قضايا

قضايا

ظاهرة الإستسقاط* تتكرر بشكل خاص في السرديات التاريخية، توفر السرديات الإستسقاطية وسيلة للتعبير عن المشاعر والأفكار الداخلية، مما يسهل عملية الفهم الذاتي ،كما يساعد استخدام هذه السرديات في تحليل التجارب الشخصية وفهم كيف تؤثر على السلوكيات والقرارات كذلك تسهم في تشكيل الهوية الشخصية، حيث يمكن للأفراد استخدام قصصهم لتوضيح من هم وما يرغبون في أن يكونوا، تتيح السرديات الإستسقاطية للأفراد التواصل مع الآخرين ، مما يعزز الروابط الاجتماعية حيث يسعى الناس لفهم الأحداث المعقدة من خلال إيجاد روابط غير منطقية بين السبب والنتيجة، تعتبر الحضارة السومرية من أقدم الحضارات المعروفة، وقد تركت وراءها العديد من السرديات والأساطير، في اغلب هذه السرديات، نجد أنهم قد ربطوا بين مختلف الظواهر الطبيعية، مثل الفيضانات، الزراعة، والآلهة، بشكل يبدو غير منطقي واستمرت هذه الظاهرة في أكثر السرديات التاريخية التي اعقبتها مما جعلها تستمر في التأثير الى الوقت الحاضر. كان السومريون يعتقدون أن الآلهة تتحكم في الظواهر الطبيعية، مثل الفيضانات والمواسم، مما أدى إلى ربط الأحداث الطبيعية بقرارات الآلهة في أساطيرهم ،كما نجد تفسيرات عملية الخلق لا ترتبط بالأحداث الكونية بل بفعل حاجة الالهة الى العبادة والتقدمات، مما يعكس رغبتهم في فهم وجودهم من خلال سياقات دينية وروحية امتد تأثيرها الى سرديات الاديان ، ان دراسة ظاهرة الإستسقاط تساعد في فهم كيف يمكن للأفكار والأساطير أن تتشكل وتؤثر على المجتمعات، كما تعكس كيفية تعامل البشر مع عدم اليقين من خلال البحث في الأنماط والمعاني المتعارضة، حتى في غياب الأدلة المنطقية ،الإستسقاط هو في حقيقته ظاهرة نفسية، وهو جزء مهم من معرفة كيفية بناء السرديات التاريخية من ناحية ابداعية، ان فهم هذه الظاهرة يساعدنا في فهم السياقات الثقافية والدينية التي شكلت الحضارات القديمة.

الإستسقاط والتفكير الاستنتاجي

التفكير الاستنتاجي هو عملية منطقية تستند إلى أدلة وفرضيات، حيث يتم الوصول إلى نتائج من خلال تحليل المعلومات المتاحة ،الإستسقاط يعتمد على الرغبة في إيجاد معنى أو نمط في المعلومات، حتى في حالة عدم وجود علاقة حقيقية بين العناصر، التفكير الاستنتاجي يعتمد على بيانات واضحة ومنطقية، حيث يتبع خطوات محددة للوصول إلى نتائج صحيحة يمكن أن تؤدي إلى قرارات أو معتقدات صحيحة، اما الإستسقاط يستند إلى روابط ضعيفة أو غير موجودة  والتي تظهر غالبًا في السرديات التاريخية و الأساطير، نتيجة حالات القلق والشك، حيث يسعى الأفراد للبحث عن معنى بينما يحاول استخدام الإستسقاط لإيجاد روابط غير منطقية في عالم معقد وغير مؤكد.

التحيزات المعرفية والإستسقاط

التحيز هو الميل إلى البحث عن المعلومات التي تؤكد المعتقدات السابقة، وتجاهل المعلومات التي تتعارض معها، يمكن أن يؤدي إلى ربط الظواهر غير المرتبطة من خلال الاعتماد على المعلومات المتاحة بسهولة، مما يؤدي إلى استنتاجات غير دقيقة وبناءً تجارب على أحداث عابرة ،الميل إلى افتراض أن هناك علاقة سببية بين حدثين لمجرد حدوثهما معًا، دون دليل على وجود علاقة فعلية والاعتقاد بأن الأمور ستسير بشكل جيد، يمكن أن يؤدي إلى تجاهل المخاطر أو الأحداث السلبية ،لكن بفضل القصص أو السرديات تجعل الأحداث تبدو مترابطة، حتى وإن كانت هذه الروابط غير منطقية دون الوعي بهذه التحيزات يمكن أن يساعد الأفراد في اتخاذ قرارات باستخدام العواطف القوية كما يساعد في جذب انتباه الجمهور وإحداث تأثير عميق.

الإستسقاط والتفكير السحري

التفكير السحري هو اعتقاد بأن الأفكار أو المشاعر يمكن أن تؤثر على الأحداث الواقعية، حتى في غياب أي دليل منطقي، كما ينشأ من الحاجة البشرية لإيجاد تأثير في أنماط في بيئة معقدة، مما يؤدي إلى تفسيرات غير مدعومة بالأدلة، التفكير السحري ينشأ من الرغبة في السيطرة على العالم الخارجي أو التأثير فيه، وغالبًا ما يكون مدفوعًا بمشاعر الخوف ، يعكس ميل الأفراد للبحث عن روابط أو تفسيرات في الأحداث، حتى عندما تكون هذه الروابط غير موجودة، التفكير السحري يمكن أن يؤدي إلى الإستسقاط، حيث يربط الأفراد بين أفكارهم أو مشاعرهم وأحداث معينة، مما يجعلهم يستنتجون أن هناك علاقة سببية، في العديد من الثقافات يمكن أن نجد أمثلة على التفكير السحري (الطقوس أو الخرافات) التي تتضمن الإستسقاط، حيث يتم ربط أحداث معينة بممارسات أو تعاويذ معينة دون أي دليل علمي ،الإستسقاط والتفكير السحري مرتبطان بشكل وثيق، حيث يعكسان ميولًا إنسانية لفهم العالم من خلال إيجاد معاني وروابط حتى في غياب الأدلة العقلية .

العقلية النقدية

تشجع العقلية النقدية على تحليل المعلومات بشكل موضوعي، مما يساعد في تحديد الروابط الحقيقية بين الأحداث والأدلة المتاحة، والتأكد من مصداقية المصادر التي تُستخدم لتكوين الآراء أو الاستنتاجات، استخدام أساليب التفكير المنطقي يمكن أن يساعد في تفكيك الروابط غير المنطقية، مما يقلل من احتمالية الوقوع في فخ الإستسقاط ، الاستعداد لتقبل النقد والملاحظات يمكن أن يعزز القدرة على التفكير النقدي وإدراك التحيزات المعرفية التي قد تؤدي إلى الإستسقاط ،التفكير النقدي يسعي بشكل مستمر لاكتساب المعرفة في مجالات متعددة التي تساهم في فهم العالم بشكل أعمق، مما يقلل من الاعتماد على الإستسقاط ،ان فهم الأخطاء جزء من عملية التعلم الذي يمكن أن تحفز الأفراد على تحسين تفكيرهم النقدي، تعتبر العقلية النقدية أداة قوية من خلال تحليل المعلومات وتطبيق التفكير المنطقي وتعزيز الوعي الذاتي.

انتشار السرديات الإستسقاطية

يميل الأفراد إلى البحث عن المعلومات التي تدعم معتقداتهم، مما يسهل انتشار السرديات التي تربط بين ظواهر غير مرتبطة، توفر السرديات الإستسقاطية وسيلة للتعبير عن المشاعر والأفكار الداخلية، مما يسهل عملية الفهم الذاتي، اذ يعتمد الناس على المعلومات المتاحة بسهولة، مما يؤدي إلى تكرار السرديات التي تتضمن روابط ضعيفة، قلة الوعي التاريخي أو الثقافي يمكن أن تعزز من قبول السرديات الإستسقاطية، حيث يسهل على الأفراد تصديق الروابط غير المنطقية عندما تكون الظواهر معقدة في غياب المعرفة العلمية الصحيحة، تلجأ السرديات الإستسقاطية لتبسيط الفهم.

السرديات الإستسقاطية خلل معرفيا

في بعض الأحيان تكون السرديات الإستسقاطية مقصودة كوسيلة لنقل قيم ثقافية أو دينية معينة، حيث يسعى المؤلفون توجيه الرسائل من خلال روابط غير منطقية، يمكن أن تُستخدم هذه السرديات في سياقات سياسية أو اجتماعية لتحفيز مشاعر معينة أو لتأليب الجماعات حول فكرة معينة، اذ تعكس هذه السرديات فهمًا غير دقيق أو محدود للعلم والمنطق، مما يؤدي إلى ربط الظواهر بشكل غير منطقي ،بعض السرديات تنبع من رغبة بشرية في إيجاد معنى أو تفسير في عالم معقد، مما يعكس نقصًا في التفكير النقدي في الكثير من الحالات قد تكون السرديات مزيجًا من كلا الجانبين، حيث قد تكون رسائل مقصودة في بعض السياقات بينما تعكس خللًا معرفيا في حقيقة سياقاتها مما يساعد في فهم تداخل العوامل الثقافية والاقتصادية والسياسية في السياق.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

............................

* الإستسقاط السردي: هو مصطلح يشير إلى الميل البشري لإيجاد أنماط ذات معنى في المعلومات العشوائية أو غير المترابطة، وتطبيقها على القصص والروايات. وبعبارة أخرى، هو محاولة ربط أحداث أو أشياء منفصلة في سرد ما، وإعطائها معنى جديدًا ليس بالضرورة موجودًا في الأصل.

1- سعود سالم - ظاهرة الإستسقاط وعلاقة الفن بالهلوسة - الحوار المتمدن

2-إستسقاط – ويكيبيديا

يلعب الإعلام والإعلاميون دورًا محوريًا في تعزيز العلاقات الدبلوماسية بين الدول ونقل الرسالة الوطنية إلى الشعوب الأخرى، خاصة من خلال البعثات الخارجية للدول. فالإعلام لم يعد مجرد وسيلة لنقل الأخبار والمعلومات، بل تحول إلى أداة استراتيجية تستخدمها الدول للتأثير في الرأي العام العالمي، وبناء صورة ذهنية إيجابية عن سياساتها وثقافتها وتوجهاتها.

في هذا السياق، يصبح الإعلامي الذي يعمل ضمن البعثة الدبلوماسية أكثر من مجرد ناقل للخبر، بل يُعدّ بمثابة سفير ثقافي وفكري. فهو يمتلك القدرة على ترجمة مواقف بلاده بلغة يفهمها الآخر، وتقديمها في سياق يراعي الحساسيات الثقافية والسياسية للجمهور المستهدف. كما يسهم في إبراز ما تتميز به بلاده من تطور وإنجازات حضارية، ويساعد على خلق جسور من الفهم والتقارب مع المجتمعات الأخرى. والإعلام الخارجي الفعال يُعزز من أدوات القوة الناعمة للدولة، ويعمل على دعم مواقفها في المحافل الدولية من خلال تشكيل رأي عام عالمي متفهم ومتعاطف. وهذا الدور لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال إعلاميين محترفين يمتلكون الوعي السياسي والمعرفة الدبلوماسية والقدرة على التواصل بين الثقافات.

علاوة على ذلك، يسهم الإعلامي في البعثة الخارجية في مواجهة الحملات الدعائية المضادة أو الصور النمطية السلبية التي قد تُرسم عن بلاده في الخارج، من خلال تقديم سردية وطنية تعتمد على الحقائق والشفافية واللغة الإنسانية المشتركة، في زمن أصبح فيه الإعلام الرقمي أداة اتصال لا تعرف الحدود، وهنا تزداد أهمية الإعلاميين في المهام الدبلوماسية، حيث يمكن لتغريدة أو مقطع فيديو أن تُحدث تأثيرًا يتجاوز أثر خطاب سياسي تقليدي. ولهذا السبب، تتزايد الحاجة إلى تنسيق وثيق بين المؤسسات الدبلوماسية والإعلامية لضمان إيصال الرسالة الوطنية بفعالية ومهنية تعكس هوية الدولة وقيّمها في آنٍ واحد. إن الإعلامي في البعثة الخارجية ليس فقط عين الدولة وأذنها، بل هو أيضًا صوتها الذي يعبر عنها ويُعرّف بها أمام العالم.

بين السياسة والإعلام والدبلوماسية

ففي عالمنا المعاصر الذي تزداد فيه التحديات وتتشابك فيه المصالح الدولية، لم تعد الدبلوماسية مقتصرة على اللقاءات الرسمية والحوارات المغلقة بين ممثلي الدول، بل أصبحت ساحة مفتوحة تتقاطع فيها السياسة مع الإعلام، حيث تُصاغ المواقف، وتُبنى التحالفات وتُشكّل الانطباعات من خلال الكلمة والصورة والخطاب الإعلامي المدروس. ومن هنا يتعاظم دور الإعلام والإعلامي في تعزيز العلاقات الدولية، لا سيما من خلال البعثات الخارجية التي تمثل الوجه الحضاري للدولة في الخارج.

إنّ الإعلام، بمختلف وسائله التقليدية والحديثة، أصبح أداة رئيسية من أدوات القوة الناعمة، وهو ما دفع العديد من الدول إلى إعادة صياغة استراتيجياتها الإعلامية الخارجية لتكون أكثر تأثيرًا واتساقًا مع سياستها الخارجية. فالإعلامي ضمن البعثة الخارجية لم يعد مجرد ناقل للحدث، بل أصبح عنصرًا فاعلًا في رسم صورة الدولة وشخصيتها على الصعيد الدولي. هو من ينقل القيم والثقافة والتقاليد الوطنية إلى شعوب العالم، ويسهم في بناء جسور من التفاهم المتبادل، ويعزز من مكانة الدولة في عيون الرأي العام الأجنبي.

ويُعد الإعلام الخارجي أيضًا مرآة لما يحدث في الدولة من تطورات سياسية واقتصادية وثقافية، إذ يعمل على إيصال هذه الصورة إلى الإعلام الدولي وإلى المؤسسات المؤثرة والجماهير في الدول المضيفة. كما يقوم بمهام تحليلية تهدف إلى فهم توجهات المجتمعات المستقبِلة واستباق ردود أفعالها، مما يتيح للدبلوماسيين وصناع القرار في الدولة اتخاذ مواقف مدروسة ومتوازنة.

كما تعدّ الرسالة الوطنية التي يحملها الإعلامي في الخارج تتطلب قدرًا كبيرًا من المسؤولية المهنية والوعي الثقافي والسياسي، فهي ليست مجرد شعارات تُردد، بل محتوى استراتيجي يجب أن يكون مصوغًا بلغة تتسم بالمرونة والدقة والقدرة على الإقناع. فالخطاب الإعلامي الموجه إلى الداخل يختلف عن ذاك الموجه إلى الخارج، إذ يجب أن يراعي التباينات الحضارية والحساسيات الفكرية والثقافية المختلفة، وأن يُظهر احترامًا للخصوصيات المحلية دون التخلي عن المبادئ الأساسية للدولة المُمثلة.

فضلاً عن، فأن العمل الإعلامي في البعثات الخارجية يتطلب تنسيقًا وثيقًا مع البعثة الدبلوماسية والسفارات، لأن الإعلام الخارجي لا يعمل في فراغ، بل في سياق سياسي ودبلوماسي منظّم ينبغي أن يُفهم بدقة. فنجاح الإعلامي في إيصال الرسالة الوطنية يعتمد إلى حد كبير على مدى انسجامه مع السياسات العامة للدولة، وعلى اطلاعه العميق بمواقفها من القضايا الإقليمية والدولية.

في هذا الإطار، تصبح المهارات التي يمتلكها الإعلامي أساسية، مثل قدرته على الحوار، ومهاراته في التفاوض غير المباشر، وقدرته على استخدام الأدوات الرقمية والتقنية الحديثة لنشر الرسائل المؤثرة. إذ نجد الإعلام في عصر العولمة ليس فقط في الصحف والشاشات، بل في المنصات الرقمية التي تُتابع في اللحظة وتُعيد تشكيل الرأي العام في غضون دقائق.

ولا يمكن إغفال دور الإعلاميين في أوقات الأزمات، إذ يتضاعف دورهم في مواجهة حملات التشويه أو المعلومات المضللة، وفي تقديم الرواية الوطنية بطريقة تتسم بالشفافية والمصداقية. وهنا تبرز أهمية وجود إعلام خارجي محترف قادر على التعامل مع الأزمات الإعلامية بثقة وكفاءة، ما يسهم في الحد من الآثار السلبية على صورة الدولة ومكانتها الدولية.

ومن هنا ندرك، يمكن القول إن الإعلامي في البعثة الخارجية لم يعد مجرد مرفق مكمل للعمل الدبلوماسي، بل أصبح شريكًا أصيلًا في صياغة السياسة الخارجية للدولة والتأثير في علاقاتها الدولية. فبقدر ما يكون الإعلامي ملمًا بثقافة الآخر ومتفهمًا لحساسيته وقادرًا على التعبير عن موقف بلاده بلغة ناعمة وذكية، بقدر ما تنجح الدولة في بناء حضور فاعل ومؤثر في المسرح الدولي.

إن الإستثمار في الإعلام الخارجي وتطوير كوادره وتمكينهم من الأدوات المعرفية والتقنية الحديثة، يُعد اليوم ضرورة آستراتيجية لأي دولة تسعى إلى حماية مصالحها وتعزيز مكانتها في العالم، إذ لم يعد يكفي أن تكون الدولة قوية بمواردها، بل يجب أن تكون قادرة على رواية قصتها بذكاء وقوة وإقناع، بغية توصيل ما ترنو اليه، وتحقيق الاهداف المرجوة للسياسة الخارجية للدولة. فضلاً عن صياغتها وتقديمها بالطريقة التي تجعل الطرف الآخر أن يحملها على محمل الجدّ وبقناعة تامة، وهذا لن يتاتى إلا من خلال الخبرات والقدرات والدراسة الأكاديمية التي يقوم عليها مجموعة متعاونة بين القائم على الاتصال والشخصية الدبلوماسية التي تتمتع بروح التفاني من أجل القضية الوطنية للدولة.

***

د. عصام البرّام - القاهرة

في كتابه رسالة في اللاهوت والسياسة يقول سبينوزا: " ليس هناك وسيلة أكثر فعالية لحكم الجماهير من الخرافات. السبب الذي يؤدي إلى الخرافات ويحافظ عليها ويشجعها هو الخوف..إن حرية الفكر لا تمثل خطرا على الإيمان، إن العقل هو أساس الإيمان فإن غاب ظهرت الخرافة وإذا سادت الخرافة ضاع العقل "

يكتب الفيلسوف الفرنسي إدغار موران في كتابه لحظة أخرى أيضاً: " إن سبينوزا هو رائد الفهم " لا تضحك، لا تبك، لا تكره، عليك أن تفهم ". يؤكد سبينوزا ان الدين يجب أن يخضع للقوانين العامة، فحرية التفكير والرأي أمر مفيد، انها شرط لإنهاء النزعات الدينية " لا أحد بامكانه التخلي عن حرية التفكير، فكل سيد على افكاره ".

وترى ريبيكا غولدشتاين في كتابها خيانة سبينوزا " إن الافتراءات الخادعة للذات تنبع من نقطتي الضعف هاتين في طبيعتنا البشرية - وهما التعظيم الذاتي ورهاب الموت، وكلاهما جوانب من عقلنا المخيف وغير القابل للشفاء - التي تفسر القوة المخيفة لأشكال الدين الخرافية ". كما يلاحظ سبينوزا في مقدمة كتابه (رسالة في اللاهوت والسياسة): ".. إنه الخوف، إذن، فهو الذي يلد الخرافة ويحفظها ويعززها ".

ويكتب جاستن شتاينبيرغ في كتابه سبينوزا: " يريد سبينوزا أن يثبت أن الإيمان والعقل ليسا في صراع، فإن ما يظهره في الواقع هو أن الكتاب المقدس هو مستودع للحكايات والمبادئ الأخلاقية. وبما ان الحقائق الأخلاقية للكتاب المقدس واضحة مباشرة لجميع القراء، فلا يوجد حاجة لطائفة كهنوتية ضليعة في فنون التأويل لتفسير مزاعم النص للجماهير ".1582 Spinoza

وفي كتابه" سبينوزا كيف نحيا وكيف نموت " يؤكد ستيفن نادلر ان سبينوزا يصر على ان " الذين يقودهم العقل، لا يرغبون في شيء لانفسهم إلا ويرغبونه لغيرهم، ولذلك فهم عادلون وحسنو النية ونزهاء ". الانسان الحر ايضا مبتهج، ولطيف، ومتسامح. وهو، في مزاجه، ليس عرضة للعديد من احوال النفس التي تشكل مصدرا للصراع بين الاشخاص:  الكراهية، والحسد، والاستهزاء، والإزدراء، والغضب، والانتقام، وغير ذلك من الانفعالات الضارة.

في روايته مشكلة سبينوزا يفدم لنا عالم النفس الشهير إرفين د. يالوم هذا الحوار: قال سبيتوزا: لو بحثت في العالم كله فلن تجد قوماً أو ديناً لا يؤمن بالخرافات، فما دام هناك جهل، فإن البعض سيتمسكون بالخرافات، إن التخلص من الجهل هو الحل الوحيد.

فاجاب بنتو " أشعر انّها معركة خاسرة، فالجهل والإيمان بالخرافات ينتشران كالنار في الهشيم، وأعتقد أنّ رجال الدين يغذون هذه النار ليضمنوا مراكزهم. ولهذا أصبحت على قناعة بأنني يجب أن أكون حراً.وإذا لم تكن تلك الطائفة موجودة، فعليّ أن أعيش دون طائفة "

يطرح الفيلسوف الفرنسي المعاصر فريدريك لونوار في كتابه المعجزة السبيونزية سؤالا: " كيف يمكن للفرد العادي، أن يكون سبينوزيا، حتى لو لم يكن مختصا في الدراسات الفلسفية ؟ أو كيف يستطيع الإنسان أن يتسلح برؤية سبينوزا وفلسفته في الحياة، ويرى في كتابه " المعجزة السبينوزية "، ان فيلسوفنا يحاول من خلال كتبه أن يقدم لنا " أفضلَ طريق ممكن إلى الخلاص، لكل أفراد المجتمع في هذا العالم الذي يقف على حافة الانهيار، إذ تهتز الديمقراطيات العريقة، وتنتشر النزاعات الطائفية ونزاعات الهوية والحزبية في كل أرجاء العالم". يخبرنا لونوار أن رسالة سبينوزا الفلسفية تبرز من خلال رحلته الحياتية: " فإذا أردنا أن نعرف معنى المعجزة السبينوزية، يكفي أن ندرك أننا أمام شخص له سمات خاصة، شخص ظل وفيا لحب الحقيقة، مفضلا حرية التفكيرِ على طمأنينةِ العائلة والطائفة، وعلى الاِنسياق للفكرِ السائدِ. لقد كانَ ضحية أبشعِ الانتهاكات، تم التنكر له من قبل أَهله وعاشَ تحْت التهديد المتواصل، ولكنه بقي وفيا دائما للخط الموجه لمسيرته. كان عُرضة للكراهية ولكنه لم يكره أبدا. تعرضَ للغدرِ ولكنه لم يغدر أَدا. تَعرضَ للسخريَة ولكنه لم يستخف بأحد قط. تم شتمه، ولكن رده كان دائما هو الاحترام. عاش دائما باعتدال وكرامة وفي انسجام مع أفكاره".

وفي واحدة من رسائله يكتب باروح سبينوزا: " لقد اعتبرتُ الإيمان بالمعجزات والجهل امرين متماثلين، لسبب ممفاده ان اولئك الذين يزعمون اثبات وجود الله والذين يستندون الى المعجزات إنما يثبتون شيئا غامضا بشيء اكثر غموضا، ناهيك بكونهم يجهلونه جهلا تاما.

كان سبينوزا يصر انه من دون الذكاء لا توجد حياة عقلية، لذا، فإن الاشياء تكون خيرة فقط بقدر ما تساعد الإنسان على تمتعه بالحياة الفكرية التي يحددها الذكاء. وعلى العكس من ذلك فأياً كانت الاشياء التي تعوق كمال عقل الإنسان وقدرته على الاستمتاع بالحياة العقلانية، فإنها تكون الشر بعينه.

وختامنا مع المفكر العربي فؤاد زكريا وكتابه الشهير إسبينوزا حيث يكتب: " الرأي الحقيقي الذي يؤمن به اسپينوزا في هذا الصدد هو الرأي القائل إننا إذا شئنا أن نهتدي إلى دليل على القدرة الإلهية، وأن نكون متسقين مع أنفسنا في الوقت ذاته، فلدينا في عقلنا البشري نفسه أعظم دليل. فليس ثمة داعٍ لافتراض معرفة غير مألوفة، خارجة على قوانين الطبيعة، لتكون هي مظهر هذه القدرة الإلهية. بل إن عقلنا ذاته معجزة، وكفاحنا من أجل فهم الطبيعة والسيطرة عليها معجزة، ولا معنى — في نظره — لافتراض معجزات ونبوءات تتحدى العقل وتخرج عن نطاق الطبيعة من أجل إثبات هذه القدرة ".

خلال رحلتي مع سبينوزا وكتبه وماكتب عنه تعلمت ان التفكير حاجة ضرورية، وان السير على دروب الحقيقة لذة عقلية كبرى، وأن الفكر هو الذي ينقل الانسان من مستوى " الهمجية " الى مستوى الانسانية ". يكتب الفرنسي العظيم باسكال: " انني استطيع ان اتصور انسانا بلا يدين، او بلا رجلين، لكنني لا استطيع ان اتصور انسانا بلا فكر، لانه عندئذ سيكون مجرد صخرة ".، وتعلمت من هذا الصديق ان الحق فوق القسوة، وان التسامح والرغبة في الحوار مع الآخرين هي الطريق الى الحرية، وان الشر يقوم على التعصب وضيق الافق، والجهل، وان اختلاف الآراء ليس شرا، بل منفعة للجميع، وان الحوار هو الذي يخلق مجتمعا مستنيرا واعيا. وان مهمة المثقف ان يحارب السذاجة، وان نضع جميع ارائنا الى البحث والحوار، حتى يتسنى لنا بناء مجتمعنا على دعائم يقرها العقل، تنتقل بالناس من عهد " الجهل " الى عهد " التفكير "..

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية.

............................

* الصورة (بيت سبينوزا في ضاحية أمستردام)

 

إنَّ العُزلة لَيْسَتْ شُعورًا نَفْسِيًّا فَحَسْب، بَلْ هِيَ أيضًا فِكْرَة حَيَاتِيَّة تَمْزُجُ بَيْنَ التأمُّلِ الوُجوديِّ وَرُوحِ الاكتشافِ، مِنْ أجْلِ الوُصولِ إلى اليَقِينِ على الصَّعِيدَيْن المَعنويِّ والمَاديِّ. والعُزلةُ هِيَ نُقْطَةُ التَّوَازُنِ في إفرازاتِ الذاكرةِ، وَمِحْوَرُ الارتكازِ في الأسئلةِ الفَلسفيَّةِ العَميقةِ، وَفَلسفةُ التَّحَرُّرِ مِنْ حَيِّزِ المَكَانِ وَضَغْطِ الزَّمَانِ. وبالتالي، تُصبح العُزلةُ خُلاصةً للمَشاعرِ الداخليَّة، ودَليلًا عَلى وُجودِ الحُلْمِ المَقموعِ في عَوالمِ النِّسيان.

وَمِنَ الذينَ نَقَلُوا العُزلةَ مِنْ المَفهومِ المَاديِّ التَّجْرِيدِيِّ إلى المَعنى الأدبيِّ الإبداعيِّ، الرِّوائيُّ الأمريكيُّ بول أوستر (1947 _ 2024). يُعَدُّ كِتَابُهُ " اختراع العُزلة " (1982) مُذَكَّرَاتٍ عَنْ وَفَاةِ وَالِدِه، وتَأمُّلاتٍ شخصية في فِعْلِ الكِتابةِ وَالخَسَارَةِ وَالوَجَعِ والفَقْدِ. يَنقسِم الكِتَابُ إلى جُزْأَيْن، الجُزْءُ الأوَّلُ: صُورة رَجُلٍ خَفِيٍّ. يتناول المَوْتَ المُفَاجِئ لِوَالِدِه، حَيْثُ يُبَيِّن أوستر طبيعةَ غِيابِ وَالِدِهِ في حَيَاتِهِ وبَعْدَ مَوْتِه، ويُعيدُ بِنَاءَ حَياةِ وَالِدِهِ مِنَ القِطَعِ الأثرية التي تَرَكَهَا وَرَاءَه. والجُزْءُ الثاني: كتاب الذاكرة. وَهُوَ سَرْدٌ بِضَميرِ الغائبِ، حَيْثُ تَبْرُزُ المَوضوعاتُ المَوجودةُ في أعمال أوستر اللاحقة، مِثْل: تَرتيب الأحداث، والعَبثية، والوُجودية، والصُّدْفَة، وعَلاقة الأبِ والابْنِ، والبَحْث عَن الهُوِيَّةِ والمَعاني الإنسانيَّةِ. وَيَعتبر النُّقَّادُ " اختراع العُزلة " مِفتاحًا لِتَفسيرِ أعمال أوستر السَّرْدِيَّة والشِّعْرِيَّة، وَهُوَ جَوْهَر أعمالِه كُلِّهَا.

لَقَدْ قَامَ أوستر _ مِنْ خِلالِ شخصيةِ الأبِ _ باختراعِ العُزلةِ شُعورًا وسُلوكًا، عَبْرَ الحَفْرِ في الذاكرةِ، والغَوْصِ في المَاضِي الذي لا يَمْضِي، وَتَفْسِيرِ مَعنى الخَسَارَةِ، واسترجاعِ الذِّكْرَيَاتِ اعتمادًا على المُقْتَنَيَاتِ التي تَرَكَهَا هَذا الأبُ الذي يَتَّصِفُ بِالغُموضِ والخَفَاءِ والغِيَابِ.إنَّهَا رِحْلَة بَحْث مُضْنية عَنْ أبٍ مَعْزُولٍ، وَغَامِضٍ، وَغَرِيبِ الأطوارِ، وَغَيْرِ مَرْئيٍّ، وَلَمْ يَكُنْ حاضرًا بِما فِيه الكِفَاية في حياة أُسْرته.

ولا يُمكِن حَصْرُ مَفهومِ العُزلةِ في الروابطِ الأُسَرِيَّةِ والعَلاقاتِ الاجتماعيَّةِ، فالعُزلةُ مَنظومةٌ إنسانيَّة على تَمَاس مُباشر مَعَ الشَّخصيةِ والهُوِيَّةِ،وهَذا يَتَّضِح في كِتاب" مَتاهة العُزلة " (1950) للأديب المَكْسيكي أوكتافيو باث (1914 _ 1998 / نوبل 1990)، وَهُوَ يُعْتَبَر أهَمَّ أعمالِه على الإطلاق. وقد أشادت به الأكاديمية السويدية عندما منحته جائزة نوبل. وحاولَ فيه باث أن يَتَحَرَّى عَنْ شخصية الإنسان المَكْسيكي، وَيَسْبُر أغوارَها.

وَهَذا الكِتابُ عِبارة عن بحث في التاريخ الرُّوحِيِّ للمكسيك، في طُقوسه وعاداته المَوْروثة، مِنْ أيَّامِ الأزتيك (سُكَّان المَكْسيك القُدامى). وهو أيضًا نظرة تأمُّل مُتَعَمِّقَة في الأوضاع التي أثَّرَتْ في تَحديد طبيعة المكسيكيين وتاريخهم.

يَرَى باث أنَّ الوَحْدَةَ أعمقُ حَقيقةٍ في الوُجودِ الإنسانيِّ، فالإنسانُ هُوَ الكائنُ الوَحِيدُ الذي يُدْرِكُ أنَّهُ وَحِيدٌ، والوَحِيدُ الذي يَبْحَثُ عَنْ غَيْرِه. وَقَدْ جاءَ إلى الدُّنيا وحيدًا، وَسَيَمُوت وَحِيدًا. والإنسانُ أثناءَ فَترةِ حَياته يُعيد اختراعَ عُزلته، واكتشافَ نَفْسِه، ويَسْعَى إلى تَحقيقِ ذَاتِهِ في غَيْرِه، فَهُوَ دَائِمُ الحَنينِ إلى المَاضِي، ودَائمُ البَحْثِ عَن التواصل مَعَ الآخَرِين.

وَيُعْتَبَر كِتابُ " مَتاهة العُزلة " أساسًا وُجوديًّا ودَليلًا فِكْرِيًّا لِفَهْمِ الهُوِيَّةِ المَكْسيكية،مِنْ خِلالِ تَحليل عميق للشَّخصيةِ الفَرْدِيَّةِ والهُوِيَّةِ الوَطَنِيَّةِ والتفاعلِ الثقافيِّ، ويَعْكِسُ جوانب مِنَ العُزلةِ الثقافية التي عَاشَتْهَا المَكسيك بَعْدَ فَترةِ الاستعمارِ، وتأثير ذلك على المُجتمع المَكْسيكي الحديث الغَنِيِّ بثقافته وتاريخِهِ المُعَقَّد.

والإنسانُ _ في لَحَظَاتٍ مُعَيَّنَة في حَيَاتِه _ يَشْعُرُ بانفصالِهِ عَن العَالَمِ، واغترابِه عَنْ ذَاتِه، وانعزالِهِ عَن التاريخِ والحَضَارَةِ. ومَعَ هَذا، فَهُوَ لا يَمْلِكُ خِيَارًا سِوَى السَّعْي إلى تَجَاوُزِ العُزلةِ، وَمَحْوِ الاغترابِ، واستعادةِ العَلاقاتِ الاجتماعيَّة. وهَذا لا يَتَأتَّى إلا بِتَفعيلِ الوَعْي بذاتِه، وعَدَمِ مُحاولة تَغييرِ جِلْدِه.

والشُّعُورُ بالعُزلةِ والانفصالُ عَن الآخرين يُمثِّل أُسلوبَ حَيَاةٍ لِكَثيرٍ مِنَ الأُدباءِ، فالرِّوائيُّ الفرنسي جان ماري لوكليزيو (وُلِدَ 1940 / نوبل 2008)، يُعْتَبَر مُتَعَدِّد الهُوِيَّات ومُتشابِك الجُذور، فَهُوَ مَولود في مدينة نيس الفرنسية لأبٍ بريطاني عَمِلَ طبيبًا عسكريًّا في أفريقيا، وأُمٍّ فرنسية مِنْ جُزَرِ موريشيوس. وَقَدْ ظَلَّ الروائيُّ طِيلة عُقود يبحث في التباس الانتماءِ والهُوِيَّة، الذي وَجَدَ نَفْسَه فيه، فَقَد اكتسبَ الجِنسية الفرنسية مِن أُمِّه، وأَخَذَ الجِنسية البريطانية مِنْ والدِه. وكانَ يَشْعُرُ بأنَّهُ مُزْدَوَج الولاء والانتماء، وَهَذا مَنَحَه شُعورًا بالغُربةِ والعُزلةِ. وطَالَمَا رَغِبَ بالتَّخَلُّصِ مِنْ هَذا الشُّعور، وكانَ بحاجةٍ إلى هُوِيَّةٍ مُحَدَّدة بشكلٍ حاسمٍ.

يَرفضُ لوكليزيو الظُّهُورَ في الإعلام، فَهُوَ صَامِتٌ ومُنعزِل ومُتَأمِّل، ويَعْتَبِر الإنسانَ مَجموعةً مِنَ المُكْتَسَبَاتِ الثقافية، والإرْثِ العائليِّ، والمُتغيِّرات الفِكرية، وَتَجَارِب العَيْشِ في بُلدان وأوضاع مُتغيِّرة، وخِيارات شخصية، وكُشوفات وأحلام مُتحقِّقة أوْ مُتهاوية. ويَمتاز إبداع لوكليزيو بِعُمْقٍ إنسانيٍّ، وفُيوض شِعْرِية دَفَّاقة، وَتجريب مُمْتِع. ويُعْتَبَر أعظمَ كاتب فرنسي على قَيْدِ الحَيَاة.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

قراءة في راهنية القضايا الحارقة

مقدمة: لم يكن المثقف العربي يومًا عنصرًا هامشيًا في التاريخ الثقافي والسياسي العربي، بل ظلّ – منذ النهضة الحديثة – لاعبًا محوريًا في صوغ الوعي، وتفكيك البُنى التقليدية، ومساءلة السائد والموروث. غير أن المرحلة الراهنة، بما تحمله من أزمات مركبة وتشظيات سياسية وأخلاقية وفكرية، تطرح بإلحاح سؤالًا مربكًا: أين هو المثقف العربي اليوم؟ هل هو غائب، أم مُغَيَّب؟ وهل ما يحدث هو تغييب قسري بفعل الاستبداد والهشاشة المؤسساتية، أم هو انسحاب اختياري بفعل الانتهاك الرمزي لوظيفة المثقف؟ في ظل هذا السياق، يصبح من الضروري التوقف عند مفهوم المثقف، والوقوف على سيرورته في المجال العربي، واستكشاف تجليات الغياب والتغييب في تعامله مع القضايا الحارقة.

أولًا: المثقف العربي ومأزق التعريف بين غرامشي وسعيد

يُعدّ مفهوم "المثقف" مفهومًا إشكاليًا، متعدد الأوجه، يتراوح بين الدور الاجتماعي والتحليل الفكري والالتزام السياسي. وقد قدّم أنطونيو غرامشي تعريفًا مركزيًا للمثقف باعتباره "ذلك الذي يُنتج ويُعيد إنتاج المعاني، ويُوجه الرؤية الجماعية للمجتمع" (غرامشي، دفاتر السجن). وهو ليس محايدًا، بل منحاز بطبعه، إذ أن لكل طبقة مثقفيها الذين يعبرون عن رؤاها وتطلعاتها.

أما إدوارد سعيد، فقد وسّع هذا التصور، معتبرًا أن المثقف هو "منفي رمزي"، يعيش دائمًا على هامش السلطة، في صراع مع المؤسسة، ومرتبط أخلاقيًا بكشف الزيف وتحدي الرواية الرسمية (سعيد، تمثيلات المثقف).

من هذين التعريفين، يمكننا استنتاج أن المثقف، بطبيعته، كائنٌ صراعي، يحتل موقعًا وسطًا بين المعرفة والسلطة، وأن أي حياد يتخذه تجاه القضايا الحارقة هو نكوص أخلاقي واختلال في وظيفة الوعي.

ثانيًا: بين الغياب والتغييب – بنية السؤال الإشكالي

ينبغي التفريق بين الغياب بوصفه فعلًا إراديًا، والتغييب باعتباره ممارسة قسرية. في السياق العربي، غالبًا ما تتشابك الحالتان في بنية واحدة، إذ يُغَيَّب المثقف بفعل المنظومات القمعية، لكنه أيضًا يغيب بفعل انزياحه نحو النخبوية أو الارتهان لمصالح شخصية أو أيديولوجية.

1- التغييب المؤسسي:

تعرضت النخب الثقافية العربية منذ خمسينيات القرن الماضي لحملات ممنهجة من الإقصاء والتدجين، في ظل صعود الأنظمة الشمولية التي عمدت إلى إعادة إنتاج المثقف السلطوي أو "الموظف الأيديولوجي"، كما يسميه عبد الله العروي. تم ذلك من خلال:

احتكار المؤسسات الثقافية من طرف الدولة.

فرض رقابة صارمة على النشر والبحث.

تحويل اتحادات الكتّاب إلى أدوات تضبط الإبداع بدلًا من أن تحرره.

وقد أفضى ذلك إلى اختفاء دور المثقف النقدي المستقل، وتحوّله إما إلى ناطق باسم السلطة أو إلى منفيّ خارج حدود الوطن.

2 - الغياب الطوعي:

يقابله نموذج المثقف الذي اختار العزلة أو الانغماس في تنظيرات بعيدة عن الواقع. وهو ما يسميه علي حرب بـ**"المثقف النرجسي"، الذي يشتغل على اللغة أكثر مما يشتغل على الناس، ويعيش في أبراج لغوية عاجية لا يرى منها الجمر المشتعل في الأزقة** (حرب، من نقد النص إلى نقد العقل).

الانفصال عن الواقع، وغياب مشاريع معرفية متجذرة في المجتمع، جعلا الكثير من المثقفين عاجزين عن التأثير في الفضاء العام، وهو ما دفع الجماهير إلى البحث عن بدائل جديدة في الفضاء الرقمي أو في رموز دينية وسياسية.

ثالثًا: القضايا الحارقة والمثقف الغائب/المُغيَّب

أمام التحديات الراهنة – من انهيارات الدولة الوطنية، وصعود الطائفية، وتفاقم القمع، إلى التحولات الرقمية – تظهر الحاجة الماسّة إلى صوت المثقف النقدي. لكن المأساة أن هذا الصوت، في كثير من الأحيان، إما خافت، وإما مفرط في التأويل دون تأثير حقيقي.

1 - فلسطين كقضية معيارية:

منذ نكبة 1948، ظلّت فلسطين مرآة أخلاقية تُقاس بها مواقف المثقف. لكن في العقود الأخيرة، ومع التطبيع الرسمي المتسارع، برز نوع من الصمت المخزي، أو ما سماه عزمي بشارة بـ"التطبيع الثقافي" الذي ينزع سلاح المثقف الرمزي ويحوّله إلى شاهد زور على تصفية القضية.

2 - ثورات الربيع العربي:

تباينت مواقف المثقفين بين مؤيد مشروط، ورافض بدعوى أن "الشعوب غير جاهزة للديمقراطية"، وهي حجة تنضح بوصاية نخبوية. وكشف الربيع العربي عن افتقار كثير من المثقفين إلى تصوّر سياسي بديل، وانحيازهم إما للأنظمة أو للقوى المضادة للثورة، ما خلق قطيعة نفسية مع الشارع.

3 - العولمة والهوية:

مع صعود قيم السوق والانفتاح الرقمي، برزت تحديات جديدة تتطلب إعادة تعريف الهوية الثقافية العربية. لكن كثيرًا من المثقفين بقوا أسرى ثنائيات تقليدية (أصالة/حداثة، شرق/غرب)، غير قادرين على تفكيك البنية العميقة للعولمة أو تقديم رؤية نقدية متعددة المستويات.

رابعًا: المثقف الجديد – ملامح مشروع بديل

لا يكفي توصيف العطب، بل لا بد من بلورة مشروع بديل يعيد الاعتبار للمثقف كفاعل تاريخي. يمكن الحديث هنا عن "المثقف الشبكي" أو "الناشط المعرفي"، الذي يشتبك مع قضايا عصره بأدوات جديدة، دون أن يتخلى عن جذوة النقد.

1- الارتباط العضوي بالمجتمع:

أن يعود المثقف إلى التفكير من داخل المجتمع، لا من فوقه، فينخرط في الحوارات الشعبية، ويعيد الاعتبار للثقافة كفعل جماعي وليس مجرد منتج نخبة.

2 - عابري التخصصات:

المثقف الجديد ينبغي أن يكون عابرًا للتخصصات، قادرًا على الربط بين السياسة والتاريخ، الأدب والاقتصاد، الفلسفة والتكنولوجيا. النموذج ليس "الأكاديمي المنعزل"، بل "المثقف المشتبك" كما في تجربة طارق علي أو فواز طرابلسي.

3- تكسير الحواجز المؤسسية:

عليه أن يعيد بناء منابره خارج الرقابة الرسمية، مستفيدًا من أدوات النشر الرقمي، وبناء دوائر تأثير مستقلة، من خلال البودكاست، اليوتيوب، والملتقيات الفكرية المستقلة.

خاتمة: نحو استعادة المعنى

المثقف العربي لا يزال موجودًا، لكنه – في الغالب – مُبعثر، مقموع، أو غائبٌ داخل متاهات الخطاب والجدل العقيم. غير أن التحولات العميقة التي يشهدها العالم العربي تفرض عليه العودة، لا كخطيب منبر، بل كضوء خافت في الزوايا المظلمة، يوقظ الأسئلة بدلًا من أن يردد الإجابات الجاهزة.

إن اللحظة التاريخية التي نعيشها تطلب مثقفًا لا يخشى السير ضد التيار، ولا يطمح لرضا السلطة أو الجماهير، بل يطلب الحقيقة في تضاريس الخراب.

فهل يستيقظ المثقف العربي من سباته، أم نكتب له مرثية أخرى على جدار المدن المنهكة؟

***

مجيدة محمدي ـ تونس

......................

المراجع:

غرامشي، أنطونيو. دفاتر السجن. ترجمة: فواز طرابلسي، بيروت: دار الفارابي.

سعيد، إدوارد. تمثيلات المثقف. ترجمة: ثائر ديب، بيروت: دار الآداب.

حرب، علي. من نقد النص إلى نقد العقل. بيروت: المركز الثقافي العربي.

العروي، عبد الله. الأيديولوجيا العربية المعاصرة. بيروت: المركز الثقافي العربي.

بشارة، عزمي. أن تكون عربيًا في أيامنا. بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.

طرابلسي، فواز. تاريخ لبنان الحديث. بيروت: دار الساقي.

الجابري، محمد عابد. الخطاب العربي المعاصر. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.

الاستهلاك في أبسط معانيه عملية استعمال سلعة أو خدمة بهدف إشباع حاجة معينة بطريقة قصدية ومباشرة، والاستهلاك قرين الإنتاج، يتولد عن حاجة ونقص في الأشياء مما يدفع الإنسان إلى الطلب، والزيادة في الرغبة قصد نيلها وبالتالي الشعور بالمتعة والراحة من الفعل المقصود، أما عدم القدرة على نيل الأشياء كما يشتهيها الإنسان يولد فينا النقص والحرمان، كما يعمق الحرمان من الاكتئاب والقلق والتوتر، والشعور بالضعف أمام مغريات الحياة اليومية، يتم وصف عصرنا بالاستهلاك، وطغيان الثقافة الاستهلاكية، نتاج للطفرة الصناعية، ونتاج التحولات الاقتصادية والاجتماعية، وهذا الخلل  الذي أصاب سيكولوجية الفرد والجماعة، من الجموح والاندفاع نحو الزيادة في المتعة واللذة. الاستهلاك بأنماطه المختلفة، من الاستهلاك التفاخري، والاستهلاك القائم على الحاجة، والاستهلاك الرشيد والمعقلن. تتحكم في الاستهلاك دوافع ذاتية وموضوعية تتعلق بالفرد وبالتحولات الخاصة بالحياة، يدفعنا الاستهلاك نحو التنميط والتبعية لأنماط السلوكات الاستهلاكية المعولمة، من خلال الإقبال على الأشياء الاستهلاكية بالاستجابة الفورية لما هو مرغوب فيه، وبالاستجابة البعدية لما يتمنى الفرد أن يستهلكه، ويرتوي منه من خلال التجربة المعاشة، ولما تلعبه تكنولوجيا الإعلام من تسويق الفكرة وتعميمها وانتشارها من خلال الثقافة المعولمة الحاملة للقيم المادية العالمية. هناك ثقافة جارفة، سيول محملة بالصور والمعاني والرموز، تخترق العقول والوعي الفردي والجمعي، تعمل الثقافة الجديدة على التسليع والتشجيع على الإنتاج، والتحفيز لما يتعلق بالاستهلاك. هناك علامات وإشهار، ودعايات مجانية، وقنوات إعلامية، وما يتعلق بشبكات التواصل الاجتماعي التي تقدم برامج وأنشطة في التحفيز والإقبال الفوري السريع على الاستهلاك حتى تستقر الصور في الأذهان، ومن خلال الشركات والمحلات التجارية التي وفرت ما يحتاج إليه الإنسان من أطعمة، ومشروبات، وأماكن للراحة، واللعب والاستجمام، العلامات التجارية والقوة الإعلامية، والسياق الثقافي العام وراء النزعة الاستهلاكية، وهذا الجموح الزائد عن الحدود وراء النزعة الاستهلاكية. إذا غاب الاستهلاك بحدة يطفو النقص وخيبة الأمل عندما لا نظفر بكل ما نرغب فيه. مشاعر الكبت تخرج للعلن، ويستقر الحرمان ويقبع في داخلنا دون ارتواء أو هكذا نفهم تبعات الحرمان في مجال القراءة السيكولوجية لأعماق الذات الفردية والجماعية معا.

سيكولوجية الفرد مشبعة بالقيم الاستهلاكية، في مجتمع الوفرة والإنتاج، المجتمع الذي يقدم نفسه كصورة للرقي والحضارة، لا نعني بالضرورة أن الاستهلاك دافعه العادات الخاطئة، وعقلية القطيع التابعة والخانعة، عقلية سهلة الانقياد للفعل، ضحية فساد الذوق، في جوهر التحولات العالمية تتجلى الثقافة الجديدة، عالم ما بعد الحداثة والنزعة الفردانية الميالة نحو التفرد والتميز من خلال التغير الذي طرأ على الحياة بألوانها المختلفة، النفسية والاجتماعية والاقتصادية، انجراف هائل من القيم التقليدية نحو القيم البديلة، استبدال القيم الصلبة بالقيم السائلة، في عالم الموضة والأزياء، في عالم الطبخ والعمارة، وفي عالم الموسيقى والفنون، وصناعة الذوق، وتهذيب السلوك، وما يليق بالمستهلك والاستهلاك. كل الأشياء تتلاشى في العالم الجديد، العلاقات الإنسانية عابرة ولحظية، استبدال الأشخاص كما يتم استبدال الأشياء والأغراض، الثقافة الاستهلاكية كما وصفها الفيلسوف "جان بودريار" في نقده للمجتمع الاستهلاكي الرأسمالي تبدو ثقافة جارفة، سائلة، لا تكترث بالجغرافي، وتتخطى الحدود والمجتمعات، تنتقل من خلال الصور والميديا، وتترسخ بناء على الرموز والعلامات، وقوة الإعلام والإشهار، وفن التسويق، كل الأشياء قابلة للمحو والذوبان، الثقافة الاستهلاكية تنمو من تراجع الواقع والهروب نحو العوالم الافتراضية، هذا العالم الذي يتدفق سيولة بالصور والرموز والعلامات العابرة للحدود.

تذوب العواطف والمشاعر المختلفة، يطفو الجزء العميق في الإنسان، الجزء المعبر عن الغريزة واللذة، يفسح المجال لفكر جديد يؤمن بالتعددية والنسبية والاختلاف، الفكر البسيط القائم على التشظي، والانقسام القائم على النشوة واللذة، الاستهلاك آفة العصر، والسمة الميزة لعالم اليوم، الاستهلاك واليات إنتاجه وتعميمه، يروض الذهن على تقبل أنماطه وأشكاله، ترويض اللاوعي على فكرة الاستهلاك، تغلغل الفكرة في أعماق الذات بكل ما تحمله الأفكار من صور ورموز وعلامات غاية في الإغراء والاستمالة، الإعلانات والملصقات والإشهار، فنون وأدوات مثيرة في الإقناع والتحريض على الاستهلاك، التسوق والعرض الكبير للمنتجات العالمية، والماركات التجارية تلعب على سيكولوجية الفرد والجماعة، يوجه التفكير نحو الاستهلاك على أمل السعادة، والشعور بالمتعة أثناء الاقتناء والشراء، وما يزيد من الفعل الاستهلاكي، وجرعة كبيرة في سلوك المستهلك، التخفيضات، والأرقام المكتوبة بعناية ودقة، التي تثير المشتري أثناء التبضع، ناهيك عن جودة الأسواق الكبرى، والعرض المتنوع للأشياء من خلال المنتوج العالمي والمحلي، الجديد في عالم الأزياء واللباس، القدرة عل الاختيار والانتقاء لما هو معروض ومرغوب بأثمنة متباينة، مظهر آخر للعرض والتقدم التكنولوجي، والصناعة الإعلامية، مؤسسات الدعاية والاتصال، وامتلاك السلع والتسوق من المحلات التجارية مرتبط بالمكانة الاجتماعية، والوضع المادي، ومستوى الدخل حيث يختفي البيع والشراء كحوار وتواصل من خلال الشطارة والدهاء والتفاوض إلى عملية تجارية موضوعية، يطرح فيها البيع بطريقة أحادية، وتمتلك الشركات التجارية القدرة على الزيادة أو النقص في الأسعار بناء على الطلب والإقبال، مجموعة من العوامل والمثيرات الذاتية أو النفسية والثقافية المتحكمة في سلوك المستهلك فردا أو جماعة.

يثير الاستهلاك فينا نوازع ورغبات في الاختيار مع صعوبة التنبؤ في غالب الأحيان بسلوك المستهلك، الاستهلاك نمط وفعل مقصود يروم الإشباع وتحقيق هدف ما، إنه نظام ثقافي كامل يتسرب إلى الوعي، ويتغلغل في أعماق الفكر والمنطق، لا ينفصل الاستهلاك عن الحرمان والخصاص، مظهر للنزعة الاستهلاكية المعولمة على خطى ما ترغب في بنائه الرأسمالية، والفلسفة الليبرالية، من التشجيع على العمل والإنتاج والاستهلاك، الحرية السياسية والاقتصادية والثقافية بدون حدود بشرط عدم الاصطدام بحرية الآخرين أو العمل على تقويض دعائم الدولة الرأسمالية في بنائها وأسسها. الحضارة المادية المعاصرة وتبعات الهيمنة الاقتصادية للنظام الرأسمالي، سلطة النظام العالمي في تقديم المسكنات الممكنة للبقاء، والإصرار على الاستقطاب، وتعميم النمط الأحادي في العالم بدافع المزايا والغايات القصوى من الحرية والإنتاج، والتشجيع على الابتكار والتجديد في نمط الإنتاج، وفرص النجاح، المسكنات تعني إدخال الأمم في لعبة الإنتاج والاستهلاك، ثنائيات من قبيل الحرية والضرورة، والإشباع والحرمان، والمجتمع المنفتح والمجتمع المنغلق، اقتصاد السوق والتجارة الحرة، والاستهلاك بدون كوابح أو موانع قانونية وسياسية. الشراء بالتقسيط أو الجملة متاح للكل، البضاعة متوفرة بوفرة، والاقتناء يزيد، والعروض بأنواعها، منطق عالمي كبير للتبادلات، اتفاقيات دولية، تبادل سريع للأموال والخدمات، وكل الانتاجات المادية، الصين على سبيل المثال، أغرقت الأسواق بالمنتجات المتنوعة، أقل جودة وأكثرها، الدفع والشحن والتوصيل إلى عين المكان، تحفيز المستهلك ومساعدته على اختيار الجودة والتسوق بالأثمان المناسبة.

طوفان من البضائع والسلع، ملصقات من الإشهار والدعاية التي تنفق عليها الشركات الملايين من أجل ترسيخ النفوذ في الأسواق العالمية، الكل يقترب من إفريقيا، الكل يتهافت على الشرق الأوسط، الحروب التي تشتعل في العالم مردها للمنفعة والظفر بالثروات، والمعادن النادرة، وسياسة السطو على الخيرات الطبيعية بالتفاوض أو الحرب بالوكالة أو الحروب المباشرة، والإنسان المستهلك في دوافعه الطبيعية والمكتسبة لا يستطيع مقاومة الإغراء النابع من الحاجة والرغبة إذ يشتهي الإنسان، ويرغب بشدة في الاقتناء والتلذذ بما يعرضه السوق من منتجات وأدوات تلبي جزء من الشهوات والرغبات الخاصة بالنفس البشرية، ماركات اللباس، الهواتف النقالة، والحواسيب، الآلات المنزلية، وأدوات المطبخ بأشكالها، والجديد في عالم الموضة والجمال، والشاشات الكبيرة. تزيد القيمة الإستعمالية للأشياء عند الإقبال، ويزيد الربح للشركات المصنعة بزيادة رقم المعاملات ونصيبها في البورصة، كما يترسخ المجتمع الاستهلاكي من خلال انتشار الثقافة الاستهلاكية، وفي قوة المظاهر، وتجليات الظاهرة، هناك تنامي الاستهلاك من أجل الاستهلاك، يزول الخوف وتهدأ النفس بالتحول من الحرمان نحو الإشباع، وسد الحاجات الأساسية والثانوية نحو الكماليات كذلك، حتى أن التشابه في العقليات والأفكار يولد النزعة القوية والفورية نحو الاستهلاك والابتلاع، ظاهرة الاستهلاك تشكل عالمنا المعاصر، ظاهرة كونية ترسخ نمط من القيم والثقافة عن قوة الأشياء وأثرها على سيكولوجية الفرد والجماعة، التأثير في المستهلك لا يأتي كذلك من الإشهار والشركات، بل هناك العائلة والأسرة والأصدقاء، والمجموعات ذات المرجعيات الدينية والقومية، وعندما نعاين في المجتمعات العربية والمجتمع المغربي على سبيل المثال ثقافة الاستهلاك نلمس التدافع والإقبال بالزيادة في الزيارات للمحلات الكبرى. هناك تغير في نمط العيش الجديد في المجتمع العضوي مقابل المجتمع الآلي البسيط يعني انتقال البدو من القرى نحو المدن، وما يعنيه الانتقال من سلوك ونمط الحياة، إقبال شديد على الاستهلاك خصوصا في المناسبات والأعياد الدينية، العالم المعاصر كما يصفه "بودريار" عصر الأغراض، كل شيء تحول إلى قيمة وسلعة، هذا التحول نتج عنه تحولات في مجال السلوك والعواطف والمشاعر، تجليات عدة في مجال العلاقات الاجتماعية والإنسانية إذ تحول العيد عندنا إلى مناسبة للتباهي، والجشع واللهفة المصاحبة لاقتناء اللحوم البيضاء والحمراء، والزيادة في الاستهلاك إضافة لاستغلال المناسبات من قبل التجار والمضاربين للرفع من الأسعار، وينسى المتدين الحقيقي ما وراء العيد من أهداف وغايات تتجاوز شهوة البطن، وملذات الأكل والشرب إلى الصوم تقربا من الحق، والصدقة، ومزايا تتعلق بتوثيق روابط المحبة والإخاء بين الناس على أساس الرحمة والمودة، وغيرها من المقاصد الأساسية المنصوص عليها في الشريعة الإسلامية.

نحتاج إلى فهم عميق لنوازع النفس الإنسانية، وتربية الناس على الخلق القائم على التهذيب، ومكارم الأخلاق، العقلية الاستهلاكية عقلية سطحية، الاستهلاك خلق ذهنية قابلة للانقياد، يهيمن عليها شبح السعادة الوهمية، تؤدي الثقافة الاستهلاكية إلى إفساد الذوق وتسطيح الوعي، والاندفاع الشديد نحو لذات الجسد، تصنع حاجة وهمية، تعزز صور ذهنية بين السلوك والأشياء المعروضة، قوة الرأسمالية، والليبرالية المتوحشة في الاستقطاب، وتفكيك فكرة الجسد، وتجريد الإنسان من كل القيم الأخلاقية في اعتدالها وتناغمها، هذا الإنسان الذي أصبح مجرد رقم من الأرقام في عملية الإحصاء الكمي، في نسبة الأرباح، والمبيعات الخاصة بالشركات، ومؤشر على الصعود والنزول في البورصات المحلية والعالمية، وسلوك المستهلك فعل أو حالة نفسية ومشاعر عاطفية، وتوجه نحو شيء مرغوب فيه، ويكون الميل نحو الأشياء بدافع ايجابي أو سلبي، تكون الدوافع سلبية في حالة التجاوز لما هو مسموح ومعقول أي ما يجلب لنا نوع من المتعة والراحة دون المبالغة أو الزيادة في جرعة الاستهلاك حتى التخمة أو التبذير. السلوك الاستهلاكي منبه داخلي، ومنبع الفعل الموجه لأجل الشراء والظفر بالأشياء أو لنقل بعبارة أوسع شكل من أشكال التملك في مجتمع الوفرة والإنتاج، وقديما قدم الفيلسوف اليوناني "أبيقور" وصفة للسعادة والشعور بالمتعة والسكينة من خلال الإقبال على مطالب الجسد في حدود المعقول دون الانجرار نحو الأشياء الماجنة أو اللذات القاتلة والسلبية لأن اللذة هي أولى الخيرات الطبيعية، وهي مبدأ الحياة السعادة، اللذة الحسية البدنية غايتها السلامة للبدن والسكينة للنفس، هذا الاعتدال في الرغبات واللذات دون تبذير منبع السعادة، دواء الاستهلاك المفرط الاعتدال في اللذات، والتفلسف في الحياة بوصف الفلسفة تمرينات روحية لأمراض النفس، من البلادة والسطحية والغباء، والانجرار وراء القطيع، والتيه وراء الشهوات الهدامة والمجون، أمراض يداويها التفلسف، وعقلنة الأشياء وإخضاع نظام الأشياء للعقل مع التروي بالحكمة في المعرفة لما يبهجنا ويجعلنا في انسجام بين رغباتنا وشهواتنا.

***

أحمد شحيمط

 

تلك الجملة التي استقرّت في ذاكرة التاريخ الفلسفي وأيقنت للإنسان أبهى لحظة من لحظات تأمله الذاتي: أنا أفكر إذن أنا موجود (Cogito, ergo sum).

عبارة رينيه ديكارت، الفيلسوف الفرنسي، التي حاول بها أن يؤسس اليقين الأول في رحلة الإنسان نحو المعرفة، واستكشاف جوهر وجوده.

لكن، هل حقًا يكفي أن أفكر لكي أكون؟. هل يختزل الوجود في مجرد عملية ذهنية، في هذا النشاط العقلي الضيق الذي نسميه تفكيرًا؟

هذه العبارة تبدو في ظاهرها واضحة وبسيطة، لكنها تنطوي على عمق لانهائي من التساؤلات التي ما زالت تثير جدلًا فلسفيًا معاصرًا.

ديكارت حاول أن يجد نقطة يقينية يتجاوز بها الشك، فوجد أن الشك نفسه يفترض وجود من يشك، ومن ثم فالفكر دليل وجود الذات. إلا أن هذه الحتمية العقلية لم تخلو من نقاد، ولا من تحديات حادة.

فلسفيًا، أول ما يثيره النقاد أن أنا أفكر لا تضمن بالضرورة وجود كيان مستقل وثابت. قد يكون الفكر ظاهرة عابرة، لحظة وعي قصيرة، وليست دليلاً كافيًا على ذات ثابتة ومستقلة.

الفيلسوف الألماني هيغل مثلاً رأى أن الذات لا تُعرَّف بالفردية المجردة وإنما في سياق الوعي الجمعي والتاريخي. وهذا يعني أن وجود الإنسان لا يتوقف على تفكيره الفردي فقط، بل هو مشروط بالبيئة، بالتاريخ، بالآخرين.

وفي العراق، حيث تتشابك الهوية مع التاريخ المضطرب، تبدو مقولة ديكارت غير كاملة. ففي مجتمعٍ لا تزال الحكايات والذاكرة الجماعية تسير كنبع لا ينضب، لا يمكن للإنسان أن يدعي وجوده فقط من خلال فكره، بل عبر ذاكرة تشكل الذات والوعي.

قال الفيلسوف العراقي هادي العلوي: الذات الحقيقية ليست ما نفكر فيه لحظة بل ما نحتفظ به من تجارب وتاريخ وموقف.

هذا يقودنا إلى فكرة أن الوجود ليس مجرد فعل تفكير، بل هو امتداد حي للتاريخ والذاكرة والاختبار. لذا فإن الذات لا تتبلور فقط في اللحظة الراهنة، بل عبر الزمن المستمر.

أما إيمانويل كانط، فذهب أبعد من ذلك حين أكد أن الفكر يحتاج إلى حس ليُنتج معرفة حقيقية. بمعنى آخر، التفكير ليس نشاطًا داخليًا منفصلاً، بل هو مرتبط بالتجربة الحسية والتفاعل مع العالم الخارجي.

وهذا ينقلنا إلى فكرة أن الوعي بالوجود يتطلب الانفتاح على العالم، والتفاعل معه، وليس العزلة الفكرية فقط.

كما أن فيلسوفنا العراقي عبد الجبار عبد الله، انتقد مفهوم الذات ككيان منفصل قائلًا: الفردية لا تتجلى في العزلة عن الآخر، بل في العلاقة مع الآخر؛ الذات لا وجود لها إلا في الحوار.

من هنا، نرى أن عبارة ديكارت رغم عظمتها، ليست محصنة من النقد، ولا تمثل إجابة نهائية عن السؤال الأزلي: ما هو الوجود؟

الجدير بالذكر أن هذه العبارة كانت حجر الأساس في تأسيس الحداثة الغربية، إذ فجرت قطيعة مع عالم العصور الوسطى الذي كانت فيه الحقيقة ترتبط بالخارج، بالخالق، وبالعادات، لتبدأ رحلة الفرد نحو بناء معرفته بنفسه.

لكن مع تقدم الفلسفة، ظهر أن الوعي بالذات لا ينفصل عن العالم والتاريخ. فالذات والوجود ليسا مجرد فعل فكري منفصل بل هما لحظة تاريخية وثقافية وعلاقة إنسانية.

وبذلك، نكون أمام رؤية أكثر ثراءً للوجود: الإنسان موجود ليس فقط لأنه يفكر، بل لأنه يتفاعل مع ذاته والآخرين، مع بيئته، مع تاريخه، ومع قيمه.

فالفكر هو نقطة انطلاق، لكنه ليس نهاية المطاف. وهنا تكمن معركة الوعي: هل نكتفي بأن نكون مجرد مفكرين منعزلين، أم نمد جذورنا في العالم، لنصبح ذوات متجذرة في التاريخ والواقع؟

لكن ماذا لو قلتُ لك: أنا أشعر، إذن أنا أعمق من مجرد وجود. فالوعي الفكري وحده لا يكفي لاحتضان عمق التجربة الإنسانية. فأنا أفكر تشير إلى نشاط ذهني مجرد، بينما أنا أشعر تغوص في بحر التجربة الحيّة التي تشكل ماهية الإنسان.

الفيلسوف الفرنسي ميشيل مرلو-بونتي، أحد أعظم فلاسفة الظاهراتية، يرى أن الوعي الجسدي والشعور ليسا مجرد نتاج التفكير، بل هما جوهر الوجود.

الإنسان ليس فقط كائنًا مفكرًا، بل هو جسد يشعر، يعاني، يفرح، يحب، ويعيش العالم عبر جسده وروحه.

ذلك الشعور هو ما يجعل الوجود حيًّا، متألقًا، ذا بعد إنساني لا يُختزل في مفاهيم مجردة.

وبعبارة أخرى، إن شعورنا بالوجود معناه أننا نحتضن اللحظة بكل أبعادها، لا الفكر فقط، بل العاطفة، الحواس، والانغماس في العالم.

هذا الشعور هو من يصنع معناها، وهو الذي يُكسر برودة التفكير الجامد.

كما يقول الفيلسوف العراقي الكبير عبد الوهاب البياتي:

الوجود لا يكتمل إلا حين يصاحبه نبض القلب وشعور الروح، فالألم والحب والغضب هي التي تمنح لحياتنا عمقًا، لا مجرد فكرة فارغة.

فهل نكتفي بأن نكون مفكرين، أم نريد أن نكون كائنات حية تنبض بكل أبعاد الإنسان؟

هذا هو التحدي الأكبر: أن نتحرر من القيد الضيق للفكر، لنعيش الوجود بكل ما فيه من حس وجسد وروح.

وفي النهاية، تبقى الحقيقة الكبرى التي تناقشها أعمق العقول:

الوجود لغزٌ لا يُفكُّ، وكلما اقتربنا منه، ازدادت تساؤلاتنا عُمقًا؛ فلا وجود بلا سؤال، ولا سؤال بلا وجود.

فهذه الجملة التي تختصر كل صراع الفكر الإنساني، تذكرنا بأننا في رحلة دائمة مع الوجود، لا نملك سوى أن نطرح الأسئلة بعمق، ونتأمل في ذاتنا وعالمنا بلا توقف.

سجاد مصطفى حمود

..............................

الهوامش:

1. ديكارت، رينيه. تأملات في الفلسفة الأولى. ترجمة محمد عبد الله دراز.

2. العلوي، هادي. من تاريخ التعذيب في الإسلام. دار المدى.

3. عبد الله، عبد الجبار. مقالات فلسفية. بغداد: دار الوراق.

4. كانط، إيمانويل. نقد العقل المحض. ترجمة محمد مندور.

5. مرلو-بونتي، ميشيل. الظاهراتية والوعي الجسدي. ترجمة دار المدى، 1998.

6. البياتي، عبد الوهاب. خواطر فلسفية وشعرية. بغداد: دار الشؤون الثقافية، 2003.

7. هيغل، جورج فيلهلم فريدريش. ظواهر الروح.

 

لعل من أبرز الملامح التي يمكن رصدها في المجتمع العراقي في الوقت الحاضر، هي احتضار (الثقافة) وانحسار (الوعي) ليس فقط بين جمهور (العامة) من شرائح المجتمع (المنمطة) فحسب، وإنما بين جمهور (الخاصة) من نخبه وعلية قومه (المؤدلجة) كذلك. ومن أهم علائم هذا الاحتضار وأبرز تمظهرات هذا الانحسار، هو استشراء ظاهرة عزوف (القارئ) بعد أن لمس كسوف (المقروء). حيث انطفأت لدى القارئ العراقي جذوة الحب (للقراءة) التي كان شغوفا"بها، وخبى لديه وهج البحث عن المعرفة التي كان حريصا"على حيازتها، وذلك بعد أن لمس تراجع وتقهقر القيمة العلمية والمعرفية (للمقروء)، وتدنى من ثمة مستوى التحليل والتأويل والتأصيل للقضايا والمسائل الملحة التي كانت ولا تزال تؤرق الإنسان العراقي وتقض مضاجعه، سواء أكان ذلك على صعيد (الجغرافيا)، أم على صعيد (التاريخ)، أم على صعيد (السياسة)، أم على صعيد (الاقتصاد)، أم على صعيد (الدين)، أم على صعيد (الأخلاق)، أم على صعيد (الحضارة).

ولما كان ازدهار (الثقافات) ورقيّ (المعارف) مقترنا"بشكل عضوي بعوامل التحرر والتغير والتطور، فإن العدول عن مسايرة وملاحقة هذا السيل الهادر من التحولات العاصفة والانزياحات الجذرية، ومن ثم الإبقاء على ذات الإيقاع المكرر والرتيب من التعاطي مع الأحداث السياسية الساخنة والوقائع الاجتماعية الصادمة والانعطافات التاريخية الحادة، لابد وأن ينعكس سلبا"على حالة (الثقافة) العامة للمجتمع، مثلما على نمط تفكيره ومستوى وعيه. ولهذا فليس من المستغرب أن نشهد ظاهرة (العزوف) الجماعي للعراقيين عن ممارسة القراءة الجادة، والإقلاع عن تتبع كل ما يصدر من جديد في مجالات العلم والفكر والثقافة والآداب بالمعنى التنويري والإنساني، وليس بالمعنى التقليدي والتراثي كما هو سائد الآن.

فبعدما كانت في السابق صيغة القول الشائع ؛ ان المصري يؤلف واللبناني يطبع والعراقي يقرئ، تحايث الواقع وتلامس الحقيقة أضحت اليوم تلك الصيغة بعيدة عن الأول ونائية عن الثانية. ليس فقط على خلفية الأوضاع السياسية الملتهبة، والظروف الاقتصادية الصعبة، والعلاقات الاجتماعية المضطربة، والتوجهات الإيديولوجية المتقلبة فحسب، بل وكذلك لما لحق بالثقافة من خراب وما أصاب المثقفين من يباب !. إذ رغم كثرة التأليف وغزارة النشر، لم يعد السرد الفكري والثقافي الذي تنتجه (الانتلجنسيا) العراقية، يعكس هموم الواقع الطافح بالمشاكل والفائض بالإشكاليات، مثلما لم يعد يعبر عما يجيش في رحم المجتمع الضاجّ بالتناقضات والصراعات. وإنما تحولت النصوص المقروءة – يستوي في ذلك الأكاديمي منها أو غير الأكاديمي - الى سرود (مكررة)، لا تحتوي مضامينها على أية أفكار جديدة أو تصورات مبتكرة، بقدر ما أدمنت عملية (الاجترار) لذات الإشكالات التي سبق وان كانت مطروحة على بساط البحث والنقاش من قبل.

والملاحظ على غالبية النصوص (المقروءة) التي أجادت بها قريحة (المثقفين) العراقيين، لاسيما تلك التي صدرت وتكاثرت بعد عام السقوط 2003م، والتي حملت مضامينها الرثة كل ما من شأنه (عزوف) القارئ العراقي عن متابعتها باهتمام ناهيك عن قراءتها بجدية. أنها تميّزت بمجموعة من السلبيات والمآخذ التي يمكن إيجاز أبرزها على النحو التالي:

أولا"- رغم ان معظم النصوص التي صدرت خلال هذه الفترة تمحورت حول قضايا المجتمع العراقي، التي لا يخفى على (القارئ) مدى خطورتها وحساسيتها بالنسبة لحياة المواطنين، إلاّ أنها تحاشت - قدر الإمكان - الاقتراب من الخلفيات التاريخية والمرجعيات الدينية لتلك القضايا الملتهبة، مثلما تجنبت الغوص في أعماق الظواهر السوسيولوجية والانثروبولوجية المتمخضة عنها على صعيد السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة، بحيث تركز همها حول كل ما أضحى مشاعا"من هموم ومعاناة ومكابدات.

ثانيا"- أن هذه النصوص حين تدرس ظاهرة من الظواهر الاجتماعية والإنسانية الطاغية في المجال السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو الديني أو الثقافي، لا تتناولها في إطار علاقاتها البنيوية وتفاعلاتها الجدلية مع بقية الظواهر الأخرى المحايثة لها والمتزامنة معها، بحيث تبدو كشبكة متعاضدة ومتخادمة على صعيد المعطيات والتأثيرات. كما أنها لا تأخذ بعين الاعتبار مجمل السياقات الجغرافية والتاريخية والاقتصادية والثقافية التي تسهم بتكوين تلك الظاهرة وتمنحها الخاصية النوعية التي تميّزها عن سواها.

ثالثا"- إذا ما صادف ووجد نص (شاذ) يخرج عن هذا النمط النسقي من الكتابة التقليدية، من حيث مراعاة تجنب الوقوع في مطب مثالب وعيوب الفقرتين الأولى والثانية، فإنه غالبا"ما يختار لمتنه حقبة تاريخية معينة (عثمانية، ملكية، جمهورية) يتحصن فيها ويتمترس خلفها دون أن يبدي أية جرأة على تخطي تخومها وتجاوز حدودها، والتي لم يكن ممكنا"للظاهرة موضوعة البحث فرصة للوجود ضد شروطها وخارج مجالها. أي انه يتعمد تجاهل خلفيات (الماضي) ويتغافل عن احتمالات (المستقبل)، بحيث تبدو الظاهرة المعنية كما لو أنها نبتة برية انبثقت الى الوجود الاجتماعي في غفلة من الزمن.

من هنا لم يعد أمام (القارئ) العراقي ما يغريه ويجعله متحمسا"في سيل النصوص المتهافتة، سوى أنها تعيد وتكرر عليه ما سبق له قراءته والاطلاع عليه في العشرات – إن لم تكن المئات – من المصادر الثقافية والإعلامية ووسائط التواصل الاجتماعي، التي باتت تعج بالكثير من (التحليلات) و(التأويلات) من كل صنف ونوع، دون أن تضيف الى رصيده الثقافي ومخزونه المعرفي ما يجعله أكثر إدراكا"وأكثر وعيا"!.

***

ثامر عباس – باحث عراقي

دور المساجد والكنائس في احتواء المفرج عنهم

تُمثل الوصمة الاجتماعية عبئًا نفسيًا ثقيلًا يُلازم المفرج عنهم بعد خروجهم من السجن، حيث لا تنتهي العقوبة بانتهاء مدة الحبس، بل تمتد إلى نظرات المجتمع وأحكامه القاسية. في خضم هذا الواقع، تبرز المساجد والكنائس كمساحات تحتضن الإنسان قبل تاريخه، وتمنحه فرصة للبدء من جديد.

تُوفّر دور العبادة بيئة روحية آمنة تساعد الفرد على التصالح مع ذاته، وعلى تجاوز مشاعر الذنب والعار الداخلي عبر التوبة والرجوع إلى الله أو إلى منظومة الإيمان. قال تعالى: "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعًا" [الزمر: 53]. وفي الإنجيل، يقول يسوع: "لم آتِ لأدعو أبرارًا، بل خطاة إلى التوبة" (لوقا 5: 32).

تُلعب الخطب الدينية والمواعظ دورًا توعويًا بالغ الأهمية، إذ تُذكّر الناس بقدسية التوبة وحق الإنسان في الفرصة الثانية، وتدعو إلى قبول التغيير والإصلاح. قال تعالى: "إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين" [البقرة: 222]. ويقول بولس الرسول: "إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة: الأشياء العتيقة قد مضت، هوذا الكل قد صار جديدًا" (2 كورنثوس 5: 17).

تُعزز المساجد والكنائس مفاهيم الكرامة والمساواة، وتُرسّخ أن لكل فرد حقًّا في بداية جديدة، بصرف النظر عن ماضيه. قال تعالى: "ولقد كرّمنا بني آدم" [الإسراء: 70]. وفي الكتاب المقدس: "لا يكن لكم في إيمان ربنا يسوع المسيح، رب المجد، محاباة" (يعقوب 2: 1).

تُصبح هذه الأماكن، في كثير من الأحيان، موئلًا اجتماعيًا بديلًا، حيث يجد المفرج عنهم دعمًا نفسيًا وشبكة علاقات جديدة تعينهم على تجاوز العزلة والإقصاء. قال تعالى: "وتعاونوا على البر والتقوى" [المائدة: 2]. وقال يسوع: "كنت غريبًا فآويتموني، مريضًا فزرتموني، سجينًا فجئتم إليّ" (متى 25: 36).

ولم تتوقف بعض دور العبادة عند الدور الوعظي فحسب، بل امتدت لتُقدّم مبادرات تأهيلية ومساعدات عملية تُسهم في إعادة بناء الحياة بعد السجن، سواء عبر التدريب المهني، أو التوجيه النفسي، أو تقديم الدعم المادي والمعنوي، ما يجعلها شريكًا فعليًا في عملية الإدماج.

حين تتبنى المساجد والكنائس خطابًا يواجه الصور النمطية، فإنها تُحدث أثرًا عميقًا في وعي الناس. فحين يرى المجتمع أن هذه المؤسسات تحتضن من سبق سجنه، يُعاد النظر في المواقف، ويُمنح الأفراد مساحة للعودة والاندماج دون خوف أو خجل.

إن التحول الذي يحصل في هوية المفرج عنه عند احتضانه دينيًا هو تحوّل حاسم؛ فهو لم يعد مجرد "سجين سابق"، بل بات "تائبًا" أو "عضوًا نافعًا في الجماعة"، ما يمنحه معنى جديدًا لهويته، ويُقلل من شعوره بأنه منبوذ أو مرفوض.

وتساعد هذه البيئة أيضًا في التخفيف من مشاعر الذنب والرفض الذاتي، حيث تُوجه الفرد إلى مسارات جديدة من الإصلاح والعمل الخيري، وتُحفّزه على تجاوز ماضيه من خلال أفعال إيجابية تُعيد إليه احترامه لذاته وثقة الآخرين به. قال تعالى: "إن الحسنات يُذهبن السيئات" [هود: 114].

في النهاية، تُثبت المساجد والكنائس أنها ليست فقط مؤسسات دينية، بل حواضن مجتمعية قادرة على لعب دور فاعل في تضميد جراح العار الداخلي وتفكيك الوصمة الاجتماعية. ومن خلال جمعها بين الإيمان والعمل، تفتح أبوابًا كانت موصدة، وتُعيد للأفراد حقهم في الانتماء. وكما قال المسيح: "من كان منكم بلا خطيئة فليرمها أولًا بحجر" (يوحنا 8: 7).

***

أ.د. هاني جرجس عياد

دأب معظم مؤرخي الحضارات القديمة من الغربيين على إبراز عظمة الحضارتين الإغريقية والرومانية في ميادين الفلسفة والقانون والطب والفلك والرياضيات والجغرافيا والهندسة، وغير ذلك من العلوم والآداب، كما شددوا على تأثير هاتين الحضارتين في شعوب الشرق، غير أن هذه النظرة، المنبثقة عادةً من تعصب ثقافي للمركزية الغربية، سرعان ما تهاوت أمام الكشوفات التاريخية والآثارية التي أكدت أصالة الحضارات الشرقية، وفي مقدمتها حضارة العراق القديم، ولاسيما تلك الحضارة المزدهرة التي نشأت على أرض بابل . في دراسته المعنونة " برعوشا – بيروسُس حامل الفكر البابلي إلى العالم" يسلط الدكتور حسين الهنداوي، صاحب " الفلسفة البابلية "، الضوء على شخصية تحتل مكانة علمية استثنائية، هو المؤرخ وعالم الفلك والرياضيات الذي اشتهر عند الغربيين باسمه اللاتيني " بيروسُس".

يرى الهنداوي أن " برعوشا" هو الاسم الأقرب بالعربية إلى "بيروسُس" الذي اشتهر به في الغرب " نظراً إلى عدم عثورنا إلى الآن على وثيقة بابلية أو عربية أو شرقية قديمة تشير إلى اسمه الأصلي"، ويُرجَّح أن أصله باللغة الأكدية هو " بعل ريشو"، ويعني " يرعاه بعل "، ويقابله في العربية : مرعي، أو محفوظ، أو مبارك، أو محروس. ولهذا " المبارك المحروس" يعود الفضل في توثيق تاريخ العالم القديم بمنهج مبتكر "سرعان ما انتشر بشكل واسع لدى الكُتّاب اليونانيين والرومان"، لكن إنجازه الأهم كان في نظرياته الفلكية المبتكرة، والأكثر أهمية هو كتابه الموسوعي "بابلونيكا"، أي" التاريخ البابلي"، بأجزائه الثلاثة، حيث ابتدع فيه منهجاً جديداً لم يسبقه إليه المؤرخون، بمن فيهم هيرودوت، المؤرخ اليوناني الشهير الملقب بأبي التاريخ. فهذه الموسوعة التاريخية التي ألّفها برعوشا باللغة الإغريقية بين عامي 290 و 270 قبل الميلاد، تُعدّ مدوّنة شاملة للتاريخ البشري وحضاراته، تبدأ من بدء الخليقة وتنتهي بوفاة الإسكندر المقدوني في بابل عام 323 قبل الميلاد. وقد اعتمد برعوشا "على مصادر ونصوص مسمارية أصلية وموثقة تمكّن من الوصول إليها بفضل موقعه الخاص ككاهن بابلي مرموق"، بحسب تعبير الهنداوي.

***

د. طه جزّاع – كاتب أكاديمي

 

السحر الرمزي والطقوس الدينية في المجتمعات القديمة كانا مترابطين بشكل وثيق، استخدمت الرموز السحرية في الطقوس الدينية كوسيلة للتواصل مع الآلهة أو القوى الروحية، مما أعطى للطقوس عمقًا ومعنى، كانت الطقوس الدينية التي تتضمن عناصر سحرية، تهدف إلى إحداث تغييرات في العالم، مثل جلب الخصوبة أو الحماية من الأذى او انزال المطر، ساهمت هذه الرمزية في تعزيز الهوية الثقافية والدينية للمجتمعات القديمة، مما عزز من شعور الانتماء والتضامن، من خلال الطقوس تم نقل التعاليم والمعتقدات المتعلقة بها، مما ساعد في الحفاظ على الثقافة والتراث، كان للكهنة (السحرة) دورًا مهمًا في تعزيز الطقوس، حيث استخدموا السحر الرمزي لتنظيم سلطتهم الروحية وقيادة المجتمع بشكل عام، كان السحر الرمزي جزءًا لا يتجزأ من طقوسهم الدينية، مما أثر في تشكيل الممارسات الروحية والثقافية في المجتمعات الحالية.

الأدلة الاثرية والسحر الرمزي

الأدلة الأثرية تدعم العلاقة بين السحر الرمزي والطقوس القديمة وتشمل مجموعة متنوعة من المعالم والاكتشافات، حيث تم العثور على أدوات مثل الجرار المنقوشة أو التماثيل التي تحمل رموزًا دينية وسحرية، مما يشير إلى استخدامها في الطقوس السحرية، النقوش على المعابد أو الآثار التي تحتوي على رموز وكتابات توضح الممارسات السحرية والطقوس المرتبطة بها، تماثيل آلهة أو كهنة تحمل رموزًا سحرية، تُظهر دورها في الطقوس والعبادات، الأدلة في المقابر، مثل الطقوس الجنائزية والأدوات المدفونة، تشير إلى الممارسات السحرية كذلك تحتوي دلائل على الممارسات الطقسية، مثل مذابح أو أماكن للعبادة اوالرسوم الجدارية و القطع الفنية التي تُظهر مشاهد طقسية وسحرية تعكس أهميتها في الحياة اليومية والدينية، تشكل هذه الأدلة جزءًا من الفهم الأوسع للسحر الرمزي ودوره في الطقوس القديمة.

اشكال السحر الرمزي في السرديات التاريخية

السحر الرمزي في السرديات التاريخية يظهر بأشكال متعددة منها استخدام الرموز الثقافية مثل الأرقام، الألوان، والأشكال التي تحمل دلالات خاصة وتضمين قطع سحرية تعتمد على الرموز، تعكس الحجارة في السحر الرمزي التفاعل البشري مع العالم المحيط به، وتعبران عن الرغبة في التحكم بقوى تبدو خارجة عن السيطرة، بينما كانت الاحتفالات التي ترتبط بزراعة المحاصيل أو تغيير الفصول تعتمد على وجود شخصيات تمثل قوى سحرية، مثل السحرة أو الكهنة، الذين يستخدمون هذه الرموز لتحقيق أهداف معينة،  حيث تعتبر الممارسة رسائل من العالم الروحي، تتداخل هذه الأشكال في العديد من الثقافات وتساهم في تشكيل الهوية التاريخية لكل مجتمع، مما يجعلها وسيلة تعبير فعالة، لذا يُعتبر السحر الرمزي جزءًا من الطقوس التي تحول المعاني اليومية إلى تجارب روحية، مما يمنح المشاركين شعورًا بالاتصال بالكون أو بالأرواح، ويجعل الطقوس ذات أهمية في تجديد الروح الجماعية وخلق شعور بالانتماء والتواصل بين الأفراد، تتكامل السرديات التاريخية والطقوس من خلال إنشاء معاني أعمق وتجارب مشتركة تعزز الروابط الاجتماعية، كما يساهم تكرار الطقوس في الحفاظ على الثقافة والتقاليد.

تغير السرديات والطقوس

مع تغير المجتمعات، تتكيف السرديات والطقوس لتعكس القيم والمعتقدات الجديدة، الحروب والثورات تؤدي إلى تغييرات في السرديات، حيث يتم إعادة كتابة التاريخ بناءً على التجارب الجديدة، تتغير السرديات لتلبية حاجات الهوية الوطنية، مما يعكس الفخر أو الألم الجماعي يمكن أن تؤدي التفاعلات بين الثقافات المختلفة إلى تبادل العناصر السردية والطقوس، مما يخلق تنوعًا غنيًا، تؤدي الأزمات إلى إعادة التفكير في السرديات والطقوس، مما يساعد المجتمعات على التكيف مع التحديات الجديدة، ان تغير السرديات والطقوس بمرور الزمن يعكس ديناميكية الثقافة البشرية وقدرتها على التكيف مع الظروف المتغيرة.

إعادة تفسير الرموز

مع التغيرات الاجتماعية والسياسية يعاد تفسير الرموز التي تؤثر في فعالية السحر الرمزي على الواقع الموضوعي للمجتمعات، مما يعكس ديناميكية العلاقة بين الثقافة والسلوك الاجتماعي، امتدت فعالية السحر الرمزي في السرديات التاريخية حيث كانت تُستخدم كوسيلة للتعبير عن الانتقام أو العدالة،  في المجتمعات البدائية، اعتُبر السحر الرمزي وسيلة للتعامل مع الظلم أو الأذى، حيث كان يُعتقد أن استخدام الرموز يمكن أن يؤثر على المعتدي، كانت هذه الممارسات تُعطي الأفراد شعورًا بالتحكم والقدرة على استعادة العدالة المفقودة، غالبًا ما تتضمن السرديات شخصيات أسطورية أو أبطال يستخدمون السحر الرمزي كوسيلة للانتقام، مما يعزز من قيمة هذه الممارسات في المخيلة الجماعية، اذ أصبحت جزءًا من التراث والذاكرة الجماعية، امتدت هذه الفعالية إلى الثقافات اللاحقة، حيث استمر استخدام الرموز كوسيلة للتعبير عن الانتقام، لعب السحر الرمزي دورًا هامًا في السرديات التاريخية في المجتمعات البدائية، وما زال تأثيره ظاهرًا في الثقافات المعاصرة من خلال إعادة تفسير الرموز والممارسات المرتبطة بها.

الطابع الشكلي للسحر الرمزي

يمكن أن يُنظر إلى بعض الممارسات الطقسية وكأنها نوع من السحر الرمزي، اذ تحمل طابعًا شكليا لا يشير الى أي تأثيرات موضوعية رغم انها تعتمد على السياق الشخصي والاجتماعي والديني. في بعض طقوس السحر الرمزي رغم أن الطقس قد يبدو شكليًا، إلا أنه يحمل معاني روحية عميقة تتعلق بالمواجهة مع الشر وان فعاليته تتأثر بالنية والاختيار الشخصي، مما يجعلها تجربة فريدة لكل مؤمن لذا يمكن أن يؤدي الطقس إلى تغييرات إيجابية في السلوك والأخلاق، وهذا ما يجب ان ينعكس كتأثير موضوعيي يعزز الطقس ويزيد من الترابط الاجتماعي بين المؤمنين به، وقد يؤثر ايجابيا على المجتمع ككل، ويزيد من فعالية الطقس والتأمل في معانيه، مما يجعله أكثر من مجرد ممارسة شكلية و يحمل تأثيرات موضوعية تتعلق بالمعاني الروحية والاجتماعية، رغم ان هذا التأثير يعتمد على السياق الشخصي والاجتماعي، ويحوله الى تجربة متعددة الأبعاد.

التأثير الشخصي ذاتي وغير قابل للقياس الموضوعي

التأثير الشخصي يظل ذاتيًا وغير قابل للقياس الموضوعي بشكل كامل. تختلف تجارب الأفراد في فهم التأثير الشخصي، مما يجعله ذاتيا، الطقوس بطبيعتها تعتمد على النية والمشاعر الفردية، وهي أمور يصعب قياسها موضوعيًا اذ لا توجد معايير موحدة لقياس تأثيرات الطقوس موضوعيا، السياق الاجتماعي والثقافي يؤكد تجربة الأفراد للطقس و تأثيراتها القيمية وهو أمر صعب قياسه، كل فرد يأتي إلى الطقس بخلفية وتجارب سابقة، مما يؤثر على كيفية تفاعله مع الطقس لذا يصعب قياس التأثيرات الروحية أو الأخلاقية بشكل دقيق، حيث يعتمد الطقس على مشاعر وأفكار فردية بينما يمكن أن يؤدي الى تأثيرات موضوعية على السلوك والمجتمع رغم ذلك تبقى التجربة الشخصية ذاتية وغير قابلة للقياس الموضوعي بشكل كامل هذا يعكس تعقيد العلاقة بين الممارسات الروحية والتأثيرات الموضوعية.

التأثيرات الاجتماعية الموضوعية للطقس

يمكن دراسة التأثيرات الاجتماعية الموضوعية للطقوس مثلا من خلال مجموعة من الأساليب البحثية المنهجية ودراسة كيفية تأثير الطقوس المشابهة في ثقافات مختلفة على السلوك الاجتماعي مقارنة بتأثيرات طقس معين عبر الزمن. في نفس الثقافة يمكن استخدام مناهج من علم الاجتماع والأنثروبولوجيا والدراسات الدينية لفهم التأثيرات بشكل شامل، من خلال التعاون مع المجتمعات لفهم السياقات الثقافية والاجتماعية المحيطة بالطقوس كما يمكن استخدام هذه الأساليب لدراسة التأثيرات الاجتماعية الموضوعية للطقوس، مما يوفر رؤى شاملة حول تأثيرها على الأفراد والمجتمعات، رغم ذلك لا يوجد تكامل بين الأداء الطقسي والتأثير الموضوعي على السلوك الاجتماعي المتوازن لدى الكثير من شعوب الشرق اوسطية ونلاحظ انها متخلفة في سلم الحضارة الانسانية نتيجة الفعالية الشكلية للطقوس والسحر الرمزي في الممارسات الدينية.

***

غالب مسعود – باحث عراقي

اشتهرت عن أفلاطون(قبل الميلاد) نظريتُه في حاكميَّة الفلاسفة؛ والبحث عن العدالة المطلقة، مرجعها جمهوريته، ظهرت عند أبي نصر الفارابيّ(تـ: 339هج) في «آراء أهل المدينة الفاضلة»- كتب الفارابي فلسفته بالعربيّة- وفي «دولة إخوان الصّفاء»، الواردة في رسائلهم(الرّابع الهجريّ).

نجد ثمة صِلة بين الجمهوريات المثاليّة والمدن الفاضلة، وولاية الفقهاء المطلقة. فالفقيه الحاكم كالفيلسوف الحاكم، الذي وضعه أفلاطون على رأس الشَّعب؛ وأفلاطون، الذي كان أصل هذه المثاليات، ومنها الحاكميَّة الدِّينيَّة، كان يتكلم «عن نقاء ليس مِن هذا العالم، وليس مِن خارج هذا العالم، لا هو في الزَّمان، ولا هو في الأبديّة»(طرابيشي، معجم الفلاسفة)؛ وقيل: «ما نطق أفلاطون بحرف إلا صار كبيراً، وما قال شيئاً إلا واستحال صغيراً... وحسبنا أنْ نقتطع منه بعض العبارات، حتَّى نجعل منه مسيحياً»(أغوسطينوس/ المصدر نفسه). فليس أشهر مِن «الحب الأفلاطونيّ» لكنه بالمثال فقط، فكل ما قاله أفلاطون، ويتصل بنظريته «المثل»، أو «النّماذج»، ليست واقعاً.

يكون الفيلسوف في جمهورية أفلاطون أو المدينة الفاضلة هو الحاكم، ينقل الفارابيّ قائلاً: «يعهد إلى هؤلاء الفلاسفة بالوظائف الحربيَّة والإداريّة إلى سن الخمسين؛ فالذين امتازوا في النّظر يُرقّون إلى مرتبة الحُكام، ويدعون الحُراس الكاملين؛ بأمثالهم تصلح حال المدينة، لأنَّ الفيلسوف وحده يعلم الخير، ويريده إرادة صادقة، هو وحده يتصور القوانين العادلة، تصوراً علمياً...»(الفارابيّ، الجمع بين رأيي الحكيمين).

يضع الفارابيّ اثنتي عشر خصلة سماها «خِصال رئيس المدينة الفاضلة»، وهي ما يقابلها باكتمال الشّرائط في الفقيه، أو مّن يُدير الحاكميّة نيابة عن الله، وهذه الخصال لا تكتمل إلا بالفلاسفة، وعند الفقهاء إلا بالفقهاء؛ وهو حسب الفارابي: «رئيس المعمورة مِن الأرض كلها»، والولي الفقيه أو الحاكميّة الدينيَّة غير محصورة ببلد مِن البلدان، بل الأرض كافة، لأنَّ الأرض مُلك الله، وهو وكيل الله؛ كذلك كان حاكم المدينة الفاضلة. فهذا ولي المدينة وهي الأرض، وذاك يُعرف بولي المسلمين، حيث وجدوا.

مِن خصال حاكم المدينة الفاضلة: جيد الفهم والتّصور، جيد الفطنة، كبير النّفس، محباً للعدل لجوجاً في طلبه، مبغضاً للذات الكائنة، قوي العزيمة، محباً للتعليم، تسمو نفسه إلى الأرفع؛ بمعنى إنسان كامل معصوم؛ عالماً حافظاً للشرائع والسّنن، له قوة إرشاد. لكنَّ الفارابي الفيلسوف لا تفوته الواقعيّة، فيقول: «واجتماع هذه كلُّها في إنسان واحد عَسر، فلذلك لا يوجد مَن فُطر على هذه الفِطرة، إلا الواحد بعد الواحد»(الفاربيّ، آراء أهل المدينة الفاضلة).

بما أنَّ الفارابيّ تأثر بأفلاطون، واقتبس أحوال جمهوريته، فهو السّابق على القائلين بولاية الفقهاء، والحاكميَّة، لأنه القول نفسه بولاية الفلاسفة.

أما عن الخصال المطلوبة بالفقهاء الأولياء فهي ثمانٍ، بينها: العقل الكامل، والتدبير والإدارة، والأعلمية بالاجتهاد، ولا يكون طماعاً، ويكون كريماً، إلى جانب الإسلام والإيمان، والعدالة(الشّيخ كديفر، نظريات الحُكم في الفقه الشّيعيّ).

غير أنَّ المختلف بين الفلاسفة المنشئين للنظرية، والفقهاء المقتبسين، أنَّ الفارابيّ، وقبله أفلاطون، حدد التعليم والفلسفة أساساً، بينما حددها الفقهاء بالإلوهيّة (الحاكمية) والنّيابة عن الإمام(الولي الفقيه)، والاثنان نواب عن الله؛ فالله هو المشرع والحاكم، وما الفقهاء إلا نوابه على الأرض. أما الفلاسفة فحددوها بأنفسهم وأخلاقهم، ليسوا نواباً عن الآلهه. كانت مثالية أفلاطون هي الأصل؛ ومثلما ورد، أنه تحدث عن نقاء ليس مِن هذا العالم، وليس مِن خارجه؛ تنظير لا واقع له. فعلى عظمته، ورّط أفلاطون البشريّة بمثاليات لا حدود لها، كلها تهون؛ إلا مثاليته في السِّياسة وإدارة الدَّولة، فهذه قاصمةٌ.

أما ما تعلق بمثالية «العشق»، فعبّر عنها ابن حزم الظَّاهريّ(تـ: 456هـ) بمثالية المشاعر الحالمة، وهو الفقيه المعروف: «فيا لكَ جارَ الجنبِ أسمعُ حسَه/ وأعلمُ أنَّ الصِّينَ أدنى وأقربُ/ كصادٍ يرى ماءَ الطَّويَّ بعينهِ/ وليس إليه مِن سبيلٍ يُسَبَّبُ»(طوق الحمامة).

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

في ذلك "الحي" الذي يقع في وسط تلك المدينة التي طافت بها العديد من الفتن والثورات، والتي ما زال القلق يجيش في نفوس الكثير من قاطنيها، وفي أفئدة الكثير منهم ينساب اليأس، هذه المدينة الساحرة، الفاتنة، الحلوة التقاطيع، لم تحظ في الحق "بوالي" أو "حاكم"، يؤثر التقشف في مأكله، وملبسه، وركوبه، حاكم يخرجها من معاطن الكرب التي أناخت الوحشة فيها، إلى رحاب الدعة، والرقي والتقدم، فكل من شمخ عليها بقامته، خياله قد قصر عن ادراك خيراتها التي هالته كثرتها، فيتلهى ببعض هذه المنن، ويتنعم بها، وينسى المدينة التي لا ينكر منظرها المزري، وزيها القاتم، ومحياها العابس الشتيم، الذي هو إلى الكآبة والعبوس، أدنى منه إلى الاشراق والابتسام.

وفي ذلك "الحي" العريق الذي ترعرنا فيه، والذي يذوب رقة ويمتلئ حنانا، "صقعنا" الذي خلى من أبنية شاهقة، وطرقاً ممهدة،   كانت هناك عادات راسخة لا تنحرف عنها نساء ذلك الصقع، مهما كانت الظروف، وقسوة الأيام، تلك الكوكبة من النساء اللائي اتفقن في تصورهم للأشياء، وتفكيرهم فيها، وحكمهم عليها، وتقديرهم لها، كن يحرصن على تلك العادات، التي وجدنا أنفسنا في صبانا مولهين، مدلهين، مفتونين بها، ومن تلك العادات التي كنا نكلف بها أشد الكلف، حرصهن على نظافة المنطقة، في الأعياد والمناسبات، وأن يصلحن واجهاتها، وميادينها ما أستطعن أن يصلحن، ويتركن محافلها، وطرقها، وأقاريزها، على حالة من الكمال، ومن العادات الموروثة، والتقاليد المغروسة، أن يسندن ظهورهن إلى الحائط، ويطلقن الزغاريد الداوية المجلجلة، كلما طغت الأحاسيس، والتهبت المشاعر، بحشود الجيش الذي يسير في صفوف منتظمة، وخطوات متماسة، تنتظم في مسارها كما ينتظم العقد، وتنسجم في خطواتها كما تنسجم الموسيقى، هذه الحشود التي نتظرها في حرقة ولهفة، تترى في الأعياد الوطنية، وفي كل مناسبة يصون فيها الجيش كرامة أمته، ويجعلها راضية مطمئنة، ومن العادات التي هيأتها خصائص الدين، وحددتها قيمه، أن ترافق البنت أخاها لأداء صلاة التراويح في رمضان، وأن يحتدم الجدل إلى حد كبير، في المنزل الذي سوف تقام فيه خبائز العيد، فالنقاش العاصف الذي يدور بين نساء "الحي" قبل أن يتفقن وتسود السكينة، يعد من "الأوبرات" الرائعة التي لا تنساها ذاكرتي.

ونساء تلك الناحية، الخيط الناظم الذي يجمع بينهن، حرصهن على عدم الوقوع فيما تخافه "الحرة" وتتحاشاه، فالمرأة الأصيلة التي تخضع لضروب من النظم والأعراف التي تواضع عليها الناس، تشعر دوماً بحاجتها إلى الاكبار والاجلال، لأجل ذلك تنأى بنفسها عن كل سبب يجعل اسمها يروج في سوق الأقاويل، وأسهمها تتصاعد في بنك الشائعات، ونساء ذلك "الحي" الفقير المجدب، كنا يتهالكن على الطهر والنقاء، ولو تمثل العفاف في وجهوههن لكان في نضرتهن، وبشاشتهن، التي خضعت للفضيلة واطمأنت إليها.

 ورجال الدائرة الذين طغت على عواطفهم، ملامح الرفق بي، والاشفاق عليّ، لأني فقدت أبي وأنا حدث صغير، ليس من المبالغة أن أقول، أن الصوفية التي ملكت عليهم أمرهم، و آمنوا بها ايماناً شديداً، هي التي حملتهم على الايثار، والانصراف عن المنفعة، هذه الجمهرة التي لم تجتهد في أن توفق بين ايمانها بالتصوف، وبين عقلها، تتهافت على أصحاب التأثير الطاغي، والروح القوية، والنفس الطموحة، والقلب الكبير، الرموز الدينية، وأصحاب الكرامات والمعجزات، في كل يوم اثنين وخميس، ليرددوا في عنف وخفة، تلك "المدائح النبوية" التي تستعذبها النفس، ويستسيغها الوجدان، هذه القصائد الجياد التي لم تفقد طلاوتها، وسحرها القديم، باتت مهبط الوحي للأجيال التي جاءت من بعدهم، لأنها دنت من الكمال، وبلغت من الدقة والإجادة حداً كبيرا،  وفي ضحى كل يوم جمعة، يرتدي من لا تضمر مهجهم شيئا، ثيابهم الرثة، وأسمالهم البالية، التي تنم عن عوزهم، وفقرهم المدقع، ويقصدوا مسجد المدينة العتيق، ذلك المسجد الذي لم تكن فيه تلك "القبة الباذخة" التي تنيف الآن على جميع مباني السوق، والتي تبدو وكأنها مغضبة حانقة، لأن اطلالتها غير يسيرة عليها، ولا محببة إليها. فهي تطل على بقاع نصب فيها الشيطان راياته، وأبليس الذي حصّن شباكه وفخاخه، جعل رهط كبير من قاطني ذلك "الحي" وتلك المدينة، لا يقوون على الهرب، ففريضة الصلاة التي لا تحول عن أدائها عقبة، ولا يسوغ في تركها معذرة، انصرفت عنها تلك الجموع التي حفلت حياتها بألوان الخلاعة، والتهتك، والمجون، فهذه الناجمة التي تؤمن بحقوق السماء عليها، تؤمن أيضاً بأن تنال حقوقها كاملة غير منقوصة من الشهوات، وأن تهيم بها، وتضع نعلها أمام بابها، هذه الجماعات التي أغرقت نفسها في الأفعال التي تنكرها السلائق والشيم، فهمت حقوقها فهماً بسيطاً ساذجاً، دفعها لأن تؤلف بين متناقضاتها، وتوفق بين متبايناتها، فهي تحب الخمر، وتطرب لشربها، ولا تصدف عن "نٌظم الصوفية" التي لا ندري متى نمى عشقهم لهذه النٌظم، ولكننا نعلم أن شغفهم بها قد اضمحل، ولكنه لم يأخذ سبيله إلى الجفوة والاندثار، فهذه الفئات التي مزقت الصهباء حجاب أسرارها، هناك الكثير من الشواهد التي تؤكد هيامها بهذه "النٌظم" التي ما زالت تظهر لها الود، خاصة في تلك الأماكن التي ينشد الناس فيها الحركة، ويتبرموا بالسكون، كالموالد، والحوليات، ففي هذه المناسبات، نجد هذه الثلة ثلهث من شدة النصب، ويجبرها "الطار"، و"الكاس"، و"الدفوف"، ألا تمس قدماها الأرض. هذه النزعة الصوفية التي تندب اقبال تلك الفئات على الحياة، وغفلتها عن الآخرة، تؤكد بأسلوب سهل يسير، أن هذه الزمرة ليست أبعد الناس منها، ولكن الرذائل، وقذر العادات، أوهت فيها اشعاعها وقبسها.

  هذا "الفريق" الذي لم استقصى بعد آثاره ومشاهده، والذي أدركت بتقدم السن، وتحول الأيام، أن مُثله العليا التي ما زالت تغدق عليّ في سعة وسخاء، لولا ارتهاني لهذه المٌثل، لعشت عيشة الهمل السوائم، فأنا لو أرغمت نفسي لشيء من التحليل الدقيق الذي يظهر خفاياها، ويجلي ما كمن فيها من عاطفة وشعور، لحملني ذلك التحليل على الدهشة والذهول، ففلسفة ذلك "الحي" التي تغلغلت أصولها في دواخلي منذ أمد طويل، هي التي قادتني لأن أعيش هادئاً قانعاً من الحياة بما قسم لي، هذه الفلسفة هي التي قدمت إليّ شاحبة ممتقعة، وقد لاحت عليها آثار الجهد والتعب، وأنا في تلك الجزر النائية القصية، لتعصمني من الخطايا والذلل، ولتصفي ذهني من شوائب هذه الثقافة الدخيلة،  ولتسكب في دواخلي مضاء العزم، وحدة الذهن، وصفاء الملكة، حتى أحقق ما كنت أرجوه من التحصيل الأكاديمي، أنا حقيقة ممتن لهذه الفلسفة، وشاكر لهذا "الحي" الذي جعل "المآثر" عندي قوية، منيعة، عزيزة الجانب.

***

د. الطيب النقر

"الصَّمتُ في مثل هذه الأزمنة الضّاجّة بالغوغائيّة خطابٌ عميقٌ لا يلتقطه سوى اللّواتي والّذين ربّاهم الصّمت الكبير بما هو إقامةٌ في شسوع ما لا ينقال. إنّه صمتُ المتصوّفة الّذين فاض من قلوبهم كلام العالم وشغف الآخر. وهو صمت كبار الجرحى الّذين نزلت بهم سراديب الألم إلى قاع الوجود وقاع الزّمن. وهو أيضاً صمتُ كبار المغرمين الّذين اختطفهم بهاء المحبوب فباتوا ما وراء اللُّغة وما وراء اللّسان. لذلك ميّز رهبان معابد التبت بين مئة نوعٍ من الصّمت، وجعلوا لكلّ نوعٍ راهباً موكلاً به". (محمد الشركي)

أجدني مشدودا مندهشا من فارعة العنوان الذي كلل به شاعر الأغوار المغربي الكبير محمد الشركي، هذه الأمثولة الممسكة بعين الروح، وهي تصطلي كنه خلاصنا من وحشة الحياة وعزلتها.. ولهذا، فليسمح لي بملء جرتي من بعض احتراقاته وتأوهاته..

يبلغ ضجيج العالم وصياح الفزع منتهاه، وتنثني الجلبة في انعطافة البؤس القيمي، والتردي الأخلاقي، فلا تجد حكمة صغيرة تنقدك من عسف الغاب الموحشة، ولا قاربا تنط من أحشائه للنجاة. فتلك جائفة قميئة وعلة تشق على الشاهد وتسقط صحة الأبدان والعقول على السواء.

هل تعود البشرية إلى بداياتها الأولى، تنتكأ خطاياها وتجير مثالبها من عظم السقوط وقساوة القرح، ثم تروم إلى فطرتها التي نشأت عليها، وتغلفت بمياسمها، غير ضارة ولا مؤلمة؟

ذلك مبغى هذا الوجود الطامح في أنفس حكمائنا الأخيرين، ممن يحصنون في آخر معاقل الدنيا مواقعنا المهزوزة، بتعزيزات المناعة والحيطة والحرز والتوق إلى السلام والمحبة والرضا.

هذا الصمت، إن كان يعلو على ما يبرر معقوليته، لا يكون مثالا للاقتداء، ولا يحذو رغبة الكائن في الانتصاب ضده، إذ الصمت عن الكلام، يجيب عن محتد المؤامرة والارتقاء بالواقع والاعتبار لوجوده كمعيش لا محيد عنه ولا هروب. فما بالك بالصامتين، من أهل الثقافة والعلم والحكمة. هؤلاء أجدر بالاحتجاج والمناهضة والتعبئة والتحدي والمناكفة وتدبير الأزمة والمنافحة عن الحق، حتى الرمق الأخير؟.

أليس من صفات الصامتين، "فَقْد الصَّوت النَّاشئ عن علَّة في الأوتار الصَّوتيَّة"، بلغة الطب، فهو مرض يستدرج كرها لإعاقة القيام بأمر اعتيادي من قبل الجسد، وفيه أوتار دماغية وعصبية تأمر وتوجه وتؤشر، فيصير الطوع قياسا على ميزاب الوقت وطاقته وظروف تصريفه. كذلك الصمت، هو فعل أو حتى " جذب صوفي غامض وأنه عجز للعظمة الهاجمة"، سرعان ما تنحصر ارتداداتها في الهوامش أو الثغور الهشة للمجتمع. وبغض النظر عما سبق تأويله عند فلاسفة الوضعية المنطقية، خصوصا عند توماس كون وكارل بوبر، على اعتبار تركيزها على مبدئية التمييز بين العلم واللاعلم، بين المعنى واللامعنى، فإن النظر ذاك، يلتقي في تأويل إمكانات تطويع اللغة الكلامية، وجعلها أكثر تأثيرا من أي لغة أخرى (كلغة الصمت)، وهو ما كرسه لودفيغ فيتغنشتاين في قولته الشهيرة، في كون " "اللغة هي طريقة لـ"تصوير" العالم في أذهاننا؛ أي أنها تعطينا صورا عن العالم الحقيقي، وهذه الصور هي نموذجنا الذي نعرفه عن الواقع، وبذلك تتعلق كلماتنا بحقائق".

أليس من تابع هذه الشذرة العميقة، أن يبدو الصمت كما لو أنه منذور للمعرفة، ومبذول لإدراك وجه الحقيقة عاريا، كما ثنائية الاتصال والوجود، بما هما قيمتان خالصتان للإنسانية والوعي بالتمدن والعقلانية؟ إذ يقوم الصمت في أكثر من واجهة واعتبار أخطر من مجرد "غياب الكلام" أو "حشوه" أو "شرطيته"، حيث تصير النهايات أو العدمية وعاء وخاصرة للنفوق والظلام.

قرأت جوهرة فريدة لألبرت إنشتاين، يقول فيها :" الكون مثل غابات يسودها الصمت، وهي مدعاة للتأمل العميق، ولكنك تخشى منها في ظل عتمة ذلك الصمت الهائل، ولكنك تفزع عندما يكسر الصمت بحركة أو رشقة أو رنين أو حفيف أو فرقعة عظيمة، تحدثها ظروف غامضة. إن التهيؤات لا شكل لها بتأثير كثافة التشيؤات. ولكن الأمور تبدو طبيعية عندما يعلن الصمت عن تعبيره بأشكال مستنيرة، فتتوالد أشياء جديدة لم نألفها".

هل تبلغ مهاوي الصمت وصلواته المهيبة، لغات العالم الجديد، المقصوف بالثرثرة والتكرار والتلعثم والمقايضة والتعويم والخسة، دونا عن إفراغ مآلاتنا الضبابية المهدورة في جنح الفراغ والعزلة وانطفاء الجذوة، حتى يصير الهمس والهسهسة والرجم بالغيب وتفريغ الانفعالات شكلا من أشكال "الإباحة" و"إنتاج التفكير" و"تبرير الضوضائية" و"عبثية الخرق"؟

وهل تصمد إنسيتنا المنكشفة على كل سرديات الكذب وتشويه الحقائق، والإفراط في تجميل القبائح، في مواجهة المعتركات التكنولوجية الرقمية الجديدة، المكرسة للصخب والحركة الزائدتين الغارقتين في التغريب والتنميط وتهشيم الهويات؟.

ذلك هو لب التفكير ومصير فهم جدوى الصمت وفلسفته.

***

د. مصطفى غَلــــمَــان

ملخص: في ظل التحولات المتسارعة التي يشهدها الفضاء الرقمي، باتت الصفحات الإلكترونية الوهمية أداةً مركزية في بث الانقسامات داخل المجتمعات العربية. إذ تستخدم أطراف متعددة هذه الصفحات لزرع خطاب الكراهية وتأجيج النعرات الطائفية والمذهبية والثقافية. تهدف هذه الدراسة إلى تحليل الظاهرة من منظور سوسيولوجي وإعلامي، مبيّنةً آليات عمل هذه الصفحات، والجهات التي تقف وراءها، وآثارها على الهوية العربية الجامعة، ومقترحةً مجموعة من السبل الممكنة لمواجهتها.

مقدمة

في عالم تتسارع فيه حركة المعلومات بما يفوق حركة الجيوش، وتتبدل فيه جبهات الصراع من الميدان إلى الشاشات، أصبح الفضاء الرقمي منصةً لحروب ناعمة لكن عميقة التأثير. من أبرز تجليات هذه الحروب ظهور ما يُعرف بالصفحات الإلكترونية الوهمية، التي تستهدف الشعوب العربية بخطاب يستبطن الكراهية ويعيد إنتاج الانقسام الثقافي والطائفي، ضمن ما يُعرف بحروب الجيل الرابع. فما طبيعة هذه الصفحات؟ وكيف تؤثر على النسيج الاجتماعي العربي؟

أولاً: تعريف الظاهرة وآليات عملها

الصفحات الوهمية هي حسابات أو مواقع إلكترونية تُدار من قبل أفراد أو جماعات أو أجهزة، غالبًا ما تتخفى خلف هويات زائفة تدّعي تمثيل مكوّن اجتماعي أو ثقافي أو ديني معيّن. تُستخدم هذه الصفحات لنشر محتوى موجّه، يتم تصميمه بعناية اعتمادًا على تقنيات تحليل البيانات وخوارزميات الذكاء الاصطناعي، بغرض التأثير في الوعي الجمعي وتحفيز ردود فعل انفعالية تؤدي إلى الانقسام الداخلي.

تشير تقارير متخصصة إلى أن هذه الصفحات:

تستخدم الهويات الزائفة لتعزيز مصداقيتها داخل فئة مستهدفة.

تعتمد على الخوارزميات لرصد سلوك المستخدمين وبث محتوى يستثير مشاعرهم وهوياتهم الهشة.

توظّف السرديات الطائفية والمقولات الأيديولوجية المشحونة لتأجيج التناقضات داخل المجتمع الواحد.

ثانيًا: تحولات الطائفية في الفضاء الرقمي

لم تعد الطائفية والمذهبية في العالم العربي مقتصرة على منابر دينية أو صراعات سياسية؛ بل أعيد إنتاجها رقمياً من خلال محتوى موجّه يخلط بين العاطفة والمعلومة، ويُعيد صياغة الآخر باعتباره تهديداً. وتُظهر الدراسات كيف تتحول المنشورات، الصور، والمقاطع المصورة إلى أدوات تنميطية تكرّس الكراهية وتُعمّق الفجوة بين مكوّنات المجتمع الواحد.

من الأمثلة على ذلك:

صفحات تدّعي التشيّع تهاجم رموز السنّة، والعكس بالعكس او طائفة مسيحية تهاجم أخرى.

.و أخرى تنتحل هوية "نخب ثقافية" لتمارس التنمّر على مكوّنات اجتماعية أو ثقافية تحت ستار "الاختلاف الثقافي".

حسابات مجهولة تُعيد تدوير مقاطع مُجتزأة من سياقها لتأكيد صورة نمطية أو إثارة الغضب الجماعي.

ثالثًا: الآثار الاجتماعية والسياسية المترتبة

تفكيك الهوية الجامعة: عبر تفريغ المفاهيم المركزية مثل العروبة أو الإسلام من معناها الجمعي وتحويلها إلى هويات متصارعة.

نزع الشرعية عن الرموز: من خلال التشكيك المستمر في المؤسسات الوطنية والدينية، وإعادة تشكيل صورتها بشكل سلبي.

إشعال النزاعات: إذ تنتقل الفتنة من الفضاء الرقمي إلى الشارع، فتظهر بوادر العنف السياسي أو الاجتماعي.

الانكفاء الثقافي: حيث يتقوقع كل فرد أو جماعة على هويته الضيقة، وتضمحل فرص الحوار أو التفاعل مع المختلف.

رابعًا: من يقف خلف هذه الظاهرة؟

لا يمكن حصر الجهات بدقة، إلا أن تقارير دولية وتحقيقات رقمية كشفت عن ضلوع أطراف متعددة، من بينها:أجهزة استخبارات أجنبية إسرائلبة وغربية تستخدم هذه الصفحات كجزء من استراتيجية التأثير غير المباشر.

جيوش إلكترونية مدفوعة الأجر تدير آلاف الحسابات لتوجيه الرأي العام.

شركات علاقات عامة مشبوهة تعمل على تنفيذ أجندات تمويلية وسياسية عبر التلاعب بالمحتوى الرقمي.

هذه الأطراف تعتمد على التمويل غير النظيف وتستثمر في الفوضى المعلوماتية لتمرير مصالحها.

خامسًا: نحو استجابة عربية جماعية

في ظل اتساع دائرة الاستهداف، أصبح من الضروري اعتماد استراتيجية متعددة الأبعاد لمواجهة الظاهرة:

التربية على المواطنة الرقمية: من خلال إدراج "محو الأمية الرقمية" في المناهج التعليمية، وتنمية مهارات التفكير النقدي لدى الأجيال الجديدة.

إنشاء مراكز رصد رقمية عربية موحدة: لتتبع الحسابات المشبوهة ومكافحة التضليل بصورة منسقة على مستوى إقليمي.

تطوير إعلام بديل: يتبنى خطابًا تنويريًا يعيد بناء الهوية العربية المشتركة، ويروّج لقيم التعددية والاختلاف.

سن تشريعات مرنة وفعالة: تجرّم الحسابات الوهمية التي تبث خطاب الكراهية، دون أن تقوّض حرية التعبير المشروعة.

إعادة بناء الهوية الرقمية العربية: من خلال مبادرات ثقافية وفنية وإعلامية تشاركية تُبرز ما يوحّد، لا ما يُفرّق.

خاتمة: الوعي كأداة للمقاومة

لسنا أمام معركة تكنولوجية فحسب، بل أمام صراع على معنى "الذات" في زمن اختلال المعايير. فالصفحات الوهمية ليست إلا مرآة مقلوبة، تعكس هشاشتنا كما تعكس تواطؤ بعض النخب. والخيار الآن بين الانزلاق إلى هاوية التشظي، أو بناء فضاء رقمي يعكس مشروعًا حضاريًا عربيًا جامعًا.

وكما قال إدوارد سعيد: "لا يمكن للهوية أن تُبنى على نفي الآخر"، فإن بناء المستقبل يبدأ من الاعتراف بإنسانية المختلف، ومن صيانة الوعي بوصفه السدّ الأخير في وجه حملات التفرقة.

***

مجيدة محمدي / تونس

......................

المراجع:مؤسسة راند RAND (2022). العمليات الرقمية للتأثير: التحديات والاستجابات.

غرافِيكا Graphika (2021). رسم خرائط لعمليات التأثير: فيسبوك، تويتر، وما بعدهما.

معهد الإنترنت بجامعة أكسفورد (2020). الجرد العالمي للتلاعب المنظّم عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

زوبوف، شوشانا (2019). عصر رأسمالية المراقبة: الصراع من أجل مستقبل الإنسان على جبهة القوة

مركز الجزيرة للدراسات (2023). الفتنة الرقمية وتأثيرها على المجتمعات العربي

هناك لحظةٌ فارقة في مسيرة المثقف، لحظة لا تعلن عن قدومها، بل تتسلل عبر الهزائم الصغيرة والانتصارات المؤجلة، عبر الصمت الذي يتكاثف مثل غبارٍ على نوافذ اللغة، حتى يجد نفسه أمام سؤالٍ لا فكاك منه: هل أنا جزءٌ من الفعل، أم مجرد شاهدٍ على هزيمته؟ هل لا زلت أكتب لأُحدث أثرًا، أم لأتأكد فقط من أنني ما زلت حيًّا؟

المثقف ليس حامل أفكار فقط، بل حاملٌ لقلقٍ لا يسكن، لوعيٍ يتقاطع مع الزمن لا داخله. لكنه في عصرٍ تحكمه الصورة وتُعيد إنتاجه القوة، يجد نفسه في مأزقٍ لا يشبه أزماته القديمة. لم يعُد السؤال: كيف نُغيّر العالم؟ بل أصبح: هل لا يزال العالم يقبل بفكرة التغيير أصلًا؟

كتب إدغار موران: “الفكر الذي لا يربط بين الأشياء لا يرى شيئًا.” وهنا تتجلى المعضلة: المثقف المعاصر يملك ناصية التفكيك، لكنه يعجز عن التكوين؛ يجيد التحليل، لكنه لا يملك خيالًا سياسيًا يعيد تشكيل الأفق. كلّما ازداد وعيه بالانسدادات، كلما ترسّخ في موقع “الواصف” لا “الفاعل”، وفي أحيانٍ كثيرة، يتحوّل النقد إلى طقس لغوي يُعيد إنتاج العجز بلغة أنيقة.

لقد تحوّل المثقف إلى كائنٍ بينيّ: يعيش على الحافة، بين المعرفة والفعل، بين التنظير والاشتهاء. وما يزيد المأساة هو أن هذا التيه لم يعد نتيجة قمع خارجي فقط، بل انزياح داخلي نحو “تأجيل الفعل” إلى أجلٍ غير مسمّى.

لم يكن المثقف دائمًا في هذا الموقع المهتز. في لحظات نادرة من التاريخ، شغل المثقف موقع “المسافة الحرجة” بين السلطة والجماهير. من سقراط الذي شرب السم لأن فكرته كانت أكثر خطرًا من سلاح، إلى أنطونيو غرامشي الذي كتب من الزنزانة ليصوغ مفهوم “الهيمنة” لا لينجو منها. لكن أين يقف المثقف اليوم؟

لقد أصبح ذاته مأزومًا، مهووسًا بتفكيك كل شيء حتى لم يَعُد يملك شيئًا يقف عليه. ما بعد الحداثة، في سعيها لتقويض المسلمات، جرّدت الفكر من أدواته للفعل. صار التفكيك غايةً لا مقدّمة، والاحتمال بديلاً للقرار، والوعي لعنةً تمارس نقدها على كل شيء بما في ذلك قدرتها على التغيير.

وفي قلب هذا الفراغ، نشأت طبقة من المثقفين المنمنمين: وجوه معتادة في المؤتمرات، مُحاضرون في قاعات بلا أبواب، يحلّلون انهيار العالم وكأنهم في نزهة. إلا أن بعضهم، مثل إدوارد سعيد، أدرك خطورة هذا الانزلاق، فكتب لا ليرضي الجمهور، بل ليخترق السقف الرمزي، ويحفر موقع الفعل وسط ضجيج التفسير. لكن الأغلبية غاصت في دوامة الأكاديميا، حيث تُنتج المعرفة كشكل من أشكال التزيين، لا المواجهة.

وفي هذا المشهد، لا يمكن تجاهل الجماهير. فليست الجماهير مجرد “متلقٍ بسيط”، بل فاعل متحوّل، صاخب، ساخر، يكتب تاريخه فور حدوثه. الشارع، البوست، اللافتة، واللايف، كلها أدوات خطابية أعادت تعريف من يحق له أن يتكلم.

الجماهير لا تنتظر أفلاطونًا جديدًا، بل ترقص على إيقاع وعيها الفوري. إنها لا تصف العالم بل تصرخ فيه، تُحطّمه وتعيد تركيبه في الوقت ذاته. والمثقف الذي لا يرى في ذلك طاقةً أو تهديدًا، هو مثقف يتحدث من الماضي.

لقد امتصت السلطة دور المثقف، لا بقمعه، بل بمنحه مساحةً تُشبه الحرية، لكنها في الحقيقة شكلٌ من الاحتواء الناعم. تُقدَّم له منابر وندوات وشهادات و”مقاعد مدفوعة”، ليقول ما يشاء، طالما لم يُحدث خلخلة حقيقية. لم تُسكت السلطة صوت المثقف، بل جعلته جزءًا من آلاتها الرمزية، شاهداً على خوائها لا على قدرته.

ومع ذلك، يبقى السؤال: هل لا يزال هناك متسعٌ للعمق في عالمٍ يُختزل إلى تغريدة؟ وهل يمكن للفكر النقدي أن يُعيد تشكيل الواقع، لا فقط أن يصفه؟ هل يمكن أن نعيد للفعل جذوته، لا كموقف ثوري لحظي، بل كوعيٍ قادر على الصمود في وجه التكييف الرمزي؟

الفاعلية لا تعني بالضرورة التحشيد ولا التجييش، بل تعني إعادة تشكيل الخيال. إذا لم يستطع المثقف إعادة إنتاج الأفق، فقد تخلّى عن دوره. وإذا اكتفى بموقع “المُفسّر” فهو يفسّر عجزه لا الواقع. فالجماهير، مهما بلغت قوتها، تحتاج إلى بصيرة. لا إلى معلم، بل إلى من يضيء العتمة دون أن يدّعي امتلاك المصباح.

وفي النهاية، ليس السؤال: هل على المثقف أن يكون فاعلًا؟ بل: هل بقي له ما يُقال لم يُستهلك بعد؟ هل بقي في الصوت ما يُفجّر المعنى، أم أن كل ما تبقّى هو صدى باهت؟ وهل لا يزال المثقف يملك أن يصرخ؟ أم أنه، ككل شيء آخر، صار مجرّد تعقيب على عرضٍ أُنجز سلفًا؟

المثقف لم ينته… لكنه فقد صوته في الزحام وهو يكتب على هامش مشهدٍ لا يعود إليه أحد.

***

إبراهيم برسي

 

ثقافة إحياء الفكر النقدي عند الطفل هي عملية تعني مساعدة الطفل كي ينمو عنده الفكر النقدي الأولي البسيط، وبنفس الوقت هي عبارة عن مهارة فعالة تساعد الطفل في مسيرته الحياتية.

الشيء المعتاد عند الطفل أنّه عبارة عن متلقي ليس إلاّ، إن كان في المنزل أو في المدرسة، بمعنى يُطلب منه أن يفعل هذا الشيء أو لا يفعل ذاك الشيء، ومن ثُمّ عليه التنفيذ.

الطفل يتعوّد على الحفظ، وما يُلقّنه إياه المُدرّس، أو ما يُلقّنه الأهل في المنزل.

كل هذه الخطوات التي تحدّثنا عنها هي النقيض الفعلي للفكر النقدي عند الطفل.

لذا علينا أن نعلّم الطفل منذ الصغر العديد من المهارات والعديد من الجوانب التي تتضمّن عنصر الإبداع والعمليات الذهنية عند الطفل.

كما علينا أن نعلّم الطفل كي يسأل حينما يُطلب منه تنفيذ هذا الشيء أم عدم تنفيذه، وأن يقول لماذا؟. وكيف؟ ومتى؟.

بمعنى أن نجعله يتعوّد على تحليل بسيط لما هو بين يديه، وأن نشجعه كي يرفض أحياناً.

ليتمكّن من إيجاد احتمالات ما، تساعده في تدعيم رأيه والفكر لديه ، وهذه العملية ستجعله يتمكّن مبكراً على إستخدام الفكر والمنطق والنقد.

مهمة؟إحياء الفكر النقدي عند الطفل هي من مهمة الأهل في المقام الأول. ويستطيع الأهل أن يفتعلوا مشكلة صغيرة ما، ومن ثُمّ يعتمدوا على الطفل ليحلّ لهم المشكلة من خلال تشجيعه والإعتماد عليه، وتحريض مهاراته ليُمارس التحليل، وتتوالد عنده الأفكار، وينشط عنده العقل، والعقل النقدي.

بهدف أن يعرف أسباب المشكلة المحتملة، ولتتولّد عنده بعض الحلول المعتدلة والمنطقية، والتي بالتالي تنشط حالة الإبداع الفكري لديه.

لقد قال عالم النفس والفيلسوف الأمريكي 1859-1952- JOHN DEWEY حول هذا التفكير النقدي، حيث عرّفه على أنه " دراسة نشطة ومستمرة ودقيقة لاعتقاد أو شكل مُفترض من المعرفة، حيث أنه ينطوي على إخضاع الأفكار - إخضاعاً نشطاً للتدقيق النقدي بدلاً من قبولها قبولاً سلبياً ".

من خلال هذه الثقافة نستطيع أن نعلّم أطفالنا على تطوير مهاراتهم، والتفكير بشكلٍ منطقي وسليم، وبهذه الحالة يبدأ الطفل بتوجيه أسئلته الصحيحة والسليمة بدلاً من اللغو ومجرد الكلام ليس إلاّ، وبالتالي يبدأ الطفل بتحليل الأشياء، كلّ الأشياء، والبحث في أسبابها وبدائلها ونتائجها.

التفكير النقدي يُعتبر من المهارات الأساسية في الحياة، لسببٍ وجيه وبسيط، لأنه يعلمنا كيف نستخدم الأسلوب المنطقي لحل معظم المشاكل التي تواجهنا، وهو هام جداً بالنسبة للكتلة الدماغية عند الطفل، حيث تساعده على تطوير المعرفة لديه، كما تسمح له هذه المهارات الضرورية بفهم اسلوب وكيفية صنع الأشياء والحاجات في العالم الحقيقي بعيداً عن العبث، وبالتالي التوصّل إلى أفكار خلاّقة وفي غاية الإبداع.

إن وقوفنا إلى جانب الطفل يمنحه القدرة الكافية على التفكير بكل حرية واستقلال، ومقاومة الضغط أيّاً كان مصدره، وتكوين رؤيتهم الخاصة بهم، والثقة بما يفكرون به، وخاصة عندما يُطلب منهم القيام بتصرفات معينة لا يرغبون القيام بها، وفق المنطق والتفكير الحر الذي يتمتعون به.

وبنفس الوقت يشعرون بالمتعة وبثقة كافية والإعتماد على العلوم التي يتلقونها في دور التعليم.

إن عدم الاستقرار داخل العائلة، وبروز ضيق الأفق أو العاطفة الهشّة، كل هذه الأمور وسواها يمكن أن تعرقل مسيرة التفكير النقدي عند الطفل الذي يعتمد على حقائق بسيطة أو غير دقيقة أحياناً، فنحن نرتكب المزيد من أخطاء غير منطقية عندما ننظر إلى المحيط أو العالم من خلال عواطفنا وأفكارنا غير العقلانية، وتحيّزنا إلى هذا الجانب أو ذاك.

نحن متفقون بأن التفكير النقدي عند الطفل هو جزء مهم، ومن خلال هذا الإتفاق نتساءل، لماذا لا تقوم المدارس على تعليم الأطفال المهارات بمجملها والحيوية منها؟، نعم نستطيع أن نقول بأنهم يحاولون، لكنهم لا يتمكّنون من ذلك، أو لا يستطيعون على أداء هذه المهمة لسببٍ وجيه وبسيط، لأن التفكير النقدي عند الطفل يحتاج إلى إدراك ومعرفة جذرية بالموضوع المطروح، وبالتالي تطبيق المنطق، ومع الأسف لا توجد طريقة أو منهاج معيّن لتعليم المعرفة بشكلٍ عام، والعميقة بمفهومها، حيث؟ أن التفكير النقدي عند الطفل لا ينتقل بسهولة من موضوع أو من مجال إلى آخر.

نحن ندرك أنه ليس من السهولة بمكان تدريس التفكير النقدي للأطفال، ولكن الآباء يستطيعون القيام بذلك ومساعدة أطفالهم من خلال تكوين عقلية التفكير النقدي، وفسح المجال أمام الطفل لتنمية رغباته في البحث عن المعرفة بشكلٍ أعمق بهدف حلّ مشكلة ما في حياتنا اليومية الواقعية، لأن الخطوة الأساسية هي تعليم الطفل كيف تتم عملية التفكير السامية في أي موقف يتطلب إتخاذ القرار المناسب بكل مهارة.

إن التفكير النقدي لا يقتصر على طرح تساؤلات غير محددة، لذا علينا أن نعي هذا الجانب كي نستطيع أن نأخذ بيد الطفل بكل مهارة ليصل إلى بر الأمان.

وأن نأخذ بعين الإعتبار التساؤلات عند الأطفال، التي غالباً ما تكون مرهقة بالنسبة للأهل، ويضطرون إلى القول في نهاية المطاف " هذا ما يفترض أن يكون ".

ولكن تعليم الطفل السبب، يكون الخطوة الحاسمة في تنمية ثقافة التفكير النقدي عند الطفل.

وعندما نقوم بهذه المهمة مبكراً، حينها سيتمكّن الطفل من طرح الأسئلة المختلفة بصيغة منطقية، ومن خلال تفكير سليم وأدلّة موضوعية.

وبهذه الحال سيكبر الأطفال وهم واثقون من قدراتهم، وبنفس الوقت يُشكّكون في الافتراضات أو الاحتمالات، والتفكير بالمنطق وبالفعل، بعيداً عن العواطف السلبية.

علينا أن نشرح لهم قدر الإمكان رغم أنهم صغار السن، ونؤكّد لهم ونشجّعهم، ونقول لهم نعم سؤالك جيد، وعلينا أن نتوصّل إلى إجابة منطقية.

كما لا بُدّ لنا إلاّ أن نبتعد عن اسلوب تعليم الأطفال الطاعة العمياء، بدون فهم أو إدراك، فهذا يسبب لهم الإحباط والتراجع في تنمية قدرات الفكر النقدي لديه.

طبعاً الآباء يطلبون من الأبناء الطاعة العمياء من أجل مصلحتهم والحفاظ عليهم، لكن علينا بنفس الوقت توضيح أسباب رغباتنا، دون أن نقول لهم " أنا قلت ذلك، وعليك أن تُنفّذ "، فهذا المنطق يلعب دوراً سلبياً في تطوير مهارات التفكير الإيجابي عند الطفل ويُعيق مسيرتها، لأن الطفل يحتاج فعلاً إلى معرفة سبب التفكير بايجابية واستقلالية، ومن ثُمّ الوصول إلى أحكامٍ سليمة.

عندما نستخدم المنطق مع الأطفال والتفكير المنطقي وشرح ما نطلب منهم، فإن ذلك يُمارس دوراً إيجابياً ومهماً في الانضباط الاستقرائي، الذي يُعتبر أفضل طريقة للتأديب والتربية بعيداً عن العنف والقوة والعقاب.

وبهذه الحالة تتضاءل المشاكل السلوكية عند الأطفال، وتنتظم العاطفة أكثر، وتتوضّح مهارات أكثر، عندما يتعلمون التفكير النقدي.

إن التفكير النقدي هو بمثابة تحليل منطقي ونقدي لأي فكرة، عوضاً عن أي استجابةٍ عاطفية، أو ذاتية الفهم، حيث أن التفكير النقدي هو أساساً بمثابة أن يكون الإنسان على استعداد فعلي لتحدي ذاته وتحدي آرائه، من خلال معلوماتٍ وآراء مختلفة، لذا عليك أن تسمح لأطفالك أن يتوجّهوا بتساؤلاتهم، وبالتالي مناقشة شرعية ما تقول، بهدف إحياء الفضول الفكري لديهم والمهارات التحليلية.

إن التفكير غير المغلق والمرن أو السلس عند التعامل مع أي مشكلة طارئة، هو أمر ضروري في ثقافة التفكير النقدي، وبذلك نعلم أطفالنا أن يكونوا منفتحين من خلال وجهات نظرهم المختلفة أو البديلة لحل أي مشكلة، وجميل أن نشجع الأطفال على حلّ أي مشكلة بطرقٍ جديدة ومختلفة من خلال ترابط الأفكار، فهذه هي بمثابة الابداع والمهارة والابتكار.

ولعلّنا نؤكّد في نهاية المطاف أن التفكير النقدي ليس مهماً للأطفال وحسب، بل أيضاً للكبار، حيث أن تعليم الأطفال كيفية التفكير المنطقي لا يكفي، لأننا نحن أيضاً بحاجةٍ إلى تعلّم اسلوب هذه المهارة المبدعة والثمينة والأساسية في التربية، كما أن التفكير التأملي هو أيضاً من أساسيات الحد من التربية السيئة.

***

د. أنور ساطع أصفري

رينيه ديكارت يركز على الشك المنهجي ويشدد على ضرورة الشك في كل شيء للوصول إلى اليقين .عبارة أنا أفكر، إذن أنا موجود، تعبر عن العلاقة بين الوجود والوعي ويؤمن بأن العقل هو المصدر الأساسي للمعرفة، مما يمكنه من استخدام الشك المنهجي لتفكيك النصوص وفهمها بشكل أعمق، يساعد أيضا على تحليل السياق التاريخي والثقافي الذي كتبت فيه السرديات التاريخية، ان طرح أسئلة حول معاني الكلمات والعبارات، وفهم كيف يمكن أن تتغير هذه المعاني عبر الزمن من خلال دراسة الظروف التاريخية التي أدت إلى كتابة السرديات، يساعد على فهم الرسائل المبطنة والأهداف من وراءها، يمكن أن يؤدي الشك المنهجي والبحث العميق إلى قناعات أخرى، تطبيق الشك المنهجي على السرديات التاريخية يمكن أن يكون أداة قيمة للفهم، لكنه يتطلب حساسية واحترامًا للمعتقدات.

دور السياق الاجتماعي والثقافي

يعد دور السياق الاجتماعي والثقافي في تشكيل السرديات التاريخية حاسمًا ويؤثر على كيفية تقديم الأحداث وتفسيرها. تعكس السرديات القيم السائدة في المجتمعات .تؤثر الأيديولوجيات السياسية والدينية على كيفية رواية الأحداث، مما يمكن السرديات من تعزيز أو تحدي سلطات معينة وقد يؤدي الى خلق روايات متباينة حول نفس الحدث، تلعب الهويات العرقية والطبقية دورًا في تشكيل الروايات حيث يمكن أن تُعطى روايات معينة أولوية على أخرى بناءً على الانتماءات الاجتماعية والطبقية، مما يؤدي إلى إقصاء تجارب مجموعات أخرى، ويمكن أن تؤثر طريقة نقل القصص من جيل إلى جيل وبالتالي على كيفية فهم الأحداث مستقبلا، الروايات الشفوية تحمل الكثير من التحريفات والتفسيرات والاوهام، يمكن أن تؤثر على التبريرات الفلسفية والمنطقية، حيث تُبرز السرديات التاريخية إنجازات معينة أو تُخفي انتقادات لتوجهات اقتصادية سائدة في سياق اجتماعي وثقافي معين، وبالتالي تحدد كيف تُروى السرديات، كما تؤثر أيضًا في كيفية فهم الناس لهذه السرديات وتفاعلهم معها، لذا من الضروري تحليل هذه العوامل لفهم الروايات التاريخية بشكل شامل.

ثنائيات قيمية في السرديات التاريخية

هناك العديد من السرديات التاريخية التي تحوي على ثنائية قيمية تتمحور حول مفهوم العلاقة بين الخير والشر، المؤمنون والكافرون، والمقدس والمدنس. يشير النقاد إلى أن هذه الثنائيات تُنتج تناقضات، حيث يعجز الفرد عن التوفيق بين الجوانب العقلية والجسدية في حياته اليومية، وان هذه الثنائيات تهمش الأبعاد الاجتماعية والثقافية وتؤثر على الهوية والوعي، يُستخدم هذا التقسيم لتقديم الأحداث بشكل مبسط، مما يسهل فهم الرواية ولكنه يغفل التعقيدات عند تحليل الأحداث التاريخية، ويمكن ملاحظة كيف تُستخدم هذه الآليات لتشكيل الروايات، حيث تُركز على جوانب معينة وتُغفل أخرى، مما يخلق سردًا متحيزًا يخدم أغراضًا معينة، كون السرديات التاريخية تلعب دورًا مهمًا في تشكيل الفهم الثقافي والتاريخي كذلك تساعد في تحليل الأفكار والمفاهيم من خلال تقسيمها إلى ثنائيات تساهم في تحدي المعايير التقليدية، ان فهم التعقيدات الإنسانية يتم من خلال الربط بين الأضداد والتفاعل بين السرديات والثنائيات.

الأمان الوهمي في تشكيل السرديات التاريخية

الشعور الزائف بالأمان الذي يشعر به الأفراد أو المجتمعات نتيجة تشكل الثنائيات القيمية، يجعلهم يتجاهلون المخاطر الحقيقية أو التحديات مما يؤدي إلى تحريف الأحداث التاريخية، حيث يتم تكييف السرديات لتناسب الشعور بالراحة والطمأنينة، بدلاً من تقديم صورة دقيقة، عندما يشعر الناس بالأمان، يتجاهلون الأزمات أو التحديات التي تؤثر على مستقبلهم، مما يؤدي إلى نقص الوعي التاريخي، حيث يمكن أن تُستخدم السرديات التاريخية لتعزيز أيديولوجيات معينة (سرديات الانتصار)، تُظهر فترة من (الأمان) كفترة مثالية، مما يعوق فهم التحديات الحقيقية التي تواجهها المجتمعات، في بعض الثقافات، يتم تصوير العصور الذهبية كفترات من الأمان الوهمي، مما يؤدي إلى تجاهل التوترات الاجتماعية أو الاقتصادية التي كانت تحدث في الخلفية، احيانا يتم ترويج سرديات تعزز من فكرة الأمان الوهمي خلال فترات الحرب، مما يخفف من إدراك المخاطر الحقيقية وفقدان الوعي التاريخي، يؤدي الأمان الوهمي إلى نقص في فهم الدروس المستفادة من التاريخ، مما يساعد في تكرار الأخطاء، المجتمعات التي تعيش في حالة من الأمان الوهمي قد تجد نفسها غير مستعدة لمواجهة التحديات المستقبلية، الأمان الوهمي يشكل تحديًا حقيقيًا لفهم السرديات التاريخية بشكل دقيق و يتطلب الأمر وعيًا نقديًا لتجنب تحريف الحقائق التاريخية والسماح بفهم أعمق وأكثر واقعية للأحداث والتجارب الإنسانية.

برمجة المجتمعات في تشكيل السرديات التاريخية

برمجة المجتمعات التاريخية تختلف عن غيرها من أشكال التلاعب بعدة طرق، السرديات التاريخية تُشكل الذاكرة الجماعية على مدى الزمن، مما يجعل تأثيرها أعمق وأكثر استدامة، تُعتبر السرديات التاريخية غالبًا شرعية، مما يمنحها مصداقية أكبر مقارنة بأشكال التلاعب الأخرى، الدعاية التي تستخدمها السرديات التاريخية لخلق ارتباط عاطفي مع الأحداث والشخصيات، مما يجعل التأثير أقوى وتتغلغل في تشكيل الهويات الجماعية، مما يجعل من الصعب على الأفراد تجاوز هذه السرديات أو التشكيك فيها كونها تحمل الأبعاد الأخلاقية والسياسية، حيث يمكن استخدامها لتبرير أفعال معينة في الحاضر بناءً على أحداث الماضي، برمجة المجتمعات التاريخية تعتمد على القوة التأثيرية للذاكرة والتاريخ، مما يجعلها تختلف عن أشكال التلاعب الأخرى التي قد تكون أكثر مباشرة وأقل عمقًا.

الأغلبية والمعتقدات السائدة

يميل الأفراد إلى اتباع المعتقدات السائدة مجتمعيا، دون تمحيص، مما يعزز تأثير فكرة معينة في السرديات التاريخية، يؤدي التفكير الجماعي إلى تجاهل الحقائق أو الروايات التي تتعارض مع المعتقدات السائدة وتسهم في تعزيز سرديات معينة تدعم فكرة تاريخية للجماعة، مما يؤثر على كيفية فهمهم لتاريخهم، تتبنى المجتمعات سرديات تدعم القيم المتفق عليها حتى وان كانت لاعقلانية، مما يساعد في تشكيل ذاكرتهم الجماعية، تلعب وسائل الإعلام دورًا كبيرًا في تشكيل الراي العام، حيث تُبث سرديات معينة بشكل متكرر، مما يعزز تأثيرها على برمجة المجتمع، تستغل القوى السياسية أو الاجتماعية برمجة المجتمع لتوجيه الروايات التاريخية لخدمة مصالحها وقد تُعيد كتابة الأحداث التاريخية لتناسب ايديولوجياتها السائدة، مستغلة تأثير برمجة المجتمع، عندما تتبنى مجتمعات سرديات معينة دون تفكير نقدي، تتكرر الأخطاء .السرديات المبنية على البرمجة الاجتماعية تؤثر سلبًا على قدرة المجتمعات على مواجهة التحديات المستقبلية من خلال ادخال الثنائيات القيمية قسرا، مما يتطلب وعيًا نقديًا لتجنب الانحيازات ولتقديم سرديات أكثر دقة وموضوعية.

الاثار السلبية للثنائيات القيمية

تؤدي الثنائيات إلى تبسيط الأحداث التاريخية المعقدة، مما يقلل من فهم السياقات الدقيقة، يمكن أن تؤدي الثنائيات إلى إغفال الروايات والأصوات التي لا تتناسب مع السرد السائد، مثل تجارب الأقليات مما يعزز الصراعات بدلاً من الفهم المشترك، يمكن أن تُستخدم الثنائيات لتقديم صورة مضللة عن الأحداث، حيث تُظهر جانبًا واحدًا فقط دون اعتبار للعوامل المعقدة، تؤدي الثنائيات إلى نقص في الوعي بالتاريخ، مما يمنع الأفراد من التعلم من الأخطاء السابقة، يمكن أن تُستخدم الثنائيات لتعزيز أيديولوجيات معينة، مما يؤدي إلى تحريف الحقائق التاريخية لخدمة أغراض سياسية، تؤدي الثنائيات إلى تشكيل هوية جماعية ضيقة، مما يُعوق الفهم الشامل للتراث الثقافي والتاريخي، يمكن أن تُسهم الثنائيات في إعاقة الحوار البناء بين مختلف الجماعات، حيث يُنظر إلى الآخرين كعدو بدلاً من شريك في النقاش بينما يمكن أن تكون الثنائيات القيمية أدوات مفيدة في تحليل السرديات التاريخية، إلا أن استخدامها غير المدروس قد يؤدي إلى آثار سلبية تؤثر على فهمنا للأحداث التاريخية وتعقيداتها.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

 

مع  الكاتب البحريني الدكتور محمد جابر الأنصاري.. هل كانوا عمالقة؟

بعض الناس لا يحبون من ينتقدهم، وإن انتقدهم أحدٌ في فكرة ما،ينقلبون عليك بمجرد أن تخالفهم الرأي، فتصبح أنت العدوّ اللدود في نظرهم وأنت الخائن وأنك عديم الكفاءة و..و..و..الخ، هؤلاء اعتادوا على من يجاملهم ومن يضعهم في مرتبة العظماء وكأنهم صناع الحياة ولهم الفضل في بقاءك حيا، ليس كل ما يكتبه الإنسان أو يقوله قرآن مُنَزَّهٌ، فالإنسان بشر ومُعَرَّضٌ للأخطاء وقد يتعرض للنقد، شريطة أن يكون النقد بَنَّاءً، لأن لكل واحدٍ رؤيته للأشياء والقضايا التي تُطْرح، والزاوية التي يعالج بها هذه القضايا في زمن التنوير، حتى الكتب المقدسة تعرضت للنقد، أن ينتقدك الآخر لا يعني أنه ضدك أو يريد إحباط معنوياتك، الفرق بين النقد والمجاملة هو أن هذه الأخيرة وسيلة للوصول إلى هدف ما وتحقيق غرض ما منكَ، قد نمارس هذا الأسلوب من باب تشجيع الآخر على العمل والنجاح، لكن أن تتحول المجاملة الى عادة لكسب رضى شخص ما، حتى لو كان مخطئا لا لشيئ إلا لأن له نفوذ ولأننا نريد من ورائها الوصول إلى غايتنا، فهذا سلوك غير واع ولا يـأتي من إنسان عاقل.

هناك من يهرب من الحقيقة أو يحاول إخفاءها بل وأدها لكي لا تنكشف للناس، ومجرم من يكتم الحقيقة، فهناك أحداث وقعت في زمن معين لم تكشف بعد، لكي يبقي الناس علي جهلهم وعماهم، وهنا يكمن دور المثقف في عملية التنوير والتبصير،، فالمثقفُ يجامل، والمفكرُ لا يجامل، والناقدُ لا يجامل، والإعلاميُّ لا يجامل، والثّوريُّ لا يجامل، والمناضلُ النزيه لا يجامل، لكن رجل السياسة يجاملُ والكاتب الحُرُّ وجب عليه أن يتحرر من صفات المجاملة، لأن المجاملة المبالغة فيها تتحول إلى نفاق وكذب على الناس، بل تؤدي بالمُجَامِلِ (المَدَّاح) إلى أن يكذب على نفسه ويصدق الكذبة فيحولها إلى حقيقة، ويبدي على الشخص الذي يجامله على أنه شخص صالح، والمجاملة المبالغ فيها أي المُفْرَطَة تقود الإنسان إلى العبودية وتجعله فاقد الإرادة والعزيمة وقد تُجَرِّدُهُ من كبريائه، وتضع الشخص الذي يجامله في مرتبة الإله، أو ملكٌ على رأسه تاج العظمة، وكأنه الوحيد الذي خلّص البشرية وأنقذ بعبقريته الأمّة من الهلاك.

والنقد إن كان غير مبني على فكرة سليمة، نبيلة، هادفة، لتوضيح الرؤية للكاتب والقارئ معا، فهو باطل وصاحبه مفقود الثقة، لأن غايته نشويه ما كتبه الأخر أمام القراء والرأي العام لحقد دفين في قلبه ليس إلا، أو أن شيطان وسوس في قلبه وعقله فجعله أعمى، لا يرى أمام عينيه، حتى لا نقول أنه شيطان في ثوب إنسان، مهنته التخريب والهدم والغدر، وقتل عزيمة الناس وإرادتهم، لأنه ربما فشل في حياته ولم يحقق شيئا ما، يسعد به الأخرين، فكان من أعداء النجاح، فما وقع في الجزائر وفي البلاد العربية من فساد سببه الإفراط في المجاملة ( الرئيس فلان، الوزير فلان، الأديب فلان فعل كذا وكذا..) وتحول هؤلاء إلى "عمالقة" وكأن ما قاموا به معجزة من المعجزات الإلهية التي مدها الله لأنبيائه ورسله، وقد ينادونهم بـ: "السّي" فلان، في الوقت الذي نرى أناسا آخرين ضحوا من أجل أوطانهم وقدموا أعمالا جليلة، آثارها ما تزال حيّة، ولكنهم "منسيون"، لا يذكر اسمهم ولا أعمالهم.

تعود بي الذاكرة إلى كتاب للمفكر البحريني الدكتور محمد جابر الأنصاري بعنوان: " هل كانوا عمالقة؟ " أصدره عام 1980، وقد تحرر الكاتب من صفات المجاملة التي تَضُرُّ ولا تنفع، فقد طرح الدكتور جابر الأنصاري رؤاه النقدية بصراحة تامة مسّت كبار الأدباء والمشاهير وكذلك الزعماء السياسيين في الوطن العربي، وحرص على إثارة قضايا فكرية من أجل تسخين مناخ العقل الجماعي الرّاكد وبثّ الحركة في خلاياه، وطرح في كتابه أسئلة هامة وجريئة، ليس من أجل التهجم عليهم كما يتبادر إلى الذهن أو التنكر لعطاياهم، وإنما لمعرفة الحقيقة التي هي ضالة الإنسان المثقف، لقد ذكر الأنصاري ثلاثة أسئلة ذكر فيها ثلاثة أسماء مشهورة.

 - قال في السؤال الأول: قيل لنا أن جمال الدين الأفغاني هو حكيم الشرق وباعث نهضته وفيلسوفها، ولكن اين فلسفة جمال الدين الأفغاني؟ اين حلوله الناجعة التي قدمها؟ لماذا لم تقم النهضة العربية على اساس وطيد طالما بدأت بأفكار فيلسوف مثله؟ من يدلي على مؤلفاته الفلسفية غير رسالة "الرد على الدهريين " التي لا تحوي من الفلسفة شيئا.

- وقال في السؤال الثاني: قيل لنا أن أحمد شوقي أمير الشعراء وأمير البيان ومجدد شعرنا العربي، ولم يتقبل الجميع ما قاله العقاد وميخائيل نُعَيْمَة في شعره، وقال في حديثه عن الشوقيات أن معظمها يشبه افتتاح الجرائد اليومية في أيامنا هذه سلسلة طويلة من المرثيات.. معظمها في أشخاص من أصدقائه ومعرفه سبب نسيهم التاريخ، وسلسلة أخرى من المدائح وسلسلة ثالثة من المفاخر، فما مصير أبنائنا إذا قلنا لهم هذا أمير شعركم الحديث؟

 -  وقال في السؤال الثالث: هل أن جبران خليل جبران هو بتلك العبقرية والعظمة التي تحاول أن تقيم له الدراسات والأبحاث اللبنانية المتراكمة منذ مطلع القرن العشرين؟ أهو قصاص بارع؟ أهو أديب مشرق البيان حقا؟ أهو شاعر في غير قصيدة واحدة طويلة اسمها المواكب؟ أهو مفكر فيلسوف، أليس هو في التحليل النهائي كاتبُ مقالة ذاتية تمزج بين البكاء والوعظ.؟

ما يمكن قوله هو أن المجاملة تضرُّ ولا تنفع ولكن يمكن القول أيضا أن النقد المفرط أو بالأحرى النقد اللاذع يضر ولا ينفع أيضا، لأنه نقد سلبي لا يخدم الفكرة ولا يخدم الحقيقة ويقضي على كل الأعمال والإنجازات، وقد يُوَلِّدُ الكراهية والعدائية وحُبُّ الانتقام بين الكتاب والمثقفين، قد يؤدي إلى التدخل في الحريات الفردية والمساس بالحياة الشخصية للإنسان، بل قد يشعل حربا ليس لها نهاية، فكل ما يكتب كما يقول البعض يدخل في إطار أدب التقليد، وهو من أشد أنواع الأمراض الفكرية شيوعا وانتشارا، فهل نحتاج إذن إلى "الوسطية" في كتاباتنا وطرح أفكارنا ونقدنا للأخر؟ وكما يقال : "إرضاء الناس غاية با تدرك" والحقيقة تكاد المجاملة أن تتحول إلى كفر. (مجرد وجهة نظر)

***-

علجية عيش

 

استكمالًا للمشروع الذي عرضنا جانبًا منه في المقالة السابقة؛ ها نحن نكمل ما بدأناه:

(٦) العمل على إعداد مصفوفة واحدة للمقررات الدراسية (في مرحلة الليسانس، أي ما قبل الدراسات العليا)، تشتمل على المباحث الرئيسة والمعارف الفرعية للبنية الفلسفية، على نحو يسهل تطبيقها في كل الجامعات، وتتيح في الوقت نفسه الحرية لكل قسم من الأقسام المعنية بنسبة 20% من كل المقررات الدراسية في الفرق الأربعة بالحذف والإضافة؛ حتي يتناسب المحتوى الأكاديمي مع الأقسام الأخرى ليسهل تكاملها من جهة، وتوافقها مع الخطة البحثية للجامعة التي تنتمي إليها من جهة ثانية، وما يميز وجهة القسم في ابتكار وتحديث وإضافة ما يراه من مقررات أو موضوعات ملحقة بالمعارف الأساسية من جهة ثالثة. أضف إلى ذلك تيسير عملية نقل الطلاب من جامعة إلى أخرى، ومن قسم مناظر إلى آخر، في إطار القواعد المعمول بها في انتقال الطلاب. مع التأكيد على ضرورة الالتزام بالمحتوى العلمي بالمقرر الدراسي الوارد في لائحة القسم، على ألا يسمح للقائم على تدريس المقرر بالإضافة أو الحذف إلا بعد استشارة الأستاذ المتخصص الذي يبلغ بدوره أستاذ الكرسي، الأمر الذي يمكننا من معالجة العديد من السلبيات القائمة فيما نطلق عليه (الكتاب المقرر).

(7) تحديث وتطوير الخطاب الشارح الذي يجريه الأستاذ القائم بالتدريس مع طلابه على نحو يجعله أقرب للحوار الفلسفي في التعقيب والنقد والمعالجة، ثم حث الطلاب على نقد الخطاب المرسل وما يحويه من آراء، وذلك لتعويدهم على منهجية التثاقف وآداب التناظر وعقلانية والجدل والمحاجاة.

(٨) تخصيص آلية للتواصل مع المعنيين بالبحث الفلسفي؛ وذلك بتطوير وتحديث موقع الجمعية الفلسفية كي يتثنى له القيام بأربع مهام:

أولها: تبادل الخبرات مع المراكز البحثية العربية والعالمية ذات الصلة بالبحث الفلسفي للتنسيق والتشاور حول القضايا المشتركة.

وثانيها: التواصل مع جمهور المثقفين بمختلف مستوياتهم للإجابة عن استفساراتهم التي تخص الحكمة العقلية، وكيفية الاستفادة منها في شئونهم اليومية.

وثالثها: التحاور مع قادة الرأي حول القضايا التي تشغل المجتمع لتوضيح الرؤية الفلسفية والحلول المنطقية للأزمات وتحليل أثر القرارات السيادية قبل تفعليها، والخطط الاستراتيجية والتكتيكية قبل تطبيقها، وذلك ليتثنى للقيادات التعرف على إحدى الرؤى العقلية التي لا ينبغي استبعادها من مشهد التحاور والتشاور حول قضايا الرأي العام.

ورابعها: المشاركة في وضع الضوابط الأخلاقية والذوقية لحماية الهويّة والمشخصات الثقافية من جهة، والدفاع عن حرية الرأي والبوح والنقد والاعتراض والفكر والاعتقاد بالقدر الذي لا يعود بالضرر على الأمن العام والسلم الاجتماعي، والأغيار الغرباء في المجتمع من جهة أخرى. 

(٩) ابتداع مقررات دراسية معاصرة لخدمة احتياجات المجتمع والبحث العلمي والتصدي للمشكلات الحياتية، وذلك في المرحلة الإعدادية والثانوية والجامعية، على أن تتسم هذه المقررات بالطابع العلمي والعملي، لتقوم بضبط منهجية أذهان الطلاب وتهذيب قيمهم والارتقاء بأذواقهم، وتدريبهم على الابتكار وتحديث مهاراتهم، وتنمية روح الولاء والانتماء في وجدانهم وسلوكهم، وترغيبهم في النظر العقلي ليتثنى لهم الانتقال من طور الاستيعاب إلى طور الابداع، والمناهج التي تمكنهم من الوقوف على حقائق الأمور الملتبسة والأخبار المشوشة.

ذلك فضلًا عن فتح مجالات أوسع للمباحث الفلسفية الفرعية. التي تمكن دارسي الفلسفة من المشاركة في منظومة المعارف المتكاملة (المقررات البينية).

ويساهم هذا التوجه في حل أزمة الفلسفة، ويثري تواجدها في المنظومة التعليمية التي نحن بصددها.

ثالثًا: أهم البرامج والمقررات الدراسية في المراحل التعليمية المختلفة

أ) المرحلة الإعدادية أو ما قبل البكالوريا:

مادة مبادئ الأخلاق وعلم الجمال (الفرقة الثانية إعدادي).

وتسهم في ضبط سلوك الطالب وأخلاقياته في هذه المرحلة السنية، والارتقاء بذوقه وحسه الفني والجمالي، وتوجيه وجدانه وجهة روحية بعيدة عن اللذات المادية والرغبات النفعية، وتعينه على التفرقة بين (الحرية والجموح والهمجية). (والفضائل اللزومية والالتزام بالواجبات)، (والأثرة والإيثار). (والأنانية والمنفعة العامة) (والاعتزاز بالكرامة الشخصية والعذر والتسامح). (والتدين والتعصب).

مادة الولاء والانتماء (الفرقة الثالثة إعدادي):

وتعمل على تأصيل مفهوم الوطنية واحترام المشخصات الثقافية السائدة، والعزوف عن التقليد الأعمى والابتعاد عن العادات الجامحة والتعصب والأجتراء على الثوابت التي تحمي الفرد والمجتمع من الشطط والانحراف. 

ب. المرحلة الثانوية

مادة الهوية المصرية والمشخصات الحضارية (الفرقة الأولي في المرحلة الثانوية)

وهذه المادة تعمل على توسيع مدركات الطالب، وتحديد ميوله ووجهته، وتمكنه من إدراك المعاني والمفاهيم للعلاقات المتشابكة، وتبصره بالحلقات المتداخلة؛ مثل (الهوية والغيرية، والاغتراب والاستغراب)، (والوطنية والقومية والوحدة الإنسانية) والفارق بين (الميول والأهواء والمعتقدات)، (والمشاركة الحسبية وعضوية الجماعات والمنتديات والانتساب إلى الهيئات)، (والشيفونية والراديكالية والفوضوية والإباحية)... وغيرها.

مادة آداب الحوار وأخلاقيات التناظر (الفرقة الثانية في المرحلة الثانوية)

وترمي إلى تدريب ذهن الطالب على التمييز بين المصطلحات والمفاهيم التالية:

(تقديم التحليل على النقض في الحوار)، (وغربلة الأفكار قبل قبولها في التوجه والحكم)، (والتفرقة بين الكبر والإكبار في المثاقفة والتصاول)، (والتبعية والموافقة في النصح والتوجيه)، والتمييز بين (الانتقاد والقدح والتبذل في التهكم في المخالفة)، (والمداهنة والرياء والمداراة والمجاراة، والعزوف عن الغلو في المدح والاستحسان في التأييد).

مادة مناهج البحث وخصائص التفكير الفلسفي (الفرقة الثالثة في المرحلة الثانوية أدبي)

مادة المنطق الرمزي والذكاء الاصطناعي (الفرقة الثالثة علمي رياضة علمي رياضة)، مادة فلسفة العلوم والبيئة (الفرقة الثالثة علمي علوم).

مادة القيم التطبيقية وأخلاقيات المهنة (الفرقة الثالثة ثانوي صناعي).

مادة الفن والإبداع (الفرقة الثالثة الثانوية المعمارية).

مادة فلسفة الرياضيات ومنطق متعدد القيم (الفرقة الثالثة الثانوية التجارية).

ذلك بالإضافة إلى استحداث مقرر الأخلاق الإنسانية، والمقاصد الإلهية، وذلك عوضًا عن التربية الدينية للمنتمين للإسلام والمسيحية، على أن تشتمل بنية المقرر على فضائل الأخلاق :(الحب والحياء)، (والصدق والتعاون)، (والرحمة والأمانة)، (والسلم والتسامح). والحفاظ على النفس والعرض والمال والدين والعقل والعدالة والحرية. وذلك لحماية المجتمع من الفتن الطائفية، والتأكيد على مشخصات الهوية الواحدة، والحد من ظاهرة الإلحاد، والشطط والشطح العقدي، والاجتراء على المقدسات.

ج. المرحلة الجامعية:

ضرورة الاهتمام بمراجعة المقررات الفلسفية ومحتوياتها المعرفية الأتية:

الفصل بين (الفلسفة الحديثة والفلسفة المعاصرة)، (وفلسفة الشرق القديم، وفلسفة الأسطورة والخرافة)، (وفلسفة النقض، ونهج قراءة القراءة)، (وفلسفة الثقافة، وفلسفة التربية) (وفلسفة الدين، وفلسفة اللاهوت وعلم مقارنة الأديان)، (وعلم الجمال وفلسفة الفن)، (وتاريخ الفلسفة، وعلم تاريخ الأفكار)، والتمييز بين (فلسفة الأخلاق، وفلسفة القيم، والأخلاق التطبيقية).

(التصوف الملي -التصوف الإسلامي والرهبنة والحسيدية-، التصوف الفلسفي، الرياضات الروحية والتصوف العملي -الفيوسفوية)، (فلسفة اللذة، وفلسفة المتعة الغريزية)، وذلك لتباين بنية تلك المعارف والمناهج التي تعالج قضاياها.

وجوب استحداث هذه المقررات لمواكبة الدراسات الفلسفية المعاصرة الاتية:

فلسفة الاستشراق والتغريب، وذلك لدراسة دوائر الاستشراق المختلفة، وتجنب الخلط بين الاستشراق السياسي، والاستشراق العقدي، والاستشراق العلمي، والنظريات والملل العقدية المعاصرة، مثل ما بعد الدين، ونظرية الدين الإبراهيمي ووحدة الأديان، والدين السائل، ونظرية الناسخ والمنسوخ المعاصرة، والديانة المارمونية (الصهو أمريكية)، وأبعاد نظرية المؤامرة وعلاقتها بالحروب المعاصرة.

(فلسفة الكذب وحرافية التزييف الإلكتروني)، (فلسفة الحرب الإلكترونية، وتفكيك المجتمعات، وخرق الثوابت الدينية والأخلاقية)، (فلسفة اللعب والطفل والعصف الذهني)، (فلسفة التأويل والإحالات: الإشارية- الرمزية المشفرة- الدلالية)، (فلسفة الروح والعوالم المتوازية والكائنات الغيبية)، (كمياء الفكر وتحليل بنية الأيديولوجيات)، (فلسفة التأمل والفيوسوفية العلمية، والروحية الحديثة)، (فلسفة المستقبل واستشراف الما بعديات)، (فلسفة الإلحاد النظري والتطبيقي)، (فلسفة الضحك والملهاه والكوميديا الراقية).

على أن تفعل هذه المقررات والمعارف المستحدثة في تطوير المناهج الدراسية، أو في الدبلومات المهنية أو توظيفها في المقررات المتكاملة (البينية)، علمًا أن جميع هذه الإضافات المعرفية لها مرجعيات فلسفية، يسهل مطالعتها في الدوائر البحثية والموسوعات المتخصصة.

تلك كانت أهم الموضوعات التي طرحتها في ندوة الجمعية الفلسفية –التي أشرت إليها سلفا في الشهر الماضي-، آملا منكم وضعها على مائدة التثاقف والتحاور، واستخلاص منها ما عساه يصلح أن يكون دافعا لنا لمخاطبة قادة الرأي فينا، للعدول عن ذلك التبديد الذي ينعته بعض المتشدقين والمتعالمين بالتجديد، وما أكثر القرارات المتعجلة التي تحمل بين طياتها كوارث وأزمات؛ أرجو ألا تكون عاجلة، وويل لمن يجهل فن اقتفاء الأثر، ويعجز عن فهم ما جاء في العبر وديوان المبتدأ والخبر.

وليس للحديث بقية في هذا المختبر

***

أ. د. عصمت نصار

 

هناك من يزعم ان الاقتصاد ليس علما، لكن هذا الادّعاء يشير الى ان هؤلاء لا يعلمون ماذا يفعل العلماء. العلماء يلاحظون العالم الذي أمامهم. يطورون نظريات تسعى لتوضيح ما يرون. ثم يجمعون البيانات لإختبار نظرياتهم ويرفضون تلك التي لا تتطابق مع البيانات. هم يبذلون جهدهم لتجنب الميول الايديولوجية والافكار المسبقة. والأكثر أهمية، هم دائما يبقون منفتحين لتغيير أذهانهم عندما يرون هناك نظريات أفضل او بيانات جديدة. هذا الاتجاه يمكن تطبيقه سواء كان الفرد يدرس أسباب سقوط التفاحة من شجرة او أسباب تقلبات الناتج القومي الإجمالي بمرور الزمن. وكما ذكر البرت اينشتاين ان "جميع العلوم ليست أكثر من مجرد تحسين وصقل للتفكير اليومي". وهناك من يضيف ان قانون العرض والطلب يشبه قانون الجاذبية في الفيزياء، هذا القانون في العرض والطلب تم إثباته على مر القرون من خلال الملاحظة والدراسة. فكرة ان حجم المبيعات يهبط عند ارتفاع الاسعار تصح بنفس المقدار الذي يصح به القول عن الجاذبية: "ما يصعد الى الأعلى يجب ان يهبط الى الأسفل".(1).

اقتصاد البرت اينشتاين

يُعد اينشتاين أبرز علماء الفيزياء في القرن العشرين. في سلسلة من الأوراق نُشرت بين عام 1905 و 1916 هو وسّع وغيّر الى الأبد تصوّر الناس عن الكون. اينشتاين حسبما يذكر كاتب سيرته: "اسطورة حية، بطل شعبي حقيقي، يُنظر اليه كوحي يستمتع به افراد العائلة الحاكمة ورجال الدولة وغيرهم من المشاهير، نُظر اليه من جانب العامة والرؤساء كما لو انه نجم فيلم بدلا من عالِم".

ما تجدر ملاحظته هو ما طلبه الناس من اينشتاين للتعليق على العديد من القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الهامة في ذلك الوقت. تعليقاته الاقتصادية والاجتماعية التي تم جمعها من تلك الاوراق تعكس تبنّيه للايديولوجية الاشتراكية المضادة للرأسمالية انذاك. هو يبدو جعل معظم انتقاداته لإقتصاد السوق مرتكزة على مفهوم "فائض قيمة العمل" الماركسي، والتي نشرها في كتاب صغير بعنوان "العالم كما أراه":

"عبر استعمال وسائل الانتاج، ينتج العامل سلع جديدة تصبح ملكاً للرأسمالي. النقطة الاساسية في هذه العملية هي العلاقة بين ما ينتجه العامل وما يُدفع له ... ما يستلمه العامل يتقرر ليس بالقيمة الحقيقية للسلعة التي ينتجها وانما بالحد الأدنى من حاجاته".

وفي أعقاب كارل ماركس وتوماس مالتس، استنتج اينشتاين ان الاجور تميل دائما لتُكبح الى "الحد الادنى من حاجات العمال" عبر المنافسة، لمصلحة الطبقة الرأسمالية الصغيرة والمهيمنة. طبقا لاينشتاين، الاجور في الولايات المتحدة كانت نسبيا أعلى من الحد الادنى لحاجات العمال بسبب ان البلد فيه الكثير من الموارد قياسا بسكانه.

أوضح اينشتاين ان الكساد الكبير (في الثلاثينات) هو نتيجة حتمية للتقدم التكنلوجي المتواصل الذي سمح للرأسماليين بتقليل العمل: "كما أرى، ان هذه الأزمة تختلف عن الأزمات السابقة كونها ترتكز على مجموعة جديدة كليا من الظروف، نتيجة للتوسع السريع في طرق الانتاج. مطلوب فقط جزء من عمل الانسان في العالم لانتاج الكمية الكلية من سلع الاستهلاك الضرورية للحياة".

وبينما هو أشاد في وقت ما بالمشروع الحر بسبب التقدم التقني الذي خلقه النظام، استمر اينشتاين باحتقاره للرأسمالية المنفلتة لأن "المنافسة اللامحدودة تقود الى تلف هائل في العمل، والى شلل في الوعي الاجتماعي للفرد.. هذا الشلل للفرد انا أعتبره أسوأ شرور الرأسمالية".

طبقا لرؤية اينشتاين العالمية، قادت التكنلوجيا ايضا الى تركيز القوة الاقتصادية بيد عدد قليل من الشركات: "هذه الأقلية الاقتصادية المهيمنة، عارضت تحجيم حريتها في التصرف، مطالبة بالخير لمصلحة كل الشعب."

دعا اينشتاين الى عدة حلول لمواجهة البطالة في الثلاثينات، كلها عدى واحد منها كانت يشوبها نوع من التفكير الاقتصادي الناعم السائد لدى اشتراكيي ما قبل الحرب العالمية الثانية، هذه الحلول:

1- تقليل اسبوع العمل لكي تختفي البطالة رسميا .

2- تأسيس حد ادنى للاجور بحيث تتماشى القوة الشرائية للعمال مع التضخم، ولكي يصبح لدى العمال الوسائل لشراء فائض المخرجات.

3- السيطرة على الأسعار (المقررة من قبل تلك الصناعات التي اصبحت احتكارية من حيث السلوك، الامر الذي لا يزيد فقط القوة الشرائية لأجور العامل وانما ايضا يحقق فوائد جانبية في كبح الاستثمار في التكنلوجيا التي تقلل كمية العمل المطلوب لإنتاج السلعة).

4- استبعاد كبار السن من انواع معينة من العمل (والتي اسميها أعمال غير تأهيلية)، يستلمون بدلا من ذلك دخل معين.

5- تنظيم الإنتاج والعمل والتوزيع طبقا لخطة محددة، من أجل منع طاقات انتاجية ثمينة من ان تُرمى بعيدا وان لا تصبح شرائح من السكان فقيرة.

6- السيطرة على عرض النقود وحجم الائتمان لإبقاء مستوى الاسعار ثابتا (وهذا هو الحل الوحيد من بين الحلول الستة الذي نال موافقة التيار السائد من الاقتصاديين الحاليين المناصرين للسوق) .

مع هذه الاستراتيجية من ست نقاط، اعتقد اينشتاين انه بالإمكان تأسيس توازن ملائم بين الانتاج والاستهلاك بدون تقييد كبير للمشروع الحر، وفي نفس الوقت وقف الاستبداد غير المسموح به لمالكي وسائل الانتاج (الارض والمكائن) في تقرير اجور تلك العناصر الانتاجية.

ان ما يثير التناقض في مخاوف اينشتاين المتكررة بشأن مصير الناس هو ان موقفه الفلسفي تجاه كل ما هو علمي كان متأثرا بالاعتقاد بان قوانين الفيزياء تُطبق في كل مكان وفي كل الأوقات، بحيث يصبح مستقبل الكون بكل تفاصيله ضروريا ومحددا كالماضي. اذا كان الامر هكذا، لماذا ننشغل بإعداد الاستراتيجيات للتحسين الاجتماعي هنا على الارض؟

لابد من الإقرار بالفضل لعدد من الاكاديميين والمفكرين – خاصة فردريك هايك وملتن فريدمن وبل بوكلي الذين مهّدوا لجعل تفكير اينشتاين المثير في الاقتصاد هو الآن معترف به على نطاق واسع.

***

حاتم حميد محسن

........................

المصادر:

1- WSJ opinion, June 4,2025

2- The Economics of Albert Einstein,www.cambridge.org/mckenzie

الهوامش

(1) الاقتصاد بشكل عام اعتُبر من العلوم الاجتماعية، لكن النقاد يرون انه لا يرقى لتعريف العلم لعدة أسباب منها نقص اختبار الفرضيات، فهو ليس كالعلوم الصرفة التي يمكن فيها اختبار الفرضيات في المختبر، وانما ميدان الاختبار فيه هو البلد ككل او العالم او القطاع مما يجعل من الصعب التحكم في الظاهرة، وكذلك قلة الإجماع بين الاقتصاديين، بالاضافة الى تأثير المواقف والميول السياسية المتأصلة. لكن رغم هذه الحجج، يبقى الاقتصاد يشترك بعناصر كمية ونوعية مع جميع العلوم الاجتماعية.

تُعتبر الأساطير جزءًا من المعتقدات الدينية والثقافية، حيث تعكس كيفية فهم السومريين الحياة والموت والمصير، تمثل هذه السرديات رموزًا تعبر عن المخاوف والآمال، الخوف من الموت والرغبة في الخلود، حيث لا توجد حقائق علمية او أدلة تجريبية تدعم وجود حياة أخرى في ثقافتهم كما هو موصوف في بعض الأساطير، مما يجعلها تعبيرات فلسفية أو روحية. كانت سرديات الحضارة السومرية تهدف إلى تقديم معنى للحياة والموت، وكذلك تعزيز القيم الاجتماعية، وليس لتحقيق فهم علمي موضوعي لذا تحمل أساطير السفر إلى العالم الآخر قيمة ثقافية ودينية تعكس المعتقدات والرموز التي تشكلت في سياق حضاري معين، ويمكن اعتبار أساطير السفر إلى العالم الآخر في الحضارة السومرية مصدرًا مهمًا لفهم ثقافتهم وعقائدهم. من خلال التحليل الدلالي تُظهر الأساطير كيف كان السومريون يفهمون الحياة بعد الموت، ما يعكس معتقداتهم حول الروح والعالم الآخر، القيم الثقافية والاجتماعية، مثل الشجاعة، الخوف من المجهول، والبحث عن الخلود، كذلك العلاقات بين الآلهة والبشر، مما يساعد في فهم البنية الاجتماعية والسياسية في المجتمع السومري، كما يمكن تسليط الضوء على كيف كان السومريون يتفاعلون مع قوى الطبيعة. تمثل هذه الأساطير جزءًا من تراث الأدب السومري، مما يسهم في فهم تطور الأدب والفنون في تلك الحضارة، في الأساطير السومرية المتعلقة بالسفر إلى العالم الآخر، تظهر عدة رموز وصور تحمل دلالات عميقة، كما تظهر شخصيات مثل إنانا كرمز للآلهة التي تتفاعل مع الموتى، مما يعكس دورها في توجيه الأرواح، تُستخدم البوابات كرموز للانتقال بين العوالم، حيث يُعتبر عبور البوابة خطوة حاسمة في رحلة الروح، تُستخدم الأشجار في بعض الأساطير كرموز للحياة الأبدية أو الجذور التي تربط بين العوالم كما تمثل الأدوات الجنائزية (مثل الأواني والتماثيل) التحضير لرحلة الروح، الكائنات الطيفية في الأساطير السومرية تمثل الأرواح التي تجوب العالم السفلي، مما يضيف عنصر من الغموض والخوف، تُظهر هذه الرموز والصور كيف كان السومريون يفهمون ويتعاملون مع مفهوم الحياة والموت، مما يعكس معتقداتهم الثقافية والدينية.

الالهة عشتار والتحديات

رحلتها إلى العالم السفلي، واحدة من أشهر الأساطير التي تتعلق بها هي، حيث تسعى للحصول على القوة والسلطة. تتعرض للاختبار وتواجه تحديات، مما يعكس صراعات الحياة والموت كذلك تتعلق بأسطورة تموز، إله الزراعة، الذي ينزل إلى العالم السفلي، مما يعكس دورة الحياة والموت، تُظهر هذه الأساطير السومرية المنشأ كيفية تداخل الموضوعات المتعلقة بالحياة، الموت، والتجديد في الثقافات المختلفة في الشرق الأوسط، مما يعكس القيم الإنسانية المشتركة والتجارب الروحية وان هناك روابط وتأثيرات متبادلة بين هذه الأساطير. تأتي أسطورة جلجامش كمثال لمفاهيم الحياة والموت بطرق أخرى متعددة وعميقة حيث تنطلق القصة من رحلة جلجامش للبحث عن سر الخلود بعد وفاة صديقه إنكيدو، مما يعكس الخوف البشري من الموت والرغبة في البقاء وفاة إنكيدو تمثل نقطة تحول في حياة جلجامش، حيث تظهر كيف يؤثر الموت على العلاقات الإنسانية وتحفز التفكير في معنى الحياة، يُبدي جلجامش مقاومته للموت ومحاولة التغلب عليه، مما يعكس الصراع البشري ضد القدر، ينتهي الأمر بجلجامش إلى إدراك أن الموت جزء لا يتجزأ من الحياة وهذه مقاربة فلسفية وجودية، مما يعكس تناغم الفلسفة السومرية حول قيمة الحياة من خلال منظور وجودي وعدم إمكانية الفرار من الموت، كذلك من خلال الأسطورة يقترح جلجامش أن الخلود يتحقق من خلال الأفعال العظيمة والإنجازات وهي مقاربة وجودية في خلق المعنى، مما يعكس الفكرة بأن الإرث الفكري يمكن أن يستمر حتى بعد الموت، تعتبر أسطورة جلجامش استكشافًا عميقًا لمفاهيم الحياة والموت، حيث تتناول الصراع البشري مع الفناء والبحث عن المعنى والخلود، مما يجعلها واحدة من أعظم السرديات في الأدب العالمي.

رموز الموت في الأساطير السومرية

في الأساطير السومرية ومنها ملحمة جلجامش، تُستخدم عدة رموز رئيسية لتمثيل الموت. يُعتبر الأسد رمزًا للجبروت، ولكنه أيضًا يُشير إلى الفناء، حيث يُظهر كيف يمكن للقوة أن تُهزم، تُستخدم العواصف كرمز للفوضى، مما يعكس الفوضى التي يمكن أن تحدث عند مواجهة الموت، تمثل الطقوس الجنائزية في القصة تكريم الموتى، مما يشير إلى أهمية الاعتراف بالموت والاحتفال بالحياة، تُظهر هذه الرموز كيف تعكس أسطورة جلجامش مفاهيم الموت والفناء، مما يُعزز فهم القضايا الإنسانية العميقة المتعلقة بالحياة والموت.

الاستعمال الرمزي للحيوان في السرديات التاريخية

استخدام الحيوانات كرموز في السرديات التاريخية له عدة أسباب ودلالات، تُستخدم الحيوانات لتمثيل صفات بشرية مثل الشجاعة (الأسد) أو الحيلة (الثعلب)، مما يُسهل فهم القيم الأخلاقية في علاقة الإنسان بالطبيعة كما تعكس الحيوانات العلاقة العميقة بين الإنسان والطبيعة، تُساعد الحيوانات في تبسيط الأفكار المعقدة، مما يجعل السرد أكثر جذبًا وسهولة في الفهم، يُستخدم الحيوان في كثير من الأحيان كوسيلة لتعليم الدروس الأخلاقية والاجتماعية، مما يعزز القيم الثقافية، تُعتبر بعض الحيوانات رموزًا روحية في ثقافات مختلفة، مما يُعزز من العمق الروحي للأساطير، تُساهم الحيوانات في تشكيل الهوية الثقافية والتاريخية، حيث يتم تصويرها في الأساطير كجزء من التراث، تشكل الحيوانات عناصر مركزية في الكثير من السرديات التاريخية في الحضارات المجاورة كالحضارة المصرية حيث مثلت بعض الحيوانات الهة في الحياة وبعد الموت كونها تحمل دلالات ثقافية وروحية وأخلاقية تعزز من فهم القضايا الإنسانية وتساهم في نقل القيم عبر الأجيال.

التعبير الرمزي

يُعكس التعبير الرمزي العلاقة المعقدة بين البشر والطبيعة، مما يثير تساؤلات حول الأخلاق والاحترام تجاه الكائنات الأخرى، يمكن أن يتغير التعبير الرمزي للحيوانات عبر الزمن والثقافات، مما يعكس التحولات في القيم والمعتقدات البشرية، يُساعد استخدام الحيوانات كرموز في استكشاف الهوية الفردية والجماعية، و قد تُستخدم الحيوانات كرموز في النضالات السياسية والاجتماعية، حيث تُصبح رمزًا للمقاومة أو الهوية الثقافية، من خلال هذه الطرق يمكن للحيوانات أن تلعب دورًا مركزيًا في تشكيل الهوية الجماعية وتعزيز الروابط بين الأفراد، حيث يمكن أن تعكس الصفات الحيوانية جوانب من الذات البشرية، حيث تعكس القيم الثقافية والوجودية، وتُظهر العلاقة بين الإنسان والطبيعة.

السرديات السومرية والدروس الوجودية المعاصرة

سرديات العالم الأسفل او الرحلة الى العالم السفلي، في الحضارة السومرية تعكس فهمهم للوجود والموت، وتقدم دروسًا وجودية معاصرة. العالم الأسفل (كُر) يُعتبر مكانًا للنفوس بعد الموت، حيث تقع فيه تجارب مختلفة تعتمد على الأفعال في الحياة وتعكس القصص الصراعات الداخلية والتحديات التي تواجه الإنسان، مما يشير إلى أن الحياة ليست مجرد وجود مادي، بل تجربة روحية، تؤكد السرديات السومرية على أهمية الأفعال والممارسات الأخلاقية، مما يعكس فكرة أن كل عمل له تبعات (المسؤولية الشخصية)، قصص مثل رحلة إنانا تبرز أهمية التحول الذاتي والتعلم من التجارب، وهو درس هام في الحياة المعاصرة، تعكس السرديات السومرية أهمية الروابط الروحية، مما يوضح الحاجة إلى فهم الذات والتواصل مع ما هو أبعد من الحياة اليومية، تدعو السرديات السومرية الى تقبل الموت كجزء من دورة الحياة، مما يساعد الأفراد على مواجهة مخاوفهم، سرديات العالم الأسفل في الحضارة السومرية ليست مجرد خرافات، بل تحمل دروسًا عميقة حول الوجود، الأخلاق، والتغيير، مما يجعلها ذات صلة كبيرة بالوجودية المعاصرة.

***

غالب المسعودي

 

محنة العراقيين مع التاريخ

ان فحوى هذا الموضوع يتقاطع تماما "مع كل الدعاوى التي ينادي أصحابها بضرورة إسدال ستار (النسيان) على الماضي وطيّ صفحات التاريخ القديم، لكي يصار بمقدورنا التخلص من أعباء المواريث والتطلع من ثم صوب آفاق المستقبل دون أن نكون مثقلين بأوزار الأول ورزايا الثاني. ان زعم البعض بإمكانية إجراء عملية (النسيان) وتصفير مخزون الذاكرة، دون خوض تجربة (استحضار) الماضي لاستكشاف ما أقصي وأهمل، و(استنطاق) التاريخ لإماطة اللثام عما أسكت عنه وأحجم القول فيه، لن يكون مردودها سوى تكرار حصاد الفشل الذريع والخذلان المريع !. 

صحيح ان محاولات حثّ الآخرين على نسيان الماضي والغفلة عن التاريخ، تكون في بعض الحالات مجدية وربما نافعة على الصعيد الذاتي / الشخصي، من حيث التخلص من التوترات والاحتقانات التي تنغص على الذات صفائها الذهني وهدوئها النفسي، ولكنها على الصعيد الجماعي / الاجتماعي قد تكون مفضية الى تفعيل عوامل الدمار الاجتماعي والخراب الحضاري!. ليس لأن الأحداث التي قاسى منها الإنسان / الفرد وعانى من عواقبها وتداعياتها قليلة الألم ومحدودة الضرر، وإنما لكونها لا ترقى الى مستوى ما تخلفه من كوارث وفواجع فيما لو نظر إليها بالمنظار التاريخي والسيكولوجي للجماعات المكوّنة للمجتمع.

وفيما لو تجاوزنا مخزون ذاكرة (الأفراد) وتخطينا حصيلتها من الأحداث الساخنة والوقائع البارزة التي استبطنتها عبر التقادم الزمني والتراكم المكاني، وذلك أثناء تعاطيها المستمر مع السرديات التاريخية المتداولة، وانخراطها الدائم بالمجايلات الاجتماعية المتفاعلة. فإنه من المتعذر، بلّه المستحيل – التغاظي عما تحتشد به مخزونات الذاكرة (الجماعية أو الجمعية) من خطوب جائرة وندوب غائرة لا يمكن الاستهانة بها أو تجاهلها، فضلا"عما قد يكون ترسب في قيعانها وتغلغل بين تجاويفها من إيحاءات سيكولوجية لا تزول وتمثلات ذهنية لا تمحى. لا بل ان أية محاولة متهورة تستهدف إسدال الستار عليها أو التقليل من شأنها، كائنة ما كانت المزاعم والادعاءات، سوف تأتي بمردود عكسي لم يكن في الحسبان توقعه أو أخذه على محمل الجد، بحيث لا يجعل من تلك الإيحاءات والتمثلات أكثر صلابة وأشد تماسكا"مما كانت عليه سابقا"فحسب، وإنما كذلك سيحفز مكوناتها ويستنفر عناصرها لتصبح أسهل في التعبئة الإيديولوجية وأسرع في التجييش السياسي.

والحال إذا كان الأمر على هذه الشاكلة من التعقيد والحساسية، كيف يمكننا الحديث عن إمكانية حمل الجماعات المتكارهة والمتصارعة، على خلفية احتقانات الماضي والتباسات التاريخ، (التصالح) مع هذا الكم الهائل من الجروح والآلام النفسية الممضّة، ومن ثم إسقاط هذه التركة الثقيلة في غياهب (النسيان) هكذا ببساطة دون أي ثمن ؟!. وفي إطار البحث عن مخرج يتيح الانعتاق من هذه المتاهة، ربما سؤال يطرح نفسه : ما العمل إذن ؟!، وما هو السبيل أو المدخل الذي يمكن أن يحل لنا هذا اللغز المحيّر وينتشلنا من هذه الدوامات العاصفة ؟!.

الحقيقة أنه لا يمكن الإفلات من هذا (الخانق التاريخي) إلاّ بانتهاج طريق واحد صعب ومكلف، ولكن لا بديل له ولا خيار سواه، وهو اضطلاع كل من ينشد الخلاص من هذه الفواجع المتراكمة والمواجع المتفاقمة، التي لم تبرح تفتك بكل ما يبعث الحياة في كيان العراق والعراقيين من مؤرخين وباحثين وأكاديميين. وذلك بتبني مشروع حضاري شامل لا يستهدف فقط (استحضار) مواريث (الماضي) و(تحيين) سرديات (التاريخ)، بقصد تكرار أحداثها واجترار مضامينها تحت يافطة (إعادة قراءة التاريخ)، كما حصل ويحصل لحدن الآن فحسب. وإنما بغية (تفكيك) منظومات البنى العميقة ونبش طبقات الطمى الراكدة بكل ما فيها من غثّ وسمين، ومن ثم تعريضها لعمليات (نقد) صارم و(تعرية) جذرية لا تستثنى حقل من الحقول المحرمة إلاّ وهتكته، ولا تعفي مضمار من المضامير الممنوعة إلاّ وانتهكته !.

وهكذا، وبعد هذه العملية الجريئة والاقتحامية - وليس قبلها بالضرورة - الشروع بعمليات (مكاشفة) صريحة و(محاسبة) قاسية لكل ما حوته الذاكرة التاريخية واستبطنه المخيال الجمعي من أحداث (ملفقة) ووقائع (مختلقة)، ساهمت بتدوينها وتكريسها أنظمة سياسية طاغية ومؤسسات دينية فاسدة، بحيث يعاد ترتيب وموضعة تلك الأحداث والوقائع وفقا "لمصادرها الأصلية دون إضافات وسياقاتها الفعلية دون رتوش. هنا وعند هذا المنعطف المفصلي يمكننا الحديث عن أمكانية حصول (مصالحة) مع الماضي، وامتلاك قدرة التعايش مع (النسيان). أما بغير هذا الدرب الوعر والمضني، فلن يكون أمامنا سبيل آخر سوى المزيد من زراعة الخراب الاقتصادي، وحصاد الدمار الاجتماعي، وجني الانحطاط الحضاري.

***

ثامر عباس

 

ماضي مشرق لکن غیر مٶرخ

مقدمة: رغم انني هنا، لست بصدد کتابة 'تأریخ الفلسفة في الفکر والثقافة الکردية' بشکل عام، لکن لابأس اذا عرضت مقدمة وجیزة عن الفلسفة في ربوع کردستان. لعبت الفلسفة الإسلامية بجذورها الیونانیة والایرانیة دورا هاما في كردستان وفي الثقافة الكردية، حيث ظهر العديد من المفكرين والعلماء الذين ساهموا في تطور الفلسفة الإسلامية.

فکان للکرد المشارکة الفعلیة في المسیرة الحضاریة. اذ لعب الكرد دور بارز في المسائل العلمیة، سواء کان العلوم النقلیة أو العقلیة کالفلسفة أو العرفانیة.

فهذه هبة لا تنکر في التأریخ الکردي فحسب، بل في تأریخ "الحضارة الشرقیة-الأسلامیة"‌‌‌‌ أیضا. فما یعرف العلماء والمتنورین الکورد هو المشارکة الفعالة في العصور الذهبیة للتطور الفکري ومسيىرة الترجمة للنصوص وتناول افکار فلسفیة داخل الحضارة الأسلامیة.

حسب ما یراه المٶرخون والدارسون، عندما حضرت الفلسفة وعلم الکلام ابان العصور الوسطی للخلافة الأسلامیة، آوت مناطق کردستان الفلسفة واحتضنت علماء الکلام1. اذ وافد من کافة ارجاء العالم الأسلامي طلاب العلم سواء لتحصیل العلوم النقلیة کانت ام النظریة والعقلیة.

فهذه حقیقة تأریخیة لاتنکر. لکن رغم ذلك لم تتبلور عنها ارضیة فلسفیة مستقلة ومتواصلة. ولم تکن البیئة الثقافیة في وقتها حاضنة جیدة للنشاط الفلسفي البحت، لأن کوردستان، کغیرها من البلاد، (وضعت فارزتين) تأثرت بالعوامل السیاسیة والأنغلاق الثقافي والدیني.

مع ذلك، فالنواة الفلسفیة کانت موجودة فیها لقرون، لکنها بقت خامدة، متبعثرة وغیر منظمة. لكن، بلا شك، ظهرت بین حین وآخر محاولات ملفة للنظر علی ایدي علماء کرد، الا انها تمركزت في مناطق شبه نائية ومنعزلة عن بعضها. لذا ساورد في الصفحات التالیة تفسیر للعوامل والمعوقات الذاتیة والموضوعة التي ادت الی عرقلة السیر الفلسفي في کوردستان.

I- الفلسفة بین الوجود والتواجد

عندما نتحدث عن الفلسفة في کوردستان، غالبا نلاقي اشکالیة نظریة: این الفلاسفة ونتاجاتهم الفلسفیة؟ هل هناك نصوص کي نٶرخ به تأریخ الفلسفة في کوردستان؟ این المدارس الکلامیة والفلسفیة ومن هم روادها؟

رغم ان هذه الأسئلة تبدو في الوهلة الأولی منطقیة وجازمة، لکنها تفتقر الی التمعن والتفحص. فالفلسفة في اشکالها مرست في المدارس العلمیة في کوردستان، ضمن نشاطات ومواد أخری للتدریس. بتعبیر آخر،) لا ینکر وجود الفلسفة، لکن طریقة تواجدها وتداولها بین الدارسین من خلال الکتب وکنشاطات ثقافیة شیء آخر.

اذن، کان للفلسفة وجود في المدارس العلمیة ونوقشت ودرست لدی علماء ومدرسین بشکل مستمر. فهذا الشق الأول للحقیقة. اما الشق الثاني للمسألة، عندما یلح باحث وسائل: لماذا لا نجد اي نص فلسفي ونتاج فکري لأحد العلماء؟

لا نسرع في الإجابة إذا قلنا، یمکن اثبات هذا فقط، عندما نبحث في المخطوطات المتبعثرة هنا وهناك التي تضم نصوص للکرد. إذن، فالجواب نتیجة البحث في المکتبات واماکن أخری.

II- عدم وجود الشيء، یعني ضرورة ایجاده

هل هناك حاجة ام ضرورة الی الفلسفة عندنا مثلا في اقلیم کردستان؟ یبدو السٶال في الظاهر، منطقیا. ولکن فلسفیا، لا یعتبر سؤالا فلسفیا بحتا بالدرجة الاولی.

کما ان طرح مثل هذا السٶال، یبدو عند عرضه ان السائل والمخاطب والمتسائل لدیه خیار ان یختار ما بین الضرورة ام ردها. علاوة علی ذلك، ان هذا السٶال موجه (بکسر الجیم) وان الجواب حاضر مقدما.

لذا، الطرح جدلي وافتراضي اکثر من كونه واقعیا. أي مراوغة کلامیة في شکل سٶال لا غیر. ربما نستند للقاعدة المنطقیة التي تٶکد "بأن عدم حضور الشيء، یعني ضرورة ایجاده کما أن حضور/تواجد الشیء یلغي ضرورة ایجاده."

III-        الفلسفة حلت نفسها  في اللغة

هناك تحدیات تواجه الفلسفة حتی في الغرب والفکر الاوروبي، علی الرغم من ذلك فان الفلسفة حلت نفسها في اللغة والتفکیر السائد. وهو دلیل علی عدم نهایتها، إنما حلولها الکلي في الفکر والثقافة. لأن الفکر الاوروبي، مطبوع بمباديء فلسفیة اولیة في اشکال مختلفة للتفکیر واصبحت جزأ لایتجزأ من النظام الفکري والسیاسي والثقافي وغیره.

لذا وبهذا المعنی، حلت الفلسفة نفسها في الحیاة الثقافیة کلیا. وهذا الاستنتاج لیس بغریب، بل یثبت مصداقیة مقولة هیغل "ان الفکر یصبح واقعا والواقع فکرا". فمن هذا المنظور، لیس هناك حاجة لإیجاد الفسلفة وادعاء ضرورتها.

فالضرورة تأتي عند عدم حضور الشیيء في الواقع، ولکن اذا طبق نفس القاعدة علی الفلسفة، فان وجود الفسلفة لابد منه في الواقع الفکري الحیاتي. لان خلوها توجب ایجادها مرة اخری. کما ان الفلسفة تأخذ أشکالا أخری في ایجاد العلوم والمناسبات الأخری. انها کالجسم الکبیر الذي یتفرع الی أجزاء اخری. التفلسف تسبق العلوم، لکونها ام العلوم وبسطت أسئلة أساسیة وابستمولوجیة في حقل المعرفة والعلم.

IV- التحدیات التي تواجه الفلسفة في اقلیم کوردستان العراق

علی الرغم من أن القاطنين في الاقلیم تمتعوا بنوع من الحریة في غضون ثلاثة عقود من الزمن، إلا هناك عدة اتجاهات دینیة وعقائدیة متزمتة ومجموعات محافظة بسطت نفوذها علی الفضاء الإجتماعي والاعلامي وتخللت في المؤسسات الحکومیة أیضا. وذلك من خلال تهمیش وتشویه الفکر الحر والفلسفة علی السواء. کما أن السلطات تواطئت مع القاعدة الشعبیة لهذه الاتجاهات ووظفتها کحصان طراودة لکبت الرأي المخالف والتفکیر الحر.

لذا، تواجه الفلسفة في الاقلیم تحديات کنقص الموارد البشریة والبنیة التحتیة للتعلیم وضعف الدراسات الأكاديمية المتخصصة. وتواجه أیضا تحديات سياسیة حیث لم یتم قبول الفلسفة کمادة فکریة وانسانیة لها آثار سیاسیة واجتماعیة.

إضافة الی هذه العوامل الموضوعیة، هناك عوامل ذاتية التي ادی الی ارباك الفکر والفهم الفلسفي:

- عرض وتقدیم الفلسفة كموضوع صعب ومعقد مخبأ في بطون الكتب السمیكة الذي لا يفهمها الا الأساتذة الماهرون.

- لقد سيطرت نظرة قمعية على تفكير الأفراد العاديين ذوي الأفكار والمعتقدات الجاهزة التي لا تسمح بالتفكير السليم والاجتهاد الذاتي. وبطبيعة الحال، في وقت من الأوقات، حلت المعتقدات الدينية محل التفكير الحر والمستقل وعودت الناس علی "الكسل الفكري" من خلال إعطائهم وصفة بسيطة: "الإيمان يساوي الخلاص".

- کما إن التكنولوجيا المتقدمة اليوم، المدعومة بعلم آلي موحد وسوق سلع عالمي، قد أدت إلى تقليص الفكر إلى الاستهلاك بدلاً من الانفتاح. لقد حل الطلب على اقتناء السلع محل الأسئلة الخطيرة.

- الخلاف بين المنشغلین بالفلسفة في الاقلیم وعدم اجماعهم على مشروع فلسفي بحت. وللأسف لم يتمكن قسم الفلسفة في جامعة صلاح الدين اربیل، وجامعة رابرین- رانیە والسلیمانیة من التقريب بين الفلاسفة والخبراء والتقوقع في التعلیم الجامعي.

- بالإضافة إلى عدم وجود مجلس أو جمعية فلسفية قادرة على تنظيم المؤتمرات المحلية والدولية.

- عدم وجود صوت أكاديمي محدد للفلسفة في مطبوعة مستقلة يمكن أن تخلق "مكانة" مناسبة للفلسفة في وسائل الإعلام وتنقذ الفلسفة من فخ الجدل.

- وضع سياسي أعمى ووضع ثقافي غير موات جعل الحديث عن الفلسفة في المجال الفكري الكردي مهمة ثانوية.

- إن وضع الفلسفة في الجامعات يتعرض للرفض والتهمیش والی غلق اقسام الفلسفة بشكل مستمر. السبب الرئيسي هو عدم فهم دور الفلسفة باسم الفكر العلمي.

- عدم وجود نظرة ونقاط مشترکة بین الدارسین والمنشغلین بالفلسفة؛ نظرا أن أغلبیة الذین درسوا الفلسفة من الرعیل الاول والثاني، کونهم تخرجوا خارج البلد وتأثروا بالبیئة الفلسفیة الحاضني لها ومدارسها وفلاسفتها. فکل یری ما درسە هو الصواب.

- عدم تدريس الفلسفة في المؤسسات التربوية الا في المرحلة الأدبية وتدرس في نصف المنهج وغالبا تدرس من قبل غیر اخصائین، وأیضا في الاقسام العلمیة والانسانیة في الجامعات.

- عدم تهيء الجو السیاسي والدیني لتلقي الفلسفة ومحاولة إقصائها بذرائع سیاسیة ودینیة کمحرمات فکریة.

- ضعف انخراط أقسام الفلسفة في التكوين الفکري والثقافي العام.

- صعوبة الحصول علی فرصة عمل بعد التخرج من اقسام الفلسفة.

فالمطلوب إذن، هو:

- إعادة الإعتبار لتدریس مادة الفلسفة والتفکیر النقدي في المنظومة التربوية بکافة مراحلها عموما. وهذا مناط بوزارتي التربية والتعليم العالي والبحث العلمي.

-  تغیر المناهج الدراسیة التي تدعو الی التفتح الفکري والثقافي. لأن الدور البيداغوجي للفلسفة في نشر حرية التفكير، التسامح، التعایش والتعددیة ونبذ الجمود الفکري والتطرف العقائدي. فالفلسفة، بمثابة ردع فکري ومقاومة عقلیة تجاه تفشي الارهاب والتطرف.

- تخصیص خریجی الفلسفة لتدریس مادة الفلسفة.

علی الرغم من التحديات السياسية والأجتماعية التي تواجه الفلسفة والمنشغلین بها بعد عقدین من تأسیس اقسام الفلسفة في الجامعات، إلا أن هناك إرهاصات لتطورها. لکن لابد من توفر المتطلبات الأساسیسة لنموها، کزيادة الوعي الثقافي والنقدي، انتشار في الفلسفة من خلال التعليم والإعلام. کما أنها تحتاج إلى دعم مٶسساتي من الأكاديميا وضمان الحریة الفكرية والإنفتاح.

***

د. نوزاد جمال

......................

د. عماد عبد السلام رٶوف. مراکز ثقافیة مغمورة في کردستان. ص١٥-١٦. موکریان للطباعة والنشر. ٢٠٠٨. ایضا في کتاب آخر لنفس المٶلف: ابراهیم الشهرزوري الکوراني. حیاته وآثاره. ص  ٦-١٤. سلسة اصدارات الجمعیة الثقافیة لکردستان رقم(٤) اربیل ٢٠١٠

 

هناك كثير من نقاط الضعف حول العالم، لكنها لا تدعو الى القلق بحكم صفة التغيير الطبيعية في المجتمع. لكن المقلق هو تأثير الأعراض الجانبية لنقاط الضعف تلك في انسنة الوجود البشري في عالم تقني، رقمي، آلي، وذكي..

من تلك الأعراض الجانبية لنقاط الضعف حول العالم، ميل بعضهم الى اختيار الثقافة الأنسب بدلاً عن الثقافة الأفضل، لأن التطور العلمي والنمو الإقتصادي، وتغير مفهوم علاقة السلطة بالفرد والمجتمع، وظهور شركات واسواق عابرة للحدود الجغرافية والقومية واللغة، جميعها تدفع بإتجاه تشكيل أفكار الناس وانماط معيشتهم في ضوء ما يخدم حركة حياتهم المعتادة، بحيث لا يجدون ضرورة ملحة تدعوهم للتمسك بمعايير وأخلاقيات وتشريعات متوارثة ومتعارف عليها. بل لعلهم يجدون ما يسوغون به عدم التزامهم او عدم تمسكهم بتلك المعايير..

العوامل الإقتصادية والإجتماعية والسياسية والدينية والثقافية تؤدي دوراً ملحوظاً في تشكيل صيغة العلاقة بين الفرد وبين محيطه بكل مكوناته من طبيعة وافراد وسلع وأفكار، فكانت حزمة الاخلاق والعاطفة والطيبة والالتزام الأدبي والالتزام الديني، فضلاً عن الطابع الإنساني الفطري الذي يطبع علاقة الفرد بالآخرين، تؤثر في علاقة الفرد بحاجاته وممتلكاته، فقد كانت السلعة التي يستهلكها تحظى بقدر اكبر من مجرد كونها سلعة، لتغدو جزءاً مرناً وحيّاَ في حياة الشخص. كان الفرد يحتفظ بالسلعة حتى بعد انتهاء صلاحيتها للعمل الذي أعدت لأجله، لأنها تحولت الى جزء من ذاكرته وذائقته. لم يعد هذا الجو يشكل اليوم بيئة ملائمة بعد ان شغلت المادة والحاجة مساحة اكبر في علاقة الفرد بمحيطه من مساحة العاطفة والذائقة..

انسحب هذا على علاقة الشخص بدينه وتراثه وثقافته، حيث أخذت هذه العلاقة فهماً إجتماعياً آنياً يعتمد لغة التبرير عوضاً عن لغة التفكير، فما وافق هوى النفس ومتطلبات المرحلة الحياتية إقتصادياً وإجتماعياً، كان أولى بالقبول وان تقاطع هذا القبول مع منظومة الأعراف والشرائع والعادات والأخلاق..

التطور العلمي المتسارع:

التسارع هو ميزة التطور العلمي في القرن الواحد والعشرين. وقد.

وظف النظام السياسي العالمي الجديد هذه التقنية المتطورة في توجيه انظار الأفراد الى مجتمعاتهم من الداخل، بعد ان حفز فيهم فكرة التطوير والتغيير من خلال المساحة الكبيرة التي هيأتها عالمية استخدام التقنية الرقمية لحرية التعبير وحرية التفكير وحرية الاختيار، فظهرت في المجتمعات محاولات جريئة لايجاد فرص تغيير مستحدثة لا تتورع احياناً في تجاوز بعض ثوابت المجتمع من اخلاق وثقافة ودين، هكذا تبدأ عملية تفكيك اي مجتمع لإعادة بنائه على وفق أجندات عالمية تأخذ بعين الإعتبار مصالح المشاريع الكبرى لسياسات الإقتصاد الصناعي الثقافي العالمي، التي كثيراً ما تتقاطع مع ثوابت المجتمع العربي، خصوصاً ما يتعلق منها بعلاقة الانسان بالدين.  فالنظام العالمي الجديد هو نظام سياسي، علمي، رقمي، اقتصادي، وتجاري. يستثمر في مجالات الحياة المادية وحتى الثقافية منها. ولكي لا تؤثر نقاط تقاطع اهداف المصالح الكبرى مع ثوابت المجتمع، فقد وُظفت تقنية العصر في تقديم عروض الكترونية فيها من الغرابة ومن التشويق ومن الخروج على المألوف ومن التزييف ما يشد الانتباه..

هناك ملايين من الإعجابات الوهمية التي تنتجها صفحات وهمية وحسابات وهمية على الفيسبوك مثلاً. كثيراً ما تستهدف هذه الإعجابات شرائح معينة في المجتمع وخصوصاً الشباب ومحدودي الوعي وقليلي الخبرة و..، وكثيراً ما تكون مدفوعة الثمن من اجل انتاج اخبار كاذبة ومعلومات مزيفة، هدفها تغييب وعي الفرد أو اثارته عقائدياً أو عشائرياً أو ثقافياً. فهي تنفذ من خلال هذه الإثارة وذاك التشويق لتمرير صور ومقاطع فديو ونشرات وعبارات لا يراد لها ان تؤتي أكلها آنياً بقدر ما يراد لها ان تطرح ثماراً مهجنة ومدجنة بمرور الوقت. منها مثلاً  إضافة مقطع صوتي لإنشودة وطنية عربية على مقطع فديو يظهر عدداً من الفتيات الجميلات وهن يستعرضن بملابس مثيرة  !! ومنها أيضاً مقطع فديو يظهر فيه عدد من النساء المتبرجات في نادي ثقافي او كافتريا عائلية وهن يحتسين القهوة في صالة النادي على صوت انشودة دينية !!..

المستقبل ليس قدراً ينتظرنا، أو ننتظره. المستقبل اختيار نصنعه نحن في حاضرنا. فإذا ما علمنا ان الجيل الجديد اليوم هو اكثر دراية بمصادر التكنلوجيا واقل دراية بمنابع المعرفة الرئيسة. واذا ما علمان ان من حقه أيضاً ان يفهم الحرية فهماً يناسب عصره. فإن من حق هذا الجيل علينا ان نحافظ له على المواد الأولية الأساسية اللازمة لإنتاج فهم صحيح للحرية بحكم الخبرة والحكمة والمعرفة  والمسؤولية الثقافية، وإلا كنا سبباً في حمل ابنائنا على صناعة حرية قد تشكل خطراً على سلامة حياتهم..

إننا بحاجة اليوم الى استخدام العلم الحديث في إعادة النظر الى الماضي من أجل إعادة بناء أكبر عدد ممكن من صفحات تاريخ الثقافة العربية الإسلامية بشكل يجعلنا متواصلين مع ذلك الماضي، لا بمعنى ان نعيش حاضرنا بجلباب الماضي ولكن بمعنى الامتداد الحي الذي يغذينا ليكون لنا بصمتنا المعاصرة في صناعة ثقافتنا. فمن دواعي التجديد، استخدام أدوات العصر الحديثة في إعادة النظر الى الموروث القديم من افكار وعادات واعتقادات.  فمن حق الجيل الجديد ان يعيد طرح الاسئلة القديمة بلغة عصره الجديدة، ومن حقه على الثقافة المعاصرة ان لا تقابل استفهاماته بالتعجب او بالاستغراب او بالاستهجان، كما ان من حق ثقافة التراث على الجيل الجديد ان ينطلق في استفهاماته من باب التوثيق لا من باب التلفيق، لكي لا تدخل الثقافة في فوضى تنتهي فيها كقوة حيوية فاعلة قادرة على إعادة تنظيم طريقة حياة المجتمع. من تلك الإستفهامات التي تواجهها الثقافة العربية المعاصرة اليوم : ما مدى حاجتنا الى الدين في عصر يتولى فيه الذكاء الاصطناعي تقديم حلول لمشاكلنا، وتقديم اجوبة مقنعة لتساؤلاتنا.؟.

هل لا يزال بوسعنا كمسلمين معاصرين ان نواكب حضارة الغرب الرقمية الذكية بطقوسنا وشعائرنا الدينية؟.

هل تسهم ثقافة العمل الاقتصادي والتجاري وتبادل الخبرات الفنية والعلمية والثقافية مع بلدان العالم المتقدم، في تغريب الثقافة العربية والخروج من الدين في واقع حياتنا الاجتماعية الجديدة  ؟.

المزاج الرسمي:

في البلدان التي يتحكم فيها المزاج الرسمي في صناعة قوانين تخدم التسلط السياسي والإداري للأنظمة الحاكمة على حساب العدالة الإجتماعية. يحتاج الفرد الى قوة يحتمي بها من تداعيات هذا المزاج الرسمي، وفي مجتمعاتنا العربية يمثل الدين القوة الأفضل التي يحتاجها الفرد للتمسك بها مقابل تمسك السلطة بقوة السلاح وسطوة القانون، فالدين يمثل قوة صديقة، نظيفة، وآمنة يظمأ لها العربي المسلم كي يروي بها خوفه من السلطة..

يقول الفيلسوف الامريكي المخضرم بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين (وليام جيمس) : (ان جوهر الديانة هو الإيمان بالبقاء وان هذا البقاء مرهون بوجود قوة صديقة للانسان وراء الظواهر الكونية او المادة العمياء)..

تدري السلطة الحاكمة بنظافة قوة الدين وتدري بمدى قوة علاقة الفرد بالدين، وعلاقة المجتمع بالدين، لذا دعمت حضور هذه القوة في المجتمع ووظفت وعاظها ليكونوا حلقة إتصالها بالناس، واحلت فكرة العبودية محل العبادة، وروجت لها على السنة اولئك الوعاظ، لأن عبادة العبيد هي الفكرة الأنسب لاهداف العقل السياسي المتسلط في المجتمع الديني. ولأن فرض الأمن من متطلبات ديمومة التسلط، فقد وظفت السلطة الحاكمة دعوات الدين الى حفظ الأموال والأنفس والحقوق في جانب عبادة العبيد، لا في جانب عبادة الأحرار. فأمرت وعاظها بأن يتحدثوا الى الناس عن الحاكم المسلم. خليفة الله في الارض وأمير المؤمنين واوجبت طاعته. وعدّت من ينادي بعبادة الأحرار معارضاً لها، واتهمته بإخلال الامن وبالإضرار بالمصلحة العامة واتهمته أيضاَ بازعاج السلطات وانتهاك القوانين. هكذا تم اعتقال كثير من المفكرين الأحرار والمصلحين الثوار وغيّب جوهر الدين، وبمرور الوقت أخذ دين السلطة الحاكمة مكانة الدين الذي (وصى بها ابراهيم بنيه ويعقوب يا بني ان الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وانتم مسلمون ) سورة البقرة الآية 132..  وفقد المجتمع العربي المسلم المعاصر قدرته على صناعة حضارة كان قد صنعها أجدادهم من قبل. واقتصرت علاقة كثير من الناس بالدين، على طقوس يشعرون وهم يؤدونها انهم في مأمن من مزاج السلطة الحاكمة، وقوى الشر الناتجة عن فشل قوانين الدولة في جعل العدالة الإجتماعية ايقونتها المعاصرة. وليس ادل على ذلك من كثرة حالات العنف الأسري وجرائم القتل وحالات الانتحار وحالات التنمر والمحتويات الهابطة وعمليات الابتزاز والسرقة و.. و... تكمن المشكلة في الخلل الواضح في قدرة تفكير العقل السياسي العربي إزاء ثلاثية العدالة والمحكمة والشارع مثلاً. فالمحكمة هي مكان تحقيق العدالة، بينما الشارع هو مكان تطبيق هذه العدالة. وما من مواطن عربي إلا ويدرك هذا الخلل. إذ ان هناك واقع منحرف في هيكلية الجهات المتنفذة سواء بشكل رسمي او بشكل خاص..

ان تحول العربي المسلم سياسياً من مرحلة السلطة الظالمة والدكتاتورية في بعض البلدان مثل العراق حيث الخوف، الى مرحلة السلطة الفاشلة حيث القلق في العقود الأخيرة، قد تسبب في انتقال التفكير من حالة التخوف من الحركة الى حالة اضطراب الحركة، وبدخول مفهوم الحرية على موجات البث الالكتروني في مواقع التواصل الاجتماعي، يكون الفرد العربي قد دخل الى مرحلة اللاادرية الثقافية. ومثلما هيأت وسائل التواصل الإجتماعي ومواقع الانترنت مساحة حرة للتفكير. كذلك كان للتكفير مساحته المخيفة..

من هنا انطلق بعض المثقفين المعاصرين باتجاه اتهام الدين بتأخر المجتمع. ومنهم من اتهم السياسة في ذلك.  منهم من دعا الى ضرورة تهميش الدين في الدولة والمجتمع وجعل الطقوس الدينية حق فردي يمارسه الشخص داخل بيته وليس له هذا الحق في الشارع. منهم من دعا الى الخروج من الدين كونه لم يعد قادراً على انتاج حضارة، وان لا حاجة الى الدين في عصر العلم الحديث والتقنية المتطورة والذكاء الإصطناعي الذي بات قادراً على تقديم اجابات عن مختلف الأسئلة التي يحتاجها الانسان المعاصر..

بدون ظهور آلية ثقافية جديدة معنية بتحقيق أجواء الإستقرار النفسي والعاطفي والعقلي لشخصية الفرد المعاصر في وقت تعمل فيه مشاريع عالمية على الإستثمار في الدين والثقافة، فإن الدين سيعود غريباً كما بدأ...

***

د. عدي عدنان البلداوي

قلّة في عالم الجنوب ظلّت في مأمن من "غواية الغرب"، ولو رمنا توصيف هذه الغواية بشكليها الطوعي والقسري، لقلنا هي وصفة محكمة من الاستلاب والاستمراء. تنبّهَ جملة من المفكرين الكبار، ممّن عملوا على تفكيك هذه الظاهرة في حدود الموضوعية العلمية، إلى ضرورة فهمها والتوقّي من آثارها. منهم الراحل حسن حنفي، والمفكر نعوم تشومسكي، وعالم الاجتماع شموئيل نوح إيزنستادت. في كتاب من تأليف الإيطالي ماسيمو كامبانيني حوْل المفكر المصري حنفي، اعتبر أنّ علاقة العرب المضطربة بالغرب، تعود في شقّ واسع منها إلى عدم التناصت. لاختلاف "الطبقات الفهمية" على غرار تنافر "الطبقات الصوتية"، وكأنّ هناك تفاوتا في التسامع يصدّ عن الإصغاء السويّ. وأنّ العرب ليس أمامهم سوى تطوير نظر علمي، بحسب ما دعا إليه حنفي في "مقدمة في علم الاستغراب"، للفوز بتخاطب سوي مع الغرب، والخروج من ثنائية الغواية المضلّلة والكره الأعمى.

وأمّا مع تشومسكي الذي قضى ردحا من حياته ولا يزال في مقارعة سطوة الغرب على العالم، فهو يدعو إلى تحرير الوعي الجمعي من ضلالاته، بهدف التحرر من بطاركة العالم، ولهذا عدَّ نزع تلك الغشاوة بمثابة العمل العلمي الموازي لاهتماماته الألسنية. فكلاهما يسير قدما لترسيخ منظور موضوعي مجرّد لما يحفّ بالإنسان من ظواهر. في حين مع عالم الاجتماع شموئيل إيزنستادت فقد جاءت النظرة من باب مراجعة مفهوم الحداثة الغربية المحوري، بهدف التحرر من ذلك الإغواء الآسر. فلطالما ساد النظر إلى الحداثة بمثابة "الحاوِية المعبَّأة"، وأن المجتمعات التوّاقة إلى هذا المغنم، لا مناص لها من القبول بالحمولة كلّها. وهو ادّعاء ساد على مدى عقود طويلة في النظر إلى هذا المنجَز البشري، وخلّفَ أنواعا شتى من الاستلاب. كشف إيزنستادت زيف هذا الفهم الأحادي للحداثة، وما ينطوي عليه من تجنٍّ بصهْرِ الحضارات في بوتقة الحضارة الغربية، وعمِل على إدراج تحوير جذريٍّ بطرح مقولةِ "الحداثات المتعدِّدة"، في مقابل الحداثة الوحيدة. فعالَم متعدِّدٌ هو أحوج ما يكون إلى فهْمٍ متعدِّدٍ، هكذا راعى إيزنستادت ديناميات التعدّد، ومن ثَمّ إمكان أن تبنيَ تكتلات حضارية جنوبية حداثتها من داخل أنماطها الخاصة، بعيدا عن الخيارات القسرية الواحدة.

فالإشكال الذي نعيشه مع "غواية الغرب" وسحره، أن الأمر يتمكّن من شرائح واسعة في مراحل مبكرة، فيطمس إحساسها الفطري ويفتكُ بمقدّراتها الذهنية، لفقدان المضادات الحيوية التي تحدّ من انتشار بريقه الخادع. فالانبهار داء مستفحل، في الشارع والجامعة، وفي اللغة والفرجة، ولدى المثقفين والأمّيين على حد سواء، بشكل يدعو للدهشة. قبل مغادرتي البلاد العربية، أي منذ زهاء ثلاثة عقود، لما كنت أتّقد حماسا للتغيير والتجديد، لا أزعم أني كنت معافى من هذه الغواية. فقد كانت البوصلة متجهة صوب الغرب، كان الآخر -أقصد الغرب- هو النعيم بالنسبة إليّ، وكان يصعب أن أرى بعين الشاب الغضّ ما أراه اليوم بعين تطلّ على الستين. والمسألة ليست أن يصير المرء طاعنا في السن حتى يصحو، بل هي المعايشة والتجربة لمن تيسر له ذلك والعلموية في النظر للأشياء لمن عازه التواصل المباشر. فعملية الصحو، أو لنقل التطهر، تشبه الدخول إلى مغطس، فيه التداوي بالذي كان هو الداء، أي بالغرب ذاته، بالانغماس فيه بحلوه ومرّه، والعيش في تجاويفه وفهم روحه.

فما معنى أن يزحف ألوف البشر نحو الغرب وهم يمنّون النفس بما يشبه جنة الخلد يدفعهم الإغراء والإغواء؟ ليجدوا أنفسهم يتكدّسون في الشوارع والمحطات، وحول الكنائس ودور المساعدات كالسردين، ولا يعود صدى مذلّتهم وحسرتهم إلى الديار. إنها غواية الفراش حول النار التي تغدو جزءا من تكوينه الغريزي وممّا يؤجج إغواء الآخرين، ممن يصرّون على غيّهم. فليس إغواء الغرب مزاج شبيبة متنطّعة، كما نفسّر الأمر عادة، بل هو نتاج وعي مقلوب، غالبا ما تشيعه شرائح مهزوزة تعلو المنابر، يُفترض أنها واعية وتملك من التمحيص والتمييز الكافيين لفرز الغثّ من السمين. فـ "الأجداد يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون" بحسب المقول التوراتي. ولعلّ الإشكال كامن في التعاطي مع ما يصدر من الغرب بنفسية خائرة، تتراجع فيها النباهة المطلوبة، ويجري استبدالها بما يشبه التصديق الساذج، وهي حالة نفسية تشبه حالة المأسور النفسي.

في كتاب مهمّ للأنثروبولوجي الفرنسي جان-لو آمسال بعنوان "إسلام الأفارقة.. الخيار الصوفي" (2018)، يرصد فيه مساعي حازمة من قِبل أطراف أكاديمية غربية لإبعاد شعوب جنوب الصحراء عن حاضنتهم المغاربية، وفك أواصر الصلة بين تومبكتو وفاس والقيروان والزيتونة. ومحاولة قطع طريق التواصل الضارب في عمق التاريخ بين تلك الحواضر، وذلك بالعمل على اختلاق ما يُشْبه الهوية "الإفريقية الزنجية" في مقابل الهوية "الإفريقية المغاربية". وكما يشرح جان-لو آمسال عادة ما يُعرَض "المخزون الحضاري الأسود" في مقابل "المخزون المغاربي" و"المخزون الشرق أوسطي" و"المخزون الخليجي"، وهي محاولة لفصل المخزون الإفريقي عن مجاله الطبيعي. يبيّن آمسال أن مدرسة مرسال غريول الأنثروبولوجية قد لعبت دورا حاسما في هذا الشرخ، إلى حدّ أنها حولت اللّغةَ العربية في غرب إفريقيا إلى بلوى حضارية، أضحى معها الحرف العربي، في لغات بلدان ما وراء الصحراء، حرفًا لكتابة التمائم والطلاسم والرُّقى والتعاويذ، مما أضفى على العربية عنوان التخلّف والجمود.

لماذا أوردنا هذا الحديث بشأن محاولات زعزعة المكون الحضاري الإفريقي؟ نقول ذلك لأن غواية الغرب قد بدأت مع تفكيك إيمان الأفارقة بذواتهم وأن لهم رصيدا جامعا، يستظلون بظلّه في الأيام العصيبة. في حين مع غياب ذلك الرصيد، أو في حال طمسه، فمن السهل تمرير الأساطير والأخاييل في الوعي الجمعي والثقافة الهشة، فتمسي المعيارية الغربية الأكثر حضورا في الهشيم الثقافي.

السؤال المطروح هو ما العمل أمام غواية الغرب؟ فالملاحظ أن جملة من الأراجيف تسري في عالم الجنوب، بأن الغرب حاضن المثقفين والدارسين والمبدعين الوافدين من عالم الجنوب. فكم من فلاسفة جاءوا إلى الغرب من شرق أوروبا، مع انهيار جدار برلين، صاروا عمال حضائر وصنّاع بيتزا؟ وكم من شعراء وفدوا من المشرق قضوا حياتهم حراسا في العمارات السكنية، لتُقبَر معهم أحلام الفكر والثقافة إلى الأبد؟ ليس لأن الغرب يسدّ الأبواب أمامهم، ولكن لأن هناك بنية ثقافية حضارية تعليمية ينبغي على الوافد امتلاكها وهي ليست بالأمر الهين.

الشاعر الإريتري الإيطالي حميد بارولي عبدو في كتاب بعنوان "سيرة الامتنان" (2023)، وهو عبارة عن سيرة ذاتية، أو لنقل خلاصة تجربة في العمل في مجال الهجرة والمهاجرين في إيطاليا، اعتبر أن المتاجرة بالمهاجرين في بلد الرحيل وبلد النزول هي عبودية جديدة. ومن ضمن ما يورده في الكتاب حديث حول ما يعرف اليوم بـ "النسوية الإسلامية" والتحمس المفرط لها في إيطاليا -وكأن المرأة الإيطالية التي نالت حق الطلاق (1970) وحق الإجهاض (1978) سباقة في هذا المجال. يكشف أن الجمعيات النسوية "المدافعة" عن المرأة العربية، ضحية "الذكورية العربية المفرطة"،كما تصوَّر، تجني من كل حالة تفكيك أسري (طلاق) 2000 يورو، وفي الوجه الآخر من الميدالية -على ما يورد بارولي عبدو- تجد المرأة العربية المهاجرة الأكثر دحرا في سوق الشغل ومعاناة من البطالة القسرية.

ما يتبين جليا أننا كثيرا ما نصنع الأساطير حول الغرب ونقع ضحية لها، والنجاة هو في تفكيك الأساطير والنظر للأمور بواقعية.

***

د. عزالدّين عناية

أستاذ تونسي بجامعة روما، إيطاليا

يركز خطاب التضخيم في السرديات التاريخية على شخصيات معينة، ويُضفي عليها طابعًا أسطوريًا. يساعد هذا في خلق صورة قوية في أذهان الناس، مما يجعل بعض الاشخاص جزءًا من الهوية الجماعية، خطاب التضخيم يعيد تفسير الأحداث التاريخية بطريقة تدعم الأجندات الحالية، مما يساعد في تشكيل الوعي الجمعي بناءً على روايات مُعينة بدلاً من الحقائق الموضوعية ويساعد في إعادة تشكيل التاريخ بما يتناسب مع الاحتياجات الإيديولوجية للجماعات الحاكمة، ان مبالغة السرديات التاريخية في إنجازات بعض الأفراد أو المجموعات بناء على شكليات الجسد، يؤدي إلى تصوير غير دقيق للحقائق. هذه المبالغات تُستند على تفسيرات غير علمية تعوق الفهم الدقيق، حيث تحتوي على الكثير من عناصر المبالغة الشكلية في الأساطير، التوفيق بين دور السرديات في بناء الهوية ودقتها العلمية يتطلب منهجية متوازنة تأخذ في الاعتبار العناصر الثقافية والتاريخية دون التضحية بالدقة العلمية، بالتالي يجب أن يكون هناك تحليل نقدي للسرديات التاريخية لفهم السياق الذي نشأت فيه وفهم كيف تؤثر السرديات على الهوية.

دور السرديات التاريخية في تشكيل الهوية

لم يقتصر دور السرديات على العلوم الاجتماعية فقط، بل امتد أيضًا إلى النظريات العلمية ،تستخدم السرديات لتشكيل الهوية المجتمعية، مما يساعد في فهم الظواهر الاجتماعية والسلوكية للجماعات ،كما تُستخدم السرديات لشرح الأحداث التاريخية وتأثيرها على المجتمعات ،بعض السرديات العلمية تؤثر في كيفية تطوير الأفكار والنظريات في مجالات متعددة، مما يُظهر تداخل العلوم الطبيعية والاجتماعية ،كما تساعد السرديات في تبسيط النظريات العلمية المعقدة، مما يجعلها أكثر فهمًا للجمهور العام ، دور السرديات يمتد إلى كلا المجالين، حيث تُستخدم في العلوم الاجتماعية لبناء الهوية وفي النظريات العلمية لتفسير الظواهر وتعزيز الفهم.

العماليق في السرديات التاريخية

ظهور مجموعات بشرية او افراد في السرديات القديمة (عماليق) لا تتوافق مع طبيعة الحياة، بعض السرديات تتحدث عن عمالقة أو كائنات ضخمة غالبًا ما تُعتبر أسطورية أو رمزية، الكثير من هذه السرديات نشأت في سياقات ثقافية ودينية كوسيلة لتفسير الظواهر الطبيعية أو الأحداث التاريخية وليست بالضرورة تعبر عن حقائق علمية، اذ لا توجد أدلة علمية قوية تدعم وجود عمالقة كما هو موصوف في السرديات. الدراسات الأثرية والبيولوجية لا تشير إلى وجود كائنات بهذا الحجم، في بعض الأحيان يُستخدم مفهوم العمالقة للتعبير عن قوى أو أحداث تاريخية خارقة، وليس ككائنات حقيقية. يرمز مفهوم العمالقة إلى القوة والتصدي للتحديات الكبرى، رغم وجود كائنات كبيرة في الطبيعة، مثل الديناصورات، فإنها لا تتوافق مع أوصاف العمالقة في السرديات. الحياة على الأرض تتبع قوانين بيولوجية محددة، تتوافق سرديات العمالقة مع الجوانب الثقافية والرمزية أكثر من توافقها مع الحقائق العلمية كما تعتبر هذه السرديات جزءًا من التراث الثقافي، لكنها لا تعكس واقع الحياة البيولوجية المعروفة.

التفسير العلمي

هناك تفسيرات علمية بديلة لأصل الأساطير المتعلقة بالعمالقة ولكائنات ضخمة  بعض الأساطير قد تكون تحريفًا لأحداث تاريخية حقيقية، حيث تم تضخيمها بمرور الزمن لتصبح أساطير عن عمالقة ،قد تُعزى بعض الأساطير إلى اكتشاف بقايا عظام كبيرة من الديناصورات أو كائنات قديمة، والتي تم تفسيرها بشكل خاطئ كعظام لعمالقة، يمكن أن تؤدي التغيرات المناخية إلى ظهور كائنات كبيرة في العصور القديمة، مما يمكن أن يُفسر في الأساطير على أنه كائنات ضخمة ، تمثل الأساطير عن العمالقة الخوف من القوى الطبيعية أو التحديات الكبيرة، مما يعكس عمق الصراعات الإنسانية ،أحيانا تستخدم التضخيم كعناصر الدرامية مثل العمالقة لجذب الانتباه أو تعزيز قيمة القصة، مما يسهم في انتشار هذه الأساطير ،تقدم التفسيرات العلمية البديلة رؤى متعددة حول أصل أساطير العمالقة، مما يساعد في فهم كيفية تطور هذه القصص عبر الزمن وتأثيرها على الثقافات المختلفة.

الروابط بين اساطير الشرق الاوسط

هناك روابط وتأثيرات متبادلة بين الأساطير في الشرق الأوسط، خاصة بين الحضارات المختلفة.  ساهمت طرق التجارة والهجرة في تبادل الأفكار والمعتقدات بين الحضارات، مما أثرى الأساطير وأساليب السرد ، تتقاسم الأساطير مفاهيم الحياة، الموت، والبعث، مما يعكس تجارب الإنسان المشتركة بعض الأساطير قد تم تعديلها أو إعادة صياغتها في حضارات مختلفة، مما يدل على التأثير المتبادل ،بعض النصوص القديمة تحتوي على إشارات إلى أساطير متعددة، مما يُظهر كيف كانت هذه الثقافات تتفاعل وتتأثر ببعضها البعض وتُظهر روابط وتأثيرات متبادلة بين الأساطير في الشرق الأوسط وكيف أن الثقافات المختلفة كانت تتشارك في الأفكار والمعتقدات، مما ساهم في تشكيل أساطير التضخيم الغنية والمعقدة.

التحليل الفلسفي لهذه السرديات

التحليل الفلسفي لسرديات العمالقة التاريخية يتناول كيفية تشكيل هذه السرديات لوعي المجتمعات وتاريخها. تستند سرديات العمالقة غالبًا إلى مزيج من الأسطورة والحقائق التاريخية. يتم استخدام الأبطال العمالقة كرموز للقوة والصمود، حيث تُعتبر تجسيدًا لقيم الشجاعة والكرامة، يمثل العمالقة في بعض الأحيان التحديات الكبرى التي تواجهها المجتمعات. كما يُنظر للعماليق كرموز امل في النضال من اجل التحرر المستقبلي (اسطورة المخلص) حيث من خلال سرديات العمالقة يمكن تغيير المعايير عبر الزمن، ويتيح فهمًا أعمق لتطور الفكر، يمكن أن تُخضع هذه السرديات لنقد فلسفي، حيث يُنظر إليها كأدوات لصياغة الروايات التاريخية، مما يتطلب التمييز بين الحقيقة والخيال، تقدم سرديات العمالقة التاريخية فرصة لفهم عميق للتفاعل بين الفلسفة، التاريخ.

مقاربة التحليل النفسي والفلسفي

تختلف مقاربة التحليل النفسي للسرديات التاريخية حول العماليق عن المقاربة الفلسفية في عدة جوانب رئيسية، التحليل النفسي يركز على الدوافع النفسية، اللاوعي، والصراعات الداخلية للشخصيات في السرديات، يسعى لفهم كيف تعكس هذه السرديات احتياجات ورغبات الأفراد والمجتمعات. المقاربة الفلسفية تركز على القيم، المبادئ، والمعاني تبحث في الأسئلة الوجودية والأخلاقية، بينما يركز التحليل النفسي على الجوانب النفسية والدوافع الفردية. سرديات العمالقة تؤثر بشكل كبير في العقل الإنساني الا انها يمكن أن تؤدي إلى عدة آثار سلبية، هذه السرديات تعزز من الأساطير والخرافات، مما يعوق الفهم العلمي والتاريخي للواقع ،ويمكن أن تؤدي هذا إلى تشويه الحقائق التاريخية ويؤثر على دراسة التاريخ بشكل موضوعي كما تقلل من أهمية الأحداث الحقيقية، تُستخدم سرديات العمالقة كأدوات لتبرير السلوكيات الاجتماعية والسياسية، مثل التمييز أو الهيمنة، مما يعزز من النزعات الاستبدادية، تعزيز هذه السرديات ما يمكن أن يؤدي إلى تكوين هويات زائفة قائمة على أسس غير موضوعية ومنها شكلاني ،الجسد مقابل قوة العقل، مما يخلق انقسامات اجتماعية، التركيز على شخصيات خارقة يُشعر الأفراد بأن النجاح يعتمد على قوى ميتافيزيقية خارقة، وليس على الجهد الفردي أو الجماعي، مما يقلل من الدافع لتحقيق الأهداف ، تؤدي هذه السرديات إلى انفصال الأفراد عن واقعهم، مما يزيد مشاعر الاغتراب وعدم الانتماء ، يصاب الأفراد بمشاعر الإحباط أو عدم الكفاءة إذا تم مقارنة أنفسهم بشخصيات أسطورية، مما يؤثر سلبًا على الصحة النفسية ،بالتالي  يتضح ان استمرار سرديات العمالقة يمكن أن يكون له تأثيرات سلبية متعددة تؤثر على الفكر والثقافة والمجتمع بشكل عام ،حيث  تناولت هذه السرديات مسألة الإرادة الحرة مقابل القدر، لكنها اثارت تساؤلات حول مدى تحكم الإنسان في مصيره ، مما فتح المجال لمناقشة القيم الأخلاقية والمعايير الاجتماعية، تقدم سرديات العماليق الأسطورية إطارًا غنيًا للتحليل النفسي والفلسفي، حيث تعكس القضايا الوجودية والأخلاقية والإنسانية العميقة التي لا تزال تتردد كالصدى في الفكر المعاصر.

***

غالب المسعودي

ذلك الشغف الفرنسي بالرونق، والالتزام بالارتقاء بمبادئ وقيم البشرية في قرن لويس الخامس عشر، ذلك البريق المشع في عصر ڤولتير وروسو، هو ما غيّر فكر نيتشه وجعل منه فيلسوفًا ألمانيًا بنكهة فرنسية.

لا يمكن للمرء أن يتكهن، إجمالاً، بما قد يصيبه عندما يقرأ كتابًا ما، خصوصًا حين تصبح قابليته الفكرية مندمجة مع حاضره الملعون. تلك الرغبة في التحرر من المذهب المثالي الألماني ونمطه الحديدي، أرهقت كاهل نيتشه إلى درجة تمجيده لدقة المفكرين والمثقفين الفرنسيين في تحليل الوضع البشري، من دولا روشفوكو و مونتين وحتى باسكال رغم نقده لمسحيته، لكنه لطالما أعجب بعمقه النفسي ونمطه المتأني في إخلاصه للرقي بالنفس البشرية، بدل الخوض في دهاليز الأفكار المعقدة واللاإنسانية.

بل إنه صرّح في غسق الأوثان أنه تلميذ القرن السابع عشر من الفلسفة الفرنسية، وأن له قواسم مشتركة مع المفكرين الفرنسيين أكثر مما له مع أبناء جلدته الألمان. ولعل تلك الأسطر التي مجّد فيها شك مونتين ورغبة هذا الأخير في نقد السلطة والقمع والرهبنة الكنسية، هي التي دفعت نيتشه إلى جلد نظام الأخلاق الذي وضعته الكنيسة، بوصفه أخلاق العبيد والضعفاء.

فريدريش حذّر بكل ما أوتي من قوة من الثقافة الألمانية، التي رأى فيها ترفّعًا سلطويًا على البشرية بأسرها، ووصف الثقافة الفرنسية كبوابة للانفتاح على العالم.

لطالما تساءلتُ: لماذا كان لنيتشه أسلوب كتابة شاعري، كشظايا نارية تحصد الأخضر واليابس؟

فبعد اطلاعي على جل المفكرين الفرنسيين و قراءتي لكتب نيتشه، فهمت وبعمق من أين استوحى فريدريش نمطه: مزجٌ بين شاعرية فرنسية وقوة ألمانية جارفة.

بل إن تأثير ستاندال وفرانس أناتول كان واضحًا بين أسطره.

وبذلك استطاع تكوين فلسفة متحررة من ثقل الميتافيزيقا، التي كانت تُهيمن على الفكر الألماني بعد كانط وهيغل.

جاءهم نيتشه بمصباح ومطرقة، ليبدأ عمله التدميري من أجل إعادة بناء شاكلة جديدة من الفكر الأوروبي: فلسفة حيّة، حرّة، ومتفردة، تقطع الطريق على توهان الألمان وتعصبيتهم، وتفتح السبيل نحو تكوين نموذج جديد للإنسان الأعلى.

***-

حبيب مركة

 

لا أجازف لو قلت إن مانويل كاستلز، عالم الاجتماع الإسباني، هو أبرز مَن درَسَ التأثير العميق للإنترنت على حياة المجتمعات ومصادر عيشها، فضلاً عن تحول علاقة الأفراد بالسلطة السياسية. في عام 1989، أصدر كتاب «المدينة المعلوماتية»، وتلاه بكتاب «عصر المعلومات» من ثلاثة أجزاء، صدر أولها في عام 1996، وتمحور -كسابقه- حول صيرورة شبكة الإنترنت محوراً للحياة اليومية، ذاتيّ التوسع، وعابراً للحدود والحواجز الثقافية.

في عام 1996، كانت شبكة الإنترنت متوفرة في بلدان قليلة، ولم تكن قد اتصلت بالهواتف النقالة، كحالها اليوم. ولذا فإن الحديث عن تحولات عميقة في المجتمع والثقافة والاقتصاد، وتحوُّل الهوية الفردية والجمعية، لم يخلُ من مجازفة، لولا أن المتحدث، البروفسور كاستلز، كان قادراً على كشف مسارات التحول ومستوياته. وأعتقد أنه أدرك مبكراً منطق التحول الاجتماعي، لا سيما تراجع رأس المال لصالح البيانات الضخمة السريعة. ولعل ميوله الماركسية سهَّلت عليه التحرر من هيمنة الفكرة القائلة بمحورية رأس المال في أي نشاط حيوي.

أهم المحاور التي عالجها كاستلز هي:

1- في هذه الأيام، تمثل المعلومات قطبَي الرَّحَى التي تدور حولها الحياة الاقتصادية والعلاقات الاجتماعية. في الماضي، كان المال والأشخاص، خصوصاً المديرين والقادة والمستثمرين، قادة النشاط الحياتي في المجتمع. أما بعد ثورة المعلومات، فقد بات المال والنفوذ في يد المسيطرين على مصادر المعلومات أو المؤثرين على نشاط الشبكة. ضخامة المعلومات وسرعة الوصول إليها، والقدرة على فرزها وتحويلها إلى أرضية للقرار، سهَّلت تحويل الفكرة إلى ثروة، كما يسَّرت انتقاء المعلومات وتحديد الاتجاه الذي تسير فيه، حتى لحظة وصولها إلى المتلقي. إن اختيار وتوجيه المعلومات هما العامل الأهم في تحديد وجهة القرار. وقد بات هذا العامل في يد صناع المعلوماتية وشبكاتها.

2- رغم وجود أشخاص وهيئات يتحكمون -فعلياً- في شبكات المعلومات وما ينتج عنها، فإن الشبكة بذاتها قابلة للتوالد والتوسع خارج أي سيطرة مركزية. بعبارة أخرى، فإن جوهر مفهوم الشبكة يكمن في الاتصال اللحظي لكل عنصر بجميع العناصر الأخرى، من خلال قنوات قد تختفي أو تتلاشى، لكن سرعان ما يبرز بديلها. طبيعة الحياة الشبكية توفر الفرصة للمحافظة على كل مادة في تلافيفها المعقَّدة، حتى تتاح الفرصة لظهورها من جديد. من هنا، فإن من يتوهم أنه يتحكم في الشبكة، فهو إنما يتحكم في جزئه الخاص، لأن الامتدادات اللانهائية تواصل التمدد كل لحظة، بحيث يستحيل -مادياً- أن يتحكم فيها شخص واحد أو أشخاص محددون.

3- فضاء التدفق: تخيلْ شاباً في مقتبل العمر، يقطن قرية في الصين أو البرازيل أو مصر، يطلق من هاتفه المحمول أو حاسبه الشخصي مادةً على الإنترنت تسترعي اهتمام عشرات الآلاف على امتداد المعمورة، فيتحول هذا الشاب إلى بائع أو مؤثر أو صانع تيار، يزاحم -بالضرورة- القوى النشطة في الساحة. أثمرت هذه الظاهرة الجديدة تفككَ المئات من الشركات الضخمة المعمِّرة، والصحف ومحطات التلفزيون وحتى الجماعات الدينية والسياسية، فضلاً عن تقلص التأثير المشهود للمدرسة والعائلة على تشكيل هوية الأبناء وذهنيتهم.

لفكرة «التدفق» موقع محوري في رؤية كاستلز، وهو ينظر دائماً في المنطقة التي يسميها «فضاء التدفق»، أي المساحة التي تشهد حراك الأفكار والصور والمعاني بين مصدر الفكرة ومتلقيها. في هذه المساحة يختفي الزمن، ويتحول التواصل بين الفاعلين الاقتصاديين والثقافيين وجمهورهم إلى تفاعل فوري متعدد الأطراف. التفاعل المباشر يمكّن المتلقي من المجادلة العلنية للفكرة، ومن ثم تعديل خطاب المصدر. لهذا نقول إن عصر المعلومات يميل بشدة إلى التشارك في صناعة الفكرة لا إلى تلقينها، كما كان الحال في الماضي.

هذه إضاءة على جانب من رؤية مانويل كاستلز، حول الانعكاس العميق للمعلوماتية والإنترنت على ثقافة المجتمع وهويته ومصادر إنتاجه ومعيشته.

***

د. توفيق السف – كاتب وباحث سعودي

 

إن حياة الجمود والركود والسقوط التي تعيشه المجتمعات والأمم في بعض مراحلها وحقبها، منوط ومرهون للخروج من هذه الوهدة بعزائم البشر وإرادة الإنسان ومشروط بالتزام هذه المجتمعات بشروط الخروج من المأزق وعوامل الانعتاق من أساس الجمود والخمود.

ففعل التغيير والتطوير دائماً وفي أي اتجاه وحقل كان، منوط بإرادة الإنسان، فهو الذي يقرر بقدراته وإرادته امكانية التطوير والتغيير من عدمها.

ويشير الى هذه الحقيقة القرآن الكريم، إذ يقول تبارك وتعالى {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} (الرعد آية 11).

فلا يمكن أن يتم التغيير الاجتماعي إلا بتغيير الذوات وتهيئتها لقبول متطلبات التطوير، وبدون تغيير النفس، تبقى شعارات التغيير ويافطات التطوير أشبه شيء بمشروعات أحلام اليقظة والآمال البعيدة.

كما ان ارادة البشر وعزائمهم، هي التي تحدد واقعية المسار التطويري والتحديثي، فلا تطوير اجتماعي إلا بتغيير للذات. وكلما توسعت دائرة الملتزمين بمشروع التغيير الذاتي، أي تغيير ما بالنفس، كلما كان المجتمع أقرب الى التطوير الشامل.

والدين الإسلامي لا يعالج مشاكل البشر بحلول سحرية أو طرائق إعجازية، وإنما منظور الإسلام ف معالجة مشكلات البشر المختلفة، هو العناية بتهذيب النفس وتطهيرها من الرواسب والشوائب، حتى تكون مهيأة بشكل تام لعمليات التغيير والخروج من آثار المشكلات التي تؤرق الإنسان والمجتمع المسلم. لذلك نجد أن القرآن الحكيم يؤكد على اتباع العلم ومفارقة الجهل والظن وكل المفردات التي لا تؤدي إلى المعرفة والخبرة، قال تعالى {ولا تقف ما ليس لك به علم ان السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} (الإسراء آية 36). وقال تعالى {وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وان الظن لا يغني من الحق شيئا} (النجم آية 28).

وذلك لأن اتباع الظن لا يؤدي إلا إلى مراكمة الأخطاء والمشاكل، وذلك بفعل البعد عن اكتشاف العوامل الحقيقية والفعلية للمشكلات الإنسانية. ولهذا قال علماء المنطق ان الحكم على الشيء فرع عن تصوره، ولا ريب ان الظنون والاحتمالات، لا تؤسس لدى الإنسان تصوراً دقيقاً عن طبيعة المشكلات وطرق معالجتها.

فالإنسان يصاب بالعطالة إذا كانت ارادته خائرة وعزيمته واهنة، لذلك فإن حجر الزاوية في عملية التغيير وتذليل المشكلات التي تعترض طريق الإنسان والمجتمع، هو أن تكون لدى الإنسان إرادة وعزيمة راسخة للخروج من شرنقة المشاكل وبؤر الأزمات والمآزق التي يعيشها. فتوفر الإرادة والعزيمة، من الشروط الأساسية التي يعتبرها الدين الإسلامي في معالجة مشكلات البشر.

"فالتوجيهات الإسلامية في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تطلب - في البدء - تعزيز الذات وتغييرها المتواصل ايمانياً، ثم تمضي باتجاه الأسرة الأقرب الى الإنسان الفرد، في علاقاته الخارجية، ومن هناك تنداح الدائرة باتجاه الجار، والقربى، والحي والمدينة، فالمجتمع المسلم، فالأمة الإسلامية على امتدادها، فالشعوب والأمم المجاورة، فالإنسانية جمعاء.

إن بؤرة الحركة، هي الذات: (ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) (الأنفال آية 53). وحدها الآخر، هو البشرية {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} (الأنبياء آية 107). وما بين الذات والبشرية، تتحرك المعطيات الإسلامية، تشريعا وتوجيها، لكي ترسم لكل حالة طريقها، وتضع كل ممارسة ف مكانها الموزون ولكي ما يلبث هذا الجهد الديناميكي، الذي لا يقف عند حد أن يساهم في صياغة الحياة الإسلامية المتوازنة المستقيمة، الآمنة، السعيدة، القادرة على العطاء وبقطبيها الفرد المسلم والمجتمع المسلم "(راجع رؤية إسلامية في قضايا معاصرة - الدكتور عماد الدين خليل ص55).

فالخطوة الأولى التي ينبغي أن نقوم بها ازاء كل ظاهرة ومشكلة هي البحث والفحص الجاد عن الأسباب الذاتية التي أدت الى هذه الظاهرة أو المشكلة، فلابد أن نوجه الاتهام أولاً الى أنفسنا، قبل أن نوجهه الى غيرنا.

وهذه المنهجية تلخصها الآية القرآنية {قل هو من عند أنفسكم} فإزاء كل هزيمة، إزاء كل مرض وظاهرة سيئة، كل مصيبة على رؤوسنا، ينبغي أن نلتفت قبل كل شيء إلى نصيبنا، إلى دورنا، إلى ما كسبته أيدينا.

إن واقع العرب والمسلمين الراهن هو أسوأ واقع، والانهيار في حياتهم يهدد وجودهم نفسه ولكن أين يمكن أن يقف هذا الانهيار، ويبدأ التحول؟ جوابنا الحاسم في أنفسنا، يجب أن يقف في أنفسنا الانهيار، ويبدأ في أنفسنا التحول فإذا تحولنا إلى مسلمين حقيقيين كما يريد الإسلام، تحول بنا مجتمعنا وتحول بنا المسلمون في كل مكان وتحول بنا العالم. فالنواة الأولى للتطور النوعي في المجال العربي والإسلامي اليوم، هي في تغيير الذات وازالة رواسب التخلف والانحطاط منها، إن تغيير ما بالنفس، هو النواة الأولى لعمليات التطور النوعي وإحداث نقلة عميقة في نمط تعاملنا مع واقعنا ومحيطنا.

فالتحولات الاجتماعية والحضارية في أي مجتمع وأمة، لا تنجز إلا على قاعدة تغيير ذاتي عميق، يزيل ركام الانحطاط، ويهيئ النفوس والعقول لاحتضان وممارسة متطلبات التحولات الاجتماعية والحضارية المطلوبة.

وعلى قاعدة التغيير الذاتي المستديم، تأتي أهمية الإرادة الإنسانية التي هي وسيلة الانتقال من الوعد الى الإنجاز ومن القول إلى الفعل.

والإرادة هنا تعني وبكل بساطة: أن تطور الشعوب والأم لا يقوم به الغير، وإنما كسب الأمة ذاتها، هو الذي يحقق التطور، فعمل الأمة وسعيها المتواصل، وجهدها المستديم وتصميمها القوي، وإيمانها العميق بمسارها الحضاري وتضحياتها في هذا السبيل، كل هذا هو الذي يصنع التطور والتقدم.

فإرادة الإنسان هي الفيصل وهي محل المراهنة الحقيقية على مشروعات التقدم والتطور.

فلنغير ذواتنا، ونغذي هذا التغيير، بإرادة إنسانية تأخذ على عاتقها إنجاز التطلعات وتحقيق الطموحات.

وسنبقى بعيداً عن كل إنجاز اجتماعي وحضاري مادامت قيم التخلف وتصورات الانحطاط تتحكم في عقولنا ومسارنا العام.

فلكي نتقدم، نحن بحاجة الى تغيير نفوسنا وتنقية عقولنا من ركام التخلف والانحطاط، وإرادة إنسانية تأخذ على عاتقها بالنفس الجديدة والعقل الجديد صنع وقائع الحياة المعاصرة.

ودائماً التقدم الإنساني والتطور الحضاري، بحاجة إلى ارادة إنسانية صلبة، تأخذ على عاتقها ترجمة الآمال، وإنجاز الوعود، وخلق الوقائع والحقائق المفضية الى التقدم بكل صوره وأشكاله.

وينبغي أن ندرك في هذا المجال، أن استعارة سلع التقدم والتطور، لا يفضي الى المفهوم الحقيقي للتقدم الحضاري، وانما يؤدي الى حالة من التجاور العجائبي والتعايش المتغاير بين سلع التقدم ومنجزات التطور وممارسة إنسانية لا ترقى الى المستوى المطلوب في التعامل مع منجزات العصر الحديث.

إن بوابة التقدم الحقيقي، هي تغيير الذات المصحوب بإرادة إنسانية تحيل الطموحات إلى حقائق، والآمال إلى وقائع، والأرض اليابسة الى ارض خصبة خضراء، تثمر كل الخير والإنجاز إلى الإنسان حاضراً ومستقبلا.

***

محمد محفوظ – باحث سعودي

أنت تكلف نفسك مشقة شديدة، إذا أردت أن تصور عواطفك وأنت في تلك المرحلة العمرية الباكرة تصويراً صادقاً، لن تستطيع أن تضع يدك عليها، أو تأخذ منها ما تريد، أو ما تعتقد أنه معين لك على توطيد نظم مقالك هذا، فقد انقطعت الصلة بينك وبينها، وانزوت حواضرها الزاهية في ذاكرتك شيئاً فشيئاً، حتى استحالت آخر الأمر، إلى دهناء قاحلة  تدمدم رياحها الهوج بين جنبات نفسك، وكيف لا تنحسر وتتضاءل أحداث تلك الأيام الناصعة، وأنت لم تقوي فيها عناصر الثبات والاستقرار، ففي الحق أنت لم تعيرها نظرة، أو تمنحها التفاتة، تكفل لها أن تحتفظ بحظها من الحياة، حينها كنت ستجد متاعاً عظيما، وستعينك تلك الالتفات على احكام هواجسك،  وتجويد خواطرك، وستبتهج أنت بهذا التجويد، ولكنك لم تفعل شيئاً من ذلك، كما أن تفاصيل حياتك الرتيبة التي أنفقتها في بكاء يعقبه بكاء، ولوعة تخلفها لوعة، قد أسهمت في تقزمها وانهاكها، حتى صارت أطلالها ورسومها ضعاف ومهازيل، فذاتك التي لم تدرك أن تلاشي حافظتك، خسارة لا سبيل إلى تعويضها بحال من الأحوال، من المحقق أنها لم تخضع للتوازن الدقيق بين طارفها وتليدها، بعد أن سارت وتيرتها منتصرة مهللة  لحاضرها الذي تاهت في دهاليز عنفه، وقسوته، وصياله المتصل.

إنها مسألة عظيمة الخطر إذن، ألا تأتلف حياتك من ماضي، وحاضر، ومستقبل، ففقدان الماضي يجعل حقيقة هذه الحياة جافية، لا عهد لها برونق أو رواء، وأيسر ما يمكن أن يقال، أنها قلما تستطيع أن تتصل بمواقف ثرة حافلة بالعبث والجمال، وسيظهر عجزها الفاضح، إذا أرادت أن تتصل بالموضوعات التي يطرقها الناس في العادة، والتي تكون كثيرة الدوران على ألسنتهم، لن تكون أيها البائس، مؤهلاً لأن تسترجع المرتفع منها والمنخفض، وستزاد عندها خشية اليأس والخيبة، إذا أخفقت أن تستحضر سوالف علة السعي لها، وغاية الجهاد فيها، أثرها الذي تتركه في النفس، وصداها الذي ينعش الروح، ويدفع الملال.

لن تقدر أن تقيف عند هذه النماذج التي يقدمها لك صديقك كلما هاتفته، لن تتذكر أبداً، تلك العين التي كان ينبع منها الماء، ويختلف عليها أطفال وشباب المدينة، إلا إذا حدثك صديقك المخلص بهذا، وأمعن وتفانى في تذكيرك، العين التي كانت تفتننا بسحرها وجمالها، وتأسرنا بهدوئها وسكونها، كنا نهرع إليها كلما أضنانا العبث، وأعيانا المرح، ولقست أمزجتنا صخب المدينة وضجيجها، كانت هذه العين محدودة ضيقة، ولكنها كانت تعجبنا على كل حال، لأنها تحرك أفئدتنا للبشاشة، وتنزع مهجنا إلى الانتشاء، وذيوع صيت هذه العين راجعاً أيضاً إلى العصبية التي كانت تحدث الشقاق، وتجلب العداوة، وسبب هذه الخلافات اظهار القوة، والسعي لبسط النفوذ، و لعل تلك المعارك التي كانت تدور في نواحي هذه العين، لم تكن أقل امتاعاً للنفس، وارضاء للقلب، لأننا لم نكن ونحن في تلك السن، متجردين من الخضوع لفكرة الذود عن حياض "المنطقة" التي نقطن فيها، فالاشتباكات والنزاعات، كانت تدور بين فصائل تنتمي لأحياء سكنية متفرقة، كنا ننغمس في هذا النوع من الجهالة، ونرتهن لسيد الجيوش، وأمير الجحافل، ونتفانى في طاعته، نهجم على أعدائنا حينما يطلب منا الهجوم، ونولي الدبر حينما نراه لم يستطيع عليها صبرا، لأجل ذلك كثيراً ما كنا نعود إلى منازلنا ورؤوسنا التي أعياها النضال، والتي لم نكن نحرص على مقوماتها، مهشمة لأن قذائف من جندل قد استغرقتها، وأجسامنا اللاغبة مختومة بمقابض من معدن، وأطرافنا مجذوذة أضناها الضرب والتنكيل، كم كانت رائعة حياتنا تلك على سذاجتها، هذه العين على مرّ الأحقاب والأجيال، ظلت شاهدة على ما يقع لأبناء هذه المدينة من حوادث، وما يعرض عليهم من خطوب.

إن هذه  الخواطر التي لا أجد بُداً من تسجيلها، وتلك الحروب والمخاصمات، التي كانت تقع بيننا وبين أبناء المناطق السكنية الأخرى في صبانا الأغر، والتي هي أشبه بحياة الأعراب في باديتهم، لا يمكن أن ننكرها اليوم انكاراً قاطعاً، بل هذه الأطياف في مجملها تستحق أن نحتفل ونتباهى بها، لأنها أهلتنا لأن نلم بدقائق واقعنا المرير، ونحيط به من جميع أطرافه، وأن نستيقن ماضينا البعيد الذي نفكر فيه، ونحْنُ إليه، يستحق أن نتخذه مقياساً لتصورنا للأشياء، وحكمنا عليها.

***

د. الطيب النقر

 

في عام 1981 قام الفيلسوف الاسكتلندي الامريكي ألسدير ماكنتاير بتمزيق العمل الذي كتبه آنذاك حول الاخلاق، وأنتج بدلا عنه ما اصبح يُعرف بكتاب (بعد الفضيلة). في هذا الكتاب، هو في الحقيقة جرّد الفلسفة الاخلاقية الحالية، والاخلاق الحالية ذاتها، معبّرا عن امتعاضه بان الاخلاق قُطعت من جذورها التقليدية، ولم تعد متماسكة"بفضل مشروع التنوير".

الاخلاق لم تعد مرتكزة على الفكرة الأرسطية بان للانسان هدف ووظيفة، ولم تقدم تفسيرا لكيفية تحقيق هذا، انها فصلت القيم عن الحقائق. يقول ماكنتاير رغم ان تسمية الفرد الذي يمارس الفعل بـ "الجيد" او "السيء" تلجأ لـ "للمعيار الموضوعي وغير الشخصي"، لكن لا شيء منه متوفر هناك . كما انه وبخ سابقا في كتابه (ضد صور العصر الذاتية، 1971)، المسيحية، الماركسية والتحليلات النفسية كونها فشلت في توفير ايديولوجية أخلاقية كافية.

واصفا نفسه كـ "أرسطي ثوري"، هو كان ايضا متحمسا لأخلاق توما الاكويني المناصر لأرسطو. (باتجاه القرن الثالث عشر) كان الشعار المنسوب له بشيء من السخرية . لكن عبر إحياء نوع من الاخلاق التي تعرّف "الخير" بازدهار الانسان، سعى ماكنتاير ليقودنا خارج "العصور المظلمة الجديدة"، نحو مستقبل أفضل. هو أثّر في صعود الاخلاق الفاضلة والطائفية (أنكر مساندة اي منهما) وعدم الثقة المألوفة حاليا في الليبرالية والفردية والتنوير.

تجدر ملاحظة عدد العقائد المتنافسة التي استطاع اعتناقها في وقت واحد، هو كان بروتستانتيا وماركسيا في آن واحد في الستينات، ثم رفض لاحقا كلا العقيدتين، وفي الثمانينات، اصبح كاثوليكيا، لكنه دائما احتفظ باحتقاره الماركسي للرأسمالية واغتراب الحداثة.

بعد ان نُشر كتابه (بعد الفضيلة) اول مرة عام 1981. اطلق برنارد ويليم على الكتاب اسم "خيال حنين رائع". كان ماكنتاير بعمر 52 عاما عندما كتب بعد الفضيلة. في (تاريخ موجز للاخلاق، 1966) هو انتقد الفلسفة التحليلية المعاصرة في فحصها وتفسيرها للمفاهيم الأخلاقية "بعيدا عن تاريخها"، ووصف الكيفية التي "تتغير بها المفاهيم الاخلاقية عندما تتغير الحياة الاجتماعية" – بدءاً من عصر هوميروس حيث مُثل(اغاثوس) للذكر ذو الولادة الجيدة وصفات الملك والشجاعة والذكاء، مرورا بالفضائل الارسطية والمسيحية التي ايضا كانت متناغمة مع فكرة الطبيعة الأساسية للانسان (وان كانت مختلفة) وحتى اقتلاع التنوير للإصرار على العقل المستقل، وصولا الى انفعالية القرن العشرين التي جعلت الاخلاق مجرد تعبير عن الافضليات الشخصية.

في أواخر السبعينات من القرن الماضي، قرأ ماكنتاير كتب الفيزيائي توماس كن الذي اعتبر التغيرات العلمية كسلسلة من "تحولات نموذجية" بدلا من خط مستقيم من التقدم، وهذا اعطاه ان لم يكن تحولا معتما، تأكيدأً يقينيا بشأن ما كان غريبا جدا حول اخلاق القرن العشرين: بدلا من ان نستقر في بارادايم(نموذج) أخلاقي معين، نحن نعمل في وقت واحد او بالتناوب في عدة تقاليد أخلاقية غير قابلة للقياس. طبقا لماكنتاير، اخلاق ارسطو في القرن الرابع قبل الميلاد افترضت ان الانسان لديه تيلوس (وظيفة) كحيوان عاقل. العقائد الدينية – اليهودية والمسيحية والاسلام عقّدت دون ان تغير اساسا مشروع الأخلاق الثلاثي: مصمم لينقلنا من "الطبيعة البشرية في أفضل ما يمكن اذا ادركت غايتها". فلاسفة التنوير للقرن الثامن عشر، في سعيهم لتحريرنا من الخرافات والسلطة، وايجاد اساس عقلاني خالص للاخلاق جردوا الذات من هويتها الاجتماعية وقيمها من أي ادّعاء بالوضع الفعلي. وهكذا اصبحت الاخلاق مجموعة من اوامر متطرفة وبالنهاية، مجرد "تعسف خاص". الذات غير المُتضمنة – بالضرورة هي "لاشيء" – هي الآن ملزمة لاختيار قيمتها الخاصة بها.

باعتراف الجميع، سعى جيرمي بنثام في نفعيته الى تأسيس الاخلاق على الرغبة "الطبيعية" لتجنب المعاناة ومضاعفة المتعة. لكن "السعادة الانسانية ليست مفهوما بسيطا موحدا" حسب ماكنتاير، وان تمييز جون ستيوارت مل بين المتع العالية والدنيا فقط يسلط الضوء على فشل النفعية في "تزويدنا بمعيار لعمل خياراتنا الاساسية".

كان ماكنتاير يدعو لمراجعة ارسطية تكون فيها الاخلاق، مرة اخرى، ليست مجموعة من مبادئ مجردة ومستقلة مختارة وانما قصة اجتماعية تنسجم معها قصتنا الشخصية. جادل برنارد وليم ان الذات الاخلاقية المتميزة اجتماعيا بدلا من ان تكون نتاج للتنوير، كانت حاضرة سلفا لدى افلاطون والمسيحية.

مؤلفات ماكنتاير اللاحقة شكّلت كما قيل تاريخا طويلا من الاخلاق لانهاية له . لمنْ العدالة؟ أي عقلانية، 1988 وثلاث صيغ متضادة للتحقيق الاخلاقي، 1990 كررت بان الفلاسفة التحليليين يزعمون تجسيد "الشكل اللازمني للتفكير العملي،، بينما هم في الحقيقة فقط "يمثلون شكل العقل التطبيقي الخاص بثقافتهم الليبرالية الفردية".

يرى ماكنتاير من المستحيل تبنّي موقفا اخلاقيا الاّ ضمن تقليد معين. طالما هو لايقدم طريقة للتحكيم بينها، هذا يبدو اجبرهُ للقول ان أي تقليد سيكون جيدا بنفس مقدار جودة التقاليد الاخرى وهو لهذا اُتُّهم بالاخلاقية النسبية.

مع ذلك، هو قال ان التقاليد المتنافسة تشترك ببعض المعايير، لذلك فان أي شخص يستطيع فهم المشاكل في تقاليده الخاصة ويتبنّى عقلانيا حلولا أرقى من الاخرى، كما فعل الاكويني عندما مزج الارسطية في ثيولوجيا اوغسطين، وبالنهاية اصبح ارسطيا افضل من ارسطو ذاته. ماكنتاير تحوّل الى الثومسية والكاثوليكية، مشاركا بحضور القداس كل يوم لكنه امتنع عن المشاركة في القربان المقدس بسبب ما حصل له من طلاق عائلي.

كونه رفض قبول مفهوم طبيعة انسانية مستقلة عن التاريخ وممارسات معينة وتقاليد، ماكنتاير بالنهاية وسّع قاعدته الميتافيزيقية لتتضمن (الحيوانات العقلانية التابعة، 1999) الكتاب البايولوجي. هو اشار الى الكيفية التي فشلت بها اخلاق ارسطو ولاحقا آدم سمث وديفد هيوم وفلاسفة التنوير الآخرين في الاعتراف بحتمية المعاناة والتبعية في حياة الانسان. في كتاب (ضد صور العصر الذاتية، 1971) هو انتقد المسيحية والماركسية والتحليلات النفسية كونها فشلت بتوفير ايديولوجية أخلاقية كافية. افكارهم عن الانسان كانت، على الاقل ضمناً، رجل جيد صحيا، هم تجاهلوا المرأة والناس المستعبدين والقرويين وغير الاوربيين. دعا ماكنتاير الى فكرة أكثر شمولية لما نعنيه بالانسان.

هو جادل بانه، لا الدولة القومية الحديثة ولا العائلة الحديثة يمكنها تقديم النوع الصحيح للانتماء السياسي والاجتماعي. احيانا اشار الى الاهداف المتماسكة لجماعات الصيد الصغيرة والى رغبات العديد من الطوباويات الصغيرة. هو باشر مشروع بحث لثلاث سنوات في جامعة لندن حول ما اذا كان وبأي الطرق "يجد التصوّر الأكويني حول الصالح العام للمجتمعات السياسية تطبيقا له في المجتمعات السياسية الحديثة"- نتيجة البحث كانت صدور كتابه الأخير (الاخلاق في صراعات الحداثة، 2006).

وحينما كان يدرس الكلاسيكيات في كلية كوين ماري بجامعة لندن (1945-1949)، قاده الفقر المدقع في منطقة شرق لندن – ليصبح ماركسيا متحمسا. كتابه الاول (الماركسية: تفسير، 1953) طالب بتجديد ماركسي للمسيحية.

 وُلد ماكنتاير في كلاسكو باسكتلندا عام 1929 وتوفي الاسبوع الماضي 21 مايو 2025 حيث أُبلغ عن وفاته الى صحيفة نيويورك تايمز من خلال جامعة نوتردام التي يعمل بها .

***

حاتم حميد محسن

دور التكنولوجيا في إعادة تشكيل الفصل الدراسي

شكّل الكتاب المدرسيّ لعقود طويلة محور العملية التعليمية وأساسها، باعتباره المصدر الرئيس الذي تُستمدّ منه المعارف وتُنظَّم حوله المناهج. لكن مع التحوّلات التكنولوجية المتسارعة والانفتاح على مصادر معرفية متعددة، لم يعد الكتاب المدرسيّ وحده قادرًا على تلبية احتياجات المتعلّمين في بيئة تعليمية تتسم بالتغيّر المستمر والتنوع المعرفي. لقد بدأت ملامح جديدة تظهر داخل الفصول الدراسية، حيث تتداخل الشاشات مع الأوراق، وتتنافس المنصات الرقمية مع الصفحات المطبوعة.

في هذا السياق، يُطرح تساؤل جوهري: هل ما زال الكتاب المدرسيّ هو المصدر الأساس للتعلّم؟ أم أن المشهد التعليمي بات يتطلب إعادة نظر في طبيعة الأدوات التعليمية ودور المعلم والطالب على حد سواء؟

يناقش هذا المقال تحوّل دور الكتاب المدرسي، ويستعرض تطوّر مصادر التعلّم في ظل التكنولوجيا، متناولًا أبرز التحديات والفرص التي فرضها هذا الواقع الجديد على العملية التعليمية.

تحوّل دور الكتاب المدرسيّ في زمن التكنولوجيا التعليمية

لم يعد الكتاب المدرسيّ يحتل موقعه الحصري في قلب العملية التعليمية كما كان في السابق. فقد أصبح اليوم جزءًا من منظومة أوسع تشمل مصادر رقمية وتفاعلية متعددة، كالمواقع التعليمية، والمنصات الإلكترونية، والمحتوى المرئي، وتطبيقات التعلم الذكي. هذا التحول لم يأتِ من فراغ، بل جاء نتيجة لتطور حاجات المتعلمين وتزايد الاعتماد على الوسائط التكنولوجية داخل الفصول وخارجها.

ورغم استمرار استخدام الكتاب في المدارس كمرجع أساسي لتنظيم الدروس وتقييم التحصيل، إلا أن أدواره التقليدية بدأت تتقلص تدريجيًّا لصالح بيئات تعلّم أكثر مرونة وتفاعلية. فقد أصبح المعلمون يلجؤون إلى مصادر خارجية لتوضيح المفاهيم، وإثراء المحتوى، وتكييفه مع اختلاف مستويات الطلاب واهتماماتهم.

في هذا الإطار، لم يعد الكتاب المدرسيّ المصدر الوحيد للمعرفة، بل أصبح أحد المكونات ضمن منظومة تعلّم أوسع تتطلب من الطالب قدرًا أكبر من التفاعل والبحث والاختيار.

ويُشير "براون" وآخرون (Braun et al., 2020) إلى أن الكتاب المدرسي لم يَعُد يُستخدم باعتباره المرجع الوحيد للدرس، بل تحوّل إلى نقطة انطلاق يُبنى عليها المحتوى من خلال موارد متعددة الوسائط، الأمر الذي يدفع المتعلّم إلى أن يكون مشاركًا فاعلًا لا متلقيًا سلبيًا. هذا التحوّل لا يُضعف من أهمية الكتاب المدرسي، بل يُعيد تعريف وظيفته ضمن بيئة تعليمية تفاعلية تجمع بين الثبات البنيوي والتكيّف الرقمي.

المصادر الرقمية: بدائل أم مكملات للكتاب التقليدي؟

في ظل التحوّلات الرقمية المتسارعة، لم تعد المصادر الرقمية مجرّد أدوات مساندة، بل أصبحت عنصرًا أساسيًا في بناء المعرفة لدى المتعلمين. ومع ذلك، فإن السؤال المطروح ليس حول استبدال الكتاب المدرسي، بل حول كيفية دمج هذه المصادر الرقمية بطريقة تُعزّز من فاعلية التعلّم.

ففي الواقع، لا تزال الكتب المدرسية تحتفظ بمكانتها كمرجع منظم وموثوق، يُسهم في تنظيم المادة العلمية وفق تسلسل منطقي ومعايير تعليمية معتمدة. إلا أن الاعتماد الحصري عليها لم يَعُد كافيًا لمواكبة احتياجات الطلبة في بيئة معرفية مفتوحة وديناميكية.

تشير تقارير منظمة اليونسكو (UNESCO, 2023) إلى وجود زيادة ملحوظة في استخدام التكنولوجيا التعليمية داخل المدارس، حيث يعتمد المعلمون على المصادر الرقمية إلى جانب الكتب المدرسية لتعزيز العملية التعليمية وتوفير مواد تعليمية متنوعة تلبي احتياجات الطلاب المختلفة. كما يلجأ الطلاب بشكل متزايد إلى الإنترنت والموارد الرقمية كوسائل مساعدة لفهم الدروس وإتمام المهام الدراسية، مما يعكس تحولًا تدريجيًا في أساليب التعلم نحو بيئة تعليمية أكثر تكاملًا وتفاعلية.

فالبيئات التعليمية الأكثر نجاحًا اليوم هي تلك التي تُوظّف الكتاب الورقي كمحور ثابت، وتربطه بمصادر رقمية متعددة تُثري التجربة التعليمية وتُتيح للمتعلمين فرصًا أوسع للفهم والتفاعل والمشاركة.

الفصل الدراسي في العصر الرقمي: أدوات، أساليب، وتحديات

مع تسارع تطوّر التكنولوجيا واندماجها في النظم التعليمية، أصبح الفصل الدراسي في العصر الرقمي فضاءً تفاعليًا يعتمد على أدوات متعددة مثل الألواح الذكية، والحواسيب المحمولة، والأجهزة اللوحية، ومنصات إدارة التعلم، إلى جانب البرامج التعليمية المتخصصة. لم يعد المعلم المصدر الوحيد للمعرفة، بل تحوّل إلى موجّه ومنسق، يسعى إلى توظيف هذه الأدوات لإثراء العملية التعليمية وتحفيز التفكير النقدي لدى الطلبة.

في هذا السياق، تغيّرت الأساليب التربوية لتصبح أكثر انفتاحًا وتنوعًا، حيث تعتمد على التعليم المتمركز حول المتعلّم، والتعلّم القائم على المشاريع، والتقييم التكويني المستمر. هذه الأساليب تهدف إلى تعزيز مشاركة الطلاب ورفع مستوى استقلاليتهم في التعلّم، مما يُسهم في بناء مهارات ذاتية وتنظيمية تُعد ضرورية للنجاح في العصر الرقمي.

من بين التقنيات الحديثة التي غيّرت بشكل جذري تجربة التعلم داخل الفصول الرقمية، يبرز دور الواقع المعزز (Augmented Reality) والواقع الافتراضي (Virtual Reality). إذ يُتيح الواقع المعزز دمج المحتوى الرقمي مع البيئة الحقيقية للطالب، مما يعزز من فهم المفاهيم المعقدة عبر تجارب تفاعلية واقعية. أما الواقع الافتراضي، فيوفر بيئات تعليمية غامرة تتيح للمتعلمين الانغماس في مواقف تعليمية تحاكي الواقع أو تفوقه، مما يزيد من دافعية التعلم ويحفز التفكير النقدي والإبداعي. استخدام هذه التقنيات يُسهم في تنويع مصادر التعلم ويُعزز التفاعل بين المعلم والطالب، لكنه يطرح أيضًا تحديات هامة تتعلق بالبنية التحتية وتدريب الكوادر التعليمية.

تتعمّق التحديات الرقمية في التعليم الرقمي لتشمل جوانب متعددة، أبرزها ضعف البنية التحتية التكنولوجية في العديد من المدارس، خاصة في المناطق النائية، حيث تفتقر الأجهزة والاتصال بالإنترنت إلى المستوى المطلوب لضمان تجربة تعليمية فعّالة. إلى جانب ذلك، يُعاني كثير من المعلمين من نقص التدريب الكافي الذي يؤهلهم لاستخدام التقنيات الحديثة بفعالية ضمن العملية التعليمية، مما يحدّ من الاستفادة الحقيقية من هذه الأدوات ويُفقدها بعدًا بيداغوجيًا جوهريًا. كما يطرح الاستخدام المكثف للتكنولوجيا مخاطر محتملة على التفاعل الإنساني المباشر داخل الفصل، حيث قد يؤدي الاعتماد الزائد على الوسائل الرقمية إلى تقليل فرص التواصل الوجهي وتطوير مهارات الحوار والتفاعل الاجتماعي الضرورية للمتعلمين. لذلك، تُبرز الحاجة إلى تحقيق توازن مدروس بين توظيف التقنيات الرقمية والحفاظ على القيم التربوية الأساسية لضمان بيئة تعليمية شاملة ومستدامة.

التكنولوجيا وديناميكية التفاعل بين المعلّم والمتعلّم

ساهم إدماج التكنولوجيا في تغيير طبيعة العلاقة بين المعلّم والمتعلّم، حيث تحوّلت من علاقة تقليدية قائمة على التلقين إلى علاقة أكثر تفاعلية وشراكة. فبفضل الأدوات الرقمية، بات بإمكان المعلّم متابعة تقدم الطلبة بشكل آني، وتقديم تغذية راجعة فورية، وتصميم أنشطة تعليمية تراعي الفروقات الفردية، ما يعزّز من فعالية التعلّم.

في هذا السياق، يُعدّ التفاعل الرقمي عاملًا مهمًا في تحسين التحصيل الدراسي، إذ يُمكّن المتعلمين من طرح الأسئلة، والمشاركة في النقاشات الصفية عبر المنتديات والمنصات الرقمية، والمساهمة في بناء المعرفة بشكل جماعي. كما أن دور المعلّم لم يعد مقتصرًا على نقل المعرفة، بل توسّع ليشمل التوجيه، والتحفيز، وتيسير الوصول إلى مصادر التعلم المتنوعة.

ومع ذلك، تظل هناك حاجة إلى تنمية المهارات التواصلية الرقمية لدى الطرفين، إلى جانب ترسيخ ثقافة التفاعل الإيجابي عبر الوسائط التكنولوجية، بما يضمن بناء بيئة تعليمية قائمة على الحوار والمشاركة الفعالة، وليس فقط على استخدام الأدوات التقنية.

هذا وقد أظهرت دراسة حديثة لـ "ياسين" وآخرون (Yaseen et al., 2025) أن الطلبة الذين شاركوا في بيئات تعليمية مدعومة بالأدوات الرقمية التفاعلية قد أبدوا مستويات أعلى من التحصيل الأكاديمي، ومعدلات مشاركة أكبر مقارنة بالطلبة في الصفوف التقليدية. وقد بيّنت الدراسة أن استخدام تقنيات التعلم التكيفية، والتغذية الراجعة الشخصية، والأدوات التفاعلية المعتمدة على الذكاء الاصطناعي ساهمت في رفع دافعية المتعلمين، وتعزيز شعورهم بالانخراط في العملية التعليمية. كما أكدت نتائج الدراسة على أهمية دور المعلم كمنسق للتفاعل الرقمي، مما يستدعي توفير تدريب مهني مستمر له، لضمان تحقيق الاستفادة القصوى من الإمكانات التقنية في تطوير التعلم والتعليم.

نحو بيئة تعلّم مرنة ومتعددة المصادر

مع التوسع المستمر في استخدام التكنولوجيا الرقمية، تتجه النظم التعليمية نحو خلق بيئات تعلم مرنة ومتعددة المصادر تتيح للمتعلمين خيارات واسعة ومتنوعة تلبي احتياجاتهم الفردية. تُعتبر هذه البيئة التعليمية قادرة على الجمع بين المصادر التقليدية كالكتب الورقية، والمصادر الرقمية التفاعلية، والتقنيات الحديثة مثل الواقع المعزز والواقع الافتراضي، مما يوفر فرصًا أوسع للتفاعل والفهم العميق.

تتيح بيئات التعلم المرنة للمتعلمين التحكم في وتيرة تعلمهم، واختيار الوسائل التعليمية التي تناسب أساليبهم المعرفية، كما تُمكّن المعلمين من تصميم تجارب تعليمية مخصصة تتناسب مع تنوع مستويات الطلاب واهتماماتهم. هذا التنوع يُعزّز من تحفيز الطلاب ويُسهم في تطوير مهاراتهم الذاتية والتنظيمية.

ومع ذلك، يتطلب بناء هذه البيئات المرنة استثمارًا في البنية التحتية التكنولوجية، وتوفير برامج تدريب مستمرة للمعلمين، وتطوير محتوى تعليمي متكامل ومتجدد. كما تستدعي ضمان العدالة في الوصول إلى التكنولوجيا بين جميع الطلاب لتفادي توسيع الفجوة الرقمية.

في هذا الإطار، تُبرز أهمية التشاركية بين مختلف الجهات التعليمية والتكنولوجية لتحقيق بيئة تعليمية شاملة ومتوازنة تجمع بين الابتكار والفعالية.

***

إجمالًا، يتّضح أن التحوّلات التكنولوجية قد أعادت رسم معالم العملية التعليمية، وأعادت النظر في الدور التقليدي للكتاب المدرسي، الذي لم يَعُد المصدر الأوحد للمعرفة، بل أصبح جزءًا من منظومة تعليمية أكثر شمولًا وتفاعلية. ورغم ما تتيحه التكنولوجيا من فرص غير مسبوقة للتعلّم، إلا أن نجاح هذه البيئات يعتمد على إيجاد توازن مدروس بين الأدوات الرقمية والموارد التقليدية، وعلى تمكين المعلمين وتطوير مهاراتهم التربوية والتقنية. إن بناء بيئة تعليمية مرنة ومتعددة المصادر لا يتطلب فقط أدوات وتقنيات، بل رؤية تربوية واضحة تُعلي من قيمة التفاعل، وتضمن تكافؤ الفرص، وتعزّز من دور الطالب كفاعل رئيسي في مسيرة التعلّم.

***

أ. د. هاني جرجس عيّاد

..................

المراجع

1- Braun, A., März, A., Mertens, F., & Nisser, A. (2020). Rethinking Education in the Digital Age. STOA, European Parliament.

2- UNESCO. (2023). Technology in education: A tool on whose terms? Global Education Monitoring Report.

3- Yaseen, H., Mohammad, A. S., Ashal, N., Abusaimeh, H., Ali, A., & Sharabati, A. A. (2025). The Impact of Adaptive learning Technologies, Personalized Feedback, and Interactive AI Tools on Student Engagement: The Moderating Role of Digital literacy. Sustainability, 17(3).

الوحي والإلهام مفهومان ارتبطا بشكل وثيق بالإبداع ونشر الأفكار العميقة، يُعتبر الوحي تجربة نفسية تتسم بالاستقبال المفاجئ لأفكار أو معلومات يُعتقد أنها تأتي من مصدر خارجي، يكون الوحي أحيانا مرتبطًا بحالات ذهنية متقدمة مثل التأمل أو الاستغراق في الفكر، حيث ينفتح العقل لاستقبال أفكار جديدة، يمثل كل من الوحي والإلهام جانبان مهمان من التجربة الإبداعية الإنسانية. يحدث أحيانا تفاعل بين الوحي والإلهام، حيث يستقبل الشخص وحيًا ويقوم اللاوعي بتطويره إلى إلهام، يمكن أن يؤدي إلى أفكار جديدة، في الهرمسية تتجلى علاقة السرديات التاريخية بالوحي والإلهام في عدة جوانب، يُعتبر هرمس إله الوحي والإلهام في الأدب والشعر، يُنسب إليه القدرة على نقل الأفكار والمعرفة، مما يربطه بالقدرة على الإلهام الفني والمعرفي اذ تتضمن الهرمسية نصوصًا فلسفية، هذه النصوص تُعتبر نوعًا من الوحي، حيث يُفترض أنها تأتي من هرمس كمصدر إلهي، لكن في بعض الفترات، تم التعرف على هرمس كنسخة يونانية لتحوت، خاصة خلال الفترات الهلنستية عندما اختلطت الثقافات اليونانية والمصرية، مع التأثيرات الثقافية بين اليونان ومصر، تم دمج بعض عناصر الوحي والإلهام من كلتا الثقافتين، مما أدى إلى تطوير سرديات غنية تُعبر عن الحكمة والمعرفة، تتداخل السرديات التاريخية مع مفهوم الوحي والإلهام في الأساطير،  مما يعكس كيف يمكن أن تعبر عن القيم الإنسانية .

النصوص الهرمسية والسرديات التاريخية

تختلف النصوص الهرمسية عن الأساطير الأخرى في التعبير عن الوحي بعدة جوانب، النصوص الهرمسية تتناول مواضيع فلسفية عميقة تتعلق بالكون، الروح، والمعرفة، بينما تركز الكثير من الأساطير الأخرى على القصص البطولية أو الخرافية فقط، لذا تُعتبر النصوص الهرمسية تجسيدًا للوحي الروحي، حيث تُعبر عن تجارب شخصية وتأملات عميقة، بينما الأساطير الأخرى قد تُركز أكثر على الأحداث التاريخية أو الأسطورية، تحتوي النصوص الهرمسية على رموز معقدة ومعاني خفية، مما يتطلب تأملًا خاصا لفهمها. في المقابل كثير من الأساطير الأخرى تُروى بشكل مباشر وسهل الفهم، النصوص الهرمسية غالبًا ما تتحدث عن التجارب الداخلية والخارجية للروح، مما يجعلها تتجه نحو المعرفة الذاتية، بينما الأساطير الأخرى تركز أكثر على الأحداث الخارجية والأبطال، النصوص الهرمسية أثرت بشكل كبير على الفلسفة الغربية والباطنية، بينما بعض الأساطير الأخرى قد تُعتبر جزءًا من التراث الشعبي أكثر من كونها فلسفية، تتميز النصوص الهرمسية بتركيزها على الحكمة والفلسفة، مما يجعلها مختلفة عن العديد من الأساطير الأخرى.

الفكر الهرمسي

في الفكر الهرمسي، يُعتبر الحصول على المعرفة والفهم العميق للكون والروح هو الطريق نحو التحرر من القيود المادية والجهل. المعرفة تكسر القيود التي تفرضها الحياة اليومية كما يشدد الفكر الهرمسي على أهمية معرفة الذات كجزء من المعرفة الكلية. عندما يفهم الفرد طبيعته الحقيقية، يتمكن من التحرر من الأوهام والقيود النفسية، في الفكر الهرمسي المعرفة الروحية تُوفر تجربة مباشرة للاتصال بالعالم الروحي، مما يؤدي إلى شعور بالتحرر من الهموم الأرضية والألم، كما ان المعرفة تساعد الأفراد على تحقيق التوازن الداخلي والانسجام مع الكون، مما يُسهم في الشعور بالتحرر من الصراعات الداخلية والخارجية واعتبار الجهل أحد أكبر العوائق أمام التحرر. من خلال التعلم واكتساب المعرفة، يُمكن للفرد تجاوز هذه العقبة والسير نحو حياة أعمق وأكثر معنى، في الفكر الهرمسي المعرفة تُعتبر المفتاح لتحقيق التحرر الروحي والنفسي، مما يُساعد الأفراد على العيش في وئام مع النفس ومع الكون.

رمزية الالهة في الهرمسية

يمكن اعتبار الإلهة افتراضيا كوسيلة لتفسير وعي الوجود، حيث تُقدم تفسيرات للظواهر الطبيعية، تدعم القيم الأخلاقية، وتساعد الأفراد على البحث عن المعنى في حياتهم وبالتالي يمكن اعتبار الهرمسية مزيجًا من إلهام من الآلهة ووعي وجودي مستند إلى العقل النقدي المتقدم، حيث يُنسب إليها الحكمة والمعرفة التي تُنقل من خلال شخصية هرمس، مما يعكس دور الآلهة الافتراضي في إلهام البشر حيث تُظهر الهرمسية التأثيرات الروحية التي تشدد على الاتصال بالعالم الإلهي والمعرفة العليا، تعتمد الهرمسية أيضًا على الفهم الفلسفي والنقدي للأفكار، مما يدل على قدرة الإنسان على التفكير والتأمل النقدي باستخدام التفكير الذاتي والاستنتاج، مما يُشير إلى أن المعرفة تأتي من التجربة الشخصية والتفاعل مع العالم، الهرمسية تمثل توازنًا بين الإلهام الروحي والوعي النقدي، حيث تُعبر عن الاحتياج إلى توحيد المعرفة الروحية مع الفهم العقلاني لتحقيق التحرر والفهم العميق للوجود.

وعي الوجود

تضمنت العديد من السرديات التاريخية مفهوم الوعي الوجودي، وهو مفهوم يشير إلى فهم الإنسان لطبيعة وجوده وعلاقته بالعالم. مما يعكس وعيًا عميقًا حول طبيعة الإنسان ودوره في الكون، الديانات المصرية القديمة تضمنت أساطير تتعلق بالآخرة والمصير، مما يعكس وعيًا بوجود الروح وعلاقتها المفارقة بالجسد الفلسفات الهندية مثل البوذية والهندوسية، تركزت على فهم الذات والانفصال عن الأنا، مما يعكس وعيًا وجوديًا عميقا، الأعمال الأدبية مثل "الأوديسة" و"الألياذة" لهوميروس، استكشفت مواضيع الوجود، القدر، والعلاقات الإنسانية، فلاسفة طرحوا أسئلة حول الوجود والوعي، مما يُظهر تطور مفهوم الوعي الوجودي عبر الزمن، تتداخل السرديات التاريخية مع مفهوم الوعي الوجودي، حيث تعكس كيف حاول البشر فهم طبيعتهم وعلاقتهم بالعالم من حولهم عبر العصور، الهرمسية تؤكد على الترابط بين الروح والمادة، مما يعكس فكرة أن الوعي الوجودي لا يقتصر على الوجود المادي فقط، بل يتعداه إلى الروح. هذا الفهم يعزز الوعي بأن كل شيء في الكون مترابط وتدعو إلى معرفة الذات كخطوة أساسية نحو تحقيق الوعي الوجودي. بالتالي من خلال التأمل والتفكر، يُمكن للفرد أن يستكشف طبيعته الحقيقية وعلاقته بالكون هذا المبدأ يعكس فكرة أن ما يحدث في العوالم الروحية ينعكس في الحياة المادية وهذا الترابط يعزز الوعي بأن الإنسان ليس منفصلًا عن الكون، بل جزء منه وان الروح تمثل هذا الترابط.

المعرفة والفهم أدوات الفهم

تُعتبر المعرفة والفهم أدوات للتحرر من الجهل. هذا التحرر يمكّن الأفراد من الوصول إلى مستوى أعلى من الوعي الوجودي، حيث كل يعي مكانته في الكون مما يُعزز الوعي الوجودي ويتيح للأفراد فهم أعمق لحياتهم، تعزز الهرمسية فكرة أن الفرد يجب أن يتفاعل مع الكون بشكل إيجابي، مما يُساهم في تحقيق التوازن والتناغم. هذه الفكرة تُعزز الوعي بالمسؤولية الفردية تجاه الحياة، تُعتبر الهرمسية إطارًا غنيًا لفهم الوعي الوجودي، حيث تجمع بين الروحانية والفلسفة وتحث الأفراد على السعي نحو المعرفة والتأمل لفهم مكانتهم في الكون وتتفاعل مع مفاهيم أخرى للوعي الوجودي من خلال تشابه الأفكار حول الذات، المعرفة، والتجربة الروحية. هذا التفاعل يُعزز الفهم العميق للحياة والوجود عبر الثقافات والفلسفات المختلفة.

الهرمسية والدين

تناولت الهرمسية مجموعة واسعة من المواضيع، بما في ذلك الفلسفة، الروحانية، والمعرفة، مما يجعلها أكثر شمولية في الأفكار مقارنة بالأديان التي عادة ما تتبع عقائد محددة، تشجع الهرمسية على الفهم الشخصي والتجربة الفردية، حيث يُعتبر كل فرد مسؤولًا في بحثه عن الحقيقة والمعرفة، مما يقلل من إمكانية تأسيس طقوس دينية موحدة، تُعتبر الهرمسية أكثر فلسفة فكرية تعتمد على العقل والتأمل، بينما الأديان غالبًا ما تتطلب إيمانًا بعقائد وقيم محددة، تتيح الهرمسية تفسيرات متعددة للرموز والمعاني، مما يجعلها قابلة للتكيف مع ثقافات وأفكار مختلفة، بينما الأديان غالبًا ما تكون أكثر تقيدًا في تفسيراتها، الهرمسية تتفاعل مع مجموعة متنوعة من الفلسفات والعلوم، مما يجعلها أقل اعتمادًا على الإيمان العقائدي الصارم، تظل الهرمسية فلسفة لأنها تركز على التفكير النقدي، التجربة الفردية، والتنوع في التفسير، مما يميزها عن الأديان التقليدية التي تتطلب إيمانًا بعقائد محددة لذا يمكن القول إن عدم وجود إلاه مركزي يُعتبر أحد العوامل الرئيسية التي ساهمت في عدم تحول الهرمسية إلى دين، مما يعكس طبيعتها الفلسفية والتركيز على الفهم الفردي والمعرفة.

***

غالب المسعودي

تمهيد: يواجه المثقف العراقي المعاصر إشكالية عميقة تتجاوز مجرد اختيار الكلمات، لتصل إلى جوهر الهوية والتعبير عن الذات. يتجلّى هذا التحدي في تقاطع مأزوم بين لغتين: لهجة الأم التي تمثل الأصل العضوي للغة، والفصحى التي تمثل اللغة الرسمية والمطلوب استخدامها في الخطاب الفكري والثقافي. فهل يُطلب من المثقف أن يتحدث بلسان ما يفكر به، أم بلسان ما يُتوقع منه أن يفكر به؟ وهل يمكن أن تكون اللغة أداة حرية ووعي إذا كانت ذاتها سُلطةً وقيدًا؟

ثنائية اللغة: بين الذات والسلطة

المثقف العراقي يتربّى في بيئة لغوية مزدوجة، تكاد تشكّل لديه انقسامًا معرفيًا وعاطفيًا: اللهجة هي اللغة الأولى التي يتلقّاها شفويًا من أسرته وبيئته، تعبيرًا عن حيويته وعفويته، بينما الفصحى هي اللغة التي يُطلب منه التفكير والكتابة بها، لغة النخبة والمعرفة الرسمية.

هذا الانفصام اللغوي لا يُنتج تعددية غنية كما قد يظن البعض، بل يولّد شعورًا مزمنًا بالانفصال بين الوعي والتعبير، بين الشعور واللفظ، فتُصبح الكلمات “فصلًا” في جسده النفسي، لا امتدادًا طبيعيًا لوجدانه.

إن المشكلة ليست في الفصحى نفسها، التي تمثل منظومة لغوية رصينة، بل في الوظيفة السلطوية التي أُنيطت بها، حيث تحولت إلى معيار للتمييز الاجتماعي والطبقي، "غربال" يستبعد من لا يجيدها من حيث الانتماء، لا من حيث الإفهام.

يقول المفكر هادي العلوي: اللغة تمارس وظيفتها القمعية حين تتحول إلى شرطٍ مسبقٍ للقبول في جماعة النخبة.

وهذا ما يبرر احتقار اللهجة، وتحويلها إلى وصمة عار، وكأنها خلل لغوي وليس تركيبًا سيميائيًا يحمل ثقافة وتاريخًا وتجربة شعبية.

الفصحى كسلطة مركزية واللهجة كحقل مقاومة

ما لا يُقال كثيرًا هو أن الفصحى، بصفتها لسانًا موحدًا، تخدم السلطة الثقافية المركزية أكثر مما تخدم الأفراد. بينما اللهجة، بعمقها الشعبي وتاريخها الحيّ، تحمل في طياتها عناصر المقاومة واللاانضباط والتعبير الصادق.

هل يعقل أن نطالب المثقف بأن يتحدث عن القهر الاجتماعي والظلم والهامشية بلغة تتماهى مع بنية القهر الرمزي نفسه؟ هل يمكن للغة مهيمنة أن تكون مرآة للذات المقهورة؟

كما يقول عبد الجبار عبد الله: الانفصال بين اللغة واللهجة لا يعود إلى جوهر اللفظ، بل إلى تصنيفٍ اجتماعي أنتجته السلطة، لا اللسان. هذا التصنيف الاجتماعي يجعل المثقف يخجل من صوته الأول، من لحن بيئته، من الكلمات التي تعبّر عن أصالته وتُحرج منطق النخبة.

الكتابة واللغة: بين العضوية والمصطنع

لقد قلتُ ذات مرة: الكتابة بلسانٍ مُعقَّم تُفقد الفكر عضويته، كما يُفقد الجسد حيويته حين يُفرَض عليه أن يتحرك بطريقةٍ مصطنعة. فالكتابة ليست مجرد تركيب جمل سليمة، بل هي تفاعل حيّ بين الفكر واللغة والذات، وإذا أُجبرت على الارتداء لغة لا تنتمي إليها، يُصبح الخطاب بلا روح، بلا حرارة، بلا صوتٍ صادق.

السؤال ليس أيّ اللغة أفضل، بل هل الفصحى وحدها قادرة على نقل التعقيد الوجداني والاجتماعي والسياسي الذي نعيشه؟ هل بإمكانها أن تواكبنا بكل تناقضاتنا وأحزاننا وفرحنا؟

المثقف بين الولاء للغة الأم والالتزام بالفصحى

المثقف الذي يتخلى عن لهجة أمّه لا يفقد اللحن فحسب، بل يفقد جزءًا من بنيته الشعورية، فتذبل أشجاره الداخلية، ويصبح كلامه ناقصًا، وكأنه يعزف على آلة موسيقية معطوبة.

هذا ما يجعل خطابنا الثقافي اليوم شاحبًا، مرهقًا، منزوغ الصوت، مرتبك الهوية.

خاتمة: تأملات وتساؤلات

ليس العداء مع الفصحى، بل مع تحولها إلى أداة قمع تقتل تنوعنا اللغوي وتُغلق نوافذنا على أنفسنا. المثقف الحقيقي هو من يقف على حافة التوتر بين أصله ولهجته ولغته الرسمية، ويُحافظ على صوت ذاته.

هل يمكن أن نحيا حرية فكرية إذا كنا نكبت ألسنتنا؟ هل نرضى أن نُجبر على تنحية أصواتنا الأولى، والعيش بصمت مقيّدٍ؟

أسئلة تطرحها الحقيقة

هل الفصحى لغة الفكر الحقيقي، إذا حُرم صوت اللهجة من الارتفاع والسمع؟

من قرر أن اللهجة عيب لغوي، وأن الفصحى وحدها لغة العقل؟

كيف نحافظ على هويتنا إذا فقدنا لغة الدفء التي نولد بها؟

هل المثقف الذي يرفض لهجته، هو حقًا مثقف، أم مجرد ناطق بلغات الآخرين؟

كيف نطالب بالحرية الفكرية إذا كنا نقيّد ألسنتنا بقوالب مفروضة؟

وإذا لم يكن اللسان ملكنا، فمن يملكنا إذن؟

(الصوت الذي يُفكر كما وُلد، أقرب إلى الحقيقة من الصوت الذي يتجمّل ليُسمع).

***

الكاتب سجاد مصطفى حمود

 

يُعد الشر من أكثر الإشكاليات التي تناولها الفلاسفة وعلماء النفس ولا تزال محل جدال بالبحث والدراسة. ومظاهر الشر قديمة قدم الإنسان منذُ خلقه، ألم يقتل قابيل أخيه هابيل بسبب الغيرة والحسد، وإذا بحثنا في القرآن الكريم نجده أشار إلي الشر في مواضع عديدة منها:

 قوله تعالي “ومن شر حاسد إذا حسد”سورة الفلق آية ٥، وفي سورة أخري “من شر الوسواس الخناس”سورة الناس، آية ٤.

في عالمنا المعاصر نجد الشر بكثرة متجسد في أفعال الإنسان من جرائم القتل والسرقة والإستبداد، ونري أن فعل الشر ليس مقصوراً علي فئة مُعينة، علي عكس قول بعض الفلاسفة القدماء مثل الفيلسوف اليوناني سقراط الذي عرف الشر علي إنه ناتج عن الجهل وبعض فلاسفة العصر الحديث والمعاصر منهم الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر بقوله أيضاً بأن الشر يتطلب غباء ومحدودية في التفكير.

ومن وجهة نظرنا فهذا ليس مقياساً للشر أن يفعله الجهلة فقط او محدودي التفكير، فهناك المتعلمين في مختلف المجالات و الفئات ذات الحظ العظيم في العلم والثقافة والأدب وينتج عنهم الشر أيضاً، فليس الشر متمثلاً فقط في القتل وسفك الدماء.

الشر بمعناه العام “السوء والفساد، يقال رجل شر أي ذو شر، وهو شر الناس أي أسوؤهم وأكثرهم فساداً”جميل صليبا، المعجم الفلسفي، ص٦٩٥.

والواقع المعيش خير شاهد علي الجرائم الأفعال المشينة التي ترتكب كل يوم في حق الإنسانية التي أصبحت مذبوحة وأعتاد الناس مشاهد الشر في ثوب القتل تارة، والتحرش وهتك الأعراض تارة أخري والفساد المنتشر في شتي مناحي الحياة.

كيف يتأرجح معني الشر بين الفلسفة وعلم النفس؟

يري الفيلسوف الإنجليزي جون لوك بأن الإنسان يولد صفحة بيضاء ويتشكل حسب تجاربه ومجتمعه الذي يعيش فيه”، أي أن الشر عند الإنسان مكتسب وأن البيئة التي يعيش فيها هي المسؤولة عن تكوين شخصيته سواء كانت تتسم بالشر من عدمه، فالإنسان عند جون لوك ليس شريراً بطبعه، ولكن من زاوية أخري نفسية عند عالم النفس النمساوي سيجموند فرويد

نجد نظرته للشر الإنساني مختلفة فهو يري “الإنسان لديه دوافع عدوان كامنة وأن الحضارة هي التي تكبح جماحها” فهو بذلك يقول بفطرية الشر عند الإنسان، وإنه يولد عنده إستعداد لفعل الشر ولكنه مكبوت بفعل الحضارة وسُلطة المجمتع عليه.

واذا تعمقنا في فكر فرويد نجد أنه يرجع كل شيئ إلي الجنس، بمعني كل المشكلات النفسية والإختلالات السلوكية، يرجعها إلي الجنس، ولهذا لا يجب أن نتعجب إذا وجدنا رأيه في تحليل مفهوم الشر وأسبابه، أن يُرجعه إلي الجنس أيضا ًبمقولته” الجنس أصل كل الشرور ”، ولهذا يمكن أن ننتقده بسبب أنه لا يمكننا أثناء تجذير وتأصيل أي مشكلة أو محاولة حل إشكالية مثل الشر أن ننظر إليا بزواية واحدة فقط، فالأنسان أعقد بكثير وخصوصاً صيرورة التطور الفكري علي مدار مراحل حياته، فالبيئة المحيطة وتاريخه الماضي، كلها مفاتيح لمحاولة فهمه وفهم تصرفاته سواء كانت بالخير أوالشر ولا يجب ردها إلي الجنس فقط.

ختاماً به ما هو الشر الأعظم وهل يمكن أن يختبئ خلف سِتار الفضيلة؟

 نعم نجد الإجابة عند الفيلسوف وعالم النفس إيرك فروم في كتابه “تشريح التدميرية الإنسانية” فيذكر لنا  الشر الغير مباشر أو الشر المُبرر: والذي يقوم به الإنسان دون وعي أو فعله بطريقة غير مباشرة و يضرب لنا مثال بالموظف العسكري في معسكر نازي، كان ينقل السجناء إلي غرف الغاز، فالموظف يري انه يقوم بالواجب ويقوم بتنفيذ الأوامر بكل فخر، دون وعي أخلاقي منه أو مراجعة نفسه ما إذا كان العمل الذي يقوم به خطأ أو صواب، بل سَلّم للأوامر بطريقة عمياء حتي و لو كانت نتيجتها إذاء ودمار للغير.

وإذا قمنا بإسقاط الفكرة علي الأحداث الراهنة وما يحدث من حروب علي غزة الفلسطينية، نجد الطرف الذي يمارس القمع والإضطهاد يتوهمون أنهم يؤدون الواجب والولاء لعقيدتهم، وكل ما يقومون به من قتل وتدمير وإبادة، من وجهة نظرهم هو تحقيق لإرادة التوسع وتلبية لنداء الواجب.

وهذا يعد أبشع الشرور وأعظمها من وجهة نظر إريك فروم فهذا الخنوع للقمع الذي تمارسه تلك المنظومة، يُحذرنا من تحول الإنسان إلي كائن معدوم الوعي الأخلاقي يفعل الشر ويظن أنه يفعل الصواب، وهذا ما يجعله آداة لشر أكبر، وأختم مقالي بجملة تختصر وجهة نظرنا عن الشر للدكتور/مصطفي محمود مُتعجباً من الإنسان في عمل الخير والشر، الإنسان اذا فكر في فعل الخير سبق الملائكة، واذا فكر في فعل الشر سبق الشياطين، فهو بذلك تفوق علي جميع المخلوقات في خيره وشره.

***

محمد أبو العباس الدسوقي

 

في الذكرى الرابعة لوفاة المفكر والمؤرخ التونسي هشام جعيط قراءة في فكره

مقدمة: يذهب بعض المفكرين إلى أن أعمال هشام جعيط (1935- 2021) حول الإسلام المبكر قد وضعت حدا للمنجز الإستشراقي الذي إهتم بهذه المرحلة من تاريخ الإسلام وأغلقت قوسا من "المعرفة " التاريخية وفتحت آفاقا جديدة لأعمال مختلفة حول " الإسلام المبكر " بأدوات معرفية تستنطق المصادر القديمة وتميز غثها من سمينها بعين ناقدة وبصيرة ثاقبة، فتعيد كتابة تاريخنا برؤية موضوعية بعيدة عن القراءات التمجيدية من ناحية، وعن تلك التي لا ترى فيما حدث إلا إستنساخا أو إنتحالا لتراثات سابقة. يقول هشام جعيط في حوار مع الكاتبة حياة السايب نشر في موقع " ثقافات ": " أعتقد أن المستشرقين في الفترة التي كتبت فيها لم يكونوا متمكنين من علم التاريخ... و ليس لهم تكوين تاريخي نقدي حقيقي كانت كتاباتهم سردية وتطغى عليها أحكام مسبقة وإعتبارات خارج الحقل العلمي وهي مسكونة بفرض تفوق الغرب على الشرق الإسلامي ويمكن القول من خلال ثلاثيتي حول السيرة المحمدية إن الإستشراق قد إنتهى على يد أحد الشرقيين المسلمين. "(1)

1 – العرب والنبوة:

إن إستقراء إبن خلدون، المتوفى سنة 818 هج / 1406 م لتاريخ العرب قد أوصله إلى خلاصات عامة سيتكفل علم التاريخ بالبحث فيها تمحيصا وتدقيقا وإعادة قراءة للمصادر التي وصلتنا والتي تتحدث عن تلك الفترة، فهي تقتضي نظرا وتحقيقا على حد عبارته، إن إنتقال العرب من الوثنية إلى التوحيد مثل فيه الدين / النبوة " طقوس عبور " من التوحش والبداوة اللتين إتسمت بهما حالة العرب قبل الإسلام أو ما يعرف بالجاهلية وهو مصطلح مشحون بمسحة أخلاقوية، إلى حالة التمدن والتأنس. إنها طقوس ستترك بصمات لا تنمحي في ذهنية العرب وفي رؤاهم وتصوراتهم إنها بمثابة الوسم الذي إنطبعت به أخلاقهم وسلوكهم. يقول إبن خلدون في الفصل السابع والعشرين من الباب الثاني، في أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة. ويشرح إبن خلدون ذلك بقوله: " والسبب في ذلك أنهم لخلق التوحش الذي فيهم أصعب الأمم إنقيادا بعضهم لبعض للغلظة والأنفة وبعد الهمة والمنافسة في الرياسة، فقلما تجتمع أهواؤهم، فإذا كان الدين بالنبوة أو الولاية كان الوازع لهم من أنفسهم وذهب خلق الكبر والمنافسة منهم فسهل إنقيادهم (... ) فإذا كان فيهم النبي أو الولي الذي يبعثهم على القيام بأمر الله ويذهب عنهم مذمومات الأخلاق ويأخذهم بمحمودها ويؤلف كلمتهم لإظهار الحق ثم إجتماعهم، حصل لهم التغلب والملك. " (2) إن الإنتقال بالعرب من حالة التذرر القبلي والإنقسام والتناحر والتحارب ومن حالة الغلظة والأنفة والكبر والتفاخر بالأنساب إلى حالة اللين وسهولة الإنقياد والإجتماع والتآلف يحتاج إلى رجة قوية تخلخل ما إستقر في تلك البنى القبلية من أعراف وتقاليد وتفتح أمامهم رؤى جديدة حول الإنسان والوجود وحول الشعوب المجاورة لهم. يؤكد هشام جعيط في سرديته لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم على الإنتماء العربي للرسول وأنه من قبيلة قريش وعلى أنه ولد في مكة وهو بذلك يرد على المستشرقة باتريشيا كرون (1945 – 2015) التي شكت في إنتساب محمد إلى قريش وفي صحة نسبه وتعتبره من وسط الجزيرة العربية وليس من مكة. (3) يدقق هشام جعيط في كل المرويات والمصادر القديمة من إبن إسحاق إلى إبن هشام إلى البلاذري ولاسيما المرويات المتصلة بالنبي، يورد مختلف الروايات ثم ينقدها ويضرب بعضها ببعض معتمدا في ذلك على معرفة دقيقة بعلم التاريخ وعلى إطلاع واسع بالآنتروبولوجيا الثقافية وبعلم الإجتماع ومستندا على النص القرآني كمصدر رئيسي لنحت صورة للرسول صلى الله عليه وسلم. إنه يعمد إلى ترجيح بعض الروايات على أخرى محكوما في ذلك بنزعة علمية تبحث عن حقيقة ما حدث، بعيدا عن تصورات المستشرقين وعن خلفياتهم التي أثرت كثيرا في ما كتبوه حول التاريخ الإسلامي وسيرة الرسول وكذلك بعيدا عما إستقر في الضمير الجمعي الإسلامي من تصورات إرتقت إلى درجة البديهيات. يعتبر هشام جعيط النبوة بالحدث الجلل وأنها لا ليست بالأمر العادي الذي يتكرر حدوثه، وأن الشعوب التي تحظى بهذا " التكريم " يمكن أن يكون لها شأن عظيم. إنها حدث فارق في تاريخها في كل أبعاده وتكون شخصية النبي محورية في هذا المسار. فإضافة إلى الإصطفاء الذي آختص به شخص النبي لمؤهلات ذاتية تمتع بها، ولمسار ذاتي لعبت فيه ظروف تاريخية دورا في تبوئته هذا الدور، كان للنبوة دعائم أخرى، لقد صاحبت النبوة خلخلة للبناء اللغوي تكفل القرآن الكريم بإحداثها، يقول هشام جعيط: " فالقرآن إبتدع أيضا معجمه وهذا أمر عظيم وهو الذي خلق التجريد المفاهيمي في لغة لم تكن تعرف إلا الحسي كما في الشعر. " (4) لقد هيأ القرآن الأرضية الفكرية للعرب حتى يتلقوا حدث النبوة بآعتباره بوابة لدخول التاريخ، وقد أدرك جعيط ذلك بحسه التاريخي حين إعتبر أن تحولا معجميا في لغة هو تعبير عن تطور ذهني عام في الثقافة ومن وراء ذلك عن تطور في بنى الحضارة كما لدى اليونان وغيرهم. (5) إن القرآن الذي نزل بلسان عربي مبين، كان مفهوما بالضرورة من العرب، رغم ذلك يؤكد جعيط أننا لم نكن نعرف أفكار العرب وجدالاتهم إلا من خلال القرآن وحسب رأيه فإن السور الوسطى هي التي كانت صعبة الفهم بالنسبة إلى للقرشيين لأنها كانت تحوي مفردات مجردة، وحتى السور الأولى تحوي مفردات خاصة وجديدة ومبتدعة كالنار والجنة وجهنم، ... لقد إستطاعت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم تثوير الوعي العربي إنطلاقا من اللغة مسنودة بالوحي، يقول جعيط متحدثا عن مئات الكلمات الجديدة: " وإنما إخترقت اللغة والضمائر عبر أربعة عشر قرنا من الحضور والتعمق في الحضور، بل كونت المعجم اليومي للعرب المسلمين في الحضارة التي ستنبني. (6) يطرح القرآن مشكل اللغة في كل أبعاده ويتبنى جعيط رأي المستشرق الألماني يوليوس فلهاوزن (1844 – 1918) الذي يرى أنه يشهد على قوة اللغة وسيطرتها على الفكر، لكن العكس صحيح أيضا وهو سيطرة الفكر على اللغة وتطويعه لها. فالقرآن خلق مفردات من الجذور العربية لكن إنبلاجه في هذه الفترة دون سواها، كان بسبب أن اللغة وصلت إلى حد كبير من النضج والغنى ومن هنا إزدهار التعبير الفني في الشعر. والقرآن تعبير فني بأعلى درجة. يهتم جعيط في رسم ملامح تاريخ نشوء الإسلام بالديالكتيك: الأنا / المجتمع والفرد / الوسط، ويطرح تساؤله ما هو قسط محمد – وهو كبير – وما هو قسط العالم الذي ولد فيه؟ في آخر المطاف، السؤال المحير هو التالي: كيف كان محمد ممكنا في ذلك الزمان وفي تلك الساحة من وجهة الأفكار ومن وجهة التعبير ومن وجهة الإرادة المستميتة؟(7)

– النبوة في التاريخ

ملامح الوضع الجغراسياسي في شبه الجزيرة قبل البعثة:أدرك هشام جعيط أهمية المدن في صناعة التاريخ لأنها المدخل الوحيد لمحاصرة البداوة وتحجيم دورها ولاسيما في شبه الجزيرة الوسطى. فهذه القطعة من الأرض المحاصرة بين الشمال – سورية - ومدنه مثل العلا والحجر والبتراء وبصرى وبين الجنوب – اليمن – حيث سبأ وشبوا وتمنع وظفار ونجران. عشية ظهور الإسلام كانت المدينة هي السائدة في المجال التاريخي، بينما كانت البداوة هي المهيمنة في المجال الأنتروبولوجي. لقد كان الجمهور الأعظم من العرب لا يزال خاضعا للوجود البدوي الرعوي القبلي والحربي. كانت المدن تستبطن في داخلها الفكرة الإتحادية المجمعة ونزوعا معينا إلى الهيمنة، غير أن المدينة ظلت واقع أقلية وكانت على الدوام مخترقة بالمبدإ القبلي الذي كانت تحاول عبثا تجاوزه. (8 ) كان الصراع على أشده عشية ظهور الإسلام بين البداوة والمدينة، فقد أصبح مستقبل عرب شبه الجزيرة رهين حسم هذا الصراع. كان لزاما على المدينة أن تتخلص من الإرث الأنتروبولوجي الثقيل للبداوة، فلا معنى أن تؤسس مدنا تكتسحها عقلية الثأر والإغارة ونمط إقتصادي رعوي مع ما ينتجه من قيم وسلوكات لا تستقيم ونمط العيش في المدن. فالمدن القادرة على إدخال العرب التاريخ هي تلك التي تقدر على إنشاء نمط إقتصادي جديد وتغيير الرموز الثقافية وكذلك الميراث الأنتروبولوجي، إما بثورة تعصف بالسائد من معتقداته وتصوراته ونظرته للوجود وللإنسان وإما بإصلاح لمنظومة القيم التي لم تعد تستجيب لطموحات المدن في وضع بصمتها الخاصة في تاريخ المنطقة. فالقرن السادس الميلادي هو عصر الجاهلية حسب هشام جعيط عصر العنف والجهل، في ظل خضوع اليمن للأجنبي الاحباش والفرس، هنا يبرز صعود مكة في ظل الهيمنة البدوية العددية، كأنها الظاهرة الأولى، لأنها الأكثر إمتلاءا بالمستقبل يقول جعيط: " إن أهمية مكة تنبع من كونها كانت مدعوة لتنظيم وتدبير القوى الجديدة للعروبة البدوية ولإجراء عملية وصل بين العالمين الداخلي والخارجي، عالم القبيلة وعالم المدينة بشكل لم يحدث من قبل. " (9) هناك مدن كان بإمكانها أن تلعب الدور التاريخي التوحيدي أفضل من مكة مثل الحيرة، لكنها كانت قوة مدعومة من الأجنبي- الإمبراطورية الساسانية- لم يكن هواها عربيا خالصا فلم تستطع توسيع نفوذها إلى كل الجزيرة العربية كما أنها لم تكن حاملة لرؤى مستقبلية للعرب، أما عالم الشمال عالم عرب الماضي الأوائل لم يعد قادرا على القيام بدوره كوسيط ثقافي، فقد تلاشت مدنه العربية وأصبحت موطن هجرة نقلت عرب اليمن من الجنوب إلى الشمال والذين صاروا قضاعة مع مزايا وسمات بدوية صرفة وخاضعين فوق ذلك لبيزنطة. (10) إن الجزيرة العربية الوسطى المحصورة بين قطبين في حالة إنحطاط، بدأت تظهر داخلها مدن مثل مكة والطائف ويثرب، إنها هي أيضا أنشئت على أساس قبلي لكنها كانت تستمد مادة وجودها من الزراعة والتجارة وكانت مكة قائمة في وسط الحرم أو الأرض المقدسة، الحرم الأهم في كل الجزيرة العربية نظرا لكونه مركز حج يتجلى فيه بكل نصاعة تفاعل المدينة والقبائل، نحن أمام أرستقراطية دينية تناظر الأرستقراطية الحربية لدى كبريات القبائل الرعوية والبدوية. (11) كان العرب حسب جعيط موحدين بالدم واللغة والدين – رغم تعدد الآلهة وعبادة الأوثان ؟– ويشكلون أمة ثقافية وليس أمة الدولة. كانت القبيلة تحل محل الدولة إذ كان لكل قبيلة بيتها القيادي يعني أسيادها، إلا أنه لم يكن السيد يمارس سلطة قهرية كنا نجد ذلك في مكة مع قريش وفي يثرب مع الأوس والخزرج وفي الطائف مع ثقيف وكان ذلك التنظيم يسمح لسفحي العروبة البدوي والحضري أن يجد لغة مشتركة وموقفا مشتركا وقيما مشتركة مع ذلك كان يعزى لأهل المدن، لا سيما لقريش عقلية خاصة مختلفة عن عقلية البدو، كانت ترسم ما يشبه الحدود ما بين العالمين (البداوة والحضر). ( 12)

محمد النسب والشرعية: في هذه البيئة ولد النبي ودعا طيلة ثلاث عشرة سنة، كان يتحدر بخط مستقيم من قصي أي مؤسس مكة بوصفها كيانا مدينيا، أي من الرجل الذي أقر بها قريشا - ومعنى قريش من تقرش القوم تجمعوا والمقرشة أي السنة الشديدة المحل التي يتجمع فيها الناس فتنضم حواشيهم وقواصيهم – وكان قد جمع بين يديه الوظائف الدينية والسياسية والعسكرية وبنوع أخص كان النبي ينتسب إلى عشيرة عبد مناف إسم الإبن الثاني لقصي الذي كانت سمعته قد فاقت بسرعة شهرة الإبن الأكبر عبد الدار. وعلى الرغم من إنقسام عشيرة عبد مناف إلى فخذين، فخذ إبن هاشم وفخذ عبد شمس فقد ظلت متماسكة تماسكا كافيا لكي يعتبرا " العشيرة الأقربين " التي أمر الله النبي بإنذارها في القرآن (سورة الشعراء / الآية 214 ) تدل حقا على بني عبد مناف وليس فقط على بني هاشم وبذلك كان النبي ينتسب إلى إحدى عشيرتي قريش المقدستين التي كانت تشارك في خدمة الحجيج وفي القيادة العسكرية. (13) لئن كان توسع التجارة الذي كان ظاهرة حديثة العهد، قد أوجد تباينا إجتماعيا يظهر قيمة عشائر لم تكن منحدرة من قصي مثل مخزوم أو فخذ عبد شمس على حساب فخذ هاشم المنحدرين كليهما من عبد مناف، فإن عشيرة عبد مناف قد ظلت مع ذلك تحتفظ بمكانة مميزة مؤسسيا وكانت تمثل في الممارسة بيت قريش خاصة وهذا أمر بالغ الأهمية حسب هشام جعيط لفهم الصعود النبوي لمحمد ونجاحه اللاحق في المدينة وبيت القبائل العربية. لم يكن محمد على الرغم من فقره ومن فقر عمه وحاميه أبي طالب متحدرا من أي كان بل من قصي وعبد مناف وكان بهذه الصحة يمكنه أن يظهر في أعين العرب كممثل لقريش في غاية الكمال. (14) يرى هشام جعيط أنه لا مناص من الفصل المطلق بين التبشير الديني لمحمد طيلة 13 سنة في مكة بالذات وهو تبشير ديني محض أدى إلى ولادة الإسلام وبين التوليف المقبل في المدينة بين الدولة والدين. فالعنصر الأول نتاج إتجاه روحي عميق ويندرج في سياق المدى الطويل لتطور الروحانية التوحيدية والثاني هو ثمرة المصادفة ويلبي الحاجة إلى تجاوز هامشية محلية، هامشية الجزيرة العربية بإدخال مبدإ الدولة فيها وإليها. (15) لكنا نرى أن ما حدث في المدينة لم يكن ثمرة المصادفة لأن الوحي الذي رافق مسيرة الألم في سبيل الدعوة إلى الله في مكة وهو الذي إستند إليه جعيط في فهم سيرة الرسول، ظل يرافقها في المدينة ويعمل على تجذير مبادئها من خلال سيرة الرسول وظل يؤرخ لأحداث كبرى عاشها النبي. يؤكد هشام جعيط أيضا على أن النبي لم يؤسس ملة أو طائفة بل دينا جديدا وذلك في رده على مكسيم رودنسون في كتابه، محمد، الصادر بباريس، سنة 1968، ص 95. كما فند جعيط مزاعم عدد من المستشرقين، في أن الدعوة المحمدية في مكة كانت ذات أهداف سياسية أي الهيمنة على مكة، فلا يوجد إسناد لآفتراض كهذا. وإن كان خصوم النبي ينسبون إليه مطامح فلا يعني إطلاقا أن النبي كان صاحبها حقا، بل يعني أن أفقهم كان قد بقي محصورا ومحدودا بحدود مدينتهم اللئيمة وموازين النفوذ الإجتماعي. (16) لكن يمكن أن نلحظ من جانب أهل مكة مقاومة ثقافية ودينية في سبيل الشرك – تعدد الآلهة- وآحترام الأجداد اللذين إنتقدهما القرآن الكريم. إن المسألة التي صادفها النبي في مكة هي ذات بعد ثقافي وديني ولا علاقة لها بالتجارة ولا بالسياسة فهي دينية أولا وثقافية ثانيا، هي ثقافية من حيث أنها تريد أن تعطي للشعب العربي كتابه المقدس ونبيه: مؤدبه الديني والأخلاقي. (17)

دولة - المدينة النبوية:

إن النبوة حدث un fait prophétique لأن لها أثرا في التاريخ وأثرها ليس هينا، رغم إندراجها في التراث الإبراهيمي، إلا أنها حدث غير مسبوق بالنسبة إلى العرب، فقد جعلت منهم أمة ذات ملامح مخصوصة وتركت بصماتها التي لا تنمحي في وجدانهم. لقد كانت عابرة للقبائل والعشائر، لذلك إستطاعت أن توحدهم. يقول عبد المجيد الشرفي في مقارنته بين النبوة والنظام القبلي والعوامل التي مكنت النبوة من لعب هذا الدور: " لعل الفارق بينه – أي الرسول – وبين زعماء العشائر ورؤساء القبائل أن نفوذ هؤلاء مقتصر على عشائرهم وقبائلهم، بينما يخترق نفوذ النبي الإنتماءات القبلية ويعلو عليها دون أن يلغيها (...) كما يستند النبي إلى مرجعية دينية لا تتوفر لهم، وبهذا المعنى فإن سلطته لا تورث " (18) فمنذ الفترة المدنية بدأت ملامح الفعل النبوي في التاريخ تظهر، إنه حدث تأسيسي un événement inaugurateur بدأ بتغيير إسم دار الهجرة التي ستحتض الدولة- المدينة من يثرب إلى المدينة وفي ذلك إشارة إلى أن الدين الجديد قادر على إدارة الإختلاف العرقي والديني وحتى اللغوي في محيطه الجديد. لقد إعتبر هشام جعيط المدن العربية الإسلامية الناشئة تمثل تحولا أو " قطيعة " نحو صناعة حضارة جديدة دون إنكار لآستمرار دور النمطين الكلاسيكيين الآخرين في أداء دورهما الحضاري ويعني بذلك مدن القوافل في الصحراء وعلى حفافيها ومدن الدول العظيمة التي تأسست على شواطئ البحار والأنهار. كان " حدث الدولة " في الحياة العربية موضوعا مركزيا عند هشام جعيط عمل من خلال إستقرائه لتاريخ الإسلام المبكر على إبراز أهميته وتأثيره في تصوراتنا وفي رؤيتنا. يتحدث رضوان السيد في مقال نشر بعد وفاة هشام جعيط، يذكر فيه حوارا دار بينهما حول قيام الامة في التاريخ وحول إيديولوجيا الجماعة وهي مواضيع عزيزة على رضوان السيد وكان جعيط مشغولا بدولة المدينة التي إتجهت لإنجاز مشروع الأمة. وحين سأل رضوان السيد هشام جعيط عن إيديولوجيا الوحدات الثلاث: وحدة الجماعة، وحدة الدار ووحدة السلطة أو الدولة كان جعيط يجيب بأن " الدولة في المدينة " هي أساس الوحدتين الأخريين في إرادة التحقق وفي الوعي بذلك. وفي الوقت الذي يرى فيه رضوان السيد أن المدينة – الدولة هي المدينة الإغريقية يرى جعيط أن دولة المدينة هي التي تسعى بوعي للإنسياح في العالم مقدمة نمطا حضاريا جديدا. (19) إن المدينة- الدولة عند الإغريق تتميز بأن علماءها ومفكريها وفلاسفتها كرسوا مجهوداتهم لخدمة المصلحة العامة ودعوا إلى إقامة نظام سياسي يحقق العدالة ويثقف ويعلم ويربي النشء الصاعد. لقد كان لكل مدينة - دولة دساتيرها وقوانينها وآلهتها حتى وإن كانوا جميعا يشتركون في مكان واحد هو اليونان. لقد حدد أرسطو بعض الشروط الواجب توفرها لقيام المدينة – الدولة وتتمثل في: قيم خاصة بالمدينة، مؤسسات، وسائل عيش وقوة عسكرية للدفاع عن النفس. يتكون المجتمع داخل المدينة- الدولة من ثلاث طبقات تختلف من حيث الحقوق السياسية: الطبقة الأولى هي طبقة المواطنين الأحرار وهي الفئة الحاكمة، العسكر، ملاك الأراضي وفئة التجار يتمتعون بحقوقهم السياسية كاملة. الطبقة الثانية هي طبقة الأجانب الذين يعيشون في المدينة هم أحرار ولا يخضعون لأية سلطة حاكمة إلا أن بقاءهم متوقف على حسن تصرفهم أي خضوعهم لقانون المدينة، في حالة خرق القانون يطردون، ليس لهم حقوق سياسية. الطبقة الثالثة هي طبقة العبيد تعمل على إرضاء وإشباع حاجيات طبقتي الأحرار والأجانب وهي محرومة من جميع الحقوق السياسية فهي بمثابة أداة عمل. أما دولة المدينة النبوية فقد كانت لها تشريعاتها الخاصة وعقائدها المميزة، فقد ظلت طيلة حياة محمد بالمدينة تنحت شخصيتها الخاصة. شكلت غزوة الخندق حسب هشام جعيط، بآعتبارها خطرا خارجيا يستهدف إستئصال التجربة الوليدة من جذورها، عامل تماسك ووحدة لسكان المدينة جميعا(20). لقد وضعت هذه الغزوة دستور المدينة الذي ينظم العلاقات بين مختلف مكونات المدينة الإجتماعية والعرقية ووالدينية أمام إختبار تجسيد قيم التعايش المشتركة التي تضبط العلاقات فيما بين تلك المكونات. عملت دولة المدينة النبوية على الإعلاء من شأن العلم لذلك حاولت إقامة توازن جديد مع ثقافة المشافهة، السمة البارزة لثقافة البداوة وذلك بالتشجيع على تعلم القراءة والكتابة. كانت دولة المدينة توظف كل الإمكانات التي يتيحها الدين الجديد الذي أصبح هو المحدد الرئيس لهوية الجماعة ولإنتمائها، بعيدا عن عصبية الدم والعشيرة والقبيلة. إن الموروث الثقافي لفترة ما قبل الإسلام، والحامل لقيم سلبية عمل الدين الجديد على التخلص منه تدريجيا فمسألة العبيد وهي ظاهرة إجتماعية كونية في تلك الفترة إذ أن وجود مجتمع من دون عبيد ظل أمرا غير مفكر فيه أو مما يستحيل التفكير فيه آنذاك، لكن الدين الجديد وفي تكريسه لقيمة الإنسان ولعلو منزلته عمل على التشجيع على عتق العبيد من خلال نصوص ذات بعد مقاصد ومن خلال ممارسات تاريخية تذهب إلى الدفاع عن إنسانية الإنسان بقطع النظر عن هويته الدينية والعرقية وذلك تكريسا لقيم المساواة والعدل والإنصاف. إن الإسلام في داخله كان حاضنا للمختلف، وباحثا عن المشترك ومنفتحا على الآخر المغاير في نزوع متصاعد لتحجيم أثر النزعة القبلية في الدين الجديد، فمع بلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي، هذه الشخصيات بموروثاتها الثقافية والتاريخية أصبحت التجلي الأمثل لقدرة الدين / النبوة على صهر الجميع في أمة واحدة. في إطار إستمرار دولة – المدينة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم عمل الخليفة أبو بكر الصديق على التصدي لكل ما من شأنه أن يحدث تصدعات داخل جسم الأمة المتماسك وهما ظاهرتا الردة، وإدعاء النبوة وقد حلل هشام جعيط الظاهرة الثانية ليؤكد من خلالها أن السلطة في نظر العرب لا يمكن أن تقام إلا بنبوة تفرض على الجميع الإعتراف بها. يشرح جعيط ظهور نبوات شتى بأنه أمر مثير وذو دلالة على الترابط ما بين الدين والسياسة فقد جرى في كل المصادر وصف هؤلاء - طلحة عند بني أسد، سجاح عند تميم، الأسود العنسي في اليمن، ذي التاج في عمان ومسيلمة عند بني حنيفة – بالأنبياء الزائفين كأنواع من الكهنة لهم شياطينهم الخاصة بهم وينطقون بكلام مسجع ويمارسون السلطة الروحية والسلطة الزمنية. (21) ويرى جعيط أن ظهور تلك النبوءات في كل مكان تقريبا يطرح مشكلة، فهل يتعلق الأمر بمحاكاة محض للنبي محمد أم يتعلق الأمر بتعبير أعمق عن حقيقة مجتمعية وحضارية؟ وهل كانوا صدى لمحمد وتكرارا آليا لأستاذيته وسلطانه العقائدي أم كان الأمر متعلقا بإفراز مجتمع قبلي لا يمكنه بلوغ السلطة المنظمة إلا من خلال الحركة النبوية؟ حسب جعيط يتعلق الأمر بالإثنين معا. فلم يكن بمستطاع الأرستقراطية المحاربة أن تبلور سلطة دولة فقد كانت الظاهرة الدينية وحدها قادرة على توحيد الناس وعلى الحصول منهم على الطاعة والتشريع والتنظيم وقيادتهم إلى الحرب (...) لا بد من التسليم بأن تصور السلطة كان مستحيلا بدون النبوة في الوسط القبلي وفي ظروف الجزيرة العربية آنذاك. (22) يرجع جعيط الفشل الذي آلت إليه دعوات أدعياء النبوة إلى أنها كانت هشة لأنها مجرد تعبير عن القبيلة ولأنها لم تمر بمسيرة طويلة ولا بتجربة صادقة تعطيها مصداقية، كانت في مواجهة نبوة تملك مرتكزاتها الخاصة وكانت قد أسست قاعدتها الإجتماعية ومرت بمسيرة طويلة وتملك فضلا عن ذلك كله شعورا قويا بالحقيقة. (23) يشرح هشام جعيط إختيار أبي بكر وعمر كخليفتين للرسول صلى الله عليه وسلم عقب وفاته والإجماع الذي إنعقد حولهما، بأنهما حالة إستثنائية وتجسيدا للصحبة الإسلامية المحض وهي فوق إعتبارات قرابة البيت أو الإنتماء العشائري ويرى أنهما يتابعان على هذا النحو بارقة النبوة. (24) كلاهما لم يكونا ينتميان إلى قبائل كبيرة مهووسة بالجاه والسلطة، معهما يتجسد نزوع الإسلام إلى إسناد السلطة والحكم إلى من هو جدير بهما بعيدا عن منطق التوريث وعن صلة الدم والعشيرة، كانت معهما قيم الإسلام تتقدم على الأسرة وهو مسار انخرط فيه الإسلام يقوم على محاربة بقايا ما خلفته آنتروبولوجبا البداوة وما تركته في وعي الإنسان العربي، إلا أن للتاريخ منطقه ومساره الخاص ولا سيما الأحداث التي عاشتها الأمة بعد مقتل عثمان. و التي كشفت عن عودة قوية لمنطق القبيلة وللعصبية.

الخاتمة: يقدم هشام جعيط في آخر كتابه حول الوحي والقرآن والنبوة، شهادة رائعة حول رؤيته لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، شهادة من مختص في تاريخ الأديان المقارن تؤكد عمق الخلاصات التي توصل إليها بعد دراسته لسيرة الرسول ومقارنتها ببقية الأنبياء والشخصيات التي تركت بصمتها في وجدان الشعوب التي عاشوا بينها وفي تاريخها، يقول: " وإذا كان محمد ممن بنى الضمير الإنساني الداخلي ومن ثم الحضارة والثقافة والأخلاق، وكان ممن أسهم بقوة في قفزة كبيرة في مسار الإنسانية من الحيوانية إلى الإنسانية، وهؤلاء الهداة قلة، وإذا كان ممن أعطى لمسار التوحيدية أرقى تعابيرها من الوجهة الأنطولوجية على الأقل، فهذا النبي يبقى شاهدا على الله وعلى أمته شهيدا ولهذا لهو حقيقة النبوة المحمدية وجوهرها في الأعماق. " (25)

***

رمضان بن رمضان باحث في الحضارة العربية الإسلامية

...............................

الهوامش والتعليقات:

1 – حوار مع هشام جعيط أجرته معه حياة السايب، موقع ثقافات، أعيد نشره في 24 يونيو 2021

2 – عبد الرحمان إبن خلدون (ت 808 هج/ 1406 م)، المقدمة، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1421 هج / 2000، ص 119.

3 – هشام جعيط، في السيرة النبوية- 2 – تاريخية الدعوة المحمدية في مكة، دار الطليعة، بيروت، ط 2، 2007، ص 145.

4 – ن. م ص 156

5 – ن. م ص 156

6 – ن. م ص 157

7- ن. م ص 157.

8 – هشام جعيط، الفتنة جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر، دار الطليعة، بيروت، د. ت، ترجمة خليل أحمد خليل، ص 13.

9 – ن. م ص 13

10 – ن. م ص 14

11 – ن. م ص 14

12 – ن. م ص 15

13 – ن. م ص 18

14 – ن. م ص 19

15 – ن. م ص 20

16 – ن. م ص 21

17 – ن. م ص 21

18-عبد المجيد الشرفي، الإسلام بين الرسالة والتاريخ، دار الطليعة، بيروت، 2001، صص 76 - 77.

19 – رضوان السيد، " هشام جعيط... المؤرخ والمفكر النهضوي العربي " جريدة الرأي، الجمعة 23 شوال / 04 يونيو 2021 رقم العدد 15529.

20 – هشام جعيط، الفتنة جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر، ص 27

21 – ن. م ص 39

22 – ن. م ص 40

23 – ن. م ص 40

24 – ن. م ص 37

25- هشام جعيط، في السيرة النبوية – 1 – الوحي والقرآن والنبوة، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الرابعة، 2008، ص 107

في الأساطير تُعتبر الاحجار رموزًا قوية وتحمل معاني متعددة، تتراوح بين القوة والثبات إلى التحول والتغيير، حيث يمكن أن يتحول الأشخاص إلى حجارة كعقوبة أو كوسيلة للنجاة، تُعتبر بعض الاحجار تمثيلًا للأحداث التاريخية، حيث تُخلد ذكرى الأبطال أو الآلهة، بعض الحجارة تُعتبر مقدسة، مثل الحجارة التي تُستخدم في المعابد لتكريم الآلهة. تتناول اسطورة سيزيف عقوبته بسبب تحديه للآلهة، حيث قام بالخداع والاحتيال، حتى أنه استطاع الاحتفاظ بحياته لفترة أطول من المعتاد، سيزيف كان ملكا يستهزئ بالآلهة، مما أغضب زيوس كما قام بخداع هاديس (إله الموت) مرتين، مما أدى إلى انتهاك قوانين الموت، عوقب سيزيف بأن يُجبر على دفع حجر ثقيل إلى قمة جبل وعندما يصل إلى القمة يتدحرج الحجر إلى الأسفل مما يجعله يبدأ من جديد، وهي عقوبة تمثل العمل العبثي واللا جدوى لم يكن سيزيف مواطنا عاديا يدفع حجرا الحجر الى قمة الجبل بل كان ملكا في كورنثة، مواطنا عاديا كجزء من تجربة الإنسانية وكيف تمنح الالهة البشر حرية البحث عن معنى، بالتالي تعكس أهمية الإرادة الحرة في خلق المعنى، يُعتبر عذاب سيزيف رمزًا للصراع الإنساني في حياة مليئة بالتحديات، تُشجع الآلهة البشر (الملوك)على خوض تجاربهم الخاصة، مما يعكس فكرة أن المعنى يُكتسب من خلال التكليف، بالتالي إذا كانت الآلهة لا تعرف المعنى، فإن ذلك يُعزز من فكرة العبثية، حيث يجب على البشر (ملوكا )مواجهة الفوضى والبحث عن قيمة في معاناتهم، ويُمكن أن يُعتبر عبء سيزيف دعوة للتأمل في طبيعة الحياة والوجود، مما يفتح المجال لفهم أعمق للمعنى الشخصي، بذلك يمكن ان تبرز أهمية التجربة البشرية في مواجهة التحديات والسعي نحو الفهم.

اسطورة سيزيف في الادب والفلسفة

تُستخدم أسطورة سيزيف في الأدب والفلسفة بطرق متعددة، حيث تعكس موضوعات عميقة تتعلق بالوجود والمعنى. في أعمال ألبير كامو، تُعتبر أسطورة سيزيف رمزًا للعبثية. يرى كامو أن الحياة قد تكون بلا معنى، لكن الإنسان يجب أن يقبل هذا العبث ويستمر في الكفاح، في الأدب تعكس قصص عديدة صراعات الشخصيات التي تشبه معاناة سيزيف تُعتبرها الأساطير تعبيرًا عن التحدي للسلطة والتقييد، حيث يرمز سيزيف إلى الشخص الذي يرفض الخضوع للآلهة، ويمثل الحجر الذي يدفعه رمز العبء والجهد المستمر، ويعكس المعاناة البشرية والسعي نحو الأهداف رغم العقبات، ترمز قمة الجبل (قمة...!) بكونها الهدف الذي يسعى الإنسان للوصول إليه، وتعكس الصعوبات والتحديات التي تواجهه، تُشير هذه الفكرة إلى عدم وجود معنى حقيقي في الحياة لان الصخرة قد تتدحرج الى واد اخر وتستدعي سيزيفا اخر ليرفعها مجددا بعقوبة أو تكليف، حيث يصبح الجهد المتكرر بلا جدوى، مما يبرز الصراع الداخلي للإنسان حيث يعيش في حلقة مفرغة من العمل، مما يمثل الصراع مع الزمن والوجود، يرتبط الخداع الذي مارسه سيزيف مع الالهة، بنزعة الإنسان للتمرد على القدر مما يجعلها موضوعًا غنيًا في التفكير الفلسفي.

حدود الإرادة الحرة

الإرادة الحرة في تحقيق المعنى، وفي سياق هيمنة الآلهة تظل خاضعة لسلطتها، مما يحد من قدرة الفرد على اتخاذ قرارات حقيقية، إن السعي لتحقيق معنى قد يبدو عديم الجدوى، مما يُقلل من فعالية الإرادة الحرة في خلق قيمة ما تعتمد الإرادة الحرة على التجارب الفردية، لكن هذه التجارب قد تكون محكومة بالظروف والتحديات التي تفرضها الآلهة، يُمكن أن يؤدي الصراع بين الإرادة الحرة والقيود المفروضة إلى تناقض داخلي، حيث يشعر الفرد بالتوتر بين الرغبة في الحرية والواقع الذي يعيشه، تعيق الظروف الحياتية الصعبة والقيود المفروضة من قبل الآلهة قدرة الفرد على تحقيق معناه الخاص هذا يُعزز من شعور الفرد بالعزلة، مما يُضعف من إيمانه بإرادته الحرة ويمكن أن يؤدي إلى عدم الجدوى في تحقيق معنى، الواقع الذي تفرضه الآلهة قد يقود إلى اليأس، مما يُحد من فعالية الإرادة الحرة، هنا تظهر حدود الإرادة الحرة وكيف يمكن أن تتداخل مع هيمنة الآلهة، مما يجعل تحقيق المعنى تحديًا معقدًا.

تمرد سيزيف

يبدو أن رمي الحجر قد يحرر سيزيف من العقوبة المستمرة، لكنه في الوقت نفسه يعني أيضًا التخلي عن الصراع الذي يحدد وجوده، قد يُعتبر هذا الفعل أيضا تحديًا للآلهة، مما يجعله عرضة لعقوبات جديدة، إذا رمى سيزيف الحجر، قد يفقد المعنى المرتبط بالجهد المستمر والسعي، مما يطرح تساؤلات حول ما إذا كان يمكن العثور على معنى في الحياة بدون صراع، حيث أن التخلي عن الصراع قد يعني الاستسلام للفوضى، مما يتناقض مع فكرة الوجود التي تدعو إلى إيجاد قيمة في النضال، لكن يظهر هذا القرار قوة الإرادة الحرة، في الوقت نفسه والتوتر بين الرغبة في التحرر والالتزام بالمسؤولية، قد يؤدي التمرد إلى نتائج غير متوقعة، حيث أن الأفعال تحمل عواقبها، وبالتالي، فإن اتخاذ قرار بالخروج عن وصايا الالهة يؤدي إلى تحديات جديدة بشكل عام، إذا رمى سيزيف الحجر، قد يبدو أنه حقق تحررًا مؤقتًا، لكنه أيضًا يواجه تداعيات جديدة تعيد تشكيل وجوده وتجربته.

تحدي السلطة

يُظهر رمي الحجر تحديًا لسلطة الإلهة، مما يُعتبر انتصارًا رمزيًا على قيود القدر، قد يشعر سيزيف بالتحرر من عبء العقوبة، مما يمنحه شعورًا بالتحكم في مصيره، رغم شعوره بالانتصار يبقى هذا الفعل عبثيًا، لأن تبعات التمرد تؤدي إلى عقوبات جديدة أو صراعات أخرى، حيث إن الحياة مليئة بالتحديات المستمرة، مما يعيد سيزيف إلى دوامة المعاناة، قدرة الفرد على مقاومة الضغوط الخارجية حتى مع هذا الانتصار، تعكس الفكرة الوجود بأن المعنى يُكتسب من خلال الجهد المستمر، بذلك يُمكن اعتبار رمي الحجر انتصارًا رمزيًا، لكنه يظل مؤقتًا ويعكس التوتر بين الحرية والعقوبة.

التماهي الفلسفي

التماهي الفلسفي يتحدى الفهم التقليدي للحياة والمعاناة، مما يمثل تمردًا على الأفكار السائدة، يمكن للإنسان أن يخلق معنى خاصًا لنضاله، حيث يتحول العمل المتكرر إلى تجربة ذات قيمة، يُعتبر التماهي الفلسفي وسيلة لتحرير العقل من القيود المفروضة من قبل المجتمع أو الالهة، مما يعزز من الإرادة الحرة، يتجلى التماهي في الصراع من أجل فهم الهوية الفردية والعثور على المعنى الشخصي في مواجهة العبثية من خلال التأمل في الذات، يعتبر التماهي الفلسفي كوسيلة للتفاعل مع فكرة العبثية، حيث يُظهر كيف يمكن للفرد أن يجد قيمة في النضال رغم عدم جدواه، يُعتبر التماهي الفلسفي نوعًا من التمرد الذي يُساعد الأفراد في خلق معنى في حياتهم من خلال فهم تجاربهم، رغم أن التماهي يساعد في خلق معنى، إلا أنه يظل محاصرًا بفكرة العبثية، حيث يمكن أن يؤدي إلى شعور بعدم الجدوى. مما يجعله كالحجر رمزًا للثقل الذي نحمله جميعًا في حياتنا.

الالهة والسلطة المطلقة

تمثل الآلهة سلطة مطلقة، حيث لا يمكن للإنسان الإفلات من عقوباتهم، مما يعكس فكرة الهيمنة والتحكم، تمرد سيزيف على الآلهة يظهر رغبته في مقاومة هذه الهيمنة، مما يعكس الصراع بين الإنسان والسلطة، تعكس عقوبة سيزيف عبثية السلطة لأنها لا تضمن معنى أو قيمة، تحدي سيزيف للآلهة يعكس الصراع بين القوانين الإلهية والرغبة الإنسانية في الحرية، مما يبرز التوتر بين السلطة والفرد، العقوبة تُظهر كيف يمكن للسلطة أن تفرض قيودًا على الأفراد، وتُبرر المعاناة الناتجة عن هذه الهيمنة، مما يعكس الصراع المستمر بين الفرد والقيود المفروضة عليه، يمثل تمرد سيزيف على الآلهة تعبيرًا عن الإرادة الحرة، حيث يختار مواجهة العقوبة بدلًا من الاستسلام، الحرية تمنح سيزيف الفرصة للبحث عن معنى في معاناته، مما يُظهر كيف يمكن للفرد أن يجد قيمة في النضال رغم القيود، حرية سيزيف وصراعه الداخلي بين الرغبة في الهروب من العقوبة وبين التزامه بمواجهة التحديات تُعتبر حرية ووسيلة للتمرد على المعنى المفقود، حيث يجد سيزيف القوة في اختياراته، يُظهر سيزيف أن الحرية تكمن في القدرة على اتخاذ القرارات، حتى في ظل هيمنة الآلهة، مما يُعزز من قوة الفرد بذلك، تلعب الحرية دورًا محوريًا في هذا السياق . في أسطورة سيزيف، يمكن اعتبار أن الوعي قد انتصر على سلطة الآلهة على عدة مستويات وان سيزيف أدرك معاناته وقبل بها، مما يمنحه وعيًا وجوديا يحمل كل المعنى.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

السير فوق الماء مهمة مستحيلة في الواقع، لكن تفسيرها في الحلم هو اليقين بعد الشك، والتحرر من المخاوف والهواجس. وما يعرضه ديريك جنسن، الكاتب الأمريكي والناشط في مجال البيئة، من خلال يومياته داخل الفصل الدراسي يحقق المعنيين معا، أي وهم السير فوق الماء الذي تعدنا بها التصورات الرائجة عن التعليم والكتاب والحياة، ثم تبديد الوهم عن طريق إعادة اكتشاف ذواتنا، وإثارة التساؤلات المختزنة في الذاكرة منذ اقتحامنا الطفولي المحموم لحجرة الدرس.

إن أهم الأشياء التي تعلمتها في المدرسة، يقول جنسن، هي كيفية إضاعة الوقت، والحرص على توجيه الأسئلة إلى أصحاب السلطة بطريقة مراوغة، خوفا من حرماني من الحصول على درجات. باختصار تعلمت أن أخون نفسي وأقوم بتعريتها. وسبب ذلك أن النظام التعليمي يعتبر الغرض الأساسي من المدرسة هو مساعدة الأطفال على التعلم، دون أن يأبه لنوعية الأدوات أو الكيفية الصحيحة في تكوين الأفراد. لذا تستمر المدرسة حتى اليوم في ترسيخ مغالطة كبيرة حين تلقن الطلبة المعلومات ولا تعلمهم السلوك وحسن التصرف. وتبقى أفضل طرق التدريس، وأصعبها في الآن نفسه، هي أن تتخلى عن دفاعاتك الشخصية، وتحاول فهم تجارب ومشاعر الآخرين باعتماد وسيلة حيوية هي البوح بكل تساؤلاتك لتوضيح حيرتك وارتباكك.

قادت الخبرة التي حصَّلها جنسن في مجال التعليم، سواء بجامعة واشنطن الشرقية أو في السجن الحكومي، إلى اكتشاف أن إعادة بناء المصداقية في التعليم تتطلب سلسلة من المحاولات المضنية للبحث عن الأشياء البسيطة والمقنعة التي تُبنى عليها الدروس، مع التركيز على قول الحقيقة الإيجابية للطلاب، والاهتمام بالإطراء والثناء دون تفريط في النصائح الفنية والعملية:" إن وظيفتي لا تعني القيام بتعليمك أي شيء، وإنما كيفية خلق الجو المناسب الذي تستطيع من خلاله أن تعلم نفسك".

تولى جنسن تدريس طلابه فن الكتابة، ورصد القواعد التي تحدد أروع ما في تفاصيل حياتهم من منطلق أن الإنسان حَكّاء وراوٍ بطبعه، وما يحتاج لتعلمه ليس كيفية الحكي وإنما أن يكون ما هو عليه بالفعل. فالكتابة الجيدة أو حتى مجرد سرد قصة لا يتطلب اختراع شيء خيالي وغير ممكن، وإنما يتطلب ببساطة أن أكون نفسي قدر المستطاع. وأهم شرط للكتابة الجيدة ألا يشعر القارئ بالضجر، وأن تكون الإثارة سبيلك لأن تصيبه ببعض الطلقات النارية في الصفحات العشر الأوائل. ينبغي أن تستحوذ على انتباه القارئ بكلمات مفيدة وممتعة، وحوار بمستوى رفيع. فمن الأشياء التي جعلت أفلام الأربعينات و الخمسينات أفضل من أفلام اليوم هي أن معظم كُتابها كانوا روائيين، ويجيدون بالتالي رسم الشخصيات. أما في أيامنا هذه فمعظم الكتاب من خريجي معاهد السينما أو دارسي الإعلانات الذين برعوا في استخدام الصور المدهشة لإيهام المُشاهد، لكنهم لا يعرفون كيفية كتابة الحوار.

تتطلب الكتابة الجيدة كذلك قدرتك على اكتشاف نفسك، وتحديد الأسباب التي تجعلك سعيدا كي تناضل من أجل تحقيقها. فالحضارة الصناعية حولتنا من إنسان نابض بالحياة إلى إنسان آلي، وقوى عاملة مطيعة ولينة. لذا نشأنا داخل نظام يفصلنا عن وجداننا، ويخلع عنا إنسانيتنا. والسبيل الوحيد لوقف تلك الانتهاكات المخزية التي تحدث لقلوبنا وعقولنا هو تدريب أنفسنا مجددا على المضي في طريق النجاح ومطالبة الآخرين بإفساح الطريق !

والاهتمام الكامل بالتفاصيل درس كذلك من دروس الكتابة، إذ ينبغي العناية بالدقة في وصف الأشياء لجذب انتباه القارئ، والتمسك بكل ما هو حقيقي لتصبح الكتابة شيئا جميلا. إن خُدعتها الأساسية هي أن تكتشف المكان الذي يختبئ فيه قلب الشخص الآخر، ثم العمل على مساعدته للوصول إلى ذلك المكان.

وعن الشعور بصعوبة الكتابة يقول جنسن أن ذلك نتاجُ عدم امتلاك معلومات كافية، ورؤية الموضوع من مختلف زواياه، وافتقاد الكاتب لرؤية الأشياء وفقا لعلاقاتها الصحيحة حتى يكتمل المشهد في مخيلته. ومن الأشياء المهمة التي تعلمها جنسن طوال خمسة عشر عاما من الكتابة هي كيفية الحفاظ على ألا يفقد الكاتب الفكرة أثناء عمله، وإلا سيصبح الأمر محبطا وعديم الجدوى، لأن المرء يكتب بعقله لا بجسده.

ومن الكتابة إلى الحياة يُوجه جنسن نقده المحموم لنظام السيطرة المتولد عن الحضارة الصناعية. ذاك النظام الذي فجرت آليته كل جزئيات الحياة بما فيها القلب والجسد، وامتدت علاقاته القهرية إلى نظام التعليم، فتشرَّب الطلابُ خِبرات الظلم والاضطهاد، سواء من لدن الوالدين أو المدرسين أو كل أشكال السلطة المختلفة. وكانت المُحصلة هي الوصول بالناس إلى أن يكونوا أشخاصا آخرين غير أنفسهم، وهو أمر لا يمكن الإفلات من شَركه إلا بالسير فوق الماء.

كيف ذلك؟

يقول جنسن:" يجب أن تتبعوا قلوبكم. إن أكثر الأعمال الثورية والأخلاقية التي تستطيع القيام بها لمساعدة الآخرين هي أن تساعدهم على اكتشاف قلوبهم الحقيقية، أي اكتشاف شخصياتهم، والعمل على تعريفهم بآرائهم ومواقفهم، ومساعدتهم على اكتشاف أنفسهم".

نحن الذين نصنع اختياراتنا حسب رؤيتنا للعالم. وإذا كانت حضارة اليوم مبنية على الخضوع، فيجب أن ننتبه للمشاعر والسعادة النفسية حتى لا نصير عبيدا للسلطة والصفوف والتقاليد.

عَبْر الدروس التي ألقاها جنسن على نزلاء السجن وطلاب الجامعة، وفق منهجية متحررة من صرامة النظام التعليمي، نتابع ذاك الطَّرْق الخفيف والمؤلم على عقول كادت تفقد الإحساس بأجسادها، كما نستشعر تلك الدعوة الحارة لتمرين علاقاتنا الفقيرة على استعادة إنسانيتنا المقترنة دوما بجدوى الحياة المشتركة على هذا الكوكب .

إن السير فوق الماء لا يحتاج سوى لعقل موضوع في مكانه للقيام بوظيفته على نحو جيد !

*** 

حميد بن خيبش

اذا كان الكون لامتناهيا سلفا فما هو الشيء الذي يتوسع فيه؟ عندما نريد إعداد رغيف من الخبز او كمية من الكيك، نضع العجينة في مقلاة الخبز. وعندما تُوضع العجينة في الفرن، سوف تتوسع وهي في داخل المقلاة. كل قطعة صغيرة من الشوكلاته المضافة الى عجينة الكيك تصبح بعيدة عن بعضها البعض مع تمدد العجينة .

ان توسّع الكون، يشبه ذلك بطريقة ما. لكن هذه المقارنة تنطوي على خطأ واحد وهو بينما العجينة تتمدد في مقلاة الخبز، فان الكون ليس فيه أي شيء يتمدد فيه. انه فقط يتمدد في ذاته. انه يشبه لغز محير، الكون يعني كل شيء ضمنه. في توسّع الكون، لاوجود هناك لمقلاة. هناك فقط عجينة. وحتى عندما تكون هناك مقلاة، ستكون جزءاً من الكون الذي يتوسع معها .

هذه الأفكار يصعب فهمها حتى من جانب اساتذة الفيزياء مثل البروفيسوره Nicole Granucci استاذة الفيزياء وعلم الفلك في جامعة كوينيبياك في الولايات المتحدة التي درست الكون لسنوات طويلة. نحن لم نتعامل مثل هذه الأشياء في حياتنا اليومية. هي كالسؤال عن أي اتجاه أبعد الى شمال القطب الشمالي (باعتبار ان القطب الشمالي هو أبعد نقطة في الشمال، لذلك لا وجود لموقع جغرافي شمال القطب الشمالي. جميع النقاط على الارض التي ليست على القطب الشمالي تكون الى جنوبه).

 طريقة اخرى للتفكير حول توسّع الكون هي عبر التفكير بالكيفية التي تتحرك بها المجرات الاخرى بعيدا عن مجرتنا درب التبانة. العلماء يدركون ان الكون يتوسع لأنهم يستطيعون تعقّب المجرات عندما تتحرك بعيدا عنا. هم يعرّفون التوسّع مستخدمين السرعة التي تتحرك بها المجرات بعيدا. هذا التعريف يسمح لهم لتصوّر التوسّع بدون الحاجة لشيء ما يتوسع فيه.

توسّع الكون

بدأ الكون بالانفجار العظيم قبل 13.8 بليون سنة، وهذه النظرية تصف أصل الكون الذي بدأ من نقطة اصغر من جسيم دون الذرة وبحرارة وكثافة هائلتين. هذه النقطة الصغيرة جدا دخلت فجأة في توسّع سريع سمي التضخم، حيث كل مكان في الكون توسّع نحو الخارج. لكن اسم الانفجار العظيم يثير الالتباس. هو لم يكن انفجارا عملاقا كما يشير الاسم، وانما هو الزمن الذي توسع فيه الكون بسرعة.

بعد ذلك تكثّف الكون وبدأ يبرد بسرعة، مكوناً المادة والضوء. وبالنهاية، تطور لما يُعرف اليوم بالكون. الفكرة بان كوننا لم يكن ساكنا ويمكنه التوسع او الانكماش نُشرت لأول مرة من جانب الفيزيائي الكسندر فريدمن عام 1922. هو اكّد رياضيا بان الكون يتوسع.

وبينما أثبت فريدمن ان الكون يتوسع، على الأقل في نقاط معينة، فان ادوين هابل نظر عميقا في سرعة التوسع. العديد من العلماء الآخرين اكّدوا ان المجرات الاخرى تتحرك بعيدا عن مجرة درب التبانة، لكن في عام 1929، نشر هابل ورقته الشهيرة التي أكّدت ان الكون بأكمله يتوسع، وان سرعة توسعه تتزايد. هذا الإكتشاف يستمر في إثارة الحيرة لدى علماء الفيزياء الفلكية: ماهي الظاهرة التي تسمح للكون في التغلب على قوة الجاذبية التي تبقيه متماسكا بينما في نفس الوقت يتوسع ايضا عن طريق سحب الاشياء في الكون بعيدا عن بعضها البعض؟.

وفوق كل ذلك، ان سرعة توسع الكون تتزايد بمرور الزمن. العديد من العلماء يستخدمون وسيلة مرئية تسمى وعاء التوسع expansion funnel لوصف الكيفية التي تسارع فيها توسع الكون منذ الانفجار العظيم. لنتصور وعاءا عميقا ذو حافة واسعة. الجانب الايسر من الوعاء – النهاية الضيقة – تمثل بداية الكون. كلما نتحرك نحو اليمين، نحن نتحرك الى الامام في زمن. توسّع الوعاء يمثل توسع الكون.

العلماء لم يكونوا قادرين على ان يقيسوا مباشرة من أين تأتي الطاقة المسببة لهذا التوسع المتسارع. هم غير قادرين على اكتشافه او قياسه. وبما انهم لايستطيعون بشكل مباشر قياس هذا النوع من الطاقة، فهم يسمونها الطاقة المظلمة.

طبقا لنماذج الباحثين، فان الطاقة المظلمة يجب ان تكون الشكل الاكثر شيوعا للطاقة في الكون، تصل نسبتها الى 68% من اجمالي الطاقة الكلية. الطاقة من كل المادة المكونة للارض والشمس وكل ما نراه من أشياء، تقدر فقط بحوالي 5% من مجموع الطاقة.

خارج وعاء التوسع

اذاً، ما هو الشيء الموجود خارج وعاء التوسع؟

ليس لدى العلماء دليلا على وجود أي شيء وراء كوننا المعروف. لكن البعض يتنبأ ان هناك أكوانا متعددة. النموذج الذي يتضمن أكوانا متعددة يمكنه معالجة بعض المشاكل التي يواجهها العلماء في النماذج الحالية للكون. احدى المشاكل الكبرى في الفيزياء الحالية هي ان الباحثين لا يستطيعون دمج ميكانيكا الكوانتم التي تصف عمل الفيزياء في نطاق صغير جدا، مع الجاذبية التي تحكم الفيزياء على نطاق أوسع. القواعد التي تحكم تصرّف المادة على نطاق ضيق تعتمد على كمية ثابتة من الطاقة. في هذا النطاق، الأشياء يمكن ان تأتي وتخرج من الوجود. المادة يمكن ان تتصرف كموجة. العالم الكوانتمي مختلف جدا عن الكيفية التي نرى بها العالم.

وعلى النطاق الاكبر، الذي يسميه الفيزيائيون الميكانيكا الكلاسيكية، تتصرف الاشياء بالطريقة التي نتوقعها في حياتنا اليومية. الاشياء ليست منفصلة ويمكنها ان تمتلك كميات مستمرة من الطاقة، هي لا تدخل او تخرج من الوجود.

العالم الكوانتمي يتصرف كنوع يشبه مفتاح الضوء وحيث الطاقة لها فقط خيار تشغيل وايقاف. اما العالم الذي نراه ونتفاعل معه يتصرف أشبه بجهاز التحكم في الاضاءة، يسمح لكل مستويات الطاقة. لكن الباحثين يقعون في مشاكل عندما يحاولون دراسة الجاذبية على المستوى الكمومي. على النطاق الأصغر، يفترض الفيزيائيون ان الجاذبية هي quantized أي ذات قيمة محدودة ومنفصلة وغير مستمرة. لكن العديد من البحوث التي اجريت لا تؤيد تلك الفكرة. احدى الطرق لجعل تلك النظريات تعمل مجتمعة هي نظرية الأكوان المتعددة. هناك عدة نظريات تنظر في ما وراء كوننا الحالي لتوضح كيف تعمل الجاذبية والعالم الكوانتمي مجتمعان. بعض هذه النظريات الرائدة تشمل نظرية الاوتار وعلم الكونيات الغشائية ونظرية الكم الحلقية وغيرها.

وبصرف النظر عن كل ذلك، سيستمر الكون بالتوسع، والمسافة بين مجرتنا والمجرات الاخرى تتسع بمرور الزمن وتبقى حيرتنا مستمرة.

***

حاتم حميد محسن

...................

المصدر:

What is the universe expanding into if it’s already infinite? The conversation, December 9, 2024

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم