الله عزّ وجل):
(يا أخي وفقك الله توفيق العارفين، وجمع لك خير الدنيا والدين، إنه لما كان الطريق إلى معرفة الله سبحانه والتعظيم له في مخلوقاته والتفكير في عجائب مصنوعاته، وفهم الحكمة في أنواع مبتدعاته، وكان ذلك هو السبب لرسوخ اليقين، وفيه تقارب درجات المتقين، وضعت هذا الكتاب منبهًا لعقول أرباب الألباب بتعريف وجوه من الحكم والنعم التي يشير إليها معظم آي الكتاب. فإن الله تعالى خلق العقول وكمّل هداها بالوحي وأمر أربابها بالنظر في مخلوقاته والتفكر والاعتبار مما أودعه من العجائب في مصنوعاته، لقوله سبحانه: (قل انظروا ماذا في السموات والأرض) [يونس:101] وقوله: (وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون) [الأنبياء:30] إلى غير ذلك من الآيات البيّنات والدلالات الواضحات التي يفهمها متدبرها، والمترقي في اختلاف معانيها يعظّم المعرفة بالله سبحانه التي هي سبب السعادة، والفوز بما وعد به عباده من الحسنى وزيادة).
وكذلك رسالته (معراج السالكين):
(إخواني نصحت لكم فهل تحبون الناصحين وتحريت رشدكم فهل عليّ إلا البلاغ المبين وما تغني النصيحة. وقد عمّ الداء ومرض الأطباء واستشفى بغير الشفاء واعتيض من البصر بالعمى وخبثت القلوب ورين عليها وعطلت البصائر ونبّ التقصير إليها. واتخذت آيات الله هزوا ولعبا. وصيرت أغراض الآجلة إلى العاجلة سببَا فلا موقظ من غفلة، ولا زاجر عن زلة:


مرضى عن الخيرات في بحر الردى
غرقى فلا داع لنهج أقوام
*
شغفوا بكل رذيلة مذمومة
صرفت وجوههم لوجه الدرهم
*
ناموا عن المقصود لم يستيقظوا
ستكون يقظتهم لخطب أعظم

فنعوذ بالله أن نكون ممن رغب عن طريق هو لها سالك، وقال هلك الناس وهو في جملتهم هالك.
اعلم أيها الأخ أنّ الباعث على إسعافك في مطلوبك غرضان مهمان، ولما اقتصرت في طلبك على موافقتهما ودارت رغبتك على تحصيل حقيقة مقصودهما، واقتصرت همتك من بين العلوم على العلوم الإلهية وزعمت أنّ مقصودك طلب الخلاص من شر الاعتقادات الفاسدة، والهرب من الآراء المجانية للحق المعاندة، رأيت تقديم التنبيه على الغرضين المذكورين لنستوجب العذر فيما انتدبنا إليه، وليكون ذلك المهم الأكبر الذي نبهنا عليه.
الغرض الأول: أيها الأخ ما شاهدناه من فساد الزمان وأخذه في الازدياد وكثرة الآراء وفساد الاعتقاد، وعدم ذاب يبذل فيها الاجتهاد، ويمرها على كف الانتقاد، ولو سياسة الملوك لعمت الخافقين ظلمها، ولرسخ في كل الأقطار قدمها ليقضي الله أمرًا كان مفعولا. ويبقى رسمًا كان إبقاؤه عليه وعدًا مسئولًا، ولكن تعاقب الزمان وطروا الحوادث وكثرة الصوارف وفتور الهمم داعية إلى الفساد، والداء يزداد كل يوم أغذية السوء كالذنوب فرأيت إبراز هذه النبذ لتكون مغنية للسائلين ومعينة للسالكين ومنفعة باقية في الآخرين.
والأهم من هذا الغرض التنبيه على غوائل الآراء البشعة التي استهوت عقول أكثر الناس وهم في ازدياد من هذا الفن، وهو سبب فتور الشرائع وهو عند الأنبياء على مر الأيام والنفوس مولعة بكل غريب لم تألفه وغامض لم تعهده فلا يسلم الغمز الجاهل من الوقوع فيه والقطن المتباطئ عن الاغترار بما يظهر من مبادئه.
الغرض الثاني: إن الحق لا يعرف قدره وحده ما لم يعرف نقيضه وضده، فبضدها تتميز الأشياء ومقصدها التنبيه على الطريق الأسلم، والصراط الأقوم، ولابد من ذكر الطريق المنحطة عنه لينصف في ذلك الناظر في هذا الكتاب فيعلم أنّا لم ننتدب لضئيل ولا أضربنا عن سيرة الأوائل في سكوتهم إلا لخطب جليل، ولنضيف ذلك إلى الغرض الثاني فيتضح لديه العذر وليعرف مقدار النعمة فيطلبها بالشكر).
2. مسار السيادة ومنظومة مفاهيمه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، يركّز هذا المسار على البعد الاقتصادي وأثره في البناء الإنساني والحضاري وكذلك على البعد الاجتماعي ومكوناته المؤسسية والقيمية، وموقع الإنسان فيه، وكذلك معالجة الجانب السياسي من حيث قدرته على تحقيق العدل، وأنموذج رسالته الموسومة بـ (سر العالمين وكشف ما في الدارين):
(فما رأيت أهل الزمان هممهم قاصرة على نيل المقاصد الباطنة والظاهرة، وسألني جماعة من ملوك الأرض أن أضع لهم كتابًا معدوم المثل لنيل مقاصدهم واقتناص الممالك وما يعينهم على ذلك، استخرت الله فوضعت لهم كتابًا، وسميته بكتاب (سر العالمين وكشف ما في الدارين) وبوبته أبوابًا، ومقالاتٍ وأحزابًا، وذكرت فيه مراتب صوابًا، وجعلته دالًّا على طلب المملكة وحثًّا عليها، وواضعًا لتحصيلها أساسًا جامعًا لمعانيها، وذكرت كيفية ترتيبها وتدبيرها، فهو يصلح للعالم الزاهد، وشريك شرك المالك بتطييب قلوب الجند وجذبهم إليه بالمواعظ، فأول من استحسنه وقرأه عليّ بالمدرسة النظامية سرًّا من الناس في النوبة الثانية بعد رجوعي من السفر، رجل من أرض المغرب يقال له محمد بن تومرت من أهل سليمة، وتوسمت منه الملك. وهو كتاب عزيز لا يجوز بذله، لأن تحته أسرارًا تفتقر إلى الكشف، إذ أنّ طباع العالم نافرة عنها، وتحته علوم عزيزة وإشارات كثيرة دالة على غوامض أسرار لا يعرفها إلا فحول الحكماء، فوفقك الله للعمل به فإنه دال على كل ما تريد من الله تعالى).
3. مسار السعادة ومنظومة مفاهيمه النفسية وبيان موقع الحب في تحقيق السعادة الإنسانية، وكذلك بيان أفعال النجاة التي تأخذ بالإنسان إلى سعادة الدارين وأفعال المهلكات التي تحرمه سعادة الدارين، وأنموذج كتاب (آداب النكاح) و (كسر الشهوتين).
(أما بعد: فإن النكاح معين على الدين، ومهين للشياطين، وحصن دون عدو الله حصين، وسبب للتكثير الذي به مباهاة سيد المرسلين لسائر النبيين، فما أحراه بأن تتحرى أسبابه، وتحفظ سننه وآدابه، وتشرح مقاصده وآرابه، وتفصّل فصوله وأبوابه، والقدر المهم من أحكامه ينكشف في ثلاثة أبواب:
الباب الأول: في الترغيب فيه وعنه.
الباب الثاني: في الآداب المرعية في العقد والعاقدين.
الباب الثالث: في آداب المعاشرة بعد العقد إلى الفراق.
: كذلك قوله في (كسر الشهوتين)
(أما بعد: فأعظم المهلكات لابن آدم شهوة البطن، فبها إخراج آدم عليه السلام وحواء من دار القرار، إلى دار الذل والافتقار إذ نُهيا عن الشجرة، فغلبتهما شهوتهما حتى أكلا منها فبدت لهما سوآتهما، والبطن على التحقيق ينبوع الشهوات، ومنبت الأدواء والآفات إذ يتبعها شهوة الفرج، وشدة الشبق إلى المنكوحات، ثم تتبع شهوة الطعام والنكاح شدة الرغبة في الجاه والمال، اللذين هما وسيلة إلى التوسع في المنكوحات والمطعومات، ثم يتبع استكثار المال والجاه أنواع الرعونات، وضروب المنافسات والمحاسدات. ثم يتولد بينهما آفة الرياء، وغائلة التفاخر والتكاثر والكبرياء، ثم العقبى يتداعى ذلك إلى الحقد والحسد، والعداوة والبغضاء. ثم يفضي ذلك بصاحبه إلى اقتحام البغي والمنكر والفحشاء، وكل ذلك ثمرة إهمال المعدة، وما يتولد منها من بطر الشبع والامتلاء. ولو ذلل العبد نفسه بالجوع، وضيق مجاري الشيطان، لأذعنت لطاعة الله عز وجل، ولم تسلك سبيل البطر والطغيان، ولم تسلك سبيل البطر والطغيان، ولم ينجر به ذلك الى الانهماك في الدنيا، وإيثار العاجلة على، ولم يتكالب كل هذا التكالب على الدنيا.
وإذا عظمت آفة شهوة البطن إلى هذا الحد، وجب شرح غوائلها وآفاتها، تحذيرًا منها ووجب إيضاح طريق المجاهدة لها، والتنبيه على فضلها، ترغيبًا فيها. وكذلك شرح شهوة الفرج، فإنها تابعة لها، ونحن نوضح ذلك بعون الله تعالى في فصول يجمعها بيان فضيلة الجوع، ثم فوائده، ثم طريق الرياضة في كسر شهوة البطن، بالتقليل من الطعام والتأخير، ثم بيان اختلاف حكم الجوع وفضيلته، باختلاف أحوال الناس، ثم بيان الرياضة في ترك الشهوة، ثم القول في شهوة الفرج، ثم بيان ما على المريد في ترك التزويج وفعله، ثم بيان فضيلة من يخالف شهوة البطن والفرج والعين).
يقوم منهجنا في هذه المشروع الفكري على تأصيل مفهوم الحداثة عند الغزالي، والتأصيل هنا هو دراسة مفاهيمه ومنهجه الذي جعله أحد أكبر رواد الحداثة والتجديد في عصره
إن إعادة تثمير فكر الغزالي، ومواصلة مشروعه الحضاري الحداثوي / التجديدي من شأنه الإسهام في دفع المسيرة الحضارية للأمة الإسلامية بخطى أسرع في إطار المكانة المهمة للفكر في التهيئة للنهضة، والعمل على تسريع خطى التجاوز التاريخي لسكون المرحلة.
وإعادة تثمير هذا الفكر الحداثوي يبدأ بإعادة صياغة جهازه المفاهيمي وبيان كيفية تشغيله في الواقع لتفعيل التجاوز، وذلك من خلال قراءة معاصرة تعيد فهم مفاهيم الغزالي الإيمانية والإجتماعية والنفسية والصوفية وربطها بالواقع المعاصر وحاجاته لتصحيح انحرافاته العقائدية والتشريعية والأخلاقية.
إن الحداثة عند الغزالي لا تقطع التواصل مع المرجعيات المعرفية الإسلامية، ولا تعيد تكرارها، بل تعيد إنتاجها في ضوء حاجات العصر كما فعل مع أبي طالب المكي في كتابه (قوت القلوب) الذي أعاد تصنيفه وقراءته برؤية منهجية ناضجة جدًّا جعله أقرب إلى الواقع وحاجاته مما سيوفر للحداثة أهم اشتراطاتها الموضوعية التي يتآزر فيها الارتباط بالجذور الحية والمتوهجة في فكر الأمة، مع الاشتغال الحميم في صميم الراهن المعاصر ومعايشة إشكالياته الجمة من أجل إنهاء الوجع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، والارتقاء بالإنسان في ظل حُبّـيْـنِ مهمين حبّ الله وحبّ الإنسان..
***
د. جاسم الفارس

ظلت منطقة الشرق الأوسط لفترة طويلة، المنطقة التي تشهد أعلى مستوى من التفاوت الاجتماعي والاقتصادي في العالم. ففي عام 2016، بلغت حصة أغنى 10% من السكان في الدخل الوطني 61% (وبالنسبة للدول الأوروبية بلغ هذا الرقم 37%). إن هناك تفاوتًا كبيرًا ليس فقط داخل البلدان في المنطقة، بل أيضًا في داخل البلدان نفسها. على سبيل المثال، يبلغ الفارق في نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بين قطر الغنية واليمن الفقيرة نحو 55 مرة. هناك تفاوت كبير بين المدن الكبرى والمناطق الساحلية والمناطق الريفية والمدن الصغيرة والمناطق البعيدة عن الاتصالات البحرية. إن التوسع الحضري المتسارع من شأنه أن يساهم في تعزيز التفاوت الاجتماعي القائم: سوف تنتقل النخب إلى المناطق الحضرية المغلقة، وسوف يبدأ الفلاحون السابقون واللاجئون في تشكيل أحياء فقيرة بشكل عفوي على مشارف المدن، حيث لا تتوفر لديهم إمكانية الوصول إلى البنية الأساسية الحضرية ولا يتمتعون بالوضع القانوني لسكان المدينة.
إن الفجوة بين النخب وأغلبية السكان تتسع بسبب الافتقار إلى الحراك الاجتماعي الفعال وذلك بسبب انتشار الفساد الحكومي في البلدان والافتقار إلى القدرة على الوصول إلى التعليم الجيد والرعاية الصحية، وفي كثير من الأحيان إلى وسائل النقل والاتصالات. إن وسائل الاتصال ووسائل النقل العام في المنطقة ضعيفة التطور للغاية، والتي تقتصر عادة على الحافلات والحافلات الصغيرة (شبكة السكك الحديدية متطورة بشكل سيئ، ونقل الركاب غير موجود عمليًا).
ومن مظاهر التفاوت الاقتصادي في الشرق الأوسط ارتفاع معدلات البطالة، التي تصل إلى نحو 10%. ومن بين السكان الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و24 عاماً، يصل هذا الرقم إلى 26 في المئة. وفي بعض البلدان فإن الوضع أسوأ من ذلك: في مصر - حوالي 30 في المئة، وفي الأردن - 37 في المائة، وفي فلسطين - 42 في المائة. ويجدر أن نذكر بشكل منفصل البطالة بين النساء: ففي المملكة العربية السعودية تبلغ 46%، وفي مصر 38.5%. وفي الوقت نفسه، فإن مجال قطاع سوق العمل في مؤسسات الدولة صغير للغاية، وهو ما يرجع إلى سوء نوعية المؤسسات الحكومية، وانخفاض حصة الاستثمار، وركود إنتاجية العمل (وخاصة في القطاع الصناعي). وبما أن قطاع العمل في المؤسسات الحكومية يمثل ما بين 10% إلى 15% أو أقل من القوى العاملة في بلدان مثل مصر والعراق واليمن، فإن إيجاد فرص عمل صعب للغاية، ونحو 40% من خريجي الجامعات في الشرق الأوسط عاطلون عن العمل. ونتيجة لذلك، يتم "استيعاب" غالبية القوى العاملة في قطاع العمل الخاص، غير الرسمي الذي يتسم بانخفاض المؤهلات والأجور وإنتاجية العمل. ويمثل قطاع الخدمات غير الرسمي ما يصل إلى نصف الناتج المحلي الإجمالي أو أكثر في البلدان التي ليست من البلدان المصدرة الكبرى للنفط.
وعلى خلفية ذلك تكتسب قضية تحرير المرأة والمساواة بين الجنسين أهمية حيوية في المنطقة. بفضل رقمنة الاقتصاد، فقد ظهرت فرص جديدة لإدماج المرأة بشكل فعال في الحياة الاقتصادية. ومع ذلك، لم تحقق جميع المناطق النجاح في هذا الاتجاه. في حين تستطيع تركيا والأردن ولبنان والإمارات العربية المتحدة أن تدعي أنها دول علمانية، فإن دولاً مثل المملكة العربية السعودية (التي شهدت تحسينات كبيرة في مجال حقوق المرأة في السنوات الأخيرة) وإيران بعيدة كل البعد عن هذا الوضع1.
إن عصر الاقتصاد الرقمي مع نمو الأتمتة وتطور الذكاء الاصطناعي يجلب معه حلولاً جديدة (تسريع اندماج المنطقة في سلاسل الإنتاج العالمية الجديدة الناشئة) ومشاكل جديدة للشرق الأوسط. ومن المتوقع أن تكون العواقب المترتبة على التحول إلى التكنولوجيا الجديدة نشوء أنظمة اقتصادية مختلفة باختلاف بلدان المنطقة. وفي حين يمكن لإسرائيل ودول الخليج الغنية الاندماج في الاقتصاد العالمي الجديد دون خسارة كبيرة، فإن عملية التكيف قد تكون أكثر صعوبة بالنسبة للدول التي تضم شريحة كبيرة نسبيا من العمال ذوي الياقات الزرقاء وحراكا اجتماعيا منخفضا نسبيا (العراق وإيران والأردن وتركيا). ومن ثم، فإن الأتمتة قد تؤدي إلى فقدان عدد كبير من الوظائف في القطاعات التقليدية وزيادة الاستقطاب بين بلدان المنطقة وداخل الدول الفردية. ومن المحتمل أن تكون هناك ضربة قوية للاحتكارات الحكومية والأنظمة الاقتصادية العشائرية، الأمر الذي قد يؤدي في المستقبل إلى زيادة كفاءة اقتصادات المنطقة. إن التنفيذ السليم للتكنولوجيات الجديدة يمكن أن يساعد في تضييق الفجوة القائمة بين سكان المناطق الحضرية والريفية من خلال خلق فرص عمل إضافية خارج المراكز الحضرية.
وينبغي أن يكون المحرك للتنمية في دول الشرق الأوسط هو التركيز على التنوع الاقتصادي. ولتحقيق ذلك، من الضروري خلق بيئة أعمال ملائمة لجذب الاستثمار الأجنبي، وفي المقام الأول من خلال تحسين نوعية المؤسسات الحكومية. في إطار السياسة الصناعية للدولة، هناك حاجة إلى دعم الشركات الصغيرة والمتوسطة المحلية - والتي تشكل أساس اقتصاد المنطقة.
هناك عدم تجانس في الشرق الأوسط من ناحية توفر الموارد النادرة. ويتعلق هذا أولا وقبل كل شيء بالقدرة على الوصول إلى المياه: إذ إن منطقة الشرق الأوسط لا تمتلك سوى واحد في المائة من احتياطيات المياه العذبة المتجددة في العالم. وتمتلك معظم بلدان المنطقة حجم قليل من المياه العذبة. وأدنى معدل للمياع العذبة في الكويت هو 7 متر مكعب/للشخص سنوياً، وأعلى معدل في تركيا (2885 متر مكعب) والعراق (2650 متر مكعب).
وقد أدى ارتفاع استهلاك المياه العذبة في المنطقة بسبب النمو السكاني والتوسع الحضري والاستخدام الاقتصادي للمياه إلى انخفاض توفر المياه للفرد بنحو 85 في المائة بين عامي 1950 و2025، من 4462 متراً مكعباً إلى 682 متراً مكعباً. وتسد عدد من دول الشرق الأوسط (دول الخليج، والأردن، واليمن) احتياجاتها بفضل وجود المياه الجوفية غير المتجددة، والتي تعتبر احتياطياً استراتيجياً.
وسوف تتمكن الدول الغنية في الشرق الأوسط من تأخير نقص المياه من خلال مشاريع تحلية مياه البحر الباهظة الثمن واستيراد المياه العذبة. و، يبدو هذا الخيار بالنسبة للدول الفقيرة غير محتمل. وعلى خلفية ندرة احتياطيات المياه، فإن متوسط مستوى استهلاك المياه في المنطقة يتجاوز مستوى العرض بمقدار 9 مرات. ولوحظت الفجوة الأكبر في الكويت (63 مرة) والإمارات العربية المتحدة (39 مرة). إن استهلاك الفرد من المياه في أغلب دول الخليج أعلى بعدة مرات من المتوسط العالمي. ويساهم غياب القيود والدعم المالي للمياه في زيادة نمو استهلاك المياه. وتعاني المنطقة ليس فقط من نقص المياه، بل وأيضاً من سوء إدارة المياه، بما في ذلك الافتقار إلى نظام خزانات لجمع وتخزين المياه وتقنيات توفير المياه في الصناعة والزراعة في معظم بلدانها.
وهناك مشكلة أخرى لا تقل أهمية في الشرق الأوسط وهي نقص الموارد الأرضية المناسبة للزراعة والاستخدام غير الفعال لها. على سبيل المثال، في الأردن، حيث يشكل القطاع الزراعي مكوناً هاماً من الاقتصاد، لا تصلح للزراعة سوى 10% من أراضي البلاد، بينما تشكل الأراضي الصالحة للزراعة 3% من إجمالي المساحة. على النقيض من ذلك، في تركيا، تشكل الأراضي الصالحة للزراعة ثلث المساحة الإجمالية للبلاد.
وفي ظل تسارع وتيرة التصحر، تواجه بلدان المنطقة بشكل متزايد مشاكل تتعلق بالأمن الغذائي. وتعمل دول الشرق الأوسط الغنية على حل هذه المشكلة من خلال زيادة حجم السلع المستوردة، وتوسيع عدد وجغرافية المستوردين، والاستثمار في الأراضي الزراعية والأعمال الزراعية في الخارج (في بلدان أفريقيا وجنوب شرق آسيا وأوروبا والولايات المتحدة وأستراليا وكندا). وهذه الحلول غير متاحة بالنسبة للدول الفقيرة في المنطقة، التي لا تستطيع حتى ضمان واردات مستقرة ومتنوعة من الحبوب بشروط مقبولة. إن الاستخدام غير الفعال لموارد الأرض لا يؤثر على الزراعة فحسب، بل يؤثر أيضًا على السياحة. وتشكل هذه الجوانب مجتمعة العمود الفقري لاقتصادات العديد من بلدان المنطقة.
***
د. فالح الحمـراني
....................
* استفادت المادة من دراسات في موقع المجلس الروسي للسياسة الخارجية على الانترنت

في زمنٍ كَثُر فيه الصراع بين مباهج الحياة من ناحية، وصراعات السياسة من الناحية الأخرى، أدرك ابن باجه أن خلاص الفيلسوف وسلواه لا يكون بالانفكاك والهروب من المجتمع والناس، بل بفنّ العيش فيهم دون أن تتلاشى ملامحه الذاتية. جاء كتاب "تدبير المتوحّد" ليمهد مسلكًا وجوديًا يبدأ بالعقل وينتهي بالإتصال بالمصدر لهذا الوجود، أو كما يسميه فيلسوفنا: العقل الفعَّال أي مصدر الوجود.
لم يكن ناقلاً عن الفلاسفة وشارحًا لأفكارهم فحسب، بل كان مثالاً حيًّا للإبداع والابتكار والتفلسف، رافضًا فساد المدينة والمجتمع، فكان مشروعه فرديًا يرفض الاستسلام للعوامل الخارجية التي تُفسد صفو الحياة وتعيق البحث عن حقيقة الوجود. فبحثه عن العزلة لم يكن تخليًّا عن مسؤوليته الفردية تجاه مجتمعه، بل سعيًا للحفاظ على السلام الداخلي الذي يؤدي إلى الارتقاء إلى مصاف "الكائن الإلهي" الذي يتجاوز تجربة الجسد إلى "الهُناك" على حدّ تعبير هيدغر.
لم يكن "التدبير" عند ابن باجة مجرد تنظيمٍ رتيبٍ للحياة ومعتركاتها، بل ثورةً على فكرة أن الفلسفة يجب أن تُدار كشأنٍ جماعي. فبينما حمل الفارابي هذا المشروع الذي يعنى ببناء مدينته الفاضلة كحلم جماعي، حوَّل ابن باجة رؤيته إلى مشروعٍ فردي. والمتوحّد عنده ليس ناسكاً يعتزل مخالطة الناس، بل فيلسوفًا يعيش بينهم بحكمةٍ ووعي، لكنه يريد من كلّ ذلك أن لا تُقيّده أفكارهم وأهواؤهم نقاء تأمُّلاته. إنه كالنبتة الطبيعيّة التي تنمو في تربةٍ مليئة بالأعشاب الضارة، تُصارع الكل بخفة ودهاء دون أن تتحول إلى نبتةٍ صناعيةٍ كالآخرين. وهنا تكمن المفارقة: أن تعيش في العالم دون الإنتماء إليه، أن تُشارك في حركته دون أن تفقد بوصلةَ غايتك.
قسَّم ابن باجة الإنسان إلى ثلاث طبقات، كأنما يُعيد ترتيب سُلَّم القيم الإنسانية من جديد. فالأعمال الجِسمانية — كالأكل والشرب — هي ما يشترك فيه الإنسان مع الحيوان بيولوجيًا، ولا يمكن الانفكاك منها، لكنها تصير سجناً دون تهذيبها. أما الأعمال الروحانية الخاصة - كالتباهي بالملابس الفاخرة أو الترفيه الزائد — هي أوهام وطريقها إلى السراب لأنها لا تحمل بجُعبتها بذرة الوصول. أما الطبقة الثالثة فهي العُليا: هي السعي وراء "المعقولات" — الأفكار المجردة الأزلية — كالعدل والجمال والحق، والتي تُحرر العقل من ثقل الجسد، وتوصله إلى حالةٍ من الاتصال بالعقل الفعَّال، ذلك الكيان الجوهري المُنظّم للوجود والعالم ومتصلًا بكلّ الجواهر.
لكن كيف نحقّق هذا الاتصال؟ رفض ابن باجة الطُّرُق الصوفية القائمة على الوجد والخَلوة، ورأى أن العقل المُجرد وحده قادرٌ على كسر الحُجُب. فالعقل الفعال عنده ليس ذاك الإله البعيد وراء السماوات، بل هو العقل والروح والنظام في كل شيء، الذي يمكن للإنسان اكتشافه عبر التأمل الفلسفي المنهجي. هنا يصبح الفيلسوف كالباحث عن النور في الظلام مع اليقين الكامل بوجوده وبأنه ليس ببعيد.. وكل فكرة خالدة تُحرّره من ظلام الجهل وضيق الصّدر. لكن هذه الرحلة لا تخلو من مشقة: فالنفس الحيوانية — بحسب تعبيره — عدو يتربص بالعقل، يُحاول إغراقه في الشّهوات أو الانتقام منه عبر الغرور. ولذا، كان على المُتوحّد أن يكون حارسًا يقِضاً لنفسه، يُروّض غرائزه بفضائل أخلاقيةٍ تحوِّلها من أعداء إلى حلفاء.
لم تكن رحلة صديقنا سهلة؛ فكثيرون في عصره رأوا في أفكاره خروجًا عن المألوف وتماديًا على الدين، وبطبيعة الحال لم يَسلَم من التكفير بسبب ارتكاز نظره على العقل وإهمال للأخبار والنصوص. لكنّ التاريخ أثبت أن فلسفته كانت جسرًا بين المشرق والمغرب: فابن رشد كان تلميذه غير المباشر، وأخذ عنه فكرةَ العقل الفعَّال، بل إنّ روح ابن باجة تجلَّت لاحقًا في فلسفات التنوير الاوروبي، التي رأت في العقل أداة الخلاص الأولى وبناء الحضارة.
واليوم، في هذا العالم الرأسمالي الذي يَحتويه الضجيج من كل جانب، يُلحّ علينا طرح السؤال الذي طرحه ابن باجة: كيف نحمي عقولنا من فساد المجتمع والعالم؟ ربما تكمن الإجابة في العودة إلى الذات، وحيث كل عمل نقوم به وكل شخص نختاره، يُقرّبنا خطوةً من "المعقولات"، ويُبعِدنا خطواتٍ عن الوهم والتبعية والتقليد. ونختم بقوله: "السعادة ليست في الهروب من العالم، بل في صنع عالمٍ بداخلك، يحكمه العقلُ قبل كل شيء."
***
خالد اليماني 

 .......................

المصادر:

بدوي، عبدالرحمن. موسوعة الفلسفة. الجزء الأول، صـ14-18

في البدء، كانت اللغة، أو هكذا توهِمُنا السردية المؤسسة لهذا الوعي الذي نقبع داخله ككائنات لغوية، مسجونة داخل إطار لا مرئي من المفاهيم والرموز والتراكيب.
نحن لا نفكر إلا عبر اللغة، لكن هل نفكر بها أم تفكر هي بنا؟ أين تنتهي حدودنا ككائنات واعية، وأين تبدأ سلطة اللغة كجهاز مفاهيمي هيمني يعيد إنتاج وعينا داخل قفص رمزي غير مرئي؟
يبدو هذا السؤال، للوهلة الأولى، ضربًا من الميتافيزيقا، لكنه في جوهره يتعلق بالبنية التحتية للمعرفة والوجود. فالإنسان، منذ لحظة تشكّله ككائن اجتماعي، خضع لمقولات اللغة، صار جزءًا من نسيجها، يعيش داخلها بوصفها فضاءً للوجود، وليس مجرد أداة تواصل.
حين قال فيتجنشتاين: “حدود لغتي هي حدود عالمي”، لم يكن يدافع عن اللغة بوصفها جسرًا نحو العالم، بل كان يشير إلى هشاشة هذا الجسر، إلى كونه قيدًا أكثر مما هو وسيلة. نحن لا نرى العالم كما هو، بل كما تسمح لنا بنيتنا اللغوية برؤيته.
اللغة لا تعكس الواقع، بل تصنعه، تحدده، تعيد تشكيله ضمن سردية مسيجة بحواجز من العلامات والإشارات والأطر الرمزية. وإذا كانت اللغة بهذه السطوة، فهل يمكن للإنسان أن يختبر وعيًا يتجاوزها؟ أم أن كل محاولة لفعل ذلك ليست سوى إعادة إنتاج لنفس البنية اللغوية ضمن سياقات مختلفة؟
هنا يصبح السؤال أكثر تعقيدًا: هل يمكننا اختراق هذه الحواجز، أم أننا محكومون بالتفكير داخل دوائر مغلقة لا نملك تجاوزها؟
المعنى ليس بريئًا، بل هو منتَجٌ ريعيٌّ يُعاد إنتاجه في مصانع الأيديولوجيا، حيث تتحول المفاهيم إلى أدوات ضبط، وحيث يتلاشى الخيال لصالح التكرار، ويُختزل اللايقين في يقين لغويٍّ مصطنع. لا عجب إذن أن تعيد المجتمعات إنتاج ذاتها عبر نسق لغوي مغلق، يحدد ما يمكن التفكير فيه، وما يجب استبعاده، وما ينبغي أن يظل مجهولًا حتى لا يهدد استقرار البنية السائدة.
إن خطورة اللغة تكمن في كونها ليست مجرد وسيلة تعبير، بل أداة تشكيل، وأداة قمع ناعم تتسلل إلى الوعي دون أن يشعر بها الإنسان، فيتحرك داخلها بوصفها بديهة، دون أن يدرك أنه يتحرك وفق إملاءاتها.
ما نسمّيه “المعنى” ليس إلا توافقًا اجتماعيًا، ترسّب عبر تاريخ طويل من القمع الناعم الذي تمارسه اللغة على المخيلة. رولان بارت أدرك هذه اللعبة حين فكك النصوص وكشف أنها ليست سوى أنظمة دلالية مغلقة، تتحرك داخل فضاء سلطوي يحدد ما يمكن أن يُقال، وما يجب أن يُنسى.
لكن السؤال الأهم ليس فقط كيف تعمل اللغة، بل: من يملكها؟ من يحدد “المسموح والممنوع” داخل هذا النظام الدلالي؟
اللغة، في نهاية المطاف، ليست ملكًا محايدًا، بل تخضع لمعادلات القوة. إنها جهاز رمزي يشفر الواقع وفق مصلحة أولئك الذين يملكون سلطة تعريف الأشياء، وإعادة إنتاج السرديات وفق ما يخدم مصالحهم.
في عالم خاضع لهيمنة السوق، تتحول اللغة إلى آلية إنتاج، ويصبح المعنى نفسه سلعة يتم ترويجه وفق مقتضيات رأس المال الثقافي. المفردات تتغير، والدلالات يُعاد ضبطها، وكل ذلك ضمن اقتصاد لغوي خفي يحدد كيف نفكر، وبماذا نحلم، وكيف نرى أنفسنا.
المعاني التي تبدو وكأنها نابعة من ذاتيتنا ليست سوى انعكاس لسرديات تم تلقينها لنا منذ الطفولة، عبر المؤسسات التعليمية، وعبر الإعلام، وعبر الدين، وعبر التاريخ الرسمي.
إنها “أدلجة للواقع”، كما أشار ألتوسير، حيث يتحول كل خطاب إلى جهاز أيديولوجي، لا يصف العالم، بل يعيد تشكيله وفق مصلحة الفاعلين الأقوى في المشهد الثقافي والسياسي.
وهكذا، يتم تحويل اللغة إلى وسيلة إعادة إنتاج للوعي القائم، لا كأداة للتفكير الحر، بل كآلية تقنين للخيال، حيث يصبح من المستحيل التفكير خارجها دون أن نجد أنفسنا، بطريقة ما، مقيدين بها.
لكن إذا كانت اللغة تحدد حدود وعينا، فهل يمكن تجاوزها؟ هل يمكننا أن نفكر خارج هذه البنية الرمزية، أن نخترق الجدار اللغوي نحو فضاء أكثر رحابة، وأكثر انفتاحًا على اللايقين؟
السؤال يبدو عبثيًا للوهلة الأولى، إذ كيف يمكن للإنسان أن يفكر دون أن يستخدم أدوات التفكير ذاتها؟ كيف له أن يتجاوز اللغة وهو داخلها؟ يبدو الأمر كمن يحاول القفز خارج ظله، لكن هذا لا يعني استحالة إيجاد شروخ في البنية اللغوية.
جاك دريدا، وهو من فكك النصوص حتى تعرت من أوهامها، لم يكن يسعى إلى استبدال نص بآخر، بل إلى كشف هشاشة النصوص ذاتها، إلى فتح ثغرات في جدران اللغة، حيث يمكن للمعنى أن ينزلق، أن يتسرب خارج النسق.
وربما يكون الفن هو السبيل الوحيد لفعل ذلك، لأن الفن لا يحتاج إلى لغة مستقرة، بل يتلاعب بها، يعيد تشكيلها، يكسر نسقها، ويفتح فيها شروخًا صغيرة تتسرب منها احتمالات جديدة للمعنى.
السينما، الرسم، الموسيقى، كلها أشكال من التفكير خارج اللغة، مقاومة صامتة ضد عنف الدلالة، محاولة مستمرة لاستعادة سيولة الوعي من قبضة العلامة اللغوية.
هل يمكن للوحة تجريدية أن تعبر عن شيء لا يمكن للغة أن تقوله؟ هل يمكن لمقطوعة موسيقية أن تحمل في أنغامها معنى لا يمكن ترجمته إلى كلمات؟
ربما لا يكون الفن وسيلة للهروب من اللغة، لكنه بالتأكيد محاولة لتفكيك سلطتها، لخلق فضاء يتسرب فيه المعنى دون أن يُعتقل داخل قفص الدلالة القهرية.
في ضوء ذلك، تبدو اللغة وكأنها منفى، كما قال جورج شتاينر.
فنحن كائنات لغوية، محكومون بهذا السجن الرمزي، غير قادرين على استعادة وعينا الأول، الصافي، قبل أن تلوثه الكلمات.
لكن ربما لا يكون السؤال عن إمكانية الهروب من اللغة، بل عن كيفية استخدامها ضد ذاتها. كيف نحول الكلمات إلى شفرات تفكك ذاتها؟ كيف نكتب لا لنؤكد، بل لنشكك؟ كيف نعيد تشكيل اللغة، لا كأداة تكرار، بل كأفق للانفلات؟
إن اللغة ليست بريئة، ولا محايدة، ولا شفافة. إنها قوة، نظام، سلطة، قيد ناعم يخترق وعينا ويعيد تشكيله. لكنها، في الوقت ذاته، تحمل في داخلها بذور الانفلات، وإمكانية الانزلاق، واحتمال الخروج عن النسق.
داخل هذا القيد، هناك ثغرات، هناك احتمالات للخروج، هناك لحظات يتمرد فيها الخيال على الجملة، حيث تنفجر الكلمات من داخلها، وحيث يتحول النص إلى مسرح للفوضى الجميلة.
أن تفكر يعني أن تتجاوز لغتك، أن تبحث عن مناطق غير مسماة، عن ظلال لم تصلها الكلمات بعد.
ربما لا يمكننا الهروب من اللغة، لكن يمكننا على الأقل أن نرفض أن نكون مجرد نسخ مكررة داخل سردياتها الجاهزة.
إن مقاومة اللغة من داخلها، تفكيكها، إعادة تشكيلها، واللعب بها، كلها أفعال تنطوي على لحظة تحرر، حتى وإن كانت لحظة عابرة، وحتى وإن لم تكن كافية للخروج الكامل من هذا القيد.
لكن في النهاية، أليس الوعي نفسه إلا محاولة دائمة للتمرد على حدوده؟
***
إبراهيم برسي – باحث سوداني

يعيش الكائن الحي عشرات ملايين السنين موضوعا لاليه اعلى منه، مقررة بلا ارادة منه ولا وعي بوجوده، محكوم وجودا وتشكلا كموضوع لفعل وتدبير البيئة/ الطبيعة التي تاخذه الى الحيوانيه مراحلا، وصولا الى اللبونات ومن ثم الى الانتصاب وحضور العقل، ضمن سيرورة مقررة مرهونه بالاليات والقوانين الكونيه، فاذا ظهر العقل بصيغته الاولية الابتدائية غير المكتمله، يبدا طور محاولة الادراك كافق قبل الفعالية الذاتيه، وبلا فعالية وجوديه واعيه، بل محاولات قاصرة تستمر مادام العقل بمراحله الاولى الخام، تحكمه اشتراطات اليدوية الانتاجية والحاجاتيه الجسدية، بانتظار الانتقال من اليدوية الى الالية، افتتاحية وعتبة العبور الى الطور العقلي مافوق الجسدي الارضوي الحاجاتي.
لايتعدى عمر العقل الظاهر اكثر من مابين خمسين، الى مائة الف عام، مقابل الجسد الموجود على مدى عشرات الاف الملايين من السنين، هذا والحاضر الجديد مازال في طور الحضانه البكورية، وان عومل من قبل حامليه على انه المنتهى والكمال جهلا، حتى وان كان الكائن البشري مازال لايستعمل من عقله في اقصى الحالات، اكثر من خمسة عشربالمائة من طاقته وقدراته الخافيه المخباة ماتزال، من دون ان ينظرالى دلالة تعذر استعمالها الى اليوم.
كما الحال مع الجسدية ومسارها من الخلية الاولى والعضايا وصولا الى اللبونات، ومن ثم الكائن البشري مع بدايات الحضور العقلي، يخضع العقل لسلسله من المتغيرات تعقب ظهوره الاول، من خلال وفي تضاعيف التفاعلية البئية البشرية، وصولا الى ( الصيد واللقاط)، ومن ثم المجتمعية الجسدية المحطة والخطوة المتقدمه الاخيرة، قبل بلوغه مرحله واسباب الحضور المتحرر من وطاة الجسدية الحاجاتية، ما يقتضي ويستمر زمنا من التفاعلية تستغرق كل الطور اليدوي من التارخ التفاعلي العقل/ جسدي، ذهابا الى الانقلابية الالية، وتبدل اشتراطات العملية التفاعلية، ونوع غلبة العناصر الاكثر حضورا وفعاليه في العملية المجتمعية وما يعززتحولها، من الغلبة الجسدية الحاجاتيه الى العقلية.
من البديهي ساعتها عندما تنبثق الاله بما تنطوي عليه من دالة ونوع فعالية على الصعيد المجتمعي، ان تغلب المتبقيات الموروثة تصورا ونظرا من الطور اليدوي، فهو بحسب آليات عمل العقل كما كان بصيغته الاولى المعروفه، ليس استباقيا بقدر ماهو استيعابيا، يظل حتى يدرك الظواهر بحاجة لان يتعرف عليها قبل ان يتمكن من استيعابها، فاذا اخذنا بالاعتبار مفعول الزمن وطول فترة الطور اليدوي وترسخه، فان ميل العقل بحالته والاشتراطات التي تكتنفه وقتها، لن يكون متجاوزا لما هو معتاده بكثير، بالاخص وان الاله بالاحرى لاتمنحه ساعة انبثاقها، ماهو بحاجة اليه لكي يواكب ويرتقي لمستوى منطواها الدالة عليه طبيعتها الفعلية التي لن تظهر في الساعة وابتداء.
فالاله ليست صيغة واحده، ولاتظهر مكتمله نوعا وممكنات فعالية من لحظة انبثاقها، بل تتدرج، من المصنعية الاقرب لليدوية، الى التكنولوجية، قبل التكنولوجيا العليا العقلية، في حين تفرض احتداميتها البدئية وماتسببه من تسارعية وحدة في التفاعليه على مستوى الاليات المجتمعية، مواكبه شامله عقلية ترتفع معها الممكنات العقلية والابتكارية،تقدما قياسا الى ماقبل، الطور الارقى مما قبله، وليس المطلوب من انتقالية مجتمعية كلية، مقارنة بما قبل، بما هي وثبة نوعية كبرى ضمن نفس الشروط نوعا، في الوقت الذي يكون المطلوب وقتها الاعتقاد الجازم بان الحاصل هو من نوع الانتقال شبيه بذلك الذي عرفته البشرية مابين "الصيد واللقاط" و " التجمع وانتاج الغذاء"، اي الى طور مجتمعي اخر مختلف كليا.
مع التكنولوجيا تنتهي العلاقة التاريخيه الانتاجية اليدوية الجسدية البيئية، ويحصل التفارق النوعي، بين وسيلة الانتاج المستجدة فوق الارضو/جسدية، والتي تتوافق كينونه وعملا مع العقل بصيغته الاعلى من تلك المنتهية الصلاحية، هذا مع تعدد مظاهر التناقضية والميل المعتاد لحكم المملموس والمباشر الملح، الذي لايمكن الاستغناء عنه، مثل الغذاء وانتاجه، والماوى وغيره من الحاجات الموكوله لاستمرارية لجسد، وهو مايمكن تصور التمسك بمايفترض انه ملازم له من فعل مجتمعي، هذا في الوقت الذي يكون من غير البديهي ولا المتيسر، تصور الفعالية الانتاجية العقلية على هذا الصعيد، بما هي انقلابية كينونه من شانها ان تقلص الحاجاتيه، وصولا الى الغائها، الامر الذي يتطلب وقتها ادراكية من نوع مختلف لحدود وممكنات العقل العليا، بينما تكون التكنولوجيا العقلية قد صارت حاضره وفعالة في مجال تحريك الطاقة العقلية النائمه، غير المستعمله، الامر الذي سيقلب كليا كل المتعارف عليه والمنظور والممكن، بما في ذلك مسالة التحكم بالاليات الجسدية على مستوى الحاجه، كما على صعيد الديمومه الضرورية، اذ تنتفي الحاجة الى الطب الجسدي بظل تكفل العقل بديناميات الجسدية، ذهابا الى معالجة الموت الجسدي واستبداده التاريخي بالعقل، وفرضة موته هو العضوي عليه، ومثل هذه المناحي المؤشرة الى الانقلابيه في الفعالية وفي الحضور الحياتي، وفي نوع العنصر الفعال المتعدي للجسدية، ومايبدا بتسييده من انقلابيه نوعية حياتيه غير مايتطلبه افتراضا من قواعد واستراتيجيات حيوية مناسبه.
اول واهم مايكون قد حضر في حينه هو الانقلابيه في الدور المتعلق بالوجود ومساراته، فالانقلاب العقلي يتضمن للمرة الاولى في التاريخ الحياتي للكائن الحي والبشري، حضوره هو بعد وعية لمقتضيات ومحركات وجوده، تحوله هو الى عنصر فاعل بنوع الوعي العقلي، مع تبدل نوع الفعالية الملموسية الجسدية، ودخول عالم الفعل العقلي الذاهب الى مابعد جسدية، في غمرة البحث فوق المتخيل والمتصور الان، عن مداخل الاتصال بالكون الاخر، كون الحياة العقلية مافوق الارضوي المعاش، باعتباره معبرا ولحظة انتقالية لازمه مابين الكون المرئي والكون الاخر اللامرئي، ماكان يتخيل على انه عالم موافق للجانب الروحي من الوجود الممكن تخيله ضمن الاشتراطات الاولى الجسدية.
تنتقل الحياة المجتمعية من الانتاجية الجسدية اليدوية الى الانتاجية العقلية، فتعرف هذه ماعرفته البدئية التبلورية الجسدية الاولى من اشكل وجهود، ومجاولات الادراكية المتاحه للوجود ولممكنات فك الغوامض والرموز الكونية الابتدائية، اساطير ومرويات وقصص خليقة عبر مئات القرون، سوف تقابلها اليوم ومن هنا فصاعدا مجهودات البدئية العقلية وافقها الكوني الانتقالي، خارج، وبعيدا عن المنظور الافتتاحي الاوربي الالي المصنعي على ضرورته كمنطلق لايخلو من فوائد تعود للجانب العلمي التطبيقي، خارج التوهمية التصورية الحداثية والنموذجيه الارضوية المنتهية الصلاحية، ومع الانتباه الى والاخذ بالاعتبار، مدى توافق المجتمعية اللاارضوية كينونة وابتداء مع الوسيلة الانتاجية المستجده، العقلية، حيث يتوقع المنطلق التفكري/ المجتمعي، والعودة على بدء، المتجاوزة للارضوية وحالة تازمها المضطرب المتعاظم من هنا فصاعدا، تمهيدا للانقلابيه العظمى.
ـ يتبع ـ ملحق / برنامج الانقلابيه الكونيه العظمى
***
عبد الأمير الركابي

الفيلسوف ديموقريطس (460-370ق.م) وهو من فلاسفة ما قبل سقراط عُرف بتطويره النظرية الذرية عن الكون. كان يُلقب بالفيلسوف الضاحك، وكان غزير الانتاج، شملت أعماله الاخلاق والرياضيات والفيزياء وعلم الكون. ورغم مساهماته الواسعة للفلسفة والعلوم، لم يبق الا جزءاً ضئيلا من أعماله الأصلية في المراجع اللاحقة.
حياة ديموقريطس
وُلد ديموقريطس في مدينة أبديرا Abdera اليونانية، وقيل انه سافر بكثافة بحثاً عن المعرفة، حيث زار مصر وبلاد فارس وربما الهند متعلما على يد مختلف العلماء والكهنة. وطبقا لمؤرخ السير ديوجين ليرتيوس Diogenes Laertius، كان ديموقريطس تلميذا لـ ليوكيبوس، حيث طوّرا معا النظرية الذرية وهي التوضيح المبكر للمادة المركبة من جسيمات صغيرة لاتقبل التجزئة.
يذكر ديوجين ان افلاطون كره ديموقريطس جدا لدرجة انه رغب بإحراق جميع كتبه. لكن مع ذلك، أثّرت افكار ديموقريطس بشكل كبير على الفلاسفة اللاحقين بمن فيهم الفيلسوف اليوناني أبيقور وعلى تطوير النظرية الذرية الحديثة.
فلسفة ديموقريطس وتعاليمه
افترضت نظرية ديموقريطس الذرية ان كل شيء في الكون يتألف من جسيمات صغيرة لا يمكن تحطيمها وهي تتحرك في فراغ. هذه الفكرة الثورية شكلت تحديا للفكرة السائدة آنذاك بان المادة مستمرة وقابلة للقسمة الى ما لانهاية. هو ايضا كان يؤمن في الحتمية مجادلا بان كل الأحداث تقع بفعل القوانين الطبيعية وليس بفعل تدخلات الآلهة.
دعا ديموقيطس لممارسة حياة أخلاقية تقوم على الإعتدال وضبط النفس والبهجة. هو اكّد على انتهاج اليوثيميا euthymia - وهي حالة الرضا والهدوء الداخلي. اعتقد بان السعادة الحقيقية تأتي من الإنجاز الفكري والاخلاقي وليس من الثروة المادية او المتعة الفيزيقية.
لماذا كان ديموقريطس ضاحكا؟
عرف الناس في العصور القديمة ديمقريطس كـ "فيلسوف ضاحك" لأنه دائما كان يضحك على حماقات وسخافات طبيعة الانسان. خلافا للفلاسفة الآخرين الذين اعتمدوا الجدية في حياتهم، هو وجد التسلية في قلق الناس وجشعهم وسلوكهم اللاعقلاني. الضحك بالنسبة له لم يكن من النوع السخيف وانما هو نوع من الحكمة – هو رأى التفاهة في اهتمامات الانسان السطحية في ظل البناء الكبير للكون.
هو كان في تضاد حاد مع الفيلسوف اليوناني هيرقليطس، "الفيلسوف الباكي"، الذي حزن على حالة الانسانية. ومن جهة اخرى، اختار ديموقريطس ان يضحك على نفس السفهاء، معتبرا انهم لايستحقون الحزن. احتظنت فلسفته التحرر من المصلحة الذاتية والتأكيد على ان الضحك هو علامة على الفهم وليس السخرية. احد أهم التفسيرات لضحك ديموقريطس جاءت من المؤرخ دايوجين ليرتيوس: "عندما سُئل ديموقريطس عن سبب ضحكه الدائم أجاب: "لأني أرى كل الرجال يعملون اشياءً سخيفة، منشغلون بطموحات عبثية وخوف مما لايجب ان يخافوا منه، ورغبة بما لا يجلب لهم السعادة الحقيقية. هم يسيئون الى أنفسهم بالقلق على الثروة والسلطة والسمعة بينما يتجاهلون الطبيعة العابرة للحياة وعدم اهتمام الكون بصراعاتهم. من الممتع ان نرى مدى الجدية التي يلزمون أنفسهم بها عندما يزول كل شيء وينتهي الى العدم".
في هذا المقطع يكشف ديموقريطس من خلال الضحك عن الجذور العميقة لفهم الطبيعة العابرة والمضللة احيانا للمساعي الانسانية.
بعض الاقتباسات عنه
يرى ديموقريطس ان المرح والقناعة يتجذران في المنظور وليس في الثروة المادية. وكما اعتاد القول: "حياة بدون احتفالات هي كالرحلة في طريق طويل دون طعام". هو كان ايضا واعيا بحماقة الانسان. هو لاحظ كيف ان "الرجال اختاروا لأنفسهم مهمة خداع او الانخداع بالآخرين".
رؤاه الفلسفية امتدت للطموح الانساني. "العديد ممن لا يعرفون كيف يديرون شؤونهم الخاصة يتظاهرون انهم مهتمون بالكون".
بالنسبة لديموقريطس، يأتي الفخر الحقيقي ليس من الثروات الزائلة او الشباب وانما من العمق الاخلاقي والفكري: "فخر الشباب هو غرور، الفخر بالثروة هو سخافة، لكن الفخر بالحكمة هو حقيقي ومستمر". فوق كل ذلك، فهمه للسعادة كان دائميا، مؤكدا بان "السعادة تكمن ليس في الحيازات وانما في الروح"
تراث ديموقريطس
كان لأفكار ديموقريطس تأثيرا دائما على الفلسفة والعلوم. علماء مثل الفيلسوف والعالم الفرنسي بيير غاسيندي Pierre Gassendi أنعش نظرية ديموقريطس الذرية في القرن السابع عشر وكذلك تأثيره اللاحق على الفيزياء الحديثة. تعاليمه الاخلاقية حول السعادة والسلام الداخلي يتردد صداها في الفكر الانساني. ضحكات ديموقريطس ليست علامة للسخرية وانما علامة للحكمة. هو أدرك تفاهة القلق الانساني أمام الكون اللامتناهي. فلسفته تدعونا ان نتعامل مع الحياة بخفة وعقلانية وتقدير لأفراحها العابرة.
***
حاتم حميد محسن

 

جامعة بغداد صرح علمي شامخ، واحد ابرز منارات المعرفة في العراق والعالم العربي. تاسست عام 1957، لكن جذورها تمتد الى بدايات القرن العشرين مع تاسيس كليات الحقوق والطب والهندسة. لعبت الجامعة دورا اساسيا ومحوريا في تخريج الكفاءات العراقية التي ساهمت في بناء وتقدم العراق الحديث.
ارتباطي بجامعة بغداد
كانت لحظة دخولي كلية العلوم في الجامعة بداية رحلة استثنائية في عالم المعرفة. اتذكر تلك الايام الاولى في قسم النبات، حيث اكتشفت شغفي الحقيقي للعلوم الاحيائية. بعد تخرجي، تم تعيني كمعيد في الجامعة، حيث انطلقت مسيرتي العلمية الحافلة بالانجازات. لقد كان لدي اصرار وعزيمة لا يلينان، فبادرت الى اجراء بحثين علميين وانا لازلت معيدا في الجامعة، نشر احدهما في مجلة Annals of Human Biology المرموقة. كانت تلك اول دراسة انثروبولوجية حول المجاميع الدموية بين اكراد العراق، مما جعلني فخورا باسهامي في هذا المجال.
قدمت الكثير لجامعة بغداد بعد عام 2003، من ندوات وورش عمل ومحاضرات واستشارات، ولكني اتذكر بالخصوص تلك الورشة الرائعة التي نظمها قسم ضمان الجودة والاداء الجامعي في الجامعة بالتعاون مع منظمة اليونسكو بتاريخ 24-25 شباط 2014، وحضرها عدد من القيادات الجامعية من العمداء ومدراء المراكز ورؤساء الاقسام في تشكيلات الجامعة، وحملت عنوان "كيفية استدامة نظام الجودة في جامعة بغداد". عرضت فيها نظام الجودة الذي سعينا لبنائه ضمن مشروع اليونسكو لتحسين جودة التعليم في الجامعات العراقية الذي ضم اربعة علماء من خريجي الجامعة هم صباح جاسم ورمزي محمود ورياض المهيدي ومثنى الدهان.
تاريخ جامعة بغداد
تعود البدايات الاولى لجامعة بغداد الى عام 1908، عندما تاسست مدرسة الحقوق، وهي اقدم المؤسسات الحديثة التي شكلت فيما بعد جامعة بغداد. في عام 1921، تاسست كلية الهندسة، وفي عام 1923، تاسست دار المعلمين العالية (التي اصبحت فيما بعد كلية التربية). وفي عام 1927، تاسست كلية الطب. في عام 1942، تم تاسيس اول مؤسسة تعليمية عليا للبنات، وهي كلية الملكة علياء. وتاسست كلية الاداب والعلوم 1949 وانقسمت الى كليتي الاداب والعلوم عام 1953 وكانت اول كلية اكاديمية (غير مهنية). وفي عام 1956، تم سن اول قانون لتاسيس جامعة في العراق باسم "جامعة بغداد".
في عام 1957، تم تاسيس جامعة بغداد رسميا، وكانت تضم في البداية كليات الحقوق والاداب والعلوم والطب والهندسة. وقد شهدت الجامعة نموا وتوسعا كبيرا في العقود اللاحقة، حيث تم اضافة العديد من الكليات والمعاهد الاخرى، مثل كليات الزراعة والصيدلة والطب البيطري والتربية والفنون الجميلة. وفي عام 1959 تقرر البدء بفتح الدراسات العليا، وانجزت دراسات مفصلة حول هذا المشروع المهم، في كلية العلوم مثلا تقرر اولا ان تبنى بناية مستقلة لمكتبة كبيرة ورصدت الاموال لهذا المشروع، لكن مع الاسف في 1963 تقلصت مساحة المكتبة وتحول نصف البناية لاشغال عمادة الكلية.
وضع عبد الكريم قاسم الحجر الاساس لبناية جامعة بغداد في 17 تموز 1959 وصمم الجامعة المهندس الامريكي والالماني الاصل وولتر گروبيوس. من الرموز المهمة التي ادخلها في التصميم: القوس في مدخل الجامعة حيث صٌمم على قطعتين قوس المدخل يرمز الى فصي الدماغ الايمن والايسر وفي اعلاه فتحة لا يمكن ان تنغلق وبجمع القوس رمز بالعقل المنفتح الذي يتلقى العلم بدون حدود. وما هو بارز في تاريخ الجامعة هو تعيين العالم العراقي الدكتور عبد الجبار عبد الله رئيسا للجامعة عام 1959 وكان من افضل علماء الانواء الجوية الذين برزوا في العالم.
دور جامعة بغداد في تخريج الكفاءات العراقية
لعبت جامعة بغداد دورا حاسما في تخريج اجيال من الكفاءات العراقية في مختلف المجالات. فقد ساهمت الجامعة في تزويد العراق بالمهندسين والاطباء والمحامين والمدرسين الذين ساهموا في بناء وتطوير العراق الحديث.
تخرج من جامعة بغداد العديد من الشخصيات البارزة في العراق، الذين اسهموا بشكل كبير في مختلف المجالات، مثل العلوم والسياسة والادب والفنون. وقد تبوا العديد منهم ارفع المناصب في العراق وخارجه من رؤساء الوزراء والوزراء والبرلمانيين والاكاديميين والفنانين والادباء. كثيرون من الاعلام تخرجوا من جامعة بغداد منهم من سار على خطى اساتذته الاجلاء، امثال عبد الجبار عبد الله في فيزياء الانواء الجوية، وفخري البزاز في البيئة النباتية والتطور البيولوجي، وصالح جواد الوكيل في الكيمياء الحياتية والانزيمات، وطه باقر وبهنام ابو الصوف في مجال الاثار والتاريخ القديم، وعلي الوردي في علم الاجتماع، ومحمد سلمان حسن في الاقتصاد السياسي، وابراهيم كبه وفاضل عباس الحسب في الفكر الاقتصادي، وحسين امين في التاريخ العراقي والعربي الحديث، ومصطفى جواد في الدراسات اللغوية والتاريخية، وعبد العزيز الدوري في التاريخ العربي الاسلامي، وفرحان باقر وكمال السامرائي وعبد اللطيف البدري وزهير البحراني وخالد القصاب في العلوم الطبية، ومحمد مكية ومهدي حنتوش في العلوم الهندسية، وعلي حسين البهادلي وعلي عبد الحسين في العلوم الزراعية، وعدد كبير من العلماء الذين تركوا بصمات لا تمحى في التاريخ العلمي للعراق، واعتذر عن اغفالي ذكر اسماء هؤلاء العلماء الاجلاء. واليوم، يواصل عدد كبير من العلماء من خريجي جامعة بغداد، مسيرتهم في داخل العراق وخارجه، وهم منتشرون في انحاء العالم، من امريكا الى استراليا، لكن قلوبهم وعقولهم متجهة نحو خدمة العراق.
خريجو جامعة بغداد، هم قصة عطاء مستمرة، فكما تخرجوا من هذا الصرح العظيم، فهم اليوم يحملون اسم جامعتهم عاليا في كل مكان، ويساهمون في بناء مستقبل مشرق لوطنهم العراق.
دور جامعة بغداد في التنمية والتاثير في المجتمع العراقي
بالاضافة الى تخريج الكفاءات، لعبت جامعة بغداد دورا هاما في التنمية والتاثير في المجتمع العراقي. فقد ساهمت الجامعة في تطوير البحث العلمي في العراق، وقدمت العديد من الدراسات والابحاث التي ساهمت في حل المشكلات التي تواجه المجتمع العراقي ومن خلال مراكز بحوث متميزة. وقدم باحثو الجامعة دراسات حول معالجة المياه وتلوث الهواء، وقدموا حلولا مبتكرة للمشاكل البيئية التي تواجه العراق. كما ساهمت الجامعة في تطوير القطاع الصحي في العراق، وقدمت العديد من الدراسات والابحاث التي ساهمت في تحسين الرعاية الصحية في العراق، منها دراسات حول انتشار الامراض السرطانية. وعملت على توفير الاستشارات من خلال مكاتبها الاستشارية المتخصصة لتساهم في عمليات التطوير والتدريب ووضع الخبرات العلمية والفنية في خدمة الخطط التنموية وتقديم الاستشارات لحل المعضلات الهندسية والطبية والزراعية والادارية والاقتصادية وغيرها.
كما لعبت جامعة بغداد دورا هاما في نشر الثقافة والمعرفة في المجتمع العراقي، وقدمت العديد من المؤتمرات والندوات التي ساهمت في رفع مستوى الوعي الثقافي لدى المواطنين العراقيين. واستضافت جامعة بغداد العديد من المؤتمرات الدولية حول القضايا الاجتماعية والسياسية التي تواجه العراق، وساهمت في نشر الوعي لدى المواطنين العراقيين.
بالاضافة الى ذلك، لعبت جامعة بغداد دورا هاما في تطوير الاقتصاد العراقي. فقد قدمت الجامعة العديد من الدراسات والابحاث التي ساهمت في تطوير القطاعات الاقتصادية المختلفة في العراق. مثل ما قدم باحثوها حلولا مبتكرة لزيادة الانتاج الزراعي والقضاء على الامراض الزراعية. كما ساهمت الجامعة في تطوير القطاع الصناعي في العراق، وقدمت العديد من الدراسات والابحاث التي ساهمت في تحسين جودة المنتجات الصناعية العراقية.
بشكل عام، يمكن القول ان جامعة بغداد لعبت دورا هاما في التنمية والتاثير في المجتمع العراقي. فقد ساهمت الجامعة في تطوير البحث العلمي، وتحسين الرعاية الصحية، ونشر الثقافة والمعرفة، وتطوير الاقتصاد العراقي.
التحديات التي تواجه جامعة بغداد
تواجه جامعة بغداد تحديات كبيرة تعيق تقدمها، بما في ذلك المركزية المفرطة حيث تخضع لادارة ورقابة صارمة من وزارة التعليم العالي، مما يحد من استقلاليتها. كما تواجه نقصا حادا في التمويل يؤثر على قدرتها على توفير بيئة تعليمية مناسبة، وتدهورا في البنية التحتية لمبانيها ومرافقها. تشهد نوعية البحث العلمي في الجامعة تراجعا ملحوظا، وتوسعت بشكل كبير في عدد الطلاب والبرامج دون زيادة ملحوظة في الموارد. على الرغم من هذه التحديات، تبذل الجامعة جهودا كبيرة للتغلب عليها، من خلال وضع خطط استراتيجية للتطوير، والبحث عن مصادر تمويل اضافية، وتطوير البنية التحتية، وتشجيع البحث العلمي، وتطوير المناهج الدراسية، والتعاون مع الجامعات العالمية. تسعى جامعة بغداد جاهدة لاستعادة مكانتها المرموقة، ومواصلة دورها في خدمة المجتمع العراقي.
مستقبل جامعة بغداد
تطمح جامعة بغداد الى ان تصبح واحدة من افضل الجامعات في المنطقة والعالم. وتسعى الجامعة الى تحقيق هذا الهدف من خلال تطوير برامجها الاكاديمية والبحثية، وجذب افضل الكفاءات التدريسية، وتوفير بيئة تعليمية محفزة للطلاب. ولربما بالحصول على استقلاليتها الادارية والاكاديمية ستتمكن من استعادة دورها السابق في قيادة التعليم العالي على الصعيد العربي والشرق اوسطي. هذا يتطلب اعادة تقييم وضعها مثلما كانت عليه في السابق عندما كان لرئيس الجامعة صلاحيات واسعة مشابهة لصلاحيات وزير.
***
ا. د. محمد الربيعي
بروفسور متمرس ومستشار دولي، جامعة دبلن

‏‏كان يقال ان إيمانويل كانط لم يقرأ أي كتاب مرتين، باستثناء كتاب " بحث في الفهم الإنساني " لديفيد هيوم - ترجم الكتاب الى العربية باكثر من ترجمة ابرزها ترجمة موسى وهبه بعنوان بحث في الفاهمة البشرية -، وقد قال عنه انه ايقظه من غفوته .عندما صدر كتاب هيوم عام 1748 كان كانط يبلغ من العمر اربعة وعشرين عاما .عاش حياة منظمة وشديدة الصرامة، كان يحتفظ بالكتب في مكانين اثنين، غرفة الطعام، حيث خصص بها مساحة لتخزين بعض الكتب التي يقرأها اثناء تناوله قدح الشاي في الخامسة صباحا، أما المكان الثاني فكان خزانة خشبية كبيرة، تحتل جدارا كبيرا في غرفة المكتب، في اوقات الظهيرة يتمدد على كرسي ليقرأ، وكان مهتما بقراءة الصحف كل يوم، مع قراءة كتب في الرحلات والعلوم الطبيعية والطب . الخزانة مليئة بالكتب الفلسفية والعلمية ونسخة من رواية دون كيخوته مترجمة الى الالمانية، ونسخة قديمة من كتاب " المبادئ " لاسحاق نيوتن . وفي غرفة النوم يضع كتب روسو وديفيد هيوم قرب سريره، حيث يقرأ ساعة قبل النوم، وفي الاثناء يسجل في اوراق بعض الملاحظات .
‏يكتب فريدريك غرو في كتابه " فلسفة المشي" – ترجمة سيعيد بوكرامي - ان كانط لم يغير مساره اليومي إلا مرتين في حياته، مرة للحصول على نسخة مبكرة من كتاب إميل لجان جاك روسو. ومرة عندما ذهب لمتابعة اخبار الاعلان عن الثورة الفرنسية.
‏توصف فلسفة كانط بانها شبيهة بثورة كوبرنيكوس في الفيزياء عندما اخبرنا ان الارض لم تعد مركز الكون، وإنما الشمس،، جاء كانط ليطلب منا ان نغير نظرتنا فيما يتعلق بالمعرفة " إذا اردنا معرفة حدود عالمنا، يجب علينا ان نتحقق من حدود قدرتنا الذاتية على المعرفة "، فهو بدلا من ان يحاول تفسير المفاهيم العقلية على اساس التجربة، قام بتفسير التجربة على اساس المفاهيم العقلية، وهكذا ووفقا للثورة " الكانطية، اصبح من واجب الاشياء والحقائق الموضوعية ان تدور حول العقل لكي تتحول الى معرفة، بدلا من أن يدور العقل حول الاشياء والحقائق الموضوعية لكي يحصل على المعرفة . وقد تصور كانط انه بهذا الكتاب انما يصحح خطأ تاريخيا في ميدان المعرفة، اشبه بالخطأ الذي قام كوبرنيكوس بتصحيحه في علم الفلك . قام كانط بتثوير كل المفاهيم المعروفة حول الزمان والمكان والمادة وحرية الإرادة ووجود الخالق. مؤكداً: " إن الجزم بالمفاهيم السائدة، بكلمة نعم أو لا، يعتبر مصيدة عقلية، وسعى الى انقاذ القوانين العلمية للطبيعة، وعلى الأخص علم الفيزياء من الشك، وذلك عن طريق اثبات ان الارتباطات الضرورية لقوانين الفيزياء تقوم على التصور السببي الضروري للعقل البشري. لقد اضطر كانط لإنقاذ الحقيقة والمصداقية العلمية، الى جعل القوانين العلمية تعتمد على العقل وتصوراته، والى القول بأن النظام الذي تبرهن عليه قوانين الفيزياء ليس في الطبيعة بل هو آتٍ من التصورات الكلية والضرورية للعقل الانساني. حيث اكتشف ان الطبيعة لا تعطي العقل البشري قوانينها، لكن العكس هو الصحيح، فالعقل هو الذي يعطي الطبيعة قوانينه الخاصة، من خلال تصوراته الضرورية التي تنظم جميع المواد الحسية، وهذه هي التصورات التي تشكل وتنظم وتنشئ جميع تجاربنا ومعرفتنا بالطبيعة، ونذكر عبارة كانط الشهيرة "العقل مشروع الطبيعة"، وهكذا يتضح ان قوانين الطبيعة تعتمد على تصورات العقل البشري. ومع ظهور كانط اصبح النظام العالمي تابعاً للعقل كما قال برتراند رسل. وان المعرفة هي نتاج نشاط العقل البشري.
‏في الثانية والعشرين من عمره سيكتب إيمانويل كانط الذي ظل عازبا طوال حياته: " لقد رسمت لنفسي الطريق الذي ساسير عليه في حياتي، ولن يمنعني شيء من متابعة السير والمضي قدما ".
***
علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

(نموذج من المخاطبات الشفاهيَّة والكتابيَّة)

إذا كان قد ظهرَ بعد (الشَّريف الرَّضِي، ـ406هـ) مَن ألَّفَ نصوصًا على غِرار نصوص «نَهْج البلاغة» المنسوبة إلى (عَليِّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، ـ40هـ)، تأثُّرًا وإعجابًا(1)، فإنَّه من المعروف أنَّ المحاكاة في الثقافات الشِّفاهيَّة- وتظلُّ الخطابةُ نتاجًا شفويًّا حتى في الثقافات الكتابيَّة- تكون أشدَّ شيوعًا بين الناس. ومن هنا فلا بُدَّ أنه كان لمدرسة عَليٍّ في الخطابة مُعجبون كُثْر، ومُقلِّدون توارثوا خُطَبَه ومحاولات تقليدها عبر العصور. فاختلطَ هذا بذاك، والتبسَ المقلَّد بالمقلِّد، حتى أصبح ذلك التُّراث كلُّه أو جلُّه يُعْزَى إلى عَليٍّ، كما يحدث عادةً مع أولئك المشاهير الذين يطغى صيتهم على سِواهم، فيُنسَب إليهم كثير ممَّا شابهَ إحسانَهم. وإذا كُنا قد رأينا، في المساق الماضي، كيف وقع الالتباس في «نَهْج البلاغة» بين كلام (الرسول، صلى الله عليه وسلَّم)، وكلام عَليٍّ، وبين كلام بعض الصحابة وكلام عَليٍّ، بل بين كلام أبناء عَليٍّ وأتباعه وبين كلامه- بالرغم من أنَّ بعض ذلك كان مدوَّنًا مثبتًا لقائليه قبل تأليف «نَهْج البلاغة»- فإنَّ غير المدوَّن ولا المُثْبَت ولا المشهور أَولَى بأن يلتبس، وأن يُضاف إلى المؤثِّر الأوَّل، أستاذ تلك المدرسة، ابن أبي طالب. ومع هذا، فإنَّ المقلِّد مهما كان بارعًا في تقليده، حريصًا على محاكاة نموذجه، لا يستطيع أن يكون مطابقًا للأصل الذي قلَّده، بحالٍ من الأحوال. وهذا قد يفسِّر لنا ما ظهرَ من تفاوتٍ بين كلامٍ وكلام، وبين أسلوبٍ وأسلوب، بل أحيانًا بين مضمونٍ وآخَر، ممَّا سُلِك في عِقدٍ واحدٍ سُمِّي «نَهْج البلاغة»؛ من حيث إنَّ القائلين كُثْر، والكَتَبة متعدِّدون، والأعصُر متفرِّقة، والأمزجة مختلفة.
كذا استأنفَ بنا (ذو القُروح) نقاشه. قلتُ:
ـ كثيرًا ما قَعْقَعْتَ علينا باختلاف أساليب الناس في صدر الإسلام عن أسلوب «نَهْج البلاغة»، الذي تراه أسلوبًا عبَّاسيًّا، يرجع إلى القرن الرابع للهجرة. فهلَّا- بعد هذا الهِياط(2)- ضربتَ لنا مثالًا على أساليب صدر الإسلام.
ـ بعد هذا الهِياط، ستجد الأمثلة كثيرة. وقد سبق أن ضربتُ لك الأمثلة، من خُطب (أبي بكر الصِّدِّيق، رضي الله عنه)، بل من خُطب (عَليٍّ) نفسه، وخُطَب بعض ولده. لكنِّي سآتيك بنموذجٍ شاهد، يجمع لك بين المكتوب والمنطوق. فلعلَّك تزعم أنَّ الاستشهاد بالمنطوق على المنطوق لا شاهد فيه؛ لأنهما متساويان في ظنِّيَّة الثُّبوت، غير أنَّ المكتوب أوثق. وسآتيك بهذا الشاهد برواية أحد شارحي «نَهْج البلاغة» العَلَوِيِّين، ومع ذلك فإنه، كغيره، لا يتنبَّه إلى ما سمَّاه (الذَّهَبي) بـ«نَفَس الصحابة» وجِيلهم واختلافه عن نَفَس الأجيال اللَّاحقة، ولا سيما في العصر العبَّاسي، الذي جاء «نَهْج البلاغة» على منواله. فانظر، مثلًا، إلى هذه المراسلات بين (عُمَر بن الخطَّاب) و(عمرو بن العاص)، مع بعض المخاطبات الشَّفويَّة أثناء ذلك، لتستشفَّ: كيف كان الناس يعبِّرون، ويصوغون جُملهم التداوليَّة في ذلك الزمن، مشافهةً ومكاتبة؟ ومن ثَمَّ لعلَّك تُقارن هذا بذلك الذي نسبه (الشَّريف الرَّضِي) إلى الأمام عَليٍّ، لتلحظ الفرق الشاسع. ويتعلَّق شاهدنا بمكافحة الفساد، الذي لا سبيل إلى اجتثاثه إلَّا بعزيمةٍ كعزيمة ابن الخطَّاب. ففي هذا الشأن، روى (ابن أبي الحديد، ـ656هـ)(3)- شارح «نَهْج البلاغة»- عن (الزُّبير بن بكَّار، ـ256هـ)، ما يأتي:
«لمَّا قلَّد (عُمَرُ) (عمرو بن العاص) (مِصْر)، بلغَه أنَّه قد صار له مالٌ عظيمٌ، من ناطقٍ وصامت! فكتبَ إليه:
«أمَّا بعد، فقد ظهرَ لي مِن مالِكَ ما لم يكن في رزقك، ولا كان لك مالٌ قبل أن أستعملك! فأنَّى لكَ هذا؟! فوالله، لو لم يهمَّني في ذات اللهِ إلَّا مَن اختانَ في مال الله، لكثُر هَمِّي، وانتثرَ أمري! ولقد كان عندي من المهاجرين الأوَّلين مَن هو خيرٌ منك، ولكنِّي قلَّدتك رجاءَ غنائك. فاكتب إليَّ: مِن أين لك هذا المال.. وعَجِّل!»
فكتب إليه (عمرو):
«أمَّا بعد، فقد فهمتُ كتابَ أمير المؤمنين. فأمَّا ما ظهر لي من مال، فإنَّا قَدِمنا بلادًا رخيصة الأسعار، كثيرة الغَزْو، فجعلنا ما أصابنا في الفضول التي اتَّصل بأمير المؤمنين نبؤها. ووالله، لو كانت خيانتُك حَلالًا ما خُنتُك، وقد ائتمنتني! فإنَّ لنا أحسابًا، إذا رجعنا إليها أغنتْنا عن خيانتك! وذكرتَ أنَّ عندك من المهاجرين الأوَّلين مَن هو خيرٌ منِّي. فإذا كان ذاك، فوالله، ما دَقَقْتُ لك، يا أمير المؤمنين، بابًا، ولا فتحتُ لك قُفلًا!»
فكتب إليه (عُمَر):
«أمَّا بعد، فإنِّي لستُ من تسطيرك الكتاب، وتشقيقك الكلام، في شيء! ولكنَّكم، معشرَ الأُمراء، قعدتُم على عُيون الأموال، ولن تعدموا عُذرًا، وإنَّما تأكلون النار، وتتعجلَّون العار! وقد وجَّهت إليك (محمَّد بن مسلمة)، فسلِّم إليه شَطْرَ مالِك!»
فلمَّا قَدِم محمَّد، صنع له (عمرو) طعامًا، ودعاه فلم يأكل، وقال:
«هذه تَقْدِمة الشَّر! ولو جئتني بطعام الضيف، لأكلت. فنحِّ عنِّى طعامك، وأحضِر لي مالَك!»
فأحضره، فأخذ شَطْرَه. فلمَّا رأى (عمرو) كثرةَ ما أخذ منه، قال:
«لعنَ الله زمانًا صِرْتُ فيه عاملًا لعُمَر! والله، لقد رأيتُ عُمَر وأباه على كلِّ واحدٍ منهما عباءة قَطَوانيَّة، لا تُجاوز مأبض ركبتَيه، وعلى عنقه حزمة حطَب، و(العاص بن وائل) في مُزَرَّرات الديباج!»
فقال (محمَّد):
«إيهًا، عنك يا عمرو! فعُمَر، والله، خيرٌ منك! وأمَّا أبوك وأبوه فإنهما في النار! ولولا الإسلام لأُلفِيتَ معتلِفًا شاةً، يسرُّك غُزْرُها، ويسوءك بُكْوءها!»
قال: «صدقتَ، فاكتُم عليَّ!» قال: «أَفْعَلُ».»
فأين بديعيَّات العصر العبَّاسي هاهنا، التي كان يتفنَّن فيها صاحب «النَّهْج»؟! إنك لا تجد حتى من السَّجع إلَّا ما ليس يُذكر، من ذلك النوع العارض، مثل قول (عُمَر): «إنما تأكلون النار، وتتعجلَّون العار». وليس هذا بشيء. فهذا نموذج من أساليب الأُمراء في صدر الإسلام في المخاطبات الشَّفويَّة، وفي المكاتبات الدِّيوانيَّة الرسميَّة. فانظر أين هذا من ذاك؟ واحكم!
ـ ماذا عن اللُّغة؟
ـ أمَّا اللُّغة، فيصعب الاحتجاج بها في هذا السياق؛ لأنَّ لُغة العَرَب واسعة وتحتمل التعدُّد في اللهجات، وإنْ سعَى اللُّغويُّون إلى توحيدها في قوالب محدَّدة جامدة، كما أنَّها تحتمل الغلط في الرواية.
ـ مثل ماذا؟
ـ مثل استخدام كلمة «أَرْعَدَ» و«أَبْرَقَ»، في خطبة «النَّهْج» التاسعة، التي جاء فيها: «وقَدْ أَرْعَدُوا وأَبْرَقُوا، ومَعَ هَذَيْنِ الأَمْرَيْنِ الفَشَلُ.»(4) فـ(الأصمعي) يزعم أنَّ العَرَب لا تقول في وصف التهديد: أَرْعَدَ وأَبْرَقَ، بل رَعَدَ وبَرَقَ. وحين احتجُّوا عليه بقول (الكُمَيت):
أَبْـرِقْ وَأَرْعِـدْ يَـا يَزِيــ ::: ـدُ فَمَا وَعِيدُكَ لِي بِضَائِرْ
«قَالَ: الكُمَيت جُرْمقانِىٌّ من أهل (الموصل) ليس بحُجَّة!»(5) هذا زَعْم الأصمعي، ولكنَّنا نجد قبل الكُمَيت- ومن غير «الجُرْمقانيِّين»، أي القرويِّين- أنَّ ممَّا يُنسَب إلى (معاوية بن أبي سُفيان)(6) البيت:
فأَبْرِقْ وأَرعِدْ ما استطعتَ فإِنَّني ::: إليكَ بما يشجيكَ سَبْطُ الأَناملِ
بل يقول الشاعر الجاهلي (المُتلمِّس الضُّبَعي)(7):
فـإِذَا حَلَـلْـتُ ودُونَ بَيْـتَـيَ غَـاوَةٌ ::: فـابْرُقْ بِأَرْضِكَ ما بَدَا لَكَ وارْعُدِ
وقال (المُهَلْهِل بن ربيعة)(8):
أَنْبَـضُوا مَعْجِـسَ القِسِـيِّ وأَبْرَقْـ ::: ــنَا كَمَـا تُوعِدُ الفُحُولُ الفُحُولا
على أنه قد رُدَّ كلام (الأصمعي). فقد حدَّث (أبو بكر ابن دريد)، عن (أبي حاتم)، عَقِب كلام الأصمعي، قال: «فأتيتُ أبا زيد، فقلتُ له: كيف تقول من الرَّعد والبَرق: فَعَلَتْ السماءُ؟ فقالَ: رَعَدَتْ وبَرَقَتْ، فقلتُ: فمن التهدُّد؟ قَالَ: رَعَدَ وبَرَقَ، وأَرْعَدَ وأَبْرَقَ؛ فأجازَ اللُّغتَين جميعًا. وأقبلَ أعرابيٌّ مُحْرِم، فأردتُ أن أسأله، فقَالَ لي أبو زيد: دَعْني؛ فأنا أعرفُ بسؤاله منك! فقَالَ: يا أعرابي، كيف تقول: رَعَدَتْ السماءُ وبَرَقَتْ، أو أَرْعَدَتْ وأَبْرَقَتْ؟ فقَالَ: رَعَدَتْ وبَرَقَتْ، فقَالَ أبو زيد: فكيف تقول للرَّجُل من هذا؟ فقَالَ: أَمِنَ الجخيف تريد؟ يعني التهدُّد. قلت: نعم، فقَالَ: أقول: رَعَدَ وبَرَقَ، وأَرْعَدَ وأَبْرَقَ.»(9)
ـ ثمَّ ما يُدرينا أكان النصُّ المنسوب إلى (عَليٍّ) بصيغة «وقَدْ أَرْعَدُوا وأَبْرَقُوا»؟ أم بصيغة «وقَدْ رَعَدُوا وبَرَقُوا»؟!
ـ مهما يكن، فإنَّ الشِّعر يُثبِت جواز ما خطَّأه (الأصمعي)؛ لأن الشِّعر يَحكُمه البحر، ولا يَقبل التغيير في مثل هذا، وإلَّا انكسر الوزن. ولعلَّه لهذا اعتمد على الشِّعر النحويُّون واللُّغويُّون أكثر من اعتمادهم على النثر؛ لأنَّ بقاء النصِّ فيه كما قاله قائله موثوق غالبًا، لضوابط الأوزان والقوافي. ومن هنا فلا حُجَّة في مثل هذا الملحظ اللُّغوي يمكن أن يُحتجَّ بها في أنَّ لُغة «النَّهْج» لا توافق اللُّغة المتوقَّعة من (عَليِّ بن أبي طالب)، أو غيره من أهل عصور الاحتجاج، كما كانت تُسمَّى.
[للحديث بقيَّة].
***
أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي
........................
(1) وقد بلغ عدد المؤلِّفين المحاكِين «نَهْج البلاغة»- الذين رصد أعمالهم (الخطيب، عبد الزهراء، (1985)، مصادر نَهْج البلاغة وأسانيده، (بيروت: دار الأضواء)، 1: 271- 273)- سبعة مؤلِّفين.
(2) الهِياط: كلمة فصيحة. ويُذكَر أنها بمعنى: الصِّياح والجَلَبَة. ومن ذلك قول العَرَب: «القوم في هِياط ومِياط». والمِياط: الدِّفاع والمشادَّة. (يُنظَر: ابن قتيبة، (د.ت)، أدب الكاتب، تحقيق: محمَّد الدالي، (بيروت: مؤسَّسة الرسالة)، 44). غير أنَّ العامِّيَّة اليوم تُنبئنا أنَّ (الهِياط) ليس مجرَّد الصِّياح، بل هو صياح مع ادِّعاء. وقال (ابن منظور، اللِّسَان، (هيط)): «وقد أُمِيتَ فِعْلُ الهِيَاط»! وهذا زعمٌ غير صحيح، بل هو حيٌّ يُرزق إلى اليوم، بعد (ابن منظور) بقرون! لكنَّ بُعد أرباب العَرَبيَّة الفُصحى عن عَرَبيَّة الناس اليوميَّة داءٌ قديم!
(3) يُنظَر: (1959)، شرح نَهْج البلاغة، تحقيق: محمَّد أبي الفضل إبراهيم، (القاهرة: دار إحياء الكتب العَرَبيَّة)، 1: 174- 175.
(4) (1990)، نَهْج البلاغة، شرح: محمَّد عبده، (بيروت: مؤسَّسة المعارف)، 114.
(5) يُنظَر: القالي، (1975)، الأمالي، عناية: محمَّد عبدالجواد الأصمعي، (القاهرة: الهيئة المِصْريَّة العامَّة للكتاب)، 1: 128.
(6) (1996)، ديوان معاوية بن أبي سُفيان، تحقيق: فاروق أسليم بن أحمد، (بيروت: دار صادر)، 106/ 6.
(7) (1970)، ديوان شِعر المتلمِّس الضُّبَعي، تحقيق: حسن كامل الصيرفي، (القاهرة: معهد المخطوطات العَرَبيَّة)، 147/ 15.
(8) (1993)، ديوان مهلهل بن ربيعة، شرح: طلال حرب، (بيروت: الدار العالميَّة)، 63/ 8.
(9) القالي، أمالي القالي، 1: 128- 129.

العقل العربي، كمنتج تاريخي وسياسي، ظلّ خاضعًا لبنية سلطوية معقدة تتجاوز الأنظمة السياسية إلى أنماط التفكير والسرديات المهيمنة التي تمأسست عبر قرون من الاستلاب. إن هذا العقل لم يتشكل في فضاء حر، بل صيغ عبر أجهزة أيديولوجية متشابكة، تضافرت فيها السلطة السياسية، والدين المُمنهج، والمؤسسة العسكرية، والاقتصاد الريعي، لتخلق ذاتًا عربية هشّة، مستلبة، محاصرة بسرديات قسرية تمنعها من الانخراط في مشروع نقدي جذري.
هذه الهيمنة لم تقتصر على الجماهير، بل امتدت إلى المثقف الذي كان من المفترض أن يكون القادر على تفكيكها، لكنه في الغالب استحال إلى كائن مُذعن، خاضع، يكرر ما تنتجه المؤسسة بدل أن يكون قاطعًا معها. لكن هذا الاستلاب لا يمكن قراءته فقط من خلال المنظور السياسي، بل يجب فهمه أيضًا كنظام نفسي معقد، حيث يتحول القمع الخارجي إلى جزء من بنية اللاوعي، فتتم عملية ضبط الذات ليس فقط عبر القوة المباشرة، بل عبر آليات داخلية تجعل الفرد يتماهى مع القامع إلى حدّ الدفاع عنه.
وهنا يمكن استدعاء تحليل فرويد حول “الأنا الأعلى” بوصفه سلطة داخلية تتولى تأديب الذات، أو ما يسميه ألتوسير بـ “الاستدعاء الأيديولوجي”، حيث يُعاد إنتاج القمع داخل الفرد ذاته، لا عبر العنف فحسب، بل عبر منظومة القيم التي تفرض نفسها بوصفها طبيعية وغير قابلة للنقاش.
هذا الاستلاب يبدأ منذ اللحظة الأولى التي يُوضع فيها الفرد داخل منظومة تعليمية مُصممة لإعادة إنتاج التراتبية، لا لتحديها. المدرسة ليست فضاءً للشك، بل مصنعًا لإنتاج الامتثال، والجامعة ليست ساحةً للسؤال، بل مسرحًا لاستعراض الهيمنة وإعادة توزيعها.
هذه السيرورة تجعل العقل العربي غير قادر على إنتاج نقد ذاتي، لأنه غارق في تصديق السرديات الكبرى التي تصنع له وهم التفوق أو الاستثناء، رغم أنه في جوهره يعاني من هشاشة بنيوية تجعله غير قادر على مجابهة الأسئلة الوجودية للحداثة وما بعدها.
هنا يمكن الاستفادة من تحليل جان بودريار لفكرة “المحاكاة”، حيث لا يعود العقل العربي يعيش في واقع حقيقي، بل في محاكاة لواقع مصطنع تخلقه الدولة ووسائل الإعلام والمؤسسة الدينية، بحيث يبدو كل شيء طبيعيًا، حتى لو كان قائمًا على التزييف.
في هذا السياق، يصبح الخطاب الديني أداة حيوية لاستمرار الإذعان، ليس بوصفه دينًا قائمًا على تجربة روحية فردية، بل باعتباره جهازًا سلطويًا يُستخدم لإعادة إنتاج الطاعة، بحيث يُختزل الدين في سردية رسمية تُعادي النقد وتُعيد إنتاج المقدس في قالب يخدم البنية السلطوية.
وهنا لا يمكن الحديث عن العقل العربي دون استحضار مفهوم الهيمنة لدى غرامشي، حيث تصبح الأيديولوجيا وسيلة لضبط الجماهير عبر الاستيلاء على وعيها، لا عبر القمع المباشر فقط، بل عبر خلق منظومة تجعل الاستلاب يبدو طبيعيًا، بل مرغوبًا.
فالفرد العربي، وقد تشبّع بهذه البنية، يمارس نوعًا من الطاعة الطوعية، ليس خوفًا فقط، بل لأن أي محاولة للخروج على هذه السرديات تجعله في مواجهة الفراغ، حيث لا بديل جاهز سوى إعادة التفكير في كل شيء، وهذه مهمة مرعبة لمن نشأ على تقديس الموروث بوصفه يقينًا لا يُمسّ.
هذا ما يجعل السلطة أكثر فاعلية، حيث لا تحتاج دائمًا إلى ممارسة العنف المباشر، بل يكفي أن تجعل الجماهير ترى في الخضوع شكلًا من أشكال الهوية والانتماء.
هنا يظهر دور الجيش، ليس فقط كقوة قمعية، بل كمُنتج للسردية القومية التي تبرر وجوده كفاعل مقدس لا يخضع للمساءلة. فالأنظمة العربية لم تكن مجرد ديكتاتوريات عسكرية، بل كانت آلات ضخمة لإنتاج سرديات الاستثناء، حيث يصبح الجيش هو الحامي، والقائد هو الرمز، والمثقف هو المُبرر، والعدو هو الآخر المتخيل الذي يُعاد تشكيله حسب الحاجة السياسية.
وبهذا يصبح نقد السلطة ضربًا من الخيانة، حتى عند أولئك الذين يُفترض أنهم امتلكوا أدوات تفكيكها. من هنا يمكن استدعاء تحليل دولوز وغوتاري حول “آليات السيطرة”، حيث لم تعد السلطة في العالم الحديث مجرد قمع مباشر، بل تحولت إلى شبكات متداخلة من الضبط والإنتاج، حيث يصبح المثقف ذاته جزءًا من هذه المنظومة، إما عبر التواطؤ، أو عبر استدراجه إلى دوائر أكاديمية معزولة عن الفعل السياسي الحقيقي.
المثقف العربي، الذي كان من المفترض أن يكون في موقع المواجهة، ظل في الغالب عالقًا بين التواطؤ الصريح أو الصمت المُطبق. ربما لأنه، كما يرى فوكو، ليس كائنًا خارج السلطة، بل هو جزء من نظام إنتاج المعرفة الذي يحدد ما يُقال وما لا يُقال.
هذا يفسر لماذا ظل أغلب المثقفين يمارسون خطابًا دوغمائيًا، حتى عندما يرتدون قناع التقدمية. فهم إما موظفون لدى السلطة بشكل مباشر، أو خائفون من أن يُسحب الامتياز الرمزي الذي تمنحه لهم الدولة بوصفهم “مثقفين معترف بهم”، أو غارقون في ترف التحليل الأكاديمي المعزول عن الفعل السياسي.
وهنا تظهر المفارقة التي أشار إليها بيير بورديو حول “رأس المال الرمزي”، حيث يصبح المثقف خاضعًا لمنظومة السلطة لأنه يسعى إلى الحفاظ على مكانته، مما يجعله يعيد إنتاج الخطاب السائد حتى وهو يتظاهر بنقده.
لكن، وسط هذه العتمة، كانت هناك استثناءات. قلة من المثقفين حاولوا اختراق الجدار، من مهدي عامل إلى هشام جعيط، ومن صادق جلال العظم إلى نصر حامد أبو زيد، وغيرهم ممن دفعوا الثمن باهظًا لأنهم تجرأوا على خلخلة السرديات المهيمنة.
هؤلاء لم يكونوا فقط ضد السلطة السياسية، بل أيضًا ضد الذهنية القبلية والعشائرية التي تجعل المجتمع ذاته جزءًا من ماكينة القمع. فالثائر الحقيقي في العالم العربي لا يواجه فقط النظام، بل يواجه الجماهير التي تماهت مع القامع حدّ الدفاع عنه، كما رأينا في كل لحظة ثورية قُمعت بالهتاف نفسه الذي استخدمه القاتل.
إن هذه البنية المعقدة تجعل التحرر صعبًا، لكنه ليس مستحيلًا. ما يحتاجه العقل العربي اليوم ليس إعادة إنتاج ذات النخب الفاشلة التي صنعتها الدولة العميقة، بل ولادة مشروع ما بعد حداثي قادر على تفكيك كل شيء: الدولة، الدين السياسي، الجيش، المؤسسات الثقافية الرسمية، والأهم، نقد الذات بوصفها أيضًا جزءًا من المشكلة.
فالهروب إلى نظرية المؤامرة، أو تعليق كل شيء على شماعة “الخارج”، هو في ذاته شكل من أشكال إعادة إنتاج الهيمنة، حيث يتم إلغاء الفاعلية الذاتية لصالح خطاب الضحية.

لكن هذا المشروع لا يجب أن يكون مجرد هدم للسرديات القديمة، بل يجب أن يكون قادرًا على تقديم بديل، بديل لا يعيد إنتاج الشمولية في شكل آخر، بل يقوم على تحرير الفرد من كل وصاية، بحيث يكون قادرًا على إنتاج حقيقته الخاصة، بلا خوف، وبلا أوهام كبرى.
هذا البديل يجب أن يذهب إلى ما هو أبعد من المطالبة بإصلاح سياسي، ليصل إلى تفكيك عميق لكل البُنى السلطوية التي صاغت وعي الإنسان العربي منذ قرون، بحيث لا يكون التحرر مجرد شعار، بل تجربة وجودية كاملة تُعيد تعريف الذات والعالم.
***
إبراهيم برسي

 

كان من قبيل البداهه ان تتكفل اوربا بالرؤية المواكبه لانبثاق الاله ومانتج عنها وتسببت فيه من حالة تسارع في الديناميات المجتمعية، وهو ماقد حدث ليوافق المنجز الفكري التصوري يالمادي الانقلابي، فاذا كان الاول خارج الفعل الواعي الاوربي، فان الثاني بالاحرى كان ومايزال حريا بان ينسب للمكان الذي وقعت فيه الصدفة من دون ان يتناولها احد، واولهم الغرب نفسه الذي ابدع في الكثير من المجالات الرئيسية، من دون ان يجرب الانغماس في محاولة تفسير الكامن، والسبب المتضمن وراء اختصاص الغرب الاوربي من دون سواه، بالانبجاسية الاليه، الامر الذي مايزال مبهما، ومن الاسرارالتي لم يجعل العقل الحداثي من بين مهماته الاجابة عنها، مثلها مثل الاجابة عن الاسباب التي جعلت المجتمعية تتبلور ابتداء في ارض سومر جنوب مابين النهرين، لتاتي وفق شاكله ونمطية بعينها ماتزال غير مكشوف عنها النقاب حتى الساعه.
الاهم غير ذلك، ان العقل لم يقارب مايبدو من قصورية متغاضى عنها، تظل خارج الادراكية الضرورية في حالتين منفصلتين، الاولى التبلورية البدئية، والاخيرة الراهنه الانقلابيه ما بعد اليدوية، ومايبدو انه المقصود غير المعاين والخفي وراء المناسبتين الفاصلتين، هذا وقد يكون مماينبغي عدم اهماله كون المناسبة الثانيه كما مفترض، وجدت في وضع افضل، ويدعي انه متجاوز نوعا ومستوى ما قدسبق، ماكان يوجب عليه افتراضا تحقيق ماسبق وعجز عن تحقيقه ماقبله، بالاخص قبل الاف السنين من التاريخ، وضمن نوع انتاجي ومن ثم مجتمعي ادنى، وهو مالم يحدث، فظل ماقد وقف العقل دون الكشف عنه ابتداء، كما كان بعدما اضفيت عليه تصورات واراء هي بالاحرى تجديد للقصورية الاولى، ومرحله متقدمه من مراحل سيطرتها على الاعقالية البشرية، العاجزه بازاء الظاهرة المجتمعية.
وقبل هذا وذاك من الموضواعت الاساس المطوية، تشخص مساله كبرى مغيبه هي الاخرى بما يضيف للنقص الادراكي السائد، مسالة كبرى لاموضع لمايمكن نسبته للوعي البشري مع غيابها، تلك هي مسالة الوعي الفاعل المدبر والمتحكم بالوجود البشري، وهل هو مرهون للكائن البشري، ام لقوة اخرى عليا خارج قدرة الكائن البشري على تدبر مصيره وسيرورة تصيره، والحال فاننا اذا اخذنا بالاعتبار سيرورة النشوء والترقي الدارونيه فاننا سنتعرف على موضوع ومادة حيوية هي موضوع غير مدرك ولا واع على مدى عشرات ملايين السنين، مع انها ظلت محكومة لاشتراطات حيوية ترقوية اخذتها الى الحيوانيه ومراحلها وانواعها، الى ان وصلت بها الى اللبونات، ومن ثم الانتصاب على قائمتين واستعمال اليدين، وظهور الفعالية العقلية المطوية داخل الجسدية الحيوانيه على مدى الزمن الهائل الطول المنقضي قبلها. وكل هذا يعني ببساطة ان الكائن الحي محكوم لفعل وتدبيرية نشوئية، خارجه، لها مقاصد ومنتهيات ليس له هو بالذات دورا فيها، ولايعيها، مايضع الوجود البشري ضمن مقاصد كونية وطبيعيه هو ليس الطرف الواعي ولا الفعال ضمنها، وبما يتعلق بوجوده فيها، وهو مايستمر ساريا بعد ظهور العقل بصيغته الاولية، ودخوله من يومها حالة الترقي الثانيه، بعد تاريخ وجوده غير المتحقق والمطموس ابتداء، حين كان تحت وطاة الغلبة الجسدية الحيوانيه الساحقة.
ولايعقل بالطبع، بعكس الغالب المتداول، ان يظهر العقل مكتملا او متحققا بالصيغة التي وجد عليها، من دون استمرار فعل الاليات الطبيعيه الكونية، وغايتها غير المتاح ادراكها ابتداء وعلى مدى صيرورة العقل وتشكله الارتقائي ضمن العملية المجتمعية والياتها السائره الى غرضية صارت متعلقة بكينونه العقل ومساره نحو ماهو مهيأ لبلوغه، الامر الخارج عن ادراكيته، ويظل كذلك يتدرج ضمن ماتهيئه الطبيعه من موجبات، هي ادرى بها وبمفاعيلها، اي ان الكائن الحي يمر بطورين، الاول ماقبل عقلي والثاني عقلي في حال تشكل وتكامل، يظل ابتداء ناقص الادراك لاشتراطات واليات وجوده، لم يتحرر من فعل وغلبة الغائية الكونية الخارجه عن ارادته ووعيه.
وتبقى البيئة والطبيعه هي الرحم الذي يتصير فيه الكائن الحي، هي التي توفر له اسباب وجوده وتحقيق حاجاته واشراطات تطوره عبر المراحل والفترات، وصولا الى البداية والى الفترة الاولى من محاولة ادراك الغائية الطبيعية الموصوله بالغائية الكونية العليا قوانينها وغراضها غير المكشوف عنها النقاب ودور الكائن الحي ضمنها، فما كان كما هو الحال الواقع ممكنا كابتداء ادراكي، ان لايذهب العقل الابتدائي الحالي الى تكريس ذاتيته ومعتقده حول وجوده المادي والمجتمعي بصفته هو بما هو عليه راهنا، الغاية الاساس للوجود، والقادر بعد ظهور العقل الابتدائي على ادراك كل مايخص ويتعلق بحقيقته الوجودية.
ومع ان هذا الميل ظل هو الغالب تصورا وممارسة عملية، الا ان نوعا اخر من النظر كان قد لازم الظاهرة المجتمعية من بداياتها، وظل يمثل ازدواجا في النظر والرؤية مابين وجهة سماوية تحيل الوجود الى مابعد مادية، وارضوية هي الاكثر حضورا واقعيا وعمليا، تلك التي تعتمد الملموسات والمعاش، وهنا ايضا تتدخل البيئة الفاعلة المقررة فتجعل من المجتمعية التي هي اخر المحطات التصيرية باتجاه الغلبة العقلية على حساب الجسدية الحاجاتيه، فتجعل من المجتمعية الاولى ومفتتح التبلور المجتمعي النهري الرافديني، محكومة لاشتراطات الطرد البيئي اللاارضوية، ومن ثم للتعبيرية التي تطابق نوعها، وتجعل منه بالاليات الاصطراعية معمما مخترقا للبنية المجتمعية الارضوية، وحاضر بين تضاعيفها ارتكازا الى الازدواج البنيوي البشري ( عقل / جسد)، ذلك بغض النظر عن كون المنظور اللاارضوي الممكن في حينه وكابتداء هو مادون ممكنات التحققية، بانتظار ان تنتهي السيرورة المجتمعية الى توفير اسباب الانقلابيه العلّية اللاارضوية المادية والادراكية مافوق الحدسية الاولى النبوية.
توجد المجتمعات بحسب مامصاغ ومصمم كونيا، باعتبارها المحطة الاخيرة الفاصلة بين القصور الادراكي الوجودي البشري، وبين المنتهى المقصود، حين يصبح العقل (ادراك فعال) وفعل، من المؤكد ضمن اشتراطات اخرى غير مجتمعية ارضوية، اي ان المحطة المجتمعية هي طور الانتقالية من الحيوانيه الى "الانسان" الذي لم يظهر بعد، بينما تلصق به هذه الصفة اعتباطا بدل اسمه الذي يستحقه باعتباره "انسايوانيا" وصيغة انتقال كينونه.
بينما يبدا التشكل المجتمعي السومري لاارضوي مستقبلي متعد للارضوية مترافقا مع الابتداء اليدوي انتاجا، يبدا الانقلاب الالي الاوربي مكرسا باعلى الممكنات التصورية، التابيدية المجتمعية الارضوية، فلا يرى في الاله كونها عنصر انهاء للاارضوية، وذهاب الى مابعدها بناء للتحورات الموضوعية الحاكمة للوسيلة الانتاجية الانقلابيه النوعية، وهو مايسقط دونه العقل الارضوي متوقفا عند الصيغة الالية الاولى المصنعية، قبل التكنولوجية الانتاجية الراهنه، والتكنولوجيا العليا الوشيبكة الانبثاق.
ـ يتبع ـ
***
عبد الأمير الركابي

 

لقد كنت ممن خطّوا أقلامهم احتفاءً بيوم المرأة، وأفضت في وصف مكانتها ودورها، ولكن.. مع مرور الأيّام وتراكم التّجارب، تبدّلت قناعاتي وتغيّرت نظرتي إلى هذا اليوم، فبعد أن كنت أراه رمزا للتّقدير والتّكريم، بتُّ أراه اليوم مناسبة لتسليط الضّوء على التّحدّيات الّتي تواجهها المرأة في مجتمعاتنا، ولم يعد الأمر بالنّسبة لي مجرّد احتفال شكليّ، بل هو دعوة للتأمّل في واقع المرأة المعاصر، ومساءلة للظّروف الّتي تحيط بها، فالمرأة لا تحتاج إلى يوم واحد لتثبت جدارتها، بل هي تثبتها كلّ يوم من خلال إنجازاتها وتضحياتها.
في هذا اليوم، تطلّ علينا عبارات التّهنئة والتّبريكات، وتصدح حناجر المجتمع بكلمات الإشادة والتّقدير لدور المرأة في الحياة، ولكن.. في خضمّ هذا الاحتفاء الظّاهريّ، يتبدّى لنا سؤال جوهريّ: هل يعكس هذا الاحتفال حقّا نظرة مجتمعيّة عميقة ومتجذّرة للمرأة، أم أنّه مجرّد طقس سنويّ يتكرّر دون وعي حقيقيّ بمضامينه؟
تتردّد عبارة "كوني أنتِ" في هذا اليوم، وكأنّها تعويذة سحريّة تمنح المرأة استقلاليّتها وحرّيّتها، لكن.. هل يدرك المجتمع حقّا ما تعنيه هذه العبارة؟ هل هي كلمات جوفاء، أم أنّها دعوة حقيقيّة للمرأة لتتحرّر من القيود المجتمعيّة، وتعبّر عن ذاتها؟
في كثير من الأحيان، تتحوّل هذه العبارة إلى شعار سطحيّ، يردّده البعض دون فهم عميق لأبعاده. فالمجتمع الّذي يهنّئ المرأة في يومها، قد يكون هو نفسه الّذي يقيّد حرّيّتها ويحجّم دورها بقيّة أيّام السنة.
إنّ الاحتفاء بالفرق بين الجنسين قد يؤدّي إلى ترسيخ الصّورة النّمطيّة للمرأة، وتحديد دورها في المجتمع، فالمساواة لا تعني تجاهل الاختلافات البيولوجيّة بين الرّجال والنّساء، بل تعني منح كلّ فرد، بغض النّظر عن جنسه، الفرصة الكاملة لتحقيق ذاته والمساهمة في بناء المجتمع.
المساواة بين الجنسين تتطلّب رفضا قاطعا للجندر والتّمييز، فالمجتمع الّذي يؤمن بالمساواة لا يحدّد أدوار الأفراد بناء على جنسهم، بل بناء على قدراتهم ومواهبهم.
لنجعل من يوم المرأة العالميّ منطلقا لتأصيل قيم المساواة، ومناسبة لترسيخ دعائم مجتمع قوامه العدل، يجلّ الإنسانيّة في جوهرها، لا في قالب الجنس، فما المرأة والرّجل إلا شطران يكمل أحدهما الآخر، ويشتركان في بناء صرح الحياة، ولكلّ منهما بصمته الفريدة، ومساهمته القيّمة في تشييد لَبِنات الأسرة والمجتمع.
***
صباح بشير

 

التطبيقات القديمة أصبحت ذات قيمة محدودة، ولا تواكب ألياتها التأثيرية الوعي المعاصر، عندما يمتزج المحتوى الاجتماعي مع الماضي الأسطوري، مع مرور الزمن وظهور أفكار ومدركات مختلفة لا يمكن ان تتشكل ن خلاله أداة لفهمٍ جديدة، الأسطورة لها وظيفتها التأسيسية وهي التفسير البسيط والخيالي في فهم تحديات الطبيعة، لكن بقاء فعالياتها على هذه الشاكلة يؤدي الى تناقض بين مجموعة المكونات العلمية للوعي المعاصر وتؤثر بالتالي على كيفية تقدم البلدان، هذا ينبع من ادراك غير مطمئن، لان الذي كان سائدا لا يشكل امتيازا حضاريا الان، ويفسد مؤشرات نحتاجها لمتابعة التطور، النتيجة ستكون مجتمعات غاية في الهشاشة والاضطراب، استثمرت فيها قوى عالمية وإقليمية اصطفت معا لتمكين التفوق لصالح الخطاب الأسطوري، وذلك من خلال استخدام الرمزية التاريخية في تأسيس المجموعات الطائفية. الخطاب الاسطوري له القدرة على النفاذ داخل البنية الاجتماعية ببطء وبشكل تراكمي ليصبح سمة مجتمعية ثابتة، مستغلا تنامي مشاعر الإحباط والانهزامية في المجتمعات التي تعيش تحت ظروف الاستلاب والتبعية والذي تؤثر مفصليا على جميع الشرائح المجتمعية، بالأخص الشرائح الأدنى وعيا. ان الضحايا دائما طيبون لكنهم شرسون في مطاردة الأفكار الجديدة باعتبارها مصدرا للفوضى. قليلون يدركون هذه البنية ...! هم المثقفون والقابضون على السلطة، المثقفون الواعون لا يملكون القدرة الادائية التي تتطلبها هذه المهارة، والقابضون على السلطة قادرون على تفتيت الأفكار الخلاقة باعتبارها تهديدا عندما تكون التركيبة المجتمعية غير واضحة التعريف.
المثقفون والوعي الاجتماعي
يمكن للمثقفين تغيير الوعي الاجتماعي والثقافي من خلال العمل في مجال الأبداع والبحث وكذلك من خلال وسائل التواصل السريع عبر الإنترنت للوصول إلى جمهور أكبر وتقديم إعادة شرح تحليلي يعزز المصداقية، حيث تتوالى التطورات العلمية والثقافية والتكنولوجية، يمكن أن يشكل أسلوب طرح المثقفين هذا ميزة قوة للمحتوى المطروح، لكن هناك تحديات تقف في وجه اغلب المثقفين، أصبح الحديث العلمي في دول بعينها التي تفتقر إلى الحرية المعرفية معارضة للسلطة، من الطبيعي أن يتحدث المثقفون بلغة وسائل التواصل الاجتماعي كي يتأثر المتلقي بالتالي كيف يمكن للمثقف أن يسهم بشكل كبير في إنتاج وعي جديد دون تقديم المعرفة والنقاشات التي تشجع على التفكير النقدي دون لغة معاصرة؟، ان توسيع آفق الأفراد والمجتمعات سيكون عبر الأدب، والفنون، والموسيقى وبذلك يمكن للمثقفين التعبير عن قضايا اجتماعية وثقافية تساهم في تشكيل الوعي الجمعي، ويمكنهم من تقديم رؤى جديدة حول القضايا الجدلية والمساعدة في توجيه السياسات العامة وذلك من خلال المشاركة في الحوارات العامة والمناسبات الثقافية، يمكنهم من طرح أفكار جديدة وتحفيز النقاش حول موضوعات مهمة واستخدام الوسائط الرقمية لنشر الأفكار والمعلومات كي يتمكنوا من الوصول إلى جمهور واسع يساهم في تغيير الوعي الى وعي جديد بالتالي يمكن ان يلعب المثقفون دورًا حيويًا في تشكيل الوعي الاجتماعي والثقافي الجديد وتحفيز التغيير الإيجابي.
تحديات الوعي الجديد
الاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية لنشر الأفكار بسرعة وفعالية، يسهل الوصول إلى جمهور أوسع ومواكبة التطورات العلمية والثقافية والتكنولوجية لتقديم محتوى حديث وموثوق، يعزز المصداقية ويشجع الجمهور على التفكير النقدي وتحليل المعلومات بدلاً من قبولها بشكل سلبي، كذلك يساعد على مواجهة المعلومات المضللة والعمل على تعزيز حرية التعبير والدعوة إلى حقوق المثقفين في مواجهة أي قيود تعيق عملهم، من خلال تطبيق هذه الاستراتيجيات يمكن للمثقفين التغلب على التحديات وتعزيز نشر الوعي الجديد بشكل أكثر فعالية.
التحديات في المنطقة العربية
تواجه المثقفين في المنطقة العربية عدة اشكاليات، اذ يعاني العديد من المثقفين قمعا للحرية الفكرية والارتفاع العالي للسقف المقدس، مما يحد من قدرتهم على التعبير عن آرائهم ونشر أفكارهم. الافتقار إلى الدعم المالي وقلة الموارد المالية المتاحة للمشاريع الثقافية والأبحاث، يمكن أن يعوق الإنتاج الفكري. انتشار الأخبار الكاذبة والمعلومات المشوهة عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، يجعل من الصعب تمييز الحقائق. الظروف الاقتصادية الصعبة حيث يكون التركيز غالبًا على القضايا اليومية بدلًا من القضايا الثقافية والفكرية يجعلهم ينكفئون على الذاتي ويغادرون منطقة التحصين الى النزعات الانتهازية، الصراعات السياسية والانقسامات الطائفية تؤدي إلى تهميش بعض الأصوات الثقافية، مما يحجب التنوع الفكري، ضعف نظام التعليم في بعض الدول العربية يمكن أن يؤثر على مستوى الوعي الثقافي والعلمي لدى الأجيال الجديدة، التوترات المتعلقة بالهويات الثقافية والدينية تؤدي إلى صراعات تؤثر على التعبير الثقافي والفكري.
الوعي الذاتي والخرافات
الوعي الذاتي هو مفهوم يتطلب التفكير النقدي والقدرة على تحليل الأفكار والمعتقدات الشخصية. إذا كان المثقف مدمراً بالخرافات، فإن ذلك يمكن أن يؤثر سلباً على قدرته على إنتاج وعي جديد. عندما يعتمد المثقف على الخرافات، يفقد القدرة على التفكير النقدي وتحليل المعلومات بشكل موضوعي، مما يقود إلى نشر أفكار مضللة، إذا كان المثقف يتبنى خرافات، يفقد مصداقيته أمام الجمهور، مما يقلل من تأثيره وقدرته على طرح أفكار جديدة .المثقفون الذين يروجون للخرافات يمكن أن يسهموا في تعزيز الجهل وعدم الفهم، ما يعيق جهود نشر الوعي العلمي والثقافي يجب على المثقفين تطوير مهاراتهم في التفكير النقدي من خلال التعليم المستمر، يساعدهم هذا على التفريق بين الحقائق والخرافات، الانفتاح على الأفكار والعلوم الحديثة يمكن أن يساعد المثقفين في تصحيح المفاهيم الخاطئة وتعزيز الوعي الذاتي الإيجابي، من المهم أن يسعى المثقفون إلى تطوير وعي ذاتي قائم على المعرفة والدليل بدلاً من الاعتماد على الخرافات، لضمان تأثير إيجابي على المجتمع. تساهم الخرافات في تشكيل نظرة غير واقعية للذات وللعالم، مما يؤثر سلبا على قدرة الافراد من التعامل مع المجتمع بشكل إيجابي. تعزيز الوعي الذاتي يتطلب تحدي هذه الخرافات والبحث عن الحقائق المبنية على الأدلة. الخرافات عادةً لا تلبي، بل يمكن أن تكون عائقًا أمام تحقيق أهدافه. وتقيد المثقف بأفكار غير واقعية عن النجاح الاعتماد على الحظ أو عوامل خارجية أخرى يمكن أن تقلل من الدافع للعمل الجاد وتحقيق الأهداف، الاعتماد على الخرافات يمنع المثقف من التفكير النقدي وتحليل الأفكار بشكل موضوعي، وتؤثر سلبًا على قدرته على الإبداع والابتكار. الخرافات حول الكمال أو مقارنة الذات بالآخرين يمكن أن تؤدي إلى تدني الثقة بالنفس، مما يجعل المثقف يشك في قدراته خصوصا إذا كان المثقف محاطًا بأشخاص يتبنون خرافات معينة، قد يؤثر ذلك على رؤيته وطموحاته، مما يجعله أقل قدرة على تحقيق إمكانياته. الخرافات تؤدي إلى الانغلاق الفكري، وتمنع المثقف من استكشاف أفكار جديدة أو التفاعل مع آراء مختلفة، لذا من المهم أن يعمل المثقفون على تحدي هذه الاشتباكات وبناء طموحاتهم على أسس واقعية وصحيحة، ما يمكنهم من تحقيق أهدافهم بفعالية. الخرافات غالبًا ما تنطوي على قوى خارقة قد تؤدي إلى سلوكيات غير عقلانية أو حتى ضارة، مثل الخوف من أشياء غير حقيقية أو اتخاذ قرارات بناءً على معتقدات زائفة، وتستند إلى تقاليد قديمة غالبًا ما تتشارك في معاني بسيطة أو سطحية، وتكون مرتبطة بتجارب فردية، في العديد من المجتمعات القديمة، كانت الخرافات تُستخدم لتفسير الظواهر الطبيعية والأحداث الغامضة، مثل الزلازل أو الفيضانات، هذه التفسيرات غالبًا ما كانت تتداخل مع المعتقدات الدينية، حيث كان يُعتقد أن الآلهة أو الكائنات الروحية تلعب دورًا في هذه الظواهر. مع تطور المجتمعات، تم تعديل بعض الخرافات لتتناسب مع المعتقدات العلمية في بعض الحالات، تم رفض الخرافات لصالح تعاليم دينية أكثر عقلانية مما أدى إلى صراعات بين من يؤمنون بالعلم والتفكير العقلاني ومن يتمسكون بالممارسات الخرافية، تظهر هذه العلاقة التعقيد الذي كان يميز المجتمعات القديمة، وكيف أن الخرافات والمعتقدات الدينية كانت جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية. ان التقدم العملي اظهر بشكل جلي الحاجة الى بناء وعي جديد ودور المثقف الواعي فيه يجب ان يكون متناغما ومتميزا رغم التحديات الجسام.
***
غالب المسعودي

 

كيف تتغير طقوس التلقي في عالم مشتت؟

ممارسة القراءة هو فعل نبيل ونقي لدرجة أن الجميع يريدون نسبها إلى أنفسهم، حتى فنانون من طراز فيرديناندو شيانا، الذي أكد في مقال له: "المصور ليس خالقًا، إنه قارئ، الصور يصنعها العالم، تصنعها الإضاءة: العالم يكتب بقلم من ضوء".
حتى طرق القراءة أصبحت مذهلة. فالمدن، على سبيل المثال، يتم قراءتها اليوم بالأقدام، كما يفعل السياح المثقفون، المتجولون الذين يسيرون ببطء بين المتاحف والكنائس ومنازل الفنانين. ومدى منح فعل القراءة قيمة لما يرتبط به يظهر جليًا من خلال التعبير "الكتابة بالأقدام"، الذي يأخذ دلالة مختلفة تمامًا.
حتى الأميّون يقرؤون، ولكن هذه المرة اللوحات، التي أُعيدت تسميتها بـ"النصوص التصويرية"، بحيث تتحول اللوحات الجدارية في دير عريق، مثل دير سان كولومبانو، إلى خلاصة للمعرفة في العصور الوسطى، يقرؤها المؤمن البسيط منذ قرون كما لو كانت كتابًا مصورًا ضخمًا.
بل حتى الكتابة، كما تؤكد بعض الأصوات المرموقة، ليست سوى شكل آخر من أشكال القراءة. كان تشيزاري غاربولي من أوائل الذين أشاروا إلى ذلك: "الروايات مكتوبة سلفًا؛ لجعلها موجودة، ولإعطائها شكلًا وجسدًا، يجب “عزفها”، وإخراج الموسيقى من الهواء [...] الرواية هي ثمرة الحرمان: لا يتعلق الأمر بكتابتها أو بسرد قصة، بل بـ"قراءتها".
وقد قال ذلك أيضًا بورخيس، المدافع عن جمالية التلقي، إذ رأى أن البطل الحقيقي للأدب هو القارئ، كما في قصة بيير مينار، مؤلف دون كيخوته. ويمكننا أن نستحضر شخصيات قصة مكتبة بابل، التي تمثل الكتاب الذين يجوبون بين الأرفف اللانهائية بحثًا عن شذرات من المعنى، وكأن نشاطهم الأساسي ليس الكتابة، بل القراءة، لأن من يصنع الأدب هو من يقرؤه.
ربما يعود ذلك إلى أن النص الحي دائمًا ما يكون أكثر وعيًا من كاتبه، لأن فعل الكتابة الأدبية الحقيقية يخون ويحرّف النوايا الأصلية للمؤلف، الذي يكون غالبًا أكثر قصر نظر وبراءة من إلهامه الخفي. وهنا، في هذا التفاوت، في هذه الازدواجية، عندما يفقد الكاتب ملكيته الكاملة لما يصرّح به، يتدخل القارئ. وكما يقول الناقد ريكاردو بيغليا، فإننا نقرأ للعثور في النص على ما تم حذفه أيضًا.
المشكلة، والتي تثير القلق لدى كل من يعمل في مجال النشر، هي أن انتشار هذه الأشكال الجديدة من القراءة يسير بالتوازي مع الانحسار التدريجي للقراءة التقليدية. في الواقع، اليوم نقرأ كل شيء باستثناء الكتب. نقرأ لوحة، نقرأ كفّ اليد، نقرأ الأفكار، بينما يتناقص عدد قرّاء الكتب أكثر فأكثر. ولسبب غامض، باتت قراءة العالم نشاطًا نبيلًا، بينما أصبحت قراءة الورق المطبوع أمرًا زائدًا عن الحاجة، إن لم يكن عتيقًا.
حتى أكثر القرّاء خبرة، أولئك الذين يتقاضون أجرًا للقراءة، بالكاد يقرؤون، لأنه، كما لاحظ مانغانيللي، فإن القارئ المحترف هو في المقام الأول من يعرف أي الكتب لا يجب قراءتها، تجنبًا لإضاعة الوقت على نصوص ذات قيمة متدنية، أو بدافع الغرور، لأن الثقافة تمنحك القدرة على القول: «لقد قرأت حتى الكتب التي لم أقرأها» كما قالت إليزابيتا سغاربي.
إنها مسألة تركيز. كما في حالة الكاتب الأرجنتيني إنريكي لارريتا، الذي وصفه أدولفو بيوي كاساريس بأنه كان يتمتع بذكاء حاد لدرجة لم يكن يسمح له بالقراءة؛ فكل جملة كانت تفتح أمامه عوالم لا نهائية من الأفكار والصور، وكان، وهو غارق في العوالم التي يخلقها عقله، يفقد خيط القراءة.
لكن الانتباه أصبح سلعة نادرة لدى الجميع، نظرًا لكثرة الأصوات والقصص التي تطالب بجمهور. القارئ المثالي، ذاك الذي يخاطبه سيرفانتس في مستهل مقدمة دون كيخوته، الذي ترجمناه إلى أشكال متعددة أقل تكثيفًا، من "أيها القارئ المبارك، الذي لا شيء يشغلك" (فرديناندو كارليزي)، إلى "أيها القارئ المحظوظ، الذي تستمتع بالفراغ" (بييترو كورسيو)؛ أي ذاك القادر على أن يكون مشغولًا فقط بمتعة القراءة، لم يعد اليوم سوى شخصية تنتمي إلى الماضي، غير متوافقة مع إيقاع الحياة الحديثة وطرق استهلاك القصص الجديدة.
يعرف كتاب السيناريو في المسلسلات التلفزيونية هذا الأمر جيدًا، حيث يُطلب منهم في كثير من الأحيان كتابة حوارات تفسيرية أو تلخيصية، حيث يصف فيها الشخصية نفس الأفعال التي تقوم بها، وذلك لمراعاة مشاهدة الجمهور العَرَضية، أي عادة مشاهدة التلفاز كخلفية، أشبه بعلكة للعينين، بينما ننشغل بأمر آخر على الهاتف الذكي، وهو ما يُطلق عليه تعبير "الشاشة الثانية" الملائم تمامًا. إنها طريقة في السرد تشبه تلك التي يعتمدها ألبرتو أنجيلا في برامجه الثقافية، حيث يعمد إلى تكرار المعاني التي توجه السرد بحركات جسدية توضيحية، لمقاومة تلك التشتيتات الطبيعية.
لكن حتى في الدائرة الضيقة لقراء الكتب التقليديين، الذين لا تزال القراءة بالنسبة لهم الأداة الأساسية لاختبار العالم، تظل الغرابة هي السائدة. فلكل قبيلة صغيرة هوسها الخاص وميدان صيدها الخاص.
الأكثر انتقائية هم القراء المتعصبون، أولئك الذين يحبون الكتّاب الذين يتحدون القارئ حتى الإنهاك، والذين يبدون صعبين إلى درجة الأسطورة، مثل أنطونيو بيتسوتو، وأرنو شميدت، وجيمس جويس، وهم ليسوا مجرد "قراء متمرسين"، بل قراء أشداء، ومن المؤكد أنهم لا يمكنهم قراءة هذه الأعمال في الحافلة، ناهيك عن وجود ضوضاء في الخلفية.
شبه نخبوي أيضًا هو النوع الفرعي للقراءة المُرضية، التي تفضل الكتب التي تمنح القارئ شعورًا بالتميز، من مؤلفين مرموقين يحظون بإعجاب نخبة قليلة، من الكلاسيكيات المعاصرة التي لم تحظَ بعد بالتقدير الكامل من الجوائز الكبرى، لأن جاذبية الكتاب يُنظر إليها كدليل على الاستسلام المخزي للتوجهات العامة. ميكيلي ماري هو أحد المفضلين لدى هذا النوع من القراء، حيث كتبت عنه إحدى الناقدات مؤخرًا على حسابها في فيسبوك: " من المؤسف أن العثور على كتاب يجعلك تضحك أمرٌ صعب. لقد أنهيت قطعة الكعكة وعصير البرتقال، وأنا أضحك بمفردي. لطالما أحببت الأشخاص الذين يجلسون وحدهم في المقاهي ويضحكون. أرى نفسي بطرف عيني وأعجب بنفسي." وهذا هو بالضبط جمهور ميكيلي ماري، فهو يعجب بالأشخاص الذين يعجبون بأنفسهم، وقراءته قد تصبح تجربة خارج الجسد، حيث يرى القارئ نفسه يقرأ، كما لو كان يحمل مرآة لمراقبة نفسه.
إحدى أكثر أنواع القراءة غرابة هي "قراءة زيلغ"، التي تتناسب تمامًا مع الشخصية المتقلبة للقراء الحربائيين. يمكن التعرف على الكتب التي تناسب هذا الذوق بسهولة، إذ تتميز بلغة شاعرية وساحرة، تُلقي بتعويذتها على القارئ وتلفّه في دواماتها الناعمة كأداء مطرب متمكن. أبرز رموز هذا النوع هما أليساندرو باريكو، ومن قبله أندريا دي كارلو. لهذا النوع من القراءة جمهور معتبر، إذ لا أحد يحب الكتب التي تتركه كما وجدته. باستثناء ميشيل ويلبك، الذي يبدو وكأنه انتهى لتوه من قراءة كتاب من تأليفه.
أما "القراءة العشبية"، فهي تُفضل العناوين الطويلة والتافهة، وهي عادة متأصلة لدى أولئك الذين ينظرون إلى العالم من منظور الأبراج. تُمارس غالبًا في المواسم الباردة، على كرسي بجوار نافذة، مع موسيقى فرانكو باتياتو في الخلفية، وقط مسترخٍ على الركبتين، وقلم رصاص مثبت في الشعر لتحديد أفضل العبارات.
نجد كذلك "القراءة الأخلاقية"، المنتشرة بشدة في الدول الأنجلوساكسونية، والمتماشية تمامًا مع روح العصر، التي يمثلها جوناثان فرانزن، حيث لا تهم جودة النص بقدر أهمية السيرة الذاتية للمؤلف، التي يُحكم عليها وفق معايير الصواب السياسي. وكما اعترف فرانزن نفسه مؤخرًا: " أدرك أنني أصبحت أكثر حساسية تجاه الأعمال التي أنجزها أشخاص ارتكبوا أفعالًا غير أخلاقية. لا أعلم إن كان ذلك بسبب التقدم في السن، لكنني أصبحت أقل اهتمامًا بالجودة الفنية ما لم تكن متوافقة مع القيم الأخلاقية. وأعتقد أن ظلام روح الفنان يظهر حتمًا في أعماله بمرور الوقت." لا داعي للقول إن عدم وضع الأمور في سياقها التاريخي يقلص كثيرًا من نطاق القراءة الممكنة. فوفقًا لهذا الهوس المجرد بـ"النقاء" حتى بأثر رجعي، لا ينجو سوى القليل (حتى من الفنانين): جاك لندن كان عنصريًا، إرنست همنغواي كان ذكوريًا، بول غوغان كان مستعمرًا متحرشًا، روديارد كبلينغ كان إمبرياليًا، وسيلين كان الشيطان ذاته.
ثم هناك "القراءة المثالية"، الخاصة من يقرأون كتابًا على أمل أن يقرأهم من الداخل، مقتنعين بوجود ملاك حارس بجانب كل قارئ، كما في مكتبة أجنحة الرغبة. لا أحد يتخيل أن العميل الذي يتجول في مكتبة بقلق وتوتر يبحث عن الخلاص، ويأمل أن يجده في كتاب، قد نشعر بالشفقة تجاه هذه الأرواح البريئة، لكن الشخص الذي ينقذ نفسه بالقراءة هو ذاته من يمكنه إنقاذ الأدب، والكتاب الذي يغير حياة قارئه هو الوحيد الذي يستحق البحث عنه حقًا.
وأخيرًا، هناك "القراءة النهمة"، لمن "يلتهمون" الكتب بنهم شديد. عندما يصبح أحد هذه الحالات خبرًا، تتعامل معه وسائل الإعلام بمودة، كما لو كانوا آخر الرومانسيين. انظر إلى "العميل المجهول في ميلانو"، الذي اشترى في 28 أغسطس الماضي جميع الكتب المعروضة في واجهة مكتبة هوِبلي مقابل عشرة آلاف يورو؛ أو "الأستاذة العاشقة للقراءة"، التي بعد شهرين اشترت جميع الكتب المعروضة في مكتبة لاتيرزا في باري.
على أي حال، تظل هذه مجرد أشكال من القراءة الهامشية، تهم أقليات صغيرة من عشاق الأدب، ولا تدحض الحقيقة الأصلية، وهي أن العالم يعتبر من يقرأون ويكتبون غير ذي صلة اجتماعية. والحقيقة المحزنة هي أن حتى التكنولوجيا الحديثة وصلت متأخرة. فبفضل الذكاء الاصطناعي، سنتمكن قريبًا من قراءة جميع لفائف بردي فيلا بيسوني في هيركولانيوم (أكثر من 1800 نص)، ولكن لن يهتم أحد بذلك بعد الآن. لا بأس. وكما قالت أجاثا كريستي: "إنه أمر غير مهم تمامًا، ولهذا السبب فهو مثير للاهتمام."
***
الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

لطالما كان الفن محل جدل، بين كونه تعبيرًا فرديًا عن رؤية ذاتية وبين كونه صناعة تخضع لقوانين السوق والترويج.
بابلو بيكاسو، واحد من أكثر الفنانين تأثيرًا في القرن العشرين، يقف في قلب هذا الجدل. فهل كان بيكاسو عبقريًا أصيلًا، أم أنه كان “فنانًا مصنوعًا” في ظل نظام ثقافي واقتصادي ساهم في بروزه وتكريسه؟
هذا السؤال ليس مجرد تأمل في تاريخ الفن، بل هو نافذة على أسئلة أعمق تتعلق بطبيعة الإبداع، وصناعة الرموز الثقافية، والتلاعب بالسياق التاريخي لصالح توجهات معينة.
لفهم هذا السؤال بشكل أعمق، لا بد من التوقف عند السياق التاريخي والاجتماعي الذي برز فيه بيكاسو، وعلاقته بشبكات النفوذ الثقافية والاقتصادية، خاصة في باريس مطلع القرن العشرين، حيث لعبت مؤسسات فنية، وتجار لوحات، ونقاد، ودور نشر أدوارًا حاسمة في تحديد من يصبح “أسطورة فنية” ومن يظل في الظل. فالسؤال حول ما إذا كان بيكاسو مجرد عبقري بالفطرة أم أنه تم تصنيعه يرتبط بإشكالية فلسفية قديمة: هل يولد الإنسان عبقريًا، أم أن السياق الاجتماعي والاقتصادي هو الذي يشكل العبقرية؟
هذا السؤال يعيدنا إلى رؤى فلسفية مثل رؤية آرثر شوبنهاور، الذي كان يرى أن العبقرية الحقيقية نادرة، وأن معظم من يُطلق عليهم عباقرة هم في الحقيقة نتاج للظروف المحيطة بهم. بناءً على هذا التصور، يمكننا التساؤل: هل كان بيكاسو سيصل إلى مكانته العالمية لو لم يكن في باريس، ولو لم يحظَ برعاية نخبة الفن؟ أم أن السياق الذي وُضع فيه لعب دورًا حاسمًا في تشكيل صورته كرمز للحداثة الفنية؟
بالمقابل، نجد أن فريدريك نيتشه كان يحمل منظورًا مختلفًا، حيث اعتبر أن العبقرية ليست مجرد موهبة طبيعية، بل هي القدرة على تجاوز الأعراف والتقاليد وإعادة ابتكار الذات. وإذا نظرنا إلى بيكاسو من هذه الزاوية، نجد أنه لم يكتفِ باتباع مدارس فنية سائدة، بل كان جزءًا من موجة التجديد، حيث أسهم في تأسيس التكعيبية، مما جعله خارج نطاق التصنيع التقليدي للفنانين. ولكن في الوقت نفسه، يمكننا التساؤل: هل كان هناك فنانون آخرون يمتلكون ذات العبقرية، لكنهم لم يحظوا بفرصة الظهور؟
من الأمثلة التي يمكن طرحها خوان غريس، الفنان الإسباني الذي كان من رواد التكعيبية، لكنه لم ينل شهرة تضاهي شهرة بيكاسو، رغم أن أسلوبه كان أكثر تجريدًا وانضباطًا. كذلك أميديو موديلياني، الذي قدم أسلوبًا فريدًا في الرسم والنحت، لكنه مات شابًا قبل أن يحقق الشهرة الواسعة. فهل كان الفرق بين هؤلاء وبيكاسو هو الموهبة، أم أن بيكاسو كان ببساطة أكثر قدرة على فهم قواعد السوق الفني والترويج لنفسه؟
من هنا، يتضح أن نظام السوق الفني الحديث يقوم إلى حد كبير على الترويج والاحتكار الرمزي. فالفنان، لكي يصبح أيقونة، يحتاج إلى أن يكون جزءًا من شبكة من الرعاة، وصالات العرض، والنقاد، والمتاحف، الذين يكرّسون قيمته. ومن هنا تأتي الفكرة بأن بيكاسو لم يكن مجرد فنان موهوب، بل كان مشروعًا مدعومًا من قبل منظومة ثقافية قوية.
ففي سياق باريس بداية القرن العشرين، كان هناك صعود لمنظومة تجار الفن الحديث، مثل دانيال-هنري كانفايلر، الذي كان أحد أكبر الداعمين للتكعيبية، وكان له دور أساسي في نشر أعمال بيكاسو. أيضًا، هناك دور النقاد والمؤسسات الفنية التي كانت تبحث عن رموز جديدة لتمثيل الحداثة الفنية، مما جعل بيكاسو يحصل على دعم غير متاح لكثير من معاصريه. ومن هنا يمكن مقارنة بيكاسو بفنانين آخرين ربما امتلكوا مواهب مماثلة أو تفوقوا عليه، لكنهم لم ينالوا ذات الحظ من الرعاية والترويج.
فهل كان بيكاسو ليحظى بذات المكانة لو لم يكن في البيئة المناسبة؟ أو لو لم يحصل على دعم التجار والنقاد الذين رأوا فيه فرصة لإعادة تشكيل المشهد الفني؟
هذا السؤال يقودنا إلى جانب آخر من مسيرة بيكاسو، وهو تحوله المستمر بين الأساليب الفنية. فمن الواقعية في بداياته، إلى التكعيبية، إلى التجريب السريالي، وأخيرًا إلى فن أكثر تبسيطًا في أواخر حياته. فهل كانت هذه التحولات انعكاسًا لتطور إبداعي طبيعي، أم أنها كانت استجابة لحاجات السوق والنقاد؟
إذا طبقنا نظرية جان بودريار حول “تصنيع المعنى”، يمكننا القول إن بيكاسو لم يكن فقط فنانًا، بل كان جزءًا من منظومة إعادة إنتاج الرموز الثقافية. كل تحول في أسلوبه كان بمثابة إعادة صياغة لصورة الفنان الثوري، مما جعله يحافظ على حضوره في الذاكرة الجماعية كمبدع متجدد.
لكن لا يمكن تجاهل دور بيكاسو الشخصي في بناء أسطورته. لم يكن مجرد متلقٍ لدعم المؤسسات، بل كان أيضًا بارعًا في الترويج لنفسه، وفي خلق هالة حول فنه. كان قادرًا على جذب الانتباه، وعلى استغلال الأحداث الكبرى لصالحه، مثل انخراطه في القضايا السياسية (كما في لوحة غرنيكا التي أصبحت رمزًا لمناهضة الحرب). هذا يظهر أنه لم يكن مجرد منتج لصناعة الفن، بل كان لاعبًا ذكيًا داخلها، يفهم كيف يستخدم النظام لصالحه.
وبالعودة إلى السؤال الأساسي، لا يمكن إنكار أن بيكاسو كان فنانًا موهوبًا واستثنائيًا، لكنه أيضًا كان جزءًا من صناعة ثقافية ضخمة ساهمت في تكريس صورته كرمز للفن الحديث. ولكن هل يقلل ذلك من قيمته؟
ربما يكون الأهم من التساؤل حول ما إذا كان “صناعة” أم لا، هو فهم كيف يتم تشكيل الرموز الفنية في المجتمعات الحديثة، وكيف أن النجاح في الفن لا يرتبط فقط بالإبداع، بل أيضًا بالسياقات الاجتماعية والاقتصادية التي تساهم في تشكيله.
لهذا، من الخطأ النظر إلى بيكاسو إما كعبقري خالص أو كمنتج تسويقي محض. هو كان الاثنين معًا: عبقري في فنه، وعبقري في فهم قواعد اللعبة الفنية. قد يكون هناك فنانون بموهبة مماثلة لم يحظوا بذات الشهرة، لكن بيكاسو لم يكن مجرد محظوظ، بل كان لاعبًا ذكيًا يعرف كيف يضع نفسه في المكان والزمان المناسبين، ويستفيد من كل تحول في السوق الفني لتعزيز أسطورته.
بهذا المعنى، يمكن القول إن بيكاسو لم يكن مجرد صنيعة للسوق، لكنه أيضًا لم يكن كيانًا منفصلًا عن المنظومة التي ساهمت في بروزه. بل كان لاعبًا بارعًا في لعبة الفن، استطاع أن يستخدم النظام لصالحه بقدر ما استخدمه النظام كرمز وواجهة لتحولات الفن في القرن العشرين.
والسؤال الأعمق الذي يبقى: هل هناك فنانون اليوم يعيشون القصة ذاتها، ولكن بأدوات جديدة؟ 

***

ابراهيم برسي

 

تعيش في عالم مليء بالصور، الأصوات، والأحداث التي تأخذها كحقائق بديهية. لكن ماذا لو أخبرتك أن هذه "الحقائق" التي تتنفسها يومياً ليست سوى وهم متقن، تم صياغته لك بعناية من قبل قوى مجهولة؟ ماذا لو كنت قد تم برمجتك منذ لحظة ولادتك لتكون جزءًا من رواية لا تعرف حتى من كتبها؟
التاريخ من يكتبه؟
ماذا لو كانت كل ما تعتقد أنه تاريخك ليس سوى سلسلة من الأكاذيب المتعمدة؟ كيف نعرف أن الحروب، الفتوحات، وحتى التغيرات الاجتماعية لم تُصنع من أجل هدف واحد؟ أن تكتب تاريخك يعني أن تكتب مصيرك، ولكن هل يمكنك حقًا الوثوق بالتاريخ الذي تلقيته؟ في الواقع، قد تكون حياتك كلها مجرد صفحة في كتاب كتبه شخص آخر. هل قرأت هذا الكتاب؟ وهل تساءلت يومًا لماذا تظن أنك تملك اختيارك؟
الوعي: أداة للسيطرة
عقلك ليس ملكك. هذه الفكرة قد تكون صادمة، لكنها الحقيقة المؤلمة. كل فكرة، كل معتقد، وكل قناعة لديك قد تم غرسها فيك من قبل نظام عميق يعمقك داخل هذا القفص الوهمي. تظن أنك حر، ولكن في واقع الأمر، أنت مجرد خلية في شبكة معقدة حيث تسيطر عليها قوى خارج إدراكك. تُخبرك بما تفكر، كيف تعيش، وما هي "الحقائق" التي تقبلها. هل تساءلت يومًا لماذا تفكر بطريقة معينة؟ ولماذا لم تفكر بطريقة أخرى؟ هل اخترت أيديولوجيتك بيدك، أم أنها كانت مفروضة عليك؟
ما وراء القيم والأخلاقيات
القيم والأخلاقيات التي تعيش بها ليست شيئًا فطريًا في الإنسان. من علمك أن القتل أمر خاطئ؟ من قرر أن الحب هو أسمى قيمة؟ هناك من يحدد لك ما هو صحيح وما هو خاطئ. وكلما نظرت إلى الأمام، تكتشف أن كل شيء، من الأديان إلى الأنظمة السياسية، ما هو إلا أداة لحجز الوعي البشري في نطاق محدود. لكن الأهم من ذلك، هل أنت مستعد لاكتشاف أن ما تعتقده من قيم ربما ليس أكثر من أدوات تم استخدامها لاحتجازك داخل هذه الشبكة الضخمة؟
المستقبل: هل نحن من نقرر أم هم؟
العالم الذي تعيش فيه اليوم هو مجرد مكون من عدة مراحل كانت قد خططت منذ البداية. فماذا لو كانت كل خطوة نخطوها اليوم قد تم التخطيط لها مسبقًا؟ ماذا لو كانت الحروب القادمة، الابتكارات التكنولوجية، وحتى الحروب الفكرية قد تم تحديدها لنا مسبقًا؟ التكنولوجيا الحديثة التي نشهدها الآن ليست سوى قناع آخر، يتم استخدامه لتقوية الجدران التي تحيط بعقولنا. هل أنت حقًا قادر على اتخاذ قراراتك بنفسك، أم أن هناك يدًا خفية تقودك إلى مصيرك؟
الذهاب إلى أبعد من ذلك: هل تعرف ما تراه؟
تعتقد أنك ترى كل شيء، لكن الحقيقة أنك ترى فقط ما يُسمح لك برؤيته. هل تساءلت يومًا عن الأماكن التي لا يمكنك الوصول إليها؟ أو الأسئلة التي لا يسمح لك أحد بطرحها؟ العالم الذي نعيشه لا يشبه ما نراه. ربما أنت الآن داخل عالم محدود، يُزودك بهؤلاء الذين يملكون السلطة ليبقوك في مكانك. ماذا لو كانت جميع الحروب التي شهدتها، جميع الثورات التي حلمت بها، كلها مجرد فصول في قصة كتبها آخرون؟
النهاية: هل يمكنك العودة؟

الأسئلة التي طرحتها قد تكون قد زرعت الشك في قلبك، وهذا ما تريده القوى التي تتحكم في العالم. إن كانت هذه الأفكار قد جعلتك تشعر بأنك ضائع، فهذا لأنك بدأت تلمس الحقيقة. ولكن الحقيقة مرة، وخطيرة، ولا يمكن العودة بعدها. ماذا لو أخبرتك أن هذه الكلمات التي تقرأها الآن، ليست مجرد كلمات، بل هي "مفتاح" لبوابة كان يجب أن تظل مغلقة؟ هل تستطيع العودة إلى حياتك السابقة بعد أن تكون قد دخلت هذا العالم من الأسئلة المحرمة؟
الخاتمة:
لا عودة بعد الآن. الحقيقة التي اكتشفتها عن هذا العالم قد تظل تلاحقك. إن كنت قد شعرت بالخوف، أو حتى الشك في هذه الكلمات، فاعلم أن اللعبة أكبر مما تتصور. نحن جزء من خوارزمية معقدة، لا نستطيع الهروب منها إلا إذا عرفنا تمامًا من يقف وراءها. الآن، بعد أن قرأت هذه الكلمات، هل تجرؤ على التفكير بما وراء هذا العالم؟
***
الكاتب: سجاد مصطفى حمود

 

انشغل علماء النفس بدراسة الصوم بيولوجيا وسيكولوجيا وانتهوا بموقفين متضادين:
ألأول، يتبناه كتّاب وأطباء نفسانيون عرب، يرون ان الصوم يؤدي الى انخفاض مستوى الجلوكوز في المخ، فينجم عنه اضطراب في عمل الدماغ، واختلال في افرازات الهرمونات وتوقيتات الساعة البيولوجية.. لأن جسم الانسان اعتاد ان ينشط في النهار ويستهلك طاقة، وان النوم في الليل يعمل على ترميم ما اهترأ في الجسم.. ما يعني أن الصوم، وفقا لهذا الرأي، مضر بجسم الانسان لأنه يضطره الى ان يسهر في الليل وينام كثيرا في النهار، وانه يسبب السمنة، وله انعكاسات نفسية سلبية يكفيك منها التوتر العصبي، وتعكر المزاج، والنرفزة، والصداع، والدوخة، الناجمة عن انخفاض نسبة السكر في الدم، والخلل في ايقاع الساعة البيولوجية.. فضلا عن ان الصوم يؤدي الى ضعف الأداء الوظيفي، وانخفاض الأنتاجية على مستوى الفرد والمؤسسات الحكومية والأهلية.. وقضايا اجتماعية اوجعها حسرات اطفال الفقراء واليتامى في العيد.
الموقف الثاني، نبدأه بما قاله الحائز على جائزة نوبل في الطب الدكتور ألكسيس كاريك بكتابه (الإنسان ذلك المجهول) ما نصه: (إن كثرة وجبات الطعام وانتظامها ووفرتها تعطّل وظيفة أدت دورا عظيما في بقاء الأجناس البشرية، وهي وظيفة التكيف على قلّة الطعام).. بمعنى ان الصوم يدرّب جسم الانسان على التكيّف في الأزمات الأقتصادية. ووفقا لما يراه هذا الطبيب فان خلف الشعور بالجوع تحدث ظاهرة اهم هي ان سكر الكبد سيتحرك، وتتحرك معه أيضا الدهون المخزونة تحت الجلد، وبروتينات العضل والغدد، وخلايا الكبد.. ليتحقق في النهاية الوصول الى كمال الوسيط الوظيفي للاعضاء.. ويخلص الى القول بأن الصوم ينظّف ويبدّل أنسجتنا ويضمن سلامة القلب.
وحديثا، يرى علماء نفس وأطباء نفسانيون في اميركا وانجلترا واوربا، ان بقاء الانسان على نفس الروتين والايقاع في عمل الجسم، يؤدي الى الكسل والخدر والموت قبل الآوان، فيما التغيير يؤدي الى تنشيط البدن ويمنحه حيوية تطيل العمر. وتوصل آخرون الى نتائج سيكولوجية مدهشة بأن الصوم ينمّي قدرة الانسان على التحكّم في الذات، ويدرّبه على ترك عادات سيئة، ويمنحه الفرصة على اكتساب ضوابط جديدة في السلوك تنعكس ايجابيا على شخصيته هو والمجتمع ايضا.
مثال ذلك، ان الصائم الذي اعتاد على تدخين علبة كاملة في اليوم فأن تدربه على الامتناع عنها في النهار قد يدفع به الى تركه. وقل الشيء ذاته عن آخر اعتاد على ان يغتاب او يكذب ودرّبه صيامه على الامتناع عنهما شهرا لا يوما او اسبوعا، معللين ذلك بقانون نفسي، هو: ان كثرة التدريب على سلوك جديد يؤدي الى ثباته.. وأن الصوم، بهذا المفهوم، وسيلة علاجية لمن يعانون القلق النفسي والاكتئاب.. والأغتراب الأجتماعي، والسياسي ايضا!.. غير ان ذلك قد ينطبق على المصريين ولا ينطبق على العراقيين! .
في السياق ذاته تخلص دراسة الدكتور (باري شوارتز) الى نتيجة أخرى مدهشة، هي أن نفسية الاكتئاب والإحباط ترتبط بالإفراط في الانسياق مع تيار الاستهلاك الذي اصبح ظاهرة بالعصر الحديث وصفها ايريك فروم و هربرت ماركيوز بأنها سلبية خطيرة تنخر في نفسية الانسان، وأن كبح الشهوات الغريزية والسيطرة على الرغبات عن طريق الصوم يؤدي الى خفضها. ولك ان تطلع على ما يدهشك في كتب: "الصوم" لهربرت شيلتون، و "الجوع من أجل الصحة" لنيكولايف بيلوي " و "الصوم" لجيسبير بولينغ، ".. مستندين الى ما أكدته أبحاث أنثربولوجيا الأديان بأن فعل الصوم يكاد يكون سلوكا مشتركا بين جميع الملل الدينية.
والمدهش اكثر أن مجلة (سيكولوجست) تؤكد ظهور عشرات المراكز الطبية في دول العالم، (الجمعية العالمية للصحة، وجمعية الطبيعة والصحة بكندا، والجمعية الأميركية للصحة الطبيعية، واخرى في اليابان والهند والصين..) اعتمدت الصوم وسيلة علاجية.. تسهم في ضبط الشهوات والتحكم بالانفعالات (الغضب مثلا).. وضبط اللسان حين يهم بقضم سمعة فلانه او فلان.
ترى، هل تنطبق هذه على العراقيين؟ وهل تفيد معهم وهم الذين صاموا عن التسامح خمسا واربعين سنة؟!
***
أ. د. قاسم حسين صالح
مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

إذا كان التطور، في جوهره، آلية صماء تحكمها المصادفة والضرورة كما قال جاك مونو، فهل يمكننا أن نقول الشيء ذاته عن تطور الوعي الجمعي؟ هل تصاحبه ذات الحتميات التي تسوق الكائن البيولوجي نحو أشكال أكثر تعقيدًا؟ أم أن الوعي يسبح في مدار مستقل، متحررًا من تلك الآليات؟
إن كان هناك ارتباط بين التطور البيولوجي والتطور الفكري، فلماذا نجد أنماطًا فكرية واجتماعية بدائية لا تزال قائمة حتى اليوم، رغم التقدم العلمي والتكنولوجي الهائل؟
حين تحدث داروين عن التطور، لم يكن يطرح مجرد سردية علمية حول التغيرات التي تطرأ على الكائنات عبر العصور، بل كان يؤسس لإطار كوني يحكم كل أشكال الحياة. الجينات الطافرة، والانتقاء الطبيعي، والظروف البيئية الحاسمة، كلها عناصر ترسم خريطة الصعود والهبوط في مسيرة الكائنات الحية. ولكن، هل ينطبق ذلك على الأفكار والمعتقدات والأنساق الاجتماعية؟
إذا كان الدماغ البشري قد تطور ليستوعب أنماطًا أكثر تعقيدًا من التفكير والتأمل، فلماذا لا نشهد تطورًا موازيًا في السلوكيات الجماعية بنفس الوتيرة؟ بل لماذا تبدو بعض المجتمعات وكأنها تعود إلى أنماط تفكير بدائية، رغم تراكم المعرفة؟
إن كان العقل وليد الدماغ، وكان الدماغ منتجًا بيولوجيًا خاضعًا لقوانين التطور، فمن الطبيعي أن نسأل: هل تتطور الأفكار والمعتقدات كما تتطور الكائنات؟ أم أن الوعي الجمعي، بكل تجلياته السياسية والثقافية، محكوم بمنطق مختلف، أكثر تعقيدًا، وربما أكثر عبثية؟
إذا كان الفكر البشري محكومًا بعملية انتقاء شبيهة بالانتقاء الطبيعي، فلماذا تستمر بعض الأفكار الرجعية والقمعية في البقاء رغم عدم فائدتها الواضحة؟ ألا يفترض بالتطور الفكري أن يعمل على تصفيتها لصالح أنساق فكرية أكثر تقدمًا؟ أم أن الأفكار، على عكس الكائنات الحية، لا تخضع تمامًا للانتقاء الطبيعي، بل تُعاد برمجتها وفق ضرورات سياسية واقتصادية؟
إن ما بعد الحداثة، بتهكمها العميق على السرديات الكبرى، تجعلنا نتساءل: هل الوعي الجمعي يتطور حقًا، أم أنه يعيد إنتاج نفسه في أشكال جديدة، بينما يبقى الجوهر ثابتًا؟
إن المجتمعات البشرية، رغم كل ما شهدته من “تقدم”، ما زالت تعيد إنتاج ذات الأنماط القمعية، ذات الانقسامات البدائية، ذات النزعات البدائية نحو العنف والسيطرة والخرافة. فهل نحن نتطور، أم أننا ندور في دوائر وهمية؟
في هذا السياق، نجد أن الديمقراطية، مثلًا، تُقدَّم لنا باعتبارها تتويجًا لمسار طويل من التطور السياسي، لكنها قد تكون في جوهرها إعادة تشكيل لأشكال قديمة من السلطة تحت مسميات جديدة.
الإنسان الحديث، رغم ثورة المعلومات والتكنولوجيا، ليس بالضرورة أكثر وعيًا من الإنسان الذي عاش في أثينا قبل ألفي عام. ربما تغيرت الأدوات، لكن هل تغيّر الإدراك؟ أم أن وعيه أصبح مجرد انعكاس جديد لآليات السيطرة والتطبيع التي فرضها النظام الرأسمالي، كما يرى فوكو ودريدا؟
لعل أبرز ما يجعل مسألة تطور الوعي الجمعي معقدة هو أن الأفكار لا تُختبر بنفس القسوة التي يختبر بها الانتقاء الطبيعي صلاحية الجينات. في علم الأحياء، الكائن غير القادر على التكيف يختفي ببساطة، لكن في عالم الأفكار، يمكن للخرافة أن تعيش جنبًا إلى جنب مع العلم، ويمكن للأيديولوجيا أن تتجدد حتى بعد أن يثبت فشلها. هنا يتضح أن التطور الفكري لا يتبع نفس المنطق الذي يتبعه التطور البيولوجي. هناك آليات أخرى تلعب دورها، مثل السلطة، الإعلام، الاقتصاد، والدين، وجميعها تسهم في إعادة إنتاج الأفكار بدلًا من السماح لها بالانقراض الطبيعي.
إذا كان هناك عامل يمكن أن يدفعنا للقول بأن الوعي الجمعي يتطور، فهو التكنولوجيا. لكنها تطرح معضلة فلسفية: هل التكنولوجيا تطور في الوعي، أم أنها مجرد تضخيم لقدراتنا البيولوجية دون أن تمس جوهر إدراكنا للعالم؟ هل الإنترنت جعلنا أكثر وعيًا، أم أنه صنع وهمًا بالمعرفة، بينما أغرقنا في الضوضاء المعلوماتية؟
هنا، نجد أن الثورة الرقمية، رغم وعودها بتحرير المعرفة، ربما تكون قد خلقت شكلًا جديدًا من العبودية الفكرية، حيث يُعاد تشكيل العقول من خلال الخوارزميات، وتتحكم الرأسمالية الرقمية في تدفق الأفكار بطرق غير مسبوقة.
هل نحن إذن أمام وعي متطور، أم أمام نسخة أكثر تعقيدًا من التلقين الجماعي؟
التحولات الرقمية لم تأتِ فقط بمزيد من المعلومات، بل جاءت أيضًا بقدرة أكبر على التلاعب بالعقول وتوجيه الإدراك الجمعي. في السابق، كانت الأيديولوجيات تفرض نفسها من خلال الدولة و المنابر الدينية، أما اليوم، فهي تُبث عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تتحول الحقيقة إلى مجرد وجهة نظر وسط ضجيج لا ينتهي. هل هذا تطور؟ أم أنه مجرد إعادة إنتاج لفكرة “التحكم في الوعي”، لكن بأساليب أكثر ذكاءً؟
نيتشه كان سيضحك ساخرًا من فكرة أن الإنسان “يتطور” نحو حالة وعي أرقى، فهو يرى أن كل محاولة لتصوير التقدم العقلي كحتمية تطورية ما هي إلا امتداد للوهم الديني الذي جعل الإنسان يعتقد أنه محور الكون.
ربما ما يحدث ليس تطورًا، بل تراكبًا معقدًا للمعرفة، يجعلنا نظن أننا نتحسن بينما نحن في الحقيقة نعيد تدوير نفس التساؤلات والأزمات. ولو نظرنا إلى التاريخ، لوجدنا أن الأسئلة الوجودية الكبرى التي طرحها الإغريق ما زالت قائمة اليوم، وإن اختلفت لغتها. هل يعني ذلك أن الوعي الجمعي عالق في نقطة معينة، يعيد تشكيل نفسه باستمرار دون أن يتحرك فعليًا نحو “أعلى”؟
وإذا كان هناك تطور في الوعي الجمعي، فهو ليس خطيًا، وليس بالضرورة تصاعديًا. قد يكون تطورًا في “الأدوات”، لكنه ليس تطورًا في “الفهم”. وهنا، نعود إلى السؤال الأساسي: هل نحن، كبشر، نتطور في وعينا بقدر ما نتطور في أجسادنا؟ أم أن وعينا الجمعي، مهما تغيرت أشكاله، محكوم بديناميكيات أزلية لا يمكن تجاوزها؟
ربما الإجابة ليست في العلم، ولا في الفلسفة، بل في اللحظة التي يتأمل فيها الإنسان نفسه، ويدرك أن كل ما يراه حوله، مهما بدا معقدًا، قد يكون مجرد نسخة جديدة من القديم، بواجهة أكثر حداثة، ولكن بجوهر لم يبارح مكانه منذ الأزل. أو ربما، وللمفارقة، يكون التطور الوحيد الذي شهدناه هو قدرتنا المتزايدة على خداع أنفسنا بأننا نتطور.
***
إبراهيم برسي

بقلم: مارثا سي نوسباوم
ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم
***
الغضب هو العاطفة التي أصبحت تغمر سياساتنا وثقافتنا. يمكن للفلسفة أن تساعدنا على الخروج من هذا الدوامة المظلمة.
***

لا توجد عاطفة يجب أن نفكر فيها بشكل أعمق وأكثر وضوحًا من الغضب. الغضب يواجه معظمنا كل يوم – في علاقاتنا الشخصية، في مكان العمل، على الطرق السريعة، في الرحلات الجوية – وغالبًا، في حياتنا السياسية أيضًا. الغضب هو عاطفة سامة وشعبية في الوقت نفسه. حتى عندما يعترف الناس بميلها إلى التدمير، فإنهم غالبًا ما يتمسكون بها، معتبرين إياها عاطفة قوية مرتبطة بالاحترام الذاتي والرجولة (أو، بالنسبة للنساء، بتبرير المساواة). إذا كنت ترد على الإهانات والأضرار دون غضب، فسوف ينظر إليك الناس على أنك ضعيف الشخصية ومضطهد. تقول الحكمة التقليدية، عندما يظلمك الناس، يجب أن تستخدم الغضب المبرر لوضعهم في مكانهم، وفرض عقوبة عليهم. يمكننا أن نسمي هذا "سياسة كرة القدم"، لكن يجب أن نعترف على الفور بأن الرياضيين، بغض النظر عن خطابهم، يجب أن يكونوا أشخاصًا منضبطين يعرفون كيف يتجاوزون الغضب في سعيهم لتحقيق هدف جماعي.
إذا فكرنا عن كثب في الغضب، يمكننا أن نبدأ في رؤية لماذا هو وسيلة غبية لإدارة حياة المرء. مكان جيد للبدء هو تعريف أرسطو: ليس مثاليًا، ولكنه مفيد، ونقطة انطلاق لتقليد طويل في التفكير الغربي. يقول أرسطو إن الغضب هو استجابة لأضرار كبيرة لشخص أو شيء يهتم به المرء، ويعتقد الشخص الغاضب أن هذه الأضرار قد تم إلحاقها به ظلماً. يضيف أنه على الرغم من أن الغضب مؤلم، إلا أنه يحتوي أيضًا في نفسه على أمل في الانتقام. إذن: الأضرار الكبيرة، المتعلقة بالقيم الشخصية أو دائرة الاهتمامات، وظلم هذه الأضرار. كل هذا يبدو صحيحًا وغير مثير للجدل. ربما الأكثر إثارة للجدل هو فكرته (التي يتفق عليها جميع الفلاسفة الغربيين الذين يكتبون عن الغضب) بأن الشخص الغاضب يريد نوعًا من الانتقام، وأن هذا جزء مفهومي مما هو عليه الغضب. بمعنى آخر، إذا لم تكن تريد نوعًا من الانتقام، فمشاعرك شيء آخر (ربما الحزن)، لكن ليس حقًا الغضب.
هل هذا صحيح حقًا؟ أعتقد أن الجواب نعم. يجب أن نفهم أن الرغبة في الانتقام يمكن أن تكون رغبة دقيقة جدًا: الشخص الغاضب لا يحتاج إلى أن يتمنى الانتقام لنفسه. قد يريد ببساطة أن تفعل القوانين ذلك؛ أو حتى نوعًا من العدالة الإلهية. أو، قد يريد بشكل أكثر دقة ببساطة أن تسير حياة المعتدي بشكل سيء في المستقبل، على أمل، على سبيل المثال، أن تكون الزيجة الثانية لشريكها الخائن فاشلة للغاية. أعتقد أنه إذا فهمنا الرغبة بهذه الطريقة الواسعة، فإن أرسطو على صواب: الغضب يحتوي على نوع من الرغبة في الرد. يتفق علماء النفس المعاصرون الذين يدرسون الغضب تجريبيًا مع أرسطو في رؤية هذه الحركة المزدوجة فيه، من الألم إلى الأمل.
المسألة الأساسية هنا هي: فكرة الانتقام لا معنى لها. مهما كانت الجريمة – قتل، اغتصاب، خيانة – فإن إلحاق الألم بالجاني لا يساعد في استعادة ما فُقد. نحن نفكر في الانتقام طوال الوقت، ومن الميول البشرية العميقة أن نعتقد أن التناسب بين العقوبة والجريمة على نحو يعيد الأمور إلى نصابها. لكن هذا لا يحدث. لنفترض أن صديقتي قد تعرضت للاغتصاب. أريد بشدة أن يتم القبض على الجاني وإدانته ومعاقبته. ولكن، حقًا، ما الفائدة من ذلك؟ إذا نظرنا إلى المستقبل، قد أريد العديد من الأشياء: استعادة حياة صديقتي، منع وتحديد الاغتصاب في المستقبل. لكن المعاملة القاسية لهذا الجاني قد تحقق هذا الهدف أو قد لا تحققه. الأمر مسألة تجريبية. وعادة لا يعامل الناس ذلك على أنه مسألة تجريبية: هم في قبضة فكرة الكفاءة الكونية التي تجعلهم يعتقدون أن "الدم مقابل الدم، والألم مقابل الألم" هو الطريق الصحيح. فكرة الانتقام هي إنسانية بعمق، لكنها معيبة قاتلة كطريقة لفهم العالم.
هناك حالة واحدة، وأعتقد أنها الوحيدة، التي تجعل فكرة الانتقام منطقية. وهي عندما أرى الظلم على أنه هبوط كامل وحسب، كما يسميه أرسطو: إهانة شخصية تُرى على أنها تتعلق بالترتيب الاجتماعي فقط. إذا كانت المشكلة ليست الظلم نفسه، بل الطريقة التي أثر بها على ترتيبي في الهرم الاجتماعي، فعندئذ يمكنني حقًا تحقيق شيء ما من خلال إذلال الجاني: من خلال وضعه في مرتبة أدنى نسبيًا، أضع نفسي في مرتبة أعلى نسبيًا، وإذا كان المكانة هي كل ما يهمني، فلا داعي للقلق من أن المشاكل الحقيقية التي سببها الفعل الظالم لم تُحل.
الشخص المظلوم الذي يشعر بالغضب الشديد، ويسعى للانتقام، يصل سريعًا، كما أزعم، إلى مفترق طرق. هناك ثلاث طرق أمامها: الطريق الأول: تسلك طريق التركيز على المكانة، معتبرة أن الحدث كله يتعلق بها وبمكانتها. في هذه الحالة، يصبح مشروع الانتقام منطقيًا، لكن تركيزها المعياري مركز على الذات وضيّق بشكل غير مقبول. الطريق الثاني: تركز على الجريمة الأصلية (الاغتصاب، القتل، إلخ)، وتبحث عن الانتقام، معتقدة أن معاناة الجاني ستجعل الأمور أفضل. في هذه الحالة، تركيزها المعياري على الأشياء الصحيحة، لكن تفكيرها لا معنى له. الطريق الثالث: إذا كانت عقلانية، وبعد استكشاف ورفض الطريقين الأولين، ستلاحظ أن هناك طريقًا ثالثًا مفتوحًا أمامها، وهو الأفضل على الإطلاق: يمكنها التوجه إلى المستقبل والتركيز على القيام بما سيكون منطقيًا، وفي الوضع الراهن، مفيدًا حقًا. قد يتضمن هذا معاقبة الجاني، لكن بروح رادعة لا انتقامية.
يبدأ معظم الناس بالغضب اليومي: إنهم حقًا يريدون أن يعاني الجاني.
لذلك، لوضع ادعائي الجذري باختصار: عندما يكون الغضب منطقيًا (لأنه يركز على المكانة)، فإن ميله إلى الانتقام يعد إشكاليًا من الناحية المعيارية، لأن التركيز الأحادي على المكانة يعيق السعي وراء القيم الجوهرية. عندما يكون منطقيًا من الناحية المعيارية (لأنه يركز على القيم الإنسانية الهامة التي تم الإضرار بها)، فإن ميله إلى الانتقام لا معنى له، وهو إشكالي لهذا السبب. دعونا نسمي هذا التغيير في التركيز بـ "الانتقال". نحن بحاجة ماسة إلى الانتقال في حياتنا الشخصية والسياسية، حيث غالبًا ما تهيمن عليهما فكرة الانتقام والتركيز على المكانة.
في بعض الأحيان، قد يشعر الشخص بعاطفة تجسد الانتقال بالفعل. محتواها بالكامل هو: "يا لها من فضيحة! يجب ألا يحدث هذا مرة أخرى." يمكننا أن نسمي هذه العاطفة "غضب الانتقال"، وهذه العاطفة لا تحتوي على مشاكل الغضب العادي. لكن معظم الناس يبدأون بالغضب اليومي: هم حقًا يريدون أن يعاني الجاني. لذا فإن الانتقال يتطلب جهدًا أخلاقيًا، وغالبًا سياسيًا. يتطلب عقلانية تتطلع إلى الأمام، وروحًا من السخاء والتعاون.
النضال ضد الغضب غالبًا ما يتطلب فحصًا ذاتيًا وحيدًا. سواء كان الغضب المعني شخصيًا، أو متعلقًا بالعمل، أو سياسيًا، فإنه يتطلب جهدًا دقيقًا ضد عادات الشخص والقوى الثقافية السائدة. العديد من القادة العظام فهموا هذا النضال، ولكن لا أحد منهم فَهِمه بعمق مثل نيلسون مانديلا. كان يقول كثيرًا إنه يعرف الغضب جيدًا، وأنه كان مضطرًا للنضال ضد مطالب الانتقام في شخصيته. وقد ذكر أنه خلال سنواته الـ27 من السجن، كان عليه ممارسة نوع من التأمل المنضبط للحفاظ على تقدم شخصيته وتجنب فخ الغضب. ويبدو الآن أنه كان من الواضح أن السجناء في جزيرة روبن قد تهرّبوا بنسخة من كتاب التأملات للفيلسوف الرواقى ماركوس أوريليوس، ليعطوهم نموذجًا للجهد الصبور ضد تأثيرات الغضب.
لكن مانديلا كان مصممًا على الفوز بالنضال. كان يريد أمة ناجحة، حتى في ذلك الوقت، وكان يعرف أنه لا يمكن أن توجد أمة ناجحة عندما يكون هناك انقسام بين مجموعتين بسبب الشكوك والضغينة والرغبة في جعل الطرف الآخر يدفع ثمن الأخطاء التي ارتكبها. حتى وإن كانت تلك الأخطاء فظيعة، فإن التعاون كان ضروريًا من أجل الوحدة الوطنية. لذا، فعل أشياء في ذلك السجن الكريه كان زملاؤه السجناء يعتقدون أنها مشوهة. تعلم الأفريكانية. درس ثقافة وظروف الظالمين. مارس التعاون من خلال تكوين صداقات مع سجانيه. لم تكن السخاء والود مبررة بالأفعال الماضية؛ لكنها كانت ضرورية للتقدم في المستقبل.
كان مانديلا يروي للناس حكاية صغيرة. تخيل أن الشمس والريح يتنافسان لرؤية من يستطيع جعل مسافر يخلع بطانيته. الرياح تعصف بقوة، وبشكل عدواني. لكن المسافر يلف البطانية حول نفسه أكثر. ثم تبدأ الشمس في التألق، أولاً برفق، ثم بشكل أكثر شدة. يخفف المسافر البطانية عن نفسه، وفي النهاية يخلعها. هكذا، كما قال، يجب أن يعمل القائد: انسَ عقلية الانتقام، واصنع مستقبلاً من الدفء والشراكة.
وكان مانديلا واقعيًا. لم يكن ليقترح، كما فعل غاندي، تحويل هتلر من خلال السحر. وبالطبع، كان مستعدًا لاستخدام العنف استراتيجيًا عندما يفشل اللاعنف. فعدم الغضب لا يعني عدم استخدام العنف (على الرغم من أن غاندي كان يعتقد أن ذلك يعنيه). لكنه كان يفهم الوطنية والروح التي تتطلبها الأمة الجديدة. ومع ذلك، وراء اللجوء الاستراتيجي إلى العنف، كان دائمًا هناك رؤية للناس كانت انتقاليّة، تركز على خلق مستقبل مشترك بعد أفعال فظيعة ومروعة، وليس على الانتقام.
مرات ومرات مع بدء فوز المؤتمر الوطني الأفريقي (ANC) في النضال، كان أعضاؤه يرغبون في الانتقام. بالطبع كانوا يرغبون في ذلك، لأنهم عانوا من ظلم فادح. لكن مانديلا رفض ذلك تمامًا. عندما صوت المؤتمر الوطني الأفريقي لاستبدال النشيد الوطني القديم للآفريكانيين بنشيد حركة الحرية، أقنعهم بتبني النشيد الذي هو الآن رسمي، والذي يتضمن نشيد الحرية (بثلاث لغات أفريقية)، وبيتًا من النشيد الآفريكاني، وقسمًا ختاميًا باللغة الإنجليزية. عندما أراد المؤتمر الوطني الأفريقي إزالة اعتماد فريق الرجبي كفريق وطني، مدركًا بشكل صحيح العلاقة الطويلة للرياضة بالعنصرية، ذهب مانديلا، كما هو مشهور، في الاتجاه المعاكس، داعمًا فريق الرجبي في فوزهم بكأس العالم ومن خلال الصداقات، جعل اللاعبين البيض يعلمون الرياضة للأطفال السود. وعندما وُجهت إليه تهمة أنه كان مستعدًا للغاية لرؤية الجوانب الجيدة في الناس، أجاب: "واجبك هو العمل مع البشر ككائنات بشرية، ليس لأنك تعتقد أنهم ملائكة".
يسأل مانديلا فقط: كيف يمكنني إحداث التعاون والصداقة؟
وقد رفض مانديلا ليس فقط الإغراء الزائف للانتقام، ولكن أيضًا سمّية الهوس بالمكانة الاجتماعية. لم يرَ نفسه أبدًا فوق المهام البسيطة، ولم يستخدم مكانته الاجتماعية للإهانة. قبيل إطلاق سراحه، في بيت انتقالي حيث كان لا يزال رسميًا سجينًا، ولكن كان لديه أحد الحراس كطاهٍ خاص له، أجرى مناقشة مثيرة مع هذا الحارس حول مسألة عادية جدًا: كيف سيتم غسل الصحون.
يقول مانديلا: توليت الأمر بنفسي لكسر التوتر وربما الاستياء من جانبه لأنه يجب أن يخدم سجينًا عن طريق الطهي ثم غسل الصحون، وعرضت عليه أن أغسل الصحون فرفض... قال إن هذا عمله. فقلت: 'لا، يجب أن نشارك في ذلك.' على الرغم من أنه أصر، وكان صادقًا، لكنني أجبرته، حرفيًا أجبرته، على السماح لي بغسل الصحون، وأقمنا علاقة جيدة جدًا... إنه شخص رائع، الحارس سوارت، صديق جيد لي جدًا."
كان من السهل جدًا رؤية الوضع كعكس للمكانة الاجتماعية: الأفريكانر الذي كان يهيمن في السابق يغسل الصحون لزعيم حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الذي كان يُحتقر سابقًا. وكان من السهل أيضًا أن نراه من منظور الانتقام: الحارس يحصل على إهانة يستحقها بسبب تورطه في القمع. من المهم أن مانديلا لم يسلك أيًا من هذين المسارين المحكوم عليهما بالفشل، حتى ولو لبضع لحظات. سأل فقط: كيف يمكنني إحداث التعاون والصداقة؟
إن مشروع مانديلا كان سياسياً؛ ولكنه ينطوي على تداعيات على العديد من جوانب حياتنا: الصداقة، والزواج، وتربية الأطفال، والعمل كزملاء جيدين، وقيادة السيارة. وبطبيعة الحال، ينطوي المشروع أيضاً على تداعيات على الطريقة التي نفكر بها في ما ينطوي عليه النجاح السياسي وكيف تكون الأمة الناجحة. فكلما واجهنا قرارات أخلاقية أو سياسية ملحة، يتعين علينا أن نصفي أذهاننا، وأن نقضي بعض الوقت في ما أشار إليه مانديلا (مستشهداً بماركوس أوريليوس) بـ "المحادثات مع نفسي" . وعندما نفعل ذلك، أتوقع أن نرى بوضوح أن الحجج التي يطرحها الغضب مثيرة للشفقة وضعيفة، بينما سيكون صوت السخاء والعقل المتطلع للمستقبل قويًا وجميلًا أيضًا.
(تمت)
***
..................
الكاتبة: مارثا سي نوسباوم/ Martha C Nussbaum: (من مواليد 1947) أستاذة القانون والأخلاق المتميزة في جامعة شيكاغو. أحدث كتاب لها، والذي استند إلى محاضرات جون لوك التي ألقتها في جامعة أكسفورد، هو الغضب والتسامح: الاستياء والكرم والعدالة (2016). حصلت نوسباوم على درجات فخرية من أكثر من 60 كلية وجامعة في الولايات المتحدة وكندا وأمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا وأوروبا. وهي أكاديمية في أكاديمية فنلندا، وزميلة في الأكاديمية البريطانية، وعضوة في الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم. وهي أيضًا عضو في الجمعية الفلسفية الأمريكية، حيث كانت رئيسة القسم المركزي من عام 1999 إلى عام 2000.

 

طواحين دون كيشوت او الانجازات الوهمية هي مفهوم يعبر عن الانجازات او الانتصارات الوهمية او غير الحقيقية. يمكن ان تطبق مثل هذه البطولات في السياسة او الرياضة او حتى في حياة الناس اليومية. يمكن ان يصف الاشخاص أنفسهم او الاخرين بالأبطال على الرغم من ان الامور لا تبرر ذلك. هذه الانجازات مرتبطة عادة بشخصية دون كيشوت بطل الرواية الشهيرة لمؤلفها (ميغيل ديثيربانتس). كان (دون كيشوت) يعتقد أنه فارس نبيل، وبدأ في محاربة "طواحين الهواء" التي تصورها وحوش، وهو من الشخصيات الرائعة في الثقافة الغربية بشكل عام والاسبانية بشكل خاص. ففي الرواية، كان دون كيشوت يظن نفسه بطلا لكنه في الواقع كان لا يواجه جبابرة، بل” طواحين هواء”. تمثل هذه الرمزية التحديات او الصراعات التي لا تكون حقيقية او مباشرة، ولكن قد تُرى كذلك. هذا يظهر كيفية استغلال الوهم او طواحين الهواء في العالم من حولنا وكيف يمكن ان نصبح سهلي الانقياد للوهم، بمعني آخر، ان الانجازات الوهمية والصراعات غير الموجودة في الواقع تُعبر كما يبدو عن الحاجة الانسانية الى خلق معني وهدف في الحياة وحتى وان كان هذا المعنى مبنيا على الأوهام، من بينها الإنجازات والانتصارات غير الحقيقية أو المبنية على أوهام. هذه البطولات يمكن أن تظهر في مجالات مختلفة، وقد يسعى الأفراد أو الجماعات إلى بناء صورة بطولية عن أنفسهم، رغم أن الواقع لا يشير الى ذلك. تمثل هذه الطواحين وتسلط الضوء بشكل عام على كيفية رؤيتنا للعالم من حولنا وكيف يمكن أن نقع فريسة للأوهام. بعض الحركات الاجتماعية قد تنشأ حول قضايا تُعتبر غير حقيقية أو مبالغ فيها. مثل بعض الحركات التي تتصارع أهدافها يكون تأثيرها عرضيا ولا تستند على واقع محسوس. وتستخدم المبالغة في تقدير التحديات غير الحقيقية التي تواجه بتحديات من وحي الخيال، يجعل الافراد يركزون على صراعات وأعداء غير موجودين أو صراعات غير ذات معنى، أيضا هناك ايديولوجيات تدعو إلى صراعات وخلق أعداء وهميين، مما يؤدي إلى الانحراف عن الأهداف الحقيقية التي يمكن أن تعود بالنفع عند التركيز عليها، الاهداف و القضايا يمكن أن تفيد الناس كالقضايا الاجتماعية والاقتصادية بشكل حقيقي هي التي يجب التركيز عليها والتي يمكن أن تكون لها تأثير واضح وليس الأنشطة الاجتماعية الاحتفالية، الحملات التي تركز على قضايا وهمية أو مبالغ فيها، تشبه "طواحين الهواء" لدون كيشوت.
التقييم النقدي للأهداف
من المهم التقييم النقدي للأهداف والوسائل المستخدمة في تحقيق الأهداف لضمان أن يكون لها تأثيرًا إيجابيًا على المجتمع، لأن كثرة التحديات أو الصراعات التي تواجه المجتمعات تجعل الافراد يشعرون بأنهم في معركة مستمرة ضد "أعداء" حقيقيين وتنمو الأنانية التي يمكن أن تؤدي إلى رؤية ضيقة للأمور، حيث يركز الشخص فقط على مصالحه الشخصية بدلاً من رؤية الصورة الأكبر، مما يجعله يتجاهل الحقيقي. الأشخاص الأنانيون يسعون إلى خلق تنافس أو صراع مع الآخرين لأسباب تافهة، مما يؤدي إلى تفاقم الصراعات التي لا تستند على أساس منطقي، وزيادة العوائق وكذلك التحديات من منظور فردي، تجعلهم يعتقدون أن كل شيء يدور حولهم، وهي صراعات يمكن أن تؤدي الى الأنانية وتدهور العلاقات الاجتماعية، حيث الشعور هو صراع ذاتي مستمر، يضخم الإحساس بالصراع الوهمي بتضخم طواحين الهواء لدى الأشخاص الأنانيين ويمكن أن يؤدي إلى صراعات غير ضرورية ومبالغ فيها، مما يؤثر سلبًا على حياتهم وحياة من حولهم. من المهم التعرف على هذه الديناميكيات لمحاولة تقليل الصراعات وبناء علاقات أكثر صحة.
الوهم وعلاقته بالأنانية وانعدام الامن
العلاقة بين الأنانية، وانعدام الأمن، وتضخم طواحين الهواء معقدة ومتعددة الأبعاد. وربط هذه المفاهيم الأشخاص الأنانيون يشعرون بعدم الأمان، مما يدفعهم إلى حماية بمصالحهم بشكل مفرط. هذا السلوك يمكن أن يكون له دلالة على شعورهم بالتهديد، قد يسعى الأفراد الأنانيون إلى تعزيز صورتهم الذاتية من خلال تحقيق إنجازات شخصية حتى وان كانت وهمية. ما يزيد من إحساس الاشخاص بعدم الأمان إذا لم ويحصلوا على الاعتراف أو الدعم يبالغ في تقدير تحديات الازمة التي يوجهونها يؤدي إلى تضخيم الصراعات الوهمية في حياتهم، لتعويض المشاعر، عدم الأمان، قد يتجه الأفراد إلى خلق صراعات أو تحديات غير موجودة، مما يجعلهم يشعرون الإحساس بأنهم في وضع السيطرة، انها موجودة ولا يركزون على ما يهدد من تضخيم الصراعات التي تتعلق بمصالحهم الشخصية، حتى وإن كانت اللجوء الى صراعات غير مهمة تجاهل مشاعر الآخرين واحتياجاتهم، يمكن يؤدي ذلك إلى انعدام الامن يؤدي الى تصورات خاطئة عن الصراعات، مما يزيد من تفاقم الأمور. تتفاعل الأنانية وانعدام الأمن مع بعضهما البعض لتغذية تضخم طواحين الهواء، حيث إن كل مفهوم يعزز من الآخر. هذا التفاعل يمكن أن يؤدي إلى صراعات غير ضرورية، مما يؤثر على العلاقات الشخصية. من المهم وعي هذه الديناميكيات، للعمل على تحسين الذات والعلاقات مع الآخرين. وإدراكها وتجاوز تاثيراتها السلبية انعدام الأمن، تضخم طواحين الهواء يتطلب وعيًا وجهودًا مستمرة لنبذ الانانية.
العقل وتجاوز أوهام دون كيشوت
في كل الإبداعات البشرية من فك الرموز التاريخية الى قراءة الاساطير التأسيسية ،لا توجد لغة تحمل كل الطموحات الشرعية للحقيقة ،لكن هناك شكلا ابداعيا يضم المعرفة وهو الوعي اللغة كانت وسيطا، في كل تجربة يراد لها ان تتكامل بالتوسع التواصلي المستمر والثابت وبدلالات اكثر عمقا من الشعارات ،أي بتفكير حر دون قناع الأيديولوجيات و اللاشعور، تصبح مزاعم التأويل الميتافيزيقي لا تشتمل على معرفة بالشروط الاجتماعية والتأريخية السياقية، بالتالي تقودنا الى تعريف سلبي للمرحلة المعاصرة عند استقراء طابعها منطقيا رغم الحساسية التي تستدعي التعاطف ،لكننا لا نلاحظ هنا فصلا بين البنية الأيديولوجية والواقع المعاش ،تاريخنا ان كان فرديا او اجتماعيا بدا بتفجير النصوص داخل سحابة مليئة بالمعاني والتأويلات، وهناك ابتكارات غير منطوقة اعادت تعريف كل الأشياء على المستوى المعاصر، يجب ان نصحو من حطام الأزمنة ونبدأ بتوزيع المقاطع المتفرقة من سوء الفهم الى دائرة الانساق السيكولوجية المرضية، ولا نضطر الى اللجوء للمراوغة والاعتذار عند بلورة العجز بمنهج اسقاطي ،لان العلاقة محزنة وتثير الكثير من التساؤلات ،كوننا نقوم بتبرير المراوغة والاعتذار. بدون الروح المعملية وتحرير العقل من الأطر المتحجرة لا يوجد انتصار ، الرجوع الى الوراء حنين مرضي دون تقييم نقدي ومراعاة للسياقات القائمة على حساسية المعنى لا يقيده المجاز ،بل يجب ان نبحث عن شعور بالعالم يجعلنا ندرك مأساتنا، شعور يصبح ادراكيا عندما يتجاوز الوهم رغم غرائبيات اليوم ،هي سلسلة كشوفات قلقة مسورة بالدلالات الاقتصادية والاجتماعية قابلة للانفجار بحضور مادي عند فتح قنوات الكلام، المراهنة على الوهم اشبه بلبس طاقية الاخفاء في مشهد مليء بالرعب، هو مشهد ادعاء ساذج لا يستطيع صنع علاقات واشكال جديدة للحياة ،تعيد الوحدة الى المعرفة والوعي وتوحد بين المسافات الاجتماعية والاقتصادية دون تقاطع، وتعيد الخبرة الإنسانية الى نسيجها ،نحن نعرف ان اكثر الأشياء مراوغة هو الوهم ،يعطل قدرة الانسان على إعادة ترتيب أولوياته وبالتالي لا يستطيع ان يساعدنا على ان نقوم من وسط حطام الكلمات الى بناء لغة متفردة تحمل من الشفافية دون أوهام سيكولوجية وتحمل أسس التحول والابتكار.
***
غالب المسعودي

هل أهدافك خارج ذاتك؟
في الصداقة والانفتاح الحقيقي على الآخر، نعيش حياة ثانية، حتى وإن لم نتلق نفس الانفتاح. نعيش جانبًا آخر من الحياة من خلال انفتاحنا، النظر بعين القلب والبصيرة إلى عالم الآخر القريب.
رأيتُ بأم عين روحي مقربين مني خسروا أنفسهم، ووقعوا في دوامة إدمان العمل، حتى أصبحوا يعانون من الاحتراق الوظيفي المستمر. أحيانًا، كانوا يظهرون كما لو كانوا سكارى، لكنهم لم يكونوا كذلك. ورغم أن هذه الفئة حققت نجاحات كبيرة على الصعيد المادي، وامتيازات وأموالًا وجاهًا، إلا أنني رأيتُ خسارتهم الحقيقية بوضوح، ولن أتمنى أن تكون أي من تلك النجاحات لي.
الحقيقة أنني أدركت من خلال انفتاحي على حياة هؤلاء الأشخاص، أن هناك من يجعل غايته تحقيق النجاح والوصول إلى أهداف معينة، فيغرق في المنافسة والصراع، ويهرول للعمل بكل طاقته للوصول إلى مبتغاه. في منتصف الطريق، يفقد حياة روحه تدريجيًا، حتى يخسر نفسه بالكامل.
هذا المشهد المؤلم جعلني أدرك أنه في كثير من الأحيان لا نستطيع تغيير واقع أحبائنا، والنصائح تصبح بلا جدوى. فهؤلاء يروننا من زاوية مختلفة، لم يعودوا يفهمون عالمنا، وأحيانًا يشعرهم واقعنا بالغربة.
هذه المشاهدة أثارت بداخلي عدة أسئلة:
- ما قيمة النجاح الذي أخسر معه نفسي؟
- ما قيمة الإنجاز الذي يفقد قدرتي على تذوق تجليات الجمال في الكون والطبيعة؟
- ما قيمة النجاح الذي يفقدني الشعور بالتعاطف والمحبة والسعادة؟
- أي خسارة أكبر من خسارة روح المشاعر والعواطف؟
- أي مكسب يتحقق مع بلادة المشاعر؟
- وأي رفاهية يمكن أن أتمتع بها مع غياب الوقت الذي أستمتع فيه مع نفسي، أفكاري، قناعاتي، تأملاتي، ومراجعة نفسي؟
لقد توصلت تقريبًا إلى إجابة، وهي أن هناك نجاحات مادية خارجية قد تطور الفرد ظاهريًا، لكنها لا تمس جوهره الداخلي. في هذا السياق، قد يتراجع الفرد داخليًا، ويبتعد عن الارتقاء الروحي، نجاح لا يجدك بل يفقدك. وفي المقابل، هناك نجاح ينبع من غاية ذاتية محورها تزكية النفس والارتقاء بها، حيث يتخلى الفرد عن أي نجاح يستهلك سلامه ووقته، ويبتعد عن كل ما لا يشبه روحه أو يشوه حقيقته.
في النجاح الداخلي يدرك أن الحياة الحقيقية تكمن في القرب من الذات الحقيقية داخلنا. كما صدق من قالوا إن الحياة البسيطة، مع إنجازات صغيرة تسودها النزاهة وقيم العدالة، تمنحك سعادة وسلامًا لن تجده في الإنجازات الكبيرة التي قد تُرهقك وتسبب لك احتراقًا نفسيًا، لتتحول إلى مدمن عمل قد يصبح نرجسيًا، لا يرى لنفسه أي قيمة خارج عنوان عمله.
***
د. حميدة القحطاني

 

تحظى ثلاثية الدين والعلم والتطور بإهتمام العقل الإنساني في بحثه عن الإستقرار والتنمية. فقد اعتنت الثقافة العربية المعاصرة عناية كبيرة بالتحول الثقافي الذي حصل في العالم على مدى أكثر من ثلاثة قرون تواصلت فيها الحضارة الغربية في التقدم منذ بدايات النهضة، ثم الحداثة، فالتطور العلمي وصولاً الى التطور التقني الرقمي.
أثّـر التحول الثقافي الغربي من قانون الكنيسة الى قانون العلم، في تفكير العقل العربي الذي أراد الإفادة من هذا التحول لمعالجة الموقف العربي المعاصر، فذهب بعض المثقفين الى إستعارة التجربة الغربية لتطبيقها في الواقع العربي.
جانب مهم من المشكلة يكمن في ان كلمة كنيسة في الغرب تعني ما تعنيه كلمة مسجد عند العرب، وهي الدين، فاذا أخذنا عبارة دين الكنيسة مقابل عبارة دين المسجد سنرى ان دين الكنيسة يمثل مرحلة ما قبل الخاتمية، لأن الدين واحد وحلقاته متعددة، ولكل حلقة نبي أو رسول يمثلها. هذا يعني ان إكتمال الصورة يتحقق في اللمسات الأخيرة، وهذه اللمسات الأخيرة وضعها النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ما يعني إن دين الكنيسة لم يكن ليعطي تصوراً واضحاً ودقيقاً لتفاصيل الرسالة السماوية وأثرها في المشهد الحياتي للناس، الأمر الذي مكّن العقل الغربي منذ عصر النهضة وعصر الصناعة من توجيه إستفهامات كثيرة لم تفلح الكنيسة في تقديم أجوبة كافية ومقنعة لها، أودت بالنهاية الى ترك الناس لقانون الكنيسة والتوجه الى قانون العلم.
في ضوء هذا الحراك الغربي رأى بعض المثقفين العرب ان مضي المجتمع العربي الإسلامي في الطريق ذاته الذي مر به المجتمع الغربي، قد يساعد على تحديث الواقع وتأهيل المجتمع العربي للحاق بركب تطور الحضارة الغربية . المشكلة ان تصورات ورؤى المثقف الغربي تكونت وتبلورت في نطاق تلك المرحلة من الدين الكنيسي، ثم جاء تأثر المثقف العربي المسلم بها بحكم قوة تطور الحضارة الغربية، فأعتمد أفكار وأقوال وبحوث وكتب مفكرين غربيين كمصادر ومراجع لرصيده الثقافي الشخصي، واخذ المثقف العربي المعاصر علاقته بالثقافة الدينية في ضوء ذلك التأثر. الأمر الذي أوقعه في مشكلة مواجهة طبيعة مجتمعه، ومحاولته تغيير تلك الطبيعة، أو إقحام تصوراته الشخصية للثقافية الغربية في تلك الطبيعة، وهو ما جعله في بعض المواقع في حالة من التضاد، وأحياناً في حالة تصادم مع المعمم.
لعل أي حديث عن تطور ثقافي وإجتماعي لا يأخذ بعين الإعتبار الدور المهم للعلم المجرد وتقنية اليوم الرقمية، هو حديث لا يخدم حركة نهضة الواقع، بل لعله حديث مضر بسلامة المجتمع. لذلك علينا أن نأخذ بأسباب ونتائج التطور العلمي الذي نعيشه في عصرنا الحالي ونحن نبحث عن سبل تمكين مجتمعاتنا ثقافياً وتطويرها بما يمكنها من إستيعاب التطور الحاصل في حضارة الغرب بما يضمن سلامة الطبيعة الثقافية والإجتماعية للعالم العربي الإسلامي.
هل يسهم الاستخدام المتزايد للطاقة وللتطبيقات التقنية الرقمية في تشكيل ثقافة مادية جامدة، تصل بالمثقف الى التوقف في نشاطه عند حدود نشر المقال، وطبع الكتاب، وإنشاء صفحة الكترونية تضم عدداً من المعجبين، وشهادات شكر وتقدير. بينما يستغرق الواقع في مشاكل شخصية وأسرية وإجتماعية كثيرة أصبحت مزمنة في حياة الفرد والأسرة والمجتمع ؟.
هل تسهم كثرة السلع الآلية الذكية في السوق في تسليع الأفكار والقيم والعادات..؟
تقدم الصناعة في الغرب، ودخول الإقتصاد مرحلة صنع القرار السياسي حول العالم، هل يؤثر في التكوين الثقافي للشعوب؟
في عصر التسليع الذي تمتد فيه مشاريع الاقتصاد الصناعي والسياسي للنظام العالمي لتشمل كل شيء من سلع وافكار.. هل يؤدي ذلك الى تقييد حركة الثقافة أم الى توسيعها؟
بعد هيمنة الآلة الذكية على المشهد الحياتي لمجتمعات العالم. هل نتوقع إسلاماً جديداً في الشرق الأوسط كالمسيحية الجديدة
الحاصلة في الغرب؟
هنا تصبح الثقافة العربية المعاصرة في محنة حقيقية لا يبدو من واقع الحال انها قادرة على صناعة وعي جمعي في جو تحرك أهواءه سياسة المال والأعمال . خصوصاً وان النظام العالمي الجديد منذ بدايات القرن الواحد والعشرين بدا داعماً لتمكين الشخصيات غير الكفوءة من مواقع القرار.
ان المشكلة التي سيواجهها الدين في مستقبل عصر التقنية الذكية لا تتعلق بجوهر الدين قدر تعلقها بالثقافة الدينية للشعوب.
في إحدى المدن المعروفة بوجود مزارات دينية مشرفة، تزامن الإحتفال بعيد رأس السنة الميلادية مع ذكرى وفاة واستشهاد رمز من رموز العقيدة الدينية، فتباين المشهد الإجتماعي ما بين من يطلق الألعاب النارية في الفضاء إبتهاجاً بالعام الميلادي الجديد وبين من يقيم حفلاً تأبيناً في هذه الذكرى التاريخية الحزينة. اذا لم نجد ما يحملنا على التشكيك في الإلتزام الديني للأشخاص الذين أعربوا عن إبتهاجهم بقدوم العام الجديد في الوقت نفسه الذي تمر مدينتهم بذكرى حدث تاريخي أليم، فإن تفسير إقدامهم على سلوك يتناقض مع الحدث الديني التاريخي، مرجعه الى حالة القلق الثقافي والى التراجع الملفت في النضج النفسي لشخصية العربي المسلم، التي تسببت بها الحالة السياسية والإقتصادية والثقافية لمجتمع إنحرفت فيه السياسة عن طبيعة المجتمع، وتجاوز فيه الإقتصاد قدرة شريحة كبيرة من الفقراء على التعاطي مع التطور الإقتصادي وانحسرت الثقافة العامة وتحولت الى نشاط شخصي أو فئوي محدود، وتقلصت مساحة الصبر في صدور المكلومين والفقراء، وأختلت في مواقع القيادة معايير النظر الى مفهوم العدالة، ومفهوم القوة، ومفهوم الحرية التي كان لقاموس الأثرياء والمتنفذين حضوره الفاعل المؤثر في إستحداث تفاسير مبتدعة لهذه المفاهيم في المشهد الحياتي اليومي للمجتمع، وان كان لسان الحكومة يتحدث عن العدالة الإجتماعية وعن تساوي الكل أمام القانون، لكن الواقع مختلف كل الإختلاف عن تلك التصريحات وتلك الإستعراضات التي تقوم بها الماكنة الإعلامية الرسمية. وإذا أردنا ان نستبعد تورط الأنظمة السياسية العربية في تعمد إهمال المجتمع، فإننا لا نستبعد ابداً إخفاقها في إحتواء ظروف المرحلة الصعبة والمعقدة التي يواجهها البناء الإجتماعي، ولكي لا تبدو عاجزة أو فاشلة فإنها تلجأ الى تخدير الجماهير بتلك الإستعراضات الإعلامية.
المواطن العربي مشغول بقضايا التراث والدين والعادات والتقاليد والقيم والأخلاق، وكيف يحافظ عليها في زمن الآلة الذكية والنظام العالمي الجديد ومشاريع أمركة الثقافة العالمية، ومشروع الإسلام الأمريكي الشرق أوسطي، ومشروع التطبيع مع الكيان الغاصب..
فهو مسكون بالقلق في ظل أنظمة سياسية محلية غير مؤهلة لتحويل هذا القلق الى إستقرار.
بالمقابل ينشغل المواطن الغربي بمخرجات عصر التقنية وبمستقبل الذكاء الإصطناعي، وكيف يستفيد من ذلك في حياته بحيث تصبح ذات معنى أجمل، في ظل مناخ بيئي عالمي متغير ومستقبل يواجه نضوباً في مصادر الطاقة الطبيعية.
المواطن الغربي مشغول بالتطور الصناعي، والمواطن العربي مهموم بالتدهور الإجتماعي.
يدرك المواطن العربي حقيقة واقعه هذا، لكنه لا يملك رؤية معاصرة واضحة لتغيير هذا الواقع الى الأفضل. كما إن المواطن الغربي ليس أكثر وعياً من المواطن العربي بتعقيدات الحياة ومخاطرها، لكن المواطن الغربي عملي أكثر من المواطن العربي، ومعنى كون المواطن الغربي انه إنسان عملي لا يعفيه من إحتمالية وقوعه في حالة عدم الإنتباه للأعراض الجانبية لثقافة العولمة في ظل نظام عالمي يعتمد لغة المال والأعمال في كل انشطته التي ستجعل من الإنسان حول العالم مستهلكاً (بكسر اللام) ومستهلكاً (بفتح اللام) في الوقت ذاته.
نعتقد ان بداية مشروع تحول الثقافة العربية الى قوة لها حضورها الواضح في المشهد الحياتي للمجتمع العربي تبدأ من خروجها من عباءة السياسة الحاكمة وإنفتاحها على طريقة حياة الناس والعمل على تطوير الآلية التي يتعامل بها الناس مع بعضهم، من أجل تمكين المجتمع ثقافياً، ليصبح الوعي الجمعي محركاً يتمتع بقدرة عالية على تحريك الواقع بإتجاه التغيير الإيجابي الذي يتلائم مع طبيعة المجتمع.
***
عدي عدنان البلداوي

في عالم مهووس بالتقدم والإنجاز، يتساءل البعض هل نحن فعلاً مَن نكتب تاريخنا أم أن الأحداث تسير بنا وفق نسقٍ خفي لا نرى منه سوى خيوطًا ضبابية؟ هل ما نعتقد أنه قراراتنا الحرة هي فقط انعكاس للخيارات التي كُتبت لنا مسبقًا؟ في هذا المقال، نغوص في عمق اللحظات التي لا ننتبه إليها، في تلك القرارات التي نتخذها بعفوية، والتي قد تحمل مفتاحًا لفهم المستقبل، غير المرئي والمركب.
منذ فجر التاريخ، سعى الإنسان للكشف عن مسار حياته، محاولًا أن يضع خطة للغد. لكن ماذا لو كانت أفعالنا اليوم، حتى الصغيرة منها، هي التي تشكل الغد بشكل غير مباشر؟ قد يكون الجواب في التفاصيل الغامضة التي نحاول تجاهلها. هل ندرك فعلاً التأثيرات المترتبة على اختياراتنا اليومية؟ تلك اللحظات التي يظن البعض أنها عابرة أو غير مهمة قد تكون هي الأبجديات الأولى للواقع الذي نعيشه بعد سنوات.
عندما نختار مسارًا حياتيًا أو نلتقي بشخص غير متوقع، تتشكل الدوائر التي تؤثر في مجريات حياتنا. في الحقيقة، ليس كل شيء مرئيًا في الوقت الحاضر. المستقبل الذي يبدو ضبابيًا أمام أعيننا ربما كان قد بدأ تشكيله قبل سنوات، قبل أن نعي تمامًا أن ما نفعله الآن سيقودنا إلى نقطة معينة في الزمن. هنا يكمن التناقض: كل قرار صغير، مهما بدت عواقبه تافهة، ربما يكون أكثر تأثيرًا من أشياء كثيرة كنا نعتبرها حاسمة.
في عالم مليء بالاحتمالات، يبدو أن اختياراتنا لا تأتي من فراغ. هل هي مقدرة علينا أم هل نمارس التأثير على الواقع دون أن ندرك ذلك؟ هنالك شيء غامض يكمن وراء مسار حياتنا اليومية، شيء غير مرئي يصنع التغيرات الحقيقية في العالم. ربما هذه القوة التي لا نراها هي التي تتحكم في مصيرنا، تقودنا نحو مجالات لم نتوقعها، وتجعل من قراراتنا الصغيرة أحداثًا مصيرية. ومن هنا يبدأ التساؤل: هل نحن فعلاً أسياد أقدارنا، أم أن أفعالنا مجرد دمى في يد قوى خفية؟
الفكرة هنا ليست في أن نقع في فخ المبالغة حول الأقدار أو التوقعات الغيبية، بل في التنبه إلى أن ما نراه اليوم من أحداث ومواقف قد يكون مجرد تجسيد للخيارات التي تم اتخاذها في الماضي، أحيانًا في لحظة عابرة من الزمن. ربما نحن نعيش في وهم من أن المستقبل يتشكل فقط من قرارات اليوم الكبيرة، لكن في الحقيقة، قد تكون أفعالنا الصغيرة هي التي تكتب فصوله.
إن عملية الإدراك والوعي بما نفعله وما لا نفعله قد تفتح لنا أبوابًا لفهم أعمق لهذا الوجود الذي نشعر أنه عابر. وهكذا، نبدأ في إدراك العلاقة العميقة بين أفعالنا الحاضرة وبين عواقبها المستقبلية التي نعيشها بعد حين.
إننا لا نعيش في زمن ثابت؛ نحن محاطون بتشابك لا نهائي من التأثيرات والمفارقات. فهل كل لحظة تعيشها مجرد جزء من حكاية قد لا تكتمل إلا بعد مرور الزمن؟ هل قد تكون أفعالك اليوم هي الأبجدية التي تُكتب بها أحداث غدك، ولكن بطريقة لا تدركها إلا بعد أن يتكشف المعنى؟ كل شيء يبدأ من حيث لا نتوقع، وفي أماكن لا نتخيلها.
كل هذا يقودنا إلى السؤال الأهم: هل نحن بالفعل نصنع المستقبل؟ أم أن المستقبل هو الذي يصنعنا؟
***
سجاد مصطفى حمود

 

بقلم: لوك سترونغمان
ترجمة صالح الرزوق
***

مع توسع الإمبراطورية البريطانية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، توسعت معها المثل الأخلاقية والاجتماعية، وتطورت الثقافة. وترافق الإيمان بإمكانيات الاختراع وتطوير الذات مع النشاط التجاري وخطاب وفلسفة الغرب. وهكذا تبدلت الفكرة التي تقارن الحداثة بما هو قديم وأصبح خلفنا، وتعمق الإيمان بالمعارف اللامتناهية، كلما تحسن التقدم الاجتماعي والأخلاقي، ويعود الفضل بذلك إلى اكتشافات العلم الحديث. وكما قال يورغين هابرماز: مهد فلاسفة التنوير الطريق لمشروع الحداثة في القرن الثامن عشر، من خلال سعيهم لتطوير علوم موضوعية، وأخلاق وقوانين كونية، وفن شامل سيد نفسه، ويتناسب مع المنطق الإنساني. وفي الوقت نفسه تعمد هذا المشروع إطلاق الإمكانيات المعرفية حتى تتحرر من صيغها المتعارضة والضيقة. وقد عمل فلاسفة التنوير على توظيف التخصص والتراكم في الثقافة لإغناء تجارب حياتنا اليومية، أو بتعبير آخر لتنظيم حياتنا اليومية تنظيما عقلانيا1. وعليه أسس التنوير لمناخ ثقافي في أوروبا أدى بالنتيجة للتطورات التي شهدها القرن الثامن عشر. وكان ذلك جزءا من حراك أوسع جرى تحت مظلة إمبراطورية تمثل أعلى درجات الطموح والاحتمالات. ونجم عن التنوير وتوسع أوروبا مناخ نقدي وجدلي جديدان عم القارة الأوروبية والمستعمرات على حد سواء. حتى تحولت إنكلترا بعد ثورتها الناجحة عام 1688 إلى أهم بلد ليبرالي تحرري. ثم أدى عقد الاجتماعات في المقاهي والنوادي وازدهار الصحافة إلى تعميق الوظيفة الاجتماعية للثقافة.
ولكن في نفس الوقت ظهر مفهوم جون لوك والذي يرى أن النفس <الذات> هي لوح أبيض tabula rasa وأنه لا وجود لأفكار قبلية، وأن كل المعارف نابعة من التجربة. ولكنه تأثر بالعقلانية الديكارتية، والتي تؤمن أن مفاهيم الله والعقل والجسد موضوعات موروثة. وتم تقسيم إمبريقية لوك إلى خبرات تنبع من "مصدرين": الإحساس الخارجي والانعكاسات الداخلية.
لم تكن مثاليات التنوير وقيمه ببساطة طريقة في التفكير فقط، ولكنها إيمان بإمكانية تبدل المجتمع لفرض المزيد من إحساس الكائن بالــ "تنوير"، وأهميته في تشكيل الذات والمجتمع، وهو ما سهل ولادة ظروف وجودية لا بد منها للتوصل إلى حرية التفكير والاعتقاد. وبرأي لوك يتوجب على الأفكار أن تكون مكتفية بذاتها ومتحررة من القرارات العاطفية النابعة من الداخل أو التي يفرضها ضغط المؤسسة من الخارج - وحينها فقط يمكن القول إنها نقدية ومستنيرة فعلا. والمستنير هو الذي يثق بالطبيعة الكونية للإنسان، ويتحكم بالتاريخ وعناصر الطبيعة ويدركها. وفي عصر التنوير كانت أفكار لوك هي أفكار أنتلجنسيا عصره. وأصبح فن الرواية صيغة التعبير المفضلة عند الأفراد لاكتشاف طريقهم في العالم. كما أن الاكتشافات الجديدة ترافقت مع الفتوحات - ولذلك توجب علينا أن ننظر إلى التقاليد الأدبية بالضرورة في ضوء الواقع السائل، وأن نفهم أن أخلاق الأفراد هي عمليا نتاج انخراطهم في تيار الأحداث. فأبطال القرن الثامن عشر قاموا برحلات بيكاريسك طويلة واجهوا فيها مشكلات أخلاقية وفلسفية 2. ومن بين الفائزين بالبوكر، نلاحظ أن رواية "جي"، و"طقوس العبور"، و"الجوع المقدس"، تنتمي لاتجاهات التنوير الخاصة بالقرن العشرين. وهو اتجاه تطور بفضل الحداثيين، ولكنه قلل فعليا من أثر التنوير الذي خيم على الحقيقة المتعالية والتطور الاجتماعي والموضوعية. فقد تابعت رواية "جي" لجون بيرغر، عصر التنوير والرومنسية في أوروبا، ووظفت في سبيل ذلك أبطالها العابثين جنسيا، بالإضافة إلى مونتاج ما بعد الحداثة، وبفضل هذا الأسلوب السردي فسرت الافتراضات الفلسفية الأساسية التي بنت عليها فكرها الديمقراطي ورؤيتها للبنية الاجتماعية المستقرة التي تميز فكرة التنوير.
وبالمثل قامت رواية "طقوس العبور" لغولدنغ ببناء حوار بين مفهوم أواخر القرن العشرين عن التنوير وبين الاتجاه المعاصر لما بعد البنيوية وما بعد الحداثة. ولكن قاطع وأنكر تعبير السرد عن الحقيقة والمطلق الذي وراءها تبدل الأحداث وتعقيد اللغة المستعملة في هذا التعبير. وبالمقارنة اهتمت "طريق الأشباح" لبات باركر و"سفينة شيندلر" لتوماس كينيلي بموضوعات تخص توسعات أوروبا وتعقيدات الهوية التي تأزمت في القارة بعد تأرجح الإمبراطورية بين الحرب العالمية الأولى والثانية. لم تكن رواية "جي" لجون بيرغر، من عدة وجوه، عادية بمقاييس جائزة البوكر. فهي رواية كتبها ماركسي بعد حداثي، واهتم فيها بمغامرات جنسية لابن غير شرعي منسوب إلى وريثة أنغلو أمريكية وتاجر إيطالي. وتذكرنا مغامراته الدون جوانية بالفوضى السياسية والاجتماعية التي عصفت بمنعطف القرن التاسع عشر. لا شك أن "جي" لفتت اهتمام الماركسيين لأنها تكلمت عن فشل المجتمع والخلل في توظيف كل طاقاته بسبب بنيته غير العادلة. كما أنها سجلت وثيقة ساخرة عن تبدل مناخ الرأي العام بعد الثورة الجنسية في الستينات <وكانت بين مد وجزر>، وبعد فشل الرأسمالية على نطاق دولي وعجزها عن تحقيق أهدافها الاجتماعية، وإنجاز وعدها بالتحرر، والآثار التي تركتها على الاقتصاد. وقد قاطع تواصل السرد في "جي" معزوفات بين الفصول القصيرة، والخطوط المرسومة عمدا. حتى اقتربت من أدبيات ما بعد الحداثة. ومن أهم صفاتها الانقطاعات والمعاني التي تخرج من الشعور الباطن إلى السطح. وتوجد سخرية واضحة في "جي"، فالبطل جي يحاول أن يتجنب التاريخ في كل منعطفاته، كي يتجنب أيضا عواقبه الاجتماعية، وليتحاشى السياسية التي توسعت حتى ابتلعت كل من حوله. ولكنه يلفت بسلوكه السلبي انتباه الشرطة السرية له. فهو غير موثوق من قبل كل الأحزاب، ويتم التخلي عنه ويعتبر أنه مصدر للخطر. الرواية بعد حداثية بأسلوبها وموضوعها، ولكنها توظف النقد الماركسي الموجه لحركة التنوير، ولحركة المجتمع، ولصيغ المطلق والثوابت، والتي تأخذ مكان التحول المنشود وتحرير الذات. وبإشارة إلى عمل الأنثروبولوجي أرنولد فان جينيب تنسج "طقوس العبور" لوليام غولدنغ سردية تتبنى أسلوب التراسل والمفكرات خلال مغامرة بحرية يقوم بها شاب "يعبر" نحو مرحلة الرجولة وباتجاه حياة جديدة في أستراليا على متن "طوف خشبي" بريطاني، هو سفينة بريتانيا، وذلك في نهاية عصر التنوير وبداية ما بعد الحداثة. رواية غولدنغ رواية تحولات: ينتقل بطلها تالبوت من مرحلة الصبا إلى الشباب وفي هذه الأثناء تتشكل أخلاقياته. وتمر السفينة من عالم بريطانيا القديمة إلى عالم أستراليا الجديدة. ويتابع غولدنغ في رحلته موضوعات عن القيم الطبقية، وسوء التصرف الجنسي، وارتباك التاريخ وعدم انتظامه. وتمثل السفينة الإمبراطورية وانتقالها إلى عالم جديد، وتعبر عنه رمزيا بعبور تالبوت نحو مرحلة البلوغ والشباب. وببناء خطاباتها البديلة، تعلن هذه الرواية بعد الحداثية، وهي استعادة لرواية البيكاريسك التنويرية، أنه لا يوجد مكان خارج الثقافة، أو على نحو أدق، لا يوجد فضاء نلجأ إليه وراء ثقافة خطاب الرواية. فهو المجال الوحيد الذي نكسب منه ثقافتنا وندركها. وكأن رواية غولدنغ أدركت، مثل جون بيرغر في "جي"، أنه ليس من الممكن استعمال لغة لتتحرر بها من لغة. وأنه لا يوجد مواضع مفضلة، ولا احتمال للتعالي المطلق، وليس هناك مكان لمفهوم لا يتورط مع ما يحاول أن ينقضه. وتصبح القطيعة عند كل من شخصيات وقراء "طقوس العبور" الوسيلة الوحيدة لاختبار الواقع: فالتشظي، السخرية، السياسات المصغرة، ألعاب اللغة هي السائدة، أما الموضوع الساكن فيفككه 'التطويف" أو استعادة التاريخ الماضي. وفي "الجوع المقدس" لباري أونسوورث، مثل "طقوس العبور" لغولدنغ، مغامرة بحرية تتابع التوسع المبكر للإمبراطورية والذي شمل المثلث التجاري أو بوابة بريطانيا، وأطرافه إفريقيا والكاريبي والعالم الجديد بشكل عام. تجمع "الجوع المقدس" بين ابني عم، هما باريس وكيمب، وتستفيد من التناقض بينهما لإضفاء طابع درامي على الحكاية: أحدهما مرتزق، والآخر مثالي. أحدهما يرمز لقيم التنوير، والآخر رومنسي. وتتابع الرواية التناقض بين التنوير الذي يدعم التطور والتحرر من جهة، وبين الاتجاهات المادية وغير المؤمنة من جهة مقابلة. وتلخص الرواية خلفياتها بمقدمة تبرر وجود "زنجي الجنة" أو "المولاتو"، وهو هجين لكنه يتقن الشعر الإنكليزي. أما الحبكة فهي بالأساس عن العصيان، ويتردد فيها صدى ومفهوم "الفدية" - وتستغل وجود هذا الأفاق على حدود الإمبراطورية لتلفت نظرنا إلى دور التنوير في إضاءة التقابل ما بين المواطن المحلي ومجتمع العبودية.
***
..............................
الهوامش:
1- يورغن هابرماز: الحداثة ضد ما بعد الحداثة. في "القارئ بعد الحداثي. تحرير جوزيف ناتولي، وليندا هتشيون. نيويورك. جامعة نيويورك الحكومية. 1993. ص98.
2- دريندا أوترام. التنوير. كامبريدج. منشورات جامعة كامبريدج. 1995. ص1-30.
* من كتاب جائزة البوكر وإرث الإمبراطورية. أمستردام. 2002.

 

من المدهش ان مؤسس النظرية الذرية الفيلسوف اليوناني ليوكيبوس Leucippus (500-440 ق.م) أول منْ صاغ مفهوم الانفجار الكوني الكبير الذي يُعرف الآن بـ Big Bang. ومن بين امور اخرى، هو ذكر "ان كل الأشياء في الكون لامتناهية ويتغير بعضها الى البعض الآخر".
ليوكيبوس رائد نظرية الانفجار العظيم
ان أصل الفكر الكوني يمتد رجوعا الى آلاف السنين، حيث كان الفلاسفة القدماء يتأملون طبيعة الكون، ومن بينهم الفيلسوف ليوكيبوس في القرن الخامس قبل الميلاد. هو اقترح افكارا تحمل تشابها مذهلا مع النماذج الكونية الحديثة وخاصة نظرية الانفجار الكبير. هو تصوّر ان الكون تشكّل بفعل حركة فوضوية وتحطّم للجسيمات الذرية. هذه الفكرة المبكرة تبدو مشابهة للفهم العلمي المعاصر لتطور الكون.
الكون الذري لـ ليوكيبوس
ليوكيبوس والى جانب تلميذه ديموقريطس طوّرا أول نظرية عُرفت بالنظرية الذرية. هو جادل بان الكون يتألف من جسيمات (ذرات) تتحرك في الفراغ. وفي مقطع يُنسب له، وصف ليوكيبوس الكون في انه يحتوي على ذرات وهذه الذرات كانت في البدء في حركة فوضوية، ثم تدريجيا اتّحدت الذرات في تراكيب أكبر بسبب ميولها الطبيعية. الجسيمات الأثقل استقرت وشكّلت الأساس للأجسام الأرضية، بينما الجسيمات الأخف وزناً تحركت نحو الخارج وشكّلت السماوات.
هذا الوصف يتشابه بشكل كبير مع المفهوم الحديث لحالة الكون البدائية primordial cosmic state. في هذه الحالة البدائية، كانت المادة في يوم ما مبعثرة بشكل فوضوي قبل ان تتحد في مجرات ونجوم وكواكب.
لننظر لآن الى النص القديم لـ ليوكيبوس الذي احتفظ به المؤرخ المسيحي يوسابيوس Eusebius (260-340.م) في عمله "الإستعداد الإنجيلي":
"الكون الحالي، في شكله المبعثر، كان قد تشكل بهذه الطريقة: بحركة عشوائية، وبدون قصد تحركت الذرات باستمرار وتجمعت بسرعة في مكان واحد بأعداد كبيرة، وهكذا اكتسبت تنوعا في الأشكال والأحجام. الجسيمات الأثقل والأكبر تجمعت في المركز، بينما الجسيمات الأصغر والأكثر حركة وانزلاقاً تحركت نحو الخارج وتجمعت لتشكل الأجسام السماوية. لكن عندما توقفت القوة الضاربة التي رفعت الجسيمات صعودا، و لم تعد تندفع نحو السماوات، عندئذ مُنعت الجسيمات من النزول اكثر، وضُغطت باتجاه مواقع يمكنها احتوائها. وهكذا، كانت كتلة الاجسام المحيطة متناثرة ومتشابكة، وفي هذا التشابك، وُلدت السماوات. ومن نفس الطبيعة، شكّلت الذرات المتنوعة طبيعة النجوم".
الكون وُلد من تصادم وضغط الذرات
تنطوي رؤية ليوكيبوس على ان الكون المنظم برز من حالة الاضطراب الأولية. هذه الفكرة وجدت أصداءً لها في نظرية الانفجار الكبير. هو يقترح ان الذرات اصطدمت وتراكمت في دوامة دائرية، وبالنهاية شكلت هياكلا كونية متميزة. الفيزياء الحديثة تصف انفجارا اوليا. هذا الانفجار قاد الى تكوين تدريجي للمادة من خلال قوى الجاذبية والتفاعلات بين الجسيمات الأساسية.
هذه الفكرة من التطور الكوني تتماشى مع أعمال الفيزياء الحديثة. بما فيها اعمال الفيزيائي البلجيكي جورج لمنيتر Georges Lemnitre الذي هو اول من افترض نظرية الانفجار العظيم. كذلك العالم البريطاني ستيفن هاوكنك الذي استطلع التقلبات الكوانتمية في الكون المبكر، وايضا، النموذج التضخمي للامريكي ألان جوث Alan Guths inflationary model الذي اعتمد على فكرة الكون الفوضوي المبكر حين تعرّض لتوسّع سريع قبل ان يبرد في مادة مركبة.
رؤية سابقة لعصرها
أفكار ليوكيبوس افتقرت الى الدقة الرياضية والصلاحية التجريبية التي تميّز النظريات العلمية الحديثة. مع ذلك، هو فهم تكوين الكون ببصيرة مذهلة. مفهومه للأصل الفيزيائي العفوي للكون الخالي من التدخل الإلهي، وضع الأرضية للتحقيق العلمي اللاحق. فكرة ان الكون لم يكن ساكنا وانما برز من حالة الفوضى الأولية كانت تمهيدا للاكتشافات في القرون اللاحقة.
رؤية ليوكيبوس، مع انها تأملية، لكنها تُظهر كيف ان الفلسفة اليونانية القديمة غرست البذور الاولى للثورة العلمية اللاحقة. نظريته في الكون المنظم ذاتيا الموجّه بتفاعل الذرات، هي السلف الفكري المبكر لنموذج الانفجار العظيم. هذا يجعل ليوكيبوس واحدا من أبرز المفكرين في مجال علم الكون.
***
حاتم حميد محسن
............................
Feb19, 2025, GreekReporter.com

 

شاع سابقا أن ثالوث التخلف هو الجهل والمرض والفقر، حيث تعاني العديد من دول العالم من حالة غير إنسانية نتيجة صراعات أهلية وماضوية، ولأسباب ارتفاع مستوى عدم تحقق المساواة والعدالة، وسوء إدارة الموارد، ولكن لا يمكن أن نجعل التخلف يعود إلى الجهل والمرض والفقر في حد ذاتها، فهذه الثلاثة مصاديق تدل على التخلف، ونتيجة لهذا التخلف وليست هي سبب التخلف؛ لأن للجهل اقتضاءات أدت إليه، لأسباب صراعية أو احترابية أو إدارية، وكذلك المرض والفقر، ومن خلال تأملي في العديد من المناطق التي تنخفض فيها العدالة غير الإنسانية، وتتمدد فيها حالات انخفاض تحقق مصاديق المساواة والعدالة، أرى أنها لا تتجاوز ثالوث الدين والسياسة والثقافة، وليس الجهل والمرض والفقر.
فأما الدين فعندنا النص وما بعد النص، وكثيرا ما يشكل الإنسان في تأريخه فهومات النص، ومع مرور الزمن يدخلها في الدين، وتأخذ حيزا في تفكيره وعقائده، وتشكل مذاهبه وطرقه، فعندما كان يتعامل مع النص أنه جاء لتحقيق مقاصد الإنسان الكبرى في الوجود، أصبح المدار هو الانتصار للذات أو المصالح السياسية والطائفية والمذهبية، كما أن قيم النص المطلقة والمرتبطة بذاتية الإنسان الواحدة، والأصل أن يرقى العقل الديني في تحقق مقاصدها، نجد أنه يرهن مصاديق القيم للتأريخ والمذهب والظرفي، فيعيش الإنسان في ظل خطاب ديني وفق ظرفية لا علاقة لنا بها، ولكنها لأسباب تأريخية أصبحت من الدين ذاته.
فعندنا نحن - غالب المسلمين – أن النص المقدس توقف عند إكمال الدين ذاته في عهد النبي الأكرم – صلى الله عليه وسلم -، والمتأمل في هذا النص نجد المتعلق بحركة الحياة نسبته قليلة جدا، وغالبه مجملا أو معللا، لترك مساحة واسعة للعقل البشري في التدافع لبناء الإنسان، وتحقيق مقاصد قيمه الواسعة، فمفهوم الدولة والحكامة مثلا لا نجد لها تلك الحرفية في النص الأول؛ لأنها متحركة، وكذلك في التشريعات القانونية، والمعاملات البشرية.
ولما كان الرومان ثم خلفهم المسيحيون يسجلون حولياتهم، ويركزون على الأحداث والصراعات السياسية كالحروب وتعاقب الملوك والحكام، مع ذكر بعض الجوائح والأحداث الكبرى، لكنها لا تلتفت بشكل كبير إلى الجانب الحضاري والثقافي، وتختصر قرون الأمم في هذه الصراعات، والأمر ذاته لما خلفهم المسلمون، ودونوا حولياتهم، حتى فيما يتعلق بالسيرة النبوية، ركزوا على الحروب والمغازي والصراعات السياسية، ويكاد أن هذه الأمم ينعدم لديها أي شكل من الحضارة، وتعدد الثقافة، إلا ما ذكره لاحقا غيرهم كالأدباء والشعراء، ويستلهم من الاجتهادات الفقهية، وبعض معالم الروايات الحديثية.
ثم لا توجد إشكالية في هذا، إذا استطاع العقل الديني أن يمايز بين النص وبين الأحداث السياسية، ولو ارتفعت عنها مصاديق الحضارة والثقافة والتي تعنى بالإنسان بشكل أكبر، الإشكالية عندما تتحول هذه الصراعات السياسية إلى الدين نفسه، ويصبح بدل الالتفات إلى قيم الإنسان لتحقيق كرامته وإنسانية، ندور وفق شخوص التأريخ، كما يحدث اليوم في تجسيد مسلسلات تأريخية آخرها الجدل حول مسلسل معاوية بن أبي سفيان، والذي عادة ما تعرض هذه الأفلام والمسلسلات التأريخية لأجل انتصارات طائفية ومذهبية، يجعل العقل الإسلامي والعربي يعيش تلك الحقبة وفق صراعتها السياسية، لتشغله عن مشاكله الإنسانية الكبرى اليوم، وتحقق رؤية الإنسان في البناء الحضاري، والتعدية الثقافية وفق اللحظة التي نعيشها.
هذا الأمر ذاته في الجدليات الكلامية، والاجتهادات الفقهية، فلها أسبابها التأريخية، وطبيعتها المتحركة وفق الأدوات العقلية، والظروف الزمكانية، وتشكل مذاهب كلامية وفقهية وغنوصية، فهي حالة طبيعية تدل على سعة المتحرك ما بعد النص ذاته، لا أن يتحول هذا المتحرك إلى نص مغلق يعوق حركة نهضة الإنسان، ويجعله يعيش في صراعات كلامية، وخلافات فقهية، تحولت إلى دين متراكم بسبب الاجتهاد البشري، والذي سيكون هذا الدين المتراكم تأريخيا لا نصيا سببا مؤديا إلى صراعات سياسية وأهلية تؤدي بشكل طبيعي إلى الجهل والمرض والفقر، وليس إلى الإحياء والبناء وتحقيق مقاصد القيم الكبرى وفق زمنية ومكانية اللحظة وليس الماضي المنتهي بظروفه الزمكانية.
الدين بهذه الصورة المتراكمة يؤثر في الاجتماع البشري، كما أنه سيؤثر بشكل طبيعي في المتحرك السياسي، فهنا يأتي ثاني الثالوث وهو السياسة، والتي في الأصل أن تتحرر من الماضي لتهذب أدبيات الماضي ليعيش واقعه، وأن تعنى بقيم الإنسان الكبرى لتحقيق مصاديق كرامته وإنسانيته، لنجد اليوم العديد من السياسات تكون سببا كبيرا في تخلف المجتمعات، وقيده إلى طيش الخلافات والصراعات الأهلية، والأصل في السياسة أن تكون خارج صندوق المكونات الدينية والمذهبية والثقافية، منطلقة من ذاتية الإنسان الواحدة والمتساوية لتحقيق العدالة في ضوء المحافظة على المواطنة الواحدة والمشتركة، بيد أنها تحصر ذاتها في صندوق الطائفية، للحفاظ والتقرب مع هيمنة طائفة ما لها الغلبة لسبب ديمغرافي أو تأريخي أو مادي، فتضيق سعة السياسة لأنها دينت، كما أنها تفسد الدين ذاته، ويحدث التزاوج السلبي بينهما، والذي يساهم بشكل كبير في غياب قيم الإنسان وذاتيته الواحدة، وجره إلى مصاديق مؤدية إلى الجهل والمرض والفقر.
هذا الأمر ذاته ينطبق على الثقافة، وهي في الأصل واسعة ومستقلة في الوقت ذاته، وغايتها الإنسان، فهي راصدة وناقدة للدين التأريخي والسياسات المستندة إليه، والخطاب المترتب عليهما يعتبر ضمنيا خطابا ثقافيا، بيد أنه إجرائيا إذا استقل الخطاب الثقافي يتهذب هذان الخطابان؛ لأن الخطاب الثقافي دائرته أوسع، وينطلق من قاعدة مستقلة، فإذا كان المثقف مصالحيا لا ينطلق من غاية الإنسان، ودوره المستقل في تحقق قيم الإنسان، متجاوزا الماضي إلى الحاضر، والأنا إلى الذات الإنسانية، هذا المثقف إذا لم يحافظ على هذا الخط الرأسي، لن يكون بينه وبين من يحيي صراعات ماضوية، أو يريد أن يحافظ على وجوده ومنافعه وشهرته باسم الطائفة أو المذهب أو الدين أو المجتمع؛ لن يكون بينهما فارقا إلا في الأدوات المستخدمة، ويكون أيضا أداة للسياسة السلبية القائمة على تكريس التخلف، ثم تكون الثقافة هنا ثالوث التخلف المؤدي إلى الجهل والمرض والفقر تماما.
***
بدر العبري – كاتب وباحث عُماني

 

بين التشويه والاستيعاب القسري

في عمق البنية الثقافية العربية، حيث تتشابك أنساق السلطة مع ميراث طويل من الأبويّة، تتجلى المؤسسة النسوية كإشكالية معقدة، لا باعتبارها صيرورة تحررية فحسب، بل بوصفها موضعًا للصراع بين خطابين متنافرين: خطاب الهيمنة الذكورية، الذي يسعى إلى نفيها أو استيعابها المشروط، وخطاب التحرر النسوي، الذي يواجه وطأة الإقصاء والتشويه.
هذه الثنائية ليست مجرد تجلٍّ عابر لسلطة تستميت في الدفاع عن مركزيتها، بل هي جزء من منظومة أوسع من الاستلاب الثقافي، الذي يحوّل النسوية إلى سردية مضادة، لا بوصفها نقدًا لبُنى التسلط، بل كتهديد يتطلب التفكيك أو الاحتواء.
ما إن تطرح النسوية إشكالاتها داخل الفضاء العربي، حتى تُواجَه بآليات دفاعية تتراوح بين العداء العلني والاستيعاب المُفرغ من المضمون. هنا، تستدعي السلطة الذكورية أدواتها التقليدية: التشويه الأخلاقي، التنميط، والتأطير داخل سرديات جاهزة تُجرّد الخطاب النسوي من جذريته.
إنها عملية تقويض ممنهج، حيث لا يُسمح للخطاب النسوي أن يوجد إلا بوصفه خطابًا مشوّهًا أو مُحتوًى داخل الأطر المسموح بها. وهذا ما يجعل من النسوية، في المخيلة الذكورية العربية، كيانًا خاضعًا للرقابة الدائمة، حيث لا يُسمح لها بأن تتجاوز الحدود المرسومة لها مسبقًا.
في هذا السياق، يُعاد تعريف النسوية داخل النسق الأبوي، بحيث تصبح مقبولة فقط إذا لم تصطدم بالبنى التقليدية، بل عملت ضمن منظومة القيم نفسها، كإصلاحٍ داخلي، لا كتحرر جذري.
وهذه الاستراتيجية ليست مجرد فعلٍ واعٍ من السلطة، بل هي جزء من العنف الرمزي، الذي تحدث عنه بيير بورديو، حيث تُمارَس السيطرة ليس عبر القمع المباشر فقط، بل من خلال تطبيع أنماط التفكير التي تجعل من الهيمنة أمرًا بديهيًا وغير قابل للنقاش.
إن هذا العنف الرمزي هو الأخطر، لأنه يعمل بلا وعي مباشر، مما يسمح للسلطة الذكورية بإعادة إنتاج ذاتها بأشكال أكثر خفاءً، حتى في اللحظات التي يبدو فيها أن النسوية تحقق تقدمًا.
تعتمد المنظومة الذكورية، في تعاملها مع النسوية، على استراتيجيتين متوازيتين:
الأولى: الإقصاء والتشويه، حيث يتم تصوير النسويات بوصفهن كيانات متطرفة، مشوّهة، ومستوردة من “الآخر الغربي”، في تكرار لنمط الاستشراق، حيث يتم إسقاط صورة دخيلة تتناقض مع “أصالة” الثقافة المحلية.
أما الاستراتيجية الثانية، فهي الاستيعاب الناعم، حيث يُعاد تقديم النسوية عبر قوالب مقبولة: المرأة بوصفها جزءًا من “الأسرة”، أو النسوية بوصفها “حقوقًا” لا تمسّ عمق البنية السلطوية، بل تتعايش معها.
وبهذا الشكل، تتحول المطالب النسوية إلى مطالب شكلية، خاضعة لشروط النظام، الذي يفترض أنه يُحدث تغييرًا، بينما هو في الحقيقة يعيد إنتاج نفسه بشكل أكثر مرونة.
إن فداحة الصدام بين النسوية والمنظومة الذكورية لا تكمن فقط في رفض الاعتراف بحقوق النساء، بل في تحويل النسوية ذاتها إلى خطاب هش، مُراقب، مشروط.
فحتى حين يتم السماح بظهور أصوات نسوية، فإنها تُنتقى بعناية، بحيث تتناسب مع ثقل المؤسسة الذكورية، فلا تخلخل استقرارها.
إن ما يحدث هنا هو إنتاج “تعددية زائفة”، حيث يُسمح ببعض التنوع، لكن ضمن حدود لا يمكن تجاوزها. وهكذا، تبدو النسوية وكأنها تحظى بقبول تدريجي، لكنها في الواقع لا تزال خاضعة لمنطق السيطرة، الذي يفرض عليها أن تكون “مقبولة” حتى يُسمح لها بالوجود.
في هذا السياق، تتجلّى النسوية لا كحركة تحرر فحسب، بل كموقع للصراع الدائم، حيث يتم التعامل معها بوصفها كيانًا “زائدًا عن الحاجة”، أو، على الأقل، مشروعًا يمكن تأجيله حتى تحلّ “المشكلات الأكثر أهمية”.
هذا الخطاب الموارب يعكس آلية التأجيل المستمر، حيث يتم ترحيل أي تغيير حقيقي إلى ما لا نهاية، تحت ذرائع الاستقرار والخصوصية الثقافية.
وهكذا، تبقى النسوية أسيرة لحالة من التعليق المستمر: لا هي مُعترف بها بالكامل، ولا هي قادرة على تحقيق قطيعة فعلية مع البنية الأبوية.
إن الخروج من هذه الحلقة المُفرغة يتطلب تفكيكًا جذريًا للسرديات التي تكرّس السلطة الذكورية، لا عبر إعادة إنتاج مطالب إصلاحية داخل النظام، بل عبر زعزعة أسس النظام ذاته.
وكما أشار جاك دريدا، فإن النقد الجذري لا يكتفي بتحليل النص، بل يجب أن يذهب إلى البنية التي تنتجه، ويفكك المسلّمات التي تجعل من الهيمنة واقعًا غير مرئي.
وهنا، لا بد من الإشارة إلى أن النسوية، في جوهرها، ليست مجرد مشروع لتحرير النساء، بل هي ممارسة فلسفية تهدف إلى تفكيك الأنظمة السلطوية بأكملها، باعتبار أن قمع النساء ليس منفصلًا عن قمع الفئات الأخرى.
في النهاية، تظل معركة النسوية داخل الفضاء العربي مشدودة بين خطابين:
خطاب الهيمنة، الذي يسعى إلى احتوائها، وخطاب التحرر، الذي يواجه الإقصاء والاستلاب. إن المهمة اليوم ليست في المطالبة بمكان داخل النظام، بل في إعادة التفكير في إمكانية نظام مختلف، نظام لا يقوم على الامتيازات الذكورية، بل على عدالة جذرية تتجاوز الثنائية التقليدية للسلطة والخضوع.
وكما يقول ميشيل فوكو: “حيث توجد السلطة، يوجد من يقاومها”، والنسوية ليست سوى أحد أكثر أشكال هذه المقاومة إصرارًا، لأنها لا تسعى فقط إلى مواجهة التراتبية، بل إلى كشف زيفها من الأساس.
السؤال ليس: هل ستنتصر النسوية أم لا؟ بل: كيف يمكنها أن تواصل هدم السرديات التي تكرّس هشاشتها المصطنعة، لتصبح ليس مجرد خطاب مقاومة، بل مشروعًا لتحرير المجتمع بأسره من فداحة الهيمنة؟
***
إبراهيم برسي

دراسة تحليلية في المجتمعات العربية

المقدمة: تلعب البيئة الثقافية دورًا جوهريًا في صياغة الوعي الجمعي للمجتمعات، حيث تتداخل العوامل الثقافية، الاجتماعية، الدينية، والتعليمية في بناء منظومة فكرية مشتركة تحدد طريقة إدراك الأفراد للعالم من حولهم. في المجتمعات العربية، يبرز هذا التأثير بوضوح من خلال التقاليد المتوارثة، والبنية القيمية، والتأثير الإعلامي، مما ينعكس على أنماط التفكير والسلوك الاجتماعي والسياسي. تهدف هذه الدراسة إلى تحليل العوامل التي تسهم في تشكيل الوعي الجمعي العربي، واستكشاف الآليات التي تعزز أو تعيق تطوره في ظل المتغيرات الحديثة.
أولًا: مفهوم الوعي الجمعي والبيئة الثقافية
يشير الوعي الجمعي إلى مجموعة الأفكار والمعتقدات والمفاهيم التي يتبناها أفراد المجتمع بشكل مشترك، والتي تشكل تصوراتهم تجاه القضايا الاجتماعية والسياسية والثقافية. وقد صاغ عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم هذا المصطلح للإشارة إلى الدور الذي تلعبه الثقافة في توحيد المجتمعات وضبط سلوك الأفراد. في السياق العربي، تتسم البيئة الثقافية بتداخل العوامل الدينية والتاريخية والسياسية، مما يجعل الوعي الجمعي عرضة للتحولات تبعًا للمؤثرات المتجددة.
ثانيًا: دور العوامل الثقافية في تشكيل الوعي الجمعي العربي
1. الدين والبنية القيمية:
يعد الدين عنصرًا مركزيًا في تشكيل الوعي الجمعي العربي، إذ يؤثر في الأخلاق العامة، والسلوكيات الفردية، والتصورات الجماعية تجاه مفاهيم مثل العدالة، والهوية، والسلطة. ومع ذلك، تختلف مستويات تأثير الدين بين المجتمعات تبعًا لمدى تداخله مع الدولة والسياسات الرسمية.
2. التعليم والمناهج الدراسية:
يلعب التعليم دورًا رئيسيًا في تشكيل الوعي الجمعي، حيث تعمل المناهج الدراسية على نقل القيم والمعرفة للأجيال الجديدة. غير أن العديد من الأنظمة التعليمية العربية تعاني من الجمود، مما يؤدي إلى تكريس أنماط تفكير تقليدية بدلًا من تعزيز النقد والتحليل المستقل.
3. وسائل الإعلام وتأثيرها المتباين:
أحدثت وسائل الإعلام التقليدية والرقمية تحولًا كبيرًا في تشكيل الوعي الجمعي العربي، إذ باتت تؤدي دورًا مزدوجًا بين نقل المعرفة وترسيخ الأيديولوجيات المختلفة. في ظل العولمة الرقمية، أصبح الإعلام أداة يمكن توظيفها لتعزيز الانفتاح الفكري، أو على العكس، لترسيخ التصورات النمطية والتلاعب بالرأي العام.
ثالثًا: تحديات تطور الوعي الجمعي في المجتمعات العربية
1. الإرث الاستعماري وتأثيره على العقل الجمعي:
شهدت المجتمعات العربية مراحل استعمارية تركت بصماتها على الهوية الثقافية والوعي الجمعي، حيث خلقت ثنائية بين الأصالة والمعاصرة، وأنتجت حالة من الارتباك في التوجهات الفكرية.
2. السلطوية الفكرية وقمع النقد:
في بعض الدول العربية، يُنظر إلى النقد الفكري على أنه تهديد للاستقرار، مما أدى إلى تقييد الحريات الفكرية والإبداعية، وتعزيز ثقافة الامتثال بدلًا من التفكير النقدي.
3. الحداثة والتقليدية: صراع الأجيال:
يواجه الوعي الجمعي في المجتمعات العربية تحديًا مزدوجًا يتمثل في التوفيق بين التقاليد المتوارثة ومتطلبات الحداثة، مما أدى إلى بروز فجوات فكرية بين الأجيال المختلفة.
رابعًا: استراتيجيات تطوير الوعي الجمعي في العالم العربي
1. إصلاح النظام التعليمي:
ينبغي إعادة النظر في المناهج الدراسية لتشجيع التفكير النقدي، وتعزيز قيم الإبداع والبحث العلمي، بدلًا من التلقين الذي يعزز العقلية النمطية.
2. تعزيز الإعلام المستقل والموضوعي:
دعم الصحافة الحرة ومنصات التواصل الاجتماعي التي تقدم محتوى نقديًا وتحليليًا يساهم في تعزيز وعي جمعي قائم على الحقائق بدلًا من التوجيه الأيديولوجي.
3. تشجيع الحوار الفكري والتعددية الثقافية:
الانفتاح على التيارات الفكرية المختلفة يساهم في بناء وعي أكثر شمولية، ويساعد على تجاوز الانقسامات العقائدية والسياسية التي تعيق تطور المجتمعات.
الخاتمة
يمثل الوعي الجمعي حجر الأساس في بناء المجتمعات وتوجيه مساراتها المستقبلية، وهو نتاج البيئة الثقافية التي تتشكل من خلال التفاعل بين الدين، والتعليم، والإعلام، والعوامل التاريخية. في العالم العربي، يواجه الوعي الجمعي تحديات متجددة تتطلب إعادة التفكير في آليات تكوينه، لضمان خلق بيئة فكرية قادرة على مواجهة التغيرات العالمية دون فقدان الهوية الثقافية. إن تحقيق هذا التوازن يتطلب إرادة سياسية، وإصلاحات مؤسسية، وتطورًا في الخطاب الثقافي، ليكون الوعي الجمعي أداة للنهوض بدلًا من أن يكون عائقًا أمام التقدم.
***
سجاد مصطفى حمود

(مقالات حول مفاهيم) الوجود القرآني

لم يكن دافع هذه المقالات وجودها في شهر رمضان الكريم فحسب. بل هي تمتد الى سنوات عديدة مضت كتبت خلالها. مجموعة افكار منها (الاحاسيس في القران الكريم. المستقبل في القران. هوامش السرد الفكري في القران. بين منطق ارسطو ومنطق العالم الاخر. المنهج في القران. مفهوم الشيء في القران. الحداثة القرانية المطلقة. الحضارة الشيطانية. الموجات الحضارية السالبة. وافكار اخرى اعتز بها.
وعند الحديث عن الذاكرة والشيطان فلانهما مفهومان قرآنيان ارتبطا بالفكر والمعرفة والنفس والاجتماع والميتافيزيقا على حد سواء.
وما من شك ان النسيان وهو الالية التي تنزلق من نافذة غرفة الذاكرة. يمثل احد اهم اعداء التوحيد. والذي يمكن اعتباره (التوحيد) نوع من انواع المعرفة لانه يرتبط بالاستدلال والتعقل. لاكتشاف وجود اخر. تذكره النصوص الدينية.
ولو استعنا باراء فلاسفة الاسلام. سوف نرى بان الفارابي يستعرض عملية المعرفة من خلال الحواس ظاهرة وهي الخمسة ثم الحواس الباطنة وتتألف الحواس الباطنة من الحس المشترك والخيال أو المخيلة والذاكرة والوهم. وهي قوة عديدة تكون في النفس.
‏و تساعدنا الذاكرة باستدعاء الصور او المواقف التي يجمعها الإنسان من الطبيعة للاستفادة منها.
‏وما حدث من خلال تاريخ البشرية نفهم بأن النسيان وهو عطب يصيب الذاكرة، لعدد من الاسباب منها الداخلي والخارجي. فالخارجي هو عملية تغيير الوقائع من خلال البث او الالهاء. او مشاكل اقتصادية. واجتماعية او عمال الوسوسة الشيطانية وهي ترتبط بالوجود الانساني اما العامل الداخلي. فلربما ارتبط بالضعف العقلي او ضعف البدن. او المشاكل النفسية او ضغط العمل او الوراثة والنسيان هو الصورة المقلقة الاشد ضررا للإنسان وتاريخ الإنسانية.
ان منهجية الشيطان هو ان يُنسي الإنسان العديد من التفاصيل المهمة او الاستراتجية في حياته. فالشيطان يسعى إلى جعل الإنسان ينسى ذكر الله والتزام أوامره. وهذا ما يرد في النص القراني (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ (سورة المجادلة: 19). حتى ان اول لحظات شروع البشرية وآلامها. ارتبط بالنسيان (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾ (سورة طه: 115). هنا يُشير القرآن إلى أن آدم عليه السلام نسي العهد بسبب وسوسة الشيطان. وفي نص قراني اخر (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ (سورة الأنعام: 68). او قوله تعالى (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ﴾ (سورة المجادلة: 19) وفي سورة يوسف قال تعالى (فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ﴾ (سورة يوسف).
ولا ريب ان مرجعية هذا النسيان تكمن في جانب اداري في وجود الانسان فهو يبتعد عن تفاصيل الله ومنهجه. ليعمل (اداريا) بمنهجية اخرى للسهولة او للمنافع العاجلة او للراحة النفسية او للذة وقد وصف القران الكريم. كل تلك العملية بقوله تعالى (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾ (سورة الزخرف: 36)، وهذه مسالة اشبه بالادارية. فترك الخروج الى الشمس والانكماش بغرفة معتمة سيقود كل الانسجة والاعضاء الى التعود على الظلام. والادمان عليه.
ولا يمكن الاستهانة بالقدرة الكبيرة للشيطان على انتاج الشذوذ مع ان كيده يوصف بالضعف. فهو يدير العوالم المتعددة. ولسنوات عديدة. ويعتمد الية اشبه بالتنويم المغناطيسي بمعادلة (قادت الى تبني الغضب او تقديم الالهاء او الشهوة او الرغبة والذي ينسجم مع رغبة الاخر بشكل كبير. والى قراءة لقوة ومقياس وحجم الرفض لدى الاخرين. وفهم التحدي والاستجابة. ولذلك فقد نجح باغواء العديد من الناس وفق ضعف الذاكرة. لكنه فشل مع الانبياء سيما ابراهيم واسماعيل ومريم وايوب وعيسى ومحمد عليهم صلوات الله وسلامه.
ان الآيات القرآنية توضح أن الشيطان يعمل على إغواء الإنسان من خلال الوسوسة واستغلال أفكاره وذكرياته. الذاكرة هنا ليست مذكورة بشكل صريح، لكنها تظهر ضمن السياقات التي تتحدث عن الوسوسة، والتوبة، والشهوات، والغفلة. يمكن تفسير هذه الآيات على أنها تحذر من كيفية استغلال الشيطان للذاكرة الإنسانية لإبعاد الإنسان عن طريق الحق. ان الآيات التي تشير إلى علاقة الذاكرة بالشيطان تشمل آيات الوسوسة (سورة الناس، سورة طه)، التوبة (سورة آل عمران)، الغفلة (سورة الأعراف)، واستغلال الشهوات (سورة يوسف).
ومن دون شك فان الشيطان يستغل غفلة الإنسان وضعف ذاكرته الروحية كما تصورها سورة الأعراف (7: 201) بقوله تعالى (الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ"
ومن اجمل المكاشفات هي تلك الحوارية التي تكشفها سورة إبراهيم (14: 22). بتنصل الشيطان من التزاماته. فالشيطان يذكر الناس بما فعلوه بناءً على وسوسته، مما يعكس فكرة أنه كان يستغل ذكرياتهم وأفكارهم لإغوائهم.
وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ۖ مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ۗ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
‏ولان القرآن هو المادة المقررة او المنهج الذي رسم للمسلمين. سيكون من الطبيعي أن يسلط الشيطان أدوات على تبديد أو حرف ذلك المنهج كما فعل في الكتب السابقة. الا إن ذلك الكتاب الحيوي و الجوهري في تاريخ الإنسانية موسوم بالحفظ كما في قوله تعالى: “إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون” (الحجر: 9).
واظن بأن من أهم جوانب الوعي. واتضاح الذاكرة. هو تلك الصورة المحزنة والمخيفة. وذلك الكشف الذي سيكون عند نهاية البشرية والرحيل إلى العالم الآخر. والقيام بعرض الذاكرة المخفية لافعال الإنسان ووصف مشاهد التذكر في الآخرة، ويعبر القران عن ذلك المشهد بقوله تعالى (وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين، هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون” (الصافات: 20-21).
***
ا. د. رحيم محمد الساعدي

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم